الكتاب الأول
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الكتاب الثاني
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الباب الحادي عشر
تحقيق على الكتاب الموسوم
في ميليسوس وفي إكسينوفان وفي غرغياس
تحليل نظرية غرغياس
الكتاب الأول
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الكتاب الثاني
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الباب الحادي عشر
تحقيق على الكتاب الموسوم
في ميليسوس وفي إكسينوفان وفي غرغياس
تحليل نظرية غرغياس
الكون والفساد
الكون والفساد
تأليف أرسطوطاليس
ترجمة أحمد لطفي السيد
مقدمة المترجم
أصول الفلسفة الإغريقية
بقلم بارتلمي سانتهيلير
جمعت عمدا بين هذين الكتابين في هذا السفر؛ لأنهما - كما يظهر لي - يعبران كلاهما عن أفكار من قبيل واحد؛ ففي أولهما يعنى أرسطو بإيضاح كيف تكون الأشياء وكيف تنتهي، خلافا لمذهب وحدة الوجود ولا تغيره، وفي ثانيهما المناقشة بعينها موجهة مباشرة إلى ممثلي مدرسة إيليا: إكسينوفان مؤسسها، وميليسوس حافظ مبادئها حتى العهد الذي قام فيه سقراط يبدل بالتردد القديم فلسفة جديدة حاسمة. فالفكرة في الكتابين متماثلة، ولا فرق بين أحدهما وبين الآخر إلا في الشكل فقط؛ فهنا توضيح عام لمبدأ، وهناك نقض خاص للمبدأ المناقض. وسنعود بالاختصار في آخر هذه المقدمة إلى تقدير قيمة هذين الكتابين اللذين يستأهلان أن يعرفا أكثر مما هما الآن. ولكني أرغب بديا في أن أبين بقدر ما أستطيع من البيان ماذا كانت الحركة الفلسفية التي شاطر فيها إكسينوفان وميليسوس، سواء في أحداثها أو في أتباعها.
إكسينوفان وميليسوس كلاهما من الأسماء البعيدة القدم. ومن الصعب لأول نظرة الاقتناع بأن درسهما يبعث اهتماما جديا هذه الأيام. هذان الفيلسوفان كانا يعيشان في القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، وعلى هذا المدى فليس إلا التنقيب وحده - فيما يظهر - هو الذي ما زال يوليهما العطف الذي انقضى زمانه، ويستقصي مذاهبهما المنسية منذ زمان بعيد. لست أقصد في الحق إلى انتقاد التنقيب، ولكني أدرك ما يثير ثائره من التحامل البادر عندما يتوغل في درس تلك الأزمان البعيدة؛ إذ تنعدم المراجع الوثيقة فلا يبقى لنا من أعيانها إلا آثار لا صور لها. على أني في هذا الموطن أكثر مما في سواه أسأل أن يصغى إلى التنقيب لحظة؛ فإن الموضوع الذي يحاوله فيما يتعلق بإكسينوفان هو موضوع من أهم موضوعات تاريخ العقل البشري وأكثرها حيوية.
إنه ليس أقل من أن يكون ميلاد الفلسفة في هذا العالم الذي نحن منه.
أما من جهة الفلسفة الشرقية فإننا لا نعرف، بل ربما لن نعرف أبدا من أمرها شيئا معينا بالضبط فيما يختص بعصورها الرئيسية وانقلاباتها، فإن أزمنتها وأمكنتها وأهلها تكاد تعزب عنا على سواء. إنها مستعصمة دون إدراكنا، مدعاة للشكوك لما يغشاها من كثيف الظلمات، حتى لو عرفنا منها هذه التفاصيل مع الضبط الكافي لما أفادنا ذلك إلا من جهة إرضاء رغبتنا في الاطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيرا. إن الفلسفة الشرقية لم تؤثر في فلسفتنا، ومع التسليم بأنها تقدمتها في الهند وفي الصين وفي فارس وفي مصر، فإننا لم نستعر منها كثيرا ولا قليلا، فليس علينا أن نصعد إليها لنعرف من نحن ومن أين جئنا، والأمر على الضد من ذلك مع الفلسفة الإغريقية، إننا بها نتصل بالماضي الذي منه خرجنا، وعلى الرغم من عماية الكبرياء التي هي في الغالب جانية الكفران يجب علينا ألا ننسى أبدا أننا أبناء إغريقا. إنها أمنا في جميع أمور العقل تقريبا، فلئن ساءلنا أوائلها فإنما نسائل أصولنا، فمن طاليس، ومن فيثاغورث، ومن إكسينوفان، ومن أنكساغوراس، ومن سقراط، ومن أفلاطون، ومن أرسطوطاليس إلينا لا يوجد إلا فرق الدرجة. نحن جميعا في طريق واحد مستمر من قرون عديدة، ومتصل بلا انقطاع، لا يتغير اتجاهه، بل يصير على مرور الزمان أكثر طولا وأبهى جمالا . والظاهر أننا لا نخجل من الانتساب إلى أمثال هؤلاء الآباء، وكل ما علينا هو أن نبقى حقيقين ببنوتهم بأن ندرج على سننهم.
قد أمكن القول - لا من غير حق - بأن الفلسفة ولدت مع سقراط،
1
والواقع أن لهذا الرجل العجيب من المقام ما يسمح بأن يسند إليه هذا الشرف العالي، بأن يقرن اسمه بهذه الحادثة الكبرى. ولكن سقراط بتواضعه المعروف ما كان ليقبل هذا المجد؛ فإنه كان يعلم أكثر من كل إنسان أن الفلسفة قد كانت تنشأ من قبله بنحو قرنين إلى أن جاء فأفاض عليها قوة وجمالا لم يفارقاها بعده. لم يكن مولد الفلسفة في آتينا، بل في آسيا الصغرى؛ لأنه يجب تأخير هذه الحادثة مائتي عام إلى الوراء تقريبا، إلا أن تمحى من التاريخ تلك الأسماء العظام الأولى التي ذكرتها. إن التقدم الذي افتتح سقراط بابه لم يكن إلا استمرارا لا ابتكارا وإبداعا.
كل الأصول غامضة بالضرورة. يجهل المرء نفسه دائما في أول الأمر، وأن تعرف سنة هذه القرون الأولى مقرون بالشك الذي يلحق أيضا الحوادث ذاتها التي مرت كأنها غير محسوسة. ومع ذلك إذا لم يلتزم هنا الضبط غير الممكن فإن أوائل الفلسفة اليونانية يجب أن تظهر لنا أجلى من أن يدعو للشك في أمرها سبب محسوس.
كان طاليس من ملطية، وقد حقق التاريخ وجوده في جيش أحد ملوك ليديا نحو آخر القرن السادس قبل المسيح. وبعده بقليل جاء فيثاغورث الذي بعد أن عاد إلى وطنه ستموس إثر سياحات طويلة فر منه اتقاء لظلم بوليقراطس الذي كان يضطهده، وذهب يحمل مذاهبه على الشطوط الشرقية لإغريقا الكبرى إلى سيبارس وقروطون. أما إكسينوفان فإنه لأسباب أشبه بالمتقدمة نزح عن كولوفون وطنه الأول، ولما اجتمع ببعض المهاجرين من فوكاية، الذين هم بين أنياب الأخطار قد وجدوا آخر الأمر موئلا على شواطئ البحر الترهيني في إيليا (هييلا أوفيليا)، أسس في هذه المدينة الحديثة العهد وقتئذ مدرسة شهرت ذكرها.
أصرف القول الآن إلى هؤلاء الثلاثة العظماء الذين كانوا جميعا رؤساء مدارس خالدات، وإن كنا لا نعرف منها إلا الشيء القليل: مدرسة يونيا، ومدرسة فيثاغورث، ومدرسة إيليا، وعما قريب أستطيع أن أضم إلى هذه الأسماء طائفة من أسماء أخر، لا يستطيع تاريخ الفلسفة أن يغفلها كما لا يستطيع إغفال الأولى.
ولكني - لا لشيء غير الفكرة في أمر طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان - أشعر بأمر يسترعي نظري، أنهم ثلاثتهم من هذا الجزء من العالم الهليني الذي يسمى آسيا الصغرى، وأنهم تقريبا متعاصرون. إن ملطية التي هي في القارة، وسموس في الجزيرة التي بهذا الاسم، وكولوفون في شمال إيفيزوس بقليل، تكاد لا تتجاوز الأبعاد بينها خمسة وعشرين فرسخا.
على هذه المسافة الضيقة وفي وقت واحد تقريبا تجد الفلسفة مهدها المجيد، لكيلا نخرج من هذه الحدود في المكان والزمان والموضوع نضيف إلى هذه الثلاثة الأسماء: طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان، أسماء أنكسيمندروس وأنكسمينس اللذين هما أيضا من ملطية، وهيرقليطس الذي هو من إيفيزوس، وأنكساغوراس من كلازومين غربي أزمير قليلا في خليج هيرموز. وأذكر اسم لوكيبس وديمقريطس اللذين ربما كانا من ملطية أيضا أو من أبدير مستعمرة طيوس، واسم ميليوس الذي هو من سموس كفيثاغورث. وفوق ذلك أضيف إلى هذه الأسماء أسماء بعض الحكماء الذين هم أقل استنارة من الفلاسفة، ولكنهم ليسوا أقل منهم احتراما؛ فمنهم بطاقس من ميتيلين في جزيرة لسبوس، وهو رفيق سلاح للشاعر ألقايوس في محاربة الطغيان، وقد نادى به مواطنوه ديكتاتورا عليهم فلبث فيهم عشرة أعوام يعمل صالحا ثم نزل عن الدكتاتورية. ومنهم «بياس» من «بريينة» الذي لو اتبع الاتحاد اليوناني ما قدمه له من النصح لنجا كما ذكر هيرودوت. ومنهم إيزوبس الذي أقام طويلا في سموس ثم في سرديس عند كريزوس، ذلك المولى الفريجي الذي لا ينبغي للفلسفة أن تنسى ذكره في عداد ذويها، والذي لم يستنكف سقراط من أن ينظم حكاياته شعرا.
2
وأذكر كذلك أسباسيا من ملطية التي حدث عنها أفلاطون في كتابه المينكسين، والتي كانت تتحدث إلى سقراط، والتي كانت تعطي لبيركليس دروسا في البلاغة كانت تؤلف منها أحيانا الخطب السياسية، والتي خصص لها رفائيل محلا في مدرسته الآتينية.
من ذلك يرى أن تيديمان الأريب كان محقا حين كنى آسيا الصغرى ب «أم الفلسفة ووطن الحكمة».
3
هذه الأحداث القليلة التي جئت على ذكرها والتي يمكن أن يضاف إليها كثير من أمثالها كافية في إثبات هذه الحقيقة. منذ الآن متى عرض حديث منشأ الفلسفة في عالمنا الغربي - بالمقابلة للعالم الآسيوي - عرفنا لمن هو ذلك المجد، وإلى من يجب أن يسند عدلا.
يكفي قليل من النظر للعلم بأن من الممتنع أن تنمو الفلسفة بذاتها وحدها. من البديهي أن جميع عناصر العقل يجب أن تبلغ نماءها قبل التأمل؛ لأن التأمل المرتب على نمط معين لا يظهر إلا متأخرا وبعد سائر الملكات الأخرى. وليس بي حاجة إلى التبسط في بيان هذه الحقيقة المشاهدة في الأمم وفي الأفراد على السواء، وأقتصر على أن أقرر أن مجرى الأمور في آسيا الصغرى لم يكن مختلفا عنه في غيرها؛ فإن الفلسفة على هذه الأرض المخصبة لم تكن نبتا منفردا ولا ثمرة غير منتظرة. وقليل من الكلمات يكفي في التذكير بأنها كانت هي المنطقة المهيأة لهذا الإنتاج الشريف، وما علي إلا أن أسرد أجمل الأسماء وأحقها باعتراف الناس.
في رأس هذه الطائفة اسم هوميروس الذي ولد وعاش يقينا على شطوط آسيا الصغرى وفي جزرها قبل الميلاد بنحو ألف عام. وماذا عسى أن أقول في قصائده؟ وكيف أوفي عبقريته مدحا وثناء؟ كل ما أقرر هو أن هوميروس لا يقصر أمره على أنه أكبر الشعراء، بل هو أعمقهم فلسفة. وإن بلدا ينتج باكرا أمثال تلك البدائع لحقيق بأن ينتج بعد ذلك عجائب العلم والتاريخ.
بعد هوميروس أقص نبأ قلينوس الإيفيزوسي الذي هو حربي مثل طورطايس، والذي شهد وقت إغارة القميريين وشدا بها في شعره، ثم الكمان السردي الذي حق له أن يعلم لقدمونيا وطن لوكورغس ويبهرها على ما بها من جفاء، وأرخيلوخس الباروصي وألقايوس اللسبوسي ذي الربابة الذهبية كما قال هوراس، وسافو الميتيلينية أو الإيريزية التي لا يكاد يستحق أحد الثناء أكثر منها إلا هوميروس،
4
ثم ميمنرمس الأزميري شاعر انتصارات يونيا على الليديين، ثم فوكليديس الملطي الذي حمل الشعر قواعد الأخلاق، ثم أناكريون الطوسي، وقريب من الشعراء تربندرس اللسبوسي مبدع الموسيقى وواضع طرائقها الثلاث الأصلية: الليدية والفريجية والدورية. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء أريون الشاعر الذي هو من لسبوس مثل تربندرس.
ذلك في الشعر. وكم إلى جانب الشعر من الكنوز التي لا تقل عنه في نفاستها وإن قلت عنه في البهاء: علم الفلك والجغرافيا أبدعهما أنكسيمندروس وسكولاكس من كاروندا على خليج يسوس. والرياضيات التي أبدعها فيثاغورث وتلاميذه أسلاف أرستارخس السموسي معلم أرخميدس وهيبارخس الرودسي. والتاريخ أبدعه أكسنطس السردي وهيكاتيوس الملطي وهيلانيكوس الميتيليني، وعلى الأخص هيرودوت الهاليكارناسي الذي لقب منذ زمان طويل أبا التاريخ، وبودي لو أعطيه لقبا آخر لو وفقت إلى لقب أجمل من هذا وأدخل منه في الحق. والطب انتقل من جزيرة سموس إلى كورينا وقروطون ورودس وكنيدس قبل أن يقر قراره في قوص بفضل بقراط الذي لا يقل عظما في فنه عن هوميروس في شعره. وفن عمارة المدن أبدعه هيوداموس الملطي الذي كان مع ذلك كاتبا سياسيا حلل مؤلفاته أرسطو في كتابه «السياسة» (ك2 ب5). وفن الحفر والصب أبدعهما تيودور السموسي بن روكوس. وفن التعدين أبدعه الليديون ... إلخ.
أقف هنا لكيلا نجاوز بهذا التعديد الجاف أبعد مما ينبغي، ولكنه يجب التنبيه إلى أن هذا الخصب البالغ حد الإعجاز لم ينته بانقضاء تلك الأزمان التي ذكرناها؛ فإن تيوفراسط هو من إيريزا، وأبيقور ربي في سموس وكولوفون، وزنون فخر الرواق ولد في كتيون من قبرص، وإيفورس من كومة، وتيوبومبس من شيوز، وبرهاسيوس وأبيلس من إيفيزوس وكولوفون، وإسترابون من أماسية على الجسر (البحر الأسود) مستعمرة إحدى المدن اليونانية من الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى ... إلخ إلخ.
تلقاء هذا المجد السامي الذي لم يمحه ما ظهر بعده لا يسعني إلا أن أقف مأخوذا أتساءل: هل عرف الناس أن يوفوا هذه العبقرية وهذا الكمال وذلك الإبداع حقوقها من الإعظام؟ لا أظن ذلك، وتلك في رأينا داعية إلى تعديل تاريخ هذه المستعمرات الإغريقية من آسيا الصغرى في بعض أجزائه على الأقل؛ تلك المستعمرات التي ندين لها بكل شيء. ولكني إذا قربت هذا العمل وحاولت هنا عجالة فذلك لا لأرفع ظلما مرت عليه القرون لضيق دائرة موضوعي، بل ليحسن فهم الناس لتلك الحركة الخارقة للعادة والتي هي فذة في تطور العقل الإنساني، ولأبين حق واضعي الفلسفة وآباء العلم.
لذلك أعرض - دون مجاوزة الحدود المشروعة - ماذا كانت هذه المستعمرات التي نزحت من إغريقا على شواطئ آسيا الغربية قبل المسيح بأحد عشر أو اثني عشر قرنا، وماذا كانت الحوادث السياسية الرئيسية التي اعتورت تلك الأصقاع مدة قرنين اثنين من عهد إكسينوفان إلى ميليسوس، ومن طاليس إلى حرب بيلوبونيز. وسنرى أن فلاسفتنا أخذوا بقسط وافر من هذه الحوادث، بل صرفوها في بعض الأحيان مع أنهم في الغالب كانوا لحرها صالين.
وإني راجع في كل ما أقدم من القول إلى هيرودوت وطوكوديدس وإكسينوفون وما حفر على رخام باروص أو رخام آرونديل.
5
كانت المستعمرات الإغريقية على شواطئ آسيا الصغرى مقسمة إلى ثلاثة أجناس متميزة تؤلف اتحادات منفصلة: الأيوليون في الشمال، واليونان في الوسط، والدوريون في الجنوب. يقطن هؤلاء وهؤلاء أوطانا متقاربة المساحة؛ فأما الأيوليون الذين هم أول من هاجر من الوطن الأصلي المشترك فإنهم حطوا رحالهم واستوطنوا آسيا بعد فتح طروادة بقرن تقريبا إذ طردوا من بيلوبونيز عند إغارة الهيرقليديين، وأما اليونان فقد جاءوا بعدهم بأربعين سنة تقريبا، وأما الدوريون فكانوا آخر المهاجرين.
كان الأيوليون الذين هم أقل الشعوب الثلاثة شهرة وأضعفها امتيازا يقطنون اثنتي عشرة مدينة؛
6
وهي كومة فريكيون، ولاريسافريكيون، وليونتيكوس، وطموس، وكيلا، ونوسيون، وإيغيروسا، وبيطاني، وأيغاي، ومورينا، وغروناي وأزمير، ولكن هذه المدينة الأخيرة قد نزعت من أيديهم وأضيفت إلى الاتحاد اليوناني بفضل الذين نفوا من كولوفون والتجئوا إلى أزمير واستولوا عليها في غفلة من أهلها. وقد ضاع من أيدي الأيوليين أيضا بعض المدن الأخرى التي أسسوها على جبال أيدا. وكان لهم خارج القارة خمس مدائن بجزيرة لسبوس، وواحدة بجزيرة طندوس، وأخرى في مجموع الجزر الصغيرة التي كان يطلق عليها اسم مائة الجزيرة منذ زمان هيرودوت. ولم يكن للمدائن الأيولية من الاسم إلا الخمول، وكانت أرض أيولس أحسن من أرض يونيا، ولكن جوها كان أقسى من جو الأخرى خصوصا في سرعة التقلب.
وأما اليونان فكان لهم اثنتا عشرة مدينة كلها على التقريب مشهورة، وهي: ملطية وميوس وبربينة في قاريا، وإيفيزوس وكولوفون وليبيدوس وطيوس وكلازومين وفوكاية في ليديا وإيروطراي على اللسان الذي يكونه جبل ميماس. وكان لهم جزيرتان: سموس في الجنوب، وشيوز في الشمال، ومن الغريب أن اليونان كان لهم أربع لهجات متباينة جد التباين: لهجة سموس، وكانت لا تشابه واحدة من الثلاث الأخرى، وملطية وميوس وبريينة كان لها ثلاثتها لهجة واحدة، وللمدن الست الأخرى لهجتها، وكان أهل شيوز وإيروطراي يتكلمون بلسان واحد.
أما الدوريون الذين جاءوا بعد الآخرين فكان قرارهم في الجزء الجنوبي، وليس مدق الدوريون لهم إلا ست مدن نزل عددهم إلى خمس بعد قليل، وهي: لندوس، وياليسوس، وكاميروس في جزيرة رودس، وقوص، وكنيدس، وهاليكارناس. على أن هذه المدينة الأخيرة قد عزلت عن الاتحاد الدوري عقابا لها على أن أحد أهلها كان اتهم بانتهاك بعض الحرمات المقدسة.
كل واحد من هذه الاتحادات الصغيرة كان له معبد جامع مشترك يجتمعون فيه؛ فللدوريين معبد طريوبيون، ولليونان معبد نبتون هلليكوني على رأس موكالي في مواجهة سموس تقريبا، وفي هذا المعبد كان يجتمع مجلس الاتحاد اليوناني المسمى بأنيونيون، والذي كان يرأسه دائما شاب من شبان بريينة، ولا يعرف بالضبط معبد الأيوليين. كانت هذه المعابد لإقامة الأعياد الدينية عادة، غير أنهم في الظروف الخطيرة كانوا يتداولون فيها في أمر أخطار الحلف وفيما يمس منافعهم الكبرى.
لم تك هذه المستعمرات لتشغل جغرافيا إلا مساحة ضيقة. فلو أن شهرة المدائن والممالك كانت تقاس بمقدار امتدادها لظلت هذه المستعمرات مجهولة في التاريخ؛ فإن مساحة المستعمرات الأيولية واليونانية والدورية لا يكاد يتجاوز مجموعها70 فرسخا في الطول على 15 أو20 فرسخا في العرض؛ أي أقل من ثلاث درجات في خطوط الطول وأقل من درجة في خطوط العرض. ومساحة لسبوس خمسة عشر طولا على خمسة عرضا، وسموس لا يبلغ محيطها 30 فرسخا، وشيوز أكبر منها قليلا.
ومن الطبيعي أن أهتم بأمر اليونان أكثر من الآخرين؛ فإنهم كانوا أكثر نشاطا وحذقا في الملاحة والتجارة والسياسة والفنون والعلوم والآداب. ومن الأمم كثيرة العدد من كان أثرهم أقل ألف مرة من أثر اليونان.
لما ترك اليونان أشاية الواقعة شمال بيلوبونيز على خليج كرسا، كان لهم فيها اثنتا عشرة مقاطعة أو مدينة، واستصحابا لتذكار وطنهم الأول لم يشاءوا أن يؤسسوا في آسيا من المستعمرات عددا أكثر مما كان لهم في إغريقا. ولما طردهم الدوريون الذين أغاروا على بيلوبونيز من الشمال اجتازوا برزخ كورنتة، واحتموا إلى أجل ما على الأقل في أطيقا، وهي الملجأ العادي لجميع المنفيين كما نبه إليه طوكوديدس في مقدمة تاريخه. وعما قليل ضاقت أطيقا القليلة الخصب ذرعا بأهلها، واضطر نازحو أشاية إلى البحث عن ملجأ آخر. وصادف وقتئذ أن قدروس مات ميتة الأبطال دفاعا عن وطنه، ولما ألغي نظام الملوكية لم يتيسر لأبنائه أن يقيموا في بلد انقطع فيه رجاؤهم من ميراث أبيهم، فرأسوا المهاجرين في هجرتهم؛ فأما نيلاوس فولى وجهه شطر ملطية، وأما أندركلوس فاتجه إلى إيفيزوس، ولو صدقنا رخام باروص لقلنا إن نيلاوس هو الذي أسس المدائن الاثنتي عشرة اليونانية وأسس رابطة اتحاد تحت ظل الدين هي البانيونيون الذي لم يكن بعد من القوة على ما كان يرجو مؤسسه.
يظهر أن المهاجرين الذين اقتفوا آثار ابني قدروس كانوا خليطا ولم يكونوا من صميم اليونان كما يمكن أن يظن؛ فإن الذين أتوا من أشاية إلى أطيقا اختلطوا فيها بأجناس مختلفة مختلطة جد الاختلاط، ليس بينهم وبين اليونان جامعة مشتركة بل لا يشابه بعضهم بعضا، إنما كانوا أبانطة من أوبويا، ومنجينيين من أرخومنوس، وقدميين، ودريوبيين، وفوكيين، ومولوس، وأرقديين، وبلاسجة، ودوريين من أبيدورس، وطائفة من أجناس أخر. وكان كل هؤلاء الرحل يعامل بعضهم بعضا على حد المساواة، ومع ذلك كان اليونان الذين هم من نسل شيوخ آتينا يعتبرون أشرف هذا الخليط وإن كان ذلك لم يستتبع أية مزية عملية. وإن تلقيبهم بلقب «اليونان» كان في ذلك الحين وفيما بعده أيضا قليل الرفعة؛ فكان الآتينيون يخجلون منه، وكان الملطيون في أوج قوتهم يحبون أن ينفصلوا من بقية هذا الاتحاد الذي كان دائما قليل الاحترام. وأما اليونان فكانوا من جهتهم أيضا يفخرون بأصلهم، ويقيمون مثابرين الأبتوريا الآتينية، تلك الأعياد الخاصة بالعائلة وبرابطة الأخوة الشعبية التي كانت موجودة في آتينا، ما عدا أهل كولوفون وإيفيزوس فإنهم حرموها على أثر قتل حرام ارتكبوه.
لم تكن المهاجرة هينة ولو أنه كان يرأسها أبناء ملك، فلم يحمل المهاجرون إلى ملطية معهم نساءهم، واتخذوا زوجات بالإكراه، بل عمدوا إلى القاريين فذبحوا منهم الآباء والبعول والأولاد، واستحيوا النساء واتخذوهن زوجات لهم، ولكنهن انتقمن لأنفسهن فأقسمن الأيمان على ألا يطعمن مع غاصبيهن طعاما ولا يدعونهم أزواجا؛ حتى لا يذقنهم حلاوة هذا الدعاء، واستنت بناتهن هذه السنة مع أزواجهن عدة أجيال.
والواقع أن البلد الذي احتله المهاجرون كان محتلا قبلهم زمانا طويلا؛ فقد كان فيه - غير أهليه - خليط من البلاسجة والتوكريين والموصيين والبيثونيين في الشمال، ومن الفريجيين والليديين والمايونيين في الوسط، ومن القاريين والليليج ... إلخ في الجنوب. وكان هؤلاء قبائل منقسمين على أنفسهم أكثر مما هو الشأن في الإغريق، ولو أنهم كانوا يقربون القرابين بالاشتراك، مثال ذلك قرابينهم إلى «مولاسا» في معبد «المشتري» القارئ. في أوائل الأمر لم تكن الممالك التي كمملكة ليديا قد اتخذت نظمها بعد، ولو أن الليديين لما زحزحوا بعد ذلك إلى الوسط نشروا سيادتهم بادئ الأمر على تلك الجهات إلى الشواطئ، وبعثوا منهم طوائف المستعمرين إلى إغريقا الكبرى وإلى أمبريا وعلى شواطئ البحر الترهيني.
وأما الموصيون الذين كانوا إلى شمال ليديا وغربيها، فكانوا أنزع هذه الأمم إلى الحرب. والفريجيون الذين هم أكثر توغلا في الجهة الشمالية من هؤلاء كانوا يثرون من تربية القطعان، يبيعون من أصوافها وأجبانها ولحومها المملحة بأثمان غالية جدا في أسواق ملطية. وكان الليديون مشتغلين على الأخص بصناعة المعادن؛ لأن نصف أرضهم بركانية تخرج الذهب والفضة والحديد والنحاس ... إلخ. وكانت أخلاق الفريجيين والليديين أخلاق تهيب وحياء، ومن بلادهم يأتي أكثر العبيد.
ومع أن اليونان جاءوا إلى آسيا بالبحر، فلم تكن تظهر عليهم المهارة في فن الملاحة. وعلى قول طوكوديدس لم يكن تفوق البحرية اليونانية حقيقة إلا تحت حكم قيروش وابنه قمبيز، ومع ذلك فقد كان شأنهم أن أقبلوا بجد على أن يتلقوا دروسا عن الكورنتيين الذين كانوا وقتئذ أعلم الناس بإنشاء العمارات البحرية، وانتفعوا بتلك الدروس. على أنهم قد ألجأتهم الحاجة منذ بداية أزمانهم إلى التزام الشواطئ في ملاحتهم. كانت هذه المدائن التي تستجلب كل شيء من داخلية البلاد لا تستطيع أن تحصل على الثراء إلا بتجارة كبرى في الصادرات والواردات، فكانت كبنوك ومراكز معاوضات بين الأهالي والبلاد التي كان يأتي منها الأجانب، فلم يمض على هذه المدائن زمان حتى ظهرت ثروتها على صورة رائعة.
ولما ازدحمت بالسكان وفاضت بالثراء استطاعت أن تنشئ أساطيل قوية، وعمرت كل شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمال أفريقية حيث كان لصور وسيدون من قبل منشآت في إغريقا الكبرى وصقلية، وفي بلاد الغالة، وفي إسبانيا أمام عمد هيرقليس وفيما وراءها، وعلى الأخص في القسم الشمالي لبحر أيغاي وفي هليسبنتس، والبروبونتيد، بل في البحر الأسود الذي كان يسمى وقتئذ «الجسر»، حتى لقد قيل إن ملطية وحدها كان لها خمس وسبعون أو ثمانون مستعمرة.
هذا النماء الأول للمستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى - وعلى الخصوص المستعمرات اليونانية - غير معروف إلا قليلا مع أنه استمر على الأقل ثلاثة قرون أو أربعة؛ فإن التاريخ لم يبتدئ حقا إلا حين دخلت المدائن الهلينية الحرب مع المملكة الليدية؛ أي حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، أعني من عهد حكم المرمنادة.
روى هيرودوت على طوله تاريخ جوجيس الذي ارتقى عرش ليديا بقتله قندولس ملكها، وهذه الحكاية ليس عليها إلا مسحة الصدق وإن كانت ليست مطابقة لرواية أفلاطون التي هي بالبداهة أسطورة؛ فإن غضب الملكة زوجة قندولس وغدر جوجيس عشيقها ليس فيه شيء من المستحيلات. وأما حكاية الخاتم فليست إلا أسطورة عامية وجدت بعد ذلك بكثير على صورة أخرى في «ألف ليلة وليلة». ولقد حدث أرخيلوخس - وهو معاصر لقندولس وجوجيس - عن ذلك العسكري الذي صار ملكا، وعن إقدامه وظفره، في إحدى القطع الشعرية التي كان لا يزال يقرؤها هيرودوت.
7
وقد انتهت بموت قندولس العائلة الليدية الأولى التي تدعي أنها سلالة هيرقليس، والتي دام ملكها خمسمائة وخمسة أعوام مدة اثنين وعشرين جيلا من عهد نصف الإله الذي وصلها بنسبة كبريائها، وكان جوجيس هو أول الدولة الثانية دولة المرمنادة.
افتتح جوجيس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد عهدا جديدا؛ إذ أخذ يغير على المدائن الإغريقية ملطية وأزمير وكولوفون، وربما كان الحامل له على ذلك أنه أراد أن يبرر اغتصابه للملك ومطاوعة لبعض الضرورات السياسية، في حين أن ليديا كانت وقتئذ بينها وبين الإغريق - خصوصا إغريق القارة - علاقات أقرب ما تكون إلى السلام.
وقد كان جوجيس، كسائر الإغريق في آسيا وفي غيرها، يعتقد وحي دلفوس ويخضع له. ولما كان محاطا بالمكايد من كل ناحية منذ تبوئه العرش، وخائفا من سخط الليديين الذين كانوا شديدي التعلق بالملك الذي ذبحه، أراد أن يدخل الإله في قضيته، فاستشاره وقدم إليه الهدايا الغالية. وقد أقر الإله هذا الغاصب القاتل على عمله، ولكن بوثيا كاهنة دلفوس كانت قد أنبأت بأن عائلة هيرقليس سوف ينتقم لها من شخص الولد الخامس من ذرية جوجيس. وكان هذا الخليفة الخامس هو كريزوس السيئ البخت المشهور بمصائبه أكثر من شهرته بكنوزه التي تضرب بها الأمثال. ولكن لم يك جوجيس في أوج ملكه ولا الليديون في سخطهم ليعبئوا بإنذار الكاهنة، وملك ذلك العسكري الزاني القاتل ثمانية وثلاثين عاما آمنا مطمئنا ما عدا حروبه مع مدن الشاطئ. والظاهر أن ملطية وأزمير وكولوفون سلمت له وخضعت لسلطانه.
وقد حكم أردوس خلف جوجيس أكثر منه أيضا؛ أي مدة تسعة وأربعين عاما؛ فاستولى على بريينة وهاجم ملطية بلا جدوى؛ لأنها استطاعت رد هجماته، وخلفه ابنه سدواتيس، فلم يمكث على العرش إلا اثني عشر عاما ومات، وكانت سنوه الست الأخيرة كلها مشغولة بمحاربة ملطية كما كان يفعل أبوه. ولكن هذه المدينة التي لم يكن يستطيع أن يأتيها من البحر نجحت في الدفاع عن نفسها، على رغم أن عدوها كان يهمك حرثها كل سنة، وكان دائما على قدم الاستعداد ليكرر هجماته المخربة. وفي كل مرة حاول الملطيون الحرب في العراء كانت هزيمتهم أمرا مقضيا. وقد مزقهم العدو كل ممزق مرتين على أرضهم في ليمنيون وفي سهول مياندروس حيث صادف منهم غفلة وسوء احتياط.
وقد واصل أليات بن سدواتيس محاربة مدينة ملطية خمس سنين، وكان يظن وقوعها في يديه بالقحط وشيكا لولا أنه استشار وحي دلفوس - كما كان يفعل أجداده - فجنح لعقد الصلح معها، وساعد على ذلك مهارة طراسوبولس طاغية ملطية وقتئذ؛ إذ أنبأه جلية الأمر صديقه برياندروس بن كوبسيلوس طاغية كورنتا، فأخفى عن سفير ليديا حقيقة الحال السيئة التي وقعت فيها المدينة من جراء الحصار، وأوهمه أن في باطن أسوارها من الأرزاق والذخائر ما لم يجتمع لها مثله من قبل؛ وبذلك انخدع أليات بما خبره به سفيره المخدوع وأمضى عهد ملطية في حين أنه لم يكن بينه وبين الاستيلاء عليها إلا القليل.
وقد استمر هذا السلام الذي يرجع الفضل فيه إلى الوحي ودهاء طراسوبولس زمانا طويلا، ومات أليات بعد أن حكم سبعة وخمسين عاما حكما مملوءا بالاضطراب. وفي هذا الزمن لم يقطع صلته الحسنة بكاهنة دلفوس، وقد اعتراه مرض طالت مدته، فلما برئ باستشارة الوحي قدم إلى إله دلفوس كأسا جميلة من الفضة قاعدتها من الحديد فنية الصنع، صاغها جلوكوس الشيوزي مخترع ذلك النمط الحديث الذي بالغ الناس في الإعجاب به.
لم تكن حرب ملطية هي الوحيدة التي أجج نارها أليات، بل استولى على أزمير مستعمرة كولوفون، وهاجم مدينة كلازومين الواقعة على مسافة قليلة إلى الغرب في الخليج بعينه، ولكن كلازومين ردته عنها وحملته خسائر عظيمة. غير أن أليات ألهم التوفيق وخدم آسيا كلها خدمة حقيقية بأن حول قواه إلى محاربة القميريين الذين استولوا في عهد جده أردوس على تلك الولايات الآمنة المخصبة؛ فإنهم لما طردهم السيتيون الرحل من مواطنهم اضطروا إلى النزوح جهة الجنوب ونفذوا من قوقازيا وولوا وجوههم جهة الغرب، وجازوا هالوس، وتقدموا إلى قلب آسيا الصغرى، وكانوا قد دخلوا سرديس عاصمة ليديا على حين غفلة من أهلها وأحرقوها إلا القلعة القائمة على صخرة شاهقة يجري من تحتها نهر بكتول؛ فهي وحدها التي استعصت عليهم، ثم ردوا عن المدينة بعد ذلك، ولكنهم ظلوا يهددون الأمن: يخيفون السابلة، وينهبون الأماكن المجاورة، حتى طردهم أليات من آسيا الصغرى، ودحرهم إلى الشرق، وقذف بهم بين الأجناس السامية التي كانت حدود أوطانها تنتهي إلى هالوس، ومن يومئذ يظهر أن علاقته بهم صارت من السهولة والعطف بمكان.
لكن هذه العلاقات التي كانت بين ليديا وبين السيتيين هي التي جرت على آسيا الصغرى جيوش الميديين ثم جيوش الفرس الذين هم أشد بأسا؛ فإن فصيلة من السيتيين لما طردوا من إقليمهم القاسي المناخ هبطوا إلى أرض ميديا في الشمال الغربي من نهر الفرات، فأحسن كواكزاريس - ملك الميديين - وفادتهم، ولم تقتصر حفاوته بهم على أن مكن لهم في وطنه، بل دفع إليهم صبيانا من الميديين ليعلموهم لغتهم وليتعلموا في مدرستهم فن الرماية. ولكن بعض هؤلاء المتوحشين المقربين من ملك ميديا غاظهم منه شدة في قول وجهه إليهم، فشفوا غليل صدورهم من هذه الإهانة بأن قتلوا الصبيان الذين هم في رعايتهم، واحتموا بمعية أليات ليتقوا شر العقاب الذي كانوا يتوقعون، فطلب كواكزاريس تسليم الجناة وأبى ملك ليديا تسليمهم، ومن ذلك قامت بين الليديين والميديين حرب لم تخب نارها خمس سنين أو أكثر. وهذا السبب كان تافها جدا، بل يظهر أن الخلاف قام على سبب آخر؛ لأن المملكتين متجاورتان، والاحتكاك بين أمم ما زالت متوحشة مثار خلاف لا يتقى.
هنا أستوقف النظر لحادثة في غاية الخطر من حيث تاريخ تلك الأمم ومن حيث تاريخ علم الفلك ومن حيث تاريخ الفلسفة جميعا: كانت تلك الحرب في سنتها السادسة، والتقى الجمعان وجنودهم على أشد ما يكون التحام بين المحاربين، وإذا بالشمس قد كسفت فغشيهم ليل مظلم اضطرهم إلى وقف القتال. ليس في هذه الحادثة ما يبعد احتمال وقوعها، وليس من الغريب أن تأخذ ظاهرة من هذا النوع بالعقول مأخذا عميقا، غير أن هيرودوت الذي حفظ لنا ذكرها زاد على حكايتها أن طاليس الملطي كان قد تنبأ بهذا الكسوف الشمسي ونبأ اليونان به وبالسنة التي يقع فيها.
8
لا شبهة لدي في رواية المؤرخ تلك التي قد أفسحت من البحث محلا لنظريات كثيرة على غاية الخطورة؛ فقد بحث العلماء أخيرا في حساب هذا الكسوف بالآلات الفلكية التي بين أيدينا الآن، والتي تكاد تكون معصومة من الخطأ رجاء تعيين تاريخ صحيح ثابت بين تلك الروايات المختلطة المشكوك فيها، ولكن لم يمكن الإجماع على أمر علمي محض ولا الاهتداء إلى الغرض المطلوب، فإن الأب بيتو قد حسب أن هذا الكسوف ينبغي أن يكون قد وقع في السنة الرابعة من الأولمبياد الخامسة والأربعين، يعني السنة 592 قبل الميلاد.
وأما سان مارتان الذي هو آخر من عني بهذه المسألة فإنه وجد أن كسوفا كليا يرى في هالوس حيث ملتقى الجيشين لا يمكن أن يكون إلا في 30 سبتمبر سنة 610ق.م (ر. مذكرات مجمع الرسوم الخطية والفنون الجميلة، السلسلة الجديدة، الجزء 12). وإذن يكون الفرق بين التقديرين ثمانية عشر عاما. ويمكنني أن أسرد آراء آخرين من المؤلفين الحديثين ليسوا أقل اختلافا من السابقين. أما بلاين عند القدماء فإنه عين هذا الكسوف بغاية الضبط في السنة الرابعة من الأولمبياد الثامنة والأربعين وفي السنة 170 من تأسيس روما.
9
وهذا التوافق المشكوك في ضبطه بين التاريخين يجعل ذلك الكسوف في سنة 580 تقريبا. ولست أريد الدخول في هذه التفاصيل؛ لأني لا أتطلع إلى إمكان الفصل فيها واستجلاء غوامضها، بل أقف عند حد الرجاء في أن علم الفلك يستطيع أن يضع رأيا قاطعا في هذه المسألة التاريخية.
أما المسألة الأخرى التي أثارت هذه الحادثة ثائرتها فهي: أيكون من الممكن أن طاليس حسب حقيقة هذا الكسوف وتنبأ به كما سمع بذلك هيرودوت؟ شك المؤرخون الحديثون في ذلك. وفي هذه الأيام أنكر ج. جروت
10
أن العلم كان وقتئذ من التقدم بحيث يسمح بنبوءات مثل هذه وحسابات علمية إلى هذا الحد. لا أبغي أن أعارض هذا المؤرخ وهو حجة، ولكني أنبه إلى أنه يؤخذ من رواية هيرودوت عينها - صادقة كانت أو كاذبة - أنه في زمانه؛ أي بعد طاليس بقرن تقريبا كان الناس يعتقدون إمكان حساب الكسوف، هذا وحده يكفي في إثبات أن العلم كان متقدما إلى قدر الكفاية؛ فإن مثل هذا الفرض يشهد بتقدم هو غاية في الجد؛ لأنه لأجل أن يقبل العامي إمكان حساب الكسوف ويصدقه ويتحدث به لا بد من أن يكون العلماء قد وفوا الموضوع بحثا.
ومما لا جدال فيه أيضا أن شهرة طاليس بين تلك الشعوب كانت من الرفعة بحيث إنهم نسبوا إليه من غير تردد هذه المعجزة العلمية، ولقد قرر بلاين أن هيبارخس الرودسي أمكنه أن يضع فهرسا لكسوف الشمس وخسوف القمر مدة ستمائة عام. وفي زمن هذا الكاتب الروماني لم تكن الحسابات الفلكية لتخطئ مرة واحدة، حتى قيل: «إن هيبارخس كان يحضر مداولات الطبيعة.» وكان هيبارخس بعد طاليس بأربعمائة عام تقريبا، وربما كانت المسافة بين علم أحدهما وعلم الآخر متناسبة مع المسافة الزمنية بينهما؛ لأنه ليس في يوم واحد يمكن الوصول إلى نتائج علمية مضبوطة إلى هذا المقدار. فلست أرى من المستحيل في شيء أن طاليس في عهد أليات قد فتح باب علم بلغ به هيبارخس هذه الغاية البعيدة سنة 150 قبل الميلاد.
أعود إلى ما كنا فيه: بعد قليل عقد الصلح بين الليديين والميديين بوساطة سونيزيس ملك كيليكيا ولابينيوس ملك بابل، وزف أليات ابنته زوجة إلى أصطياغ بن كواكزاريس، وأقسم الطرفان على احترام المعاهدة. واتباعا لعرف هذه الشعوب قد فصد سفراء الصلح من الجانبين أذرعهم ومص كل فريق من دم الفريق الآخر. ولكن هذه المحالفة التي عقدت على أكمل ما يمكن من الإخلاص كانت طائر نحس على ليديا؛ إذ جرتها إلى حرب جديدة انكسرت فيها وفقدت وجودها.
ذلك أنه لما مات الملك أليات خلفه ابنه كريزوس الذي قدر عليه أن يكون آخر ملك لجنسه، وحقت بذلك نبوءة هاتف دلفوس. وكان كريزوس هذا الذي صار اسمه مرادفا للغنى أميرا من خير الأمراء الممتازين، ومع أنه كان شديد الإعجاب بكنوزه الوراثية التي جمعها أجداده الهيرقليون والميرمناديون لم يكن رجلا مترفا ولا ضعيفا كما يبدر للذهن عادة، فما كاد يلي الملك حتى فكر في أن يتم عمل أسلافه ويخضع نهائيا جميع المدائن الإغريقية على الشاطئ، فتجنى عليها بعلل مختلفة حقا أو باطلا بادئا فتحه بإيفيزوس، وعما قريب أخضع إلى سلطانه كل المستعمرات؛ إذ قهر يونيا وأيولس جميعا، ولكن كريزوس أحس أنه لم يصنع شيئا ما دامت الجزر خارجة عن قبضة يده، فجهز أسطولا ليجاوز عليه بجيشه البحر، ثم عدل عن هذه الغزوة التي هي قليلة الجدوى عند أمة كالليديين بنصيحة بياس البرييني، وفي رواية أخرى بنصيحة بطاقس الميتيليني؛ إذ جاء الحكيم إلى سرديس فسأله الملك عن ماجريات الحال في الجزائر، فأجاب بياس: «إن أهل الجزائر يتأهبون لمهاجمة سرديس في عشرة آلاف فارس.» فأجاب كريزوس: لتشأ السماء أن يركبوا هذا الشطط، فقال الحكيم: «أيها الملك، لك الحق أن ترغب في أن أهل الجزر يرتكبون خطأ كهذا، ولكن ما ظنك بما سيقولون من جانبهم عندما تأتيهم الأنباء أنك تفكر في غزوهم من طريق البحر؟» ففهم كريزوس الدرس على مرارته، وقنع بأن عقد عهد محالفة ومودة بينه وبين يونان الجزر.
لما ارتاح كريزوس واطمأن من هذه الجهة بحث في بسط سلطانه إلى جهة الشرق وفي آسيا الصغرى، وعما قليل وضع يده على جميع الشعوب النازلة إلى هنا من نهر هالوس دون ما وراءه، وهم الفريجيون، والميزيون، والمارياندينيون، والخالوبس، والبفلاغونيون، وتراقيوثينيا، وبيثينيا، والقاريون، والبمفيليون، حتى الدوريون واليونان والأيوليون، ولم يفلت من قبضته إلا كيليكيا وليكيا في الجنوب.
وكان نهر هالوس هو أحد الثلاثة أو الأربعة الأنهر التي تحدد هذه البقاع المسماة آسيا الصغرى وترويها، فهو ينبع من جبال أرمينية ويسير من الشرق إلى الجنوب الغربي، وينفرج على نحو زاوية قائمة ليتجه من الجنوب إلى الشمال فيصب في البحر الأسود شرقي سينوب وطن ديوجين، وبعد نهر هالوس ثلاثة أنهر أخر عظيمة النفع لتلك الجهات تتقاسم بينها شبه الجزيرة، جارية كلها إلى الغرب وصابة في البحر الأبيض المتوسط يوازي بعضها بعضا تقريبا، وهي المياندرس الذي يصب في خليج ملطية، والقاوصترس في خليج إيفيزوس، والهرموز في خليج أزمير إلى الشمال الغربي قليلا. وكان لكريزوس أن يفخر بأنه تفرد بالملك في آسيا الصغرى، وأنه وصل بالمملكة الليدية إلى حد من رفاهة العيش وقوة البأس لم يكن لها مثله من قبل، ولكن ذلك هو في الواقع كان السبب في خرابها.
في هذه الأثناء حصلت تغييرات وانقلابات عظيمة في الشرق وفي البلاد المجاورة للملكة الليدية المترامية الأطراف؛ فإن قيروش خرب مملكة أصطياغ صهر كريزوس، وقهر ملوك آشور، وعاهد ملك هرقانيا، وفكر في مهاجمة ليديا التي كان يظهر عليها أنها كانت متحدة مع أعدائه. وبعد أن بسط سلطانه على جميع البلاد شرقي نهر هالوس لم يكن هناك محل للتأخر عن عبور ذلك النهر، كذلك لم يكن لقوة الفرس الهائلة مدفع عن أن تمتد إلى البحر وأن تفتح شبه الجزيرة وكل ما تحويه من الشعوب، سواء في ذلك البرابرة والإغريق. ولقد أدرك كريزوس للحين خطر الموقف الذي يتهدده، فلما علم بهزيمة أصطياغ استكمل عدته للحرب بقدر ما يستطيع.
فما كاد يتعزى عن موت ابنه الذي قتل في حادثة في الصيد، ثم عزم على أن يقف تقدم الفرس بأن يحالف إغريق الشواطئ وجميع إغريق بيلوبونيز والغرب، ولهذه الغاية أرسل بادئ الأمر يستشير الوحي ليحصل على تأييد الآلهة والاعتقاد العام. وذهبت وفوده فعلا إلى دلفوس ودودون، وإلى أباس في فوكيد، وإلى غار طروفو نيوس، ومعبد أنفياراوس، ومعبد البرنشيد على مقربة من ملطية، بل إلى معبد المشتري آمون نفسه، وكان كريزوس يريد أن يضع لهم بادئ الأمر أسئلة يختبر بها صدقهم ثم يستفتيهم بعد ذلك بصورة منظمة في المسألة الكبرى؛ مسألة الحرب مع الفرس التي كانت تقلق باله، فوجد أن هاتفي دلفوس وأنفياراوس أكثر إخلاصا ، فحمل إليهما الهدايا الباهرة التي يمكن قراءة وصفها التفصيلي في هيرودوت الذي رأى بعض هذه النفائس الغالية في المحاريب.
وعندما قدم ملك ليديا تلك الهدايا الثمينة استشار الهاتفين في أمر الحرب، فكان جوابهما مبهما كله تورية؛ إذ قال: «إذا اشتبك كريزوس في الحرب مع الفرس خربت مملكة عظمى.» أيهما؟ أدولة الفرس أم دولة ليديا؟ لم يقل الإلهيان بالتعيين، ولكنهما نصحا لكريزوس أن خير وسيلة أن يتخذ حلفاء ونصراء من أقوى الشعوب الإغريقية، فعاود كريزوس هاتف دلفوس في هذه النقطة، فعين له الهاتف اللقدمونيين من الجنس الدوري والآتينيين من الجنس اليوناني - يعني الهيلنيين والبلاسجة - فأوفد سفراءه إلى الأجزاء المختلفة لبلاد الإغريق يخطب ودهم فلم يجب دعاءه إلا اللقدمونيون الذين هم مائلون إليه لخدم أداها لهم قبل ذلك. أما بقية الإغريق - وعلى الخصوص الآتينيين - فلم يدركوا حقيقة الخطر المقبل، ولم يجيبوا داعي ملك ليديا، واستنجد كريزوس - على ما يقول سيروبيديا - حتى بأهل مصر، ولكن من المشكوك فيه أن مصر وجهت لمساعدته مائة وعشرين ألف مقاتل كما يروي الرجل الطيب إكسينوفون.
ولقد أول كريزوس جواب الهاتف لمصلحته خطأ وأغار على كابادوس من أرض ميديا التي افتتحها قيروش قبل ذلك بقليل، وكان من الضروري له أن يعبر نهر الهالوس وهو في هذا المحل واسع المجرى، ووقع بذلك في صعوبة كبرى لم يتغلب عليها إلا بحذق طاليس الذي كان قد تبع الجيش الليدي في عدد غير قليل من مواطنيه، فإنه اصطنع جسرا عريضا فصل النهر إلى عدة فروع سهل اجتيازها، تلك هي الرواية التي وصلت إلى هيرودوت في حداثة عهدها. ولكن هيرودوت يظهر عليه أنه يعتقد أن الجيش عبر النهر بالبساطة على قناطر لم تنشأ في رواية العامة إلا بعد هذه الواقعة بزمان. ولما عبر كريزوس النهر استولى على المنطقة التي كانت تسمى بطيريا وخربها.
سارع قيروش إلى لقاء الغائرين بجميع جيوشه ومن انضم إليهم من أهل البلاد، ولكن قبل أن ينازل الليديين أرسل إلى اليونان يستميلهم إلى التخلي عن جيش كريزوس، ولكن اليونان بقوا على عهدهم مع كريزوس؛ لاعتقادهم أن خيانة مخجلة لا تأتي إلا بالعار المجرد من كل منفعة؛ لأن الإغريق لا يستطيعون أن يقفوا وحدهم في وجه الفرس إذا سقطت ليديا في يده كما كانوا يتوقعون، وإن هزيمة عامة لكل أجناس الإغريق خير من العار ما داموا مصرين على ألا يسلموا بلادهم إلى الفرس لأول وهلة. ولما التقى الجمعان في سهول بطيريا شرقي هالوس جرت بينهم حرب طاحنة استعرت نارها طول اليوم إلى المساء لم يظهر فيها نصر نهائي لأحد الفريقين على الآخر.
ولكن أضرارها كانت على كريزوس أكبر؛ لأن جيشه مع بسالة قواده كان قليل العدد جدا بالنسبة إلى الجيش الآخر. ولما رأى قيروش ما مس جيشه من القرح لم يشأ أن يبدأ بالقتال في اليوم التالي؛ فانتهز كريزوس تلك الفرصة للتقهقر إلى سرديس، وعزم على أن يبلغ من الدفاع عنها غايته.
ثم استنجد حلفاءه وأمازيس ملك مصر ولابنطوس ملك بابل، واستنفر لقدمونيا لنصرته، واعتمد على أنه متى اجتمعت له هذه القوى كلها يجدد الكرة على جيوش قيروش في الربيع القادم، وجعل ميعاد حلفائه ونصرائه على تمام خمسة أشهر من يوم الدعوة في عاصمة ملكه. ولقد أصاب كريزوس الحكمة في هذه التدابير، ولكنه ارتكب خطأ جما في صرف جنوده ظنا منه أن قيروش لا يستطيع أن يطلع على سرديس بجنده الذي نال منه القرح ما نال، وقد خاب ظنه؛ لأن قيروش احتفظ بجنوده وسار بهم بعد أن أخذوا قسطا من الراحة إلى ليديا، فلم يلبث أن نزل السهل الفسيح القائمة فيه مدينة سرديس.
أما كريزوس وإن كان قد أخذ على غرة فإنه لم تنحل عزيمته، بل اعتمد على ما هو مشهور عن أهل ليديا من الإقدام خصوصا كتائب فرسانهم، فإنهم كانوا مقطوعي النظير لمهارتهم في سوس الخيل وفي حسن استعمالهم الرماح الطوال التي كانوا يعتقلونها. ولكن قيروش من جهته قد فكر في تقليل قيمة تفوق فرسان العدو، فسير في مقدمة جيشه جماله كلها التي لم تعتد خيل ليديا رؤيتها ولا رائحتها ؛ فجفلت وصعبت رياضتها، فترجل الليديون وأبلوا على الرغم من ذلك بلاء حسنا، لكنهم بعد التحام هائل انهزموا فلم يجدوا لهم موئلا إلا أسوار مدينتهم.
لما رأى كريزوس أنه محصور بجنود منصورة عجل إلى حلفائه وعلى الأخص اللقدمونيين، لكن هؤلاء بعد أن تأهبوا لنصرته حسب نص المعاهدة جاءهم نبأ سقوط سرديس عنوة في يد قيروش بعد حصار دام أربعة عشر يوما ووقوع كريزوس في الأسر. لما وقع ملك ليديا التعس في أيدي أعدائه مثقلا بالسلاسل وحكم عليه بأن يحرق حيا هو وبعض أبناء العائلات الكبرى الذين كانوا معه وسعرت له النار وكادت تصل إلى جسمه، رق له قلب قيروش وأخذته الرحمة على هذا الملك البائس الذي كان يحتمل تصاريف القدر بالرضا والتسليم، والذي كان في هذه اللحظة الرهيبة يذكر نصيحة سولون له حينما وفد عليه وأقام في معيته. وكانت سن كريزوس وقت وقوعه في الأسر تسعة وأربعين عاما حكم منها أربعة عشر عاما منذ وفاة أبيه، وبقي بعد ذلك زمنا طويلا في معية قيروش مرافقا ومعينا له في غزواته.
إن تاريخ سقوط سرديس ليس أقل اضطرابا من تاريخ كسوف طاليس. وأخذا بما على رخام باروص تكون سرديس سقطت في السنة الثالثة من الأولمبياد التاسعة والخمسين؛ أي سنة 537 قبل الميلاد. أما فريريت فإنه يقول إنه وقع في سنة 545 أخذا بشهادة سوسيقراط الذي استشهد به ديوجين اللايرثي في كتابه «حياة بيرياندر». وأما فولني فإنه أخره إلى سنة 557 في كتابه «أخبار هيرودوت». وعلى كل حال فإن هذا التاريخ على خطره محوط بالشكوك، ولا يزال محلا للتحقيق.
لما غلب الليديون على أمرهم أحست المدائن الإغريقية خطر مركزها، فعرض الأيوليون واليونان الطاعة على الشروط التي كانت بينهم وبين كريزوس، فرفضها قيروش مزدريا إياهم، وذكر اليونان إعراضهم عنه حين خطب ودهم قبل ذلك ببضعة أشهر، فلم يبق لهذه المدائن إلا خوض غمار الحرب بعد ذلك الرفض المهين، فدعيت ندوتهم (البانيونيون) وحضرها أهل المدائن كلها إلا الملطيين الذين كانوا اتخذوا للحرب عدتها من قبل، ولكن حظ الجميع منها لم يكن أحسن من حظ مملكة ليديا.
من المحتمل أن يكون هذا الحين هو تاريخ النصيحة التي قدمها طاليس للاتحاد اليوناني؛ فإنه لبصره بالعواقب ارتأى ألا يكون للمدن اليونانية إلا جمعية واحدة تعقد في طيوس - لتوسط مركزها - على أن تحتفظ كل مدينة بنظمها الخاصة؛ لأنهم متى اجتمعت قواهم كانوا بالضرورة أقدر على مقاومة عدوهم المشترك؛ فإن الاتحاد وحده هو الذي ينجيهم ما دامت المنازعات الداخلية هي التي أضعفتهم. ولكن هذا الرأي السديد لم يكن ليطاع فيهم مع أنه لم يجئ بعد الأوان، فإن حال اليونان لم يكن بعد من السوء بحيث لا يمكن إصلاحه.
ولقد نصح لهم طاليس بعد ذلك نصيحة في وقت أشد حرجا فلم تقابل إلا بما قوبلت به سابقتها من الإعراض، ثم نصح لهم بعد ذلك بياس البرييني - أحد أعضاء الندوة (البانيونيون) - أن يترك اليونان جميعا آسيا ويتخذوا أسطولا كبيرا يركبونه إلى «سردينيا» حيث يؤسسون جمهورية قوية، وأبان لهم بيأس أنهم إن بقوا في آسيا لا يستطيعون أن يحموا حريتهم. يرى هيرودوت أن اليونان لو كانوا قرروا هذا القرار الباسل لصاروا أسعد الشعوب الإغريقية كلها، ولكنهم قنعوا بمفاوضة الأيوليين ليرسلوا سفراء إلى إسبرطة يطلبون باسمهم وباسم اليونان إعانة الجمهورية إياهم.
لم تشأ جمهورية إسبرطة أن تمدهم بقوة حقيقية، بل أرسلت رجلا ثقة من رجالها يقال له «لقرين» إلى سرديس يطلب إلى الفاتح ألا يسيء إلى أية مدينة إغريقية ويهدده بسخط لقدمونيا، غير أن قيروش الذي ما كان يعرف إلى ذلك الوقت ما هي إسبرطة، أخذ يسأل بها وأعلن - وهو هازئ بهذه الشعوب التي يخالها متأنثة في أمورها - أنه أولى بها أن يشغلها الخطر المحدق ببلادها عن الخطر الذي يتهدد يونيا. في هذا الوقت دعا قيروش اختلاف الأحوال في بابل وبكتريان والساسيين بل وفي مصر أيضا إلى التعجل بالسفر من سرديس إلى أقبطان، وخلف على المدينة فارسيا يدعى طابالوس، وجعل على نقل الكنوز التي جمعها ملوك ليديا منذ عدة قرون ليديا يقال له بكتياس.
انتهز بكتياس غيبة قيروش في حصار بابل، ووضع يده على الكنوز التي اؤتمن على نقلها، وانتبذ بها مكانا بعيدا على الشاطئ، ودعا الليديين إلى الثورة والانتقاض على قيروش، وألف بالمال جندا سار به إلى حصر مدينة سرديس التي كان يحميها طابالوس، ولكن هذه الثورة لم تلبث حينا حتى جاء مزاريس - أحد قواد قيروش - بالمدد، واضطر بكتياس إلى الهرب والاحتماء في «كومة»، فلما طلبه مزاريس هم الكوميون بتسليمه إليه بنصيحة هاتف البرنشيد، لولا رجل شجاع منهم يقال له أرسطوديقوس حمى النزيل ونجاه من الهلك واستحب عصيان الإله على انتهاك حرمات الضيافة في حق مستجير. ونجا بكتياس إلى ميتيلين حيث عادت لأهل كومة نخوتهم وأرادوا هم أيضا حمايته، غير أن هذا السيئ الحظ قد أخذه الشيوزيون بالقوة من معبد مينرفا وسلموه إلى الفرس؛ لأن قيروش أمر بأن يحضر لديه حيا، وقبض الشيوزيون ثمنا لهذا العار مقاطعة أطرنة الواقعة في ميزيا تجاه لسبوس، ولكنهم لم يسعدوا في هذه الأرض التي امتلكوها بذلك الثمن المخجل، فقد أكد هيرودوت أنه مر زمن طويل على أهل شيوز لا يستطيعون أن يقربوا للآلهة قربانا ولا أن يضحوا بشيء مما كان يأتيهم من غلة ذلك البلد الملعون.
قسا مزاريس في التنكيل بالذين خرجوا على الملك في ثورة بكتياس، وكتب الرق على سكان بريينة وباعهم بالمزاد، وخرب بلا رحمة سهول مينادرس جميعها وأباحها لنهب عسكره، ولكن منيته صادفته أثناء هذا الانتقام، ولقد أراد الفرس بهذه الفظائع أن يغلوا أيدي المغلوبين عن الثورة، ولكن إغريق الشاطئ ومستعمرات أيولس ويونيا ودريدا لم يخفهم ذلك، بل أخذوا عدتهم واستجمعوا بأسهم إلى حرب غير متعادلة القوى ولا ملحوظ في نتيجتها إلا الفشل والخذلان.
بذلك يبتدئ العهد الثالث والأخير لتاريخ الإغريق في آسيا الصغرى؛ فإن العهد الأول لبث من وقت نزوحهم إليها إلى حكم جوجيس غاصب ملك ميديا، وهو أطولها؛ لأنه لا يقل عن 500 سنة، والثاني الذي كان مملوءا بالتنازع بين مدائن الإغريق ومملكة ليديا، ويمتد إلى هزيمة كريزوس وسقوط سرديس. ولم تكن قوة ملوك الليديين تلقاء قوة الفرس شيئا مذكورا؛ لأن الفرس كانوا أمة حزب ملكت جزءا عظيما من آسيا، وتقدموا تقدما كبيرا في فنون الحرب بفضل قيادة قيروش.
أما الذي خلف مزاريس على التنكيل بالثائرين واستمرار الفتح فهو رجل خليق بكل أنواع الفظائع واقتراف الدنايا يقال له هربغوس، اشتهر بعمل مقطوع النظير في الخسة حتى في معرض دنايا البلاط الفارسي، ذلك أن «أصطياغ» - ملك الميديين - كان قد أزعجته رؤيا، فكلف هربغوس أمينه أن يحتال لقتل الولد الذي ولدته حديثا ابنته مندان من قمبيز، وكان هذا الحفيد المقصود بالوقيعة هو قيروش، فقبل هربغوس هذا الأمر، ولكنه لم يشأ أن يقتل الصبي بيده؛ فوكل ذلك إلى راع أخذته الرحمة من توصيلات زوجته؛ فاستبدل صبيه الذي ولد ميتا بالذي دفع إليه ليقتله، ودخلت هذه الحيلة على هربغوس، فلما استكشف «أصطياغ» خفية الأمر وعلم بكل ما جرى كظم غيظه، ولكنه انتقم من هربغوس شر انتقام، فأمر بقتل ابن هربغوس سرا، ودعاه إلى طعام قدم إليه فيه لحم ابنه فأكله، ثم أمر فأحضر رأس الغلام ويداه وقدمت أثناء المأدبة تحت غطاء إلى هربغوس، فلما كشف عنها الغطاء رأى هذا المنظر الفظيع فلزم السكينة، فسأله «أصطياغ» في ذلك فقال إنه تعرف اللحم الذي أكله، ولا يسعه إلا الثناء على الملك على ما تفضل به.
ومع ذلك فإن هربغوس قد أصر على الانتقام من «أصطياغ» بأن يثل عرشه من تحته؛ فحرض قيروش سرا على العصيان، ولم يصادف هذا الأمير الشاب عناء في حمل الفرس على نبذ نير الميديين الثقيل، ولقد بلغت العماية «بأصطياغ» أنه لما جاء حفيده على رأس الجيش الفارسي أمر على الجند هربغوس الذي كان قد نكل به ذلك التنكيل، فلم يلبث هذا الأخير أن خانه وانخذل بالجيش، وقهر قيروش «أصطياغ» ولم يقتله، بل تركه يعيش في الخزي، وسقطت مملكة الميديين بعد أن أقامت 328 سنة من ديجوسيزبن فراورط، وبقي هذا القسم من آسيا من يومئذ تابعا للفرس الذين لم يحتفظوا به إلا أقل من تلك المدة حتى سقطت مملكتهم بإغارة إسكندر .
ذلك هو هربغوس الذي رمى به قيروش مدائن الإغريق ليخضعها.
ولقد عنيت بذكر هذه التفاصيل على شهرتها لأبين أي الأمم وأي الأخلاق سيكون ليونان الشاطئ علاقة بها.
أخذ هربغوس يبتكر طرائق لفتح المدائن، فكان كلما وصل مدينة أحاط بها ثم حفر حولها خندقا يحصر أهلها فيضطرهم إلى التسليم؛ فبدأ بمدينة فوكاية، تلك المدينة التي كان لها اسم كبير في ذلك العهد، والتي تهمنا بوجه خاص جد الأهمية؛ لأن أحد فلاسفتنا (إكسينوفان) كان بها منذ نفي من كولوفون وهرب مع مواطنيه على الشواطئ البعيدة لبحر طرهينيا، ولقد كان أهل فوكاية أول من أزمع السياحات الكبرى المقرونة بالأخطار من جميع الجنس الهليني؛ فإنهم أول من علم الناس ما هو البحر الإدرياتيكي وبحر طرهينيا وأيبيريا وطورطايس، تلك الأصقاع السحيقة في حدود الأرض وراء عمد هيرقليس، وهم الذين حوروا طريقة صنع السفن فرغبوا عن السفن الغليظة المستديرة إلى سفن ذات خمسين صفا من المجاذيف، وهي المسماة «البانيكونتور». ولما كان لأهل فوكاية صلات مودة ومعاملة ببلاد طورطايس عرض عليهم أرغانتونيوس - ملك هذه الجهة - أن يهاجروا إليه إذا شاءوا أن يتركوا يونيا عندما هدد الفرس مدينتهم. ونظرا إلى أنهم لم يكونوا قد عزموا على الهجرة بعد، أعطاهم حليفهم الملك مبلغا عظيما من النقود ليساعدهم على إقامة سور منيع حول مدينتهم، فأقاموا هذا السور الواسع الامتداد من أحجار كبيرة محكمة الرصف جدا.
وقف هربغوس أمام هذا الحصن العظيم الذي لم يستطع النفوذ منه إلى داخل المدينة، وبقي محاصرا لها حتى أرهق أهلها إرهاقا، ثم عرض عليهم عرضا يوافقهم، وهو أن يهدموا جزءا من الحصن الأمامي تحتله الفرس إشارة إلى أن أهل المدينة أطاعوا؛ فطلب إليه الفوكيون الذين أعياهم الحصار جوابا على هذا العرض هدنة يوم واحد، وأن يبتعد الجيش الفارسي عن مراكزه، فأجابهم هربغوس إلى ذلك مع توقعه ما سيحصل؛ فاغتنم الفوكيون هذه الهدنة وحملوا على السفن نساءهم وأولادهم وجميع ما يستطيعون حمله خصوصا الأمتعة المقدسة التي جمعوها من المعابد، وسافروا إلى شيوز، فلما جاء الفرس في اليوم التالي وجدوا المدينة خلوا ليس فيها أحد من أهلها.
كان الفوكيون قد رغبوا بادئ ذي بدء في أن يشتروا من أهل شيوز الجزر التي تسمى إينوزوس، لكن هؤلاء قد رفضوا الصفقة حتى لا يخلقوا لأنفسهم مزاحمين لا يستهان بأمرهم على مرافق التجارة، فاضطر الفوكيون إلى أن يوجهوا سفنهم نحو جزيرة قورسقة (المسماة وقتئذ سيرني)، حيث أسسوا فيها قبل ذلك منذ عشرين عاما مدينة «علالية» بإشارة الهاتف، ولكنهم قبل أن يذهبوا إلى هذا المنفى النهائي رجعوا إلى فوكاية على غرة من حرسها الفارسي وذبحوهم، ومع ذلك فإن هذا العمل الجريء لم يمكنهم من البقاء في وطنهم القديم، بل ارتدوا إلى أسطولهم. وليثبتوا أنهم لن يتركوه ألقوا في البحر كتلة من الحديد، وأقسموا ألا يعودوا قبل أن تطفو هذه الكتلة الثقيلة على سطح الماء.
وعلى رغم هذا القسم زين لنصف النازحين أن ينزلوا إلى البر ويدخلوا فوكاية، وأما النصف الآخر الذي بر بقسمه فقد اعتمد على ألا يبقى تحت نير المتوحشين الذي لا يطاق، وأبحروا إلى قورسقة، فدخلوها آمنين وأقاموا كما يشتهون في سكينة مدة خمسة أعوام مع مواطنيهم الذين سبقوهم إليها قبل ذلك بسنين طوال. ولكن أهل طرهينيا وقرطجنة هاجموا الفوكيين، إما حسدا من عند أنفسهم، وإما اضطرارا للكسب وحبا في السلب والنهب. ولم يكن لدى الفوكيين إلا ستون سفينة ضد مائة وعشرين لخصومهم، ولم يبرر لهم ذلك التردد في منازلتهم، بل ذهبوا يبحثون عن عمارات خصومهم في بحر سردينيا، وتحرشوا بهم وطلبوهم للقتال، ولكنهم خسروا في هذا الظفر ثلثي سفنهم؛ فرجعوا عجلين إلى «علالية»، واحتملوا عائلاتهم وأموالهم ليلجئوا إلى موئل آخر آمن من هذا.
والظاهر أن جزءا من هؤلاء المهاجرين قد وقع في يد الطرهينيين والقرطجنيين فقبضوا عليهم وذبحوهم، وذهب الجزء الآخر إلى رغبوم في صقلية، ومن هناك اتجهوا إلى الشمال، وأسسوا على أرض أونتري مدينة إيليا الشهيرة بمدرستها الفلسفية التي شيدت فيها بعد تأسيسها بقليل.
في نحو هذا الحين لجأ إكسينوفان إلى إيليا هاربا من كولوفون التي وقعت في قبضة الفرس، وانضم إلى الفوكيين الشجعان الذين كانوا مثله يكرهون العبودية. من الواضح أن ما ورد في شعر إكسينوفان خاصا بإغارة الفرس الذين ما زال يسميهم الميديين، إنما يراد به واقعة هربغوس تلك لا حرب الميديين،
11
كما ظن ذلك أحيانا. وقد يظهر أن تأسيس إيليا الذي شدا به إكسينوفان كما شدا بتأسيس كولوفون كان في سنة خمسمائة وست وثلاثين أو خمسمائة واثنين وثلاثين قبل الميلاد، بل قد يكون أدنى من ذلك، على كل حال فإنه قبل إغارة مردونيوس وداتيس على بلاد الإغريق بثلاثين سنة على الأقل، وليس عندنا ما يفيد أن إكسينوفان عاش إلى ذلك الوقت.
ولسنا نرى فيما حفظ لنا التاريخ من التفاصيل ماذا جرى على كولوفون بخصوصها، وهي من ليديا كمدينة فوكاية، ولكن المفهوم ضمنا هو أنها وقعت فيما وقعت فيه فوكاية، وأن أهلها الذين لم يقبلوا حكم المتوحشين ركبوا البحر ليلجئوا إلى جهات أكثر طمأنينة. حق أن هيرودوت لم يذكر بعد أخبار الفوكيين إلا أخبار أهل طيوس الذين فعلوا مثل ما فعل أولئك، فحملوا ما قدروا عليه في سفنهم وقصدوا تراقيا حيث أسسوا مدينة أبدير، وقد كان سبقهم في الهجرة إلى تلك البلاد أحد مواطنيهم المدعو كلازومين.
أضاف هيرودوت إلى هذا أن بقية مدن يونيا خضعت لحكم الفرس بعد مقاومة عنيفة، ولا مانع من افتراض أن إكسينوفان كان أحد هؤلاء الأبطال الذين أثنى عليهم المؤرخ، والذين لم يلقوا قيادهم إلى الفرس إلا بحكم الضرورة، إلا الملطيين وحدهم فإنهم اتفقوا مع قيروش كما ذكر آنفا، وبذلك احترم هربغوس حيادهم اكتفاء بما شتت وأذل من سائر يونان القارة. وأما أهل الجزائر فإنهم بوضعهم كانوا في مأمن من الغارة؛ لأن الفرس لم يكن لديهم بعد أسطول يطولون به الجزائر ويلقون على أهلها نير العبودية.
وأما يونيا وأيولس فإنهما أطاعتا غاية الطاعة حتى جند منهم هربغوس حين مشى إلى قاريا التي وقعت في قبضته بعد قليل. وأما الكنيديون فإنهم حاولوا الدفاع بالإسراع في قطع البرزخ الذي يصلهم بالقارة، ثم بدا لهم أن يستسلموا إلى الفرس أخذا بنصيحة كاهنة دلفوس. وأما البيدازيون من ضواحي هاليكارناس فإنهم قاوموا حتى حين، ولكنهم قهروا كما قهر الليقيون الذين أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن وطنهم. وبذلك تم النصر لقيروش، وكان يستطيع أن يغتبط وهو سائر إلى إخضاع بابل بأن كل آسيا الدنيا ملك له إلى البحر.
كانت جزيرة سموس وقتئذ أقوى الجزر، ذات مركز سام بما لها من الروابط بإغريقا وبمصر، وبينما كان قمبير المفتون بن قيروش يغزو مصر ليقضي على نفسه فيها كان بوليقراطس يحكم سموس، وقد مكن له فيها بحسن إدارته وقلة تحرجه ومبالاته، حتى جعل الجزيرة من الرخاء محسودة الوفر من كل نظائرها. وكان من أمره أنه أقام فيها ثورة انتهت باستيلائه فيها على السلطان هو وأخويه ينتنيوت وسيلوسون؛ إذ اقتسم الإخوة الثلاثة حكم المدينة لكل منهم قسم معلوم، ولكن يوليقراطس لم يلبث أن تخلص من أخويه؛ إذ قتل أحدهما وشرد الثاني، وخلص له الحكم، وأطاعه أهل المدينة. وقد أراد أن يثبت لنفسه الملك المغصوب فارتبط بأمازيس ملك مصر، وتبادل وإياه الهدايا النفيسة، ولم يمض عليه حين حتى نبه ذكره، وعمت شهرته بلاد الإغريق، وكان سعيد الطالع موفقا في مشروعاته إلى غاية المنى، وكان أسطوله مؤلفا من مائة سفينة من ذوات الخمسين صفا من المجاذيف، وكان يبلغ عدد رماته وحدهم ألفا.
ولم يكن مع ذلك ليرعى لجيرانه حرمة، بل كان يضرب عليهم الإتاوة بغاية الجرأة، وكان من مبادئه السياسية ألا يبقي حتى على أصدقائه متى قضى الظرف إلا أنه كان يعوض عليهم بعد ذلك. وكان قد غزا عدة جزر حوالي سموس، بل عدة مدن في القارة، ولما ساعد اللسبوسيون الملطيين عليه حاربهم وقهرهم في وقعة بحرية، وسخر جميع الأسرى مصفدين بالأغلال في حفر الخندق العميق الذي كان يحيط بأسوار المدينة. وكان من نتائج ظلمه أن بعض أهل سموس هجروها من هول ما يلقون من الجور، واستجاروا بإسبرطة، فأبحر إليه اللقدمونيون في أسطول قوي، وحاصروا المدينة أربعين يوما، ولكنهم ارتدوا على أعقابهم بفضل بأس بوليقراطس أو بفضل ماله.
وبقي هذا الطاغية مستبدا بالحكم مهيب الجانب لا يغلب على أمره، حتى إن من لم يريدوا من السموسيين الاستسلام لمظالمه لم يكن لهم وسيلة إلا الهجرة بعيدا عن ملكه إلى حيث ينزلون منزلا يرضونه. ولم يكن ليأمن على نفسه الطوارئ بذلك الخندق العميق الواسع، بل اتخذ نفقا تحت الجبل سلك فيه إلى المدينة ماء غدقا، وبنى رصيفا شاهقا متقدما في البحر، جعل به المرفأ أكثر ملاءمة لرسو السفن، ثم بنى معبدا اشتهر بأنه أكبر المعابد المعروفة. وقد ذكر أرسطوطاليس أيضا هذه الأعمال العظيمة التي عملها بوليقراطس.
وكان هذا الطاغية محبا للآداب والفنون، ويقال إنه أول من أنشأ مكتبة. وكان مثل ذلك في تلك القرون زخرفا نادرا كانت مصر وحدها هي صاحبة الإبداع فيه، وكان يؤوي إليه الشعراء، وكان أنقريون الطيوسي بعض جلسائه ومادحيه.
في صدد الكلام على عهد طغيان بوليقراطس هذا، ينبغي أن نورد خبر الصلات التي كانت لفيثاغورث به والتي لدينا عنها معلومات مضبوطة؛ فإن يمبليك وفرفريوس وديوجين لا يرث يلتقون في هذه النقطة، وليسوا بالضرورة إلا صدى كثير من المؤلفين الذين هم أقرب عهدا بزمن فيثاغورث وكتبوا ترجمته، مثل أرسطوكسين الموسيقي - تلميذ أرسطو - وأبللنيوس الصوري وهرميب وديوجين وأنتيفون ... إلخ. كان فيثاغورث بن منيزارخس يدلي بأمه إلى أكبر عائلات سموس، ويمكن أن يتصل نسبه بأنصي - مؤسس المستعمرة - ويظهر أن أباه قد جمع مالا وفيرا من تجارة القمح، وكان صوريا على رأي بعض المؤرخين، وطرهينيا على قول البعض الآخر، وكان يستصحب ابنه معه في سياحاته منذ حداثته؛ فطاف الصبي مع أبيه تلك البلاد التي عني بدرسها بعد ذلك، فلما صار في سن التعلم، ورأى أبوه فيه مخايل وعليه سيما النجابة، وصله بأعلى الرجال امتيازا في زمنه: طاليس - على ما يقال - وأنكسيمندر وأنكسيمين الملطي وفرقليد السيروسي. وقد عرف فيثاغورث فينيقيا وهو شاب؛ إذ صحب أباه إليها، ولما أراد السفر إلى مصر زوده بوليقراطس بكتاب توصية إلى أمازيس، وذلك يثبت أن رأي فيثاغورث في بوليقراطس وقتئذ على الأقل لم يكن كرأيه فيه بعد ذلك.
لم تكن مدة إقامة فيثاغورث بمصر محل اتفاق في التاريخ، فمن مترجميه - مثل يمبليك - من حددها باثنين وعشرين عاما، وإن كان ذلك قليل الاحتمال. لما أسر عسكر قمبيز فيثاغورث سيق إلى بابل، وهناك اتصل بالمجوس كما اتصل بكهنة مصر مدة إقامته بها؛ إذ كان محل إعجاب بذكائه ورجاحة عقله وحسن روائه. ولما رجع إلى وطنه وهو متقدم في السن؛ أي كانت سنه ستا وخمسين سنة على قول يمبليك، فتح فيه مدرسة، وظل السموسيون الفخورون بمواطنهم يعقدون مداولاتهم السياسية قرونا عدة بعد ذلك في مجلس نصف حلقي مسمى باسم فيثاغورث.
وقد قال أرسطوكسين: إن فيثاغورث لما ترك سموس فرارا من ظلم بوليقراطس لم يكن يتجاوز من العمر أربعين سنة، وربما كان قوله أوجه؛ لأنه أقرب عهدا إلى هذه الأحداث من يمبليك، ومن المحتمل أن يكون أعلم بها منه ما دام أنه تلميذ أرسطو الذي كان يشتغل كثيرا بفلسفة فيثاغورث. وأما شيشيرون فإنه ذكر في كتابه «الجمهورية»: أن فيثاغورث وصل إلى إيطاليا في الأولمبية الثانية والستين؛ أعني في سنة 528 قبل الميلاد؛ أي في السنة التي جلس فيها طرخان العظيم على العرش. ولما كان شيشرون (على لسان سيبيون) يقصد إلى تصحيح خطأ تاريخي شائع، فمن المراجع أنه يعرف حق المعرفة صحة ما ذكر، وأنه غير مخطئ.
ومهما تكن حياة فيثاغورث محجوبة عنا مع ما كان من اشتغال كثير من الكتاب الأقدمين بها، فالظاهر أن من المحقق أنه هاجر من سموس المحرومة الحرية ليجد بلدا في إغريقا الكبرى لا تشمئز فيه نفسه من مشاهد الظلم، ويستطيع أن يتمتع فيه بالاستقلال الذاتي الذي كان في حاجة إليه. وكذلك فعل إكسينوفان في نحو هذا الزمن؛ إذ كان يفر من اضطهاد الفرس الذين كانوا أشد ظلما من طغاة الإغريق. كان ذلك هو الحظ المشترك لأمثال هؤلاء، فليس من السهل أن يبقى المرء وطنيا أو فيلسوفا ينوء بحمل الضغط الذي يأتيه أمثال أولئك الأسياد. وعلى ذلك حمل فيثاغورث إلى قروطون وإلى ستيباريس مذاهب عجيبة فيها بلا شك شيء من الديانات الشرقية التي اتصل بأهلها، ولكنها حقيقة باحترام كل من يحبون الحكمة والإنسانية.
ولم تصل إلينا مذاهب فيثاغورث إلا عن طريق الوسطاء؛ إذ لم يجتمع لنا شيء من مؤلفاته الكثيرة التي وضعها
12
فيما يظهر على ما يقول هيلير قليطس، والتي مع كون فيلولاوس أذاعها لأول مرة بعد ثلاثة أو أربعة قرون من وضعها كان يطلبها أفلاطون بأغلى ثمن.
أما بوليقراطس الذي شاطر في أسباب تعليم فيثاغورث، فإنه لقي حتفه على أسوأ ما يكون بعد سنين قلائل من اعتزال الحكيم سموس التي صارت أحط من أن تكون وطنا له؛ ذلك بأن أورطيس الذي رسمه قيروش مرزبانا على سرديس حاول أن يوسع سلطان الفرس ويدخل الجزائر تحته، فعزم على أن يوقع بالطاغية الذي أتى سموس الواقعة أمام حكومته قوة ومنعة، فأرسل إلى بوليقراطس سرا رسولا يخبره عنه بأنه مهدد شخصيا بغضب قمبيز البالغ حد الصرع، وأنه يريد أن يودع ماله مكانا أمينا ويرجو السيد أن يقبل إيداعها عنده، ولكيلا يتظنن في قوله طلب إليه أن يرسل ثقة له ليريه خزائنه المملوءة بالذهب المضروب، على شريطة أن يبقي نصف المال للمرزبان والنصف الثاني يكون لبوليقراطس ينفقه على مشروعاته الواسعة المدى إلى حد فتح إغريقا كلها.
لم يطق شره بوليقراطس صبرا، فأرسل أمين أسراره مندريوس إلى «سرديس» ليحقق خبر كنوز أورطيس الذي خدع الرسول وأراه صناديق مملوءة حجرا مغطاة سطوحها بالذهب، فرجع الرسول إلى سيده وقرر له ما رأى، ففرح بوليقراطس وعول على أن يذهب بنفسه لإحضار الذهب، وعبثا حاول أصحابه وعائلته منعه، حتى لقد كان منه أن هدد ابنته بألا يزوجها إلا بعد زمن طويل حين تشبثت بمنعه وقت ركوبه الفلك. ومضى وفي صحبته عرافه المدعو هيلي الذي لم يصل علمه إلى كشف هذه الأحبولة. فلما وصل إلى حيث ينتظره أورطيس أمر الغادر بالقبض عليه وصلبه. ومع أن هيرودوت لم يكن به مظنة ضعف للطغاة فإنه رثى لحال بوليقراطس الذي كان من العبقرية والسؤدد بحيث لا يستحق هذه الميتة الشنعاء.
وكان في معية بوليقراطس في هذه السفرة المشئومة - غير ذلك العراف المغفل - ديموكيد الطبيب الشهير من قروطون الذي وقع هو أيضا بهذه الأحبولة في الرق، ثم دعي بعد ذلك بقليل إلى بلاط دارا ليعالجه من التواء مفصلي أصابه، وذلك حين أمر دارا مهلك المجوس بقتل أورطيس لارتكابه فظائع لا مصلحة في ارتكابها.
13
لما خلت سموس من بوليقراطس لم تستأخر عن الوقوع في قبضة الفرس؛ لأن الطاغية لما ذهب إلى حيث لقي حتفه كان قد خلف على الجزيرة أخاه مندريوس الذي هو أقل كفاية من أن يلي الحكم، وجاءت جنود أوطانيس المرزبان الجديد تحت قيادة سيلوسون أخي بوليقراطس الذي نال حظوة عند دارا بسبب أنه عرفه في مصر حيث منفاه، فهرب مندريوس وترك الجزيرة، فتولى أخوه شاريلاوس قيادة الحامية، وبعد مقاومة عنيفة سقطت الجزيرة في أيدي الفاتحين، ودخلها سيلوسون فوجدها خلوا من سكانها.
ولما انتصر دارا على بابل بفضل إخلاص زوبير وجه قواه إلى محاربة السيتيين، فصنع له مندروكليس المهندس السموسي القنطرة المشهورة التي عبر عليها جيشه بغاز البسفور، وهي قنطرة من المراكب لم يكن طولها أقل من أربع غلوات؛ أي نحو 800 متر، ولا بد أن يكون اتخاذ مثل هذه القنطرة من أصعب ما يكون، وكانت واقعة - على رأي هيرودوت - بين بيزنطة وبين معبد قائم على مصب البسفور. ولكي يخلد هذا الملك العظيم ذكرى هذا العمل أغدق على المهندس السموسي نعمه، وأقام عمودين على جانبي الشاطئ كتب عليهما باللغتين اليونانية والآشورية. وقد رسم مندروكليس في معبد جونون لوحة تمثل القنطرة وجيوش الفرس تعبر فوقها تحت نظر دارا جالسا على عرشه. وقد شفع دارا جيشه البري بأسطول عظيم يقوده اليونان والأيوليون وفريق من أهل هلسبون، وأمر الأسطول أن يدخل البحر الأسود، ثم يدخل مجرى الدانوب ونهر الاستر، ويقيم قنطرة على النهر في محل تفرعه الأول إلى عدة فروع. واتجه دارا بجنوده في البر من تراقيا إلى تلك النقطة، وكانت عدة جنوده البرية سبعمائة ألف مقاتل وعدة سفن أسطوله ستمائة سفينة، وكانت هذه الجيوش البرية والبحرية مؤلفة من جميع الأمم التي تشملها مملكة الفرس المترامية الأطراف من شواطئ آسيا الصغرى إلى الهندوس.
وتقدم الملك العظيم - على بعد الشقة وصعوبة المسالك - في طريقه بين تلك الأمم الجافلة التي كانت تولي الأدبار أمامه وتستدرجه شيئا فشيئا إلى مفازاتها الواسعة وتلك المهامه التي لا تجاز، كما وقع في أيامنا هذه لفاتح آخر ليس أكثر منه بصرا بالعواقب ولا أقل منه نحسا في الطالع. وقد عني دارا في انتصاراته الموهومة بأن يقيم في طريقه أعلاما وأعمدة نقش عليها بالعبارات الفخمة: «إخضاع الجيتيين». وكان يبني آثارا سهلة البناء؛ فإنه أمر بأن يلقي كل جندي من جيشه العرمرم وهو سائر حجرا في مكان معين، فيجتمع من هذه الحجارة أكمة عظيمة يخيل أنها هرم.
ولقد وجد جيش دارا حتى في هذه المجاهل بعض آثار النفوذ الإغريقي، فإن أولئك الرحل الذين كانوا يعبدون «ذالمكسيس» الذي كان - كما يقال - عبدا لفيثاغورث بن منيزارخس في سموس، والذي بعد أن صار حرا وغنيا عاد إلى مواطنيه بشتات من المدنية الهلينية؛ إذ نقل إليهم شيئا من عقائد سيده العالم، غير أن هيرودوت لم يقبل هذه الرواية، وردها بأن «المكسيس أوغيبليزيس» كان أقدم من فيثاغورث بكثير، وأن فيثاغورث أعجب بحكمته العالية،
14
ولكن تلك الرواية المشهورة مهما كانت كاذبة تدل على الأقل على ما لاسم الفيلسوف من الاحترام منذ تلك الأزمان، فإليه تنسب الثقافة الأخلاقية والإصلاح الموفق الذي - وإن لم يتم - كان سببا في التهذيب من حال أهل تراقيا المتوحشين.
على أن دارا لما وصل إلى المحل المعين على نهر الدانوب، وجد اليونان نفذوا أمره بإقامة قنطرة المراكب، كما أقاموا قنطرة البسفور. ولما عبر الجنود النهر أراد دارا رفع القنطرة حتى يتبعه الإغريق في غزوته، ولكن قويس - رئيس المتالنة - كان لحسن الحظ أسد رأيا من الملك؛ فإنه وصل إلى إقناعه ببقاء القنطرة؛ لأنها طريقه الوحيد عند التقهقر، وعلى ذلك أمر دارا اليونان أن ينتظروه ستين يوما فإن لم يعد في هذه المدة هدموا القنطرة وسافروا.
حدث ما كان سهلا توقعه؛ فإن جيش دارا بعد أسفار نحو الشمال متعبة عديمة الفائدة اضطر إلى أن يعود خاسرا تاركا مرضاه وجرحاه، وكانت حاله حال ذلك الجيش العظيم سنة 1812 الذي كان في تلك البلاد تقريبا يقاتل أولئك الأعداء أنفسهم الذين خدعوه الخديعة عينها.
ولما انتصر السيتيون على دارا من غير حرب تقدموه إلى قنطرة الدانوب، وكان دارا سيلاقي ما لاقى نابليون في عبور نهيربير يزينا لولا أمانة الإغريق الذين وكل إليهم حراسة القنطرة، فإن السيتيين حرضوهم على كسرها قائلين: إن ميعاد الستين يوما قد مضى، وإنهم قد أوفوا بعهدهم، وقد نصح لهم ملتياد الآتيني - الذي كان قائد أهل شرسنيز وهلسبون وطاغية عليهما والذي صار بعد ذلك فاتح مرطون - أن يهدموا القنطرة وينسحبوا إلى بلادهم، وبذلك يهلك الجيش الفارسي ويسترد اليونان حريتهم، وكانت نصيحته ستجد آذانا صاغية، ويكون لها من الأثر ما لم يكن لإغراء السيتيين، لولا أن اجتمع رؤساء اليونان وقرروا بناء على رأي هستيا الملطي أن ينتظروا دارا ويخلصوه، وكان مع هستيا من رءوس اليونان سطراطيس الشيوزي وأوسيز السموسي ولودامس الفوكي، وكان أرسطاغوراس الكومي وحده رئيسا للأيوليين.
ولم يكن الوفاء بالعهد هو الذي حمل أولئك الرؤساء على هذا القرار الغريب، بل هي المصلحة الشخصية؛ فإن هستيا لم يصادف عناء في إقناع زملائه الذين مصلحتهم كمصلحته بأنهم إذا فقدوا تأييد الفرس لهم لم يلبث واحد منهم سيدا على مدينته التي يحكمها، بل إن الأمة متى تخلصت من حكم الأجنبي تسارع إلى حكم الديموقراطية، وتحرم رؤساءها الحاليين كل سلطان عقابا لهم على قبولهم المزايا التي خصهم بها الملك الكبير، وقد رجح لدى الرؤساء هذا الرأي، وأمكن لدارا - وقد اقتفى السيتيون أثره - أن يفر منهم بعبور النهر.
ماذا كان عساه أن يقع لو أن اليونان كسروا القنطرة وهلك بذلك دارا وجنوده؟ تكون داهية دهياء على مملكة الفرس من غير شك، ولكن هذه الضربة مهما كانت خطورتها لا تكون هي القاضية؛ لأن هزائم مرطون وسلامين وبلاته لم تكن لتكفي لهذا الغرض، حقا ربما كانت يونيا تستطيع أن تتنفس من ضيق الخناق بعض الزمن وتسترد استقلالها، ولكن إغارة جديدة أكثر حدة بالضرورة من سابقاتها ترجعها إلى الخضوع، فلم يكن حان الوقت لسقوط الفرس الذين كانت أمتهم وقتئذ في قوة الشباب وطور النمو الأول، ولكن هذا لا ينفي الإجرام عن أنانية الرؤساء اليونان؛ فإنهم كانوا يستطيعون البقاء على عهد دارا بأسباب أشرف من الأسباب التي اتخذوها.
لما وصل دارا إلى سستوس ركب البحر إلى آسيا وخلف مغباز على الجنود في أوروبا، وليفتح تراقيا ومقدونيا، وبعد قليل دعي مغباز إلى صوص، وكذلك هستيا الذي ظهر أن من عدم التبصر تركه وحده في تراقيا، حيث أقطعه دارا إقطاعات واسعة في مرسينة جزاء له على خدمته.
ولقد منيت بلاد اليونان بجهد جديد ومصائب جدد تتخمر في باطنها؛ فإن هستيا لما ترك ملطية نزل عن السلطة إلى أرسطاغوراس صهره وابن عمه، فجاء إلى هذا الأخير بعض المنفيين من نكسوس يستنجدونه، وأحس من نفسه قلة الحول في أن يقوم بمشروع فتح نكسوس وحده، فرجع في الأمر إلى أرتافرن أخي دارا ومرز بأنه على سرديس وجميع تلك الجهات التي هي أول مرزبانية في المملكة، فطمع أرتافرن في الاستيلاء على نكسوس وما يليها من مدن السكلاد، وحصل من دارا على الإذن بتسيير مائتي سفينة تحت تصرف أرسطاغوراس، ولكن الشقاق قد دبت عقاربه بين الأحلاف؛ فاستطاعت نكسوس أن تدافع عن نفسها وأن تصد هجمات محاصريها وتردهم بالخيبة بعد حصار أربعة أشهر؛ وعلى ذلك لم يوفق أرسطاغوراس إلى تحقيق شيء مما وعد به مرزبان سرديس، فخاف من ذلك على سلطانه الخاص، وعقد العزم على ألا يكون نصف مذنب؛ فغلظ ذنبه، وأوقد نار ثورة صريحة دفعه إليها أيضا سلفه هستيا الذي كان لا يزال في صوص عند الملك الكبير، ولكي يجذب قلوب الملطيين إليه نزل عن حكومة الطغيان، ورتب بدلها حكومة الشعب، ودعا المدائن اليونانية الأخرى إلى العصيان، فاستجابت لدعائه وطردت جميع الطغاة الذين نصبوا عليها تنصيبا.
إن ما أتاه أرسطاغوراس من الإقدام الكبير كان بعد استشارة أصحابه، فأما هيقات الملطي المؤرخ فكان رأيه ألا يوقدوا نار الحرب في الحال وليس لديهم المال الضروري، فلما لم يستطع الإقناع برأيه ألح في وجوب توجيه كل قواهم نحو البحر، بفكرة أنهم فيه أقدر على الهجوم منهم في البر، ولهذه الغاية نصح بأن يأخذوا جميع أموال كريزوس التي جمعها في معبد البرنشيد، ولكنهم أصموا آذانهم عن الاستماع لهذا الرأي السديد، وأصروا على الثورة على أي حال، وكان أرسطاغوراس يشعر تماما بضعف يونيا فذهب إلى إسبرطة ليتخذها حليفة له.
ولقد عني أرسطاغوراس ليزيد كليومين - ملك إسبرطة - علما بحقيقة مشروعاته بأن يبين له في أثناء المفاوضة مواقع البلاد التي كانت موضوع الحديث، وهي ليديا وفريجة وقبادوس وفارس ... إلخ، بينها له مرسومة على صحيفة من النحاس حملها معه، وكان وقتئذ من أحدث ما يكون رسم خريطة جغرافية. ويظهر أن أنكسيمندروس هو صاحب هذا الاختراع البديع، ولكن كليومين لم يفه إلا بسؤال واحد: «ما هي المسافة بين بحر يونيا وبين المحل الذي يقيم فيه الملك؟» فأجابه ببساطة: «مسير ثلاثة أشهر.» وكان ينبغي لأرسطاغوراس أن يحسب وقع هذا الجواب في نفس رجل إسبرطي؛ لأن كليومين بعد أن سمع هذا الجواب أمر نزيله أن يبرح لقدمونيا قبل غروب الشمس، ورفض مع الازدراء المال الذي حمله إليه ليحاول إغواءه به.
وكان ما قاله أرسطاغوراس عن المسافة حقيقة واقعة؛ فإن هيرودوت قد عدد بالضبط والعناية المائة والإحدى عشرة محطة الواقعة على الطريق الجميل الذي أنشأه دارا من سرديس إلى صوص على نهر كواسب أو كراسو البعيد جدا من مدينة بابل نحو الشرق، فكان 13500 غلوة أو 450 برزنجا، والبرزنج هو في المتوسط 30 غلوة، أو بعبارة أخرى 600 فرسخ، فكان لا بد للقيام بمشروع ضخم كهذا عبقرية إسكندر ومائتا عام حرب على مملكة الفرس الضخمة، ولم يكن لكليومين من خلقه ولا من زمانه ما يجرئه على معاناة أمثال هذه المشروعات.
ولما فشل أرسطاغوراس في إسبرطة قصد آتينا؛ لأنها صارت شيئا فشيئا أقوى مما كانت عليه منذ قلبت طغيان البيزستراتيين، وأخذت ترسل السفراء إلى أرتافرن مرزبان سرديس حتى لا يصغي إلى مزاعم هيبياس الذي التجأ إليه. ولما لم ينجح أرسطاغوراس في استمالة كليومين، ونجح في استمالة سكان آتينا، وعدتهم ثلاثون ألفا - كما ذكره هيرودوت بعبارة ملؤها التهكم؛ إذ ذكرهم بأن ملطية كانت مستعمرة لأجدادهم - فتقرر أن يرسلوا إلى يونيا عشرين سفينة لنصرتها، وكان ذلك - كما رواه أيضا هيرودوت - بداية الحرب التي فيها لبست الجمهورية حلل الفخر بتخليص الإغريق، والتي فيها لاقت دولة الفرس هزائم قاسية كانت طلائع لخرابها العاجل. وقد حمل أرسطاغوراس البيون أيضا على الثورة، وهم أولئك الذين أخرجوا من ضفاف إستريمون إلى فريجة بأمر دارا، وهربوا منها إلى شيوز، وسافروا من شيوز إلى لسبوس، ومنها إلى دوريسكوس، ومنها عادوا إلى بلدهم الأصلي.
لما وصلت السفن العشرون إلى إيفيزوس وانضم إليها خمس سفن أخرى من إريتريا، لاقوا إخوة أرسطاغوراس يقودون جند ملطية؛ لأن أخاهم أقام بالمدينة يباشر بنفسه حركة التعبئة، وقد ترك الجيش البري الأسطول في مياه إيفيزوس وتقدم هو على ساحل «قايستر» يجوس خلال طمولوس حتى وصل إلى سرديس، فأخذها من غير حرب تذكر وحرقها بغاية السهولة؛ لأن سطوح منازلها مغطاة بالقصب اليابس. ولم يتمكن أرتافرن إلا من الاستعصام هو وجنوده بالقلعة، وقد انزعج الفرس والليديون لما رأوا المدينة غنيمة النار، ولكنهم استجمعوا شجاعتهم وخرجوا إلى المحاربين وثبتوا أمامهم حتى اضطروهم إلى التقهقر نحو الشاطئ، ونهض الفرس المرابطون على الهالوس إلى المعركة فلم يجدوا اليونان في سرديس؛ فاقتفوا آثارهم إلى إيفيزوس حيث نالوا منهم نيلا في واقعة كبرى.
ولقد أخذ اليأس من الآتينيين كل مأخذ من جراء هذه الهزيمة؛ فانسحبوا على رغم رجاء أرسطاغوراس وإلحاحه، ولكنه هو لم ييأس، بل اعتمد على جنوده الخاصة وعلى مساعدة مدن هلسبون وقاريا وجزيرة قبرص العظيمة، وإذ ذاك كان أونيزيلوس طاغية سلامين منتقضا على الفرس.
لما علم دارا بما أتاه الآتينيون من المشاطرة في إحراق سرديس أقسم أن ينتقم منهم ويجزيهم على هذه الإساءة شر الجزاء، وأرسل هستيا بديا ليعيد اليونان إلى الطاعة بفضل دسائسه، ولم تكن مع ذلك أحوال اليونان بخير، بل إن قبرص سلمت بعد مقاومة شديدة، وقاريا التي كانت ثائرة ردت إلى الطاعة، وكلازومين سقطت في قبضة أرتافرن وأوطانيس، وكذلك سلمت كومة أوليد، فلم يستطع أرسطاغوراس احتمال هذه الخيبة؛ فانزوى في مرسين بلد حميه هستيا، وكان هيكاط الملطي يرى أن الأوفق لهم الالتجاء إلى جزيرة ليروس حيث يمكنهم البقاء حتى يعودوا إلى ملطية في الوقت المناسب. ولما سافر أرسطاغوراس إلى تراقيا قتل أمام قلعة وهلك جيشه.
ولم يكن حظ هستيا بأحسن حالا من ذلك؛ فإن أرتافرن تظنن في أمره، واطلع على دسائسه ففر بعد عناء من سرديس إلى جزيرة شيوز فانتبذوه بفكرة أنه صنيعة الفرس، ولكنه بعد ذلك كسب جاذبيتهم بأن أظهرهم على ما فعل لإقامة ثورة اليونان؛ فحملوه إلى ملطية حيث قابله أهلها بفتور؛ لأنهم بعد أن نالوا حريتهم كانوا يخشون أن يعيد إليهم أيام طغيانه، ولما نفي من وطنه حصل من أهل لسبوس على بعض السفن يطوف بها جهة بيزنطة ينهب أموال الذين لا يريدون أن ينضموا إليه.
أخذت العاصفة التي أثارتها ثورة أرسطاغوراس تهمي على رأس يونيا التي لم تتقهقر أمام هذا الخطر المزعج. انعقد البانيونيون وقرر الحرب، ولم تكن هناك فكرة في حرب برية؛ فلم يؤلف جيش ما، وعولت ملطية على أن تتفرد بحماية أسوارها التي يهددها العدو، ولكنهم رتبوا أسطولا عظيما تجتمع سفنه في لادي؛ وهي جزيرة صغيرة قبالة ملطية، فاجتمعت إليه السفن من كل ناحية؛ حتى إن الأيوليين أرسلوا سبعين سفينة فكان الملطيون ومعهم ثمانون سفينة في الجناح الأيمن جهة الشرق، وكان مع البريينيين اثنتا عشرة سفينة، ومع الميونتين ثلاث، ومع أهل طية سبع عشرة، ومع الشيوزيين مائة سفينة، ومع الأريتريين ثمان، ومع الفوكيين ثلاث فقط كالميونتين، وكان مع أهل سموس في آخر الجناح الأيسر إلى جهة الغرب سبعون سفينة، فكان هذا الأسطول الكبير العدد في طاقته أن يقاوم حلفاء الفرس الذين هم الفينيقيون والقبارصة والصقليون والمصريون. ولكن تسلل الشقاق بين اليونان، وحقد بعضهم على بعض حتى يوم الوقيعة؛ فلم يتناصروا كما ينبغي. وكان السموسيون واللسبوسيون أول من فر من حومة القتال. ويكاد الشيوزيون أن يكونوا وحدهم هم الذين صلوا سعير الحرب وقاموا بواجبهم، ولكنهم كانوا أضعف من ألا يهزموا، وختمت الحرب بهزيمة تامة.
وكان دينيس - رئيس الفوكيين - بطلا مغوارا، وكانت عزيمته بحيث يضمن الظفر لو أطاعوا أمره، فلما انهزم لم يجد مناصا من الهرب على شواطئ فينيقيا، ومن هناك إلى صقلية حيث يشن الغارة على القرطجنيين والطرهينيين.
بعد هزيمة لادي حوصرت ملطية برا وبحرا؛ فأحسنت الدفاع عن نفسها، ولكنها أخذت عنوة بعد حصار مهلك؛ فذبحت رجالها وسبيت نساؤها وأطفالها، وسيق بهم أرقاء بأمر دارا إلى مصب نهر دجلة، واحتل الفرس المدينة والسهل الذي يحيط بها، وأعطوا بقية ما كان يتبعها من الأرض إلى بيدازيي قاريا. أما آتينا التي تخاذلت عن ملطية وتركتها، فإنها ألمت لمصائبها التي هي نذير بمصائب أدهى وأمر. ولقد صاغ هذه الواقعة المحزنة الشاعر المأسائي فرينشوس في رواية تمثيلية أبكت جميع شهود تمثيلها؛ فحكم على الشاعر بتغريمه ألف درهم، ومنعت الرواية منعا باتا.
ثم قصد الفرس جزيرة سموس، فلما رآهم أهلها ومعهم أقيس بن سيلوزون طاغيتهم القديم الذي كان نفاه أرسطاغوراس تفرسوا ما سينزل بهم القدر؛ فاستحبوا الرحيل من أوطانهم على أن يحتملوا ظلمه مرة أخرى؛ فهاجروا من جزيرتهم إلى قلقطة حيث كان يدعوهم إلى صقلية أهل زنكل. وكان السموسيون هم وحدهم اليونان الذين هاجروا هذه المرة هم والملطيون الذين استطاعوا أن يفروا من المذبحة. ودخل أقيس سموس تحت حماية الفرس الذين استثنوا معابد هذه المدينة وحدها من الإحراق اعتدادا بجميل السموسيين الذين تخاذلوا عن إخوانهم يوم لادي.
وقد حاول هستيا أن يقاوم من جديد بعد أن انضم إليه بعض اليونان والأيوليين، ولكنه قبض عليه قرب أطرنة في ميزيا، وسيق إلى أرتافرن في سرديس فقتله صلبا وأرسل رأسه مصبرة بالملح إلى دارا في صوص.
ولما قضى الأسطول الفارسي فصل الشتاء في ملطية فتح جميع الجزر : شيوز ولسبوس وتندوس ... إلخ، في حين أن الجيش البري يستكمل فتح جميع المدائن الإغريقية.
ولقد كان لانتصار الفرس نتائج فظيعة، كما أنذر الفرس بذلك قبله بست سنين حين بدأت ثورة أرسطاغوراس؛ فإنهم كانوا يذبحون الرجال، ويخصون أجمل الفتيان، ويرسلون أجمل الفتيات إلى صوص، ويحرقون المدائن وما فيها من المعابد لينتقموا لحرق معبد سيبيل إلهة سرديس. وفي أثناء ذلك كان أرتافرن عامل أخيه دارا يدخل في إصلاح الشقاق بين اليونانيين، وكان يضرب عليهم الجزية التي بقي مقدارها ثابتا لم يتغير إلى زمن هيرودوت؛ أي بعد ستين سنة، ثم أخذ مردنيوس صهر دارا قيادة جيش جرار في البر والبحر وسار به في يونيا يقيم حكومة شعبية متجها إلى أوروبا ليعاقب آتينا وإريتريا على مساعدتهما في عصيان مستعمرات آسيا الصغرى. فأما إريتريا فقد أسلمها بعض الخونة فقهرها داتيس، وحرقت معابدها، وصفد رجالها في الأغلال يساق بهم أرقاء إلى صوص. وأما آتينا التي هددها الخطر بعد إريتريا بأيام فإنها اقتحمت الحرب وحدها هي والبلاتيون اقتحام الأبطال، وصدت الغازين في مرطون. وعلى ذكر مرطون أمسك عن القول لأني لا أقصد رواية عجائب الشجاعة والوطنية. وماذا أنا قائل في الوطنية؟! آتينا التي سيكون من أمرها أن تنير العالم بذكائها قد خلصته وقتئذ بعزيمتها التي لا تتزعزع، فإذا كان قدر للفرس أن ينتصروا ما كان عسى أن تصير إليه المدنية الغربية؟ وماذا يكون مصير أوروبا؟ الله وحده يعلم ذلك. ولكن آتينا تستحق اعترافا أبديا بجميلها.
وقد صيرت مرطون بلوغ الطرموفيل وأرتيميزيوم وسلامين وبلاته وميكال تجاه سوس من الممكنات، وكان أول شرط لقهر المتوحشين هو عدم الخوف منهم، ذلك هو السنة الحسنة التي استنتها يونيا والتي أخذت بها آتينا في هذا الظرف أمام خطر مزعج. لقد افتدتنا مدينة مينرفا (آتينا) من الاستعباد الآسيوي منذ اثنين وعشرين قرنا. نحن الذين نعرف اليوم آسيا بعلاقة أننا نمدنها نستطيع أن نرى أكثر من إغريق ملتياد وطمستوكل من أية هاوية انتشلونا، ونستطيع أن نحلف كما فعل ديمستين بأسماء الأبطال شهداء مرطون.
في كتاب هيرودوت ينبغي أن تقرأ هذه الحكاية الخطيرة على بساطة في سردها كتبها بعد الواقعة بأقل من ثلاثين سنة، وإنه ليخاطب في أولمبيا رجالا أخذوا بحظ من ذلك الانتصار ومن الحوادث التي كان يمكن أن يكون هو لها شاهد عيان، فلا أريد أن أكرر ما حدث به ذلك المؤرخ الشريف من سيرة المجد، ولكن لي بعض كلمات على يونيا لا تمشي بالحوادث إلى العهد الذي كان فيه ميليسوس آخر من علم من فلاسفتنا في سموس مذاهب مدرسة إيلي.
لما قهر اليونان اضطروا إلى أن يخدموا سادتهم ويتبعوهم في حروبهم ضد إغريقا؛ ففي سلامين كان من سموس اثنان من قواد الأسطول الفارسي؛ طيومستور بن أندروداماس وفيلاقس بن هستيا، وقد أبليا بلاء حسنا ضد سفن لقدمونيا حين كان الفينيقيون يحاربون سفن آتينا.
ولكنه مهما كان لإغريق آسيا الصغرى من العمل في تأليف جزء عظيم من أسطول دارا وإكزاركسيس، فإنهم لم يكونوا إلا ليتربصوا الفرصة المناسبة للعصيان. بعد هزيمة سلامين جاء أسطول الفرس يقضي الشتاء في كومة وفي سموس بعد أن وصلت الملك المغلوب ومعيته، فلما جاءت السنة التالية حضر الأسطول الإغريقي تحت قيادة ليوتيخيدس - ملك إسبرطة - يبحث عن أسطول الفرس في مياه آسيا الصغرى، أظهرت له جميع مدائن الشاطئ والجزر استعدادها لمظاهرته والعصيان على الفرس، وعلى الأخص جزيرة سموس؛ فإنها كانت تلتهب شوقا إلى خلع طيومستور الذي رماهم به المتوحشون طاغية عليهم؛ فأرسلت لهذا الغرض رسلا إلى ليوتيخيدس، سواء في إسبرطة أو ديلوس، ليؤكدوا له استعدادها. وربما كانت هذه المخابرات هي التي قوت رئيس الإغريق على الحضور لمهاجمة الفرس في موضعهم، ولكن المتوحشين منذ الدرس القاسي الذي تلقوه في سلامين لم يكونوا ليجرءوا على اقتحام حرب بحرية، وقد أذنوا للأسطول الفينيقي أن ينسحب، ولم يكد يبقى معهم إلا يونان وإغريق من الشاطئ؛ فغيروا مركزهم من سموس إلى ميكال حيث جروا سفنهم إلى البر وأحاطوها بسور يصح أن يكون خط دفاع، وإلى جانبها جيش مؤلف من ستين ألف مقاتل تحت قيادة تجران الذي عهد إليه إكزاركسيس في المحافظة على يونيا.
وكان الفرس يظنون أنهم من موضعهم هذا في حصن حصين، ولزيادة الحيطة قد نزعوا السلاح من أهل سموس الذين كانوا يتهمونهم بأن لهم ضلعا مع ليوتيخيدس، والذين كان منهم أن افتدوا بمالهم أسرى آتينا وردوهم إلى وطنهم، وفوق ذلك فقد كلف الفرس الملطيين بحماية الطرق المؤدية إلى قمم ميكال، وعلى ذلك لم يكن لديهم أدنى ريب في أن يصدوا من حصنهم كل هجمة عليهم من العدو، ولكنهم مع ذلك قد أهلكهم الآتينيون والقورنتيون بفضل شجاعتهم وبانتقاض أهل سموس وأهل ملطية، فدمر جيشهم تدميرا، وقتل قائده تجران، وحرق أسطولهم، ورجع الإغريق ظافرين من هذه الموقعة مثقلين بالغنائم.
كانت يونيا قد تخلصت من حكم الأجنبي بعد واقعة ميكال، ولكن هل تستطيع أن تقوم قائمتها بنفسها وتدفع عنها حمق المتوحشين متى تركت إلى قواها وحدها؟ كان من المشكوك فيه أن لها طاقة على المقاومة، فاجتمع القواد في سموس وتداولوا فيما إذا كان الواجب على اليونان أن يهجروا نهائيا سواحل آسيا الصغرى ويلتجئوا إلى قسم من إغريقا يعين لهم، فعارض الآتينيون جد المعارضة في هذا القرار مع أنه كان من الميسور تعويض اليونانيين على حساب الخونة الذين كانوا قد تخاذلوا عن الدفاع في القضية العامة عند الغارة الميدية. وأما البلوبونزيون فإنهم انضموا إلى هذا الرأي من غير مشقة، ووقف الأمر عند عقد معاهدة محالفة مع السموسيين والشيوزيين واللسبوسيين وجميع الذين شاطروا في الظفر. وقد كان الجيش الفارسي قد التجأ إلى سرديس حيث كان إكزاركسيس باقيا منذ رجوعه المخجل، ثم تركها توا إلى صوص ليستر عاره ويكظم غيظه. ولما أصبح الأسطول الإغريقي سيدا على بحر إيجة كله لا يهاب فيه عدوا رجع إلى جهة بيلوبونيز سائرا على امتداد كل الشواطئ حاملا من أبيدوس بعض بقايا قنطرة إكزاركسيس المشهورة لجعلها في المعابد تذكارا لذلك الانتصار.
لما أمنت يونيا شر غارات الفرس أخذت تعمر ما تخرب، ووضعت نفسها تحت حماية آتينا التي تربطها بها تذكارات الماضي ومنافع الحال وضعا تاما بقدر الإمكان، وبهذه المثابة تحزبت يونيا مع آتينا ضد إسبرطة التي كان ملكها ليوتيخيدس وبوزانياس موضعا للتظنن فيما يتعلق بعلاقتهما مع المتوحشين.
لقد كانت آتينا قوية جدا في البحر بحيث تستطيع أن تقدم ليونيا مساعدة عاجلة مفيدة، في حين أن إسبرطة لا تستطيع أن تقدم هذه المساعدة ولو أرادتها. من أجل ذلك أخذ اليونان بحظ عظيم في اتحاد ديلوس، وشاطروا بمقدار وافر في النفقات العامة التي أنفقها الحلفاء للتحصن من هجوم المتوحشين كرة أخرى، وكان ذلك على أثر حوادث بلاتة وميكال؛ أي في نشوة الاستقلال المسترد بحبوحة الثقة المتبادلة (نحو سنة 477 قبل الميلاد).
ولكن آتينا كان من شأنها أن جاوزت في استعمال السلطان الذي أوتيته عفوا فجرت على نفسها الغيرة والأحقاد التي سببت بعد ذلك حرب بيلوبونيز في وقت كان عدوهم المشترك لا يزال فيه بقية. وأخذ سلطان آتينا - كما نبه إليه أرسطو - يثقل على نفوس حلفائها الذين هم مساوون لها لا رعاياها، وبخاصة أهل نكسوس وطاشوز الذين عوملوا معاملة قاسية ظالمة (467-465) ولم يكونوا ليستسلموا إلى غطرسة الآتينيين في أوامرهم. غير أن الأسطول الآتيني - وهو مؤلف من مائتي شراع - كان يمخر دائما على شواطئ آسيا عزيز الجانب مهيبا من الأسطول الفينيقي الفارسي الذي هرب أمامه حتى بلغ مياه النيل. كانت تلك خدمة حيوية ليونيا، من أجل ذلك كانت يونيا من جانبها تتسامح في كثير من الامتهان الذي كانت تجنيه عليها حليفتها القوية في مقابل هذه الحماية المستمرة التي تنالها.
والظاهر أن اعترافها بجميلها كان إلى الغاية القصوى حين رأت أن استقلالها مضمون بمعاهدة استكرهت آتينا على عقدها الملك الكبير بعد عدة انتصارات داوت الهزيمة التي وقعت في مصر (455 قبل الميلاد)، وهذه المعاهدة التي يرجع الفضل في نصوصها إلى دهاء سيمون وأعماله في قبرص كانت تنص على أن فارس تترك شواطئ آسيا الصغرى التي يقطنها الإغريق حرة تمام الحرية؛ فلا تضع عليهم جزية، ولا تدنو بجنودها إلى خط على مسافة معلومة من الشاطئ، وفي مقابل ذلك يتعهد الآتينيون وحلفاؤهم ألا يغزوا بعد الآن قبرص ولا صقلية ولا فينيقيا ولا مصر. وقد أرسل الإغريق سفراء إلى صوص حيث صدق على المعاهدة، وكان قلياس هو الممثل لآتينا (نحو 449 قبل الميلاد).
15
صارت جمهورية آتينا وقتئذ في أوج قوتها؛ فإنها كانت على رأس اتحاد بحري تكاد تتصرف فيه على هواها، مؤيدة بطائفة من الأحلاف في القارة، سيدة على مستعمرات عديدة على جميع سواحل بحر إيجة وعلى الهلسبون وبحار الإغريق، يضطلع بأعبائها رجل مثل بيريكليس. فهي لذلك كانت تتطلع إلى بسط سلطانها المطلق على جميع الجنس الإغريقي، وهذا الطمع هو الذي أعماها وذهب بها. من بين حلفائها كانت سموس، وهي أشدهم بطشا، وكانت تحتفظ هذه الجزيرة الكبيرة تلقاء آتينا بنوع من المساواة في المعاملة قد لا يأتلف وما تضمره الجمهورية من مشروعات بسط سلطانها، فحدث شجار قليل الخطورة بين سموس وبين ملطية بشأن أرض بريين الصغيرة جر إلى المداخلة الآتينية؛ فإن الجمهورية قد دعت الفريقين إلى التقاضي أمامها. وكانت سموس تخشى تحيز بيريكليس لملطية التي هي وطن أسباسيا؛ فرفضت قبول هذا التحكيم المريب؛ فأرسلت آتينا لفورها أربعين سفينة لإرغام سموس على الطاعة، فقبلت حكومتهم من الأوليجارشية إلى الديموقراطية، وأخذ خمسون من أعيان الأهالي وعدد مثله من أبناء العائلة الرفيعة رهائن وضعوا في جزيرة لمنوس، وبقيت حامية في سموس لتحقيق نظام الحكومة الجديدة (نحو 439 قبل الميلاد).
كان هذا التصرف من جانب آتينا فظيعا فقوبل بمثله؛ لأن منفيي سموس ذهبوا إلى بيسوتنيس - مرزبان سرديس - يستنجدونه؛ فأمدهم ببعض مقاتلين فقصدوا سموس، وعدتهم سبعمائة رجل، وانقضوا على حرس الجزيرة الآتيني بياتا وأسلموهم إلى بيسوتنيس، وفي الوقت عينه كرة رابحة مثل الأولى على جزيرة لمنوس ردت إليهم رهائنهم، وفوق ذلك تحالفوا مع بيزنطة التي تكاد تكون مثلهم في التبرم بحكومة آتينا، وكان ذلك مفيدا لهم. كل هذا إنما هو خطر جدي يتهدد الجمهورية، فلو احتملت عصيان سموس لذهب ذلك برئاستها وبسلطانها الذي كانت تؤيده هدنة الثلاثين عاما التي عقدت قبل ذلك ببضع سنين مع إسبرطة عدوها الوحيد المريب؛ لذلك عقدت آتينا العزيمة على التنكيل بسموس تنكيلا يمنع سواها من أن يهم بتقليدها.
ستون سفينة أرسلت سراعا إلى الثائرين انفصل منها ست عشرة إما لمراقبة الأسطول الفينيقي على شطوط آسيا؛ لأن بيسوتنيس لا يفوته أن يضعه تحت تصرف الثائرين، وإما ليأتي بالمدد من جزيرتي شيوز ولسبوس اللتين بقيتا تحت الطاعة، ولكن من الجائز عليهما أن تقلبا ظهر المجن، وبقي الأربع والأربعون سفينة أمام سموس تحت قيادة بيربكليس أحد القواد العشرة السنويين الذين من بينهم سوفكل الشاعر الذي نشر «أنتيجون» السنة الماضية.
ومع أن السموسيين كانوا يتوقعون هذا الهجوم، فإنهم كانوا ذهبوا لمحاصرة ملطية، وكانوا عائدين إذ التقوا مع بيريكليس بالقرب من جزيرة تراجيا، ومع أنه كان لديهم سبعون سفينة من بينها عشرون تحمل رجال حرب فإن بيريكليس لم يتأخر عن منازلتهم وانتصر عليهم، وعوضت خسارة سفنه بالمدد الذي جاءه وقدره أربعون سفينة جاءت من آتينا وخمس وعشرون من لسبوس وشيوز اللتين قدمتاها بإخلاص.
وقد تلت الواقعة البحرية واقعة برية؛ إذ نزل الآتينيون إلى الأرض، وانتصروا على الثائرين، وأسرعوا في إقامة أسوار عالية تحصر المدينة من ثلاث جهات في حين أنها مضيق عليها من جهة البحر أيما تضييق.
وفي هذا المركز الحرج تسنى للسموسيين أن يرسلوا خمس سفن تحت إمرة إستيزاغوراس يستعجل الأسطول الفينيقي الذي كانوا أحوج ما يكونون إليه. وليتدارك بيريكليس خطر تجمع هذا الأسطول أسرع بستين سفينة مما معه أمام سموس متجها إلى قونوس في قارب حيث كانت هي موطن الاجتماع كما كان يقال. فلما بعد بيريكليس خرج السموسيون مستقتلين، ولم يكن خط دفاع الآتينيين قد تم بعد؛ فانهزموا وخربت بعض سفنهم، ودارت عليهم الدائرة في البر والبحر، ولكن نجاح السموسيين لم يكن ليلبث مدة؛ فإن بيريكليس لما رجع بعد غيبة أربعة عشر يوما غير مجرى الحال، ولكن في تلك المدة كانت المدينة قد استطاعت أن تدخر الزاد وفيرا، واستعدت لمقاومة حصار جديد. عاد الحصار كما كان، وقوي الحصار البحري بستين سفينة جاءت من آتينا وثلاثين من لسبوس وشيوز، فكادت تكون عدة مجموع السفن مائتي شراع تحيط بسموس.
في هذه الحادثة نال ميليسوس القدح المعلى في الوطنية وسعد الطالع؛ إذ كان على رأس الأسطول والجيش فانتهز غيبة بيريكليس وحرك حمية مواطنيه بغاية الإقدام وكسب الظفر الذي تكلمنا عنه آنفا. ويظهر، على قول بلوتارخس في ترجمة بيريكليس مستندا إلى أرسطو: أن ميليسوس هزم بيريكليس نفسه في واقعة بحرية أولى، غير أن طوكوديدس الذي شهد هذه الوقائع لم يقل شيئا من ذلك؛ فتكون هذه الرواية محلا للشك، ومع ذلك فإن النجاح الأول لميليسوس لم يكن من شأنه أن يخلص وطنه؛ فإن بيريكليس لما جاءه نبأ هزيمة جيشه عجل إلى سموس فخرج ميليسوس للقائه، ولكنه انهزم في حرب برية، ويمكن أن يكون هزم أيضا في واقعة بحرية.
وقد استمر الحصار على أضيق مما كان، وبقيت سموس وفيها ميليسوس تقاوم تسعة أشهر؛ لأن بيريكليس كان أحب إليه أن يأخذها بالأناة حتى مع إنفاق المال والزمان من أن يسفك الدماء الآتينية.
فلما جاء السموسيون على آخر زادهم سلموا ودك بيريكليس أسوارهم، وأخذ سفنهم واضطرهم إلى دفع نفقات الحرب التي قدرت كما قيل بألف طالنطن؛ أي خمسة ملايين من الفرنكات في زمننا، فدفعت سموس على الفور جزءا من هذا المبلغ الطائل وقتئذ، وتعهدت بدفع الباقي مؤمنا عليه برهائن قدموها. ويقال إن بيريكليس أبدى في هذا الظرف ما تقشعر له الأبدان من الفظاعة في معاملة بعض الأسرى الذين ماتوا تحت العصا بعد تعذيب عشرة أيام، ولكن الذي روى هذه الفظائع مؤرخ متأخر من سموس وهو دوريس في عهد بطليموس فيلادلفوس، ولا شك في أن روايته تشف عن الحقد الوطني؛ فإن بلوتارخس زيف هذه الرواية التي لم يجد لها أصلا في طوكوديدس ولا في أرسطو ولا في إيفورس وهم الذين استرشد بمؤلفاتهم في ترجمة بيريكليس.
يظهر أن آتينا كانت تعلق أكبر أهمية بقمع ثورة سموس؛ لأن مثلها من شأنه أن يحتذى، فإذا قلد سموس غيرها تداعت مشاريع الجمهورية الآتينية رأسا على عقب. من أجل ذلك قوبل هذا الظافر في آتينا عند عودته إليها بأجل مظاهر التحمس، وأقيمت حفلات المآتم الفاخرة لشهداء هذه التجريدة، ووكلت المحكمة المقدسة أمر تأبينهم إلى بيريكليس.
ليس لدينا نص هذا التأبين، ولكننا يمكن أن نأخذ عنه فكرة من التأبين الذي نقله لنا طوكوديدس من حيث المعاني على الأقل، ذلك التأبين الذي أقيم لشهداء حرب البيلوبونيز؛ فإن بين الحربين علاقة مشابهة؛ لأن كلتيهما فتنة داخلية تمزق وحدة الإغريق، وقد قوبل مدح شهداء حرب سموس بغاية الحفاوة، فإن بيريكليس لما نزل عن منصة الخطابة قامت إليه النساء جميعهن متأثرات بالاعتراف بفضله يعانقنه ويتوجنه بالأزهار والعصائب، كما كان يصنع بالمصارع المنتصر في حفلة الألعاب العمومية، إلا امرأة واحدة لم تشرك الجماعة في ذلك الإعجاب المجمع عليه، تلك هي إيليبنس أخت سيمون الذي كان زمنا طويلا منافس بيريكليس، وأقبلت عليه تقول له: «حق إنها أعمال مجد حقيقة بهذه الأكاليل! ولقد أضعنا رجالنا لا في حرب الفينيقيين أو الميديين، كما فعل أخي سيمون، ولكن في تخريب مدينة محالفة تدلي بأصلها إلينا وجعل عاليها سافلها.»
لم يكن هذا الانتقاد إلا مصداق الحقيقة، ولكن الظافرين قد كانوا سكارى بخمرة الظفر. ولم يكن حظ سموس إلا نذيرا بما غيبه القدر لكثير من المدائن الإغريقية الأخرى في الحرب الكبرى التي كان يتوقعها بيريكليس. والظاهر أنه هو أيضا كان متأثرا بنجاحه إلى حد لا يأتلف مع اعتدال أخلاقه المعروف. فإذا صدقنا فيه الشاعر يون الشيوزي لحسبنا بيريكليس يفخر بأنه فاق أغاممنون الشهير الذي قضى عشر سنين في فتح مدينة أجنبية، مع أنه لم يقض إلا تسعة أشهر للاستيلاء على أكثر المدائن اليونانية مالا وأعزها نفرا. ولكن كلمة بيريكليس هذه إنما نقلها صديق لسيمون خصمه؛ فهي بذلك بعيدة الاحتمال؛ لأن كلمة كهذه تخرج من فم رجل سياسة لا تعد إلا غشما. إنها فخر شخصي سيئ الذوق ومعاجزة في غير موضعها موجهة للحلفاء.
ولكن مهما كان انتقاص هذا الشاعر له حقا أو باطلا، فإنه كاف في الدلالة على ما علقته آتينا من الأهمية على هذه الحرب قصيرة العمر غزيرة الدماء. وعلى رأي طوكوديدس الذي هو مؤرخ شاهد عيان إن السموسيين لو كانوا انتصروا في هذه الحرب لأخذوا من آتينا سيادة البحر؛ فكانت هذه الحرب على ما هي محل للأسف حرب موت وحياة بالنسبة للجمهوريتين، فلما خضعت سموس رغم مقاومة ميليسوس العنيفة لم يبق لآتينا شيء تخشاه إلا شر نفسها، وذلك نوع من الخطر تلهو عن الشعور به المدائن كما تلهو عنه كبرياء الأفراد.
لا أريد أن أجاوز بهذه الاعتبارات التاريخية إلى أبعد من ذلك، بل يظهر لي أنها على إيجازها كافية لأن تكشف بوضوح عن حالة الوسط الحقيقي الذي نشأت فيه الفلسفة والذي عاش فيه الأعيان الذين نشتغل بأمرهم وعملوا أعمالهم. وإني ملخص أبرز رسوم هذه اللوحة التي رسمتها لإنعاش حياة تلك الأزمان أو بعض أجزائها على الأقل.
أجل ظهرت الفلسفة لأول مرة في آسيا الصغرى قبل الميلاد بستة أو سبعة قرون، إنها المستعمرات الإغريقية التي خرجت من يونيا بيلوبونيز، وهي التي أشعلت هذا المصباح في أقطار نصف متوحشة ونقلته إلى آتينا حيث كان الاستعداد للانتفاع به تاما، فإن أنكساغوراس الكلازوميني عاش مع سقراط، وسقراط هو أب لأفلاطون، ويمكن أن يقال إنه أب لأرسطو أيضا، ولكن قبل أرسطو وقبل أفلاطون وقبل سقراط كانت بذور الفلسفة مبذورة على أرض أخرى، وكان من اللازم أن تنقل إلى أطيقا حيث تؤتي ثمراتها. نعم إن الفلسفة كانت مسبوقة هناك - كما هو شأنها في كل ناحية - بالشعر؛ فإن هوميروس أنشد من قبل أن يفكر فيثاغورث بأربعمائة أو خمسمائة عام، ولكن العلم بجميع صوره: الفلك والرياضيات والطبيعة والتاريخ والطب، كل ذلك تبع الفلسفة وناصرها؛ لأن الفلسفة هي التي نفخت روح الحياة في كل هذه الفروع واكتسبت بها قوى جديدة.
في وسط المنازعات المدنية والحروب الأجنبية والتجارة والصناعة والملاحة إلى الجهات السحيقة والوقائع والأخطار المتنوعة، في وسط حروب الأبطال التي كان يذكي نارها فئة قليلة من الرجال الأذكياء الأحرار على دولة فخمة، في وسط كل ذلك يجب أن يوضع مهد الفلسفة الخاشع المجيد. لم يكن هاجر فيثاغورث وإكسينوفان إلى شواطئ إيطاليا وإلى إغريقا الكبرى إلا سخطا على الطغيان أو الاضطهاد، وما لقحت إيطاليا إلا بهذين الأستاذين اللذين جاءاها من الشاطئ الآخر للبحر، ولكنها لم تثمر؛ لأن النبات الغريب لم يجد فيها الأغذية الضرورية لنضجه، فكان أن ترجع الفلسفة إلى منزلها الأول الذي منه درج أوائل المهاجرين لتكسب فيه صورتها الحقيقية وتكتسي ثوب جمالها وتستوفي قسطها من العظمة وحقها من الاستقلال الذي كللها به استشهاد أهليها. غير أن هذه الفلسفة ذاتها مهما دعا الظاهر إلى أنها ابتدعت في إغريقا فلا يكون من المحتمل أن تكون اقتبست الشرارة من قبس الاختلاط مع جيران إغريقا؛ فإن طاليس قد عاش مع الليديين، وأصل أجداده من فينيقيا، وفيثاغورث الذي يمكن أن يكون هو أيضا من أصل فينيقي زار حديقة سوريا ومصر وكلدة. ماذا تعلم هناك؟ وماذا جلب منها؟ أو بعبارة أخرى: بماذا تدين الفلسفة الإغريقية جدة فلسفتنا وأم غربنا للعلم الشرقي؟ هل من عليم يحل هاتين المسألتين؟ هل العقل اليوناني بل العقل الغربي اقترض شيئا ما من العقل الشرقي العتيق؟ هذه أيضا مسألة مظلمة على ما لدينا من النور الحديث، وسأحاول الجواب عليها بعد، غير أني بادئ ذي بدء أبغي تكملة لما سبق أن أثير مسألة أقل بسطا ولو أن لها أهميتها وفائدتها؛ فإنها مع قلة تسديدها جوهرية.
نحن نعرف فلاسفتنا ونعرف بعض الحوادث الرئيسية في حياتهم، نعرف بعض مؤلفاتهم إن لم تكن لدينا كلها، وإذا كان هوميروس هو وحده الذي وصل إلينا كاملا تقريبا بفضل أفلاطون فقد كان يمكن أن يصل إلينا الآخرون إذا لم تكن المصادفة أعدمت تآليفهم التي هي مستودعات أفكارهم؛ إذن فقد كتب الأقدمون، ومن ذا الذي يجعل ذلك موضعا للشك؟! هذه النظرية التي أقر بها هنا ليست قاصرة على ما يتعلق بطاليس وفيثاغورث وإكسينوفان ومعاصريهم، ولكنها تنسحب أيضا على من قبلهم وعلى من بعدهم إلى مسافات طويلة، كيف خرجت من أيدي مؤلفيها تلك المؤلفات التي هي الآن تحت أيدينا كاملة أو آثارا ناقصة ومخرومة ؟ وعلى أي مادة كتبت بادئ الأمر؟ وماذا كانت وسائط الكتابة في عهد إكسينوفان بل في عهد ليكورغوس أو هوميروس؟
ولأجل أن يكون بحثنا في حدود وضعية ضيقة نتساءل كيف كانوا يكتبون في المستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى في حاجات تجارتهم النشطة ومقتضيات سياستهم المعقدة الحازمة وشعرهم الحاد وعلمهم العجيب، وبالجملة في سائر حاجات عيشة اجتماعية راقية مليئة بالأعمال.
أظن أننا الآن بحيث نجيب على هذه المسألة بطريقة قاطعة واضحة تمام الوضوح، ولكن قبل أن نقول كلمتنا في هذا اللغز نرى من الحسن تقديم حوادث مسلم بها لنبين أن استعمال الكتابة قبل الميلاد المسيحي بسبعة قرون في آسيا الصغرى بل في فارس نصف المتوحشة كان من الانتشار والسهولة على ما هو عليه عندنا الآن. كانت موادها أشياء أخرى، ولكنها تكاد تساوي المواد التي نستعملها اليوم إلا أعجوبة المطبعة. لم يكن للناس في تلك الأزمان البعيدة ورق كالأوراق التي عندنا، ولكنهم كان لديهم ما يساويه وما يؤدي لهم المطلوب من الورق.
أفتح بالمصادفة هيرودوت وطوكوديدس وإكسينوفان وأفلاطون وأرسطو، وأخذ الأشياء كما رووها بل كما رأوها وكما استعملوها.
أضمر هربغوس وهو في معية أصطياغ - ملك الميديين - أن ينتقم من سيده القاسي انتقاما وينتصف لنفسه، وأراد أن يتفق مع قيروش الذي على حداثة سنه كان له بين الفرس من النفوذ ما سيخرج منه مملكة فسيحة الأرجاء. لما لم يسع هربغوس أن يتصل مباشرة بالأمير الشاب الذي يحمل هو أيضا ما يدعوه للانتقام، أرسل خادما أمينا يحمل إليه بعض الصيد، وجعل في بطن أرنب كتابا أخفاه فيه يحرض به قيروش على الثورة، ويؤكد له مساعدته إياه، ماذا فعل قيروش؟ لما فتح بطن الأرنب بيده، كما أوصى المهدي خادمه به، وقرأ الكتاب بمعزل. وضع كتابا مزورا يفيد أن أصطياغ قد عينه رئيسا على الفرس التابعين وقتئذ للميديين. وقرئ ذلك الكتاب المزور على أعضاء عائلة الأشيمينيين فصدقوه، وبهذه المثابة قادهم قيروش على غير علم منهم وحارب بهم أصطياغ وخلعه.
16
ولم يكن هربغوس وقيروش مع ذلك إلا متوحشين. ولكن ها نحن أولاء بصدد أناس متعلمين في آسيا الصغرى وفي مصر.
وهذا بوليقراطس طاغية سموس وهو على سرير ملكه متمتعا بالرفاهية إلى غايتها والناس الذين يعجبون به أو يخافون بطشه يكبرون منه حذقه وسعادته، وكان له بأمازيس الحكيم - ملك مصر - رابطة اتفاق بل صلة صداقة؛ فخاف أمازيس على صاحبه ذلك الموفق المهيب مما اجتمع له من التوفيق المستمر أن يتغير له الدهر، وهو يعلم أنه لا ثبات للحظوظ الإنسانية؛ فنصح له أن يحذر الغير في تقلب القدر. كتب له بذلك خطاب عطف ونبوة، أوصاه فيه أن يضرب على نفسه قربانا يتقي به سخط الحظ الخادع الخائن إن استطاع؛ فأجابه بوليقراطس الذي يخشى على نفسه ما يخشاه صاحبه بخطاب أرسله إليه في مصر، ذكر له فيه الوسيلة التي اتخذها ليصيب نفسه بمحض اختياره بمصيبة موجعة. والمصادفة الخارقة للعادة هي التي صيرت قربانه عبثا، فكان أمازيس وبوليقراطس يتبادلان الرسائل بين سموس ومنفيس على نحو السهولة التي يتخاطب بها التجار في وقتنا الحاضر بين أزمير والإسكندرية.
17
لست أدعي أن الخطاب الذي نسبه هيرودوت إلى أمازيس صورة رسمية من خطابه الأصلي لا يتطرق إليها الشك، ولكنه لا محل لأدنى شك في أن الملكين كانا يتبادلان الرسائل الكتابية.
كذلك كان بوليقراطس نفسه قد جمع مكتبة كثيرة الكتب كما ذكرنا آنفا، وقد كانت في العالم الإغريقي إحدى الباكورات التي استمتع بها بوليقراطس، وأنفق في جمعها مالا طائلا. ويقولون نحو ذلك بالنسبة إلى بيزيسطراط المتقدم بالزمان على بوليقراطس، يقولون إنه أنشأ مكتبة في آتينا وجعلها مكتبة عمومية ليلطف من حال الشعب بهذه المزية وبغيرها، ولكن ناقلي هذا الخبر إلينا هما من المتأخرين؛ لأن أحدهما أطيني والآخر أولوجل، غير أني لا أجد أسبابا تحمل على الشك في روايتهما، فأما بوليقراطس فإن مصر كانت له قدوة ما كان أسهل عليه تقليدها كما سنبينه بعد، وكان في استطاعته أن يجمع آثار المؤلفين الذين يعجبون سكان الشواطئ الذين يطربون للشعر ويتذوقون طعوم العلم منذ عهد هوميروس ، وأما بيزيسطراط فمن المؤكد أنه إذا لم يكن فتح مكتبة للجمهور فهو على الأقل قد اقتنى الكتب واشتغل بنفسه فيها لغرض سياسي محض.
وروى بلوتارخس في كتابه «حياة طيسي» أن بيزيسطراط سلخ من «هيزيود» بيت شعر كان يمكن أن يجرح صلف الآتينيين، وأنه زاد على قصيدة هوميروس بيتا من شأنه أن يسرهم، فذلك الحذف وهذه الإضافة كيف يمكن إثباتهما إلا أن يكون لديه نسخ من تلك القصائد يمكن فيها التغيير والتبديل.
نرجع إلى استعمال الرسائل في العهد الذي نحن بصدده.
إن أوريطيس مرزبان سرديس الذي عامل بوليقراطس بتلك القسوة الفظيعة استوجب بسلوكه الوحشي سخط كل من حوله، فإن أحد زملائه عاب عليه أحبولته التي نصبها لطاغية سموس، فقتله هو وابنه. وكان دارا الذي ارتقى عرش الملك حديثا ساخطا على أوريطيس الذي فوق ما قارف من الآثام تلكأ في حرب المجوس والفرس بعد موت قمبيز، وكان ذلك أكثر مما يلزم للملك الجديد من الأسباب التي تحمله على التخلص من مرزبان قوي يسوس فريجة وليديا ويونيا جميعا، ويقود جيشا عرمرما. ولأن يقبض عليه جهرا بالقوة فيه ما فيه من عدم التبصر خصوصا في ابتداء حكم جديد، ومع ذلك فإن أوريطس دس على سفراء دارا الذين جاءوا يدعونه إلى مقابلة الملك من قتلهم سرا، فصار بجملة ما فعل مستحقا للعقوبة، ولكن كان يلزم مداراته بعض الشيء وتجنب ثورة أصبح حدوثها قريب الوقوع، فدعا دارا أكابر الفرس، وطلب إليهم أن يخلصوه من ذلك العاصي إما بقتله وإما بالقبض عليه وإحضاره، وفي كلتا الحالتين لا ينبغي اتباع غير طريق الحيلة، فتقدم إليه منهم ثلاثون دفعة واحدة كلهم يعرض قيامه بهذا العمل وحده، فلم يشأ دارا أن يختار من هذه العروض الصادرة عن الإخلاص، واقترع بين أصحابه؛ فصادفت القرعة باجي بن أرطوطيس.
ماذا فعل باجي؟ كتب كثيرا من الأوامر تتعلق بمسائل شتى، وختم كل واحد منها بختم دارا، فلما وصل إلى سرديس سلم هذه الأوامر إلى سكرتير الملك بحضرة أوريطيس؛ لأن كل مرزبان كان لديه ممثل للملك، ففض السكرتير الخاتم عن تلك الأوامر وقرأها على الضباط العظام الذين كانوا حول أوريطيس، وكانت تلك الأوامر موجهة إليهم بنوع أخص، فتلقوا جميعا أوامر الملك بغاية الطاعة والاحترام، فسر باجي بهذه المحنة الأولى، ورأى أن في استطاعته الاعتماد على طاعتهم، فأفضى إليهم سرا ببعض الأوامر التي يأمرهم فيها دارا بالانفضاض عن أوريطيس والانقطاع عن خدمته؛ فأطاعه الضباط أيضا وألقوا رماحهم دلالة على أنهم تركوا المرزبان، فلما تحقق باجي من تأثيره فيهم جعل سكرتير الملك يقرأ عليهم أمره إياهم بقتل المرزبان، فهجموا عليه فخر صريعا تحت طعنات سيوفهم، وبذلك أخذ منه القود لبوليقراطس، ونال دارا بغيته من الانتقام.
18
على ذلك كان الفرس أنفسهم في زمن دارا يستعملون الكتب بالسهولة التي يستعملها بها الإغريق الذين هم أرقى منهم تعلما وأكثر مدنية، فإن الملك الكبير كان يرسل أوامره إلى جميع أجزاء مملكته الفسيحة الأرجاء. وكانت هذه الأوامر مكتوبة بالأوضاع وبالمواد التي ربما لا تزال تستعملها إلى الآن تلك البلاد القليلة المدنية.
لما اتهم الإغريق بوزانياس بأن له ضلعا مع الفرس وكرهوه عزم فعلا على خيانة قضيتهم الشريفة التي طالما خدمها في بلاتة، فراسل إكزاركسيس بكتاب يعرض عليه فيه أن يخضع له إسبرطة وبقية بلاد الإغريق، فقبل ملك الفرس عرض ذلك الخائن، وكتب إليه بخط يده كتابا أرسله إليه مع أرطباز مرزبان دسكيلينس. فلما أحس أهل إيفورس خيانة ملكهم، كتبوا إليه ينذرونه بأن يغادر طروادة ويعود إلى إسبرطة حيث يستطيعون مراقبة سلوكه، فلم يجرؤ بوزانياس على مخالفتهم، وعاد إلى مقر ملكه، ولكنه لم يكف مع ذلك عن مراسلته الجنائية، ولكن الرجل الذي سلم إليه آخر الرسائل خاف على نفسه لأنه لم يعد ولا واحد من الرسل الذين حملوا أمثال هذا الكتاب إلى دارا، ففض غلاف الكتب بعد أن قلد الختم الموضوع عليها ليقفلها كما كانت، فتحها ليرى ما إذا كان لخوفه محل، وإذا به يقرأ توصية على قتله، فحمل الكتب إلى أهل إيفورس وبلغهم أمر الملك الذي كان يسلم إغريقا للمتوحشين.
إن تاريخ طيميستوكل أشبه ما يكون بتاريخ بوزانياس وإن كان أقل منه جناية؛ لأن الآتينيين كانوا حرضوه على الخيانة بأن عاقبوه بالنفي ظلما؛ فكاتب أرطقزاركسيس. ولما هرب من أرغوص إلى قرقير ومنها إلى الملك أدميت ملك الملوص، ومن عنده إلى إسكندر - ملك مقدونيا - جاء آخر الأمر إلى إيفيزوس حيث كتب إلى الملك الكبير يطلب إليه ملجأ أباه عليه الإغريق. وقد روى طوكوديدس صورة ذلك الكتاب، ولا محل للتظنن في صحته.
19
من غير النافع أن نعدد الأمثلة لأنها مستفيضة في جميع المؤرخين الذين لم أذكرهم، وليس من الضروري أن نذهب بالتمثيل بعيدا، فقد وضح أن الناس في إغريقا وفي آسيا الصغرى كانوا يستعملون الكتب في الأعمال العمومية والخصوصية على نحو ما نستعملها نحن تقريبا، وبوسائل أشبه ما تكون بوسائلنا من حيث المادة التي كان يسهل الحصول عليها من غير عناء، وأنهم يختمون الأوراق على نحو ما نختم أوراقنا بالطوابع الرسمية، وبالأختام التي يمكن تقليدها من غير أن تكسر ... إلخ.
وماذا كانت تلك المواد؟
تجيبنا على ذلك عبارة هيرودوت الصريحة؛ فإن ذلك المؤرخ العظيم للأزمان الأولى للعالم الإغريقي قال في عرض حديثه عن كيفية نقل «قدموس» الحروف الهجائية من فينيقيا إلى القارة عند اليونان ما يأتي:
يطلق اليونان على الكتب من قديم الزمان اسم الدفاتر أو الجلود؛ لأنهم لما لم يكن عندهم ورق في تلك الأزمان كانوا يستعملون للكتابة جلود المعزى والغنم، بل في أيامنا ما يزال كثير من المتوحشين يكتبون على الدفاتر أو جلود من هذا النوع.
20
وقد أتى هيرودوت بما لا يقل عن ذلك عجبا؛ فإنه ذكر أنه رأى بنفسه عند زيارته طيبة في بيوسيا في معبد أبولون الأسميني ثلاثة نصائب منقوشا عليها بالحروف التي كانت تستعمل في يونيا، وهذه النقوش بالغة في القدم إلى لايوس أبي أوديب؛ أي بعد قدموس بأربعة أجيال.
إن الكلمة التي يستعملها هيرودوت عبارة عن الكتب هي كلمة «ببلوس»، ودلالتها معروفة بصورة مضبوطة؛ فإن هذه الكلمة تدل على جزء معين من بردي مصر، ولم يترك تيوفراسط محلا لأقل شك في هذا الصدد ، فإنه في كتابه «تاريخ النباتات»
21
قد وصف النباتات المائية، وتبسط في وصف البردي الذي ينمو في ماء النيل، وعدد الاستعمالات المهمة المتنوعة التي يصلح لها البردي، وبعد أن قال: إن من الخشب تصنع المراكب، قال: ومن الببلوس تصنع الشرع والحصر والملابس أحيانا والنعال والحبال وأشياء أخرى كثيرة أهمها الكتب «ببليا» المعروفة عند الأجانب حق المعرفة. وعلى ذلك يكون معنى ببلوس الذي ذكره تيوفراسط هو ذلك الجزء من ساق البردي الذي لمرونته ومقاومته يقبل هذه الاستعمالات المختلفة بالنسج واللي.
وخلاف مكتبتي بيزيسطراط وبوليقراطس، فالثابت من الأدلة التفصيلية التي أتى بها أفلاطون أن الكتب في زمنه على المعنى الذي نفهمه نحن من هذا اللفظ كانت منتشرة جد الانتشار بآتينا. وقد روى سقراط نفسه في كتاب «فيدون» أنه سمع ذات يوم إنسانا يقرأ كتاب أنكساغوراس وفيه أن العقل هو نظام كل الأشياء ومبدؤها. ولما قرعته هذه الحكمة البالغة رجا أن يجد في أنكساغوراس حل كثير من النظريات بعدما سمع من براعة الابتداء، فجد في طلب مؤلفاته وهو يظن أنه سيتعلم منها علم الخير والشر، فقرأها على شوق الفهم، ولكنه كلما تقدم في القراءة خاب من رجائه؛ فألقى بها إلى جانب ليعود إلى تفكره الذاتي، إذا كان لسقراط كتب يراجعها ويتركها، كما يفعل بيننا عشاق العلم والحكمة سواء بسواء، يرجعون إلى كنوز دور الكتب فلا يجدون فيها شفاء الغلة الذي يطلبونه.
وروى أنتيفون في أول كتابه «برمينيد» نقلا عن رواية فيتودور - أحد أصحاب زنون الأيلي - قال: «لما أتى برمينيد - وكان قد تقدم في السن - إلى آتينا مع تلميذه، أقام في حي السيراميك خارج الأسوار؛ فانتقل إليه سقراط في رفقة ليسمع قراءة كتب زنون.» وكانت تلك هي أول مرة حمل فيها زنون وبرمينيد هذه الكتب إلى آتينا، وكان سقراط وقتها صغير السن، وكان زنون نفسه هو الذي يقرأ كتابه؛ لأن برمينيد كان غائبا في تلك اللحظة، وكان على وشك أن يفرغ من القراءة إذ عاد فيتودور ومعه برمينيد ومستمع آخر هو أرسطوطاليس الذي صار بعد ذلك أحد الثلاثين، ولم يسمع فيتودور إلا قليلا مما كان باقيا، ولكنه أقام إلى آخر التلاوة التي كان قد سمعها قبل ذلك في جلسة أخرى.
لما أصغى سقراط إلى النهاية طلب إلى زنون أن يتفضل بإعادة القضية الأولى من الكتاب الأول؛ فأجاب طلبه مع الارتياح، وأخذ الكتاب وأعاد الجملة التي وقف فيها سقراط، والتي أراد سقراط استحضار ألفاظها حتى يدخل في مناقشة المعاني: «إذا كانت الموجودات متعددة لزم عليه أن تكون متشابهة وغير متشابهة في آن واحد فيما بينها، وهذا مستحيل؛ لأن غير المتشابه لا يمكن أن يكون متشابها، وما هو متشابه لا يمكن أن يكون غير متشابه أيضا.» وابتدأ الجدال وقتئذ؛ فكرر سقراط قضية زنون، وسأله إذا كان هذا حقا هو ما يريده؛ فأكد زنون أن ذلك هو غرض كتابه.
فالتفت سقراط إلى برمينيد وقال له: «أرى واضحا أن زنون متصل بك لا بصلات الصداقة فقط بل بكتاباته، فالواقع أنكما تقولان جميعا معنى واحدا، وإن اختلفت العبارة، فإن أحدكما يثبت أن الكل هو واحد، ويثبت الآخر أن التعدد ممتنع.» فاعترف زنون بأن الحق في جانب سقراط، وأنه ما كتب كتابه إلا انتصارا لمذهب برمينيد ضد أولئك الذين يبغون جعله سخريا، وأن كتابه جواب على نصراء التعدد، وأن الغرض منه أن يبين لهم أن مذهبهم نفسه له نتائج أسخف من المذهب المضاد. وزاد على ذلك زنون بقوله: «إني ألفت هذا الكتاب مدفوعا بدافع المجادلة، فسرق مني قبل أن أسائل نفسي عما إذا كان ينبغي نشره أو لا ينبغي، على هذا كنت يا سقراط تخدع نفسك إذ اعتقدت أن هذا الكتاب إنما أملته علي رغبة رجل ناضج بدلا من أن تنسبه إلى شاب يميل به ما لطبع الشباب من حب المغالبة.»
واستمر حديثهم دائرا على موضوع الوحدة والتعدد بما هو معروف لديهم من المواربة والمغالطة مما أكف عن الاسترسال فيه؛ فحسبنا هذه التفاصيل دلالة على أن زنون وبرمينيد لما جاءا من إيليا إلى غرب إغريقا الكبرى كان في بلدهما كتب كما في آتينا، وأن هؤلاء المتناظرين كانوا يتخذون الكتب لما نتخذه نحن من الأغراض؛ يقرءونها ويعيدونها ويقفون ببعض جملها للتحقق منها. ونحن في شأننا لا نقلب إلا على مثالهم صفحات ما لدينا من الكتب التي في حجم الثمن أو الاثني عشرى التي ليست بأكثر مطاوعة للتقليب من كتبهم.
وفي مقدمة فدر الرشيقة قابل سقراط ذلك الشاب الذي خرج يتنزه في الخلاء بعد أن مضى صباحه قاعدا. فيم قضى فدر صبحه إذن؟ في استماع قطعة كان يقرؤها له ليزياس بن سيفال، وما زال مأخوذا بما قرئ عليه، وقد كان ليزياس أتى خصيصا لهذا الغرض من بيره إلى مونيشيا، فطلب سقراط من صديقه الشاب أن يفسر له ذلك الكلام العجيب، فامتنع فدر بفكرة أنه أقل علما من أن يكرر مثل تلك العبارات الجميلة، ولكن سقراط الذي كان عليما بشغف صاحبه رقيق الحاشية أكد له أنه لا بد أن يكون قد حفظ تلك القطعة عن ظهر قلب؛ لأنه لا بد أن يكون استعاد من مؤلفها أن يقرأها عدة مرات، وأنه لم يقنع بذلك بل لا بد أن يكون أخذ الكراسة المكتوبة فيها حتى يقرأها على خلاء، وأن ذلك كان شغله الشاغل الذي ألهاه عن الخروج صبيحة يومه، فأخذ فدر يتنصل بحجج ضعيفة، ولكن سقراط ألحف في المسألة؛ فأظهره فدر على الرسالة المخطوطة التي كانت بيده مخبأة تحت طرف ردائه.
وأخذ الصاحبان يبحثان وهما سائران على شاطئ الألصوص - حيث كان يغمر فيه سقراط قدميه ليبترد - عن مكان يناسب القراءة بالراحة حتى وصلا إلى مجلس تحت شجرة ساج عالية ظليلة بجانب شجرة كف مريم يعطر نورها الهواء على مسمع من خرير عين صافية بين التماثيل والأصنام القائمة للحور ولنهر أخلاوس، فجلس فدر وسقراط في الظل على الحشيش الغض وقرأ الشاب كتاب ليزياس في النسخة التي معه.
فأثنى سقراط على بلاغة ليزياس، ولكنه لم يصل إلى حد إعجاب صاحبه الشاب وقال له: إن هذا الموضوع قد كتب عليه الحكماء في الأزمان القديمة بما لا يقل إجادة عن هذا، وحسبك منهم الحسناء سافو الشاعرة أو الحكيم أنقريون، بل حسبك أي كاتب من الكتاب، فلم يصدق فدر من ذلك شيئا، وسأله أن يأتي بأحسن مما أتى به ليزياس، وإن لم يفعل على الفور فلن يقرأ له شيئا بعدها؛ فأخذ سقراط لفوره في مسابقة ما ظنها مستحيلة عليه، وأعاد كلام ليزياس في نفس الموضوع على ما فيه من الشطط والإشكال، ولكنه ارتقى كثيرا عن هذه المنافسة التافهة في موضوع مطروق، وانتهز هذه الفرصة ليعطي الشاب درسا في الخطابة والذوق.
إن ليزياس يكتب أكثر مما ينبغي فيجب تعلم الحكم على مؤلفاته حتى لا تعطى من القيمة أكثر مما تساويه في الحقيقة، وإن رجال السياسة البصراء يربئون بنفوسهم عن تأليف مؤلفات تكون بعدهم موضوعا لانتقاد الخلف انتقادا قاسيا، فإذا كتبوا بالمصادفة شيئا كتبوه بكل عناية حتى لا يعاب عليهم. وهذا بيريكليس - أخطب الخطباء وتلميذ أنكساغوراس العظيم - لم يترك شيئا مكتوبا.
وبينما سقراط يرسم قواعد الخطابة الحقيقية إذا به يصل إلى اختراع الكتابة والكتب، على حسب أسطورة محفوظة في نقراطس - إحدى مدائن الدلتا - ربما كان سولون قد رعاها من هناك، أن الكتابة من اختراع الإله توت وهو أفضى بها إلى الملك طاموس الذي كان يحكم في طيبة. ولم يعجب طاموس بهذا الاختراع كما أعجب به مبدعه، وخشي على المصريين من الكتابة التي يبعد عليها أن تصيرهم أكثر حكمة، بل تضرهم متى جعلتهم يعتقدون أنهم يعلمون ما يقرءونه قراءة سطحية في كتبهم.
قال سقراط معضدا رأي طاموس: «يكون الإنسان» من البساطة بمكان إذا تصور أنه يمكن إبداع أي فن من الفنون في الكتب، وأنه «يمكن تعلمه منها، كما لو كان قد خرج يوما من الكتب شيء بين متين، إلا ما يكون» من تنشيط الذاكرة عند الذي كان يعلم من قبل ما تحويه الكتب، وإن محصلات الكتابة أشبه بمحصلات الرسم. سل لوحات الرسم تجبك بسكوت جليل، وسل «الكتب تجبك دائما بهذا الجواب. وقد تعتقد عند استماع ما فيها أنها عليمة ، ولكن مقالا متى كتب دار في كل ناحية؛ فيقع في أيدي من يفهمونه كما يقع في أيدي الذين لم يكتب لأجلهم، وإنه لا يعرف لمن يتكلم وأمام من يلزم الصمت». فإذا احتقره أو عابه أحد بغير حق التجأ إلى أبيه ليساعده؛ لأنه لا يستطيع أن «يقاوم ولا أن يساعد نفسه».
فسقراط يحط من شأن هذه المقالات الميتة في طي الكتابة التي يحويها ويرفع فوقها قدر المقال الذي ينقشه العلم في نفس الذي يتعلم، ذلك المقال الحي المليء بالحياة هو الذي يبقى في الذهن، وما منزلة المقال المكتوب منه إلا الشبح الباهت، هذا هو ما ينصح لفدر أن يكثر العناية بمزاولته. إن الشاعر والناثر يصححان ويحرران ألف مرة ما قد كتبا، يزيدان عليه أو ينقصان منه، ولكن يلزمهما قبل كل شيء أن يهتما بما في نفسيهما ويرعياه حق رعايته، تلك هي الوسيلة لاستحقاق ذلك اللقب الجميل: لقب الفيلسوف. ذلك هو الرأي الذي يمكن أن يعطيه فدر إلى ليزياس، وذلك هو الرأي الذي يعرف سقراط كيف يجعل أصحابه الشبان يتذوقونه، وعلى الأخص إيزقراط الجميل الذي عليه مخايل النبوغ.
أنا لا أناقش رأي الحكيم الآتيني مهما ظهر لي منه عدم ائتلافه مع ذوقه السليم المعروف، ولكن أيا كانت قيمته فإنه ينتج منه أن سقراط وفدر وجميع أصحابهما يستعملون الكتب كما نستعملها نحن، يكتبون مقالاتهم ومؤلفاتهم كما نفعل نحن، ويدرسونها ويصححونها ويهذبونها كما نفعل نحن، وينتج من هذا فوق ما تقدم أنه منذ زمن أفلاطون كان ينسب اكتشاف الكتابة واختراع الكتب إلى مصر. ولا شك في أن أفلاطون - وهو من ذرية سولون - يجب أن يعلم أكثر من غيره شأن تلك الأسطورة التي جاء بها جده الأمجد من البلد الأجنبي.
وعلى هذه الوقائع القاطعة نزيد وقائع من العصر ذاته. لما وصل إكسينوفون رئيس تقهقر عشرة الآلاف من بيزنطة إلى سلميدس آخر نقطة وصل إليها في الشمال، حكى أنه عند دخوله في البحر الأسود وجد سفنا كثيرة جانحة في الرمل تحت جرف الشاطئ، وأن أهل تراقيا - سكان تلك المنطقة - يسارعون إلى نهب أولئك الغرقى التعساء ويقاتلون على أيهم يسرق من السلب أكثر من غيره؛ ولذلك توجد منقولات كثيرة على هذا الشاطئ الخبيث ينقلها الملاحون في صناديق من الخشب، ومن بينها كتب لا شك في أن أولئك المتوحشين ما كانوا يفهمونها، ولكنهم يحفظونها ليبيعوها.
22
ونظرا إلى أنه كان يوجد عدد عظيم من الجاليات الإغريقية في تلك الجهات - بيزنطة وغيرها - فليس مستحيلا أن فكر أولئك الملاحون في الاتجار بالكتب، وربما كانوا ينقلونها من الشواطئ الآسيوية ومن آتينا والمدائن الأخرى لليونان النازلين والمهاجرين الذين مع بعدهم عن وطنهم تتوق أنفسهم إلى الاقتباس من نوره الذي هم أحوج ما يكونون إليه في غربتهم.
لا أقول بأنه في زمن أفلاطون، بل فيما قبله، لم يكن يوجد في آتينا أصلا كتبية يبيعون الكتب ويشترونها؛ فذلك محتمل جدا، ولكنه ليس عندنا على ذلك شهادات تقارن في قدمها ذلك الزمن؛ فإن أول شهادة من هذا النوع تنسب إلى زنون الستيومي، فإن زنون قبل أن يترك مدينة ستيوم - وهي مستعمرة فينيقية في قبرص - اشترى حمولة من الأرجوان ليربح فيها في آتينا، وذهب يستفتي الهاتف عن أحسن طريقة للعيشة، فنصح له الهاتف أن يصير في لون الموتى، وفسر زنون هذه النصيحة بأنه يجب عليه أن يعكف على قراءة كتب الأقدمين حتى يشحب لونه، فلما وصل إلى آتينا بعد غرق محزن دخل عند كتبي وأخذ يقرأ بلذة شديدة الكتاب الثاني من مذكرات إكسينوفون على سقراط، فسأل الكتبي وهو مسحور بلذة ما قرأ أين يمكنه أن يقابل المؤلفين الذين يكتبون مثل هذه الملح؟ فأشار له الكتبي بإصبعه إلى «قراطيس» الذي كان مارا وقتها في الشارع، فعجل زنون إلى الأستاذ يتعقب خطاه حتى وصل إليه وتتلمذ عليه، ولكن لما لم يستطعم ذلك الجفاء الغليظ اعتزل قراطيس؛ إذ أصبح في قدرته أن يضع مؤلفات لا تقل عن مؤلفات أستاذه، وأخصها كتابه على فيثاغورث.
23
وكان عمر زنون وقتئذ ثلاثين عاما، وعلى الاحتمال الغالب أن أرسطو وقتها كان لا يزال حيا، فإن ذلك كان في آخر ملك إسكندر.
أقص حادثة أخيرة أستعيرها من نظريات أرسطو؛ يتساءل المؤلف: لماذا قطع الكتب يعطي هيئات مختلفة على حسب ما إذا كان هذا القطع مستقيما أو بانحراف؟ أترك التفسير إلى ناحية؛ لأنه لا يهمنا هنا، ولكن ذلك يبين أن أرسطو كان لديه كتب من جنس كتبنا وعلى الأقل من جهة كونها مقصوصة على صورة منتظمة قليلا أو كثيرا. بعد ذلك في الفصل الثامن عشر يبحث أرسطو: لماذا تنيم القراءة بعض الناس؟ ولماذا بعضهم على الضد من ذلك يتناول الكتاب حين يريد أن يبقى ساهرا؟ كل ذلك يعين استعمالات للكتب أشبه ما تكون بما نفعل نحن. كان في آتينا بعضهم يقرأ في سريره وليس معدوما فيها هذا الصنف من الناس الذين يأتون هذه البدعة عندنا.
من أين جاءت هذه الكتب؟ وعلى أي مادة كانت مكتوبة؟ لا أتأخر في الجواب: كانت مكتوبة على ورق البردي، وكان البردي يجيء من مصر منذ أقدم الأزمان، كان بين مصر وبين إغريقا روابط مستمرة، ومن باب أولى كان بين مصر وآسيا الصغرى. وإن أقدم الهجرات التي اتبع فيها سبيل أناخوس وسكروفس وكثير غيرهم إنما عادت من شواطئ النيل جالبة معها إلى الهلين في عداد ما جلبته لهم أسماء جميع آلهتهم المتنوعة إلى اللانهاية، وبعد ذلك ضاعفت العلاقات دواعي التجارة والحروب. وفي تلك القرون التي نحن بصددها كانت مصر متدخلة دائما لمصالح شتى في سياسة جميع الأمم المجاورة لها، وعلى الأخص سياسة المدائن الإغريقية التي على الشاطئ. ولما أن فتح الفرس مصر صارت هذه العلاقات أكثر توثقا واستمرارا؛ فإن أسطول المصريين وجيوشهم كانت تشهد كل حين وقائع البر والبحر، ومن البديهي أن الأمم المختلطة على هذا النحو تتبادل كثيرا من الأشياء بحكم الضرورة. وكانت مصر وقتئذ الوحيدة تقريبا في إنتاج البردي؛ فكانت تصدر منه كميات وفيرة إلى بقية العالم.
قد كان من السهل على مصر وهي التي اكتشفت الكتابة، وهي التي تخرج البردي وتستعمله تلك الاستعمالات الصادرة عن المهارة والذكاء، أن تتصور أيضا إنشاء المكاتب، فإن الكتب متى كتبت وجب جمعها وحفظها لحفظ الذكر لكل ما اشتملت عليه، وعلى الرغم من قول طاموس وأفلاطون وسقراط فقد ظهر أن تلك المحفوظات مفيدة ونفيسة جدا. ذلك ما كان هو الواقع؛ فإن أوزيمندياس - أحد ملوك مصر - يعتبر أنه أول من اقتنى مكتبة أو من أوائل من اقتنوا مكاتب.
وتذكار هذا الحادث العجيب نقله إلينا ديودور الصقلي الذي زار مصر في الأولمبية 180 كما كان زارها هيرودوت من قبله بأربعمائة وخمسين عاما، ورأى بعينيه كل ما يتكلم عنه تقريبا، بعد أن قال كلمة عن قبور الملوك التي كان عددها سبعة وأربعين على رواية الكهنة، والتي لم تكن إلا سبعة عشر حين زارها ديودور.
24
وصف بغاية التفصيل الأثر الشهير لأوزيمندياس، ومن بين العمائر التي تنسب إلى هذا الملك دار الكتب المقدسة المنقوش على وجهتها «دواء النفس».
ولا يستنتج من كلام ديودور نفسه أن هذه المكتبة كانت لا تزال قائمة في زمنه، فأما أنها وجدت فذلك ما لا يكاد الشك يتطرق إليه. ولقد كان لدى الكهنة المصريين كتب بالغة في القدم مسجل فيها تاريخ البلاد سنة فسنة تسجيلا منتظما والوراثة غير المنقطعة على عرش مصر لأربعمائة وسبعين فرعونا وخمس ملكات، ولم يشأ ديودور أن يكرر بالنسبة لعهد كل فرعون ما كانت تحويه هذه الكتب التي يظهر أنه اطلع عليها، ولكنه وضع خلاصتها، وعلى تلك الوثائق بنى عمله، فإذا لم تكن هذه المكتبة موجودة قبل المسيح بخمسين عاما فلا أقل من أن يكون ذكرها واردا في تلك السنويات الرسمية التي كان لا يزال يمكن الاطلاع عليها مهما كان مبلغها من الضبط قلة أو كثرة.
25
وعلى رأي علمائنا المشتغلين بالآثار؛ فإن أوزيمنديوس الذي كان يسميه الإغريق أوزيمندياس هو فرعون من العائلة السادسة عشرة. وهذه العائلة يقترن عهدها تقريبا بعهد أناخوس؛ أي بتاريخ نحو ألفي سنة قبل الميلاد؛ فإن الهكسوس أو عرب الرعاة تكون العائلة السابعة عشرة.
مثل هذه الأحاديث ربما كانت تظهر لنا حديث خرافة؛ إذ لا يمكن التصديق بوجود كتب في زمن بالغ من القدم حد الغاية، إذا لم نكن حاصلين الآن في متاحفنا على الأدلة التي لا تقبل التهم، المثبتة لهذه الحوادث؛ ففي باريس وفي طورينو وفي ليدن وفي برلين ... إلخ أوراق البردي والمخطوطات التي يصل تاريخها إلى ثلاثة عشر وأربعة عشر قرنا قبل الميلاد المسيحي، بل إلى أبعد من ذلك، ولكل أن يراها، ولمعرفة تاريخها ليس عليه إلا أن يستفتي شمبوليون ودي روجي ومارييت وأميدي بيرون وليمانس ولبسيوس ... إلخ.
إن بردية طورينو الشهيرة التي تكلم عنها شمبوليون في خطابه إلى دي بلاكاس (ص42) هي على الأقل من القرن الثالث عشر قبل المسيح كما بينه لبسيوس (تودتنبوخ ص17). وفي كتاب الملوك نقل لبسيوس (لوحة 6) مخطوطة يصل تاريخها إلى العائلة الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وذلك ما يبلغ بنا أقصى مما ذكرنا. ووصف مارييت في مذكرته عن دار الآثار ببولاق (ص148) برديا وجد في طيبة في نحو المترين طولا يتعلق بإحدى الثلاث العائلات الأولى للإمبراطورية الجديدة، وهذه المخطوطة لا يقل عمرها عن 1288 سنة قبل الميلاد يمكن أن تكون من سنة 1700، ومخطوطة أخرى (ص153) طولها أربعة أمتار ونصف على 0,35 ارتفاعا، وهي من متعلقات العائلة الثامنة عشرة، فتكون من سبعة عشر قرنا قبل الميلاد.
ويمكن إيراد أمثلة من هذا النوع إلى ما يشاء، ولكن حسبنا ما أوردناه، وما أظن بنا حاجة إلى المجاوزة بالإيضاح إلى أبعد من ذلك؛ فقد كمل.
أكثر من ذلك، قد وجد بجانب المخطوطات الأدوات التي تصلح لكتابتها فناجين تحوي المادة الملونة وقصب الأقلام، وذلك ما يعدل عندنا المحابر والريش، والمصاقل التي تصقل البردي قبل الكتابة عليه، والمقالم التي توضع فيها الأقلام. وفي دار الآثار بليدن توجد ألواح الكتابة ومعها دوي فيها يميز المرء بغاية الوضوح الحبر الأسود أو الأحمر وقد جف في باطنها ودوي من البرونز ... إلخ. وكل هذه الآثار إنما هي سابقة على العائلة السادسة عشرة على رأي ليمانس (ص108 ف245). وفي دار الآثار ببولاق توجد ألواح الكتاب، ومعها كل لوازمها، وهي كما قرر مارييت سابقة لعهد إبراهيم (ص209)؛ وعلى ذلك يكون عمرها من 35 إلى 45 قرنا. وفي باريس في متحفنا المصري أيضا جميع الأدوات اللازمة للكتاب (القاعة المدنية - دولاب
p
درج
x )، وكذلك في قاعة الموتى (درج
L M ) ترى المخصوطات إما على ورق البردي أو على القماش، كل ذلك غير أوراق البردي الكبيرة المنشورة المحبوكة بالأطر المغطاة بالزجاج، والتي تبلغ أطوالها عدة أمتار. وفي ليدن مخطوطات تبلغ أطوالها إلى اثني عشر مترا. والواقع أنه كان يمكن صنع ورق البردي إلى طول غير متناه؛ لأن العرض وحده هو المحدود، ولا يكاد يزيد عن 30 سنتيمترا.
من التفاصيل التي تقدمت، والتي يمكننا أن نزيد في إيضاحها عند الحاجة أظن أننا نستطيع استنتاج النتائج الآتية التي هي كذلك - كما يظهر لي - حوادث ثابتة: إن فلاسفتنا للقرن الخامس والسادس قبل الميلاد كتبوا مؤلفاتهم، سواء في آسيا الصغرى أو في إغريقا الكبرى، وقد وصل إلينا بعض أجزاء هذه المؤلفات من خلال الصعوبات التي كانت تقترن بنقل الكتب قبل اكتشاف المطبعة واختراع الورق من القطن ومن الكتان أو استعمال الرق. وإن كتب إكسينوفان وميليسوس، بل ربما كتب طاليس وفيثاغورث أيضا كلها كتبت كما يكتب كل الناس وقتئذ على ورق البردي المصري. ولا بد أن تكون صورها على شكل ورق البردي المحفوظ في دور الآثار. ومن الممكن أن تكون أوراق البردي رتبت - منذ عهد قديم وبالتحقيق منذ عهد أرسطو - بحيث يكون شكلها كشكل كتبها الحاضرة؛ ومن ثم تيسر جمع الكتب في المكاتب. فأما المكاتب التي ينسبونها إلى بوليقراطس وبيزيسطراط فلم تكن بلا شك إلا تقليدا للمكاتب المصرية التي كان أشهرها دار الكتب التي أنشأها أوزيمندياس.
ما الذي بقي علينا تعرفه؟ ربما كان شيئا واحدا هو الذي تقتضيه نفوسنا الطلعة بحكم عاداتنا الجديدة في دقة التحري، وهو صنع البردي المخصص للخطابات ولمؤلفات الكتاب. ومن محاسن المصادفات أن بلاين الذي ليس أقل منا حبا للاطلاع قد نقل إلينا هذه المعلومات؛ إذ يقول لنا كيف كان يصنع ورق البردي في زمنه. ومن المفهوم ضمنا أن هذه الصناعة قد نالها بعض التحسين بمرور الزمن الطويل الذي يبتدئ من عهد أوزيمندياس إلى القرن الأول للميلاد، ولكن الأصول الرئيسية لهذه الصناعة لا بد أن تكون قديمة جدا، بل الظاهر أنه لم يكد يدخل عليها أقل تغيير.
26
وقد عني بلاين عناية كبرى بوصف هذا القصب المسمى برديا؛ نظرا إلى «أن المدنية وتذكار الأشياء مرتبطان باستعمال الورق، وبهما يتعلق تخليد ذكرى الرجال.» أما فرون فإنه لم يبلغ بتاريخ استعمال الورق إلى أبعد من عهد إسكندر الأكبر وتأسيس مدينة الإسكندرية. وقد يكون ذلك صحيحا فيما يتعلق باستعمال الورق في روما، ولكننا قد رأينا آنفا أنه لا يمكن أن يكون صحيحا بالنسبة إلى مصر ولا إلى إغريقا، وبلاين لا يشاطر رأي فرون مهما كان معتبرا، وهاك ما يقوله في ذلك النبات النفيس الذي يريد درسه:
ينبت البردي في المستنقعات أو مياه النيل الراكدة على عمق لا يزيد على ذراعين، جذره المعوج في ثخن الذراع تقريبا، وساقه مثلثة الأضلاع، ويندر أن يعلو أكثر من عشرة أذرع، يتناقص سمكه من تحت إلى فوق، فأما جذره فيستعمل وقودا، وقد تتخذ منه بعض الآنية، وأما ساقه الحطبي فتتخذ منه القوارب، ومن قشرته تنسج الشرع
27
والحصر والملابس والأغطية والحبال. وذلك ما قرأناه آنفا عن تيوفراسط ونقله عنه بلاين بلا شك، وإن بردي مصر في كل الاستعمالات التي ذكرناها خير من كل بردي آخر؛ فإن البردي الذي ينبت في سوريا أو على شواطئ نهر الفرات بقرب بابل بعيد عليه أن يساوي البردي المصري، خصوصا في صنع الورق.
ولصنع الورق يقسم البردي إلى أشرطة رقيقة جدا وعريضة بقدر الممكن. وأحسن شريط منها هو شريط قلب النبات، ثم الذي يليه على هذا الترتيب. وبهذه الطبقات الداخلية وحدها كان يصنع ورق الكتب المقدسة، وسمي الورق من ثم باسم هييراتي، وبعد حين أعطي لأعلى درجة من الورق المنقى بالغسل اسم أغسطس، كما سميت الدرجة الثانية من الورق باسم ليفي امرأة أغسطس، وكان الهييراتي إذن في الدرجة الثالثة، وورق الدرجة الرابعة سمي أنفتياتري نسبة إلى المكان الذي كان يصنع فيه ، ومن أنواعه المتدركة إلى أسفل ورق سايس الذي يصنع من قراطه البردي ، ثم وراق الطينيوطيقي من مدينة قريبة من سايس ويباع بالوزن، ثم ورق الأنبوريتيك أو ورق المتجر، ولا يصلح إلا للظروف أو لف البضائع، وبعد هذه الأشرطة تأتي قشرة البردي، وهي أشبه ما تكون بقشرة الخيزران لا تصلح إلا لصنع الأحبال التي لها خاصة البقاء في الماء.
كل أنواع الورق كانت تصنع بطريقة واحدة ولا يكون الاختلاف إلا في مادة الورقة، ومتى أخذت الأشرطة بعناية تنشر على نحو خوان مندى بماء النيل؛ فإن هذا السائل الحامل للطمي يصلح كلزاق لتقوية الأشرطة وضمها بعضها إلى بعض. وعلى هذا الخوان الممال نوعا تلزق الأشرطة على طولها، وتقرض من نهايتها حتى تصير منتظمة ومتساوية في الطول، ثم يؤتى بأشرطة أخرى توضع بالعرض على شكل تعريش، ولوقاية الورق من التمزق كانوا يضعونه تحت المكبس فيحصلون منه على الورق الذي يعرضونه بعد ذلك للشمس ليجف، ثم يضعون هذه الأوراق بعضها فوق بعض لتكون منها فرائد الورق التي لا تتجاوز عدة الواحدة منها عشرين ورقة. وكان الورق مختلف العروض، وأحسن ما كان في عرض ثلاثة عشر إصبعا، والهييراتي لم يكد يتجاوز عرضه الأحد عشر، وقال فانيوس إن هذا الورق الهييراتي الذي اشتق اسمه من اسم ذلك الصانع الماهر الذي أبدعه لا يتجاوز العشرة. والورق المتجري كان في عرض ستة أصابع، وكان يمكنهم أيضا أن يصلوا الأوراق أطراف بعضها ببعض؛ ليحصلوا على ورق لا نهاية لطوله كما عندنا.
وكانوا يقدرون الورق كما نقدره نحن برقته ومتانته وبياضه وصقله. وقد اهتم الإمبراطور كلود بتحسين ورق أغسطس الذي كان يجده أرق مما يلزم وأكثر شفافية؛ فجعل منه ورقا جديدا بأن جعل السدى من أشرطة الدرجة الثانية واللحمة من أشرطة الدرجة الأولى، وبهذه الطريقة زيد في عرض الورق؛ إذ بلغ عرضه ذراعا في الفرخ الكبير، وكانوا يفضلون ورق كلود في الكتب ويستعملون ورق أغسطس في المخاطبات.
وكانوا يصقلون الورق بقطعة من العاج أو بمحارة ناعمة، ولكنه كان من اللازم الوقوف بهذه العملية عند حد معين، وإلا زلق الحبر فلا يأخذ في الورق وتكون الحروف المكتوبة معرضة لأن تنمحي عما قريب، وذلك هو الذي يحصل في ورقنا حين يجاد صقله أكثر مما يلزم. ربما يكون حسنا في مرأى العين، ولكنه لا يطيب الانتفاع به. وقد كان يحدث ماء النيل الحميء ضررا من هذا النوع متى صب من غير احتراس في ابتداء العملية؛ إذ يجعل الورق غير قابل للكتابة، بل يترك فيه رائحة يعرفونها له وبقعا كان يلزم لإزالتها أن يخرقوها من مواقع البقع ويرقعوها بغاية الدقة حتى لا يفطن لها المشتري - لحسن سبك الغش فيها - إلا بالاستعمال؛ إذ يشرب الورق الحبر في مواضع الرتق ويجعل الحروف سائحة لا تقرأ إلا قليلا.
لذلك قال بلاين إنه لتوقي تلك العيوب المختلفة كان يلزق الورق بكيفية تجعله أطرى من قماش الكتان نفسه، ووجد أن هذه الطرائق فعالة جدا. قال إنه رأى عند أحد أصحابه - وكان مغرما بخطوط المؤلفين - مخطوطات لشيشيرون ولأغسطس ولفرجيل على ورق من هذا النوع، بل رأى عنده مخطوطات لطيبريوس وقايوس غراكوس مضى عليها مائتا عام؛ مما يدل على أن لصق الورق كان من الجودة بحيث يقاوم كر الزمان.
وبعد أن أورد بلاين هذه التفاصيل عاد ينقض رأي فرون في أن استعمال الورق حديث في إيطاليا، وحاول أن يثبت - ضد مذهب ذلك العالم - أن الكتب كانت معروفة منذ زمن «نوما بومبليوس»؛ فقد عثر في تابوت هذا الملك الذي وجد في زمن قنصلية سيتيغوس وبيبيوس طنفيلوس، بعد موته بخمسمائة وخمس وثلاثين سنة، على كتب من الورق، كذلك ثلاثة كتب جاءت بها العرافة إلى طرخان الأجل كانت مكتوبة على ورق حرقت منها اثنين، والثالث الذي قبله هذا الملك البصير قد حفظ إلى عهد سيلا، ثم باد في حريقه روما.
وإذا أريد برهان دامغ غير منقطع الأثر على استعمال الورق في الزمن القديم فما على المريد إلا أن يتصفح رسائل شيشيرون فيجد فيها المعلومات المضبوطة القوية في هذا الموضوع؛ فإن الناس ما زالوا يستعملون الأوراق مع السهولة القصوى، ويسرفون في استعمالها إلى الغاية. كتب شيشيرون إلى أطيقوس كل يوم بل مرات عديدة في كل يوم تارة رسائل طويلة، وتارة أخرى تذاكر بسيطة يرسل إليه مع رسوله بعض أسطر أو صحيفة إذا لم يكن لديه ما يقوله أكثر من ذلك أو سلسلة من الصحائف لا آخر لها إذا انطلق قلمه يتدفق أو إذا حضرته مناقشة مسائل هامة.
ومتى كان موضوع الكتاب يهم عدة أشخاص عمل منه نسخ بعددهم، أو صرح للمرسل إليه بإتيان هذا العمل، أما إذا كان موضوع الكتاب دقيقا يشطب الكاتب غير مرة العبارات الناقصة عن تأدية المعنى المراد تماما، ويرجع مرات على ما كتب ويهذبه ويحرره. وإذا كان الكاتب قد أخذ منه التأثر مأخذا يبكيه ترك دموعه أحيانا تمحو الكتابة، ومتى فرغ من الكتاب طواه وختمه.
فإذا نسي الكاتب شيئا أو أهمل تفصيل معنى من المعاني فتح الكتاب من جديد؛ فإن كانت الورقة لا محل فيها كتبت الزيادة بالعرض، ومتى قرأ الكتاب المرسل إليه وكان لا يتضمن شيئا يراد حفظه مزقه، ولا يتساهل في ذلك إذا كان المرسل قد أوصى بحفظ سره، فإذا طرح الكتاب مطرحا من غير أن يمزقه فيمكن رده إلى مرسله إذا طلب رده إليه، فإذا لم يجد أحدهم ورقا مسح الكتابة من على ورقة أخرى وكتب عليها بعد غسلها أو كشطها متى فرغ الكاتب من كتبه جمعها وسلمها إلى البريد يوصل كل كتاب إلى المرسل إليه بغاية الأمانة. وقد تنتهز الفرصة فيكتب إلى أصحاب متعددين في جهة واحدة، فإذا فك المرسل إليه الصرة وزع الكتب على المرسل إليهم، وعند الحاجة قد ترسل الرسل إلى الأشخاص البعيدين.
ويمكن أن يتحمل الإنسان بنفسه كل هذا التعب؛ يكتب كتبه بيده ويختمها ويرسلها، وقد يتخذ له سكرتيرا يكل إليه كل ذلك، يملي عليه الكتاب ويوقع عليه بتوقيعه؛ فإذا كان المرء متعبا، وعلى الأخص إذا كان به رمد اضطر إلى تكليف غيره، وفي هذه الحالة يعتذر لصاحبه بعجزه عن أن يمسك القلم، كما نقول نحن في هذا المقام. وهؤلاء السكاترة هم محل أمانة بالضرورة متى كانوا يطلعون على أسرار العائلة والأعمال الخصوصية والسياسية. وفي الغالب يستحقون هذه الكرامة التي يؤتون إياها، ولكنهم أحيانا يخونون سادتهم ويفرون بما معهم من الأوراق. ولما أنهم عادة من الأرقاء يقتفى أثرهم ويقبض عليهم إلا إذا أبعدوا في فرارهم بحيث لا يمكن الوصول إليهم، ويخلف الخادم غير الأمين أو العاجز خادم أكثر أمانة وأوفر كفاءة، كل ذلك على عجل بحيث لا ينقطع سير المراسلة زمنا طويلا.
وإذا كان استعمال الكتابة في الشئون الخصوصية من السرعة والسهولة على ما وصفنا، فقد كان استعمالها في الشئون العامة لا يقل عن ذلك الوصف؛ فإن تحرير جميع العقود الرسمية يحصل بغاية السهولة. ومتى استكملت هذه العقود الشرائط المطلوبة عمل منها نسخ بقدر عدد المنتفعين بها. كذلك الأوامر تصدر إلى الموظفين القائمين بالأعمال التنفيذية من كل الطبقات والمخاطبات الإدارية تحصل بوسائل سريعة مأمونة يظهر أنها تشبه على الأقل ما هو عندنا الآن. فإلى أقاصي حدود الجمهورية تصل الأوامر العالية التي يصدرها مجلس الشيوخ ويتخذ من هذه الأوامر صور رسمية تحفظ بمحافظ السجلات، ولولا المحن المتنوعة التي قلبت حال العاصمة الرومانية الخالدة من فتن داخلية ونهب وحرائق وحروب خارجية وهجوم وغارات ... إلخ؛ لولا ذلك كله لكان المرجح أن تكون بين أيدينا تلك الوثائق التي هي أنفس للتاريخ منها لإرضاء حبنا الاطلاع على ذخائر الفن؛ فإن المادة التي كتب عليها كل ذلك يمكن حفظها بدون أن تتغير مدة ثلاثين قرنا، كما تشهد به أوراق البردي المحفوظة في دور الآثار عندنا. فإذا أصابنا ما أصابنا من فقد معالم من ذلك القدم المحترم المخصب فإنما كان ذلك من خطايا الناس لا من خطيئة الزمان.
كذلك كان استعمال الكتب منتشرا عاما في عهد شيشيرون كاستعمال الخطابات كما هو الحال في أيامنا، فلم يكن أحد من الأهالي ذو ميسرة وعلى شيء من العلم إلا له مكتبة على شكل المكاتب التي كانت لأهالي الإسكندرية وفي سائر مدائن الإغريق من قبل ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون.
28
كان لكل امرئ في روما مجموعة من الكتب يختارها لنفسه بنفسه أو بواسطة صديق له عوضا عنه إذا كان لهذا الصديق من مركزه مكنه من ذلك أو كان معترفا له بحسن الذوق في هذا النوع. وقد كان من شيشيرون أن كلف أطيقوس إذ كان في آتينا أن يرسل إليه تماثيل وزخارف ليزين بها مكتبته التي كان يسميها الأكاديمي. ولما كان أطيقوس يريد أن يتخلص من بعض كتب نسخها ويريد بيعها رجاه شيشيرون في ألا يبيعها من غيره؛ لأنه كان معجبا بمكتبة أطيقوس؛ وكانت مؤلفة بعناية خصوصية، فطلب إليه تلك النسخ ليجعلها أساسا لمكتبته، ولا يكون عليه بعد ذلك إلا أن يكملها على حسب ما تقتضيه حاجته ودراسته وهواه، كان ذلك في سنة 686، ولم تكن سن شيشيرون تجاوز الأربعين، ومع ذلك يفكر في أن ينزوي من ميدان العمل إلى مسكن جميل هادئ يعيش فيه مع كتبه «تلكم الصحب القدماء» التي يحب مخالطتها حبا جما، كما كان يقول ذلك لفرون الذي هو أيضا يفوق شيشيرون في الشغف بالعلم والأبحاث المتنوعة في قديميات وطنه وقديميات الأمم الأجنبية.
حين تمكن شيشيرون من بعض ساعات الراحة والعزلة حبس نفسه في مكتبته التي زخرفها وزينها، واختفى وسط كتبه حتى كان يجعل منها ركاما عظيما يحيط به من كل ناحية. ومتى لم يكن لديه ما يرغب في مراجعته استنسخه عند أحد أصحابه، فإذا كان لبعض الأصحاب مثل هذه الحاجة قضاها لهم على خير وجه فيكلف كتبته ومقربيه وسكاترته بنسخ الكتاب المطلوب، ويجد لذة في إهدائه كما كان يسره أن يتقبل كتابا يرسل إليه. وكان من الجاري في عرفهم أن الرجل يهدي إلى صاحبه الكتاب الذي يعرف أن له فيه رغبة مستترة أو كان له به حاجة من غير أن يطلبه، وإذا زار أحدهم آخر فوجد كتابا يوافقه أعير إياه فيرده بعد أن يقضي منه حاجته ... إلخ.
يمكنني أن أضاعف هذه التفاصيل إلى غير نهاية، ولكن ما الفائدة في ذلك والناس يعلمون أن الرومان في آخر الجمهورية وقبل بلاين الذي أجاد لنا في كيفية صنع الورق بمائة وخمسين عاما كانوا قد اتخذوا من البردي كل ما نتخذه الآن نحن من الكتان ومن القطن، فكان الناس يكتبون في روما بمقدار ما نكتب نحن في الأغراض الاجتماعية عينها وبنفس السهولة والحدة، بل مع تشابه تام في الشهوات والمباراة. كانت المادة مختلفة ولكن الموضوع واحد، ولا أجد بين الحالين خلافا إلا الخلاف الكبير الذي هو المطبعة التي لم تكن لتستكشف إلا بعد ذلك بخمسة عشر أو ستة عشر قرنا.
كان نسخ الكتب والأوامر الإدارية والخطابات أمرا غاليا وبطيئا، وذلك يستتبع أن تكون تلك النسخ قليلة العدد وفي غاية التعرض للضياع. جاءت المطبعة فجعلت النشر والنقل والحفظ ألف مرة أكثر أمانا وألف مرة أكثر سرعة وألف مرة أرخص ثمنا. بيد النساخ استبدل ضبط المكينة المعصوم وقوتها التي لا تعرف حدا ورخصها الذي لا ينافس، ولكن ذلك لم يكن مهما قيل فيه إلا تغييرا ماديا صرفا، فإن المقصود متوفر في الأزمان الغابرة.
على ذلك يكون المخترع الحقيقي الكبير لا يزال هو الشيخ توت أو أي ساحر آخر من السحرة المصريين، الذي أنطق البردي والحروف التي رسمها عليه قلم الكاتب مغمورا في مادة ملونة. وعلى الرغم مما كان يفكر فيه البصير طاموس فإن المقالة المكتوبة في الذهن لم تكن لتكفي إلا الذي يحملها في طيات نفسه؛ لأنها منعزلة وشبه صماء، وما كانت المقالة لتعيش إلا بالكتابة، ويمكنها أن ترجو من العمر ما لا ينبغي للفرد الفاني أن يرجوه أبدا؛ فإن أوراق البردي لا تزال تكلمنا، وسوف تكلم أحفادنا أزمانا طوالا مع أن طاموس قد حبس عن الكلام منذ أربعين قرنا.
من ذا الذي كان يعرف ما افتكره لو لم يكن أحد الكتبة الأقل حذرا منه قد سجل لنا أقواله التهكمية على صفحات البردي التي شد ما كان يستهين بشأنها ذلك الفرعون الحكيم المسرف في الحكمة.
بعد أن ثبتنا فلاسفتنا في نصابهم من حقيقة الحوادث التي كانت تعتور حياتهم في حال الدراسة أو في حال الحرب، في حال الإقامة أو في حال التشريد، وبعد أن بينا الظروف الحسية التي ألفوا فيها مؤلفاتهم صار جائزا لنا عن بينة وشيء من الاطمئنان أن نتساءل إلى أي حد كانت أصلية هذه الفلسفة؟ إنها كما يظهر لنا نبتت نحو القرن السابع قبل الميلاد في آسيا الصغرى المرتبطة بروابط وثيقة مع جميع البلدان المحيطة بها، فبأي شيء هي مدينة لها؟ وهل استعارت منها شيئا؟ أم هل هي مستقلة تمام الاستقلال لم تتبع سواها؟ وهل لم تنهل شيئا من غير مناهلها الذاتية؟ أكانت مذاهب طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان محض إبداع لها من الأصلية ما لشعر هوميروس وسافو وأرخيلوكس والكايوس؟ وبعبارة أخرى هل الغرب الذي فتح صدره للحياة العلمية يدين بشيء للشرق الذي هو مخالط له والذي هو معتبر أنه متقدم عليه بكثير في هذا الطريق الوعر الذي حده النهائي هو الفلسفة؟
أجيب من غير تردد بالسلب وأن إغريقا لم تدن لأحد غيرها، وأن المساعدات التي وردتها تكاد تكون من خفة الوزن بحيث يمكن الجزم بأن إغريقا في العلم أيضا كانت ذات إحداث وإبداع، شأنها في بقية الأشياء الأخرى، وإذا كانت تلقت شيئا عن جيرانها، فما هو إلا أصول عديمة الصور، فصورتها هي، وبلغت من تصويرها حد التمام بحيث يمكن القول بحق إنها هي التي أوجدتها في الواقع.
وعلي أن أقرر بادئ ذي بدء ماذا يعنى بالفلسفة؟ وحسبي حدها وهو: «اتجاه العقل اتجاها نزيها إلى العلم.» المشاهدة لأجل العلم من غير غرض آخر إلا فهم العالم الذي نعيش فيه وظواهره وأصله ونهايته. هذا هو المعنى الذي تولد وقتئذ لأول مرة في العقل الإنساني، والذي - من طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان إلى عهدنا - لا يزال ينمو من قرن إلى قرن، والذي ينمو في المستقبل بلا انقطاع ما دامت القرون وما دام الزمن الذي يقاس بها على بقاء النوع الإنساني. ذلك هو ما أجادت الفلسفة في بداية أمرها عمله: أن اعتنقت جميع العلوم بلا استثناء، وما هو إلا بسبب ضعف عقلنا وضرورات البحث العام أن انفردت العلوم الخصوصية شيئا فشيئا، وانعزلت أمها الفلسفة عن أولادها، ولكنها ما زالت تغذيها وتتوكأ عليها، ولم تلبث الفلسفة أن حددت دائرتها الخاصة المتوزعة أجزاؤها في العلوم المختلفة التي هي الفلسفة أصلها وتمامها، ولكنها في تلك الأيام الأولى كانت مختلطة بجميع العلوم؛ لأن العلوم لم تكن بعد قد خرجت منها.
من هذا سمت نفسها بذلك الاسم الجميل المتواضع؛ فإن فيثاغورث لما سأله ليوز طاغية الفلياز (سيقونيا) أجاب بأنه فيلسوف، وهو اسم لم يسمع من قبل.
الفيلسوف ليس إلا صاحب الحكمة؛ أي صاحب العقل، ذلك العقل الذي يدرس الأشياء ويدرس نفسه أيضا، وقد كان فيثاغورث يقول: حال الناس في الحياة يسعون فيها يشبه حال الجمهور يتقاطرون إلى الأعياد الرسمية. ففي جمعيات الجمهور الفسيحة لكل واحد من الساعين إليها أغراض مختلفة؛ أحدهم يقصدها ليبيع فيها بضائعه مدفوعا بحب الكسب، وآخر لا يقوده إليها إلا حب المجد والرغبة في أن ينال قصب السبق في القوة أو في المهارة، وطائفة أشرف من هؤلاء لا يظهرون فيها إلا لمشاهدة جمال محال تلك الاجتماعات وعجائب الصناعة المعروضة لأنظار الجميع. كذلك في الحياة، للناس الذين تضمهم الجمعية الإنسانية مشاغل متباينة؛ فمنهم المجرورون بجواذب الثروة والتمتع التي لا تقاوم، وآخرون مملوك عليهم أمرهم بالطمع في السلطان والشرف، وهما لا ينالان إلا بالحروب الحادة والمنافسات التي تسفك الدماء، ولكن الغرض الأسمى للرجل هو إمعان النظر فيما في هذا الكون من الجمال المتنوع الذي يقدمه لأنظارنا، وبذلك يستحق عنوان فيلسوف. فمن الحسن أن ينظر المرء إلى أقطار السماوات الفسيحة يتتبع سير الأفلاك التي تتحرك فيها على قدر غاية في النظام، ولكنه لا يستطاع فهمه جيدا إلا بالمبدأ المعقول المجرد الذي يسير الكون ويحصي كل شيء عددا ومقياسا.
فالحكمة تنحصر في التعرف بقدر الممكن لهذه الظواهر الإلهية الأبدية الأولية التي لا تتغير. والفلسفة ليست إلا التتبع المستمر لهذه الدراسة الشريفة التي تنير الناس وتصلحهم.
29
منذ البداية قد علمت الفلسفة ما كانت تفعل، منذ خمسة وعشرين قرنا لم تبحث الفلسفة إلا في تحقيق الفكرة التي قامت بها عند خطواتها الأولى بالتدرج تحقيقا كاملا، وما زالت حكمة فيثاغورث هي حكمتنا وإن كانت العلوم قد رقت رقيا كبيرا جدا، ولكن الفيلسوف لم يتغير؛ فإنه سيبقى دائما هو الذي يتأمل في الأشياء ويلاحظها ليفهمها وليفهم نفسه، هذا هو معنى العلم والفلسفة الذي أنسب شرفه إلى إغريقا دون سواها؛ فمن إغريقا تلقيناه من غير أن يكون افتكره أحد من قبلها في هذا الشرق الذي كانت تعتقده ويعتقده غالب أهل زماننا ينبوع كل نور وحكمة.
ممن كانت تستطيع إغريقا أن تستعير هذا المعنى وقتئذ؟ أمن مصر أم من فينيقيا أم من الفرس أم من الهند؟ لا أرى غير هذه الأمم أحدا كان يستطيع أن يعلم الإغريق شيئا، وأقول: إن هذه الأمم ولو أنها علمتهم أشياء كثيرة فلم تعلمهم الفلسفة أصلا. لا شك في أن كثيرا من فلاسفتنا - وفيثاغورث على الأخص - ساحوا سياحات طويلة في تلك البلاد، وأنهم ذهبوا إليها ليتعلموا؛ فإن فيثاغورث الذي ربما كان يدلي إلى فينيقيا بعائلته ذهب إلى مصر كما فعل طاليس من قبل وكما فعل هيرودوت بعده بقرن، وأقام فيها. ويقال إنه لقن الأسرار الخفية، وقد يمكن تصديق ذلك بسهولة؛ لأن سولون ذهب إليها أيضا، والظاهر يدل على أنه لم يقف عند محادثة كهنة سايس
30
في أمر الأطلانديد.
ومن المحتمل أيضا أن فيثاغورث جاوز مصر إلى كلدة، وتحادث مع المجوس كما كان قد تحادث مع الكهنة المصريين، والفضل في ذلك يرجع إلى الطريق الملكي الذي أنشأه دارا يصل به المسافر من سرديس إلى صوص في أعماق فارس وراء دجلة والفرات من غير مشقة إلا طول السياحة التي تقطع في ثلاثة أشهر. وليس يرى لماذا لا يدفع حب العلم إلى إزماع مثل هذه السياحات في حين أن السياسة - حتى قبل فتح ذلك الطريق - كانت تقتضي كل وقت علاقات من هذا النوع.
وقد كان حكماء الإغريق مشوقين دائما إلى زيارة مصر وفينيقيا وكلدة، وهي البلاد الشيقة التي كانوا يؤمونها ليجدوا فيها كنوز العلم. والواقع أنهم جابوا تلك الأقطار الشاسعة مع ما عليه الوصول إليها من المشقة.
ماذا جلبوا منها؟ الآن وعلى أثر الاكتشافات اللغوية والأثرية التي جاء بها قرننا الحاضر، والمعلومات الهيروغليفية، والكتابات، وأوراق البردي المصرية، وكتب زورواستر، وكتب الهند المقدسة، ودين البراهمة والبوذيين، نقول إن طريق الجواب مفتوح أمامنا، ونستطيع أن نرى فيه أحسن مما رأى الإغريق، نرى ماذا كانت حكمة الشرق المزعومة. تلقاء الآثار المفسرة بالضبط الكافي - إن لم يكن بالكل فعلى الأقل بالجزء - نعلم ماذا تساويه وماذا يمكنها أن تؤتيه، يبحث فيها عبثا عن الفلسفة وهي عنها غائبة، فكيف يكون الإغريق حتى مع تناول الأسرار الخفية قد وجدوا الحكمة فيها ما دامت لم تكن فيها.
نطرح إلى جانب فينيقيا ويهودة جميعا؛ فإن التوراة أثر ذو قيمة لا تقدر، إن بما تشتمل عليه وإن بما خرج منها، ولكني لا أرى أن إغريقا استعارت منها شيئا أيا كان، وإذا كانت كتب اليهود المقدسة قد وصلت إليها بأية طريقة كانت، فلماذا تخفي ذلك وهي قد أعلنت إعلانا عاليا بل عاليا فوق ما يلزم حكمة مصر وحكمة المجوس؟ أي عقبة اعترضتها في إطراء الحكمة العبرانية إذا كانت عرفتها؟ يمكن أن يؤسف على أنها جهلتها، وأنا أظن أيضا أن إغريقا التي كانت مستعدة للرقي بنفسها كانت تجد من دراسة كتب موسى مساعدة قوية، ولكنها ما علمت منها شيئا. والقول بضد ذلك يمكن أن يكون دليلا على إيمان حاد، ولكنه ضلال مبين لا ينهض واقفا أمام أدلة الحوادث. فلما ترجم التوراة السبعون بعد ذلك؛ أي في عهد بطليموس الثاني فيلادلفي (275 قبل الميلاد) أمكن الإغريق أن يقرءوها، وليس يرى أنهم تحركوا لها ولا استناروا بها، ولو قرئت عليهم في زمن طاليس وفيثاغورث لكان أثرها أقل من ذلك أيضا، ولو فسرت لهم لما كادوا يفهمونها ولا يصغون إليها. والواقع أنها لم تفدهم شيئا.
أقول عن مصر ما قلته عن فينيقيا ويهودة تقريبا؛ فمن عهد الاكتشاف العظيم الذي أتاه شمبوليون، ومن كل الأعمال التي تبعته وأيدته يعلم ماذا كانت أرض الفراعنة القديمة، فقد يكون الإنسان واثقا من أنه لن يصادف فيها ما يدل على الفلسفة إلا بيانات غير منتظرة من نوع جديد. كانت الاعتقادات الدينية مستفيضة فيها، وكانت عريقة في أصليتها جميلة على ما فيها من شذوذ، ولكن العلم بالمعنى الخاص لم يكن بها، وكل شيء ساعد على إثبات أنه لم يكن فيها أصلا، بل لم يكن ممكن الوجود بها على رغم ما عليه أهلها من الذكاء الحقيقي. إن ذلك لا يقلل من أهمية دراسة مصر، ولكنه لا ينبغي أن ننتظر منها ما ليس فيها، لها سنويات وليس لها تاريخ. يمكن أن يكون لها مشاهدات مضبوطة لبعض الحوادث الطبيعية والفلكية على الأخص، ولكنها ليس لها علم، لها مذاهب دينية وليس لها فلسفة، حالها كحال فينيقيا جارتها وحال يهودة التي كانت خاضعة لها وتخلصت منها منذ عهد موسى. يمكن أن يكون لها معلومات كبرى ولكنها لم تمذهبها ولم تركزها على مبادئ معينة.
وللحكم على مجوس كلدة لدينا ما ذكره هيرودوت وما كتبه الكتاب المعاصرون وما تعلمنا إياه الكتب الدينية المجوسية التي فتح لنا مغالقها حديثا علماء اللغات، وفي مقدمتهم إيجين بورنوف.
أما على قول هيرودوت الذي يظهر أنه رأى المجوس عن كثب، فإنهم لا يكادون يكونون إلا عرافين. عندما أراد أصطياغ - ملك الميديين - أن يفسر الحلم الغريب الذي رأته ابنته مندان قصد إلى المجوس المحترفين بتعبير الرؤيا واتبع نصيحتهم مع التحرج، إذ أمر بقتل حفيده قيروش، وعندما يريد قمبيز أن يزمع حملته الجنونية على مصر يعهد إلى مجوسي القيام بأعباء الدولة مدة غيابه فيسيء المجوسي في ثقة الملك به ويجلس على العرش أخاه سمرديس الكاذب، ولكن الفرس غاظهم هذا الاغتصاب الذي يفضي إلى خضوعهم للمجوسي، فاتفق سبعة منهم تحت إمرة الفارسي دارا بن هستاسب وذبحوا الأخوين اللذين تبوآ الملك غصبا، وهم هم المجوس الذين يفسرون حلم إكزاركزيس؛ إذ يهم بمحاربة إغريقا وعلى رأيهم يمشي، وبينما هو في الطريق على ضفاف الستريمون، إذا بالمجوس يذبحون الخيل البيض يستفتحون بها باب النصر، فلما شتت الأسطول (480 قبل الميلاد) بريح عاصف على شاطئ تراقيا في رأس سبياس، غير بعيد من أطوس حيث هلك أسطول آخر قبل ذلك بعشر سنين، إذا بالمجوس يقربون قرابين للريح ليهدئوا ثائرته في اليوم الرابع. وبالجملة لا يقرب قربان إلا بحضرة مجوسي لينشد ما يسميه هيرودوت تيوجوني (أنشودة الآلهة) ليتم بذلك الاحتفال الديني.
من أجل ذلك كانت في إغريقا القديمة وعلى الخصوص في روما شهرة للمجوس وكراهة لهم في آن واحد، ومن اسمهم اشتق اسم ذلك الفن الخفي الذي هو «السحر»، وهو مخوف عند العامة وطالما غرر بهم. وقد أنحى عليه بلاين بالسخط فوق ما قد يستحق.
31
ومنذ عهد أرسطو كانت تلصق هذه التهم بمجوس الفرس والكلدان، فإن هذا الفيلسوف قد أفرد مؤلفا خصيصا بذلك وسماه «الماجيك»
32
ليدفع عنهم التهم التي ظهر له فسادها. وفي كتابه المسمى «في الفلسفة» ظن أن من الواجب عليه أن يشتغل بأمر المجوس الذين يعتبرهم أقدم عهدا من كهنة مصر. ولما وصل إلى لاهوتهم تكلم عن الأصلين اللذين يعترفون بهما: الحسن والقبيح «أوروماز وأريمان».
ومن الكتاب المتأخرين عن أرسطو من جعل المجوس آباء الجمنوزوفست (فلاسفة الهند المتريضين)، بل آباء اليهود أيضا. وفي كتاب دانيال الذي كتب في عهد دارا أن مجوس بابل ليسوا إلا منجمين وسحرة ومفسري أحلام، ومع ذلك كانوا يلقبونهم بالحكماء، ولكن الخدم التي تطلب منهم لا تكاد تدل على أنهم أرفع درجة من المحتالين والسحرة الدجالين، فهل هم أنفسهم أولئك الذين كان لهم أرصاد فلكية في بابل قدرها أرسطو خير تقدير.
33
ولكن المجوس إذا كانوا فلكيين مهرة فليسوا فلاسفة، وكتبهم الدينية (زند) التي نعرفها الآن بطريقة أكيدة تبين لنا ذلك بغاية الوضوح؛ فإن الفنديداد واليسنا واليشت وجميع القطع المنسوبة إلى زورواستر (زاراتسترا) تشتمل على آثار من ديانة ظاهر عليها الجلال والقوة في خلال تلك الظلمات، ولكنها لا تشتمل على مذهب فلسفي. وهذه الكتب هي كل ما يمكن إسناده إلى مجوس كلدة؛ فإذا كان فيثاغورث قد اطلع عليها بالمصادفة فإنه لم يدخل منها شيئا في مذهبه الخاص: صلوات وأدعية وأناشيد وعقائد مبهمة وغير مستقرة وآثار من سير مقدسة، وخرافات ليست هي خرافات الفيداس وليست كذلك من خرافات الإغريق، ذلك على الأخص هو كل ما يمكن أن يقرأ في كتبهم. وهذا في الحقيقة لا ينقص من أهميتها الكبرى؛ فإن تاريخ الديانات يمكن أن يكتشف فيها الأصول النفيسة للغاية، ولكن تاريخ الفلسفة لا يجد فيها شيئا يجنيه، وعلى ذلك لم يكن المجوس ولا المصريون قد أوحوا إلى إغريق يونيا شيئا.
أفتكون الهند؟ ولا هي أيضا.
ليل حالك لا يزال يغشى الأصول الهندية وأخبارها، ولأن هذه البلاد ما كتبت قط تاريخها نصادف أكبر العناء في ترتيب الحوادث والوقائع المتنوعة التي تتعلق بها. كذلك الحوادث الخاصة بالعلوم والآداب لا تخرج عن هذا الخفاء العام، ومع ذلك يبين لنا - وسط هذا الاختباط الذي يكاد لا يخلص أبدا - بعض الأصول الرئيسية الحقة على ما فيهما من شدة الإبهام، فيمكن الجزم بأن آثارا بعينها من آثار العقل الهندي أقدم أو أحدث عهدا من بعض آثاره الأخرى. من ذلك أن أنواع الفيدا وعلى الأخص الفيدا التاريخي الذي لقب مع التسامح بلقب «الريك» هي متقدمة على سائر البقية وجماعة الفيدا أو على الأقل تلك المتقدمة لا يكاد يقل عمرها عن خمسة عشر قرنا قبل الميلاد، غير أن هذه الأناشيد الشعرية ليس فيها شيء من الفلسفة.
أما الخرافات الفياضة النامية فيها فإنها تشبه الخرافات اليونانية، كما أن بين لغتي اليونان والهند البرهمانية مشابهة أخوة، ولكن الطابع الفلسفي معدوم منها بالمرة. وأما الأوبانيشاد التي يمكن أن يوجد فيها هذا الطابع بعد البرهمانيات فمن المؤكد أنها متأخرة عن الأزمان التي نحن بصددها، فمع أن طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان هم من القرن السادس قبل المسيح فإن الأوبانيشاد لا يمكن إبلاغ أقدمها إلا إلى القرن الرابع.
وعلى ذلك لم يكن الإغريق ليستعيروا شيئا من الهند مع افتراض أنه كان من الممكن في ذلك الزمان أن يكون لهم مخالطة مستمرة بحكماء شواطئ الهندوس، بله حكماء أواسط شبه جزيرة الهند أو شرقيها، وما عرف العالم الإغريقي بجماعة الجمنوزوفست إلا بتجريدة الإسكندر وسفارة ميغاستين، ولكن الإسكندر وميغاستين هما متأخران بمائتي عام عن حكماء سموس وملطية وكولوفون.
حق أن الهند - خلافا لمصر ويهودة وفارس - لها فلسفة حقيقية نعرفها في مجموعها ونعرف منها آثارا تفصيلية. وريثما ندرسها دراسة تامة نقرر منذ الآن أننا نعلم أن هذه الفلسفة مستوفية كل الشرائط اللازمة للعلم على النحو الذي نعنيه نحن اليوم، والذي كان يعنيه الإغريق دائما. إنها لمستقلة تمام الاستقلال، وغرضها كغرض حكمة الإغريق تفهم العالم والإنسان. ولا شك في أنها درست كليهما على غير الوجه المفيد، ولكنها جعلتهما شغلها الوحيد، فينبغي أن يكون لها بمذاهبها الستة التي تتقاسمها وتؤلفها مركز عظيم في التاريخ العام للعقل البشري.
ما هو تاريخ هذه الفلسفة؟ وإلى أي زمن تنتسب؟ ذلك هو كل ما يهمنا في هذا المقام.
قد كان يظن أن أحد هذه المذاهب الذي هو مذهب سعنخيا الملحد من كبلا كان سابقا على البوذية. ولما أن بوذا مات سنة 543 قبل الميلاد يكون سعنخيا معاصرا لطاليس ومعاصريه الآخرين. وكانوا يقفون مذهب سعنخيا بالمذاهب الأخرى على ترتيب معين لا يخلو من التحكم كثيرا أو قليلا باعتبار أن كل هذه المذاهب متأخرة عنه، وبالتبع تكون متأخرة عن فلسفة آسيا الصغرى، ولكن يظهر أن هذا الترتيب أصبح الآن معدوم النصير؛ لأن أغزر البراهمة علما متفقون على ترتيب سعنخيا بعد البوذية بزمان طويل. إن الفلسفة لم تظهر في الدين القديم إلا لاستئصال شأفة الإلحاد أو على الأقل لتفل من غر به. وإن مذهب سعنخيا الذي هو ملحد وروحاني معا ما يكون إلا طليعة التوفيق بين اعتقادات الدين الجديد وبين الاعتقادات الجائية من فيدا، ويكون «النيايا» أو المنطق جاء نفسه قبل سعنخيا لحاجات المناظرة، وتكون الفيدعنتا متأخرة عن الاثنين.
34
ليس بي من حاجة إلى الدخول في مناقشات من هذا النوع، ولا أريد أن أجاوز بالبحث حدود ما قدمته من القول، وإلا كانت إفاضة في العبث؛ فإن من البين أننا حتى إذا وضعنا سعنخيا في الترتيب الوجودي قبل ظهور البوذية وجدنا أن الإغريق لم يكن في وسعهم أن يعرفوا من مذهبه شيئا عندما أخذوا يفلسفون لأول مرة. ومع افتراض أن سياحة فيثاغورث بلغت به بابل وصوص، فإنها لم تعلمه مذاهب لم تكن خلقت في بنجاب أو على شطوط نهر الجنج.
ينبغي أن يزاد على هذا أن «داراسانا» الفلسفة الهندية على ما هي معروفة عندنا منذ كولبروك وما تلا مذكراته المشهورة من المعلومات ليس بينها وبين الفلسفة الإغريقية في تلك الأزمان الأولى علاقة مشاركة، فلا في طاليس ولا في فيثاغورث ولا في إكسينوفان يمكن العثور على أثر للمشابهة أو التقليد، وهذا مفهوم بالبداهة ما دام الظاهر كله يدل على أن الفلسفة البرهمانية لم تتم إلا بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة.
ومتى خرجنا بالهند من الموضوع صار من العبث أن نبلغ بالبحث الصين؛ فإن لاونسو معتبر أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن الفلاسفة الإغريق الأول لو كانوا قرءوا الثاوتي كنج وهو كتاب الطريق والفضيلة لما استطاعوا أن يجدوا فيه ما يصلح لهم.
35
على ذلك لا الصين ولا الهند ولا فارس ولا مصر نفسها لم تلهم الإغريق شيئا من فلسفتهم. وسأبين فيما يلي أي حظ من التأثير كان للمذاهب المصرية في مذهب فيثاغورث، ولكنه يمكن الجزم بصورة عامة أن الفلسفة الإغريقية باعتبار أنها في مهدها فلسفة بالغة في الأصلية غايتها، وبأن معنى العلم على الصورة التي صورتها بها هذه الفلسفة وقتئذ كان باكورة فهم العقل البشري للعلم، تلك هي نتيجة كبرى أعترف بغاية الارتياح أنها ليست أمرا جديدا، كما قد يبين من الاعتبارات التي تقدمت، بل قد تقدمني بزمان رجال ارتأوا هذا الرأي من غير أن يكون قد توفر لديهم كل ما لدينا من الأدلة.
فإن العالم المحقق بروخر كان يكتب منذ قرن كامل في هذا الموضوع، وقبل أن يصل إلى الفلسفة الإغريقية بحث عن بدايات الفلسفة في الأرض جميعها، فراح يستجوب على التعاقب العبرانيين والكلدانيين والفرس والهنود العرب والفينيقيين والمصريين وطائفة من أمم أخرى ، فلم يعثر فيها على الفلسفة التي ينشدهم إياها عبثا، حتى بلغ الإغريق فقال: «الآن لنبلغ الإغريق هذه الأمة المشهورة منذ كانت صبية في المهد بدرس الحكمة والفنون، والتي عندها وجدت الفلسفة مقرها الذي بغته زمنا طويلا بعد أن تلقت هذه الأمة عن المتوحشين بعض الجراثيم من المعارف الإلهية والبشرية.»
ثم بعد أن درس النظريات القديمة لأنساب الآلهة التمثيلية والفلسفة السياسية للحكماء أضاف هذا العالم الرصين مؤرخ الفلسفة إلى ما تقدم ما يلي محدثا عن مدرسة يونيا:
إلى هنا لم نقدر فلسفة الإغريق إلا وهي صبية ترت في مهدها، ولكنا قد بلغنا الآن منها الطور الذي فيه بدأ العقل البشري يزاول الفلسفة الحقة، ويظهر بالأفكار المرتبة مظهر المشغوف بالنفوذ في حقيقة الأشياء، فإلى العبقرية الإغريقية ينبغي أن ننسب هذا المجد كما بينته آنفا، وفي أول هذا التاريخ عند البحث في الأصول الصحيحة للفلسفة.
36
وأما أنا من جانبي فلا أزيد على ترديد عبارة بروخر، وأعدني سعيدا باستنادي إلى هذا الحجة المحترم المتين الذي تقدم بمائة عام ما لدينا في هذا العصر من المعلومات البينة. نتيجتي كنتيجته، نعم إغريقا أصيلة على الإطلاق، أعطت كل العالم ولم يعطها العالم شيئا إلا ما ربما يكون من بذور كانت عقيمة في غيرها فعرفت هي وحدها أن تنبتها.
لن أتوسع في الكلام على مذاهب طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان، بل أفترض أنها معروفة بمقدار ما يمكن أن تعرف من القطع النادرة التي نجت من البلي، وأقف عند بعض الملاحظات العامة إلى غاية العموم. من البين أن أكمل هذه المذاهب الثلاثة على نسبة كبيرة هو مذهب فيثاغورث، ونحن لا نستطيع أن نتعرفه إلا من خلال الشروح التي وضعتها عقول قليلة التفوق جاءت بعد المصنف بستة أو سبعة قرون، ولكنها مع ذلك كافية في بيان أن الدراسة التي كان يزاولها حكيم سموس شد ما كانت أفسح ميدانا وأكثر ضبطا من دراسات معاصريه، فيها الفلسفة بتمامها تقريبا مع أجزائها الأصلية التي تتألف هي منها، وفوق ذلك فإن دراسة العلوم وعلى الأخص العلوم الرياضية بلغت فيها شأوا بعيدا. ومن البلية أن شخص فيثاغورث كمذهبه لا يزال يحيط به من الظلام حجاب لا شيء يمزقه، ولا شك في أن هذا الحجاب العظيم إنما جاء كبره من السكوت الذي التزمه فيثاغورث وألزم إياه تلاميذه الذين بقوا محتفظين بتنفيذ أمره مدة عدة أجيال، وكان فيلولاوس السابق لأفلاطون بقليل هو أول من علم القاعدة - على ما يؤكدون - ونشر المذهب، بل ربما نشر كتب الأستاذ أيضا.
ومما لا يقل عن هذا مطابقة للواقع هو أن فيثاغورث على فلسفته كان يحتفظ في نظرنا بشيء من النحو الديني إن لم يكن في أفكاره فعلى الأقل في الجمعية التي ألفها والتي لا يدخل إليها إلا بعد امتحان قاس يجوزه المريد، فليست الفيثاغورية مفتوحة للكافة كالمذهب الطبيعي لطاليس، ولا كمذهب ما وراء الطبيعة لإكسينوفان. لفيثاغورث تلاميذ، ولكنهم بعض أعضاء لجمعية منتظمة خاضعة لملاحظة شديدة ومحصورة في حدود لا تجتاز. إنها نوع من مدينة فلسفية دينية سياسية قاسية وضيقة الحدود، فلم تلبث أن ارتاب في أمرها جيرانها فخربوها بالحديد والنار، وما كان أسهل عليهم ذلك نظرا إلى أن هذه الجمعية من الوداعة بمكان.
ومن البديهي أن نظام المدرسة الفيثاغورية كان على مثال مدارس الكهنة المصريين، وربما كانت على مثال مدارس المجوس أيضا، وإن تناسخ الأرواح هو عقيدة شرقية صرفة لم تتأقلم في العالم الهليني مع أن أفلاطون وضعها تحت إشرافه. كان فيثاغورث مؤسس مدرسة ورئيس جمعية معا ومبدع مذهب لا يتلقاه إلا أشياعه، وبهذه المثابة كان بين فلاسفة الإغريق وحيدا في هذا الباب، وينبغي أن يرجح أن سياحاته في مصر وكلدة هي التي أوجدت في نفسه مقاصد من هذا النوع فنقلها إلى بلاد قلما توافقها وتنجح فيها، ولكنها مع ذلك جعلت لفيثاغورث مركزا قدسيا علميا معا، فبقي به علما فردا متميزا عمن قبله وبعده، مذهبه العلمي غير تام، ولكنه عظيم جليل، ومذهبه الأخلاقي طاهر لا غبار عليه، حتى إن مذهب أفلاطون مع كونه أشد منه تعمقا لم يرجع عليه في طهره.
ولندع إلى جانب شخصيات الفلاسفة وننبه إلى أن الفلسفة الإغريقية بتمامها كانت موضوعة في وضع استثنائي أفادها جدا، وهو أنها لم يكن أمامها أبدا ديانة مبنية على كتب مقدسة، وقد كان الأمر على ضد ذلك في مصر ويهودة وفارس وفي الهند حيث لم تكن الحال قاصرة على أن الدين قد سبق الفلسفة في تلك البلاد، كما هو الحال عادة في كل زمان، بل إنها اعتمدت فوق كل ذلك على أسس معتبرة أنها إلهية، ومع ذلك أقامت قرونا طوالا كافلة لسد الحاجات الأدبية والأخلاقية في تلك الأمم؛ وبعد ذلك خرجت الفلسفة من المحاريب، فمثلا في بلاد الهند البرهمانية أو البوذية استطاعت الفلسفة أن تنمو نموا كبيرا متحللة من القيود الأولى، وإن كان نجاحها لم يكن عظيما. أما في بلاد الإغريق فلم يكن ما يشبه ذلك؛ لأن الإغريق لم يكن لهم كتب إلهية ولا موحى بها.
وقد كان أرفي ولينوس وسائر المرتلين الأقدمين الذين كانوا ينشدون آيات الأسرار الأولى كلهم ما كان يتكلم إلا باسمه هو دون أن يسند ما يقول إلى الإله. ولما كان الإشراك بالله متغير الصور منثورا في البلاد لا ينتظمها على حال واحد لم يستطع الوصول إلى تأليف جسم من المذاهب قد يصير ديانة ذات قوام خاص، فلم يكن للكهنة نقابة قوية ذات سلطان، وكان الناس يحترمونهم ولكن لا يطيعونهم، ولم تكن الروابط بين الهيئتين إلا مفككة العرى؛ لأنها إنما تبحث عن معتقدات عامة يغير من عمومها في كل جهة أساطير محلية لا نهاية لها، وعن بعض احتفالات عامة لم تكن إلزامية، وهواتف يستشيرها الناس وقتما يريدون؛ وألعاب عمومية. والكتاب الوحيد الذي أخذ بمجامع قلوب الإغريق إنما هو قصيدة حماسية.
إن قصيدة من شعر الحماسة تسحر العقول ولكنها لا تهديها، تأخذ بالقلوب ولكنها لا توجب الإيمان، إنها تنمي الإحساسات الشريفة بما تقدم من التذكارات الوطنية، ولكنها لا تسوي سبل السلوك، فما قصيدة حماسية بالتوراة ولا هي بالزاندافستا ولا بمنتراس البراهمة ولا بالقربان المثلث عند البوذيين، فالواقع أن الفلسفة كانت هي وحدها دين الهلين.
وما تنسب عظمة الفلسفة الإغريقية التي لا تزال تدهشنا ونتعلم منها بعد خمسة وعشرين قرنا إلا إلى استقلالها المطلق. ولو أنها كانت تحت وصاية ديانة حسنة النظام أفكانت تظهر قواعدها بهذه السهولة التي ظهرت بها؟ أو كانت تحيا تلك الحياة الطيبة القوية؟ أو كانت تلد للعالم تلك الملح من التآليف وتؤتي ذلك الثمر اللذيذ؟ من ذا الذي يعرف ذلك؟ لا شك في أن الجنس الهليني كان عجيب الاستعداد؛ فقد نجح في ميدان الفلسفة، كما نجح في ميادين الأعمال الأخرى، ولكن أما كانت تذبل هذه الخواص العجيبة لو أن العصارة التي تغذيها جرت في قنوات أخرى من قبل، وخصوصا في قنوات الديانة!
ولم يكن تاريخهم الخرافي إلا لعبا تلعب به الملكات، فكانت الخواص العليا للنفس في سعة من أن تتخذ لها نحوا جديا آخر وتبحث عن غذاء لها أغزر مادة وأدخل في باب الحق، بعيد علي أن أنكر نعم الديانات على الناس، وأرى أن من الخير أن تكون قد سبقت الفلسفة دائما، وعند جميع الشعوب، ولكني لا أستطيع أن أحجم عن القول بأنه إذا كانت ديانة الهلين أكثر جدية مما كانت عليه لأوشكت فلسفتهم وعلومهم أن تكون أقل في الجد مما كانت عليه بكثير، وتلك خسارة لا تعوض على الإغريق وعلينا أيضا؛ لأننا نحن أبناؤهم ومظهر استمرار حياتهم.
ولئن أنسب إلى آسيا الصغرى وتلك الجمهوريات الإغريقية الصغيرة التي كانت مقيمة على شواطئها كل المجد الطارف في اختراع الفلسفة والعلم والشعر والموسيقى وكثير من الفنون الأخرى، فإني لا أقصد إلى أن أغمط آتينا حقا من المجد المقطوع النظير؛ ذلك لأنه من آتينا خرج في زمن قدروس أهل بعض هذه المستعمرات التي جمعت بين النشاط والذكاء والشاعرية والحربية، وفي آتينا اجتمع اليونان. بل يمكن القول بأن آتينا أعطت من دمها ومن روحها تلك الجاليات التي لم تستطع أن تظلها تحت سمائها بعد أن أقاموا بها زمنا طويلا، ثم إن تلك المستعمرات لم تستطع أن تحفظ في أوطانها جراثيم للفلسفة التي تمخضت هي عنها، فإنه إذا كان طاليس بقي في ملطية فإن فيثاغورث قد هاجر من سموس إلى سيباريس وقروطون، وإكسينوفان ترك كولوفون إلى إيليا، فلما نفيت الفلسفة مؤقتا من إغريقا الكبرى بما فيها صقلية وجدت سلطانها الحقيقي في آتينا آخر مطافها، وجدته بسقراط وأفلاطون في عهد أنكساغوراس وبيريكليس وفيدياس وسوفكل.
على ذلك تكون آتينا قد حوت أسمى مظهر للذكاء الإغريقي، وتكون الأم المخصبة التي ولدت الملح من كل نوع؛ فإن الفلسفة لما اقتلعت مرتين رجعت إلى الأرض الأولى التي منها خرجت المستعمرات اليونانية لتؤتي فيها أجمل زهرها وأنضج ثمارها. ولم تكن الفلسفة في آسيا الصغرى إلا عارضا جاءت به المصائب السياسية، فأقامت فيها قليلا ولكن بعد أن انبعث نورها الساطع. فلما استقرت بآتينا مكثت بها أكثر من ألف سنة من عهد بيريكليس إلى عهد جستنيان، فهي معلمة روما وجدة الإسكندرية ومنافستها الجديرة دائما بالاحترام.
من أجل ذلك يظهر لنا أن آتينا ويونيا أو بلفظ واحد إغريقا كان لها على من عداها فضل وسؤدد لا يطاول، ومن أجل ذلك نضع منزلتها في سماء المجد في أوجها، لا يقاربها فيه ولا على مسافة كبرى تلك الأمم التي حاربتها ومزقتها، ولكنها لم تقهرها مع أنها تربى عليها في العدد ألف مرة، فمن ذا الذي يقام له وزن بجانب الإغريق في باب الشعر والفنون والعلم والفلسفة؟ لست أعني السيتيين ولا سائر تلك الشعوب الرحل في شماليها، ولكنما أعني الفرس والهنود، بل المصريين أيضا، ماذا عسى أن تكون القرون الأولى لولا الهلين؟ ما هي تلك المعارف الإنسانية التي ليس لهم فضل في أمرها؟
ولقد أراد مؤرخو الإنسانية، ومنهم هردر أن يتلمسوا أسباب هذا التفوق الخارق للعادة من ظروف وأوضاع كلها مادية كشكل أرضهم وحال جوهم وحاجات تجارتهم ... إلخ، ولكن مع أن تأثير هذه الظروف لا ينكر إلا أنها لا تستطيع أن تحل لنا مشاكل هذه النظرية الدقيقة ولا أن تفسر لنا سر هذا التفوق تفسيرا مقنعا؛ فإن شواطئ آسيا الصغرى وضفاف بحر إيجه وأطيقا، وبيلوبونيز وإغريقا الكبرى لم تتغير عن أصلها، ومع ذلك أين هي تلك الروح التي كانت تنعش الهلين في تلك العصور الخصيبة؟ ماذا صارت روح تلك الشعوب التي لم تتغير أوطانها المخصبة الجميلة منذ ذلك العهد إلى اليوم؛ فإن أخلافهم لا يعدون الآن شيئا فيما يتعلق بارتقاء المدارك الإنسانية؟
لا نكاد نجد لهذا السؤال جوابا ممكنا إلا الواقع نفسه، فإنا لنرى كيف كانت إغريقا فوق كل الأمم حتى بالبقايا القليلة التي وصلت إلينا من أعمالها، ولكن لماذا اصطفى هذا الشعب الصغير في زمن معين خلال قرون عديدة ليكون عنوان النور الأبدي الهادي لجميع الأمم فيما يتعلق بالمعقولات؟ ذلك سر من أسرار العناية الإلهية ليس لنا بالنفوذ في كنهه يدان، بل هو كسائر أسرار الله تنال إعجابنا ولا ينالها فهمنا.
إن الإغريق الذين لم يكن لهم على النوع الإنساني سعة النظر التي تقدمها لنا اليوم فلسفة التاريخ مدعمة بشتى الملاحظات، قد حاولوا مع ذلك أن يفسروا لأنفسهم أعجوبة عبقريتهم. وإني أوثر أيضا في هذا المقام أن أستجوبهم بدل أن أجيب عنهم في هذه المسألة، أولئك هم ثلاثة شهود عدول من عصر واحد تقريبا؛ وهم بقراط وأفلاطون وأرسطو، يشهد أحدهم باسم علم وظائف الأعضاء، والثاني باسم الفلسفة والوطنية، والثالث باسم السياسة، ولا بأس من أن نتخذ بجانب هؤلاء شاهدا على الشعر إيشيل الذي كان يقاتل في مرطون.
فمن كتاب بقراط إلى الأهوية والمياه والأماكن، ذلك الكتاب الذي يتخيل قارئه كأنما مدده فيما أتى به من النظريات هو العلم الحديث، استطرد فيه المؤلف بحكم ضرورة استيفاء موضوعه إلى المقارنة بين الجنسين والوطنين اللذين يعرفهما حق المعرفة؛ لأنه عاش فيهما فقال:
أريد بالمقارنة بين آسيا وأوروبا أن أبين كيف أن كلتيهما تخالف الأخرى في كل شيء، وأنه ليس بين الأمم التي تقطن كلتيهما أية مشابهة في البنية، وقد يكون من التزام ما لا يلزم تعديد جميع الفروق، بل أكتفي بأكثرها أهمية، وأشدها بروزا للعيان، لأعرض رأيي الذي ارتأيته في ذلك، فأقول: إن آسيا تختلف عن أوروبا اختلافا عظيما بطبيعة حاصلاتها جميعا، سواء فيها ما تخرج الأرض وما يخرج من ظهور الناس الذين يزرعونها، فكل ما يتولد في آسيا يفضل ما يتولد في أوروبا فضلا كبيرا في الجمال وفي بسطة الجسم؛ جوها أكثر اعتدالا، وأممها أدمث أخلاقا وأسهل قيادا، والعلة في ذلك هي التوازن التام بين الفصول ... فإن الماشية التي ترعى في أرض آسيا حسنة المنظر خصبة التكاثر إلى حد مدهش، وتربيتها ناجحة إلى الغاية.
وأما الناس فيها فنموهم عظيم يمتازون عن الأجناس الأخرى بجمال صورهم وفضل قامتهم، ولا يختلف بعضهم عن بعض في الرواء ولا في الصورة، ويمكن أن يقال: إن مثل هذه الجهة بينها وبين الربيع نسب يكاد يكون متصلا بالنظر لتأليف فصول السنة ولطف آثارها، ولكن لا شجاعة الرجولة ولا مصابرة المشاق ولا إجهاد النفس في العمل ولا شدة البأس؛ كل هذه الصفات لا تنمو في مثل هذه الطبيعة، سواء فيه الوطنيون والمستوطنون، بل إن حب الملاهي عندهم يتغلب على ما عداه من الميول الأخرى.
أما من جهة ضعة النفس وعدم الشجاعة فإن الآسيويين إذا كانوا أقل ميلا للحرب وأكثر سلاما في الطبع من الأوروبيين فعلة ذلك إنما هي على الخصوص في حال إقليمهم؛ حيث لا توجد تقلبات شديدة لا في الحر ولا في البرد، بل قليلا ما يشعر بتغير الجو، وحيث لا يعتري العقل صدمات ولا يعرو الجسم تغيرات، وتلك انفعالات من شأنها أن تكسب الخلق وحشة وتمزج به ميلا للجماح والعصيان أكثر مما تفعل الحال الجوية دائمة التماثل. ألا إنها التغيرات من النقيض إلى النقيض هي التي تنبه العقل الإنساني وتمنعه من أن ينام في ظلال السكون، تلك هي الأسباب التي يتعلق بها على ما يظهر لي ضعة نفوس الآسيويين.
ينبغي أن يضاف إلى ذلك حال النظامات، فإن جزء آسيا الأكبر خاضع للملوك، وحيثما كان الناس لا يملكون حرية أشخاصهم لا يعنيهم المرون باستعمال السلاح، بل يصرفون كل عنايتهم في أن يظهروا بمظهر العجزة غير الصالحين للخدمة العسكرية، ذلك بأن الخطر ليس مقسوما بينهم قسمة عادلة؛ إذ يسعى الرعايا إلى خوض غمار الحرب يذوقون فيها من المتاعب ألوانا يموتون فيها من أجل أسيادهم بعيدين عن أبنائهم وعن نسائهم وعن كل ما هو عزير عليهم.
وفي حين أن كل ما يأتونه من ضروب النشاط والبسالة إنما يجني أسيادهم ثمرته، يكبر به قدرهم وتشتد به عصيتهم، فإن أولئك المحاربين لا يجنون من وراء كل ذلك إلا الأخطار والهلاك، وفوق ذلك فإن هؤلاء الرعايا لا بد لهم من أن يروا في الغالب دخول الأعداء وانقطاع الأشغال سببا لجعل غيطانهم حصيدا جرزا. بهذه المثابة ترى الذين آتتهم الطبيعة في هذه الأمم قوة في القلب وميولا حسنة قد تمنعهم تلك النظامات السياسية من الانتفاع بها. وإن أكبر برهان على ما أقدم هو أن في آسيا جميع الأمم الإغريقية والمتوحشة المتحللة من نير السيادة والتي تضع قوانينها بنفسها لنفسها وتشتغل لحسابها هي أكثر الأمم الآسيوية ميلا إلى الحرب. ولما أنها كانت تتعرض لأخطار الحروب لحسابها الخاص فكانت تتمتع بثمرة شجاعتها أو تحتمل سوء نتائج جبنها، ليسوا كالآسيويين المحكومين بالملوك؛ فإن الشجاعة تفقد وجودها بالضرورة في قلوب الرجال الخاضعين لحكم الملوكية، نفوسهم مستعبدة فلا يكادون يهتمون بمعاناة الأخطار بمحض إرادتهم من أجل توسيع سلطان غيرهم، ولكن الأمر على ضد ذلك إذا كان الإنسان غير خاضع إلا إلى قوانينه الذاتية، وإذا كان يعرض نفسه للخطر من أجل منفعته الخاصة لا من أجل منفعة غيره. من هذا شأنه يقتحم المخاوف طائعا مختارا، ويلقي بنفسه بكل قلبه في جميع مهاوي المصادفات؛ لأنه سيجني لنفسه ثمرة انتصاره، من أجل ذلك كانت القوانين مساعدة عن سعة على تكوين الشجاعة.
تلك هي المقارنة العامة التي يمكن تقريرها بين أوروبا وآسيا في كل الأشياء.
37
ذكر أفلاطون في كتابه المينكسين حيث لا يريد سقراط على أن يكرر مقالات أسباسيا الشاعرة الملطية تمجيدا للإغريق الذين قهروا قبائل آسيا ما نصه:
لما جاء الفرس الذين هم سادة آسيا وحكامها يسعون لإذلال أوروبا، قابلهم آباؤنا أبناء هذه الأرض فقهروهم ودحروهم ، ولتقدير قيمة هذا العمل العظيم ينبغي أن ننتقل بالفكرة إلى العصر الذي كانت فيه آسيا كلها خاضعة إلى ملكها الثالث،
38
فأولهم قيروش الذي لما مكنته عبقريته من تحرير مواطنيه الفرس أخضع إليه سادتهم الميديين، وحكم بقية آسيا إلى حدود مصر، ثم فتح ابنه مصر وسائر الأقطار الأفريقية التي استطاع أن يصل إليها، وثالثهم دارا قد بسط حدود مملكته ومدها إلى سيتيا بفتوحات جيشه البري، وأما أساطيله فجعلته سيد البحر والجزر، وإذ كان لا يجرؤ أحد على مقاومته قد ذلت له هامات الأمم، فكم من أمة قوية حربية ألقت عنانها إلى الفرس ودخلت تحت نير سلطانهم ...!
إذا استحضر الإنسان هذه الظروف في ذهنه أمكنه أن يقدر حقا البسالة التي أتاها يوم مرطون أولئك المقاتلون الذين صبروا على مهاجمة المتوحشين، وعاقبوا تبجح آسيا وكبرياءها، والذين أثبتوا للإغريق بما جاءوا به من الأنفال والغنائم أن قوة الفرس لا تستعصي على المقاومة، وأنه لا شيء من كثرة العدد ولا من سعة الثروة يقف أمام الشجاعة ... لذلك ينبغي أن يسند ثناء هذا النصر الأول إلى أولئك المقاتلين، وأما الثاني فثناؤه مسند إلى الظافرين في الوقائع البحرية بسلامين وأرطيميس. وقد ضرب أبطال مرطون مثلا للإغريق عامة أن فئة قليلة حرة تكفي لرد غارة جيوش المتوحشين البرية، مهما كانت لا تحصى عددا، ولكنه لم يكن ليثبت أن ذلك ممكن أيضا في البحر كما أمكن في البر حتى وقعت الواقعات البحرية فاستحق بها أولئك البحارة المهرة ما أحرزوا من المجد لتخليص الإغريق من الخوف الأكبر، ولأنهم صيروا الأساطيل الفارسية لا تزيد مهابة على الجنود الفارسية.
أما الواقعة الثالثة من وقائع الاستقلال الإغريقي من حيث الترتيب التاريخي ومن حيث شدة الإقدام فهي واقعة بلاتة، وهي أول واقعة اشترك فيها اللقدمونيون والآتينيون وباءوا بمجدها جميعا، وقد كان اللقاء فيها حرجا والخطر محيقا، فتغلبوا على كل شيء، ويا له من فصل يستأهل مدائحنا ومدائح قرون المستقبل!
إلى أي شيء في الإغريق نسبت إستاسيا هذه الشجاعة وهذا المجد؟ إلى علة واحدة، إلى الحرية التي كانت تتمتع بها آتينا، قالت: «ها أنتم هؤلاء ترون كيف أن أجداد هؤلاء المقاتلين وأجدادنا وهؤلاء المقاتلين أنفسهم الذين ولدوا بالطالع المسعود وربوا في مهد الحرية، قد أتوا هذه الفعال الجميلة العمومية والخصوصية لغرض واحد هو خدمة الإنسانية.»
39
وما كان هذا النشيد إلا أليق ما يكون بالأعمال التي يشدو بها، وحقيق بأسباسيا أن تمتدح آتينا وأبناءها. ولما قام مينكسين يشكر سقراط عند انصرافه لم يتمالك نفسه من أن يجهر بهذا القول: «وحق المشتري إن أسباسيا لسعيدة بأنها وهي امرأة تقدر على كتابة مثل هذه المقالات.»
ولا شك في أن هذا الشاب قد أصاب فيما قال، إلا أنه فاته أن هذه المرأة كانت من ملطية، وأن أجدادها، مع أنهم كانوا لا يزالون أضعف من الآتينيين، قد حاربوا الفرس غير مرة من قبل أن تتولى آتينا أمر قهرهم.
وأخيرا فإن أرسطو يشرك أفلاطون وبقراط في رأيهما، فإنه لما تكلم على الصفات المطلوبة في سكان المدينة في حكومة منظمة قال:
لكي يلم المرء بهذه الصفات ما عليه إلا أن يطرح نظره إلى أشهر المدائن الإغريقية وإلى بقية الأمم المختلفة التي تتقاسم سطح الأرض، ليرى أن الأمم التي تسكن الأقاليم الباردة حتى في أوروبا هي على العموم مملوءة بالشجاعة، ولكنهم على التحقيق أقل ذكاء في العقل ومهارة في الصناعة، وبهذه المثابة يحتفظون بحريتهم خير احتفاظ، ولكنهم من الجهة السياسية غير قابلين للنظام، ولم يستطيعوا مطلقا أن يقهروا جيرانهم. أما في آسيا فالأمر على ضد ذلك، فإن أممها أكثر ذكاء وقابلية للفنون، ولكنهم تنقصهم قوة القلب، ويصبرون على البقاء تحت نير العبودية المؤبدة.
أما الجنس الإغريقي الذي هو بموقعه الجغرافي وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فإنه يجمع صفات الطرفين ويجمع بين الذكاء والشجاعة، يعرف كيف يجمع بين حفظ الحرية وبين تأليف حكومات غاية في النظام، فهو جدير إذا توحدت كلمته في حكومة واحدة أن يفتح العالم.
40
هذا رأي ثلاثة رجال، أولئك هم أرسطو وأفلاطون وبقراط في عبقرية اليونان، إنهم لم ينفوا عن الإغريق المؤثرات الخارجية التي آثارها أظهر من أن تخفى، ولكنهم اهتموا على الخصوص بالأسباب الأخلاقية، وما ضلوا فيما ذهبوا إليه؛ لأننا نحن الآن أكثر تنورا، بما أصبنا من التجربة الطويلة، لا نستطيع أن نزيد شيئا على هذه الاعتبارات الصادقة المستمدة وجودها بنوع ما من الحس، فلتبق إغريقا إذا ما كانت في العصور الأولى مدفونة في طيات مجدها، ولكن خالدة ما خلدت أعمال الإنسان التي تقع في يوم من الأيام ثم تتلقفها أيدي البلى مهما كان موضعها من الجمال والكمال.
كنت أريد أن أفرغ من هذه المقدمة التي طالت أكثر مما ينبغي، ولكنها من هنا لا تكون كاملة إذا لم أرجع بها إلى الكلام على الكتابين اللذين تتقدمهما، وإذا لم أبسط القول على المسألة الكبرى التي تشبثت بها مدرسة إيليا، تلك المدرسة التي يمثلها إكسينوفان وميليسوس، أعني بها وحدة الموجود وعدم تغيره. وما أدراك ما هي تلك المناقشة التي ثار ثائرها في بداية الفلسفة وقام بها رجال تقلبوا في الأعمال الحيوية من حرب وسياسة وسياحة واستعمار؟ وإذ نراهم فلاسفة ونظريين نراهم جميعا يزاولون المقاصد العملية بهمة مدهشة، وأنى لنا إدراك التوفيق بين الحالين إذا لم نلم بالأخلاق والعادات والضرورات التي كانت في تلك الأزمان المضطربة! كان طاليس في جيش الياط، وكان أحد المؤتمرين في البانيونيوم، وفيثاغورث يجوب البلاد الأجنبية زمنا طويلا على كثرة الأخطار وبعد الشقة، وإكسينوفان الذي نفى نفسه طوعا من وطنه المقهور بالفرس يذهب للانضمام إلى الفوكيين فيما وراء البحار، وميليسوس يدافع عن سموس ضد الآتينيين بعزمة لم يتغلب عليها بيريكليس إلا بعد طول العناء.
أولئك قواد وساسة يشتغلون بما وراء الطبيعة! أمر شديد الندرة دائما! وفوق ذلك فإنهم يظهر عليهم أنهم فنوا في دقة التدليل، تلك الخاصة التي كانت تتهم بها عن بينة مدرسة إيليا. إذا سلمنا بما ذكره أفلاطون في كتابه المسمى «برمينيد» فإن ذلك الانتقاد والتهمة كانا من الصحة بمكان، ولا شك أن من الغريب أن تملك التدقيقات المنطقية على مثل هؤلاء الرجال عقولهم، غير أنه يجب التنبيه إلى أن برمينيد مع كونه تلميذ إكسينوفان وخليفته قد شرع لنفسه طريقا غير طريقه، فمسخ من أفكاره وغلا فيها، وربما كان ذلك أثرا من آثار الروح العامة المنتشرة وقتئذ في إغريقا الكبرى، تلك الروح التي كانت وقتئذ تبدع في صقلية فن الخطابة، والتي غلت في نظريات فيثاغورث على العدد إلى حد الإفراط.
ليست تلك روح إكسينوفان التي تتجلى في المقطوعات التي بقيت لنا من آثاره، وفي الكتاب الذي أترجمه الآن في هذا المجلد. وعلى رأيي أن هذه النقطة هي التي ينبغي أن نوجه النظر إلى الإمعان فيها للإصابة في تقدير قيمة هذه المذاهب الناشئة وقتئذ، والتي لم تكن لتأخذ بعد مركزا ثابتا في العقل الإنساني في بداية هبوبه من سباته.
أول نظرة في الطبيعة التي تحيط بنا تظهر لنا بادئ الأمر وحدة الوجود، وما يكون إلا بعد ذلك بالزمان أن نميز بالجهد والتحليل أجزاء مختلفة في هذا المجموع العام الذي يسحر جلاله أبصارنا ويعيي إدراكنا. ولم تستطع الهند لا قبل الفلسفة الإغريقية ولا بعدها أن تخرج من تأثير فكرة الوحدة، بل فنيت فيها بكليتها، وبقي العلم على المعنى الخاص غريبا عنها على الإطلاق طول حياتها، كان لها نظريات للتهجم فيها نصيب قليل أو كثير، وتصورات للعقل فيها حظ وفير أو ضئيل، كلها قائمة على الأصل العام للأشياء، ولكن لم يكن فيها دراسة خاصة وضعية للظواهر الطبيعية، ذلك هو أساس العبقرية الهندية وعظمتها؛ لا يوجد شيء أكثر من ذلك في الفيدا والبرهمانا والأوبانيشاد، والأناشيد الحماسية والقوانين في الدراسات الفلسفية.
أما العبقرية الإغريقية فإنها اتقت أن تسحرها ظواهر النظرة الأولى في الوجود، ودفعت بذلك الخطر عن نفسها، ولئن كانت قد اتجهت وقتا ما إلى فكرة الوحدة فإنها قد عرفت لحسن الحظ كيف تتخلص منها لتدرس عن قرب دراسة منتجة بعض الأجزاء الأصلية لهذه الوحدة التي ليست في الواقع إلا صورة اللانهاية عينها.
ذلك هو الواقع، حتى إن طاليس حين بحثه في التعبير عن ماهية العالم كان يدرس الأصل المادي الذي تكون منه ، ومع أنه قد أخطأ هذا الأصل الذي ظنه الماء فإنه على كل حال كان يعتمد على ما يشاهد بالحس في الطبيعة ليتعرف أسرار الأشياء؛ يشتغل بالهندسة ويتتبع جريان الكواكب في أفلاكها ما دام أنه كان على وشك أن يتنبأ بكسوف الشمس. وعلى رأي أرسطو، وشهادته قاطعة في هذا المعنى، أن طاليس كان يسلم بأن العالم مملوء بالآلهة القائمة بأمر النفس وبالحركة، وليس فيثاغورث بأقل استمساكا بفكرة الوحدة مع أنه كان يجزئها، ولم تلهه استكشافاته الرياضية والفلكية لحظة واحدة عن النظر في توافق النظام العالمي، فكان يعترف بوجود طوائف متخالفة في هذا النظام، ولكنه مع ذلك يعترف على وجه الخصوص بوحدة عجيبة، وعلى رأيه أن الأضداد اثنين اثنين تكون كلا واحدا يكون أرقى منها، وأن الوحدة هي الأصل الحقيقي في العالم المادي كما هي في العدد، وبذلك ارتقى فيثاغورث إلى تعريف الله دون أن يميزه تمييزا تاما عن العالم الذي ينظمه ويسيره.
أما عند إكسينوفان فإن فكرة وحدانية الله وقدرته هي ظاهرة بغاية الوضوح دون أن يتعمق فيها كما تعمق فيها أفلاطون من بعده، وكما هو الحال على الخصوص في اللاهوت المسيحي، وأظن أن هذه النظرة الأولى في الوحدة الإلهية هي التي ألقت جلالها الباهر وخفاءها في نظريات مدرسة إيليا، وعندى أن ذلك هو الذي يفسر أغلاط هذا المذهب الشريف. إن نظر إكسينوفان لم يكن بعيد المدى - إن شئتم - ولكنه على الأقل لا يضل. أما برمينيد فإنه به ميلا إلى السفسطة التي حملت تلميذه ذنون على أن ينكر الحركة، وحملت غرغياس على تأييد أبعد مذاهب العدمية ضلالا وأقلها تنزها. وأما ميليسوس فإنه لزم الحد الوسط بين الأستاذ صاحب المذهب وبين الذين غلوا به حتى وقعوا في المحال. وإني مقارب بين إكسينوفان وميليسوس وذاكر الفروق الأساسية بينهما على ما يظهر لي: لقد كان إكسينوفان مليئا باحترام هذا المذهب الذي لم يدركه أحد من قبله بمثل ما أدركه هو من الوضوح والجلاء؛ لذلك نفى عنه خيالات الشعراء اللطيفة التي تحط من مقامه كما نفى عنه الأنتروبومورفيزم الجافي الذي هو مذهب العوام «تصور ذات الله تعالى على صورة الإنسان»، تعالى الله عما يصفون من النقائص وعن صور الكائنات الفانية وعن صور هؤلاء التعساء الذين يجعلونه على صورتهم. ليس كمثله شيء في الوجود؛ لأنه لماذا يكون المثيل خالقا بدلا من أن يكون مخلوقا؟
وإن الله الذي لا يمكن أن يأتي من موجود يشابهه لا يمكن من باب أولى أن يأتي من شيء يكون دون مقامه. إذا هو لم يخلق من شيء فيكون بالضرورة أزليا. وأخذا بنتيجة ليست أقل ضرورية من الأولى يكون قديرا على كل شيء، لو كان آلهة متعددون لكانوا أقوى أو أضعف بعضهم من بعض، وعلى ذلك لا يكون إله؛ لأن خاصة الإله أن يملك كل شيء ولا يملكه شيء أيا كان. ولما كان الله أزليا قديرا على كل شيء لزم على ذلك أن يكون واحدا؛ لأنه لو كان له منافسون لما أمكنه أن ينفذ أحكامه ويحقق إرادته العليا.
من ذلك ترى أن في إكسينوفان بعض مبادئ جليلة لم يرفضها اللاهوت المسيحي، بل تقبلها بالعناية قبولا حسنا، ولكن نظر إكسينوفان قد اضطرب في هذه النقطة، وليس في ذلك ما يوجب الاستغراب. ولقد أراد أن ينفذ نظره عن حقيقة الذات الإلهية فأخذه العثار في هذا الطريق الوعر الذي ضل فيه كثير غيره، فإنه يقول: الله الذي لا يشابهه شيء من الحوادث هو على الأقل يشبه ذاته، وهو هو في جميع أجزائه، وهو بكله هو في كل جزء منها. قد يكون ذلك مقبولا، ولكن إكسينوفان لما وقع في الاستعارات التي لا تساوي قيمتها إلا ما تساويه الأنتروبومورفيزم التي انتقدها بحق أخذ يشبه الله بفلك، وكانت النتيجة عنده أن الله لا يمكن أن يكون لا لامتناهيا ولامتناهيا، وأنه لا يمكن أن يكون له حركة ولا سكون، كما أنه لا أول له ولا وسط ولا آخر. ومع ذلك فإن إكسينوفان لم يخدع نفسه في أمر الصعوبات غير المتناهية التي تقف في حل هذه المسألة، ودليل ذلك ما قاله في هذه الأبيات الجميلة التي نقلها إلينا سكستوس أمبيريكوس:
لا أحد من الكائنات الهالكة يستطيع أن يرى جليا في هذه الأعماق، ولن يستطيع أحد أن يعرف حقيقة ماهية الآلهة والعالم، تلك الماهية التي أحاول الكلام عليها؛ فإذا لقي أحد يوما بالمصادفة الحقيقة التامة لما عرف هو نفسه أن يقدر ما وصل إليه منها، وليس في كل ما يقال في هذا الشأن إلا محض تشبيه وتقريب.
والظاهر أن برمينيد لم يتمش بالبحث في هذا الموضوع الكبير إلى الحد الذي وصل إليه أستاذه. وأما ذنون - تلميذ برمينيد وواضع فن الجدل - فإنه، على ما قال ديوجين اللايرثي نقلا عن أرسطو، قد وصل في هذا الموضوع إلى لاأدرية غلا فيها غرغياس إلى أقصى حد، ولكني أكرر أني لا أشتغل بذنون ولا ببرمينيد، بل أتخطاهما إلى ميليسوس؛ فهو الذي أقصد درسه بعد إكسينوفان.
مع أن ميليسوس يفصله عن رئيس المذهب ثلاثة أو أربعة قرون، فإنه أحرص الناس على أن يحذو حذوه ويلتزم تعاليمه، إلا أنه - عوضا عن أن يبقى متمسكا بإله إكسينوفان الواحد الأزلي القادر على كل شيء، بل والمدرك لكل شيء أيضا - زاغ عن الطريق، ووضع الموجود موضع الإله؛ فاشتغل بالموجود آخذا إياه في كل تجرده وفي كل عقمه. غير أن التأملات الميتافيزيقية مهما قل فيها الضبط، فإن ذلك لا يقلل من جمالها ولا من تعمقها الاستثنائي.
الموجود لا يأتي من الموجود وإلا لزم عليه أن يتقدم نفسه وهذا تناقض، ومثل ذلك في التناقض أن يتولد الموجود من المعدوم. على ذلك لم يكن الموجود قد وجد في زمن ما، وعليه يكون الموجود أزليا، وفوق ذلك لا يعتريه الفساد ولا الانتهاء؛ لأنه إما أن يتغير إلى معدوم وهذا محال، وإما أن يتغير إلى موجود آخر وإذن فلا يكون منعدما؛ فالموجود على ذلك كان دائما ويكون دائما، وما دام أنه لم يوجد من العدم فهو لا أول له، وما دام لا يمكن فناؤه فهو لا آخر له، وما دام لا أول له ولا آخر له فهو حتما لامتناه، وما دام لامتناهيا فهو واحد؛ لأن اللانهاية منافية للتعدد ؛ إذ لا يمكن تصور اثنين أو عدة لامتناهية، ومتى كان الموجود أبديا واحدا لامتناهيا كان بالنتيجة غير متحرك ولا قابل للتغير؛ لأنه في أي مكان غير ذاته يمكنه أن يتحرك؟ ولما كان موصوفا بالوحدانية المطلقة فأي تحول أو تبدل أو تغير يمكن أن يلحقه؟ ولو أمكن أن يتبدل بغيره أيا كان لانتفى أن يكون شبيه نفسه، ولانعدمت صورته الأولى وجاءته صورة أخرى.
ومع تقدم الزمن ينعدم هذا الموجود الأبدي واللانهائي ويتحول إلى لاشيء. ولما كان الموجود أبديا لامتناهيا واحدا كان لا يمكن أن يكون له جسم، فلا يمكن أن يكون ماديا؛ لأنه إذا كان ذلك لزم عليه أن يكون ذا أجزاء متميزة بعضها عن بعض، وهذا ينافي وحدانيته وأبديته. لا شيء كائن حقيقة إلا الموجود، وجميع الأشياء التي تؤكد لنا حواسنا وجودها ليست إلا مظاهر خداعة متحولة كثيرا أو قليلا، فهي غير موجودة بالمعنى الخاص ما دامت متغيرة وما دام أنها تهلك بعد أن تولد. أما الموجود الحقيقي فإنه لا يتحول ولا يتغير أبدا، ولو أن الأشياء التي تظهر أمام حواسنا كانت موجودة كما نظنها للزم على ذلك أن تكون غير قابلة للتغير وأبدية كالموجود نفسه، فلا شيء بموجود إلا الوحدة، وأما التعدد فلا وجود له أصلا. أما أنا فإني أجد أفكار ميليسوس هذه خليقة به، وبالمدرسة التي هو أحد أعضائها. ولا شك في أنها متناقضة من بعض الوجوه، ولكننا من خلال هذه الرسوم البالية والمقطوعات القليلة نشعر لها بعظمة وقوة لم يوفهما تاريخ الفلسفة حقهما من حسن التقدير، وربما كان هذا الغمط منذ أرسطو.
وإني أعترف بأن أنكساغوراس مفهوم خير فهم بعد إكسينوفان وميليسوس، فإن أنكساغوراس الذي هو معاصر لقائد سموس (ميليسوس) هو الذي جلا الغوامض عن علم الطبيعة وقواعد نظام الكون في عصره بأن أدخل عليها تلك الفكرة الصالحة: أن العالم يديره العقل المدبر.
ولقد أعجب سقراط بهذا المذهب مع أنه يرى أن أنكساغوراس لم يكن ليستقصي كل نتائجه، كما أننا نعلم ما صرح به أرسطو من الثناء الجميل على أنكساغوراس إذ يقول: لقد جاء أنكساغوراس بعد كثير من الضلالات، أشبه ما يكون برجل سليم العقل يتكلم وسط المجانين.
41
فمن البغي أن ينتقص فضل أنكساغوراس أو أن ينازع فيه بعد ما كان من شهادة سقراط وأرسطو، فإن له الفضل الأوفى في هذا المذهب، وليس شاذا عن المألوف أن كلمة من عبقري تكشف القناع عن المغيبات العلمية. قد يقال إن إكسينوفان وميليسوس هما اللذان وطآ لهذا المذهب بنظرياتهما التي هي أقرب ما يكون منه، ولا مشاحة في ذلك فإن لهما نصيبهما الوافر من ذلك الفضل.
ذلك هو المعنى الحقيقي لمذهب الوحدة في مدرسة إيليا التي طالما حجب من نورها وصغر من قدرها على نسب غير مضبوطة، وما الوحدة الإيلية إلا الله طلبوا معرفته يتلمسونها بين حجب الجهالة الأولى ويدرسونها، كما يمكن أن تدرس في تلك الأزمان؛ إذ العلم والمشاهدة العلمية لا يزالان في بدايتهما. فلم تكن تلك الوحدة قد وصلت بعد إلى ما قرره أنكساغوراس من الإدراك الإلهي ولا ما قرره سقراط وأفلاطون من العناية الربانية. غير أن تقرير تلك الوحدة مع ذلك كان الجرثومة الأولى لكل هذه المذاهب. ومهما يكن من صدق الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى المذهب الذي يرأسه إكسينوفان، فلا شك في أن تلك التوجيهات السليمة هي التي آتته عظمته وخطره في تاريخ الفلسفة.
أقف عند هذا الحد وألخص بيان أوفى تلك المعاني التي جئت على إيضاحها بشيء من الضبط ربما كان أقل مما كنت أريد.
قد ظهر لي أن مجيء الفلسفة إلى عالمنا الغربي حادثة من الخطر بحيث أردت أن أحيطها بكل ما يجلو خفاءها معتمدا في ذلك على استجواب التاريخ عن الأمم وعن الظروف التي اعتورت هذه الحادثة. ومما ينبغي التنبيه إليه أن هذه الحادثة إنما كانت من احتكاك أوروبا بآسيا، وإن كان ذلك قد حصل من قبل في حرب طروادة إلا أن ظروف هذه الحرب مطروحة جانبا لأنها خرافية أو لقلة العلم بها، ذلك الاختلاط حصل في بقعة من الأرض ليس فيها من السعة إلا بمقدار ما يلزم لتحرك الجاليات الإغريقية وفي عصر يعتبر نسبيا عصر توحش، ولكنه كان مملوءا بالخصب الذي لم يتجدد بعد من وقتئذ إلى الآن. على ذلك كانت آسيا الصغرى هي السابقة على آتينا التي فاقتها من بعض الوجوه، كما يشهد بذلك هوميروس، ولكن آسيا التي حملت بهذا الأصل العجيب تحت تأثير أمم غريبة عنه لم تستطع تعهده وإنماءه، فعاد منها يستكمل قوته وكماله إلى الأرض العتيقة التي كان قد خرج منها منذ خمسة أو ستة قرون.
ولقد تصديت فوق ذلك لتبيين أن العبقرية الإغريقية هي التي دانت العالم بهذا النفع العلمي الجليل دون أن تكون مدينة فيه لغيرها، فإذا كانت الشعوب المجاورة لها آتتها شيئا من العلم فما هو إلا مدد مبهم غاية في الإبهام. لا مراء في أن المصريين والكلدان والهنود لهم في ماضي الإنسانية مقام كبير، ولكنهم مع ذلك في الفلسفة أو في العلم بعبارة أعم ليسوا شيئا مذكورا في جانب الإغريق الذين لم يكونوا ليتعلموا منهم. ولقد أثبتت مقارنة اللغات في أيامنا هذه أن لغة الإلياذة ولغة الفيدا كانتا في الأصل لغة واحدة، وأن اللسان الإغريقي والسنسكريت أخوان ولدتهما أم واحدة، ولكنه إذا كان الأصل الذي اطرح في أزمان ما قبل التاريخ واحدا، فإن ما قدر على الأخوين كان مختلفا جد الاختلاف؛ لأن العالم الإغريقي قد أنتج الآداب والعلوم والفنون التي ننسج الآن على منوالها، وشاطر بحظ عظيم في تقدم المدنية المسيحية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، في حين أن العالم الهندي ما أنتج إلا البرهمانية والبوذية، فهو نازل عنا بمراحل على الرغم من المزايا المتعددة التي يكون من الظلم عدم الاعتراف له بها.
بين العالم الإغريقي وبين العالم الهندي تأتي بلاد فارس التي توسطت بين العالمين في المكان كما هي في الزمان، ولكنها لم تشغل مركزا يذكر لها، ولم تستفد منها الإغريق إلا المجد الخالد الذي أحرزه أمثال ملتياد وليونيداس وطيمستوكل والإسكندر.
ومع ذلك فإن الهند وفارس وإغريقا ومصر ويهودة نفسها، مهما كانت الفروق بينها في المعقولات، كلها هي الخمسة فروع متفرعة عن جنس واحد؛ فإن علم أنساب الشعوب ووصفها الذي لا ينبغي أن يكون له أهمية عظمى في هذه الأبحاث، لكنه مع ذلك لا ينبغي أن يغفل أمره فيها قطعا، هذا العلم قد كشف الغطاء عن مشابهة تامة بين هذه الشعوب منطوية تحت فروق في الأخلاق وفي العقل وفي اللغة، وهذا الجنس الرفيع الذي يجمع الخمسة الشعوب المذكورة هو ما يسمونه بالجنس الهندي القوقازي.
وإن الأمم السامية نفسها متفرعة منه أيضا كالأخرى، وإن كانت قابلياتها تخالف قابليات الأخرى على الإطلاق، فهي قوية فيما يتعلق بالدين عقيمة فيما عداه تقريبا، ولكن في هذه العائلة الكبرى الجميلة التي كأنها احتكرت لنفسها الذكاء الحقيقي يقف الإغريق بجملتهم في صفها الأول. وحينما كانوا يسمون من عداهم بالمتوحشين لم تكن كبرياؤهم بالغة في السوء الحد الذي كان يظن بهم.
ومع أنه كان خيرا أن يكونوا أكثر تواضعا، فإن الهلين المدفوعين إلى هذه الكبرياء بدواعي غرائزهم الصادقة لم يكونوا مخدوعين على شرف مقامهم أكثر مما ينبغي. والآن ونحن في وسعنا أن نحكم حكما خلوا من الغرض نقول إنهم أحق من سواهم بقصب السبق. ومهما يكن من حال المستقبل فليس من الهين عليه أن ينزعهم من هذا المقام. أما أنا فلست أتردد في إسناد هذا المجد إليهم، مع أني لا أنكر ما كان لمنافسيهم من العظمة، بل من التفوق في بعض الوجوه، ولكن من الذي يمكننا أن نضعه في حلبة المجد في مستوى فوق مستوى الهلين وقد جاءونا يقدمون بين يدي دعواهم الشعر والآداب والفنون والعلوم والفلسفة والتاريخ؟
ولقد بينت - على مهد الفلسفة الناشئة - مقام مدرسة إيليا وما لإكسينوفان وميليسوس من الأهلية الخاصة بين طاليس وفيثاغورث.
ينبغي أن نكرر أن كل ما نسرده من هذه الحوادث التاريخية إنما هو تاريخنا، ولو كان منذ خمسة وعشرين أو منذ ثلاثين قرنا؛ ذلك بأننا أبناء الإغريق، ولولاهم لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه؛ فإن إغريقا هي التي علمت روما، وبواسطة روما وإغريقا فتحت المسيحية بلادنا ومدنتنا بعد أن انتفعت بكل ما تقدمها ومهد لها السبيل. وإن العلم على جميع صوره كان معدوما في الشرق، فاخترعه الإغريق ونقلوه إلينا.
42
وما كان من روما والعالم الحالي بتمامه منذ إغارة المتوحشين إلا أن اقتفوا هذا الأثر الذي عفا رسمه أحيانا ولكنه لم ينعدم أبدا.
وإني إذ عنيت بإيضاح هذه الآثار الأولى أردت أن أوفي أجدادنا حقهم وأن أذكر بما علينا من الواجب نحوهم بأن بينت مراكزهم وخدماتهم للإنسانية. إن العقل الإنساني بطيء في سيره فيحسن به وهو سائر في طريقه غير المتناهي أن يلقي نظره الوقت بعد الوقت إلى الوراء ليرى من أين ابتدأ سيره وليسدد خطاه في المستقبل غير المحدود الذي ينتظر قدومه!
هوامش
الكتاب الأول
الباب الأول
(ك1 ب1) أخذ فيلوبون يثبت أن هذا الكتاب متصل جد الاتصال بكتاب السماء، ودليله الأصلي في ذلك أن كتاب السماء ينتهي بجملة فيها أداة استدراك لا يوجد معادلها إلا في هذا الكتاب. وهذا الدليل ليس قاطعا جدا، ولكن من المحقق أن مواد الكتابين مرتبط بعضها ببعض أفضل ارتباط، وأن أرسطو بعدما درس السماء والخواص العامة للأجرام اللامتغيرة التي تؤلفها أمكنه أن يفكر في إتمام هذه الدراسة بدراسة الأجسام التي من شأنها في الطبيعة أن تتولد وتهلك تابعة في ذلك قوانين منتظمة. الصلة اللغوية بين الكتابين موجودة كما نبه إليه فيلوبون، ولكن الصلة المنطقية بينهما هي أيضا أحق. ***
لأجل أن ندرك الكون والفساد في الأشياء التي تتولد وتهلك بالطبع يلزمنا - كما هو الحال في البقية - أن نقدر على حدة عللها ونسبها، وسننظر أيضا عند معالجة النمو والاستحالة ما هي كل واحدة من هاتين الظاهرتين، ونبحث ما إذا كان طبع الكون وطبع الاستحالة هما واحدا بعينه أو هما متميزان بالحقيقة كما هما متميزان بالاسم الدال على كليهما؟
1
من القدماء من رأوا أن ما يسمى كونا مطلقا ليس إلا استحالة، والآخرون منهم رأوا أن كون الأشياء واستحالتها ظاهرتان مختلفتان؛ فالذين يزعمون أن العالم كل ذو صورة واحدة ويجعلون الأشياء كلها تخرج من مبدأ واحد بعينه هؤلاء يلزمهم بالضرورة أن يروا الكون مجرد استحالة، وأن يفترضوا أن ما يولد بالمعنى الخاص إنما هو يستحيل. وعلى ضد ذلك الذين يسلمون بأن المادة تتألف من أكثر من عنصر واحد كأمبيدقل وأنكساغوراس ولوكيبس. هؤلاء يجب أن يكون لهم رأي مضاد للأول تماما.
2
ومع ذلك فإن أنكساغوراس في هذا قد نكر التعبير الخاص وغلب في لغته الخلط بين ولد وهلك وبين تغير. على أنه يعترف بتعدد العناصر كما يفعل فلاسفة آخرون. كذلك قال أمبيدقل إن عناصر الأجسام كانت أربعة، وإنه بإضافة العنصرين المحركين يكون المجموع ستة عناصر. أما أنكساغوراس فإنه ارتأى أنها غير متناهية في العدد كما كان يرى لوكيبس وديمقريطس. والواقع أن أنكساغوراس كان يعتبر عناصر الأجسام المركبة من أجزاء متماثلة؛ المتشابهة الأجزاء، مثل العظم واللحم والنخاع وجميع المواد الأخرى التي كل جزء منها مرادف للكل.
3
ويزعم ديمقريطس ولوكيبس أن جميع الأجسام مركبة في البداية من أجزاء لا تتجزأ أو ذرات، وهي غير متناهية لا في عددها ولا في أشكالها، وأن الأجسام لا تختلف في أصلها بعضها عن بعض إلا بالعناصر التي تتركب منها وبوضع هذه العناصر وترتيبها.
4
ويظهر هنا أن أنكساغوراس من رأي معارض لرأي أمبيدقل؛ لأن هذا الأخير يقول بأن النار والماء والهواء والأرض هي الأربعة العناصر، وأنها أبسط من اللحم أو العظم أو أي عنصر آخر من العناصر المتشابهة فيما بينها أو الأجسام المتشابهة الأجزاء. ولكن أنكساغوراس على الضد من ذلك يزعم أن الأجسام المتشابهة الأجزاء هي بسيطة، وأنها هي العناصر الحقيقية بينما أن الأرض والنار والهواء مركبة، وأن جراثيم العناصر منتشرة في كل مكان.
5
على ذلك متى أدعي أن جميع الأشياء تخرج من عنصر واحد لا غير لزم ضرورة اعتبار كون الأشياء وفسادها كمجرد استحالة، فيكون إذن الموضوع للظواهر دائما واحدا ودائما هو بعينه. فإنما على موضوع من هذا القبيل يمكن أن يقال إنه يعاني استحالة ، ولكن متى سلم بأنواع متعددة للجواهر وجب التسليم أيضا بأن الاستحالة تخالف الكون؛ لأن كون الأشياء وفسادها حينئذ يحصلان باتحاد العناصر أو بافتراقها.
6
وفي هذا المعنى أمكن لأمبيدقل أن يقول:
ليس لشيء من طبع ثابت، وما الكل إلا اختلاط وافتراق.
هذا تعبير - كما يرى - يلائم تماما فرض هؤلاء الفلاسفة، وتلك هي أيضا طريقة تعبيرهم. وإذن فإن هؤلاء الفلاسفة أنفسهم مضطرون إلى الاعتراف بأن الاستحالة أمر مخالف للكون، ومع ذلك فإن من المحال أن توجد استحالة حقيقية على حسب المبادئ التي يقررونها. على أنه من السهل الاقتناع بصحة الرأي الذي نقرره هنا. فالواقع أنه كما أن الجوهر في حال السكون نجده يعتريه في ذاته تغير في العظم يسمى النمو والنقص كذلك أيضا، يمكننا أن نشاهد فيه الاستحالة.
7
ولكن من جهة أخرى ليس أقل من ذلك في باب المحال إيضاح الاستحالة على حسب ما يقوله الذين يسلمون بأكثر من عنصر واحد؛ لأن التأثرات التي تجعلنا نقول بوجود الاستحالة هي فصول للعناصر، أريد أن أقول، الحار والبارد، والأبيض والأسود، والجاف والرطب، واللين والصلب، وجميع الخواص الأخرى المشابهة كما يقوله أيضا أمبيدقل: الشمس في كل مكان بيضاء مملوءة بالحرارة، وفي كل مكان المطر ينشر غشاءه وبرده.
8
إنه يقرر المميزات عينها لسائر الأشياء، وينتج من ذلك أنه إذا كان الماء لا يخرج من النار، ولا الأرض من الماء؛ فإن الأسود لا يمكن أن يخرج من الأبيض، ولا الصلب من اللين. وهذا التدليل بعينه قد ينطبق على جميع التغيرات الأخرى، وهذا بالضبط إذن ما كان يعني بالاستحالة.
ولكن أليس من البين أنه يلزم دائما افتراض وجود مادة واحدة لا غير لأجل الأضداد، سواء أتغيرت بالنقلة في الأين أم تغيرت بالنمو أو النقص أم تغيرت بالاستحالة؟ يلزم ألا يكون إلا عنصر واحد ومادة واحدة بعينها لأجل جميع الكيوف التي تتبدل بعضها ببعض. وإذا كان العنصر واحدا فهناك أيضا استحالة.
9
وعلى ذلك يظهر لنا أن أمبيدقل يناقض الحوادث الأكثر واقعية ويناقض نفسه معا؛ لأنه يزعم معا أن العناصر لا يمكن أن يجيء بعضها من البعض الآخر، بل على الضد يأتي منها سائر الأشياء، وفي الوقت عينه بعد أن رد إلى الوحدة الطبيعية كلها كاملة ما عدا التنافر، قد استخرج بعد ذلك كل شيء من الوحدة التي تخيلها. فعلى رأيه الأشياء بانفصالها عن هذه الوحدة العنصرية بواسطة بعض فصول وبعض تغايير، فهذا الشيء بعينه صار ماء وآخر صار نارا. وبهذه المثابة يسمي الشمس بيضاء حارة والأرض كثيفة صلبة. ولكن متى محيت هذه الفصول، ويمكن أن تمحى ما دامت متولدة في وقت بعينه، أمكن للأرض بالبداهة أن تلاقى إذن من الماء كما يمكن أيضا للماء أن يأتي من الأرض. كذلك الحال بالنسبة لجميع الأشياء الأخرى التي جرى عليها التحول والتغير، لا في الزمن الذي يتكلم عنه فقط، بل التي تتغير أيضا في هذا اليوم.
10
زد على ذلك أن في مذهب أمبيدقل توجد مبادئ منها يمكن أن تتولد الأشياء وتنفصل من جديد، وعلى الخصوص متى سلمنا بالتنازع الأبدي المتبادل بين التنافر والعشق، فانظر كيف أن الأشياء فيما يظهر تتولد إذن من مبدأ واحد؛ لأن النار والماء والأرض وهي لا تزال مجتمعة لم تكن لتكون كل العالم، ولكنه بهذه النظرية لا يعرف إن كان يلزم الاعتراف بأن لهن مبدأ واحدا أو مبادئ متعددة، وأعني بهن الأرض والنار والعناصر التي من هذا القبيل؛ ذلك بأنه في الواقع من جهة ما يفترض كمادة مبدأ منه تأتي الأرض والنار متغيرتين بالحركة المتحصلة فإنه لا يوجد إذن إلا عنصر واحد لا غير، ولكن من جهة أن هذا العنصر عينه هو متحصل من اجتماع هذه الجواهر التي تتحد ينتج أن هذه الجواهر قبل اجتماعها هي ذواتها أشد عنصرية وسابقة بطبيعتها.
11
ولكن يلزمنا في دورنا أن نتكلم بطريقة عامة على كون الأشياء وفسادها على معناهما المطلق، وسنعيد البحث فيما إذا كان هذا الكون أو لم يكن، وسنقول كيف يكون هو. ثم نتكلم أيضا على الحركات البسيطة كالنمو والاستحالة.
12
هوامش
الباب الثاني
لم يدرس إذن أفلاطون الكون والفساد إلا من حيث طريقة وجودهما بالأشياء، بل لم يكن ليدرس الكون في كل عمومه، بل اقتصر على كون العناصر. ولم يقل شيئا على تكون جميع الأجسام التي هي من جنس اللحم والعظم وسائر الأجسام المتشابهة لها، ولم يتكلم عن الاستحالة ولا على النمو، ولم يبين كيفية إدراكه إياهما في الموجودات.
1
على أنه يمكن الجزم بأنه لم يتكلم أحد على هذه الموضوعات إلا بطريقة سطحية جدا ما عدا ديمقريطس؛ فإنه يظهر أنه فكر في كل المسائل، ولكنه يخالفنا في إيضاح الطريقة التي بها تحدث الأشياء. ولم يفكر أحد كما قلنا آنفا في إيضاح النمو إلا ما ربما يكون على المعنى الذي تفهم الكافة به هذه الظاهرة؛ أعني بأن يقال إن الأجسام تنمو لأن الشبيه يأتي فينضاف إلى الشبيه. أما كيف تحصل هذه الظاهرة فذلك ما لم يوضحه أحد ألبتة حتى الآن.
2
ومع ذلك، فلم تدرس أيضا بعد مسألة الاختلاط ولا أية واحدة من المسائل التي من هذا القبيل، ولا مثلا مسألة معرفة كيف تفعل الأشياء وتنفعل، وكيف أن شيئا بعينه يفعل الأحداث الطبيعية وآخر بعينه ينفعل بها.
3
لما لم يهتم ديمقريطس ولوكيبس إلا بصور العناصر استخرجا منها استحالة الأشياء وكونها. وعلى هذا فمن انقسام الذرات ومن اتحادها يأتي الكون والفساد، ومن ترتيب الذرات ووضعها تأتي الاستحالة. ولكن لما كان هؤلاء الفلاسفة يحسبون الحقيقة في مجرد الظاهر، وكانت الظواهر متضادة ولامتناهية بالعدد معا اضطروا أن يجعلوا أشكال الذرات لامتناهية أيضا بحيث إن الشيء الواحد يمكن أن يظهر ضد ما هو لنظر هذا الرائي أو ذلك تبعا لتغيرات وضعه، ويظهر متغير الصورة بمجرد أن تختلط به أو تزاد عليه أصغر جزئية أجنبية. ويظهر أنه صار غير ذاته جملة بتغير موضع جزء واحد من أجزائه. ذلك كما أنه يمكن أن تستخدم الحروف بعينها لتأليف مأساة أو فكاهة حسبما يختار.
4
ولكن لما كان كل الناس من غير استثناء تقريبا يعتقد بوجه العموم أن كون الأشياء واستحالتها هما ظاهرتان مختلفتان جدا، وأن الأشياء لتكون أو لتفسد يجب أن تتحد أو تنفصل في حين أنها تستحيل بتغيرات في خواصها، وجب علينا من أجل ذلك أن نقف على هذه المسائل التي يعرض منها في الواقع صعوبات حقيقية متعددة. إذا لم يجعل كون الأشياء - مثلا - إلا اتحادا فإن لهذه النظرية طائفة من النتائج غير القابلة للتأييد، ولكن هناك براهين أخرى قاطعة على صحة المعنى المضاد، ومن الصعب جدا نقضها، تثبت أن كون الأشياء لا يمكن أن يكون شيئا آخر إلا مجرد اتحاد، وأنه إذا كان الكون ليس اتحادا فمن ثم لا يوجد كون أصلا، وأنه ليس إلا استحالة. لذلك يجب أن نعالج حل هذه الصعوبات مهما كانت خطورتها.
5
النقطة الأصلية في ابتداء هذه المناقشة هي معرفة ما إذا كانت الأشياء تكون وتستحيل وتنمو أو تعاني الظواهر المضادة لهذه الظواهر بسبب وجود ذرات، أعني أعظاما أولية غير قابلة للقسمة، أو ما إذا كان لا يوجد أصلا أعظام غير قابلة للقسمة. هذه النظرية هي من الخطورة بالمكان الأعلى. ومن جهة أخرى بفرض وجود الذرات يمكن أن يتساءل أيضا عما إذا كانت - كما يريد ديمقريطس ولوكيبس - هذه الأعظام غير المنقسمة هي أجسامنا، أو ما إذا كانت مجرد سطوح كما ذكر في طيماوس.
6
ولكن من غير المعقول، كما بينا في غير هذا الموضع، أن نجاوز بتحليل الأجسام إلى حد تصييرها سطوحا. وعلى ذلك يكون أقرب إلى المعقول بأن الذرات هي أجسام. على أني لأعترف أن هذا الرأي هو أيضا قليل الشبه بالمعقول. ومع ذلك يمكن في هذا المذهب كما قد قيل أن تفسر استحالة الأشياء وكونها بتبدل الجسم الواحد تبعا لدورانه أو لتماسه أو تبعا لاختلاف أشكاله. ذلك ما يفعل ديمقريطس، وهذا هو الذي أدى به إلى إنكار حقيقة اللون ما دام اللون في عرفه إنما يكون من حركة الأجسام حول مركزها. ولكن الذين يقبلون قسمة الأجسام إلى سطوح أولئك لا يمكنهم بعد ذلك أن يدركوا اللون؛ لأنه بجمع السطوح ذوات السعة بعضها مع بعض يمكن الوصول فقط إلى تكوين جوامد، ولكن لا يمكن الوصول إلى إيجاد أي كيف جسماني.
7
والسبب الذي جعل هؤلاء الفلاسفة يرون - أقل من الآخرين - الظواهر التي هي محل وفاق بين الناس جميعا هو عدم المشاهدة. وعلى ضد ذلك الذين استزادوا من فحص الطبيعة، أولئك أحسن حالا في استكشاف هذه المبادئ التي يمكن أن تنسحب بعد على حوادث ما أكثر عددها. ولكن هؤلاء الذين هم تائهون في نظريات معقدة لا يلاحظون الأحداث الواقعة، وليست أعينهم موجهة إلا إلى عدد قليل من الظواهر، وهم يحكمون بسهولة كبرى.
8
ها هنا أيضا يمكن أن يرى كل الفرق الذي يفرق بين الدراسة الحقة للطبيعة وبين دراسة منطقية محضة؛ لأن هؤلاء الفلاسفة من أجل أن يبينوا مثلا أنه يوجد ذرات أو أعظام غير قابلة للقسمة يدعون أنه إذا لم تكن تلك الذرات فإن المثلث نفسه - المثل الأعلى للمثلث - يكون مؤلفا مع أن ديمقريطس في هذه المسألة يظهر أنه لم يعول في حلها إلا على دراسات خصوصية وطبيعية محضة. ومع ذلك فإن ما سيلي من هذه المناقشة سيبين لنا ما نريد أن نقول بأوضح من ذلك.
9
من الصعوبة الكبرى افتراض أن الجسم يوجد، وأنه عظم قابل للقسمة إلى ما لا نهاية، وأنه من الممكن تحقيق هذه القسمة، فماذا يبقى في الواقع في الجسم الذي يمكن أن يخلص من قسمة كهذه؟ فإذا افترض أن شيئا قابلا للقسمة مطلقا وأنه حقيقة قسمته هكذا، فلا يكون من المحال في شيء أنه أمكن قسمته مطلقا مع أنه لم يقسم في الواقع ولا أنه قد قسم فعلا، والأمر كذلك إذن فيما إذا يقسم الشيء بالنصف. وعلى العموم لو أن شيئا قابلا بالطبع للقسمة إلى اللانهاية قد قسم لما كان ذلك محالا ألبتة، كما لا يكون محالا أن يفترض إمكان قسمته عشرة آلاف مرة مضروبة في عشرة آلاف مع أنه لا أحد يستطيع المجاوزة بالقسمة إلى هذا الحد.
10
ما دام الجسم معتبرا أنه حائز لهذه الخاصة، فلنسلم أنه يمكن قسمته مطلقا على هذا النحو، ولكن إذن ماذا يبقى بعد هذه التقاسيم؟ هل سيكون عظما؟ لكن ذلك غير ممكن؛ لأنه إذا يوجد شيء فر من عملية التقسيم وكان الفرض - على الضد - أن الجسم قابل للقسمة من غير أي حد ومطلقا. ولكنه إذا لم يبق جسم ولا عظم وظلت القسمة مستمرة، فإما أن القسمة لا تقع إلا على نقط، وإذن تصير العناصر التي تركب الجسم عديمة العظم، وإما ألا يبقى هناك شيء أصلا.
11
ينتج من ذلك أنه، سواء أكان الجسم يأتي من لاشيء أم يؤلف من أجزاء، فالأمر على الحالين تصيير الكل إلى ألا يكون إلا ظاهرا، حتى مع التسليم بأن الجسم يمكن أن يأتي من نقط، فلا يكون هناك أيضا كم. وفي الواقع لو أن هذه النقط كانت تتماس لتؤلف عظما واحدا، وأن العظم كان واحدا، وأنها كلها فيه؛ فإن جميع هذه النقط المجتمعة ما كانت لتجعل الكل أكبر؛ لأن الكل بانقسامه إلى نقطتين أو عدة لا يكون لا أكبر ولا أصغر من ذي قبل، بحيث إنه مهما جمع من تلك النقط فلا يمكن الوصول أبدا إلى تأليف عظم حقيقي منها.
12
إذا قيل إنه يوصل بالقسمة إلى ألا يحصل منها إلا كنشارة الجسم فحتى على هذا الفرض لا بد من أن الجسم يأتي من عظم أيا كان، وتبقى المسألة كما كانت، وهي كيف أن هذا الجسم الأخير قابل للقسمة في دوره، فإذا قيل إن ما انفصل ليس جسما بل هو صورة ما قابلة للانفصال أو خاصة ما، فينتج من ذلك أن العظم يتحول إلى نقط وإلى تماسات محولة بهذه الطريقة. وإذن يكون من غير المعقول الاعتقاد بأن العظم يمكن أبدا أن يأتي من أشياء ليست عظاما.
13
ولكن فوق ذلك في أي مكان تكون هذه النقط سواء افترضت عديمة الحركة أم افترضت متحركة؟ إنه لا يوجد أبدا إلا تماس واحد بين شيئين، فلا بد أيضا من افتراض أنه يوجد شيء ليس هو التماس ولا القسمة ولا النقطة.
14
لو قبل إذن أن كل جسم أيا كان مهما كان امتداده يمكن دائما أن يقبل القسمة مطلقا ، لكانت تلك هي النتائج التي يوصل إليها.
من جهة أخرى إذا أمكنني بعد القسمة أن أركب الخشب الذي نشرته أو أية مادة أخرى بأن أعيد إليها وحدتها الأولى، وأن أجعلها مثلما كانت تماما، فمن الواضح أني أستطيع أن أفعل ذلك في أية نقطة بلغتها في كسري الخشب. إذن فبالقوة الجسم قابل دائما للقسمة مطلقا وبدون حد. ماذا يوجد إذن ها هنا خارجا عن القسمة وبمعزل عنها إذا قيل إنها خاصة للجسم؟ يمكن دائما أن يسأل كيف أن الجسم يتحلل إلى خواص من هذا القبيل؟ وكيف يمكن أن يتألف منها؟ وكيف أن هذه الخواص يمكن أن تنفصل عن الجسم.
15
إذا كان إذن محالا أن الأعظام تتكون من مجرد تماسات أو فقط؛ فإنه يلزم ضرورة أن يوجد أجسام وأعظام لا تتجزأ. ولكن هذا الافتراض عينه للذرات يخلق مجالا لا يمكن تخطيه، ولو أن هذه المسألة قد فحصت في غير هذا الموضع إلا أنه يلزم أن يحاول حلها هنا أيضا. وللوصول إلى ذلك يلزم أخذها من جديد بتمامها من البداية.
16
نقول إذن بادئ بدء إنه ليس من غير المعقول في شيء تقرير أن كل جسم محسوس هو معا قابل للقسمة وغير قابل للقسمة في نقطة ما، ما دام أنه يمكن أن يكون قابلا للقسمة بالقوة المجردة وغير قابل للقسمة بالفعل. ولكن الذي يظهر أنه محال تماما هو أن جسما يكون قابلا للقسمة وغير قابل لها معا بالقوة؛ لأنه إذا كان ذلك ممكنا فلا يكون أبدا بهذا الوجه أن الجسم يجمع بين الخاصتين بأن يكون غير قابل للقسمة وقابلا لها معا بالفعل. بل إنه يكون فقط قابلا للقسمة بالفعل في نقطة ما؛ وإذن لا يبقى منه شيء مطلقا، ويتحول الجسم إلى شيء غير جسماني. ومع التسليم بأنه يمكنه أن يكون ثانية إما بأن يأتي من النقط أو أن لا يأتي من شيء أبدا على الإطلاق، فكيف يصير كون الجسم من جديد ممكنا؟
17
أما ما هو بين، فهو أن الجسم ينقسم بالفعل إلى أجزاء متميزة ومنفصلة وإلى أعظام أصغر فأصغر دائما تتباعد بعضها عن بعض وتنعزل. ولكن من المحقق أيضا أن هذه التجزئة البعضية لا يمكن أن يجاوز بها إلى اللانهاية، وأنه ليس من الممكن أيضا قسمة الجسم في أية نقطة ما؛ لأن هذه القسمة غير المحدودة ليست ممكنة الإجراء، ولا يمكن أن تتمشى إلى حد معين.
18
يلزم إذن أن توجد ذرات أو أعظام لا تتجزأ، خصوصا إذا سلم أن كون الأشياء وفسادها يحصلان أحدهما بالتفرق والآخر بالاجتماع، ذلك هو الاستدلال الذي يظهر أنه يبين ضرورة وجود الأعظام غير القابلة للقسمة أو الذرات. ونحن نتكفل بإثبات أن هذا الاستدلال يرتكز من حيث لا يشعر على سفسطة مستورة بستار سنكشفه عنها.
19
كما أن النقطة لا تتصل بالنقطة فقابلية القسمة المطلقة تكون من جهة متعلقة بالأعظام ومن جهة أخرى غير متعلقة بها. ومن يسلم بهذه النظرية يظهر أنه يسلم أيضا بأنه لا يوجد بعد إلا النقطة التي هي في كل مكان وفي كل اتجاه، وبنتيجة ضرورية فإن العظم بالتجزئة يصير لا شيء؛ لأن النقطة ما دامت في كل مكان فالجسم لا يمكن أن يتركب إلا من التماسات أو من النقط.
20
وحينئذ فمعنى هذا هو الرجوع إلى القول بأن الجسم قابل للقسمة مطلقا ما دام يوجد في كل محل نقطة ما، وأن كل النقط مجتمعة هي ككل واحدة منها على حدة، وأنه في الواقع لا يوجد أكثر من واحدة؛ لأن النقط ليست متتابعة بعضها لبعض. والنتيجة أيضا أن الجسم ليس قابلا للقسمة مطلقا؛ لأنه إذا كان الجسم قابلا للقسمة في وسطه فإنه يكون قابلا لها في النقطة التي تتصل بهذا الوسط. ولكن الآن غير متصل بالآن كما أن النقطة لا تتصل بالنقطة. على أنه في هذا تنحصر قسمة الأجسام وتركيبها بحيث إنه يوجد أيضا اجتماع وافتراق للأجزاء. ولكن الجسم مع ذلك لا يتحول إلى ذرات، وإنه لا يأتي من ذرات. تلك النظرية التي تشمل صعوبات عديدة لا يمكن حلها. كذلك لا يمكن أن يتركب الجسم بطريقة بها تكون التجزئة ممكنة لا إلى حد ما. فإذا كانت النقطة تتبع في الواقع النقطة كان الأمر كذلك، ولكن الجسم ينحل إلى أجزاء متدرجة في الصغر، وإن الاتحاد حصل بين أصغر الأجزاء.
21
الكون المطلق الكامل للأشياء لا يقصر كما زعموا على اجتماع العناصر وتفرقها، كما أن الاستحالة ليست مجرد تغير في الكتلة، بل ذلك خطأ تام يقع فيه كل الناس. ونكرر مرة أخرى أنه لا يوجد كون وفساد مطلقان للأشياء باجتماع العناصر وافتراقها، إنما يوجدان فقط متى يتغير شيء بكله عندما يأتي من شيء آخر بعينه.
22
وقد يظن أيضا أن الاستحالة هي تغير ما من هذا القبيل، ولكن ها هنا فرقا عظيما، فإن في الموضوع جزءا يرجع إلى الكنه وجزءا يرجع إلى المادة، فمتى فقط حصل التغير في هذين الأمرين، فهناك حقا كون وفساد. ولا يكون إلا مجرد استحالة متى حصل التغير في الخواص والكيوف العارضة للشيء.
23
فما هو إلا بافتراق الأشياء وباجتماعها أنها تصير قابلة للفساد بسهولة، مثال ذلك متى تجزأ الماء إلى نقيطات صغيرات تتحول بأسرع ما يكون إلى هواء، في حين أنها إذا بقيت كتلة تصير هواء بأبطأ من ذلك.
24
على أن هذا سيتضح فيما يلي. ولكن ها هنا أردنا فقط إثبات أن من المحال أن يكون كون الأشياء مجرد تأليف كما زعم بعض الفلاسفة.
25
هوامش
الباب الثالث
متى تقرر هذا يلزم البحث أولا فيما إذا كان يوجد في الواقع شيء يولد ويموت بطريقة مطلقة أو ما إذا كان لا يوجد شيء يولد ويموت بالمعنى الخاص. وفي هذه الحالة يلزم فحص ما إذا كان أي شيء ما لا يأتي دائما من شيء آخر هو يخرج منه؛ مثال ذلك من المريض يأتي الصحيح ومن الصحيح يأتي المريض، أو كالصغير يأتي من الكبير والكبير يأتي من الصغير، وكل الأشياء بلا استثناء «تكون» بهذه الطريقة عينها. إذا سلم بكون مطلق يلزم حينئذ أن الموجود يأتي مطلقا من اللاموجود؛ أي من العدم، بحيث يحق التأكيد بأن العدم يتعلق ببعض الموجودات. والكون الإضافي يمكن أن يأتي من لا موجود إضافي، ومثال ذلك الأبيض يمكن أن يأتي من اللاأبيض أو الجميل يأتي من اللاجميل. لكن الكون المطلق يجب أن يأتي من اللاوجود المطلق.
1
حينئذ المطلق ها هنا يدل إما على الأولي في كل مقولة للموجود، وإما على الكلي؛ أعني الذي يشمل ويحوي كل شيء. فإذا كان الأولي هو مدلول المطلق فهناك كون للجهورات مما هو ليس بجوهر، ولكن ما ليس له جوهرية وما ليس ألبتة شيئا معينا بذاته لا يمكنه بالبداهة أن يكون لأي واحدة أخرى من المقولات كالكيف والكم والأين ... إلخ؛ لأنه حينئذ يكون معناه التسليم بأن كيوف الجواهر يمكن أن تنفصل عنها؛ فإذا كان اللاموجود هو بصورة عامة مدلول المطلق، فذلك هو النفي الكلي لجميع الأشياء، وعلى ذلك فما يولد وما يكون يلزم ضرورة أن يولد من لاشيء.
2
على أننا قد تكلمنا على هذا الموضوع في موضع آخر وبحثناه بأطول من ذلك، ولكننا نلخص ها هنا فكرتنا ونقول في قليل من الكلمات أن من وجه يمكن أن يوجد كون مطلق لشيء آت من العدم اللاوجود، ومن وجه آخر لا شيء يمكن أبدا أن يأتي إلا مما هو موجود. ذلك في الحق أن ما هو بمجرد القوة وليس بالفعل يجب أن «يكون» أولا وبالضرورة على الوجهين اللذين بيناهما آنفا، ولكنه لا بد مع ذلك من العناية الكبرى في فحص هذه المسألة التي يمكن أن صعوبتها تدهشنا حتى بعد الإيضاحات التي أسلفناها، وتلك المسألة هي كيف أن الكون المطلق يحصل، سواء أكان يأتي مما هو بالقوة أم يأتي بأي وجه آخر.
3
يمكن البحث في الحق فيما إذا كان يوجد فقط كون للجوهر ولشيء معين بالفعل، أو ما إذا كان لا يوجد أيضا كون للكيف وللكم وللأين ... إلخ. وهذه الأسئلة عينها توجه على السواء بالنسبة إلى الفساد. وإنه إذا كان بالفعل شيء يكون أو يولد فمن الواضح أنه يجب وجود جوهر ما بالقوة على الأقل إن لم يكن بالفعل، وبالكمال منه يخرج كون الشيء، وفيه يتغير بالضرورة متى فسد.
4
هل من الممكن أن واحدة من المقولات الأخرى التي هي بالفعل وبالكمال المحض تتعلق بهذا الموجود بالقوة؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن تطبيق معاني الكيف والكم والأين على هذا الذي ليس شيئا إلا بالقوة وبالقوة فقط بدون أن يكون شيئا بذاته بطريقة مطلقة حتى ولا أن يكون مطلقا أبدا؟ لأنه إذا كان هذا الموجود ليس أي شيء بالفعل ولكنه كل الأشياء بالقوة، فإن اللاموجود المفهوم على هذا النحو يمكن أن يكون ذا وجود منفصل، وحينئذ يوصل إلى هذه النتيجة التي هابها الفلاسفة الأولون أكثر من كل شيء، وهي إيجاد الأشياء من العدم المحض، ولكنه إذا لم يسلم أن هذا يكون موجودا حقيقيا أو جوهرا، وأنه شيء آخر من المقولات المذكورة، فحينئذ يفرض كما قلنا آنفا أن الكيفيات والأعراض يمكن أن تكون منفصلة عن الجواهر.
5
تلك هي النظريات التي يلزم مناقشتها هنا بالقدر المناسب، كما أنه يلزمنا البحث عما هي العلة التي تجعل كون الموجودات أبديا، سواء الكون المطلق أو الكون البعضي، ما دام لا يوجد على رأينا إلا علة واحدة أو حد منها ينبعث مبدأ الحركة، وما دام لا يوجد أيضا إلا مادة واحدة أو حد يلزم إيضاح ما هي العلة.
6
ولكنا سبق بنا أن تكلمنا عليها في كتابنا «الحركة»؛ إذ قررنا فيه أنه يوجد من جهة شيء غير متحرك طول الأبد كله ومن جهة أخرى شيء على ضد ذلك واقع في حركة أبدية. فدراسة المبدأ غير المتحرك للأشياء تتعلق بفلسفة أخرى عليا. وأما المحرك الذي يحرك كل البقية لأنه هو نفسه قد حرك بحركة مستمرة، فإننا سنتكلم عليه فيما بعد عندما نوضح ما هي علة كل واحدة من الظواهر الخاصة. وهنا نقتصر على علاج هذه العلة التي تظهر بصورة مادة، والتي تجعل أن كون الأشياء وفسادها لا يتخلفان في الطبيعة. ولكن هذه المناقشة قد تجلو أيضا الشك الذي أثرناه آنفا، وسيرى كيف ينبغي أن يعنى أيضا بالفساد المطلق وبمطلق كون الأشياء.
7
ومع ذلك فإنها مسألة محيرة أن يعرف ماذا عسى أن تكون العلة التي تدبر وتسلسل تناسل الأشياء إذا فرضنا أن ما يفسد يرجع إلى العدم، وأن اللاوجود ليس شيئا؛ لأن ما ليس موجودا ليس جوهرا ولا كيفا ولا كما ولا أينا ... إلخ؛ لأنه حينئذ ما دام في كل آن واحد من الكائنات يبيد وينعدم كيف يتأتى أن العالم بتمامه لم يكن قد فني منذ زمان طويل ألف مرة إذا كان المنبع الذي يأتي منه كل واحد من هذه الكائنات محدودا ومتناهيا؟ في الحق إذا كان هذا التوارث الأبدي لا ينقطع ألبتة فليس ذلك بأن الينبوع الذي تصدر منه الكائنات يكون غير متناه؛ لأن ذلك محال تماما ما دام أنه في الواقع لا شيء غير متناه. وإنه إنما يكون فقط بالقوة أن شيئا يمكن أن يكون غير متناه في القسمة، وقد وضحنا أن القسمة هي وحدها محل عدم الانقطاع وعدم الفوات؛ لأنه يمكن دائما الحصول على كمية أضعف فأضعف. ولكنا ها هنا لا نرى وجها للمشابهة. أفلا تصير أبدية التعاقب ضرورية بهذا السبب وحده أن فساد شيء هو كون شيء آخر، وأن العكس بالعكس: كون هذا موت ذلك أو فساده؟
8
وبهذا تلغى علة يمكنها أن تكفي لتوضيح كل شيء بالنسبة لكون الأشياء وفسادها، ها هنا في عمومها، وهناك في كل فرد من الكائنات بخصوصه، على أنه مع هذا يلزم البحث في أنه لماذا عند الكلام على بعض الأشياء يقال بطريقة مطلقة إنها تكون وتهلك، في حين أنه عند الكلام على بعض أشياء أخرى لا يقال ذلك على إطلاقه، إذن كان حقا أن كون موجود بعينه هو عين فساد آخر، وإذن كان العكس بالعكس؛ فساد هذا هو كون لذاك.
9
هذا التباين في التعبير يقتضي أيضا أن يفسر ما دام أننا نقول عن كائن في حالة بعينها إنه فسد مطلقا لا أنه فسد من وجه بعينه فقط، وما دمنا نصرف الكون إلى معنى مطلق كما نصرف الفساد سواء بسواء. على ذلك فشيء بعينه يصير شيئا آخر بعينه، ولكنه لا يصير على الإطلاق. انظر مثلا كيف نقول عن شخص يتعلم إنه يصير عالما ، ولكننا لا نقول من أجل ذلك إنه يصير ويكون على الإطلاق. وبادكار ما قلناه غالبا من أن بعض الأسماء تدل على جوهر حقيقي والبعض الآخر لا يدل عليه يمكن معرفة من أين تأتي المسألة المطروحة ها هنا؛ لأنه يهم كثيرا أن يعين فيم يتغير الشيء الذي يتغير، مثال ذلك تحول الشيء الذي يصير نارا يمكن أن يسمى كونا مطلقا، ولكن أيضا فسادا لشيء للأرض مثلا. وكذلك كون الأرض هو بلا شك أيضا كون، ولكنه ليس كونا مطلقا مع أنه فساد مطلق، ومثلا فساد النار.
10
بهذا المعنى كان برمينيد لا يعترف إلا بشيئين في الدنيا؛ الموجود واللاموجود، وهما عنده النار والأرض، على أنه ليس من المهم افتراض هذه العناصر أو عناصر أخرى مشابهة لها؛ لأننا لا نبحث إلا في الطريقة التي بها تحصل الظواهر لا في موضوعها. إذن التغيير الذي يوصل الأشياء إلى اللاوجود المطلق إنما هو فساد مطلق، وبالعكس ما يوصلها مطلقا إلى الوجود هو كون مطلق. ولكن مهما كانت الجواهر التي يعتبر فيها الكون والفساد، سواء النار أو الأرض أو عنصر آخر مشابه؛ فإن الكون والفساد لا يزالان أحدهما للوجود والآخر للاوجود.
11
هذا إذن هو فرق أول في التعبير يمكن تقريره بين الكون والفساد المطلقين وبين الكون والفساد اللذين ليسا مطلقين، وفرق آخر يمكن أن يميزها وهو المادة التي يحصلان فيها أيا كانت هذه المادة، فالتي تدل فصولها دلالة أكثر على هذه الحقيقة بعينها أو تلك هي أيضا أدخل في الجوهرية، والتي تدل فصولها دلالة أكثر على العدم هي أدخل في اللاموجود؛ وعلى ذلك فالحرارة مقولة ما ونوع حقيقي، وعلى الضد البرودة فإنها ليست إلا عدما. وبهذه الفصول بعينها تتميز الأرض والنار.
12
عند العامي، إنما يقرر الفرق على الأخص بين الكون وبين الفساد هو أن الواحد مدرك بالحواس وأن الآخر ليس كذلك؛ فمتى وجد تغير في مادة محسوسة قال العامي إن الشيء يولد ويكون كما يقول إنه يموت ويفسد حينما يتغير إلى مادة غير مرئية؛ ذلك بأن الناس يعرفون على العموم الوجود واللاوجود تبعا لما إذا كانوا يحسون الشيء أو لا يحسونه، كما أنهم يعتبرون الموجود ما يعرفونه واللاموجود ما يجهلونه؛ فحينئذ، الحس هو الذي يؤدي وظيفة العلم، وكما أن الناس لا يدركون حقيقة حياتهم وكونهم إلا لأنهم يحسون أو يمكنهم أن يحسوا، كذلك أيضا إدراكهم لوجود الأشياء؛ إذ يبحثون عن حقيقتها وما هم بواجديها فيما يقولون.
13
ذلك أن الكون والفساد المطلقين هما متغايران تماما تبعا لاعتبارهما على حسب الرأي العامي أو لاعتبارهما في حقيقتهما الواقعية. إذن الهواء والريح أقل من سواهما في مراتب الوجود من حيث كونهما جسمين إذا كان المرجع في ذلك إلى مجرد شهادة الحواس. ومن أجل ذلك يظن أن الأشياء التي فسدت مطلقا تفسد بالتحول إلى هذين العنصرين في حين أنه يعتقد أن الأشياء تولد وتكون متى تحولت إلى بعض عناصر يمكن لمسها؛ أي إلى أرض مثلا، ولكن في الحق ذانكم العنصران هما جوهر ونوع أكثر من الأرض نفسها.
14
إذن قد وضح ما يدل على أنه يوجد الكون المطلق من حيث كونه فسادا لشيء، والفساد المطلق من حيث كونه كونا لشيء أيضا. وهذا يتعلق - في الواقع - بأن المادة مختلفة؛ إما لأن الواحدة جوهر في حين أن الأخرى ليست جوهرا، وإما لأن الواحدة هي أكثر وأن الأخرى أقل، وإما لأن المادة التي يأتي منها الشيء والتي يذهب إليها هي أقل أو أكثر حسية. ويقال على الأشياء تارة إنها تولد وتصير بالإطلاق، وتارة يقال بالتعيين إنها تصير هذا الشيء بعينه أو ذاك من غير أن يأتي واحد من الآخر بالتكافؤ على النحو الذي نعنيه ها هنا. ونحن نقتصر في الواقع الآن على إيضاح لماذا - ما دام أن كل كون هو فساد لشيء آخر وأن كل فساد هو كون لشيء آخر أيضا - نحن لا نسند على هذا الوجه عينه الكون والفساد إلى الأشياء التي تتغير بعضها في البعض الآخر.
15
على أن هذا لا يحل المسألة التي كنا وضعناها لأنفسنا حلا نهائيا. بل هو يوضح لماذا يقال عن واحد يتعلم إنه يصير عالما لا إنه يصير مطلقا، في حين أنه بالنسبة لشيء ينشأ طبيعة يقال بطريقة عامة إنه يولد ويصير. تلك هي التعايين؛ أي المقولات المختلفة التي بعضها يدل على الموجود الحقيقي والجزئي والآخر يدل على الكيف والآخر على الكم؛ وبالتالي لا يقال ألبتة على كل الأشياء التي لا تدل على جوهر إنها تصير بطريقة مطلقة، بل إنها تصير كذا أو كذا من الأشياء؛ ومع ذلك فإن الكون في كل الأحوال على السواء لا ينطبق انطباقا صريحا إلا على الأشياء الداخلة في إحدى المجموعتين. مثلا في مقولة الجوهر يقال إن الشيء يصير إذا تكون نارا، ولا يقال ذلك إذا كان الذي يكون هو أرضا. وفي مقولة الكيف يقال عن الشيء إنه يصير إذا صار الكائن عالما لا إذا صار جاهلا.
16
إذن فانظر كيف نوضح لماذا بعض الأشياء يكون بطريقة مطلقة، وكيف أن البعض الآخر لا يكون لا بطريقة مطلقة ولا أصلا حتى في الجواهر أعيانها. وقد قلنا أيضا لماذا الموضوع من حيث هو مادة هو علة الكون المستمر الأبدي للأشياء؛ نظرا إلى أنه يمكن على السواء أن يتغير في الأضداد، وأنه بالنسبة للجواهر كون ظاهرة هو دائما فساد لأخرى وبالتكافؤ أن فساد هذه كون لتلك.
17
على أنه لم يبق محل لأن يتساءل لماذا أن هذا الفساد الدائم للموجودات هو الذي يجعل أن شيئا يمكن أن يكون؛ لأنه كما يقال إن شيئا هو فاسد مطلقا حينما يمر إلى اللامحسوس وإلى اللاموجود كذلك يمكن أن يقال إنه يكون ويأتي من اللاموجود متى أتى من اللامحسوس، والنتيجة أنه سواء أكان هناك موضوع أو لا أم لم يكن فإن الشيء يأتي دائما من العدم، بحيث إن الشيء في آن واحد حين يكون يأتي من اللاوجود وحين يفسد يعود إلى اللاوجود أيضا، وهذا هو الفاعل في أنه ليس يوجد انقطاع ولا خلو؛ لأن الكون هو فساد اللاوجود والفساد هو كون العدم.
18
ولكن قد يتساءل عما إذا كان هذا اللاموجود المطلق هو ثاني الضدين، ومثلا لما أن الأرض وكل ما هو ثقيل هو اللاموجود إذا كانت النار وكل ما هو خفيف هي أو ليست هي الموجود. ولكن يمكن أن يقال أيضا إن الأرض هي الموجود وإن اللاموجود هو مادة الأرض كما أنه هو مادة النار على السواء، ولكن هل مادة أحد هذين العنصرين ومادة الآخر هي إذن مختلفة؟ وهل من المحال أن يأتي أحدهما من الآخر كما هو الحال في الأضداد؛ لأن النار والأرض والماء والهواء لها أضداد، أو هل أن مادتها هي واحدة من وجه؟ وهل ليست مختلفة إلا من وجه آخر؟ لأن ما هو موضوع من وجه ومن آخر هو واحد، ولكن شكل الوجود هو وحده الذي ليس واحدا. على أننا نقف عند ما قلناه في هذا الموضوع.
19
هوامش
الباب الرابع
يجب الآن توضيح بماذا يختلف الكون والاستحالة؛ لأننا نرى أن هذين التغيرين للأشياء هما متميزان تماما أحدهما من الآخر نظرا إلى أن الموضوع الذي هو كائن حقيقي والتكييف الذي هو طبعا محمول على الموضوع هما في غاية الاختلاف، وأنه يجوز أن يقع التغير بأحدهما وبالآخر.
1
توجد استحالة متى كان الموضوع، وهو باق بعينه، وهو دائما محسوس، يلحقه تغير في خواصه المخصوصة التي يمكن أن تكون مع ذلك أضدادا أو أوساطا، على ذلك مثلا الجسم هو صحيح ثم هو مريض مع بقائه هو بذاته، وكذلك أيضا النحاس هو تارة مستدير وتارة ذو زوايا مع بقائه جوهريا هو بعينه.
2
ولكن حينما الموجود يلحقه التغير بكليته دون أن يبقى منه شيء محسوس من جهة أنه موضوع واحد وبحدة، وأن الدم مثلا يتكون بأن يأتي من كل النطفة وأن الهواء يأتي من كل الماء أو بالعكس الماء من كل الهواء، حينئذ يوجد في هذه الحالة كون للواحد وفساد للآخر. وهذا حق على الخصوص متى كان التغير يمر من اللامحسوس إلى المحسوس، سواء بالنسبة لحاسة اللمس أو بالنسبة لجميع الحواس الأخرى، مثلا حينما يوجد كون الماء أو حينما يوجد تحلل الماء إلى هواء؛ لأن الهواء هو بالمقارنة غير محسوس تقريبا.
3
ولكن في هذه الأشياء إذا بقي لحدي التقابل كيف ما متماثل في الموجود الذي يتولد وفي الذي يفسد، وإذا كان مثلا حينما يتكون الماء بأن يأتي من الهواء وهذان العنصران هما على السواء شفافان وباردان؛ فإذن لا يلزم بعد أن أحد هذين الكيفين فقط يتعلق بالجسم الذي فيه يحدث التغير، ومتى لم يكن الأمر كذلك فلا يكون إلا مجرد استحالة، مثلا في حالة ما الرجل الموسيقي ينعدم والرجل غير الموسيقي يكون ويظهر، ولكن الرجل لا يزال هو بعينه، وحينئذ إذا لم تكن أصلا خاصة هذا الموجود أو كيفه إلا المهارة في فن الموسيقى أو الجهل به؛ فإذن يوجد كون لإحدى الظاهرتين وفساد للأخرى. ومن ذلك يرى لماذا أن تلك ليست إلا كيفيات للرجل في حين أن هذا هو كون وفساد للرجل الذي هو موسيقي، وللرجل الذي لا يعرف الموسيقى؛ فليس هناك إلا تكيف للموضوع الذي هو ثابت، وهذا هو بالضبط ما يسمى استحالة.
4
وإذن حينما يكون تغير حد ضد لآخر حادثا في الكم فتلك زيادة ونقص، ومتى كان ذلك في الأين فتلك هي نقلة، ومتى كان في الملكية الخاصة والكيف فتلك استحالة بالمعنى الخاص، ولكن متى لم يبق شيء مطلقا من الموضوع الذي أحد أضداده هو تغير أو عرض فذلك أنه يوجد كون من وجه وفساد من وجه آخر.
5
وحينئذ فالمادة التي هي على جهة الأولوية والأفضلية الموضوع القابل للكون والفساد، وبوجه ما هي أيضا التي تعاني أنواع التغيرات الأخرى؛ لأن كل الموضوعات مهما كانت فهي قابلة لتقابلات ما بالأضداد.
6
على أنا نقف هنا فيما كنا نريد أن نقول على الكون والفساد وعلى الاستحالة أيضا؛ لنوضح ما إذا هي تكون أو لا تكون، وكيف تكون.
هوامش
الباب الخامس
علينا أيضا أن نتكلم على النمو، وأن نقول فيماذا يختلف النمو عن الكون وعن الاستحالة، وكيف يمكن الأشياء التي تنمو أن تنمو والتي تنقص أن تنقص.
1
يلزم إذن أولا أن نفحص ما إذا كان الفرق بين هذه الظواهر بعضها والبعض الآخر ينحصر فقط في الموضوع الذي تتعلق به. إن تغيرا يقع من موجود إلى موجود آخر، مثلا من الجوهر بمجرد القوة إلى الجوهر بالفعل وبالكمال هل هو كون وتولد؟ والتغير الذي يقع في العظم هل هو نمو ونقص؟ أو ذلك الذي يحصل في الكيف هل هو استحالة؟ ولكن الظاهرتين الأخيرتين اللتين ذكرناهما أليستا دائما تغايير أشياء تمر من القوة إلى الفعل والكمال؟ أو أيضا أليست طريقة التغير هي التي تختلف؟ وحينئذ الشيء الذي يستحيل بمنزلة الشيء الذي يتولد ويصير، لا يظهر أنه يجب لهما التغير بالمكان لزوما. ولكن الذي ينمو والذي يذبل يجب أن يتغير بالحيز تغيرا مخالفا لتغير الشيء الذي يتحرك في الأين.
2
لأن الشيء المتحرك في الأين يغير مكانه بكليته في حين أن الذي ينمو لا يتغير إلا كشيء ينزلق ويمتد. والموضوع وهو باق في مكانه أجزاؤه وحدها تغير مكانها، ولكن هذا ليس كحال أجزاء الكرة الدائرة على نفسها؛ لأن هذه الأجزاء تغير محل جسم الكرة كله مع بقائه في الحيز بعينه. وعلى الضد من ذلك أجزاء الجسم النامي تشغل حيزا أكثر فأكثر كما أن أجزاء الجسم الذابل تشغل حيزا أقل فأقل.
3
يرى حينئذ أن التغير في شيء يتولد وفي الذي يستحيل وفي الذي ينمو هو يختلف لا بالشيء الذي يقبل التغير فحسب، بل أيضا بالطريقة التي يحصل بها التغير. ولكن أما من حيث الشيء ذاته الذي يلحقه تغير النمو وتغير الذبول: من جهة أن النمو والذبول يظهر أنهما لا ينطبقان إلا على عظم، كيف ينبغي إدراك أنه ينمو؟ هل يجب أن يفهم أنه يتكون في هذه الحالة جسم وعظم فعلي مما ليس هو جسما ولا عظما إلا بمجرد القوة، والذي هو بالفعل وبالكمال ليس له جسم ولا عظم حقيقي؟ غير أن هذا الإيضاح نفسه يمكن أن يحمل على معنى مزدوج، ويمكن أيضا أن يتساءل على أي الوجهين يجب أن يحصل النمو، هل هو يأتي من المادة التي تكون منعزلة ومنفصلة في ذاتها؟ أم هل يأتي من المادة التي تكون في جسم آخر؟ ولكن هذين الوجهين لفهم النمو أليسا هما مستحيلين على السواء؟ فإنه إذا كانت في الواقع مادة النمو منعزلة، فإما ألا تشغل أي جزء في الأين، وإما أن تكون كنقطة أو ألا تكون إلا من الخلو، وتكون جسما لا تدركه حواسنا؛ ففي أحد هذين الفرضين لا يمكن أن تكون موجودة، وفي الثاني يجب أن توجد ضرورة في أين؛ لأن ما ياتي منها يجب أن يكون في أين ما بحيث إن هذا الجسم يكون فيه أيضا إما بنفسه أو بالواسطة.
4
ولكن إذا فرض أن المادة هي في جسم، وأنها انفصلت عنه بحيث إنها لا تؤلف ألبتة جزءا من هذا الجسم لا بذاتها ولا بالعرض فينتج من هذا الفرض طائفة من المستحيلات البينة. وتوضيحه: مثلا إذا تكون هواء آت من الماء، فذلك ليس لأن الماء يتغير، بل لأن مادة الهواء تكون محوية في الماء الذي يكونه كما لو كانت في آنية ما لأنه لا شيء يمنع من أن تكون المواد غير متناهية في العدد بحيث يمكنها أيضا أن تكون بالفعل وبالحقيقة يلزم أن يضاف زيادة على هذا أنه ليس كذلك أن الهواء يظهر أنه يأتي من الماء كما لو أنه كان يخرج من جسم يبقى دائما على ما كان عليه.
5
يحسن حينئذ افتراض أن المادة هي غير قابلة للانفصال في جميع الأجسام، وهي واحدة ومتماثلة عدديا، ولو أنها ليست واحدة ولا متماثلة في نظر العقل.
وبالأسباب عينها لا ينبغي افتراض أن مادة الجسم ليست إلا نقطا أو خطوطا؛ لأن المادة هي بالضبط ما تكون النقط والخطوط نهايات لها، فهي لا يمكنها أبدا أن تقوم بدون خاصية ما ولا بدون صورة، وعلى ذلك حينئذ فإن شيئا يأتي دائما من شيء آخر مطلقا كما سبق بيانه في غير هذا الموضع. وهو يأتي من شيء موجود بالفعل وبالكمال، إما من جنسه أو من صورته، مثال ذلك النار هي تكون بالنار والرجل هو يكون بالرجل أعني بحقيقة، بكمال؛ لأن الصلب لا يمكن أن يأتي من مجرد كيف الصلب، والمادة هي المادة لجوهر جسماني؛ أعني مادة جسم خاص معين ما دام الجسم لا يمكن أبدا أن يكون شيئا مشتركا. وهي هي ذاتها، سواء في العظم أو في كيف العظم قابلة للانفصال في نظر العقل، ولكن غير قابلة للانفصال في الأين إلا أن يفترض أن الخواص يمكنها أن تنفصل عن الأجسام الحائزة لها.
6
بين حينئذ على حسب هذه المناقشة أن النمو في الأشياء ليس تغيرا يأتي من عظم بالقوة المحضة دون أن يكون له امتداد ما بالفعل وبالكمال؛ لأن الكيف المشترك حينئذ يكون قابلا للانفصال، وقد سبق فيما تقدم في غير هذا الموضع أن هذا كان شيئا محالا، وفوق ذلك فإن تغيرا من هذا القبيل ينطبق على الخصوص لا على النمو بل على الكون؛ لأن النمو ليس إلا ازديادا في عظم موجود من قبل كما أن الذبول ليس إلا انتقاصا له، فانظر لماذا يلزم أن يكون أولا للجسم الذي ينمو عظم ما. وبالنتيجة لا يمكن أن النمو الذي يمر إلى واقعية العظم يأتي من مادة مجردة من كل عظم؛ لأن هذا أولى به أن يكون كونا لا أن يكون نموا حقا.
7
فالأفضل حينئذ أن نأخذ بهذا البحث من جديد كما لو كنا في البداية تماما، وأن نبحث ثانيا عما يمكن أن تكون هي أسباب نمو الأشياء ونقصها بعد أن أثبتنا ماذا يعني بنما أو نقص. في شيء ينمو يظهر إذن أن جميع الأجزاء بلا استثناء تنمو، كما أنه في النقص جميع أجزاء الشيء يظهر أنها تصير أكثر فأكثر صغيرة. وفوق ذلك فإن النمو يظهر أنه يحصل بأن شيئا ينضم إلى الجسم والاضمحلال بأن شيئا يخرج منه. ولكن النمو لا يمكن أن يحصل بالضرورة إلا بشيء ما لا جسماني أو جسماني؛ فإذا كان باللاجسماني فالجزء المشترك يكون قابلا للانفصال، ومن المحال أن توجد مادة منفصلة عن كل عظم كما قيل آنفا. وإذا كان بشيء ما جسماني حصل النمو فينتج عنه أن هناك جسمين في حيز واحد بعينه؛ أي حيز الذي ينمو وحيز الذي يفعل النمو، وهو أيضا محال.
8
بل لا يمكن أن يقال إن نمو الأشياء ونقصها يمكن حصولها بالطريقة عينها التي بها يأتي الهواء من الماء مثلا ما دامت حينئذ كتلة الهواء قد صارت أعضم مقدارا. إذن ليس في هذا مجرد نماء للماء، بل هذا هو كون لجسم جديد فيه تغير الجسم الأول، وهذا هو فساد لضده. وليس ذلك نموا لا لأحدهما ولا للآخر، ولكن إما أن ليس هذا نموا لشيء وإما أنه نمو لهذا الذي هو مشترك بين الشيئين الذي كان والذي فسد على السواء، وهذا الجزء المشترك هو جسم أيضا، فلا الماء ولا الهواء نما وفقط أحدهما باد وانعدم في حين أن الآخر كان، ويلزم أن يكون هناك جسم ما دام أنه وجد نمو.
9
ولكن هناك أيضا محال جديد؛ لأنه يلزم عقلا حفظ الشروط الضرورية التي بدونها لا يمكن إدراك الجسم الذي ينمو أو الذي ينقص، وهي ثلاثة؛ أحدها هو أن كل جزء ما يصير أكبر في عظم ينمو، مثلا إذا كان من اللحم فإن جزءا ما من اللحم ينمو، والشرط الثاني هو أن النمو يحصل بانضمام ما إلى الجسم، وثالثا وأخيرا يلزم أن الشيء ينمو وأن يبقى معا، وفي الواقع حينما شيء يكون أو يبيد مطلقا فهو لا يبقى ألبتة، ولكن حين يعاني استحالة أو نموا أو نقصا فإن هذا الشيء مع أنه ينمو أو يستحيل يمكث ويبقى هو بعينه، فها هنا إنما هو كيف الشيء وحده هو الذي لا يبقى بعد هو هو. وهناك إنما هو العظم نفسه الذي لا يبقى هو بعينه، وحينئذ إذا كان النمو هو بحق ما قد زعم فإن الشيء النامي يمكن إذن أن ينمو بدون أن شيئا يأتي وينضم إليه، وبدون أن هذا الشيء يبقى، كما أنه قد يمكن أن يفنى بدون أن شيئا يخرج منه وبدون أن الشيء النامي يبقى، ولكن يلزم مطلقا حفظ هذه الشروط ما دام أنه افتراض أن النمو هو في الواقع كما قد ذكر.
10
وقد يمكن أيضا أن يسأل ما هو بالضبط هذا الذي ينمو؟ هل هو الجسم الذي إليه يأتي وينضم شيء؟ مثلا متى فعل سبب بعينه نمو الفخذ في جسم إنسان فهل الفخذ نفسه هو الذي يصير أسمن؟ ولماذا هذا الذي يسمن الفخذ أعني الغذاء لا ينمو هو أيضا؟ وفي الواقع لماذا أن الاثنين لا ينموان معا؟ لأن هذا الذي ينمو وهذا الذي ينمي يكونان أعظم كما هي الحال عند مزج الماء والنبيذ؛ فإن كمية كليهما تصير أعظم على السواء. أليس يمكن أن يقال إن هذا يرجع إلى أن الجوهر في حالة يمكث ويبقى في حين أنه في الحالة الأخرى الجوهر. وهو ها هنا، جوهر الغذاء يبيد؟ وها هنا أيضا إنما العنصر الغالب هو الذي يعطي اسمه للمزيج كما هي الحال حين يقال عن المزيج إنه من النبيذ؛ لأن المزيج كله يفعل فعل النبيذ لا فعل الماء.
11
والأمر كذلك أيضا بالنسبة للاستحالة؛ فإذا - مثلا - بقي اللحم ومكث دائما ما هو، وإذا طرأ على اللحم كيف أصلي لم يكن من قبل، فاللحم حينئذ بالبساطة قد استحال، ولكن أحيانا هذا الذي يحيل الشيء إما أنه لا يعاني شيئا هو نفسه في جوهره الخاص الذي لم يستحل، وإما أحيانا أنه يستحيل هو أيضا، ولكن هذا الذي يحيل شأنه كشأن مبدأ الحركة هو في الشيء النامي وفي الشيء المستحيل؛ لأنه فيهما يوجد المبدأ المحرك. وقد يمكن أيضا أن هذا الذي يدخل في الجسم يصير فيه أعظم كالجسم الذي يقبله ويستفيد منه سواء بسواء، مثلا إذا كان العنصر الذي يدخل يصير فيه هواء، ولكنه وهو يعاني هذا التغيير يفسد، والمبدأ المحرك لا يكون فيه بعد.
12
بعد أن بلغنا الكفاية من بسط هذه الصعوبات يلزم محاولة استكشاف حل هذه النظرية مع التسليم بالشروط الآتية دائما:
أن النمو ليس ممكنا إلا بأن يمكث الجسم النامي ويبقى، وأنه لا شيء يمكنه أن ينمو بدون أن شيئا ينضم إليه، ولا أن ينقص بدون أن شيئا يخرج منه، وأنه فوق ذلك كل نقطة محسوسة حيثما اتفق من الجسم النامي أو الناقص تصير أكبر أو أصغر. وأن الجسم ليس خلوا، وأن جسمين لا يمكن ألبتة أن يشغلا حيزا واحدا بعينه، وأخيرا أن الجسم الذي يحصل فيه النمو لا يمكنه أن ينمو باللاجسماني.
13
وسنصل إلى الحل المطلوب بقبولنا بادئ بدء أن الأجسام ذوات الأجزاء غير المتشابهة يمكن أن تنمو لأنه إنما هي الأجسام ذوات الأجزاء المتشابهة هي التي تنمو؛ لأن الأولى ليست إلا مركبة من الثانية، ويلزم بعد هذا التنبيه إلى أنه متى ذكر اللحم والعظم وأي جزء آخر مشابه لهما من الأجسام؛ فذلك يمكن أن يؤخذ بمعنى مزدوج كما هي الحال بالنسبة لجميع الأشياء الأخرى التي لها نوعها ولها صورتها في المادة؛ لأن المادة والصورة هما مسميان على السواء لحما وعظما.
فالقول بأن كل جزء كيفما اتفق من جسم ينمو وبأن عنصرا جديدا يأتي وينضم إليه فذلك بيان ممكن باعتبار الصورة ولكنه ليس كذلك باعتبار المادة، ويجب أن يرى أن الحال ها هنا كالحال حينما يقاس الماء بمقياس يبقى هو بعينه؛ فإن الماء الذي يجيء بعد هو آخر ودائما آخر، كذلك بهذه المثابة تنمو مادة اللحم، ولا يوجد ضم إلى كل جزء كيفما اتفق، ولكن الجزء الفلاني يسيل والجزء الفلاني ينضم، فليس يوجد ضم ولا يحصل الضم إلا إلى كل جزء كيفما اتفق من الشكل ومن النوع.
14
ولكن بالنسبة للأجسام المركبة من أجزاء غير متشابهة مثلا بالنسبة لليد فمن الأشد وضوحا أن كلها ينمو بحالة متناسبة؛ لأنه في هذه الحالة ما دامت مادة النوع مختلفة فهى أسهل تميزا عما يكون بالنسبة للحم وبالنسبة للأجسام ذوات الأجزاء المتشابهة. من أجل ذلك حتى على ميت يظهر أنه لا يزال يعرف اللحم والعظم بأكثر سهولة من أن يميز فيه اليد والذراع، وحينئذ فمن وجه يمكن أن يقال إن كل جزء كيفما اتفق من اللحم ينمو ومن وجه آخر لا يمكن أن يقال إن كل جزء ينمو. فبحسب الصورة قد انضم شيء ما لكل جزء كيفما اتفق، ولكن لا بحسب المادة، ومع ذلك فإن الكل صار أعظم؛ لأن شيئا جاء وانضم إليه، وهذا الشيء يسمى الغذاء، ويسمى أيضا الضد. ولكن هذا الشيء لا يزيد على أن يتغير في النوع بعينه كمثل ما يأتي الرطب ينضم إلى اليابس، وبانضمامه إليه يتغير بأن يصير هو نفسه يابسا. وفي الواقع يمكن معا أن الشبيه ينمو بالشبيه وبجهة أخرى أن يكون ذلك باللاشبيه.
15
وقد يمكن أيضا أن يتساءل عما هو بالضبط ذلك الشيء الذي يحدث النمو. واضح أن هذا العنصر الجديد يجب أن يكون الجسم بالقوة، مثلا إذا كان اللحم هو الذي ينمي يجب أن يكون لحما بالقوة مع أنه بالفعل وبالكمال شيء آخر، وهذا الشيء الآخر وجب أن يفسد ليصير لحما. على ذلك حينئذ ليس هو في ذاته ما يصير إليه؛ لأنه إذن يحصل كون لا مجرد نمو، ولكن الشيء الذي ينمو هو بالضبط في ذلك الشيء، فماذا لقي الجسم بهذا العنصر الجديد حتى إنه نما هكذا؟ أعانى اختلاطا كما يصب الماء في النبيذ بحيث إن المزيج كله يمكن أن يبقى نبيذا؟ أم كما أن النار تحرق متى تلامس شيئا قابلا للاحتراق، كذلك الأمر في الجسم الذي ينمو والذي هو لحم بالفعل وبالكمال، الجوهر الباطن الذي له قوة الإنماء هل يفعل لحما حقيقيا بالفعل وبالكمال من اللحم بالقوة الذي اقترب منه؟ يلزم إذن أن يكون هذا العنصر الجديد مع الآخر ومقترنا به في الوجود؛ لأنه لو كان منعزلا لحصل كون حقيقي. وعلى هذا النحو يمكن إيجاد نار من النار الموجودة من قبل بإلقاء الخشب فوقها، وهذا بهذه الطريقة ليس إلا نموا في حين أنه متى كان الخشب نفسه يحترق فها هنا كون حقيقي.
16
لكن الكم مأخوذا على معناه الكلي لا يكون ها هنا إلا كما قد يمكن أن يكون الحيوان الذي لا هو إنسان ولا أي حيوان خاص. وبالفعل الحال ها هنا بالنسبة إلى الكم كالحال هنالك بالنسبة إلى الكلي؛ فحينئذ اللحم والعظم أو اليد أو الأعصاب والأجزاء المتشابهة من هذه الأعضاء تنمو؛ لأن كمية ما من مادة تأتي فتنضم إليها بلا شك، ولكن بدون أن تكون هذه المادة كمية مقدرة من لحم، فمن جهة أن العنصر الجديد هو الواحد والآخر بالقوة، ومثلا كمية معينة من لحم بهذا المعنى، فهذا العنصر على هذا الوجه ينمي الجسم لأنه يلزم أن يصير من اللحم، ومن اللحم بكمية معينة. ولكن فقط من جهة أن العنصر المضاف هو من اللحم أنه يمكنه تغذية الجسم. وبذلك كان الغذاء والنمو يختلفان أحدهما عن الآخر عقلا، من أجل ذلك أيضا الجسم هو مغذي كل الزمن الذي يعيشه ويمكثه، بل الزمن الذي يفناه، ولكنه لا ينمو بلا انقطاع. في الحق أن التغذية هي مماثلة للنمو وتشتبه به، ولكن كونهما مختلف. على ذلك حينئذ بما أن العنصر الذي يأتي فينضم هو بالقوة، فكمية ما من اللحم يمكنها أن تنمي اللحم. ولكن فقط من جهة أنه لحم بالقوة يمكنه أن يكون غذاء.
17
وهذه الصورة أو هذا النوع بلا مادة هو في المادة كقوة لا مادية، ولكن إذن تجيء فتنضم إلى الجسم مادة ما هي لامادية بالقوة مع أن لها أيضا بالقوة الكم ... فهذه الأجسام اللامادية ستكون إذن أعظم، ولكن إذا كانت هذه المادة المضافة تصل إلى حد ألا تستطيع أن تكون شيئا، وإذا كان الماء كذلك بامتزاجه أكثر فأكثر بالنبيذ يصل إلى أن يصيره أكثر فأكثر مائيا، وإلى أن يحيله أخيرا تماما إلى ماء؛ فحينئذ يمكنه أن يجر إلى فساد الكمية، ولكن الصورة والنوع يبقيان كما كانا.
18
هوامش
الباب السادس
لما أنه يلزم عند دراسة المادة - وبالنتيجة العناصر - أن يقال بادئ بدء ما إذا هي تكون أو لا تكون، وإذا كان كل واحد منها أزليا، أو إذا كانت مخلوقة بأي وجه ما، ومع أنها مخلوقة إذن كان يمكنها كلها أن تتكاون بطريقة واحدة، أو إذا كان أحدها هو أسبق من الآخر ، فينتج من ذلك أن من الضروري أن تعين جيدا بادئ الأمر الأشياء التي لم يتكلم عنها حتى هذه الساعة إلا بطريقة جد مبهمة وغير كافية جدا.
1
وفي الحق كل أولئك الذين يقبلون الخلق للعناصر أنفسها كما يقبلونه بالنسبة للمركبات التي تنتج عنها يقتصرون في إيضاح كل شيء على الاجتماع والافتراق وعلى الانفعالية وعلى الفعل. ولكن الاجتماع ليس إلا اختلاطا، ولم يحد لنا جليا ما يجب علينا أن نعنى باختلاط الأجسام. ومن جهة أخرى ليس من الممكن كذلك أن تحصل استحالة ولا افتراق أو اجتماع بدون موضوع يفعل وينفعل؛ لأن أولئك الذين يقبلون تعدد العناصر يجعلونها تولد من الفعل والانفعال المتكافئين بين العناصر بعضها والبعض الآخر.
2
ومع ذلك يلزم دائما الوصول إلى القول بأن كل فعل يأتي من مبدأ واحد أحد، فانظر كيف أن ديوجين كان عنده الحق إذ يقرر أنه إذا كانت كل العناصر لم تكن تأتي من واحد فلا يمكنها أن يكون بينها لا فعل ولا قابلية للفعل على طريق التكافؤ، وأن الحار مثلا قد لا يمكن أن يبرد ولا البارد أن يسخن من جديد. وكان يقول: ليست الحرارة ولا البرودة هي التي تتغير إحداها في الأخرى، بل من البين بذاته أن الموضوع هو الذي يعاني التغيير. وبالنتيجة كان يستنتج ديوجين أن في الأجسام التي فيها يمكن وجود فعل وانفعال يلزم بالضرورة أن يكون لها طبيعة واحدة هي موضوع لهاتين الظاهرتين. ولا شك في أن تقرير أن جميع الأشياء هي في هذه الحالة قد لا يكون تقريرا صحيحا؛ فإن هذا لا يلاحظ في الواقع إلا في الأجسام التابعة بعضها لبعض.
3
لكن إذا أريد استيضاح الفعل والانفعال والاختلاط بجلاء لزم بالضرورة أيضا دراسة ما هو التماس بين الأشياء. إن الأشياء لا يمكنها حقيقة الفعل والانفعال أحدها بالآخر حين لا يمكنها التماس على التبادل، وإذا لم تكن قد تلامست سابقا بأي وجه ما فلا يمكنها أبدا أن تختلط أحدها بالآخر، فيلزم إذن أولا حد هذه الظواهر الثلاث: التماس والاختلاط والفعل.
4
فلنصدر عن هذا المبدأ؛ وهو أنه بالنسبة لجميع الأشياء التي فيها الاختلاط يلزم مطلقا أنها يمكنها أن تتلامس بينها، وإذا كان الواحد يفعل والآخر ينفعل بالمعنى الخاص؛ فيلزم أيضا أن يكون هذا التماس ممكنا، هذا هو سببنا في الكلام بادئ بدء على التماس.
5
لكن كما أن أكثر الكلمات الأخرى هي مأخوذة على عدة معان تارة بطريق التواطؤ وتارة بالاشتقاق من كلمات أخرى سابقة عليها، كذلك يقع هذا التنوع في الإطلاق اللفظي بالنسبة للفظ التماس. ومع ذلك فإن التماس بالمعنى الخاص لا يمكن أن ينطبق إلا على الأشياء التي لها وضع، ولا وضع إلا للأشياء التي لها مكان؛ لأنه يلزم أن يعنى بالتماس وبالمكان كما يعنى الرياضيون، سواء أكانا - أي المكان والتماس - منفصلين عن الأشياء أم كانا يوجدان بأي وجه ما. وحينئذ إذا كان كما بين سابقا أن التماس هو أن تجتمع النهايات، فيمكن أن يقال إن هذه الأشياء تتلامس على التي، وهي ذات أعظام وأوضاع معينة، نهاياتها مجتمعة معا.
6
ولكن لما كان الوضع خاصا بالأشياء التي لها أيضا أين، وكان الفصل الأول للأين هو الفوق والتحت مع المقابلات الأخرى من هذا القبيل، ينتج منه أن جميع الأشياء التي تتلامس يجب أن يكون لها ثقل أو خفة أو هاتان الخاصتان معا أو على الأقل إحدى الاثنتين. وهذه الأشياء من هذا النوع إنما هي القابلة للفعل وللانفعال، فبين إذن بذاته أنه يجب استنتاج أن تلك الأشياء تتلامس بالطبع، وأنها بما هي أعظام منفصلة ومتمايزة فنهاياتها واقعة طرفا لطرف، ويمكنها أحدها أن يحرك والآخر أن يتحرك على التكافؤ أحدهما بالآخر. ولكن لما أن المحرك لا يحرك بالطريقة عينها التي بها الشيء المحرك يحرك في دوره، وأن هذا الأخير لا يمكن أن يحرك إلا بما هو واقع في الحركة هو نفسه، في حين أن الآخر يمكنه أن يحرك مع بقائه هو نفسه غير متحرك؛ فمن البين أنه يمكننا تطبيق هذه التماييز عينها على الجسم الذي يفعل؛ لأنه حتى في اللغة العامية يقال أيضا على السواء إن الذي يحرك يفعل وإن الذي يفعل يحرك.
7
ومع ذلك يوجد هنا فصل ما ، فينبغي التمييز؛ ذلك أن كل ما يحرك لا يمكنه دائما أن يفعل كما سنرى بالمقابلة بين ما يفعل وبين ما ينفعل؛ فإن جسما لا ينفعل إلا في الأحوال التي فيها تكون الحركة تأثرا أو شهوة، ولا توجد شهوة إلا في حالة ما يكون بالجسم مجرد استحالة، مثلا في حالة ما يصير حارا أو يصير أبيض. ولكن معنى التحريك له من السعة أكثر مما لمعنى الفعل، وحينئذ من البين أن المحركات أحيانا يجب أن تلامس الأشياء التي تحركها وأحيانا لا تلامسها.
8
حد التماس مأخوذا على أعم معناه ينطبق على الأجسام التي لها وضع بما أن أحد الجسمين في التماس يمكن أن يحرك وبما أن الآخر يمكن أن يتحرك، وبما أن المحرك والمتحرك ليس بينهما نسبة إلا نسبة الفعل والانفعال.
9
في الأحوال الأكثر عادية الشيء الذي لمس يلمس الشيء الذي لمسه؛ لأن كل الأشياء تقريبا التي يمكننا مشاهدتها هي واقعة في الحركة قبل أن تحرك أيضا في دروها. وفي كل الأحوال يظهر أن هناك ضرورة إلى أن الشيء الذي لمس يلمس الشيء الذي يلمسه. ولكنا نقول أنه قد يجوز أحيانا أيضا أن المحرك وحده يلمس الشيء الذي يعطيه الحركة، وأن الشيء الملموس لا يلمس الآخر الذي يلمسه. ولما أن الأجسام المتجانسة لا تحرك إلا متى حركت هي أنفسها فيلزم فيما يظهر أن جسما ملموسا يلمس هو أيضا. وبالنتيجة إذا كان محرك ما - مع كونه هو نفسه غير متحرك - يؤتي الحركة، فيلزم أن يمس الشيء الذي يحركه دون أن يمسه هو نفسه شيء. وعلى ذلك في الواقع نقول أحيانا على الشخص الذي يؤذينا إنه يمسنا من غير أن نمسه نحن أنفسنا.
10
ذلك ما كنا نبغي أن نقول على التماس معتبرا في الأشياء الطبيعية.
11
هوامش
الباب السابع
تعقيبا لما تقدم نوضح ماذا ينبغي أن يعني بفعل وانفعل. ولقد تلقينا من الفلاسفة السابقين لنا نظريات متخالفات بينها في هذا الموضوع، ومع ذلك فإنهم متفقون بإجماع على أن الشبيه لا يمكن أن يقبل شيئا من الشبيه ؛ لأن الواحد منهما ليس أشد فاعلية ولا انفعالية من الآخر، وإن الأشباه لها كيفياتها متماثلة مطلقا، ثم يزاد أن الأجسام غير المتشابهة والأجسام المختلفة إنما هي التي لها فعل وانفعال على طريق التكافؤ بعضها في بعض، مثال ذلك حينما تطفأ نار بنار أكبر منها يزعم فلاسفتنا أن النار التي هي أقل انفعلت في الواقع بمقتضى مقابلة الأضداد بما أن كثيرا هو ضد لقليل.
1
ديمقريطس هو الوحيد - خلافا لجميع الآخرين - الذي قدم في هذا رأيا خاصا؛ فهو يقرر أن هذا الذي يفعل وهذا الذي يقبل هو في الحقيقة مماثل ومشابه؛ لأنه لا يوافق على أن أشياء مختلفة ومتغايرة تماما يمكنها أن تقبل أياما بعضها من بعض، وإذا كان بعض الأشياء، مع كونها متغايرة بينها، لها بعضها على بعض فعل ما متكافئ فهذه الظاهرة - على رأيه - تقع فيها لا بما هي متخالفة، بل بما هي على الضد من ذلك لها نقطة ما من المشابهة والمماثلة.
2
تلك هي إذن الآراء التي قررت قبلنا. ولكن الفلاسفة الذين قرروها قد يظهر أنهم تناقضوا فيما بينهم، والسبب في اختلافهم في هذا الصدد هو أنه في مسألة يلزم فيها اعتبار مجموع الموضوع لم يعتبروا فيه هؤلاء وهؤلاء إلا جزءا واحدا.
3
وفي الحق أن ما هو شبيه تماما ولا يغاير مطلقا بأي وجه ما لا يمكنه مطلقا أن يحتمل شيئا ولا أن يقبل شيئا من قبل شبيهه. لماذا؟ في الحق، إن أحد الشيئين يفعل دون الآخر! فإذا كان ممكنا أن الشيء يقبل بأي طريقة من شبيهه إذن يمكنه أن يقبل أيضا من ذاته، وحينئذ مع التسليم بهذا فينتج منه أن لا شيء في الدنيا يكون غير قابل للفناء ولا غير متحرك إذا فرض أن الشبيه بما هو شبيه يمكنه أن يفعل ما دام حينئذ كل موجود أيا كان يمكنه أن يعطي الحركة لنفسه ويعطيها أيضا على السواء للموجود المغاير تماما، والذي ليس به تماثل ما.
وفي الواقع إن البياض لا يمكنه أن يقبل أي فعل من قبل خط ، ولا أن خطا ينفعل بشيء من قبل البياض إلا ما ربما يكون بالعرض والواسطة: مثلا في حالة ما إذا كان الخط بالمصادفة أبيض أو أسود؛ لأن الأشياء لا يمكنها أن تغير طبعها عفوا من تلقاء أنفسها متى لم تكن أضدادا بعضها لبعض أو غير آتية من أضداد.
4
ولكن لما أن فعل وانفعل ليسا بالطبع خاصية أي جسم اتفق وأخذ بالمصادفة، وأنهما لا يكونان إلا في الأشياء الأضداد بعضها لبعض أو التي بينها تضاد ما؛ فينتج من ذلك ضرورة أن الفاعل والقابل يجب أن يكونا شبيهين ومتحدين بجنسهما بالأقل، وأن يكونا غير متشابهين ومتضادين بنوعهما، على هذا تريد الطبيعة أن الجسم يقبل فعل الجسم والطعم يقبل فعل الطعم واللون فعل اللون. وعلى جملة من القول إن شيئا مجانسا يمكن أن يقبل فعلا من قبل الشيء المجانس، والسبب فيه أن جميع الأضداد هي من جنس واحد، وأن الأضداد تفعل بعضها في بعض وتقبل بعضها من قبل البعض الآخر؛ إذن يلزم ضرورة أن - من وجه - الفاعل والقابل يكونان متشابهين وفي الحين عينه يلزم أيضا أن يكونا غير متشابهين ومتغايرين بينهما.
5
ما دام إذن يلزم أن يكون الفاعل والقابل هما متحدين ومتشابهين في الجنس ولا متشابهين في النوع، وإن هذه هي نسب الأضداد فينتج من هذا جليا أن الأضداد والأوساط تفعل وتقبل على طريق التكافؤ بعضها إزاء البعض الآخر، فإن فيها مطلقا يحصل فساد الأشياء وكونها؛ لذلك فبسيط جدا أن النار تسخن وأن البرد يبرد، وعلى جملة من القول إن الشيء الذي يفعل يحيل إلى ذاته الشيء الذي يقبل فعله. ما دام أن هذا الذي يفعل وهذا الذي يقبل هما ضدان، وأن الكون هو على التحقيق تحول الشيء إلى ضده، ينتج منه أن بالضرورة الذي ينفعل يتغير بهذا الذي يفعل، وعلى هذا النحو فقط يحصل كون مفض إلى الضد.
6
هذا هو الذي يوضح جيدا كيف أن فلاسفتنا من غير أن يكرروا صراحة الأقوال أعيانها يمكنهم مع ذلك على الوجهين أن يصلوا إلى استكشاف الطبع والحق. وعلى هذا نقول تارة إنه الموضوع نفسه هو الذي ينفعل متى قلنا إن فلانا يبرإ وأنه يدفأ وإنه يبرد وإنه يعاني انفعالات من هذا القبيل. وتارة أيضا نقول مثلا إن البرودة هي التي تصير ساخنة أو إن المرض هو الذي يصير الصحة، وعلى الوجهين العبارة صادقة.
7
والأمر كذلك أيضا فيما يخص الفاعل؛ فإننا نقول أحيانا إنه هو فلان الذي يسخن الشيء الفلاني، ومرة أيضا إن الحرارة هي التي تسخن؛ لأنه تارة هي المادة التي تقبل الفعل وتارة أيضا الضد هو الذي يقبل. على ذلك فإنه بنظر الأشياء من هذه الجهة زعم بعضهم أن الموجود الذي يفعل والذي ينفعل يجب أن يكون بينهما شيء من التماثل. وإن الآخرين بنظرهم الأشياء من جهة مخالفة زعموا أن الأمر على الضد من ذلك تماما.
8
ولكن التدليل الذي يمكن عمله لإيضاح ما هو يفعل وينفعل هو نفسه الذي به يوضح ما هو يحرك ويتحرك، وعلى ذلك لفظ المحرك يحمل أيضا على معنيين؛ فأولا الشيء الذي فيه يوجد مبدأ الحركة يشبه أن يكون المحرك ما دام المبدأ هو أول العلل، وثانيا إنما هو الحد الأخير بالإضافة إلى الشيء الذي هو محرك وإلى كون الشيء.
9
وتنطبق الملاحظة نفسها على الفاعل، وعلى هذا النحو نقول على السواء إن الطبيب هو الذي يبرئ أو هو النبيذ الذي أمر به للمريض. وحينئذ لا شيء يمنع من أن المحرك الأول في الحركة التي يعطيها يبقى هو نفسه غير متحرك، بل أحيانا قد تكون هناك ضرورة إلى أن يكونه، ولكن الحد الأخير يجب دائما لأجل أن يحرك أن يكون أولا قد حرك هو نفسه.
10
وفي الفعل أيضا الحد الأول ليس متأثرا ولا قابلا، ولكن يلزم أن الحد الأخير - ليمكنه أن يفعل - ينفعل أيضا هو ذاته بفعل ما بادئ بدء. كل الأشياء التي ليست من مادة واحدة بعينها تفعل دون أن تقبل هي أعيانها، وأن تظل غير قابلة . مثال ذلك صناعة الطب؛ فإنها مع فعلها الصحة لا تقبل أي فعل من قبل الجسم الذي تشفيه. ولكن الغذاء من فعله الصحة يقبل ويلقى هو نفسه أيضا تأثرا ما؛ لأنه إما أن يسخن أو يبرد أو يعاني انفعالا آخر كيفما اتفق في حين أنه يفعل؛ ذلك لأنه من جهة الطب هو ها هنا - بنحو ما - كالمبدأ، في حين أن الغذاء - بنحو آخر - هو الحد الأخير الذي يمس العضو الذي يفعل فيه. على ذلك حينئذ كل الأشياء الفاعلة التي ليس لها صورتها في المادة تبقى غير قابلة، وكل التي لها صورتها في المادة يمكن أن تقبل فعلا ما، ونقول أيضا إن المادة هي واحدة على السواء بعينها بالنسبة لأي واحد ما من الحدين المتقابلين، ونعتبرها أنها بالنسبة لهما جنسهما المشترك. ولكن ما يمكنه أن يصير ساخنا يجب ضرورة أن يسخن حينما الشيء الذي يسخن يكون حاضرا وقريبا منه.
فانظر لماذا أن بين الأشياء التي تفعل بعضها - كما قلت آنفا - هو غير قابل والآخر على ضد ذلك يمكن أن يقبل، وكيف أن الأمر واحد بعينه بالنسبة للفواعل كما هو بالنسبة للحركة، فإن هناك في الواقع المحرك الأولي هو غير متحرك، وهنا بين الفواعل إنما الفاعل الأول هو غير القابل وبمعزل عن كل انفعال.
11
ولكن إذا كان الفاعل علة كما هي حال المحرك سواء بسواء، فمن أين يجيء أن مبدأ الحركة - أي الغاية التي من أجلها يحدث كل الباقي - لا يحدث هو نفسه فعلا؟ مثال ذلك الصحة ليست فاعلا ولا يمكن تسميتها كذلك بالمجاز المحض، ومذ يوجد الفاعل ينتج منه أن القابل الذي يقبل الفعل يصير شيئا ما، ولكن متى تكون الكيفيات حاصلة تماما وحاضرة فليس للفاعل أن يصير؛ فإنه قد كان كل ما يجب أن يكونه. إن صورة الأشياء وغاياتها يمكن أن يقال إنها كيفيات وعادات في حين أن المادة إنما هي التي بما هي مادة قابلة تماما. على هذا حينئذ النار لها حرارتها في المادة، وإذا كانت الحرارة شيئا ما قابلا للانفصال عن مادة النار فلا يمكنها أن تقبل شيئا ولا أن تتأثر. ولكنه محال من غير شك أن الحرارة تكون منفصلة عن النار التي تسخن، وإذا كان ثم أشياء منفصلة بهذه المثابة فإن ما قلناه آنفا لا يكون صادقا إلا بالنسبة لتلك.
12
وعلى الجملة نقف عند حد الاعتبارات المتقدمة في إيضاح ماهية فعل وانفعل؛ لنبين بأي الأشياء يتعلق أحدهما والآخر وبأي طريقة يكون الفعل والانفعال وكيف يكونان.
13
هوامش
الباب الثامن
لنعرض مرة أخرى كيف أن ظاهرتي الفعل والانفعال ممكنتان. من الفلاسفة من يرى أنه حينما يعاني شيء أثرا ما على جهة الانفعال، فذلك أن الفاعل الذي يفعل الأثر نهائيا وبطريق الأصلية ينفذ في ذلك الشيء بواسطة مسام أو قنوات، يقولون إننا كذلك نرى وإننا نسمع وإننا ندرك جميع الإدراكات الأخرى للحواس. وفوق ذلك إذا أمكن أن ترى الأشياء من خلال الهواء والماء والأجسام الشفافة فذلك بأن هذه الأجسام لها مسام غير مدركة بالبصر لسبب صغرها، ولكنها مع ذلك شديدة الانضمام مرصوفة بنظام وترتيب، وكلما تكون الأجسام أكثر شفافية كان لها من هذه المسام عدد أكثر.
1
وعلى هذا النحو استبان بعض الفلاسفة الأشياء كما فعل أمبيدقل مثلا، ولكن لم تقصر هذه النظرية على الفعل وعلى الانفعال، بل زعم أن الأجسام لا تختلط إلا متى كانت مسامها متناسبة المقياس على طريق التكافؤ، وقد اختط لوكيبس وديمقريطس بأحسن من غيرهما الطريق الحق وأوضحا كل بكلمة واحدة بأن صدرا عن نقطة الابتداء الحقيقية التي يعينها الطبع. وفي الواقع إن بعض القدماء قد ظن أن الموجود هو بالضرورة واحد وغير متحرك، فعلى رأيهم الخلو لا يوجد، وأنه لا يمكن أن توجد حركة في العالم ما دام أنه لا يوجد خلو منفصل عن الأشياء. وكانوا يزيدون على ذلك أنه لا يمكن أيضا أن يوجد تعدد ما دام أنه لا يوجد خلو يقسم الأشياء ويعزلها.
على أن دعوى أن العالم ليس متصلا لكن الموجودات التي تؤلفه متماسة مهما كانت منفصلة فذلك يرجع إلى القول بأن الموجود متعدد وليس هو واحدا، وأن الخلو موجود، وأنه إذا كان الموجود هو مطلقا قابلا للقسمة في جميع الاتجاهات فمن ثم لا توجد بعد وحدة لأي ما كان بحيث إنه لا يوجد أيضا تعدد، وأن الكل هو خلو كله. يقولون إنه إذا فرض أن العالم شطره على نحو وشطره على آخر فذلك إيضاح أشبه ما يكون بفرض مجازف فيه؛ لأنه حينئذ إلى أي نقطة ولماذا الجزء الفلاني من العالم يكون كذلك ومليئا في حين أن الجزء الفلاني الآخر مقسوم؟ وبهذه الطريقة يوصل أيضا على رأيهم إلى تأييد أنه بالضرورة لا يوجد حركة في العالم.
2
بالصدور عن هذه النظريات وبمعاندة شهادة الحواس والاستهانة بها بحجة أنه ينبغي اتباع العقل فقط انتهى بعض الفلاسفة إلى التصديق بأن العالم واحد غير متحرك وغير متناه؛ لأنه إن لم يكن كذلك فإن الحد بحسبهم لا يمكن إلا أن يحاد الخلو.
3
تلك هي إذن نظريات هؤلاء الفلاسفة، وتلك هي الأسباب التي دفعتهم إلى فهم الحق على هذا النحو، ولا شك في أنه إذا استمسك بالتداليل العقلية المحضة فذلك يشبه أن يكون مقبولا، ولكن إذا أريد اعتبار الحوادث الواقعية فيوشك أن يكون من الجنون تأييد آراء كهذه؛ لأنه لا يوجد مجنون ذهب إلى هذه النقطة من الضلال أن يجد أن النار والثلج هما شيء واحد بعينه. ولكن خلط الأشياء الجميلة لذاتها بالتي لا تظهر لنا كذلك إلا بالاستعمال من غير أن يرى فيها مع ذلك أي فرق ما بينها، ذلك لا يمكن أن يكون إلا نتيجة لتيه حقيقي للعقل.
4
فأما لوكيبس فإنه كان يظنه محيطا علما بالنظريات التي - مع كونها متفقة مع الحوادث الواقعية المدركة بالحواس - لم تكن - بحسب مذهبه - لتتعرض للكون ولا للفساد ولا للحركة ولا للتعدد في الموجودات. ولكن بعد هذا التسامح الذي أسداه إلى حقيقة الظواهر قد أسدى غيره إلى أولئك الذين يقبلون وحدة الموجود بحجة أنه لا يوجد حركة ممكنة بدون الخلو، ويقبل القول بأن الخلو هو اللاموجود، وأن اللاموجود ليس هو شيئا مما هو موجود. وإذن - على رأيه - الموجود بالمعنى الخاص هو متعدد للغاية، والموجود على هذا المعنى لا يمكن أن يكون واحدا. وعلى العكس إن هذه العناصر تكون غير متناهية في العدد وتكون فقط غير مرئية بسبب لطافة حجمها للغاية، ويزيد على ذلك لوكيبس أن هذه الجزيئات تتحرك في الخلو؛ لأنه يقبل الخلو، وأنها باجتماعها تسبب كون الأشياء وبانحلالها تسبب فسادها، وأن الأشياء تفعل أو تنفعل تبعا لما أنها تتماس على طريق التكافؤ، وأنها على ذلك ليست هي شيئا واحدا بعينه، وأنها بتركبها واشتباكها بعضها ببعض تكون العالم كله.
ويستنتج لوكيبس من هذا أن التعدد لم يكن ليخرج ألبتة من الوحدة الحقة، كما أن الوحدة لا يمكن أن تأتي أيضا من التعدد الحق، وأن كل هذا هو محال على الإطلاق من جهة ومن أخرى. وأخيرا كما أن أمبيدقل وبعض الفلاسفة الآخرين يزعمون أن في الأشياء الفعل الذي تقبله وتعانيه هو يحصل فيها بواسطة المسام، فكذلك يرى لوكيبس أيضا أن كل استحالة للأشياء وكل انفعال لها إنما يحصل على هذا النحو نفسه، وأن الانحلال والفساد يكونان بواسطة الخلو، والنمو حاصل كذلك بواسطة الجزيئات الجامدة التي تدخل في الأشياء.
5
وأما أمبيدقل، فينبغي أن يقول قول لوكيبس تقريبا؛ لأنه يقول بأنه يجب أن يوجد جزئيات جامدة وغير قابلة للتجزئة إذا كانت المسام ليست متصلة مطلقا. ولما أن هذا الاتصال للمسام محال؛ لأنه حينئذ لا يمكن وجود شيء جامد، إلا أن يكون هو المسام، والكل بلا استثناء لا يكون إلا بعد خلوا، فحينئذ يلزم على رأي أمبيدقل أن الجزيئات التي تتماس تكون غير قابلة للتجزئة، وأن المسافات وحدها التي تفصلها تكون خلوات، وهذا هو ما يسميه المسام، وهذه الآراء هي أيضا آراء لوكيبس في الفعل والانفعال في الأشياء.
6
تلك هي الإيضاحات التي أعطوها عن الوجه الذي تكون به الأشياء تارة فاعلة وتارة منفعلة، وحينئذ يرى مبلغ ما عليه في الحقيقة هؤلاء الفلاسفة، وكيف يعبرون آراءهم في هذا الصدد مؤيدين مذاهب تكاد تكون مطابقة للحوادث.
7
ولكن في نظريات فلاسفة آخرين كأمبيدقل يلمح - بجلاء أقل - كيف يدرك كون الأشياء وفسادها واستحالتها، والطريقة التي بها تقع هذه الظواهر. فعلى رأي البعض أن العناصر الأولية للأجسام هي غير قابلة للتجزئة، ولا تختلف بينها إلا بالصور، ومن هذه العناصر تتركب الأجسام في البداية وإليها تتحلل في النهاية.
ولكن من جهة أمبيدقل فقد يرى على كفاية الوضوح أنه يبلغ بكون الأشياء وفسادها إلى العناصر أنفسها. على أنه كيف يمكن أن يكون وأن يفسد العظم الملتك لهذه العناصر؟ هذا هو ما ليس بينا ألبتة في مذهبه، بل زيادة على ذلك إن هذا ما لا يستطيع تبيانه ما دام أنه ينكر أن النار ذاتها عنصر كما ينكر أيضا على السواء وجود جميع العناصر الأخرى. وقد أيد أفلاطون النظرية عينها في طيماوس؛ لأنه فضلا عن أن أفلاطون يعبر في هذه النقطة مثل لوكيبس فإن أحدهما يقبل أن التي لا تتجزأ هي جوامد والآخر أنها ليست إلا سطوحا، وإن أحدهما يقرر أن جميع الجوامد التي لا تتجزأ هي محدودة بأشكال عددها غير متناه والآخر أن لها أشكالا متناهية ومضبوطة. والنقطة الواحدة التي فيها يتفق الاثنان جميعا أنهما يقبلان وجود التي لا تتجزأ وتحديدها بأشكال.
8
إذا كان حقا أن من ذلك في الواقع تأتي أكوان الأشياء وفساداتها؛ فمن ثم يوجد عند لوكيبس لإدراكها طريقتان: الخلو والتماس، وعلى هذا النحو - على رأيه - إن كل شيء قد يكون متميزا ومنقسما. ولكن عند أفلاطون الأمر على الضد ليس إلا التماس وحده ما دام أنه يرفض وجود الخلو. وقد تكلمنا في بحوثنا السابقة على مذهب السطوح التي لا تتجزأ، وأما الجوامد التي لا تتجزأ فليس ها هنا محل لفحص أطول من ذلك عن نتائج هذه النظرية التي ندعها الآن إلى جانب.
9
ولكن إذا نحن استطردنا بعض الشيء نقول إنه ضرورة في هذه المذاهب كل ما لا يتجزأ فهو يجب أن يكون غير منفعل؛ لأنه لا يمكن أن يكون منفعلا وقابلا أي فعل ما إلا بالخلو الذي هو غير مقبول عندهم، وهو كذلك لا يمكنه أن يحدث أي فعل ما في أي شيء اتفق ما دام أنه لا يمكن أن يكون لا صلبا ولا باردا مثلا. وفي الحق إنه من السخف الاقتصار على تخصيص الحرارة بالشكل الكري وحده فقط؛ لأنه من ثم يكون بالضرورة الكيف المضاد - أعني البرودة - يتعلق بشكل آخر غير الكرة.
ولكن إذا كان هذان الكيفان يوجدان في الأشياء - أعني الحرارة والبرودة - فيكون من السخف الاعتقاد بأن الخفة والثقل والصلابة والرخاوة لا يمكن أن تكون فيها أيضا. وإني أعترف بأن ديمقريطس يزعم أن كل ما لا يتجزأ يمكن أن يكون أكثر ثقلا إذا كان أكبر حجما بحيث إنه - بالبين بذاته أيضا - يمكن أن يكون أكثر حرارة.
10
ولكنه من المحال - متى كان الأمر على ما يقال - أن تلك التي لا تتجزأ لا تقبل تأثيرا ما بعضها من قبل البعض الآخر، وأن ما هو متوسط الحرارة مثلا لا يقبل تأثيرا من قبل ما له حرارة أكثر منه للغاية. ولكن إذا كان الصلب يقبل تأثيرا فالرخو أيضا يجب أن يقبل تأثيرا؛ لأنه لا يقال على شيء إنه رخو إلا مع الاستحضار الذهني لفعل يمكنه احتماله ما دام الجسم الرخو هو بالضبط هذا الذي يطاوع الضغط بسهولة.
11
ومع ذلك ليس أقل سخفا ألا يقبل في الأشياء مطلقا شيء إلا الصورة، وإذا تقبل الصورة فمن السخف ألا يفترض فيها إلا واحدة إما مثلا البرودة وإما الحرارة؛ لأنه لا يمكن أن يوجد طبع واحد بعينه لهاتين الظاهرتين المتقابلتين.
12
وفي الحق إن من المحال أيضا على سواء أن يفترض أن الموجود مع بقائه واحدا يمكن أن تكون له عدة صور؛ لأنه بما هو لا يتجزأ قد يعاني تغاييره المختلفة في النقطة عينها. وبالنتيجة فعبثا ينفعل، فيبرد مثلا، وبهذا عينه يحدث أيضا فعلا آخر، أو بل يقبل أي تأثير آخر اتفق.
13
يمكن استخدام هذه التنبيهات أنفسها بالنسبة لجميع التغايير الأخرى؛ لأنه سواء قبل القول بجوامد لا تتجزأ أو قبل القول بسطوح لا تتجزأ فالنتائج تكون هي أنفسها ما دام ليس ممكنا أن اللامتجزئة تكون تارة أكثر تخلخلا وتارة أكثر كثافة إذا لم يوجد خلو في اللامتجزئة.
14
وكذلك من السخف على السواء تماما افتراض أن أجساما صغارا هي غير قابلة للتجزئة، وأن أجساما كبارا لا تكونه؛ ففي الحالة الحاضرة للأشياء يفهم العقل في الواقع أن الأجسام الكبرى يمكن أن تتفتت بأسهل جدا من الصغرى ما دام أنها تتحلل بدون عناء؛ لأنها كبيرة وأنها تتلامس وتتصادم في كثير من النقط. ولكن لماذا اللامتجزئة قد توجد مطلقا في صغار الأجسام بالأولى من أن توجد في الكبار؟
15
وفوق ذلك كل هذه الجوامد هل هي من طبع واحد بعينه؟ أم هل هي تختلف بعضها عن بعض بما أن بعضها من النار والآخر من الأرض بحسب كتلتها؟ فإذا لم يكن إلا طبع واحد بعينه لجميعها فماذا عسى أن تكون العلة التي قسمتها؟ بل لماذا بتماسها لا تجتمع كلها بالتماس في كتلة واحدة بعينها كالماء حينما يلامس الماء؟ فإن الماء الأخير المضاف لا يختلف في شيء عن الماء الذي كان يتقدمه. ولكن إذا كانت هذه التي لا تتجزأ يختلف بعضها عن بعض، فحينئذ ماذا تكون؟ بين بذاته أنه يلزم التسليم أن هذه هي مبادئ الظواهر وعللها أولى من أن تكون مجرد أشكال لها، ومن جهة أخرى إذا قيل إنها مختلفة الطبع فحينئذ يمكنها بتلامسها المتبادل أن تفعل أو تنفعل بعضها بالآخر.
16
أكثر من ذلك، ماذا سيكون المحرك الذي يوقعها في الحركة؟ إذا كان هذا المحرك مخالفا لها فحينئذ يكون ما لا يتجزأ قابلا، وإذا كان كل ما لا يتجزأ يحرك نفسه فإما أن يصير قابلا للتجزئة بما هو محرك في جزء ومحرك في جزء آخر، وإما أن يجتمع النقيضان في الشيء بعينه معا، وحينئذ تكون المادة واحدة لا بالعدد فقط بل بالقوة أيضا.
17
وحينئذ هؤلاء الذين يزعمون أن التغايير التي تقبلها الأجسام تكون بحركة المسام يجب عليهم أن ينتبهوا؛ لأنهم إذا سلموا بأن الظاهرة تقع حتى لو كانت المسام مليئة لاستعاروا حينئذ للمسام وظيفة غير مفيدة قطعا ما دام أنه إذا انفعل الجسم في هذه الحالة بالطريقة عينها يمكن افتراض أنه - بدون أن يكون له مسام وبما هو نفسه متصل - قد يمكنه أيضا أن يقبل بالتمام كل ما يقبل.
18
ولكن كيف يمكن أن يحصل النظر بالطريقة التي يفسر بها في هذا المذهب؟ ليس أكثر إمكانا في الواقع أن يمر بالتماسات من خلال الأشياء الشفافة منه في خلال المسام إذا كانت المسام كلها مليئة، فأين يكون الفرق إذن بين أن يكون لها مسام وبين ألا يكون لها ألبتة ما دام أن الكل سيكون مليئا على السواء؟ بل إذا كانت هذه المسام ذواتها مفترضة خالية وإذا كان فيها أجسام، فحينئذ تعود الصعوبات أنفسها. ولكن إذا افترض أن المسام ذوات امتدادات صغيرة بحيث لا تستطيع بعد أن تقبل أي جسم اتفق، فإن من سفه الرأي أن يتصور أن الصغير خال وأن الكبير ليس كذلك، مهما كانت سعته، وأن يتمشى بالاعتقاد إلى أن الخلو هو شيء آخر غير مكان الجسم، بحيث إنه - كما هو بين ذاته - يلزم أن يكون الخلو دائما على مقدار مساو للجسم نفسه.
19
وعلى جملة من القول فإنه غير مفيد افتراض مسام، فإذا كان جسم لا يفعل في آخر بمسه، فلن يفعل أيضا بأن يخترق مسام، وإذا كان إنما يفعل بالمس فحينئذ - حتى بدون مسام - تفعل الأجسام أو تقبل الفعل كلما وضعها الطبع أحدها تلقاء الآخر في علاقة من هذا القبيل.
20
والحاصل أنه يرى من كل ما تقدم أن تصور مسام على الوجه الذي فهمها به بعض الفلاسفة إنما هو خطأ كامل أو فرض باطل؛ فإن الأجسام بما هي قابلة للتجزئة مطلقا في كل جهة، فمن السخرية افتراض مسام ما دام أن الأجسام بما هي قابلة للتجزئة يمكنها دائما أن تنفصل.
21
هوامش
الباب التاسع
أما نحن فإننا - صاعدين إلى المبدأ الذي طالما قررناه - نعيد إيضاح الطريقة التي بها الكون والفعل والانفعال تقع في الأجسام. في الواقع إذا كان شيء له الخاصة الفلانية تارة بالقوة المحضة وتارة بالفعل وبالكمال، وإذا كان يمكنه بالطبع أن ينفعل في واحد معين من أجزائه ولا ينفعل في الآخر، ولكن في مجموعه ينفعل بنسبة ما له من هذه الخاصة، فمن البين أنه سينفعل أكثر أو أقل تبعا لما أن هذه الخاصة فيه أكثر شدة أو أقل. على هذا الوجه على الأخص قد يمكن بأكثر سهولة التسليم بوجود المسام، وتكون حالها على ذلك في الأجسام كما هو الحال في المعادن تمتد أحيانا عروق متصلة من المادة القابلة لانفعال ما.
1
على ذلك كلما كان الشيء متجانسا وكان واحدا كان غير قابل، ويجري هذا المجرى أيضا متى كانت الأشياء لا تتلامس بينها، أو لا تلامس أغيارا يمكنها بطبعها أن تفعل أو تنفعل، أعني مثلا أنه ليس فقط النار تسخن بالتماس ولكنها تسخن أيضا على مسافة؛ لأن النار تسخن الهواء، والهواء يسخن الجسم؛ لأن الهواء بطبعه يمكن أن يفعل وينفعل معا.
2
ولكن متى يقال إن شيئا يمكن أن ينفعل في واحد من أجزائه ويمكنه ألا ينفعل في آخر، فينبغي إيضاح ماذا يعني بذلك بعد الحد المعطى في المبدأ، فإذا كان في الواقع العظم ليس هو مطلقا قابلا للتجزئة في جميع الجهات لكن فيه شيئا ما جسما كان أو سطحا يكون غير قابل للتجزئة فيه؛ فقد ينتج من ذلك أنه لا يوجد بعد من عظم يمكن أن يكون بكله قابلا، بل قد لا يكون بعد من شيء أمكن أن يكون متصلا، وحينئذ إذا كان ذلك خطأ وكان كل جسم قابلا للتجزئة دائما فلا يهم بعد أن يكون الجسم مقسوما فعلا، وبهذه الصفة قابلا للتماسات أو يكون بالبساطة قابلا للتجزئة؛ لأنه ما دام يمكن أن يكون مقسوما في نقط التماس - كما هو المدعى - يمكن اعتباره كأنه مقسوم حتى قبل أن يكونه، ويكون قابلا للقسمة ما دام أنه لا شيء مما هو محال يكون أبدا.
3
وإن ما يجعل سخيفا تماما تقرير أن الفعل والانفعال يحصلان على هذا النحو بشق الأجسام هو أن هذه النظرية تمحو الاستحالة وتفسدها. وعلى هذا نحن نرى أن جسما بعينه دون أن ينقطع عن أن يكون متصلا هو تارة سائل وتارة متجمد دون أن يقبل هذا التحول لا بقسمة أجزائه ولا باتحادها ولا بنقلتها ولا بتماسها كما يزعم ديمقريطس؛ لأن الجسم ما كان ليغير وضعه ولا ليغير مكانه ولا ليغير طبعه ليصير متجمدا بعد أن كان سائلا، وليس يرى أيضا أن الأشياء المتصلبة والمتجمدة تكون حالا غير قابلة للقسمة في كتلتها، بل الجسم بكله يكون على السواء سائلا وأحيانا يصير بكله صلبا ويتجمد.
4
وأخيرا؛ في هذا المذهب قد لا يمكن بعد وجود نمو الأشياء ولا اضمحلالها؛ لأنه لا جسم يمكن أن يصير أكبر إذا لم يكن هناك إلا مجرد إضافة، وإذا لم يتغير بكله على أثر اختلاط بشيء أجنبي أو على أثر تغير ما يحصل فيه.
5
ونحن نقتصر على ما أتينا به من القول فيما يتعلق بكون الأشياء وفعلها وتناسلها وتحولاتها المتكافئة، وهذا يكفي على سواه ليفهم على أي النواحي هذه النظريات تكون ممكنة وكيف لا تكونه بحسب الإيضاحات التي أعطيت عنها أحيانا.
6
هوامش
الباب العاشر
بقي علينا أن ندرس ما هو اختلاط الأشياء، وسنتبع ها هنا النمط عينه كما فيما سبق؛ لأن هذا هو ثالث الموضوعات التي تصدينا لفحصها في بداية هذه البحوث. يلزم إذن أن ننظر ما هو الاختلاط وما هو الشيء القابل لأن يختلط، وما هي الأشياء التي يمكن أن يقع الاختلاط بينها، وكيف تتحقق هذه الظاهرة.
1
ومن جهة أخرى يمكن أيضا أن يتساءل عما إذا كان يوجد حقيقة بالفعل اختلاط للأشياء أو أن هذا ليس إلا ضلالا؛ لأنه يمكن أن يظن أن شيئا لا ينبغي ألبتة أن يختلط بآخر كما يزعم بعض الفلاسفة؛ يقولون إنه في الواقع حينما الأشياء التي اختلطت تبقى بعد أيضا ولم تكن لتستحيل لا يمكن أن يقال إنها الآن أكثر اختلاطا مما كانته من قبل، ولكنها دائما في الحال بعينها. فإذا أخذ أحد الشيئين أن يبيد في الاختلاط لا يمكن بعد أن يقال إنهما اختلطا، ولكن فقط إن أحدهما يوجد وإن الآخر لا يوجد بعد، في حين أن الاختلاط لا يمكن في الحق أن يقع إلا بين شيئين يوجدان على السواء. ويزيدون - أخيرا - على ذلك أنه لا يوجد بعد اختلاط، بهذا السبب عينه، إذا كان الشيئان اللذان يجتمعان يفسدان كلاهما بالاختلاط؛ لأنه من المحال قطعا أن أشياء لم تكن بعد ألبتة يمكنها أن تختلط.
2
هذه النظرية - كما يرى - الغرض منها أن يتعين في ماذا يختلف اختلاط الأشياء عن كونها وعن فسادها، وأيضا في أي شيء يختلف الشيء المختلط عن الشيء الكائن وعن الشيء الفاسد؛ لأنه من البين أنه ينبغي أن يكون الاختلاط مغايرا بافتراض أنه واقع بالفعل. ومتى وضحت هذه المسائل تنحل المسائل التي وضعناها لأنفسنا من قبل.
3
ذلك هو السبب في أنه لا يمكن أن يقال إن المادة اختلطت بالنار التي أحرقتها حتى ولا أنها تختلط بها وقت ما تحرقها، كما أنه قد لا يمكن أن يقال إنها تختلط بنفسها في أجزاء النار كما لا تختلط بالنار نفسها. بل يقال ببساطة إن النار تكونت، وإن المادة القابلة للاحتراق قد فسدت، كما أنه لا يمكن أيضا أن يقال لا عن الغذاء ولا عن صورة الخاتم إن الأولى باختلاطها بالجسم والثانية باختلاطها بالشمع قد أعطتا شكلا ما للكتلة بتمامها. ينبغي الاعتراف أيضا بأنه لا الجسم ولا البياض ولا بالاختصار، كيفيات الأجسام وتغايرها يمكنها أن تختلط بالأشياء ما دام أنه يرى أن الاثنين يبقيان. كذلك أيضا البياض والعلم في الواقع لا يمكنهما أن يركبا خليطا ولا أيضا أي واحد من الكيفيات أو الخواص التي ليست قابلة للانفصال.
4
وأيضا يخدع نفسه من يقرر أن الأشياء جميعها كانت سابقا مندمجة، وأن الكل قد وجد مختلطا؛ لأن كلا لا يمكن ألبتة أن يختلط بكل على السواء. يلزم دائما أن كلا الشيئين اللذين يختلطان يمكن أن يبقى على حدة. وحينئذ فإن كيفيات الأشياء لا يمكنها أن تكون منفصلة عنها أبدا. ولكن لما أن من بين الأشياء بعضها تكون بالقوة المحضة والآخر بالفعل المحض فينتج من ذلك الأشياء التي تختلط يمكنها من جهة أن تبقى بعد ومن جهة أخرى ألا تبقى؛ فإذا كان في الواقع الخليط الحاصل من الاختلاط هو شيئا مخالفا فإنه يكون كذلك دائما بالقوة للشيئين اللذين كانا يوجدان قبل أن يختلطا وقبل أن ينعدما في الخليط. وهذا إنما هو على التحقيق الجواب على المسألة التي أثارتها النظرية التي تكلمنا عليها آنفا.
ويظهر أن الأخلاط تتألف من أشياء كانت من قبل منفصلة ويمكن أن تكون أيضا من جديد؛ وعلى ذلك الأشياء المختلطة لا تبقى بالفعل كما يمكث ويبقى الجسم والبياض الذي يشخصه، وليست هي كذلك تكون فاسدة، سيان أحد الاثنين على حياله والاثنان جميعا معا ما دامت قوتهما محفوظة دائما.
5
ولكن لندع هذا إلى ناحية ولننتقل إلى المسألة الآتية التي تنحصر في معرفة ما إذا كان الاختلاط هو شيئا يمكن حواسنا أن تدركه، مثال ذلك حينما الأشياء المختلطة تكون مقسومة إلى أجزاء من الصغر بمكان، وتكون موضوعة على قرب بعضها عند بعض حتى لا يعود أحدها متميزا من الآخر بوجه محسوس، فهل يوجد فيها حينئذ اختلاط أو لا يوجد؟ ولكن أليس ممكنا أيضا أن في الخلط الأشياء كيفما اتفقت تكون موضوعة أجزاء أجزاء بعضها بجانب الأخرى؟ لأن هذا يسمى أيضا اختلاطا، وعلى هذا النحو يقال إن التبن مختلط بالحب حينما يكون موضوعا بجانب كل حبة تبنة.
6
إذا كان الجسم هو قابلا للتجزئة، وإذا كان جسم متى كان مختلطا بجسم آخر يجب أن يكون مجانسا له، فقد يلزم أن كل جزء اتفق من الخليط ينضم إلى جزء آخر اتفق. ولكن بما أن الجسم لا يمكن ألبتة أن يكون مقسوما إلى أجزائه الصغرى، وبما أن الانضمام ليس هو ألبتة الاختلاط، بل هو شيء آخر تماما، فبالبين لا يمكن أن يقال بعد إن الأشياء اختلطت متى حفظت ذواتها على ما كانت في جزيئات صغيرة. حينئذ يكون الضم، ولكن لا يكون لا خلط ولا مزج، وحد جزء من الخليط لا يمكن بعد أن يكون هو الحد الذي قد يعطى للخليط بتمامه.
أما نحن فنقول إنه لكي يوجد اختلاط حقيقي يلزم أن الشيء الخليط يكون مركبا من أجزاء متجانسة، وكما أن جزءا من الماء هو ماء كذلك أيضا يجب أن يكون أي جزء اتفق من الخليط. ولكن إذا لم يكن الاختلاط إلا انضمام جزيئات إلى جزيئات فليس يوجد ولا واحد من الأحداث التي أتينا على تحليلها، وإنما يكون فقط في نظر الأعين أن الشيئين يظهر أنهما مختلطان. وكذلك الشيء عينه يظهر مخلوطا للرائي فلان الذي ليس له نظر نفاذ، في حين أن «لينسيه» يجد أن ليس هناك اختلاط.
7
إن التجربة لا تفسر الاختلاط، كما لا يفسره اجتماع جزء اتفق بجزء آخر ما دامت التجزئة لا يستطاع حصولها بهذه الطريقة.
وحينئذ إما ألا يكون اختلاط ممكنا، وإما أنه يلزم اتخاذ نحو آخر من النظر لكي يبسط كيف يمكن أن تقع هذه الظاهرة. ولنذكر بديا أن من بين الأشياء - كما قلنا - بعضها فاعلة والأخرى قابلة لفعل تلك، بعضها له تأثير مكافئ وهي تلك التي مادتها واحدة بما هي مستطيعة أن تفعل بعضها في الأخرى أو تنفعل بعضها بالأخرى على السواء، وأخرى تفعل مع بقائها غير قابلة للانفعال، وتلك هي التي مادتها ليست واحدة، وهذه ليس فيها اختلاط ممكن. من هذا يرى كيف أن الطب لا يختلط بالأجسام ليفعل الصحة ولماذا الصحة لا تختلط به أيضا.
8
بل من بين الأشياء التي يمكنها أن تفعل وتنفعل على طريق التكافؤ كل تلك التي تكون سهلة التجزئة، حينما يختلط منها عدد عظيم بعد قليل من أشياء أخر وكمية عظيمة بكمية أقل عظما لا تنتج على التحقيق اختلاطا بل نموا للعنصر الغالب، وحينئذ أحد الشيئين المختلطين يتغير في الذي هو غالب. على ذلك نقطة من النبيذ لا تمتزج بكمية من الماء تكون عشرة آلاف ضعف؛ لأنه في هذه الحالة النوع يتحلل ويتغير بتلاشيه في كتلة الماء كلها. ولكن متى كانت الكميتان متساويتين تقريبا فحينئذ كل عنصر يفقد من طبعه ليأخذ من طبع العنصر الذي هو أغلب؛ فالمزيج لا يصير واحدا منهما مطلقا، بل يصير شيئا وسطا ومشتركا.
9
فبين إذن أنه لا يكون اختلاط إلا حينما تكون الأشياء التي تفعل لها مقابلة ما بينها؛ لأنها إذن يمكن أن تقبل تأثيرا ما بعضها من بعض. ومن الأشياء الصغيرة ما يزيد اختلاطها بالأشياء الصغيرة باقترابها منها؛ لأنها حينئذ تتدخل بأسرع وبأسهل بعضها في بعض، ولكن كمية كبيرة تحت فعل كمية كبيرة أيضا لا تنتج هذه النتيجة إلا مع الطولي.
10
على ذلك بين الأشياء القابلة للتجزئة والمنفعلة، الأشياء التي تتحدد بسهولة يمكنها أن تختلط؛ لأن هذه الأشياء تنقسم بلا عناء إلى أجزاء صغيرة، وهذا إنما هو بالتحقيق ما يعني بقولنا تتحدد بسهولة. مثال ذلك السوائل من بين جميع الأجسام هي الأكثر قابلية للمزج؛ لأن السائل من بين الأشياء القابلة للتجزئة هو الذي يتعين ويتحدد بأسهل ما يكون بشرط ألا يكون دبقا؛ فإن الأجسام الدبقة لا تزيد على أن تصير جملة الحجم أضخم وأعظم، ولكن حينما يكون أحد الشيئين المختلطين هو وحده المنفعل أو أنه يكونه كثيرا، وأن الآخر يكونه قليلا جدا، فالخليط الناتج من الاثنين إما ألا يكون أعظم ألبتة أو لا يكاد يكونه. وهذا هو ما يقع بالنسبة للقصدير مختلطا بالنحاس؛ لأنه يوجد بعض أجسام حائرة بعضها بالنسبة للبعض الآخر وهي تكون من طبع مشكل. فيمكن أن يلاحظ أن تلك الأجسام لا تختلط إلا اختلاطا ناقصا وإلى حد معين؛ فقد يقال إن أحدهما هو مجرد مأوى في حين أن الآخر هو الصورة، وهذا على التحقيق هو ما يحصل بالنسبة لهذين الجسمين اللذين سميا آنفا؛ لأن القصدير الذي هو كمجرد تغيير للنحاس بدون مادة يكاد يتلاشى بالتمام وينعدم بالخليط الذي لا يعطيه إلا لونا ما، وتحصل الظاهرة عينها أيضا بالنسبة لأجسام أخرى.
11
فيرى إذن بحسب جميع التفاصيل المتقدمة أن الاختلاط ممكن، وأنه هو ما هو، ويرى كيف يكون وما هي الأشياء التي بينها يمكن أن يحصل، وهي تلك التي يمكنها أن تقبل فعلا بعضها من قبل البعض الآخر، والتي هي قابلة للتحديد بسهولة وقابلة للتجزئة بسهولة. وإن الجواهر من هذا القبيل ليست تفسد ضرورة في الاختلاط، ولكنها لا تبقى فيه بعد مطلقا بأعيانها، فإن اختلاطها ليس مجرد ضم، وأن الجسمين لا يكونان بعد مدركين بالحواس. ولكن يقال على شيء إنه مختلط متى كان وهو مستطيع أن يتحدد بسهولة يمكنه أن يفعل وينفعل معا، وإنه يختلط بشيء له أيضا هذه الخواص أعيانها؛ لأن الشيء المختلط لا يكونه ألبتة إلا بالإضافة إلى شيء يكون وإياه من المتفقة أسماؤها (هو مونيم). والحاصل أن الاختلاط هو اجتماع الأشياء المختلطة مع استحالة لها.
12
هوامش
الكتاب الثاني
الباب الأول
(ف1) سبق الكلام على الاختلاط وعلى التماس وعلى الفعل وعلى الانفعال، ووضح كيف أن هذه الظواهر تقع في الأشياء التي تكابد تغيرات طبيعية. وقد عولج زيادة على ذلك كون الأشياء وفسادها المطلقان وبين بأي طريقة وفي أي الأحوال ولماذا هما يحدثان. وقد درست على السواء الاستحالة وحالة الموجود المستحيل، وفي النهاية قد بينت فصول كل واحدة من هذه الظواهر. والآن يبقى علينا أن ندرس ما يسمى عناصر الأجسام؛ لأن الكون والفساد في كل الجواهر التي تركبها الطبيعة لا يمكن أن يظهرا بدون الأجسام التي تدركها حواسنا.
1
من الفلاسفة من يزعمون أن جميع العناصر مكونة من مادة واحدة بالحقيقة والعدد، ويفترضون أنها هي الهواء أو النار أو جسم ما وسط بينهما، جاعلين هذه المادة جسما جوهريا متميزا تماما ومنفصلا. وآخرون يرون أنه يوجد أكثر من عنصر واحد ويقبلون حينئذ على السواء: هؤلاء النار والأرض، وأولئك الهواء ثالثا مع العنصرين المتقدمين، وآخرون مثل أمبيدقل يزيدون الماء كعنصر رابع. وفي هذه المذاهب المختلفة إنما هو باجتماع هذه العناصر وافتراقها أو استحالتها يعلل كون الأشياء وفسادها.
2
فنسلم بلا أدنى صعوبة أن هذه الأوليات للأشياء يمكن بغاية الموافقة أن تسمى مبادئ وعناصر، وأنه إنما بتغيرها بتجزئة أو تركيب متكافئ أو أي نوع آخر من التغيير الذي تعانيه يأتي كون الأشياء وفسادها. ولكن يخدع المرء نفسه بالتسليم بأنه يوجد مادة واحدة بعينها خارج جميع العناصر وجعلها منفصلة وجسمانية؛ لأن من المحال أن هذا الجسم إذا كان مدركا بحواسنا يمكن أن يوجد من غير أن يعرض أضدادا ما. ويلزم ضرورة أن هذا اللامتناهي الذي اتخذه الفلاسفة مبدأ لهم يكون خفيفا أو ثقيلا باردا أو حارا.
3
ولكن الطريقة التي شرح بها هذا المبدأ في «طيماوس» ليس فيها شيء من الضبط؛ لأنه لم يقل على وجه جلي ما إذا كان هذا الأصل لجميع الأشياء متميزا ومنفصلا عن العناصر. والمحقق هو أن طيماوس لم يرجع في واحد منها إلى هذا المبدأ، ولو أنه قال مع ذلك إنه الموضوع السابق لكل ما يسمى بالعناصر كما أن الذهب هو على الأسبقية موضوع المصنوعات الذهبية. ومع ذلك فإن هذا الإيضاح ليس حسنا على الصورة التي ألقي بها إلينا؛ فإنه يجوز تماما انطباقه على الحالات التي يوجد فيها استحالة بسيطة، ولكن بالنسبة للحالات التي فيها كون وفساد يكون محالا أن تسمى الأشياء بالتي منها تأتي.
صدق طيماوس إذ يقول إنه لا دخل في باب الحق أن يقرر أن كل مصنوع من الذهب هو ذهب، لكن مع أن عناصر الأشياء تكون جامدة فإنه يجاوز بتحليلها إلى حد السطوح. ومحال أن سطوحا تكون المادة الأولية التي يكلموننا عنها.
4
على أنه لما أن الأجسام نحن أيضا نعترف أنه يوجد مادة ما للأجسام التي تدركها حواسنا، ولكن هذه المادة التي منها يأتي ما يسمى بالعناصر ليست منعزلة ألبتة، بل هي توجد دائما مع أضداد. على أن هذا الموضوع قد درس في موطن آخر بأوسع من ذلك وأضبط.
5
على أنه لما أن الأجسام الأول يمكن أيضا بهذه الطريقة أن تأتي من المادة فيلزم التكلم على هذه الأجسام مع التسليم بأن المادة هي المبدأ والمبدأ الأول للأشياء، ولكنها غير منفصلة عنها، وأنها موضوع الأضداد؛ فإن الحار مثلا ليس هو مادة البارد كما أن البارد ليس مادة الحار، ولكن المادة هي موضوع الاثنين.
6
حينئذ بادئ بدء الجسم الذي هو مدرك بالقوة بإحساسنا هذا هو المبدأ، ثم بعد ذلك تأتي الأضداد كالحار والبارد مثلا. وفي المقام الثالث النار والماء والعناصر الأخرى المشابهة. هذه الأجسام كلها تتغير تغيرا بعضها إلى بعض، ولكن بالطريقة التي يقول بها أمبيدقل وفلاسفة آخرون؛ لأنه بحسب نظرياتهم قد لا يكون بعد حتى ولا الاستحالة، وإنما هي المقابلات بالأضداد هي التي لا تتغير بعضها إلى بعض. على أنه لما كانت تلك هي مبادئ الأجسام فلا بد مع ذلك من دراسة كيفياتها وعددها؛ لأن الفلاسفة الآخرين استخدموا ذلك في مذاهبهم بعد أن قبلوها على طريق الفرض، ولكنهم لا يقولون لماذا هذه الأضداد لها الطبع الفلاني وأنها في العدد الذي نراها عليه.
7
هوامش
الباب الثاني
ما دمنا نبحث فيما هي مبادئ الجسم المدرك بحواسنا؛ أعني الجسم الذي يستطيع اللمس أن يدركه، وما دام أن جسما يعرفنا إياه اللمس هو الذي يكون حسه الخاص هو اللمس، فينتج بالبداهة أن جميع المقابلات بالأضداد التي يمكن مشاهدتها في الجسم لا تؤلف أنواعه ومبادئه، ولكنها إنما هي فقط أنواع ومبادئ الأضداد التي تخص حاسة اللمس. إن الأجسام تتمايز بأضدادها، ولكن بأضدادها التي يمكن للمس أن يبينها لنا؛ لذلك نرى لماذا أنه لا البياض ولا السواد ولا الحلاوة ولا المرارة ولا أي واحد من الأضداد المحسوسة ليس عنصرا للأجسام.
1
وهذا لا يمنع أن يكون النظر حاسة أسمى من اللمس، وبالنتيجة أن موضوع النظر هو أسمى أيضا. ولكن النظر ليس عرضا للجسم الملموس بما هو ملموس، بل هو يرجع إلى شيء مغاير تماما يمكن مع ذلك أن يكون متقدما عليه بطبعه.
2
حينئذ بالنسبة للملموسات أنفسها يلزم الفحص والتمييز بين الفصول الأولى لها ومقابلاتها الأولى بالأضداد. المقابلات والمضادات التي يبينها لنا اللمس هي الآتية: البارد والحار، اليابس والرطب، الثقيل والخفيف، الصلب واللين، الدبق والفريك، الأملس والخشن، الكثيف والمتخلخل. من بين هذه الأضداد الثقيل والخفيف ليسا لا فاعلين ولا منفعلين؛ لأنه ليس لأنهما يفعلان أحدهما في الآخر أو لأنهما ينفعلان أحدهما من الآخر أعطيا الاسم الذي يحملانه. ومع ذلك يلزم أن العناصر يمكن أن تفعل وتنفعل بعضها من بعض على طريق التكافؤ ما دام أنها تختلط وتتغير على طريق التكافؤ بعضها إلى بعض.
3
ولكن الحار والبارد واليابس والرطب هي مسماة كذلك أولاهما لأنها تفعل والأخرى لأنها تنفعل؛ فإن الحار هو الذي يجمع ما بين الجواهر المتجانسة؛ لأن التفريق الذي يقال عن النار إنها تفعله إنما هو في حقيقة الأمر تركيب الأشياء التي من نوع واحد ما دام أن الذي يحصل إذن هو أن النار تخرج الجواهر الغريبة وتنفيها. والبرد على ضد ذلك يجمع ويركب على السواء الأشياء التي من نوع واحد، والتي ليست من نوع واحد، ويسمى سائلا ما ليس محدودا في صورته الخاصة، ولكنه يمكن مع ذلك أن يقبل بسهولة صورة. واليابس على ضد ذلك هو ما كان بما له من صورة محددة تماما في حدودها الخاصة لا يقبل صورة جديدة إلا بعناء.
4
من هذه الفصول الأول إنما يأتي المتخلخل والكثيف والدبق والفريك والصلب واللين والفصول الأخرى المشابهة؛ إذن فإن جسما له خاصة إمكان أن يملأ الأين بسهولة يتصل بالسائل؛ لأنه غير محدد هو نفسه، وإنه يخضع من غير أدنى عناء إلى فعل الشيء الذي يلمسه تاركا ذاته تأخذ صورة ذلك الشيء. كذلك المتخلخل يمكنه أن يملأ الأين على سواء؛ لأنه لما لم يكن له إلا أجزاء خفيفة وصغيرة كان يجيد الملء ويلامس تماما، وهذه الخاصة تميز على الخصوص الجسم المتخلخل. حينئذ بالبديهة المتخلخل يقارب السائل في حين أن الكثيف يقارب اليابس، ومن جهة أخرى الدبق يتعلق أيضا بالسائل؛ لأن الدبق ليس إلا نوعا من السائل مع بعض كيفيات كالزيت. ولكن الفريك يتعلق باليابس لأن الفريك إنما هو النام اليبس. ويمكن القول بأنه لم يتجمد إلا لخلوه من كل سائل. ويمكن أن يقال أيضا إن اللين جزء من السائل لأن اللين هو ما يطاوع عند التوائه على نفسه ودون أن ينتقل، كما أن السائل يفعل هذا الفعل بالضبط أيضا. تلك هي العلة في أن السائل لم يسم لينا في حين أن اللين يتعلق بصنف السائل، وأخيرا فالصلب يتعلق باليابس؛ لأن الصلب هو شيء من المتجمد والمتجمد يابس.
5
على أن يابسا وسائلا لفظان يحملان على معان شتى؛ فإن السائل والمبتل يمكن أن يعتبرا كمقابلين لليابس، كما أن اليابس والمتجمد هما مقابلان للسائل، وكل هذه الخواص المختلفة تتعلق بالسائل واليابس محمولين على المعنى الأولي لهاتين الكلمتين؛ لأنه من حيث إن اليابس هو مقابل للمبتل وإن المبتل هو ما كان به على سطحه سائل غريب، في حين أن المتنقع هو ما به السائل إلى باطنه. ولما أن اليابس هو على ضد ذلك ما كان خلوا من كل سائل غريب، فبين بذاته أن المبتل يتصل بالسائل في حين أن اليابس المقابل له يتصل باليابس الأولي.
6
ويجري هذا المجرى أيضا في السائل والمتجمد؛ فإن السائل لما كان ما به رطوبة خاصة والمتجمد ما هو خلو منها، يجب أن يستنتج منه أن هذين الكيفين أحدهما يتعلق بصنف السائل والآخر بصنف اليابس.
7
فبين حينئذ أن كل الفصول الأخرى يمكن أن يرجع بها إلى الأربع الأولى، وأن هذه لا يمكن أن ينزل عددها إلى أقل من ذلك؛ لأن الحار ليس هو والرطب أو اليابس شيئا واحدا، كما أن الرطب ليس هو لا الحار ولا البارد. كذلك البارد واليابس ليسا تابعين أحدهما للآخر، كما أنهما ليسا تابعين للحار ولا للرطب. والحاصل أنه لا يوجد ضرورة إلا هذه الأربعة الفصول الأصلية.
8
هوامش
الباب الثالث
لما أنه يوجد أربعة عناصر، وأن التراكيب الممكنة لحدود أربعة هي ستة، ولكن أيضا لما أن الأضداد لا يمكن أن تزدوج بينها ما دام البارد والحار واليابس والرطب لا يمكن ألبتة أن تندمج في شيء واحد بعينه، فبين أنه لا يبقى إلا أربعة تراكيب للعناصر. فمن جهة حار ويابس، حار ورطب، ومن جهة أخرى بارد ويابس، بارد ورطب.
1
تلك هي نتيجة طبيعية لوجود الأجسام التي تظهر بأنها بسيطة: النار والهواء والماء والأرض؛ فالنار حارة ويابسة، والهواء حار ورطب ما دام أن الهواء نوع من البخار، والماء بارد وسائل، وأخيرا الأرض باردة ويابسة. ينتج منه أن توزيع هذه الفصول بين الأجسام الأول يفهم جد الفهم، وأن عدد هؤلاء وهؤلاء هو على تمام التناسب.
2
وفي الحق أن كل الفلاسفة باعترافهم للأجسام البسيطة بأنها عناصر، قبلوا منها تارة واحدا وتارة اثنين وتارة ثلاثة وتارة أربعة.
3
فأما الذين لم يقبلوا منها إلا واحدا، فمضطرون إلى توليد كل الأخرى من تكثيف هذا العنصر أو تخفيفه. وبالتبع يقبلون مبدأين: المتخلخل والكثيف أو الحار والبارد؛ لأنها في هذا المذهب هي الفواعل المؤلفة، والعنصر الوحيد يكون خاضعا لفعلها بما هو مادة.
4
وأما الفلاسفة الذين هم كبرمينيد يقبلون عنصرين: النار والأرض؛ فيعتبرون العناصر الوسيطة - الهواء والماء - مزيجا من ذينكم العنصرين. كذلك الحال عند الذين يقبلون عناصر ثلاثة كما فعل أفلاطون في تقاسيمه؛ لأن عنده العنصر الوسط ليس إلا مزيجا. وحينئذ الذين يقبلون عنصرين والذين يقبلون ثلاثة يوشك أن يكونوا على اتفاق تام لولا أن بعضهم يقسم العنصر الوسط إلى اثنين وأن الآخرين يتركون له وحدته.
5
ومنهم - كأمبيدقل - من يعترفون جليا بأربعة عناصر، غير أنه هو أيضا ينزلها إلى اثنين؛ لأنه يقابل بالنار كل العناصر الأخرى مجتمعة؛ فعلى رأي أمبيدقل يكون لا النار ولا الهواء ولا أي واحد من العناصر الأخرى بسيطا بل ممزوجا؛ فإن الأجسام البسيطة هي جميعها بسيطة بلا شك، ولكنها ليست مع ذلك متماثلة. مثلا الجسم المشابه للنار هو من نوع النار، ولكنه مع ذلك ليس بالضبط نارا، والجسم المشابه للهواء هو من نوع الهواء دون أن يكون هواء، وكذلك الحال في بقية العناصر، ولكن النار هي إفراط في الحرارة كما أن الثلج إفراط في البرودة؛ لأن التجلد والغليان هما إفراطان من جنس ما أحدهما للبارد والثاني للحار. فإذا كان إذن الثلج هو تجلد السائل والبارد، فالنار تكون أيضا غليان الحار واليابس، فانظر لماذا لا يمكن أن يتولد شيء لا من الثلج ولا من النار.
6
الأجسام البسيطة بما هي في عدد الأربعة تتعلق اثنين اثنين بكل واحد من مكاني الأين؛ فالهواء والنار هما من المكان المائل نحو الحد الأقصى، والأرض والماء بالمكان الذي هو نحو المركز، وإن العناصر الطرفية والخالصة أكثر من غيرها هي النار والأرض. والعناصر الوسطى والأكثر ممازجة هي الماء والهواء. وفي كل طائفة أحد الاثنين هو ضد للآخر؛ لأن الماء ضد النار والأرض ضد الهواء ما دام أن لها في تركيبها كيفيات متضادة.
7
ومع ذلك فعلى القول بالإطلاق الأربعة الأجسام البسيطة لا يعلق كل واحد منها إلا بكيف واحد. على ذلك الأرض هي من اليابس أكثر من أن تكون من البارد، والماء هو من البارد أكثر من أن يكون من السائل، والهواء هو من السائل أكثر من أن يكون من الحار، والنار هي من الحار أكثر من أن تكون من اليابس.
8
هوامش
الباب الرابع
بعد أن بينا فيما سبق أن الأجسام البسيطة يكون بعضها بعضا على طريق التكافؤ، وأن المعاينة الحسية تدلنا على أنها تتكون بهذه الطريقة؛ لأنه إن لم يكن كذلك فقد لا توجد استحالة، ما دامت الاستحالة لا تنطبق إلا على كيفيات الأشياء التي يمكن لمسها، فيلزمنا أن نقول بأي طريقة يحصل تغيير العناصر بعضها إلى بعض وما إذا كان ممكنا أن كل عنصر يتولد من كل عنصر، أو إذا كان هذا ممكنا فقط بالنسبة للبعض ومحالا بالنسبة للبعض الآخر.
1
فإذا كان ثم أمر بديهي فذلك هو أن كلها يمكن بالطبع أن تتغير بعضها إلى بعض؛ لأن كون الأشياء يروح إلى الأضداد ويجيء من الأضداد. وكل العناصر لها تقابل بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر؛ لأن فصولها أضداد، وحينئذ في بعض العناصر الفصلان هما ضدان، ومثال ذلك في الماء والنار؛ فإن أحدهما يابس وحار في حين أن الآخر سائل وبارد. وبعض العناصر الأخرى ليس لها إلا واحد من الفصلين كالهواء والماء؛ فإن أحدهما هو سائل وحار والثاني بارد وسائل.
2
وحينئذ فمن البين أنه على العموم كل عنصر يمكن بالطبع أن يأتي من كل عنصر، وليس من الصعب الاقتناع بهذا بأن يشاهد كيف تحصل الظاهرة بالنسبة لكل عنصر على حدته؛ لأنه سيرى أن كلها تأتى من كلها. والفرق الوحيد إنما هو أن التغير يتكون بكثير أو قليل من السرعة وبكثير أو قليل من السهولة. وكلما كان بين العناصر نقط ارتباط تحولت بعضها إلى بعض سراعا جدا، وما ليس بينها نقط ارتباط تتغير ببطء، وعلة ذلك أن شيئا واحدا بمفرده يتغير بأسرع من عدة. وعلى ذلك فالهواء يأتي من النار بتغير أحد الكيفين ليس إلا، ما دام أن أحدهما يابس وحار والثاني حار وسائل. وينتج منه أنه إذا كان اليابس مغلوبا بالسائل فيتكون الهواء، ثم إنه من الهواء يتكون الماء إذا كان الحار هو المغلوب بالبارد؛ لأن أحدهما كان سائلا وحارا والثاني كان باردا وسائلا؛ فيكفي إذن أن الحرارة وحدها تتغير لأجل أن يتكون الماء.
3
وبهذه الطريقة عينها أيضا إن الأرض تأتي من الماء وإن النار تأتي من الأرض؛ لأن هذين العنصرين أيضا لهما أحدهما قبل الآخر نقطة جمع ووصل؛ فإن الماء سائل وبارد والأرض هي باردة ويابسة بحيث إنه إذا كان السائل هو المغلوب تتكون الأرض. ومن جهة أخرى بما أن النار يابسة وحارة والأرض يابسة وباردة؛ فإذا فسد البارد فمن الأرض تتكون النار، فيرى حينئذ أن كون الأجسام البسيطة يحصل بالدور وطريقة التغير هذه أسهل الطرق؛ لأن العناصر التي تتعاقب لها دائما بينها فقط جمع ووصل.
4
والماء يمكن أيضا أن يأتي من النار والأرض من الهواء وبالعكس يمكن أن يأتي أيضا الهواء والنار من الماء ومن الأرض. ولكن هذا التحول هو أصعب؛ لأن موضوع التغير أشياء أكثر عددا. وفي الواقع لأجل أن تأتي النار من الماء يلزم أن يفسد أولا البارد والسائل، وكذلك لأجل أن يأتي الهواء من الأرض يلزم أن البارد واليابس يفسدان. وهذا اللزوم واجب أيضا لأجل أن الماء والأرض يأتيان من النار ومن الهواء؛ لأنه يلزم حينئذ أن يكابد الكيفان التغير.
5
وأيضا الكون الذي يحصل بهذه الطريقة هو أبطأ. ولكن إذا فسد أحد كيفي كل واحد من الاثنين فيكون التحول أسهل، غير أن هذا التحول لا يحصل بعد حينئذ من الواحد إلى الآخر على طريق التكافؤ. غير أنه من النار ومن الماء تأتي الأرض والهواء ، ومن الهواء ومن الأرض تأتي النار والماء. وفي الواقع إذا فسد بارد الماء ويابس النار يتكون الهواء؛ لأنه لا يبقى بعد إلا حار أحدهما وسائل الآخر، ولكن إذا فسد حار النار وسائل الماء تتكون الأرض؛ لأنه لا يبقى حينئذ إلا يابس أحدهما وبارد الآخر.
6
وكما هو الأمر في الهواء والأرض يكون في تكون النار والماء؛ لأنه إذا فسد حار الهواء مع يابس الأرض، يتكون الماء ما دام أنه سيبقى سائل أحدهما وبارد الآخر، ولكن حينما يكون المنعدم هو سائل الماء وبارد الأرض تتكون النار؛ لأنه يبقى حار أحدهما ويابس الآخر، وهما الكيفان الخاصان بالنار.
7
وهذا الإيضاح لكون النار يتفق جدا مع الحوادث التي يشهد بها الحس؛ لأنه إنما هو اللهب الذي هو على الأخص نار، واللهب ليس إلا الدخان المحترق والدخان يتركب من هواء وأرض.
8
في العناصر التي تتوالى وتتعاقب ليس ممكنا متى كان أحد الكيفين قد فسد في واحد أو في الآخر أن يحصل مرور وتحول للعناصر إلى أي جسم آخر؛ لأن البواقي التي تبقى في الاثنين هي إما متماثلة أو متضادة. وحينئذ لا من بعضها ولا من الآخر يمكن أن يتحصل جسم. مثال ذلك إذا فسد يابس النار وإذا فسد أيضا سائل الهواء، لا توجد نتيجة ممكنة ما دامت الحرارة هي التي تبقى من طرف ومن آخر. وكذلك الحال فيما إذا كانت هي الحرارة التي تنعدم من الاثنين؛ فإنه لا يبقى بعد إلا ضدان، وهما اليابس والسائل، ويجري هذا المجرى في جميع الأحوال الأخرى ما دام أنه في الأحوال التي من هذا القبيل يبقى دائما تارة الكيف المماثل وتارة الكيف المضاد، وعلى هذا فمن البين حينئذ أنه لأجل تكوين العناصر مارة ومتغيرة من واحد إلى واحد يكفي أن كيفا واحدا يفسد. ولكن بالنسبة للعناصر التي تمر من اثنين إلى واحد فقط، هنالك يحتاج إلى فساد عدة كيفيات.
9
وعلى جملة من القول، فإنه قد وضح أن كل عنصر يتولد من كل عنصر، وقد بين بأية طريقة يحصل تحول بعضها إلى بعض.
10
هوامش
الباب الخامس
التفاصيل السابقة لا تمنعنا تقدير هذه المسائل على ضوء آخر؛ فإذا كانت مادة الأجسام الطبيعية هي - كما يرى بعض الفلاسفة - الماء والهواء أو عناصر من هذا القبيل، فيلزم أن تكون واحدا أو اثنين أو عدة من هذه العناصر. وفي الحق لا يمكن ألا تكون جميع الأشياء إلا عنصرا واحدا أحدا. مثلا أن الكل لا يكون إلا هواء أو ماء أو نارا أو أرضا ما دام التغير يحصل في الأضداد. وفي الواقع لنفرض أن الكل هو من الهواء، وأن الهواء يبقى في جميع التغيرات، فسيحصل من ثم مجرد استحالة ولن يحصل بعد كون.
1
ولكن في هذا الافتراض عينه ليس ممكنا - فيما يظهر - أن يكون الماء في آن واحد هواء أو أي عنصر آخر مشابه، فسيوجد دائما بين الكيفيات تقابل وخلاف حيث لا يكون للنار إلا واحدا من الطرفين الحرارة مثلا. ولكن النار لن يمكنها ألبتة أن تكون بالبساطة هواء حارا؛ لأن هذا إنما هو استحالة، ولا يظهر أن الأمور تقع على هذا النحو. ومن جهة أخرى إذا فرض على العكس أن الهواء يأتي من النار فهذا التغير لا يمكن حصوله إلا بالتغير من الحرارة إلى ضدها؛ فهذه الكيفية المضادة ستكون إذن في الهواء، وحينئذ سيكون الهواء شيئا باردا، وبالنتيجة من المحال أن تكون النار هواء حارا؛ لأنه قد ينتج منه أن العنصر الواحد قد يكون حارا وباردا في آن واحد. وسيوجد حينئذ خلاف هذين العنصرين شيء ما آخر سيبقى مماثلا، وهو أية مادة أخرى عامة للاثنين.
2
قد يكون التدليل عينه منطبقا في حق كل عنصر آخر غير الهواء، ولا يمكن أن يوجد منها واحد قد يكون المنبع الوحيد الذي منه تكون قد خرجت الأخرى كلها. وليس يوجد خلاف هذه العناصر عنصر آخر وسيط، كأن يكون مثلا عنصرا وسطا بين الهواء والماء أو بين الهواء والنار، أثقل من الهواء والنار وأخف من كل الآخر؛ لأن هذا الوسيط حينئذ يكون بمقابلة الأضداد هواء ونارا معا. ولكن ثاني الضدين هو العدم، وبالتبع لا يمكن أن يثبت هذا العنصر الوسيط وحده، كما يقوله بعض الفلاسفة، عن اللامتناهي وعن الحاوي، فيلزم إذن إما أن كل واحد من العناصر المعروفة يمكن أن يكون على السواء هو ذلك الوسيط وإما ألا يمكن أي واحد منها أن يكونه.
3
ولكنه إذا لم يكن أجسام محسوسة سابقة على تلك، فالعناصر التي نعرفها هي كل هذه الموجودة، فيلزم حينئذ إما أن تثبت العناصر إلى الأبد كما هي دون أن يتغير بعضها إلى بعض، وإما أن تتغير على الدوام. يمكن أن يسلم أيضا إمكان تغيرها جميعا أو أن بعضها يمكن أن يتغير وأن الأخرى لا يمكنها ذلك كما قال أفلاطون في طيماوس. ولقد وضح فيما سبق أن العناصر تتغير بالضرورة بعضها إلى بعض، ولكنه قد بين أنها لا تتغير بسرعة على السواء تحت هذا التأثير المتبادل، وأن التغير يحصل أسرع بالنسبة للتي بينها نقطة صلة؛ أعني كيفا مشتركا وأبطأ بالنسبة لتلك التي ليس لها من ذلك. فإذا لم يكن إذن إلا مقابلة واحدة بالأضداد على حسبها تتغير الأجسام، فيلزم بالضرورة حينئذ أن يوجد جسمان؛ لأن الهيولي إنما هي التي تصلح وسطا للضدين غير مدرك وغير منفصل، ولكن لما أنه يوجد بالمعاينة عناصر أكثر فإن أقل ما يمكن أن يوجد من المقابلات إنما هو اثنان، ومتى وجد اثنان فلا يمكن أن يوجد ثلاثة حدود فقط، بل يلزم مطلقا أربعة كما قد تدل عليه المشاهدة. وهذا إنما هو عدد التراكيب اثنين اثنين؛ لأنه ولو أنها ستة في المجموع إلا أن منها اثنين لا يمكن ألبتة أن يكونا؛ لأنهما ضدان أحدهما للآخر. ومع ذلك فقد عولجت هذه المسائل فيما سبق.
4
مع أن العناصر تتغير بعضها إلى بعض، فإن من المحال أن يوجد مبدأ التحول لا في أحد الطرفين ولا في الوسط. وإليك ما يثبته، فأما الطرفان فإنه ليس ممكنا أن تكون كل الأشياء من النار كما أنها لا تكون كلها من الأرض؛ لأن هذا يرجع إلى القول بأن الكل يتولد من النار أو أن الكل يتولد من الأرض. ولكن لا يمكن أن يقال أيضا - كما يريد بعض الفلاسفة - أن الوسط هو المبدأ، وأن الهواء ينقلب إلى نار وإلى ماء، ولا أن الماء ينقلب إلى هواء وإلى أرض؛ لأني أكرر أن الأطراف لا يمكن ألبتة أن يتغير بعضها إلى بعض.
5
على ذلك يلزم إيجاد نقطة وقوف، ولا يمكن من جهة ولا من أخرى السير إلى اللانهاية على خط مستقيم؛ لأنه يترتب عليه وجود مقابلات وأضداد غير متناهية العدد لعنصر واحد أحد. فلنرمز للأرض بحرف أ، وللماء بحرف م، وللهواء بحرف ه، وللنار بحرف ن؛ فإذا تغير ه إلى ن وإلى م فالتقابل يكون بين ه، ن. ولنفرض أن هذين الضدين هما البياض والسواد، ومن جهة أخرى إذا تغير ه إلى م فسيكون تقابل آخر؛ لأن م، ن ليسا متماثلين. ولتكن مقابلة السيولة واليبوسة مرموزا لليبوسة بحرف ي وللسيولة بحرف س؛ فإذا كان حينئذ الأبيض هو الذي يمكث ويبقى، فيكون الماء سائلا وأبيض، فإذا لم يكن أبيض فيكون أسود ما دام أن التغير لا يحصل إلا إلى الأضداد، فيلزم حينئذ بالضرورة أن يكون الماء إما أبيض وإما أسود، ويمكن افتراض أنه في الحالة الأولى، وبالطريقة عينها أيضا ي اليبوسة يكون لحرف ن، وحينئذ ن أعني النار تتغير كذلك إلى ماء؛ لأنهما الضدان، والنار كانت سوداء أولا ثم يابسة بعد ذلك كما كان الماء سائلا أولا ثم أبيض.
6
فبين إذن أن كل العناصر يمكن أن يتغير بعضها إلى بعض، والكيوف الباقية ستوجد في (أ). الأرض كما يوجد فيها نقطتا الاجتماع والارتباط الأسود والسائل ما دام أن هذين الكيفين لم يتركبا معا بعد بأية طريقة كانت.
7
وهاك البرهان على أنه لا يمكن ها هنا أن يتمشى إلى اللانهاية مبدأ اعتمدنا عليه من قبل أن نقرر الإيضاح الذي سبق، وذلك هو أنه إذا فرض أن النار المرموز لها بحرف ن تتغير إلى عنصر آخر ولا ترجع إلى الوراء، وأنها مثلا تتغير إلى ر؛ فمن ثم يكون بين النار وبين مقابلة بالأضداد مختلفة عن المقابلات المذكورة آنفا ما دام أن ر لا يمكن أن تكون مماثلة لأي واحد من العناصر المرموز لها بالحروف أ، م، ه، ن.
ولنفرض أن الكيف ك هو كيف ن، وأن الكيف ي هو كيف ر؛ فتكون ك حينئذ لكل العناصر أ، م، ه، ن؛ لأن كل هذه العناصر يتغير بعضها إلى بعض، ولكن مع التسليم بأن هذا لم يوضح بعد فإن من البين على الأقل أنه إذا تغير ر من جديد إلى عنصر آخر؛ فمن ثم يكون تقابل آخر بالأضداد، ويكون بين ر وبين النار ن. وتكون الحال كذلك دائما بالنسبة للحد المزيد، وإنه يوقع دائما مقابلة مع الحدود السابقة بحيث إنه إذا كانت هذه الحدود غير متناهية بالعدد لعنصر واحد أحد، وإذا كان هذا ممكنا فمن ثم يكون من المحال أن يعطي أي قول شارح، وأن يوضح كون أي عنصر ما، ما دام أنه يلزم - إذا كان واحد يأتي من الآخر - أن يجتاز من المقابلات عدد ما ذكرنا بل وأزيد منه، وينتج من ذلك أنه بالنسبة لبعض العناصر لا يكون تغير ممكن ألبتة، مثال ذلك إذا كانت الأوساط غير متناهية بالعدد، وهذا لازم إذا كانت العناصر غير متناهية بالعدد هي أنفسها، وعلى ذلك مثلا لا يكون تغير من هواء إلى نار إذا كانت المقابلات التي تجتاز هي غير متناهية بالعدد.
8
وأخيرا كل العناصر أيضا تنتهي إلى عنصر واحد؛ لأنه يلزم أن تكون كل هذه المقابلات متعلقة إما بالمقابلات من أعلى بالعناصر التي هي أسفل من ن، وإما بالمقابلات من أسفل بهذه العناصر نفسها بحيث إن الكل ينتهي إلى واحد.
9
هوامش
الباب السادس
حينما يرى أن فلاسفة يقبلون تعدد عناصر الأجسام وينكرون في آن واحد أن العناصر تتغير بعضها إلى بعض، كما يفعل أمبيدقل، قد يمكن أن يسألوا في شيء من الدهش كيف يستطيعون إذن أن يقرروا أن العناصر هي قابلة للمقارنة بعضها ببعض، هذا مع ذلك هو ما يزعمه أمبيدقل إذ يقول:
لأن العناصر كلها كانت متساوية فيما بينها.
فإذا كانت المساواة في الكم لزم أن يوجد بين الأشياء المقارنة شيء مشترك يصلح لقياسها؛ مثال ذلك إذا كان من كوتيل (ربع لتر) واحد من الماء يمكن إيجاد عشرة كوتيلات من الهواء، فذلك بأن العنصرين كانا من بعض الوجوه شيئا واحدا ما دام أن قياسهما واحد.
1
فإذا كانت الأشياء ليست قابلة للمقارنة هكذا بالنسبة إلى الكم؛ أي إن الكمية الفلانية مضارعة الكمية الفلانية، فيلزم على الأقل أن تكونه بعلاقة الأثر الذي يمكن أن تحدثه. مثال ذلك: إذا كان كوتيل من الماء يمكن أن يحدث من البرودة ما تحدثه عشرة كوتيلات من الهواء؛ فحينئذ تكون العناصر قابلة أيضا للمقارنة بينها بعلاقة الكمية لا من حيث هي بالضبط كمية مادية، ولكن من حيث إنه يمكنها أن تحدث فعلا ما.
2
قد يمكن أيضا مقارنة القوى أو الطاقات ليس فقط بمقياس الكمية مباشرة، بل أيضا بالتنسيب والتشبيه. على ذلك يمكن أن يقال إن الشيء الفلاني حار كما أن الشيء الآخر أبيض، فكاف التشبيه تبين علاقة المشابهة إذا كان المعنى هو الكيف، فإن كان المقصود الكم فهي تفيد المساواة، ولكن من السخف - فيما يظهر - أن الأجسام التي لا يمكن أن تتبدل بعضها ببعض لا تكون قابلة للمقارنة فيما بينها بعلاقة المشابهة، وأن تكون فقط بمقياس قوتها، ولأن الكمية الفلانية من النار مثلا يمكن أن تكون أيضا حارة وتحدث الحرارة التي تحدثها الكمية الفلانية من الهواء التي هي أعظم منها. وفي الواقع إن جوهرا من هذا الطبع إذا كانت كميته أعظم يمكنه أن يصير بالتنسيب مكافئا؛ لأنه سيكون والآخر من جنس واحد.
3
أزيد على ذلك أنه على حسب مذهب أمبيدقل لا يوجد نمو ممكن إلا النمو الذي يحصل بالجمع، وهكذا هو يفترض أن النار تنمو بالنار حين يقول:
الأرض تنمي الأرض والهواء ذاته ينمي الهواء.
حينئذ ليس هذا إذن إلا مجرد إضافة، ولا يظهر أن الأشياء التي تنمو يمكن أن تنمو هكذا.
4
ولكنه أعسر أيضا على أمبيدقل أن يوضح كون الموجودات في الطبع؛ لأن كل الموجودات التي تولد وتتكون بحسب القوانين الطبيعية، أو تولد دائما بطريقة منتظمة، أو بالأقل على الغالب بهذه الطريقة، والموجودات التي تتكون على ضد هذا النظام الثابت أزلا أو بالأقل الأكثر في العادة، هي ثمرة علة اتفاقية وثمرة المصادفة. فما هو الفاعل إذن في أن من إنسان يولد إنسان، إما دائما وعلى حسب قاعدة أزلية، وإما بالأقل بحكم العادة الغالبة، كما أن من القمح يأتي دائما قمح لا شجرة زيتون. أم هل العظام لا تتكون أيضا بالطريقة عينها؟ كلا إن الأشياء لا تكون بالمصادفة وبالاتفاق كما يقول أمبيدقل، بل هي تتكون بنوع ما من العقل.
5
فما هي إذن العلة في كل هذه الظواهر؟ إنها ليست في الحق لا الأرض ولا النار، وليست كذلك العشق والتنافر؛ لأن أحدهما ليس علة إلا لتأليف الأشياء والآخر لتفريقها. تلك العلة إنما هي أصل لكل شيء، وليست فقط كما يقول أمبيدقل:
اختلاط وتنافر للأشياء المختلطة.
فهي ليست إذن ما يسمى بالمصادفة وليست بعلة؛ لأنه ممكن تماما أن يوجد أحيانا اختلاط اتفاقي ومشوش.
6
إذن ما هو علة لكل واحد من الموجودات الطبيعية إنما هو تركيبها، إنما هو الطبع الخاص لكل واحد منها مما لا يقول عنه أمبيدقل كلمة واحدة، بل يمكن التأكيد بأنه لم يدرس الطبع حقيقة، ولو أن الطبع هو بالضبط النظام والخير لجميع الأشياء. ولكن أمبيدقل لا يشيد مطلقا إلا بذكر الامتزاج والاختلاط، ومع ذلك فليس هو التنافر، بل هو العشق الذي فصل العناصر، وهما على رأيه متقدمان على الله ذاته؛ لأن عناصر أمبيدقل هي أيضا آلهة.
7
إنه لا يتكلم كذلك على الحركة إلا بطريقة غاية في العموم؛ لأنه لا يكفي أن يقال إن التنافر والعشق هما اللذان يعطيان الحركة إذا لم يعين أن العشق ينحصر في أن يسبب النوع الفلاني من الحركة والتنافر في أن يسبب النوع الفلاني منها. وحينئذ كان يجب على أمبيدقل ها هنا، إما أن يحد الأشياء بالضبط، أو أن يتصور فرضا ما، أو أن يوضح توضيحا قويا أو ضعيفا مع ذلك، أو أن يخلص منه بأية طريقة أخرى.
8
رد آخر: إن الأجسام هي تارة متحركة بالقسر وضد الطبع وتارة هي ذات حركة طبيعية، مثال ذلك النار تتجه إلى فوق من غير أن يكون ذلك بالقسر ولا تتجه إلى تحت إلا بالقسر؛ فالحركة الطبيعية هي ضد الحركة القسرية، فبالنتيجة كما أنه يوجد حركة قسرية يوجد أيضا حركة طبيعية. فهل هو إذن العشق أو ليس هو العشق الذي يكون هذه الحركة الأخيرة؟ متى كان للأرض حركة تحملها إلى تحت فإنما هي حركة مضادة للائتلاف وتشبه الانفصال. إذن يكون التنافر هو أولى من العشق في أن يكون علة الحركة الطبيعية، وبالنتيجة يكون العشق أولى من التنافر في أنه مضاد للطبع، فإذا لم يكن لا التنافر ولا العشق يكونان الحركة، فلا يكون للأجسام أعينها لا حركة ولا سكون. ولكن هذا إنما هو نتيجة باطلة.
9
يعترف أمبيدقل أن الأجسام بالبديهية في حال حركة؛ لأن التنافر هو الذي فصلها. والإيثير قد ارتفع في الملأ الأعلى لا بواسطة التنافر، ولكن كما يقول أحيانا أمبيدقل بضرب من المصادفة:
الهواء حينئذ يطير هكذا، ولكن في الغالب على خلاف ذلك.
وأحيانا يقول أمبيدقل أيضا إن النار اضطرت أن تتجه بالطبع إلى فوق، وإن الإيثير قد جاء.
يتكئ بقوة على قواعد الأرض.
وأخيرا يعلمنا أمبيدقل أن العالم هو مسير الآن بالتنافر كما كان سابقا مسيرا بالعشق سواء بسواء.
10
فماذا هو إذن على رأيه المحرك الأول والعلة الأولى للحركة؟ حقا ليس هو العشق والتنافر، ولو أن كليهما مع ذلك يسبب نوعا ما من الحركة، وإذا كانا هما المحرك الأول الذي يوجد فيكونان المبدأ الحقيقي للأشياء.
11
وأخيرا فليس أقل سخفا أن يفترض أن النفس تأتي من العناصر، أو أنها واحد من العناصر؛ لأنه كيف تتكون إذن الاستحالات الخاصة للنفس؟! مثال ذلك كيف يفهم أن يكون لها أو لا يكون لها صنعة الموسيقى؟! كيف يفهم الذكر والنسيان؟! من البين أنه إذا كانت النفس من النار يكون لها بما هي نار جميع الكيفيات التي تتعلق بالنار، وإذا كانت النفس مزيجا من العناصر كان لها كيفيات الأجسام وليس ولا واحد من كيفيات النفس بجسماني. على أن هذه المناقشة تتعلق بدراسة غير هذه قطعا.
12
هوامش
الباب السابع
نأتي إلى ما يختص بالعناصر التي منها الأجسام مركبة. جميع الفلاسفة الذين يقبلون عنصرا مشتركا أو الذين يقبلون أن العناصر تتغير بعضها إلى بعض يجب عليهم بالضرورة أن يعترفوا أيضا بأنه إذا تحقق أحد هذين الفرضين تحقق الثاني على السواء. ولكن هؤلاء الذين لا يريدون أن العناصر يمكن أن يتوالد بعضها من بعض ولا أن يأتي كل واحد من كل واحد إلا أن يكون كما يجيء اللبن من حائط، هؤلاء إنما يقررون نظرية باطلة؛ لأنه حينئذ كيف يجعل من هذه العناصر العظام أو اللحوم أو أي جوهر آخر مشابه.
1
في الحق أن هذه الصعوبة تبقى، وإلى هؤلاء الذين يقبلون أن العناصر تتوالد يمكن أن توجه إليهم مسألة كيف تبلغ هذه العناصر أن تكون شيئا مغايرا لها أنفسها؟ مثال ذلك إذا كان من النار يأتي الماء وإذا كان من الماء تأتي النار؛ فذلك لأن بينهما موضوعا مشتركا. ولكن من العناصر يخرج في الحق أيضا اللحم والنخاع، فكيف تتكون هذه الجواهر؟
2
بأي وجه يمكنها أن تتكون على حسب نظريات هؤلاء الذين يتبعون مذهب أمبيدقل؟ بالضرورة ليس بين هذه العناصر إلا جمع كما نجمع مواد حائط يتكون من آجر وأحجار. في خليط من هذا القبيل تبقى العناصر هي ما هي، وتوضع أجزاء أجزاء بعضها إلى جانب البعض الآخر، وحينئذ على هذا المنوال - بناء على هذه النظريات - إنما يتكون اللحم وسائر الأشياء المشابهة له.
3
ولكنه ينتج منه أن النار والماء لا يخرجان ألبتة من جزء كيفما اتفق من أجزاء اللحم، كما في تصاوير الشمع من هذا الجزء يمكن أن تخرج كرة ومن ذاك يخرج هرم. فكل ما يرى هو أن الواحد والآخر من هذين الشكلين يمكن أن يأتي أيضا على السواء من كل واحد من جزأي الشمع . وعلى هذا النحو حينئذ أن من اللحم يخرج عنصرا النار والماء، وأنه قد يكونان معا من أي جزء اتفق، ولكن مع مبادئ أمبيدقل لا يكون تعبير هذا ممكنا، ويلزم أن كل عنصر يأتي من مكان آخر أو من جزء آخر كما في الحائط؛ فإنه من مكان مختلف تأتي الآجرة والحجر.
4
كذلك الحال أيضا بالنسبة للفلاسفة الذين لا يقبلون إلا مادة وحيدة لجميع العناصر؛ فإن شأنهم لا يخلو من الحيرة في إيضاح كيف أن جوهرا يمكن أن يتألف من عنصرين مثلا من الحار والبارد أو من النار والأرض؛ فإذا كان اللحم يتكون من الاثنين وهو ليس مع ذلك لا أحدهما ولا الآخر ولا مجرد جمع لهذين العنصرين حافظ لطبعهما الخاص؛ فماذا يبقى إذن ليقبل إلا أن يكون المركب الذي تكون منهما بهذه الطريقة هو المادة المحضة؟ لأن فساد أحد العنصرين يكون إما العنصر الآخر وإما المادة.
5
ولكن من حيث إن الحار والبارد يمكن أن يكونا أقوى أو أضعف، فيجب أن يقال إنه متى كان أحدهما بالفعل مطلقا وبالكمال فلا يكون الثاني بعد إلا بالقوة. ومتى كان الموضوع ليس له مطلقا أحد الكيفين وكان البارد مثلا هو نصف حار والحار نصف بارد؛ لأن الإفراطين إلى جهة أو إلى أخرى يتماحيان على طريق التكافؤ بالمزج؛ فحينئذ لا يوجد بالضبط لا مادة محضة ولا واحد أو الآخر من هذين الضدين الموجودين مطلقا بالفعل وبالكمال، ولا يوجد وسيط. ولكن على حسب ما أن أحد الاثنين يمكن أن يكون بالقوة حارا أكثر منه باردا أو العكس، يكون الجسم في هذه النسبة عينها بالقوة أكثر حرارة أو برودة مرتين أو ثلاث مرات أو على أية نسبة أخرى.
6
على ذلك كل الأشياء الأخرى تأتي من مزج الأضداد أو العناصر، والعناصر أنفسها تأتي من هذه الأضداد التي هي بوجه ما العناصر بالقوة لا كما تكونه المادة، بل بالطريقة التي ذكرت آنفا، وبهذه الطريقة تكون النتيجة التي تتحصل مزيجا، في حين أنها بالطريقة الأخرى إنما هي المادة المحضة.
7
ومع ذلك فإن الأضداد أيضا هي قابلة على معنى الحد الذي أعطي في بحوثنا الأولى. مثال ذلك الحار بالفعل هو بارد بالقوة والبارد بالفعل هو حار بالقوة أيضا، بحيث إنهما لولا موازنة تامة لتغير أحدهما إلى الآخر. ويجري هذا المجرى في جميع الأضداد الأخرى التي يراد ذكرها. وعلى هذا النحو إن العناصر بديا تتغير، ثم إن منها بعد ذلك تأتي اللحوم والعظام وسائر الجواهر المشابهة، فيصير الحار باردا والبارد حارا بمقدار ما تقترب من الحد الوسط؛ فهناك لا يوجد بعد لا أحد الضدين ولا الآخر. فالوسط متعدد وليس قابلا للتجزئة. كذلك الأمر أيضا في السائل واليابس، وإن العناصر الأخرى من هذا القبيل حينما تكون قد وصلت إلى الوسط تكون اللحم والعظام والجواهر المشار إليها.
8
هوامش
الباب الثامن
كل العناصر المختلطة المنتشرة حول المكان المركزي هي مركبة من جميع العناصر البسيطة. وعلى هذا فإن فيها جميعها من الأرض؛ لأن كل واحد من هذه الأجسام هو الأحسن، وعلى الغالب، في المكان الخاص به. ويوجد أيضا من الماء في كل المختلطة؛ لأنه يلزم أن تكون المركبة محددة، وأن الماء من بين الأجسام البسيطة هو الوحيد الذي يتحدد بسهولة. ومن جهة أخرى فإن الأرض لا يمكنها البقاء بدون الرطب الذي يمسكها مجتمعة، وإذا خلت تماما من الرطب سقطت ترابا.
1
تلك هي العلل في وجود الماء والأرض في جميع الأجسام المختلطة. ولكنه يوجد فيها أيضا هواء ونار؛ لأن هذين العنصرين هما ضدان للأرض وللماء؛ فإن الأرض ضد للهواء، والماء ضد للنار بمقدار ما يكون جوهر ضدا لجوهر آخر.
2
على هذا حينئذ ما دامت أكوان الأشياء تأتي من الأضداد، فيلزم ضرورة أنه متى وجد طرفا الضدين في الأشياء فإن الآخر من الضدين يوجد فيها على السواء. وبالنتيجة في كل مركب تلغى جميع الأجسام البسيطة.
3
يظهر أن ظاهرة التغذية معتبرة في كل واحد من الموجودات تشهد بصحة هذه النظرية؛ فإن كل الموجودات تتغذى بعناصر مماثلة للعناصر التي تركبها، فكلها تتغذى من عدة عناصر، بل إن تلك التي يظهر عليها أنها تتغذى من عنصر وحيد كالنباتات التي تغتذي بالماء هي تغتذي في الواقع بعناصر عديدة على السواء؛ ذلك بأن الأرض هي دائما ممتزجة بالماء، فترى كيف أن الزراع في ريهم الزراعي لا يزيدون على أن يمزجوا الماء بالأرض.
4
ولكن من حيث إن التغذية تتعلق بالمادة، ومن حيث إن الموجود المغتذي على هذا النحو مع أنه مشمول ومظروف في المادة هو الصورة والنوع، فطبيعي أن يظن أنه من بين الأجسام البسيطة النار هي وحدها التي تتغذى، أما سائر الأخرى فهي لا تزيد على أن يكون بعضها بعضا على طريق التكافؤ كما زعم القدماء؛ وذلك بأن النار وحدها هي على الأخص التي تمثل الصورة ما دام أنها دائما بطبعها الخاص متجهة نحو الحد. وكل شيء هو بالطبع مسوق نحو المكان الخاص به، ولكن صورة كل الأشياء ونوعها توجد دائما في الحدود التي تعينها.
5
فيرى إذن بما تقدم أن جميع الأجسام تتركب من جميع العناصر البسيطة.
6
هوامش
الباب التاسع
لما أنه توجد أشياء كائنة وقابلة للدثور، وأن كل ما يتولد ويكون يوجد في المكان الذي يحيط بالمركز، فيلزم بديا الكلام على كون الأشياء مأخوذا في كل عمومه وبيان عدد مبادئه ومن أي طبع هي. وبهذه الطريقة ندرس بطريقة أسهل الحوادث الجزئية بعد أن نكون قد حصلنا على معرفة الحوادث العامة.
1
وتلك المبادئ هي ها هنا من حيث العدد والجنس على ما هي عليه المبادئ التي تكتشف في الموجودات الأزلية والأول. وأحد هذه المبادئ هو كهيولي والآخر هو كصورة، ولكنه يلزم منها زيادة على ذلك ثالث ينضم إلى هذين الاثنين الآخرين؛ لأن هذين الاثنين ليسا أقدر على تكوين شيء ها هنا منها في الأول.
2
وعلى هذا إذن إنما هي الهيولي التي فيما يتعلق بالموجودات الكائنة، هي العلة في أنها يمكن أن توجد وألا توجد. فمن بين الأشياء ما توجد بالواجب، مثال ذلك الجواهر الأزلية، ومنها ما يجب ألا توجد ، فبالنسبة للأولى من المحال ألا توجد، وبالنسبة للأخرى من المحال أن توجد؛ لأنه لا يمكن أن شيئا يكون على خلاف ما يقضي به الواجب. ولكن هناك أشياء أخرى يمكن أن توجد وألا توجد على السواء، وهذه هي على التحقيق كل ما هو كائن وهالك؛ لأن هذه الأشياء تارة توجد وتارة لا توجد، فحينئذ الكون والفساد لا يتعلقان إلا بما يمكن أن يوجد وألا يوجد.
3
وذلك بما هو هيولي إنما هو علة الأشياء الكائنة، ولكن بما هو غرض غائي فالعلة إنما هي الصورة والنوع. وهذا هو حد الماهية لكل شيء.
4
ولكنه يجب أن يضاف إلى هذين المبدأين مبدأ ثالث، هذا المبدأ لا يظهر على الفلاسفة أنهم لمحوه إلا كما في الحلم، ولم يتكلم عنه ولا واحد منهم بنوع من الضبط، فقد ظن بعضهم كسقراط في «الفيدون» أن طبع المثل قد يكفي لتعبير كون الأشياء؛ لأن سقراط - وهو يعيب على الآخرين أنهم لم يقولوا شيئا في هذا الصدد - يفترض أن من الأشياء التي توجد بعضها هي المثل والأخرى تتلقى هذه المثل التي تشاركها؛ وأن كون كل شيء هو مسمى بحسب مثاله، وأن الأشياء تتكون متى تتلقى هذا المثال، وأنها تفسد متى تعدمه. وبالنتيجة إذا كان كل هذا حقا فيكون سقراط يرى أن المثل هي بالضرورة علة كون الأشياء وفسادها، وآخرون على الضد قد ظنوا أنهم يرون هذه العلة في المادة نفسها؛ لأنه منها على رأيهم تصدر الحركة.
5
ولكن ليس الأولون ولا الآخرون على حق؛ لأنه إذا كانت المثل هي في الحق عللا، فلماذا لا تكون دائما بطريقة مستمرة؟ ولماذا هي تكون تارة ولا تكون تارة أخرى مع أن المثل تبقى دائما هي والأشياء التي يمكن أن تشركها؟ زد على هذا أنه يوجد أشياء يرى جليا أن العلة فيها إنما هي شيء آخر غير المثال، فإنما الطبيب هو الذي يعمل الصحة، وإنما العالم هو الذي يعمل العلم مع أن الصحة ذاتها والعلم ذاته موجودان هما والكائنات التي يقومان بها. كذلك الحال أيضا في جميع الأشياء المصنوعة بحسب الفن الذي يمكن أن يتمها.
6
ومن جهة أخرى حينما يدعي أن المادة هي التي تكون الأشياء بالحركة التي تعطيها إياها، فلا شك أن هذا الرأي هو أكثر موافقة للطبع من نظرية المثل؛ لأن ما يحيل الأشياء ويغير أشكالها يمكن أن يظهر أكثر من غيره بمظهر العلة في كونها. وعلى العموم في كل كائنات الطبيعة كما في كل كائنات الفن ينظر عادة إلى كل ما يعطيها الحركة كأنه هو الفاعل لها.
7
ومع ذلك فإن هؤلاء الفلاسفة الأخيرين ليسوا على حق؛ لأن الانفعال والتحرك إنما هما الخاصتان اللتان تتعلقان بالمادة، في حين التحريك والفعل يختصان بقوة مغايرة تمام المغايرة. وهذا هو ما يمكن مشاهدته أيضا في كل ما يعمله الفن كما في كل ما يعمله الطبع؛ إذن فليس الماء نفسه هو الذي يوجد الحيوان الذي يخرج من باطنه (بل هو الطبع). كذلك ليس الخشب هو الذي يصنع السرير بل هي الصناعة؛ ومن ثم يمكن استنتاج أن هؤلاء الفلاسفة لم يحسنوا هم أيضا التعبير، وخطؤهم آت من أنهم أغفلوا العلة الأهم من جميع العلل بحذفهم الماهية والصورة.
8
وينتج منه فوق ذلك أنهم ينسبون إلى الأجسام قوى يجعلونها بها تتوالد بحالة ميكانيكية أكثر مما ينبغي بتركهم إلى ناحية العلة التي ترجع إلى النوع. ولما أنه تبعا لقوانين الطبيعة كما يقولون الحار يفرق والبارد يجمد، ولما أن كل واحد من العناصر الأخرى يفعل وينفعل على طريقته؛ فإن ذلك كاف عندهم في التقرير بأنه أيضا من هذا أو بهذا يكون سائر الأشياء ويفسد، ويظهر لهم أن اليار نفسها تقبل الحركة وتنفعل.
9
يوشك أن يكون هذا الخطأ هو عينه خطأ من يذهب إلى اعتبار المنشار وما أشبهه من الآلات الأخرى العلة الحقة لكل ما تصنع ويرجعه إليها بحجة أنه بمجرد ما ينشر يلزم ضرورة أن يقطع الخشب، وبمجرد ما يصقل بالفارة، فهناك ضرورة أيضا أن ينصقل اللوح، وهلم جرا. وبالنتيجة مع أن النار هي أفعل العناصر وأنها توصل الحركة الأقوى؛ فإنهم لا يرون كيف أنها تفعل وأنها أردأ من الآلات العادية.
10
أما نحن فلما أننا تكلمنا فيما سبق على العلل على العموم لم نتصد ها هنا إلا لدرس الهيولي والصورة.
11
هوامش
الباب العاشر
يلزم أن يزاد على ذلك اعتبار آخر؛ وهو أنه بما أن حركة النقلة أزلية كما سبق بيانه فينتج منه بالضرورة أنه بهذه المثابة يجب أن يكون كون الأشياء متصلا أيضا على السواء؛ لأن هذه الحركة تسبب إلى ما لا نهاية كون الأشياء بأن تأتي بالعلة التي يمكنها أن تكون الأشياء ثم تأتي بها ثانية. وهذا يبرهن لنا في آن واحد على أن ما قدمناه صحيح، وعلى أنه كان لنا الحق في أن نجعل النقلة لا الكون هي أول التغايير. وفي الحق أنه أدخل في باب المعقول أن يجعل ما هو موجود علة لتكوين ما لم يوجد من أن نجعل ما لم يوجد العلة الفاعلة لتكوين ما هو موجود. وإن ما هو خاضع للنقلة موجود، في حين أن الشيء الذي يكون ويصير هو غير موجود؛ وذلك ما يجعل أن النقلة متقدمة على الكون.
1
بعد أن فرضنا وبينا أن في الأشياء كونا وفسادا متصلين، وأن حركة النقلة هي علة تولد الأشياء يجب أن يكون من البين لدينا أنه ما دامت حركة النقلة وحيدة، فمن المحال أن الكون والفساد يوجدان جميعا في آن واحد ما دام أنهما ضدان؛ لأن علة موجودة وباقية هي بعينها وفي الظروف بعينها لا يمكن ألبتة أن تعمل إلا المعمول بعينه على حسب نظام الطبيعة، وبالنتيجة فإما أن الكون هو الأزلي وإما أن الفساد هو الأزلي.
2
وعلى ذلك يلزم أن يوجد عدة حركات وحركات متضادات، إما باتجاهها وإما بتفاوتها؛ لأن علل الأضداد هي أضداد كذلك. وليست النقلة الأولى إذن على التحقيق هي التي يمكن أن تكون علة كون الشياء وفسادها، بل النقلة على حسب الدائرة المائلة؛ فإن في هذه النقلة حقا يوجد في آن واحد اتصال لحركة واحدة وإمكان لحركتين؛ لأنه يلزم بالضرورة من أجل أن الكون والفساد يمكن أن يكونا متصلين أن تكون الحركة سرمدية؛ حتى لا تتخلف هذه التغايير نفسها أبدا. ومن جهة أخرى يلزم أن يكون عدد الحركات اثنين لا تكون إحدى هاتين الظاهرتين هي التي تبقى وحدها على الدوام.
3
وعلى ذلك إذن إنما نقلة العالم هي علة الأبدية، وإن ميل الدائرة إنما هو الذي ينتج التقريب أو التبعيد؛ لأنه قد يمكن أن تكون العلة تارة بعيدة وتارة قريبة، وبما أن المسافة غير متساوية فالحركة تكون غير متساوية كذلك، وعلى ذلك إذا كانت الحركة بشهادتها وقربها تسبب كون الأشياء فإن هذه الحركة نفسها بغيابها وابتعادها تسبب فساد الأشياء. وفوق ذلك فإنها إذا كونت باقترابها عدة مرات فإنها تفسد بابتعادها عدة مرات أيضا؛ لأن علل الأضداد هي أضداد بعضها لبعض.
4
يلزم أن يزداد على هذا أن الفساد والكون الطبيعيين يتحققان في زمان متساو. وهذا هو الفاعل في أن زمن مدة كل كائن وزمن حياته يمكن أن تعبر بالعدد وتتعين بهذه الطريقة. وفي هذا ترتيب ينتظم جميع الكائنات؛ فإن المكث والحياة هما دائما مقيسان بمدة ما تمضي. غير أن هذه المدة ليست واحدة بالنسبة للبعض الآخر، وإن المدة التي يقاس بها وجود الكائنات هي بالنسبة لهؤلاء سنة وبالنسبة لهؤلاء هي أكثر، في حين أنه بالنسبة لموجودات أخرى المقدار هو أقل.
5
إن الظواهر المحسوسة لشاهدة بصدق ما نقوله هنا. متى تطلع الشمس يحصل كون، ومتى تغرب يحصل فساد. وهاتان الظاهرتان تتحققان في أزمان متساوية؛ لأن زمن الفساد الطبيعي هو مساو لزمن الكون، ولكنه يقع غالبا أن الفساد أسرع بعلة تفاعل العناصر بينها، وفي الحق متى كانت المادة غير منظمة ولا واحدة بعينها في كل مكان لزم أيضا أن الأكوان التي تخرج منها تكون غير منظمة مثلها، وأن يكون بعضها أسرع والآخر أبطأ، وحينئذ يمكن أن يصير كون البعض فسادا للبعض الآخر.
6
على أن الكون والفساد - كما قلنا - يجب أن يكونا دائما متصلين، ولا ينبغي ألبتة أن يتخلفا للأسباب التي ذكرناها. ومع ذلك فإن هذا مفهوم جدا؛ لأن الطبيعة كما نقرر تبحث دائما عن الأحسن في كل الأشياء، والوجود هو أحسن من العدم، وقد عددنا في موضع آخر المعاني المختلفة للفظ «وجود»، ولكنه لا يمكن أن الوجود يبقى في كل الأشياء ما دام أن بعضها هي أكثر ابتعادا جدا عن المبدأ. وأخذا بالطريق الوحيد الذي بقي نقول إن الله قد كمل الكل بأن جعل التولد متصلا وأبديا؛ فالوجود هو إذن ملتك ومتصل بقدر ما يمكن؛ لأن كونا أبديا وصيرورة مستمرة هما أقرب ما يمكن من الوجود ذاته. وحينئذ فعلة هذا الكون، كما طالما قد قيل، إنما هي النقلة الدائرية؛ لأنها هي وحدها التي تكون متصلة.
7
فانظر كيف أن جميع الأشياء التي تتغير بعضها إلى بعض - بحسب خواصها القابلة والفاعلة، كالأجسام البسيطة مثلا - لا تزيد أيضا على أن تقلد هذه النقلة الدائرية التي هذه الأشياء تكررها. وفي الحق أنه متى كان الهواء يجيء من الماء والنار تجيء من الهواء، ثم الماء يجيء في دوره من النار، فيمكن القول بأن الكون قد حصل دوريا ما دام أنه رجع على نفسه. وعلى هذا إذن فإن حركة هذه الظواهر بامتدادها على خط مستقيم تقلد الحركة الدائرية وتصير متصلة.
8
وهذا يسمح لنا في آن واحد باستجلاء مسألة يثار ثائرها أحيانا، وهي كيف يمكن - مع أن كل جسم متمكن في المحل الخاص به - ألا تكون الأجسام المركبة منفصلة ومنحلة أثناء المدة غير المتناهية للأزمان، والسبب في ذلك بسيط، وهو أنها تتغير وتتحول بعضها إلى بعض. فإذا كان كل واحد منها يبقى في محله الخاص ولم يعدله جاره، فتكون من زمان طويل قد انفصلت وانعزلت؛ فهذه الأجسام تتغير إذن على أثر حركة نقلة مزدوجة، ومن أجل أنها تتغير لا يوجد ولا واحد منها يمكن أن يبقى ألبتة في مكان ثابت ومعين.
9
فيمكن أن يرى إذن بناء على ما تقدم أنه يوجد على الحقيقة كون للأشياء وفساد وما هي العلة فيهما، كما أنه يرى ما هو المخلوق والقابل للفساد. ولكن ما دام أنه يوجد حركة فيلزم أن يوجد محرك كما بين ذلك في مؤلفات أخرى. وإذا كانت الحركة أزلية يلزم أن يكون موجودا شيء ما أزلي أيضا. ولما أن الحركة متصلة فهذا الشيء الذي هو أحد يجب أن يكون هو عينه أبدا غير متحرك ولا مخلوق ولا قابل للاستحالة. حتى مع افتراض أن الحركات الدائرية أمكن أن تكون كثيرة بالعدد فقد يمكن أن تكون عديدة، ولكنها جميعها ما دامت فإنها يجب بالضرورة أن تكون خاضعة لمبدأ واحد أحد. ومن جهة أخرى ما دام الزمان متصلا وجب أن تكون الحركة متصلة مثله؛ لأنه من المحال أن يوجد زمان بدون حركة؛ فإن الزمان هو إذن العدد لشيء ما متصل؛ أعني للنقلة الدائرية كما قلنا ذلك بديا.
10
ولكن هل الحركة متصلة لأن المتحرك الذي يقبلها هو متصل أيضا؟ أم هل هي كذلك بعلة اتصال المكان الذي تقع فيه - أريد أن أقول الأين - أو بعلة اتصال الكيف الذي يكيف الشيء؟ من البين أن الحركة هي متصلة بسبب أن المتحرك متصل؛ لأنه كيف يمكن أن يكون كيف شيء متصلا إلا إذا كان ذلك باتصال الشيء نفسه الذي فيه يظهر هذا الكيف؟ إذا كانت الحركة ليست متصلة إلا بسبب المكان الذي هي فيه، فهذا لا يمكن حينئذ إلا بالأين الذي له وحده خاصية الإحاطة بها لأن له عظما ما. ولا يوجد عظم متصل إلا عظم الدائرة؛ لأن هذا العظم هو دائما متصل بنفسه، وعلى ذلك فالعامل في اتصال الحركة إنما هو الجسم الذي له النقلة الدائرية، وإنما الحركة في نوبتها هي العاملة في أن الزمان يكون متصلا.
11
هوامش
الباب الحادي عشر
لما أننا في جميع الأشياء التي تتحرك بحركة متصلة إما لتكون وإما لتستحيل وإما بالاختصار لتتغير، نرى دائما حادثا يوجد بعد آخر وظاهرة تتكون على أثر أخرى، بحيث لا يقع لا خلو ولا تخلف، فيلزمنا أن نفحص ما إذا كان يوجد شيء ما بالواجب أو أنه ممكن في حق جميع الأشياء ألا تكون إذا لم يكن شيء موجودا بالواجب. وبديهي أن بعض الأشياء هي واجبة، وهذا هو الحامل على أن القول على شيء بالتعيين إنه سيوجد هو مغاير تماما للقول بأنه يجب أن يوجد؛ لأنه ما دام قد حق القول على شيء بأنه سيوجد فيلزم أيضا أن يحق القول ذات يوم على شيء أنه موجود، في حين أنه متى صدق القول بالبساطة على شيء أنه يجب أن يوجد فلا شيء يمنع من ألا يوجد؛ مثال ذلك: قد يمكن جدا أن إنسانا كان يجب أن يتنزه ألا يتنزه.
1
ولكن لما أن من بين الأشياء التي هي موجودة ما يمكن أيضا ألا توجد، فبديهي أن يكون الأمر كذلك أيضا بالنسبة للأشياء التي تصير وتكون، وأنه ليس هناك أيضا وجوب. فهل جميع الأشياء التي تكون هي في هذه الحالة أم هل هي ليست فيها؟ أو ليس يوجد منها ما يجب بالضرورة أن يكون؟ أو لا يكون الأمر بالنسبة إلى الصيرورة كما هو الحال بالنسبة للوجود؟ أو ليس يوجد أيضا أشياء لا يمكن ألا تكون في حين أن أخرى يمكن أن تكون؟ مثال ذلك: وجوب أن توجد المنقلبات الدورية، وليس ممكنا أنها لم تكن أصلا.
2
والحق هو أنه إنما يلزم بالضرورة أن المتقدم يكون لأجل أن المتأخر يكون أيضا في دوره، مثال ذلك: لكي يوجد بيت يلزم بديا أن يوجد أساس، ولأجل أن يوجد أساس البيت يلزم ملاط. ولكن هل لأن الأساس قد عمل يكون واجبا أن البيت يقام أيضا؟ أم هل ليس هذا واجبا إلا إذا كان البيت نفسه واجبا على الإطلاق؟ وعلى هذا الوجه إذن من الضروري في الواقع أنه ما دام الأساس قد عمل؛ فالبيت يكون أيضا؛ لأن هذا هو في الحقيقة علاقة المتقدم بالمتأخر أنه إذا كان المتأخر يجب أن يكون فيلزم وجوبا أيضا أن يكون المتقدم قد كان من قبله.
3
وإذا كان حينئذ المتأخر واجبا لزم أن يكون المتقدم واجبا كذلك، وإذا كان المتقدم واجبا وكان المتأخر واجبا مثله، فذلك ليس بسببه بأية طريقة ما، بل فقط لأنه كان المفترض وجوب المتأخر نفسه. وعلى هذا إذن فإنه حيثما كان المتأخر واجبا كان التكافؤ. ودائما حينئذ متى كان المتقدم فواجب أن المتأخر يكون في دوره.
4
إذا سار التعاقب إلى اللانهاية نازلا من درجة إلى درجة، فمن ثم لا يكون واجبا أن المتأخر يكون مطلقا. ولكن حتى هذا لا يكون واجبا بحسب الفرض الموضوع آنفا؛ لأنه سيوجد دائما شيء آخر يتقدم بالضرورة على المتأخر، وهذا الشيء الآخر يجب أن يكون بالضرورة أيضا. وبالنتيجة كما أنه لا يوجد مبدأ ممكن للانهاية فلن يوجد كذلك حد أول عامل على أن الأخير يجب أن يكون بالضرورة.
5
ولكن حتى في الأشياء التي لها حد منته لا يصدق القول بأنه يوجد وجوب لأن تكون الكائنات على الإطلاق، مثال ذلك أن البيت قد كان لأن الأساس قد كان؛ لأنه إذا البيت كان من غير وجوب وجود دائم بالضرورة فينتج منه أن ما يمكن ألا يكون دائما يكون دائما. ولكن شيئا لا يمكن أن يكون دائما من حيث كونه إلا إذا كان هذا الكون واجبا لأن الواجب والأزلي يتمشيان معا، فما يكون وجوبا لا يمكن ألا يكون، وعلى هذا إذا كان وجوبا فهو بذلك نفسه أزلي، وإذا كان أزليا فهو واجب الوجود، وكذلك الحال أيضا إذا كان كون الشيء واجبا، فهذا الكون هو أزلي أيضا، وما دام أزليا فهو واجب الوجود على سواء.
6
وإذا كان إذن الكون المطلق لشيء هو واجبا لزم ضرورة أن يكون هذا الكون دائريا ويرجع على نفسه؛ لأنه يلزم مطلقا إما للكون حدا أو ليس له حد، فإن لم يكن له لزم أن يقع على خط مستقيم أو على دائرة، ولكنه ليكون أزليا محال أن يكون على خط مستقيم؛ لأنه حينئذ لا يكون له ابتداء لا من تحت كما نرى أخذا بالأشياء التي ستكون ولا من فوق إذا أخذنا بالأشياء التي قد كانت. ولكنه يلزم ضرورة ابتداء للكون من غير أن يكون محدودا، وإنه يجب أن يكون أزليا؛ فيوجد إذن ضرورة لأن يكون الكون دائريا، وعلى هذا النحو أن التكافؤ أو الرجوع يكون واجبا، ومثلا لو أن شيئا كائن بالواجب لكان المتقدم على هذا الشيء هو واجبا أيضا، وإذا كان هذا المتقدم واجبا يلزم وجوبا أيضا أن المتأخر يكون ... وهاك إذن إتصالا أزليا حقيقيا؛ لأنه لا يهم أن يقع الاتصال بين وسيطين أو عدة وسطاء. على هذا فالوجوب المطلق لا يوجد إلا في الحركة وفي الكون الدائري، ومتى وجدت الدائرة فكل شيء يكون أو كان بالواجب. وكذلك إذا وجد وجوب فالكون يقع دائريا.
7
كل هذا الترتيب هو غاية في المعقول، وما دام قد بين أيضا في موطن آخر أن الحركة الدائرية هي أزلية كما هي الحال في حركة السماء، فبديهي أن كل ذلك يقع وسيقع بالواجب، وأن كل الحركات التي تتصل بتلك والتي تنتجها هي واجبة مثلها؛ لأنه إذا كان الجسم الذي يقبل أزليا الحركة الدائرية يوصلها إلى جسم آخر فينتج منه أن حركة هذه الأجسام الأخر يجب أن تكون دائرية أيضا، ومثلا لما أن النقلة تحصل بطريقة ما في الأفلاك العليا فيلزم أن الشمس تتحرك بالطريقة عينها. ومتى كان هذا هكذا بالنسبة إلى الشمس فللفصول بهذه العلة مجرى دائري وترجع دوريا. وما دامت كل هذه الظواهر العظمى تقع بهذه الطريقة فكل الظواهر السفلى تحصل بالانتظام عينه.
8
ولكن حينما توجد أشياء تتحقق بالفعل على هذا النحو، ومثلا حينما الماء والهواء يكون لهما هذه الحركة الدائرية ما دام أنه لأجل تكوين السحاب يلزم أن تكون قد أمطرت، ولأجل أن تمطر يجب أن يوجد السحاب، فكيف يحصل أن الناس والحيوانات لا تعود هي أيضا على نفسها بحيث إن الشخص نفسه يظهر مرة أخرى؟ لأنه من أن أباك قد كان، لا ينتج ضرورة أنك كان يجب أن تكون. والذي هو ضروري فقط إنما هو أنه إذا كنت فيلزم أن أباك قد كان. والعلة في ذلك هي أنه إنما هذا تناسل يقع على خط مستقيم.
9
غير أن مبدأ البحث الذي نتصدى إليه ها هنا سيكون أيضا أن نتساءل عما إذا كانت كل الأشياء تعود أيضا إلى أعيانها أو لا تعود، وعما إذا كان حقا أن بعضها يعود بالعدد وبالشخص في حين أن الأخر لا تعود إلا بالنوع. بالنسبة لجميع الأشياء التي يمكث جوهرها غير قابل للفساد في الحركة التي يلقاها من البين أنها تبقى دائما عدديا متماثلة ما دام أن الحركة تطابق حينئذ المتحرك. ولكن كل الأشياء التي على ضد ذلك جوهرها قابل للفساد، فإنها يجب ضرورة أن تتم هذه الرجعى لا عدديا بل فقط بالنوع، وعلى هذا النحو أن الماء يأتي من الهواء، وأن الهواء يأتي من الماء، يأتي هو في نوعه لكن لا هو ذاته عدديا. غير أنه إذا كان من الأشياء ما ترجع عدديا أيضا بأعيانها فليست ألبتة هي التي جوهرها هو بحيث إنه يمكن ألا يكون.
10
هوامش
تحقيق على الكتاب الموسوم
في ميليسوس وفي إكسينوفان وفي غرغياس
لترجمة هذا الكتاب الصغير اعتمدت على طبعة ف. ج. أ. مللاخ المنشورة سنة 1846 والمنقولة في مجموعة فيرمين ديدو الإغريقية.
1
وهذه الطبعة جيدة قد أعادت إلى سيرته الأولى بطريقة توشك أن تكون نهائية كتابا مهما جدا على ما فيه من نقص. وقد استعان مللاخ لإصلاح النص فوق أعمال من تقدمه نسخة مخطوطة من مكتبة ليبزج العمومية يظهر أنها أضبط النسخ التي وصلت إلينا. وهذه المخطوطة كان قد استعانها بعض الشيء أولياريوس وهو يعمل لمجموعة فبريسيوس الإغريقية (طبعة هارلس ج3 ص284). ولم تبتدئ البحوث الأدخل في باب الجد والنفع إلا على يد فلبورن الذي نشر سنة 1709 شرحه المسمى:
Liber de Xenophane, zenone et Gorgia, Aristoteli Vulgu tributes, Passim illustratus .
وبعد أربع سنين حذا ج. ل. أسبلدنج حذو فلبورن في بحثه مدرسة ميجار، فأبرز الجزء الأول من الكتاب «في إكسينوفان وزينون وغرغياس».
2
وكان بين يدي أسبلدنج مخطوطة ليبزج استخرج منها عدة اصطلاحات، وبهذه المساعدة تسنى له أن نشر نصا محسنا جدا وقرن به تعليقات ممتعة على الفقرات الأشد غموضا، ولكنه لم يقرن به ترجمة، وإنما كان الجديد في هذا التحقيق هو أن أسبلدنج كان يجعل الجزء الأول من الكتاب مخصوصا بمذاهب ميليسوس، وكان يثبت ببراهين قاطعة أن اسم ميليسوس كان يجب أن يستبدل باسم زينون. وقد قبل من يومئذ رأي أسبلدنج هذا، وإني لذاكر الآن السبب الذي يوجب قبوله.
ولم يستطع أسبلدنج مع فحصه مخطوطة ليبزج مقابلتها بطريقة مضبوطة تماما، واعتمد على الأخص على الإصلاح الخفيف الذي عمله فيها أولياريوس. غير أن كر. دان. بك - مغير جامعة ليبزج الشهير الذي كان قد يسر بحوث أسبلدنج - قد أخذ على عاتقه إتمام تلك البحوث؛ فنشر في السنة عينها كل الروايات المختلفة في تلك المخطوطة الثمينة على هذا الكتاب وعلى بعض مؤلفات أخرى لأرسطو.
3
وهذه النسخة المطبوعة التي اعتد بها مللاخ فضل اعتداد لم تكن - فيما يظهر - لتقدر، بل لم تكن لتعرف عند علماء اللغة الذين اشتغلوا بعد ذلك إما بأمر مدرسة إيليا على العموم، وإما على الخصوص بالكتاب الخاص الذي فيه فحصت مذاهب إكسينوفان وميليسوس، فالمجمع العلمي ببرلين مثلا لم ينتفع بها في طبعته حق الانتفاع، حتى إن مللاخ قد أظهر الأسف لهذا الإهمال الذي كان اتقاؤه ميسورا.
4
في سنة 1843؛ أي بعد اثنتي عشرة سنة قد سد تيودور برج بعض هذا النقص، فاعتمد على روايات بك، ووضع شرحا أمتع من كل ما تقدمه من الشروح.
5
ومع أن هذا العمل قد كان موضع المدح والاستحسان فإنه لم يثن مللاخ عن إعادة النظر من جديد، فنشر - بعد عمل برج بثلاث سنين - الطبعة والشرح اللذين ذكرتهما آنفا. غير أن مللاخ وأسبلدنج لم يترجما الكتاب مع أن ترجمة كتاب مثل هذا مخروم أشد ضرورة من ترجمة غيره. فظلت خير ترجمة لاتينية هي ترجمة جان برناردان فيليشيانو المعلم في البندقية سنة 1552، ولكن مع أن هذه المخطوطة التي ترجمت قليلة التحريف فإنه كان من الممكن أيضا بل من النافع تصحيحها وضبطها، وقد نقلت في طبعة المجمع العلمي في برلين.
تلك هي الأعمال التي تناولت الكتاب على ميليسوس وإكسينوفان وغرغياس حتى الآن. وإنه لينبغي أن يضم إليها تحقيق «م. هنري إدواردفوس» على غرغياس الليونتيومي؛
6
إذ إنه نشر فيه - من غير ترجمة النص - الجزء الذي يتعلق على الأخص بغرغياس؛ أي الباب الخامس والسادس من هذا الكتاب الذي نترجمه، وذيله بتفسير.
وبعد هذه التفاصيل اللغوية يلزمنا الكلام على الكتاب ذاته: في أية حال وصل إلينا؟ ومن هو مؤلفه على المشهور؟ وما هي قيمته الذاتية؟
فأولا ما هو العنوان الذي يجب أن يعنون به هذا الكتاب الصغير؟ عند القدماء جميعا تقريبا وعند المتأخرين إلى بحوث أسبلدنج كان عنوانه المجمع عليه على العموم هو: «في إكسينوفان وفي زينون وفي غرياس». أو بحسب مخطوطة ليبزج في زينون وفي إكسينوفان وفي غرغياس»، فإن أسبلدنج بتقريبه شواهد «سمبليسيوس» العديدة من تحاليل هذا الكتاب أبان بطريقة لا تحتمل النقض أن المقصود في الجزء الأول هو ميليسوس لا إكسينوفان؛ فإنه في شرحه الممتع على كتاب الطبيعة لأرسطو قد نقل فقرات تامة من ميليسوس على الموجود أو الطبيعة. وهي مشابهة حتى في ألفاظها في بعض المواطن كل المشابهة للتفاصيل المسطورة في هذا الكتاب الذي نترجمه. فلما وضع أسبلندج هذه الموافقات بعضها قبالة البعض الآخر وقارن بينها وجها لوجه لم يعد بعد في الإمكان إنكار أن ميليسوس هو الفيلسوف المتكلم عنه في البابين الأولين.
إلى هذا الدليل الذي يكفي وحده في إثبات المطلوب ينضم دليل آخر، وهو أنه في فهرس «ديوجين اللايرثي» (ك5 و1 وف25 طبعة فرمين ديدو ص116) ذكر صريح لكتاب أرسطو على مذاهب ميليسوس. وهذا الذكر ليس مفردا، بل يؤكد ديوجين أن أرسطو قد نقد أيضا آراء زينون، وكذلك قد بحث بحثا خاصا في مذاهب أتباع فيثاغورث وأرخيتاس وسبوسيب وأكزينوقراط ... إلخ.
وفهرس ميناش المجهول واضعه يؤيد شهادة ديوجين اللايرثي، وإنه ليذكر أيضا بحوث أرسطو في مذهبي ميليسوس وغرغياس. وما من شيء أقرب إلى الاحتمال من أن يكون أرسطو قد اشتغل بمذاهب ميليسوس؛ إذ إن ما بين أيدينا من كتبه يدلنا على شدة اضطلاعه بجميع الفلسفات المتقدمة على فلسفته، وهو يذكر ميليسوس غالبا. وإننا ذاكرون أكثر من مرة ماذا قال عنه وعن إكسينوفان، سواء في علم الطبيعة أو في علم ما بعد الطبيعة أو غيرهما.
وعلى هذا فالحق في جانب «أسبلدنج» في أن الجزء الأول من هذا الكتاب يتعلق بميليسوس.
ربما نتساءل كيف كان لهذا الشك سبيل إلى هذه النسبة. إذا كان أرسطو ينقد ميليسوس أو فيلسوفا آخر بعينه، فيكون واجبا عليه فيما يظهر أن يسميه باسمه؛ إذ لا مسوغ لهذا الإبهام الذي لا يفسر. ولكنه لسوء الطالع لم يفعل، بل قنع في هذه الكتب بأن يقول دائما: «هو»، دون أن يعين أسسا مرجعا لهذا الضمير. ولا سبيل إلى معرفة من هو المعني بالنقد إلا تعرف صاحب المذهب المنقود من مذهبه نفسه. وعلى ذلك فإن هذا الكتاب إنما كتب بغير عناية في شكله الظاهر على الأقل، وإن مؤلفه أيا كان قد أخطأ في أنه لم يكن مبينا، حتى لقد احتيج إلى فطنة الفلاسفة المتأخرين لسد هذا النقص الذي ربما لا يكون منشؤه إلا خطأ ناسخ.
وإن ما أقوله هنا عن ميليسوس يوشك أن يكون منطبقا على إكسينوفان أيضا؛ فإنه ليس مسمى كذلك في الجزء الثاني من الكتاب، ولكنه مع ذلك لا سبيل إلى الشك في أمره؛ لأن مذاهبه معروفة أكثر من مذاهب ميليسوس، فنسبة ما يقال هنا إليه لا يتطرق إليها الخطأ.
إن هذا اليقين ينسحب من باب أولى على غرغياس الذي هو غير مسمى أيضا في أول الجزء الثالث (ب5 و6) الذي يخصه، ولكن براهينه قد نقلت إلينا على يد سكستوس أمبيريكوس
adversus mathimaticos exlogicos
ك7 ج2 ص285طبعة سنة 1842 ج1 ص134، وإنها تماثل على الإطلاق البراهين التي تراها في هذا الكتاب.
من هذا استنتج أن العنوان النهائي الذي يجب أن يحمله هذا الكتاب هو «في ميليسوس وفي إكسينوفان وفي غرغياس»؛ فإن هذا العنوان يتفق تماما وما يحويه الكتاب، وقد أحسن مللاخ في اتخاذه، ومنذ الآن لا يمكن إلا اتخاذ هذه الصيغة عنوانا لهذا الكتاب كما فعل مللاخ. أما أنا فإني لم أتردد لحظة في اتخاذها، وفي الحق إنه ليبقى أن تعيين «زينون في عنوانات النسخ المخطوطة لا مسوغ له، غير أني سأحاول فيما يلي مقتفيا أثر مللاخ اكتشاف المصدر الذي يمكن أن يكون صدر عنه هذا التعيين. والآن أسوق القول إلى ما كنا بصدده.» من حيث العنوان لنفرغ منه.
قد راجع بيكر مخطوطتين معنونتين يخالفان العنوان العادي مغفلا فيهما ذكر الأسماء والأعلام. فالعنوان فيهما بالبساطة هو: «كتاب أرسطو على المذاهب» أو «كتاب أرسطو على مذاهب الفلاسفة»؛ فالعنوان الأول هو لمخطوطة في مكتبة سنت مرك في البندقية
q ، والثاني لمخطوطة في الفاتيكان
Bg
بحسب تعريف بيكر. واختلاف هاتين الروايتين مهم من حيث افتراض أن الشكوك كانت متسللة حتى في الأزمان القديمة إلى صحة العنوان المشهور. ومن المحتمل أنهم لم يكونوا ليتعرفوا إكسينوفان وزينون في الجزء الأول والثاني (ب1، 2، 3، 4). وتلقاء هذا الغموض استحبوا عدم التعيين، فقد كان وسمهم الكتاب بأنه «على المذاهب الفلسفية» لا مسئولية فيه؛ لأنه هو مع ذلك على سعته صحيح إن لم يكن مضبوطا. وما كنت لأتخذ هذا الوسم دون غيره، ولكنه يلزم أن يقام له وزن؛ ولذلك ذكرته.
أما وقد تحدد العنوان وبين على هذه الصورة، فمن هو مؤلف الكتاب؟ أأرسطو هو أم هو آخر؟
مخطوطة في الفاتيكان مرقومة
Rg
طبعة برلين، تنسب هذا الكتاب إلى تيوفراسط، أو على الأقل هي تدرجه ضمن كتب أخرى كلها لتلميذ أرسطو وخليفته. وإن ما يجعل لهذا الفرض محلا من الشبه بالحق والثقة هو أن سمبليسيوس في شرحه على كتاب الطبيعة (الورقة
6A ) يستشهد بفقرة من تيوفراسط فيها ينقل هذا المؤلف عن إكسينوفان آراء مطابقة تمام المطابقة لما نقرؤه في هذا الكتاب. ولا شك في أن هذين السببين هما الحاملان برنديس في «تاريخه للفلسفة الإغريقية واللاتينية» (جزء 1 ص358) على أن يسحب هذا الكتاب من أرسطو ليرده إلى تيوفراسط. ولكن هذا التغيير لم يحل محل القبول من ذوق علماء اللغة، ولو أنه صادر عن حكم لا يقل عنهم في العلم ولا في الحذق؛ فقد صرح م. تيودور برج أن هذا الكتاب على رأيه ليس أحق بتيوفراسط منه بأستاذه.
وإني هنا على رأي مللاخ، وأرى - كما يرى - أن ذلك تجاوز أبعد جدا مما ينبغي. وقد نبهت الساعة أن هذا الكتاب لم يكن ليكتب بالعناية المطلوبة ما دام الفلاسفة الذين تنقد فيه مذاهبهم ليسوا معينين بأسمائهم، ولكن في مجموع تأليف أرسطو كما نقلته إلينا القرون كم من غلطات من هذا النوع، وكم من إهمال في التحرير، وكم من قطع لم تتم؛ وكم من صحف مشوشة حتى في أجمل كتبه مثل«ما بعد الطبيعة» مثلا! على أن الأسباب التي حملت أرسطو على أن يترك كل مخطوطاته في حالة نقص معروفة، فإنه لم يكد ينشر شيئا مدة حياته، ولم يكن إلا حين ناهزت سنه للخمسين عول على إظهار شيء من تعاليمه. فلما فوجئ بالحركة الموجهة ضد المقدونيين بعد وفاة الإسكندر، واضطر إلى هجرة آتينا على عجل مشردا منفيا لم يسكن إلى محل طمأنينة أن عاجلته المنون لا تعرف كيف كانت، ولكن المعروف أنها كانت ميتة عنيفة في سن الثانية والستين؛ فجمع تيوفراسط كل ما كان تركه أستاذه من الأعمال والأوراق، ولم ينشر منها شيئا هو نفسه أيضا فيما يظهر. وبقية الحكاية معروفة؛ فإن العالم الغربي لم يكد يعرف مؤلفات أرسطو إلا حينما جيء بها من آتينا بعناية «سلا» فرتبت بطريقة حسنت أو ساءت بعناية «أندرونيكوس الرودسي».
وقد يكون من الغريب أن مخطوطات أهملها المؤلف بحكم الضرورة وأهملها خليفته الأول هي أحسن نظاما في الترتيب من غيرها؛ فإن التشويش أو بالأولى النقص في كتيبنا هذا لا يطعن فيه، بل إني قائل إن هذا الكتاب على ما وجدناه عليه ليس فيه من عدم النظام والخرم مثل، وفي مؤلفات أرسطو التي لا شك في صحة نسبتها إليه. بل قد يكون هذا الكتاب أبعد عن سوء التأليف فإن الأجزاء الثلاثة التي يتألف منها متميز بعضها عن بعض ومتتابعة من غير خلط، وعرض المذاهب المنتقدة فيه هو من الوضوح والتنسيق بمكان. وإذا كان لم يتقبل على العموم بقبول حسن فذلك لأن طابعيه الأولين قد شوهوه بأغلاط شتى تلافتها من بعد ذلك عناية المتأخرين وحذقهم حتى لم يبق منها شيء، وإني ألفت إلى هذا نظر القارئ الفطن الذي يريد فحص هذا الكتاب الصغير لأن يأخذ بالطبعة التي أصلحها مللاخ وبترجمتي هذه.
ومهما يكن هذا الكتاب «في ميليسوس وإكسينوفان وغرغياس» ظنينا في نسبته إلى أرسطو؛ فإنه لا شيء فيه يبعده عن مدرسة المشائين الملاصقة عهدا بأرسطو. وإني لألقي القياد إلى رأي مللاخ الذي يميل إلى اعتبار هذا الكتاب خلاصة من مؤلفات أرسطو التي ذكرها ديوجين اللايرثي كما ذكرناه آنفا. وقد تكون هذه الخلاصة من وضع بعض المشائين، كما يحتمل أن يكون تيوفراسط قد اقتبس كذلك من مؤلفات أرسطو ما رواه عن إكسينوفان كما يذكره لنا سمبليسيوس. وإن في مؤلفات أرسطو لخلاصات من هذا القبيل، والشاهد على ذلك أسلوب «علم الأخلاق الكبير» وأسلوب «علم الأخلاق إلى أوديم»؛ فإنهما ليسا إلا تحاليل ممتعة كثيرا أو قليلا لكتابه «علم الأخلاق إلى نيقوماخوس». ولقد أستطيع أن أستنتج أنه إن كان هذا الكتاب ليس من عمل أرسطو ولا من عمل تيوفراسط، فهو على أقل ما يكون من زمان لا يبعد كثيرا عن زمانهما. وهذا وحده يكفي أن يجعل له أهمية إنكارها محال.
ولقد تأخذ بي القيمة العالية لما يحويه هذا الكتاب بالنظر إلى تحريره، فضلا عن أن ميليسوس وإكسينوفان وغرغياس رجال ثلاثة كبار لا يمكن لتاريخ الفلسفة أن يهمل تذكارهم. ولو أنهم هنا لم يرتبوا على مقتضى الترتيب الزماني فإن هذا لا ينقص قيمة القول فيهم، ولن تجد في أي كتاب آخر قولا على ثلاثة الفلاسفة المذكورين مستفيضا كما في هذا الكتاب، ولا شك في أنه يرغب في أن أزيد من ذلك، ولكن هذه المقاطيع هي كل ما لدينا عن مجموع مذاهبهم، والشكر علينا واجب لمن حفظ الكتاب على هذه الصورة، فإن مدرسة إيليا على رغم أغلاطها بالغة غاية المجد، وإنه إلى جانب آرائها الدقيقة الخافية في وحدة الموجود ولا تحركه، فمن المشوق الاستماع إلى نظرياتها السامية العميقة على وجود الله وقدرته الكلية. وبهذه المثابة فإن إكسينوفان الذي يعتبر مؤسس مدرسة إيليا رجل كبير المقام، وإنه قد تنبأ قبل سقراط وأفلاطون بنبوءات خليقة بهما. وميليسوس وإن لم يكن في مستوى إكسينوفان يستحق على الأقل ألا ينسى. وأما غرغياس فمهما كان سفسطائيا فهو لا يحط مطلقا قدر الطائفة التي يضعونه فيها، وفي الحق حسبنا أن نذكر أن أفلاطون وضع تحت هذا الاسم الشهير واحدة من أجمل محاوراته.
ولكن كيف في النقد الموجه لمدرسة إيليا ومذاهب أهلها يغفل المؤلف أمر زينون؟ كان اسم زينون في عنوان الكتاب في أكثر النسخ المخطوطة؛ فلماذا لم يكن له وجود في صلب الكتاب؟ من أين هذا الإغفال وهذا النقص؟ يرى مللاخ بحق أن هذا الكتاب الذي ليس له الآن إلا ثلاثة أجزاء كان يجب أن يكون فيما سبق مؤلفا من أربعة أجزاء، وأن نقد زينون كان يجب أن يتلو نقد إكسينوفان. وهذا الفرض مقبول، وقد يستنتج طبعا من أن أرسطو قد فحص مذاهب زينون كما فحص مذاهب الفلاسفة الثلاثة الآخرين. ويؤيد مللاخ هذه القرينة بفقرة في هذا الكتاب (ب5 ف3) حيث ذكر فيها اسم زينون عقب اسم ميليسوس بالصراحة. وإلى هذه الفقرة يمكن أن يضاف أيضا فقرتان تكادان تكونان في المعنى عينه (ب6 ف6 و9). وهكذا دون أن نخرج من هذا الكتاب الصغير يمكننا أن نجد براهين تكفي للقول بأنه كان لهذا الكتاب جزء رابع أفرد القول فيه على زينون، ولكنه غير موجود الآن. وهذا الجزء كان يأتي في الترتيب عقب الجزء الخاص بإكسينوفان.
وفوق ذلك فإن في الفقرة الأولى من الباب الثاني يرى أن ميليسوس مسمى ومقربا من إكسينوفان الذي لا يجيء فحص مذهبه إلا بعد فحص مذهب ميليسوس. فيظهر من المحقق إذن أن غرض مؤلف هذا الكتاب الصغير أن يدرس ميليسوس قبل إكسينوفان. كذلك يوجد هذا الترتيب في فهرس ديوجين اللايرثي؛ فإن كتاب أرسطو على ميليسوس مقدم على كتبه على غرغياس وإكسينوفان وزينون. ولكنه لو روعي الترتيب الزمني كما كان يجب أن يعمل لكان إكسينوفان هو الأول وزينون الثاني وميليسوس الثالث وغرغياس الأخير. لا ينبغي أن يعلق على هذه المسائل من حيث الترتيب الزمني أهمية كبرى، ولكن تعاقب المذاهب لا يجود فهمه إذا خلطت العصور من غير ترتيب، وإنما ينفع الفلسفة ذاتها أن يتحرج في ترتيب عصورها بالتسلسل على قدر الإمكان.
يوشك ألا يكون من الأهمية بمكان ذكر أن يكون أرسطو هو الذي أخطأ في الترتيب إذا كان هو مؤلف الكتاب أو أن مختصره هو الذي ارتكب هذا الخطأ، فإني تارك إلى جانب مسألة الترتيب التي هي مادية محضة لأقول بعض كلمات على الفلاسفة الثلاثة المذكورين في كتابنا هذا.
اشتهر إكسينوفان بأنه كان رئيسا لمدرسة إيليا، وهذا هو المجد الذي يسند عادة إليه، وإن كان أفلاطون في الفقرة الوحيدة التي ذكر فيها إكسينوفان يشير - فيما يظهر - إلى أن مدرسة إيليا أقدم منه (السفسطائي ص241 من ترجمة كوزان وص119 ب44 من الطبعة الإغريقية في طورينو سنة 1839). لما نفي إكسينوفان من وطنه كولوفون إلى يونيا آسيا الصغرى يظهر أنه هاجر إلى صقلية واحتمى فيها بمدينة زنكل ثم بقطنة، ثم ذهب إلى إيليا التي كان قد أسسها حديثا الفوكيون سنة 536 قبل الميلاد على شواطئ إغريقا الكبرى وعلى بحر طرهينيا، وأنشأ فيها هو نفسه هذه المدرسة التي اشتهرت بها تلك المدينة الجديدة، ولا يدرى أمات بها أم رجع إلى كولوفون. والظاهر أنه عمر طويلا متى سلم بصحة ما نقل إلينا من بعض أبيات يقول فيها:
7
إن سنه أربت على الثانية والتسعين. وفي الحق إن هذه الأبيات يمكن أن تفسر بمعنى آخر تدل به على أن إكسينوفان كانت سنه وقتئذ سبعة وستين عاما، وأن الحوادث التي قيل فيها الشعر حصلت حين لم يبلغ عمره إلا خمسة وعشرين؛ فإنه يقول: «إذا صح أني أستطيع الكلام على هذه الأشياء بصورة مضبوطة.» يقول ديوجين اللايرثي: إنه ظهرت آثاره نحو السادسة والستين أولمبية؛ يعني نحو السنة 540، وبفرض أنه كانت سنه في هذا الحين 45 أو 50 سنة، فيكون ميلاده متأخرا قليلا عما يفترض له؛ إذ يقال: إنه ولد سنة 617 قبل الميلاد.
وإن ما يحمل على الظن بأن ميلاد إكسينوفان يجب أن يكون أقرب من ذلك هو أنه استشهد بفيثاغورث
8
الذي ربما قبل آراءه في التناسخ. ولقد نعلم بشهادة شيشيرون الصريحة (الجمهورية ك2 ب15) أن فيثاغورث لم يأت سيباريس وقروطون إلا في سنة 62 أولمبية؛ أي السنة الرابعة من حكم طرخان العظيم؛ أعني سنة 530، أفيكون من المحتمل أن إكسينوفان تكلم عن فيثاغورث وهو حي بما تكلم به. وحينئذ ألا يلزم عليه أن ينزل بالعصر الذي عاش فيه وبميلاده إلى أنزل من ذلك. وإليك هذه الأبيات:
لما رأى ذات يوم كلبا يضربه بالسوط صاحبه
أخذته الشفقة بهذا الكائن الشقي
فقال: لا تضرب تلك هي روح صديق
تعرفته بسماع صراخه.
وقد زاد ديوجين اللايرثي الذي روى هذه الأبيات في ترجمة فيثاغورث - في موضع آخر
9 - أن إكسينوفان كان يحارب مذهب حكيم ساموس ومذاهب طاليس وإيبيمينيد، كما أنه كان ينقد بحدة ما كان يصور به هيزيود وهوميروس الآلهة وشهواتهم ونقائصهم. وقد كان إكسينوفان يودع أفكاره القصائد والحماسيات التي كان يقرضها، بل قد يكون محتملا أنه كان يرتزق على دأب «رهبسود» بإنشاد قصائده ليطرب السامعين ويستجدي سخاءهم.
وإذا كان إكسينوفان قد طعن في آراء طاليس وفيثاغورث وإيبيمينيد، فيجب أن يكون متأخرا عنهم، وليس محالا أن يكون قد عاش إلى زمن الحرب الأولى الميدية (سنة 490 قبل المسيح).
وهناك واقعة قد لا يستطاع الشك فيها ما دام أرسطو يشهد لها (الميتافيزيقا ك1 ص146 ترجمة كوزان)، وهي أن برمينيد كان تلميذ إكسينوفان. وعلى هذه النقطة كل القدماء على وفاق، غير أننا نعلم يقينا من أفلاطون (تييتيت ص154 والسفسطائي ص164 ترجمة كوزان) أنه حينما جاء برمينيد آتينا مع زينون كانت سنه 65 سنة (البرمينيد ص6 ترجمة كوزان وص751 طبعة طورينو 1839). وبفرض أن سقراط كان حديث السن عند حواره برمينيد المنقول لنا في المحاورة المشهورة بهذا الاسم، ولم يكن عمره إلا عشرين سنة، فإن هذا ينقلنا إلى سنة 450 قبل الميلاد. وعلى هذا الفرض يكون برمينيد قد ولد في سنة 515، وليتلقى العلم على إكسينوفان يلزم أن يكون هذا الأخير قد مات في نحو العهد الذي ذكرناه آنفا .
غير أني تارك مرة أخرى هذه المجادلات التاريخية
10
لأقف برهة عند آراء إكسينوفان الفلسفية التي لها في نظري أهمية أخرى. ولئن كان فيما يتعلق به نقطة مجمع عليها فإنما هي أفكاره في الآلهة، بل يمكن أن يقال أفكاره في الله، كانت أصح وأرقى من أفكار معاصريه . وهذا الكتاب الذي نترجمه يكفي وحده في إثبات هذه الدعوى، غير أن الشواهد على ذلك متواترة أكثرها جوهرية شاهد إكسينوفان نفسه. ولم تنخدع المسيحية في أمره؛ فإن كليمان السكندري (أستروماتس ك5 ص601) يثني على فيلسوف كولوفون بأنه نزه الله تعالى عن التجسد، وبأنه قال:
واحد قدير على كل شيء، ملك الأشدين قوة، فالله لا يشبهنا لا بالعقل ولا بالجسم، وإن الناس بتصويرهم الآلهة على صورتهم يسندون إليهم أفكارهم وأصواتهم ووجوههم.
ويروي كليمان السكندري فوق ذلك أبياتا أخرى تكرر هذه الفكرة عينها في قالب آخر، وفيها يقول إكسينوفان:
إذا كان للثيران والأسود أيد تصور كما يصور الناس لأعطت الآلهة التي تصورها أجساما أشبه بأجسامنا، ولكانت الخيل تصورهم بصور خيل، والثيران تصورهم بصور ثيران.
منذ إكسينوفان قلدت هذه الأبيات التي هي غاية في الحق ألف مرة، ولكيلا يصور الناس الله على صورتهم حين يحاولون تصويره اضطروا أن يكفوا على الإطلاق عن تمثيله كما يهدي إليه بعض الديانات المتشددة إلى الغاية.
بعد أبيات إكسينوفان يمكن الاستظهار بشهادة أرسطو في مؤلفاته الأخرى غير هذا الكتاب الذي نترجمه مثل ما في الخطابة: (ك2 ب23) حيث ينقل أنه على رأي إكسينوفان أن «من الإلحاد الاعتقاد بولادة الآلهة وبموتهم؛ لأنه على كل واحد من الوجهين تقع برهة لا يكون للآلهة وجود.» وفي موضع آخر بعد هذا بقليل يروي أرسطو جواب إكسينوفان على أهل إيليا الذين كانوا يسألونه أيجب عليهم أن يقربوا قربانا إلى «لوقوتوا» ويجأروا بالنواح عليها؟ فقال لهم: «إذا صح في نظركم أنها إلهة فلا ينبغي أن تبكوها، فإن لم تكن إلا هالكة فلا ينبغي أن تقرب لها القرابين.» يسند بلوطرخس أيضا إلى إكسينوفان فكرة مماثلة لهذه فيها أن المخاطبين هم المصريون عوضا عن أهل إيليا، وأوزيريس عوضا عن عذراء لوقوتوا ص463، وأما طريوس ص933 طبعة فرمين ديدو «أيزيد وأوزيريد».
من هذه الأفكار السامية الحقة في حق الله تفهم علة حنق إكسينوفان على الشعراء الذين كانوا يحطون من الجلالة القدسية، والذين هم كهوميروس وهيزيود لا يحجمون عن أن يسندوا إلى الآلهة كل ما يحط من الشرف في نظر الناس كالسرقة والزنا والكذب والغدر (سكستون أمبيريكوس بيرون هيبوتيب. ك1 ب33 ص99
Adversus Mathem.
، طبعة 1842 ك9 ص612.
Grammaticos
ك1 ص112).
وفي موضع آخر تكلم أرسطو أيضا على آراء إكسينوفان هذه. وفي كتابه «الشعر» ذكر أن الفيلسوف كان يطعن في المعاني التي يتصورها العامة في حق الآلهة (ر. الشعر ب25 ف11 ص142 من ترجمتي).
وأخيرا ذكر أرسطو إكسينوفان أيضا فيما بعد الطبيعة (ك1 ب4 ص146 ترجمة كوزان سنة 1838).
وفي هذا الموضع الأخير لم يحفل أرسطو بنظريات إكسينوفان على الوحدة التي خلطها بالله، فلم ير في هذه النظريات ما ينبغي من الضبط من حيث إن هذه الوحدة ليست عقلية كوحدة برمينيد ولا مادية كوحدة ميليسوس، بل يزيد على ذلك أيضا أن أفكار إكسينوفان في هذه النقطة أفكار جافية كأفكار ميليسوس الذي لا يفرق بينه وبينه.
ها نحن أولاء قد أتينا على كل ما وجد في أرسطو تقريبا على إكسينوفان. ولكن تلك الفقرة المذكورة في «ما بعد الطبيعة» عظيمة الأهمية من حيث إنها ترينا رأي أرسطو في أن مذاهب ميليسوس ليست بعيدة عن مذاهب إكسينوفان، وذلك يدلنا على حكمة الجمع بينهما في كتاب واحد إذا كان أرسطو هو مؤلف هذا الكتاب، وإن لم يكن فكيف تسنى لمؤلف آخر أن يجمع بينهما دون أن يقرب بينهما قسرا. غير أنه كان يلزم - مراعاة للترتيب الزماني - أن يتكلم على ميليسوس بعد إكسينوفان. ولكن ربما كان هذا مجرد خطأ مادي في الوضع سببه إهمال نساخ. ولما أنه ليس بين الجزأين الخاصين بإكسينوفان وميليسوس ارتباط ضروري، فليس في التشويش مستنكر ولا مستعصى عن الفهم.
أما ميليسوس الذي نضعه في الصف الثاني، سواء في الأهمية والترتيب الزماني، فإنه رجل يسترعي الاهتمام وإن كان أقل رفعة من سابقه. قد ولد في ساموس كفيثاغورث، وتبوأ فيها مركزا عظيما، ودافع عن وطنه بمهارة وشجاعة عندما حاصره الآتينيون قبل حرب بيلوبونيز بخمس عشرة سنة. ولقد نجح ميليسوس في كسر الحصار، واتخذ لقومه منه مخرجا قادهم به حتى أتلف أعمال الحصار ووصل إلى أسطول الأعداء وخربه كله تقريبا. كل ذلك في غيبة بيريكليس الذي كان قد غادر الحصار لملاقاة السفن الفينيقية الآتية لنصرة مدينة ساموس، فأمكن المدينة أن تحصل على ما نقصها بالحصار من التموين، وذلك بفضل النصر الذي أحرزه ميليسوس. ولكن الدائرة قد دارت على أهل ساموس حين رجع بيريكليس من غيبته، فانهزم ميليسوس في حرب برية، واضطرت المدينة إلى التسليم على شروط أقسى ما تكون. لم يذكر طوسيديد الذي روى هذه الوقائع (ك1 ب116) ميليسوس، غير أن بلوطرخس ذكره في ترجمة بيريكليس (ب26 ف3 ص199 من طبعة فيرمين ديدو) على صورة لا تحتمل الشك؛ لأنه يقول بالصراحة: إن ميليسوس بن إيتاجين كان فيلسوفا. وزاد على ذلك بلوطرخس نقلا عن أرسطو من غير أن يبين موضع النقل: أن ميليسوس كان قد هزم قبل ذلك بيريكليس في واقعة بحرية أخرى، وذلك إنما يعطي من مقدرة ميليسوس الحربية فكرة أسمى.
ومهما يكن من الأمر فإن من المحقق أن ميليسوس كان به تحت ثياب الفيلسوف وطني وسياسي وقائد بحري ورجل حرب، وذلك من الندرة في تاريخ الفلسفة بحيث يجب علينا التنبيه إليه كما فعل بلوطرخس (باب32 ص1377 طبعة فيريمن ديدو
Adversus CoLoten ، ولما أن ساموس قد سامها الآتينيون صنوف القسوة فمن المظنون أن ميليسوس ذلك الوطني الغيور - والذي كان له حظ عظيم في مقاومة الفاتحين - لم يشأ أن يبقى تحت الحكم الآتيني، وأنه هاجر في هذا الظرف العسير، وكان ذلك في الأولمبية الرابعة والثمانين؛ أي السنة 441 قبل الميلاد. وهذا التاريخ مضبوط ومتفق تماما مع شهادة أبللودور التي نقلها إلينا ديوجين اللايرثي (ك9 ب4 ص233 طبعة فيرمين ديدو).
كذلك لا يرى لماذا لم يمكن أن يكون ميليسوس تلميذا لبرمينيد كما يقوله أيضا ديوجين اللايرثي؛ فإن التواريخ لا تقف دون ذلك. ولما أن ميليسوس هو من أتباع مدرسة إيليا فيمكن بسهولة أن يكون تلقى مذاهبه من خليفة إكسينوفان. ولقد قرن أرسطو مرات عديدة ذكر برمينيد بذكر ميليسوس في كتاب الطبيعة (ك1 ب2 ف1 و5 ص433 و436 من ترجمتي) ليفندهما جميعا في نظرية وحدة الموجود ولا تحركه. كذلك فعل أفلاطون في كتابه «تييتت» (ترجمة كوزان ص144). وإن هذا على التأكيد لا يكفي لإثبات أنه كان بين الفيلسوفين علاقة أستاذ وتلميذ، غير أن هذه التقاريب لا تنفي هذا الظن الكثير الاحتمال في شيء (ر. أيضا الطبيعة ك1 ب3 ف9 وب4 ف1). وفي ما بعد الطبيعة في الفقرة التي استشهدنا بها آنفا اسم ميليسوس مقترن باسم برمينيد. وكذلك في كتاب السماء (ك3 ب1 ف2 ص223 من ترجمتي). ومن ذلك أستنتج أن دعوى ديوجين اللايرثي مهما كانت فريدة لا ترفض بهذا الازدراء الذي لاقت من بعض مؤرخي الفلسفة؛ فإن ميليسوس لما هاجر إلى إيليا في إغريقا الكبرى يمكن جيدا أنه قد سمع دروس برمينيد الذي استمر يلقي دروس إكسينوفان.
وعلى جملة من القول لا يعرف شيء عن حياته، ولكن من العدل أن يفترض أن نهايتها كانت مطابقة لبدايتها.
كان كتاب ميليسوس موسوما «في الوجود»، بل ربما كان موسوما «في الطبيعة» عنوان شائع جد الشيوع عند أكثر فلاسفة تلك الأزمان القديمة، وإذ الطبيعة في مجموعها هي موضوع درسهم حتى يتهيأ لهم تحليل مفصل ما كان ليؤسس إلا على مشاهدات أكثر عددا. نحن نعرف مؤلف ميليسوس هذا بالمختصر الموجود في هذا الكتاب الذي نترجمه، وبالشواهد التي نقلها ميليسوس في شرحه على الطبيعة لأرسطو، إما لأنه كان بين يديه النسخة الأصلية لكتاب ميلسيوس وإما - وهو الأرجح - لأنه لم يكن لديه إلا ملخصات تيوفراسط الذي يستشهد به. لا أريد أن أختصر أنا أيضا تلك المختصرات المختلفة، ولكني أقنع بأن أحيل على قطع ميليسوس التي سوف نذكرها بعد أخذا عن أسبلدنج ومللاخ، وفيها يرى مذهب الفيلسوف السموسي، على ما وصل إلينا بالأقل، وزيادة على ذلك يرى لماذا كان كتابنا الصغير أمينا على المؤلف الذي يعرفه للناس في حين أنه ينقض مذهبه!
بعد إكسينوفان وميليسوس لا أقول شيئا عن زينون ما دام كتابنا لا يتكلم عنه، وإن ذكره الوارد في عناوين بعض المخطوطات يجب أن يعتبر كسهو، فيبقى غرغياس الذي يجب أن يكون كلامنا عليه موجزا جدا؛ لأنه معروف أكثر ولأنه لا يكاد يكون إلا سفسطائيا.
11
ولد غرغياس في ليونتيوم بصقلية نحو الواحدة والسبعين أولمبية، وبلغ من الكبر مبلغا عظيما، حتى لقد بلغ على ما يظهر الثامنة والتسعين أولمبية؛ أعني أنه لم يمت إلا في سن الثامنة أو التاسعة بعد المائة كما يقول كل كتاب الزمن القديم بالإجماع، ولا يعرف عن حياته العملية تفاصيل طويلة. أما عائلته فالظاهر أنها كانت - فيما يظهر - عائلة ممتازة، وكان أخوه «هيروديكوس» - الذي لا ينبغي أن يلتبس بهيروديكوس السلمبري - طبيبا حاذقا (ر. غرغياس لأفلاطون ص185 و209 ترجمة كوزان). وهذا يدل فيما يظهر على أنه كان في سعة من العيش وعلى جانب عظيم من الثقافة العقلية. وأما غرغياس فإنه اجتهد على الأخص في الخطابة، وكانت فنا مخترعا حديثا وقتئذ حصل منه على اسم كبير في صقلية وأفاد من تعليمه إياه فوائد أكبر. ولا شك في أن قدرته الخطابية هي التي أكسبته ثقة مواطنيه إذ استنجدوا آتينا ضد سيراقوزة والمدائن الأخرى الدورية؛ فبعثوا غرغياس يطلب مساعدة الجمهورية، ويظهر أن التاريخ المضبوط لسفارته هذه هو السنة الثانية للأولمبياد الثامنة والثمانين؛ أي سنة 427 قبل الميلاد. ويظهر أن سقراط الذي رآه بلا شك لم يكن ليستهين بفصاحته التي كثر اللغط بشأنها في آتينا وصارت مصدر ثروة لهذا المعلم الحسن البيان (ر. هبياس لأفلاطون ص100 ترجمة كوزان). ولقد ظن أن أرسطوفان في روايته المضحكة عن الطيور كان يريد أن يستهزئ بغرغياس؛ لأنه كان يرى أسلوبه منتفخا وغير طبيعي.
منذ هذه السفارة المشهورة التي ربما أتبعها غرغياس بالعودة ثانية إلى آتينا، بل بالإقامة فيها، لم يعرف لحياته العلمية أثر آخر، وكل ما يعلم عنه أنه في آخر حياته أقام في تساليا حيث استمع إليه «إيزوقراط»، وأنه عاش زمنا طويلا في لارسا أثرى مدن تلك الجهة بسبب نفوذ عائلة الأللويين. ولئن رجعنا إلى كلمة طيبة رواها أرسطو (السياسة ك3 ب9 ص127 من ترجمتي طبعة ثانية) لوجدنا أن غرغياس لم يكن عظيم الاحترام لوطنية اللارسيين، ولا يعلم أن هذا السفسطائي الشهير قد مات بين ظهراني هؤلاء. ومع أنه صار من الثروة على جانب عظيم ومن الزهو بحيث إنه وضع لنفسه تمثالا من الذهب في معبد دلفوس، فإنه - كما يقال - كان على بقية من قناعة تضرب بها الأمثال. ويقال: إن تقشفه المتناهي هو الذي أطال عمره إلى ذلك الحد. ويزعم لوسيان - خبثا منه بلا شك - أن غرغياس لما مل الحياة ترك نفسه يموت جوعا (
Macuobioi
ب23 ص643 طبعة فيرمين ديدو).
ولم يكن مشرفا مركز غرغياس في المحاورة التي وضعها أفلاطون وسماها باسمه؛ ففيها يبين له سقراط أن فن الخطابة الذي يزعمه ليس فنا كما يزعم، وضيق عليه في المناقشة حتى بهت بأن جعله يقع في التناقض المبين، وألجأه إلى تبرير الظلم والقسوة، وساء دفاع غرغياس عن دعواه الخاسرة، غير أنه كان يسبغ عليه من القصد وحسن الذوق ما لم يكن لبولوس وعلى الأخص قليقليس اللذين يسوقان المعاني التي لا يجيدان فهمها سوقا إلى النهاية، وينصبان نفسيهما أشياعا عميا للقوة على الحق وللشر على الخير وللضلال على الهدى. ولقد يتعرف من دهاء غرغياس خلقه العام الذي يسند إليه، بل ربما كان إلى هذا الدهاء أيضا ينسب تأثير مركزه السياسي أيضا؛ فإنه لم يكن في بلده ويجب عليه أن يداري الآتينيين الذين كان ينتظر منهم نصرة وطنه، يداريهم حتى في المناقشات النظرية البحتة.
وأما كتاب غرغياس فكان عنوانه «في اللاموجود أو في الطبيعة» ولا يعلم ماذا كان يحوي على العموم، ولكنه يرى على قدر الكفاية من كتيبنا هذا ماذا كانت فكرته العامة. في الواقع إنما هي لا أدرية مطلقة. وفي هذه النقطة لا محل للتردد في الحكم فإن سكستوس أمبيريكوس الذي يظهر أنه كان بين يديه نسخة غرغياس نفسها قد نقل إلينا كما بيناه آنفا تحليلا مطابقا تمام المطابقة لما سنجده هنا (ك7 ص285-290 طبعة 1842
Adversus Mathematicos, Logicos ). وإنه ليضع غرغياس في صف الفلاسفة الذين يأبون على الإنسان أية ملكة للحكم على حقيقة الأشياء، وينكرون إمكان الاهتداء لذلك. وما ذلك إلا مذهب فقير يحوي في نفسه كما في كل لا أدرية مطلقة تناقضا ليس منه محيص. ولما تزعزع الإيمان بالمنطق تزعزع بالأخلاق على السواء، فلا عجب أن يكون سقراط قد أقام حربا عوانا على السفسطائيين الذين يفسدون العقول والأخلاق.
يظهر أن كتاب غرغياس الذي في عنوانه وحده ازدراء بالذوق العام قد ألف أو ظهر في الأولمبية الرابعة والتسعين؛ أعني سنة 403 قبل الميلاد، وكان ذلك في آخر حرب بيلوبونيز، وكان الظرف سيئا للتنازع في حقيقة الأشياء؛ إذ كانت إغريقا كلها تعاني من الشرور ما لا شبهة فيه. ومتى يمكن أن تكون اللاأدرية في وقت مناسب؟ لقد كان ذلك لأربع سنين قبل الحكم على سقراط؛ إذ نشأت ضلالة أخرى كان يمكن للاأدري أن يسخر منها كما يسخر من هزيمة آتينا في نزاعها مع هذا الحكيم جزاء له على ما كاله لها من صنوف التهكم. ومع ذلك فإن غرغياس في شيخوخته الطويلة قد عاش بعد سقراط وهجر أيضا آتينا إلى بلاد أقل منها قرى فيها لم تكن لا أدريته لتعزيه بعض الشيء عن نفيه.
ولكي تقدر فكرة غرغياس تقديرا تاما قد أثبت قطعة سكستوس أمبيريكوس. فمن السهل مقارنتها بكتيبنا هذا الذي لها به ارتباط بين.
يجب أن يرى بناء على كل ما تقدم أن كتابنا الصغير مهما كان فيه من النقص والعيوب والغموض - حتى بعد البحوث التي تناولته - لا يزال على جانب من الأهمية. وحين كان النص مملوءا بالأغلاط كان يمكن إهماله واعتباره غير معقول تقريبا، فأما منذ مللاخ فقد أصبح هذا الازدراء لا محل له، وأنا من جهتي دون أن أكون مرتاحا تماما لا أجد أن هذا الكتاب أكثر غموضا من كثير من الكتب الأخرى في مؤلفات أرسطو. مع الإصلاحات التي تناولته والتي هي مقبولة جد القبول؛ لأن أكثرها قام الدليل على صحته من المخطوطات التي درست خير دراسة، مع هذه الإصلاحات يقف القارئ جيدا على ما أراده المؤلف وإن أسلوبه لمن البيان على قدر المطلوب. فإن لم تكن هذه الرسالة التي ليست بعد كل شيء إلا مجموع مذكرات، إن لم تكن من قلم أرسطو فإنها ليست غير خليقة بأن تنسب إليه كما قد ظن ذلك زمانا طويلا. وعلى الأخص فليست قليلة الفائدة من حيث تاريخ الفلسفة. وبهذا العنوان وعلى هذا الاعتبار يستوصي بها كل أصدقاء الفلسفة القديمة.
أما فيما يتعلق بموضوع المذاهب وبمركز مدرسة إيليا، فقد قلت بعض كلمات في مقدمتي على هذا المجلد، وتصديت لأن أبين في هذا البحث أن الفلسفة الإغريقية جدتنا المحترمة كانت نشأت باجتماع ظروف سعيدة قبل الميلاد بستة قرون في المستعمرات التي أسست على شطوط آسيا الصغرى. وقد أعلنت هذا الحادث كواحد من أعظم تواريخ العقل البشري، وعينت الحوادث السياسية الكبرى التي في وسطها نتجت هذه النتيجة، واستخلصت من هذه اللوحة مهما كان موضعها من قلة الكمال نتائج قد تكون أوسع من إطارها. ألا إنما في تلك البيئة يجب أن نحل فلاسفتنا لنفهمهم جد الفهم ولنقدر حق قدرها تلك القيمة السامية لهؤلاء الأساتذة معلمي الحكمة القديمة، والذين مهدوا لنا فلسفتنا الحالية، والذين لا يزالون يشجعوننا حتى على هذا البعد الشاسع.
هوامش
في ميليسوس وفي إكسينوفان وفي غرغياس
(1) مذاهب ميليسوس
الباب الأول
هو يقرر أنه إن يكن من شيء فذلك الشيء يجب أن يكون أزليا ما دام أنه - على رأيه - من المحال أبدا أن يتولد شيء من لا شيء. وسواء أكان في الواقع أن الكل قد خلق أم أن الكل لم يكن يخلق، فيلزم على ذلك من الفرضين أن الأشياء التي خلقت تكون أخرجت من لاشيء ما دام أنه ما من واحد من جميع الأشياء التي تكونت على هذا النحو كان يوجد من قبل.
1
وإنه إذا قيل إن من الأشياء ما كان موجودا من قبل ومنها ما جاء بعد ذلك لينضم إليه، نتج من ذلك أن الكل الذي هو واحد قد زاد بالعدد وبالكم. وهذا نفسه الذي به يصير أكثر عددا وأكبر يجب أن يأتي أولا من لاشيء؛ لأن الأكثر لا يمكن أن يكون في الأقل ولا الأكبر في الأصغر.
2
ومتى كان الكل أزليا يجب أن يكون بهذا عينه لامتناهيا؛ لأنه لا يكون هناك مبدأ يأتي منه، كما أنه لا يكون له آخر متى بلغه انتهى. وكل متناه يجب ضرورة أن يكون واحدا؛ لأنه إذا وجد عدة لامتناهيات بل متناهيان اثنان حدد بعضها بعضا على التكافؤ.
3
ولما كان واحدا وجب أن يكون متشابها في جميع أجزائه؛ لأنه إذا كان غير متشابه فبهذا وحده لا يكون بعد واحدا، ولما لم يكن واحدا كان كثرة. ولما كان الواحد أزليا لا قابلا لأن يقاس، متشابها في جميع أجزائه، وجب أن يكون غير متحرك؛ لأنه لا يمكن أن يتحرك إلا في شيء ينطلق أمامه، ولكن الانطلاق لا يمكن أن يكون إلا للذهاب في الملء أو في الخلو؛ فمن جهة الملء لا يمكن بعد أن يقبل شيئا ومن جهة أخرى الخلو نفسه ليس شيئا.
4
لما كان الواحد هو ما قلنا آنفا ينتج من ذلك أنه لا يمكن أن يلحقه تعب ولا ألم، ويجب أن يكون سليما وبغير مرض. كما أنه لا يمكن أن يغير وضعه ليتخذ أحسن منه، ولا أن يتحول ليأخذ نوعا آخر، ولا أن يختلط بشيء آخر. وفي كل هذه الأوضاع الواحد يصير كثرة وإذن يكون اللاموجود هو المتولد، والموجود يكون هو الذي قد فسر بالضرورة.
5
وكل هذا محال مطلقا. وفي الحق إذا كان الواحد مقولا على الخليط لأنه تألف من عدة أشياء، فيلزم حينئذ أن يكون مسبوقا بوجود عدة أشياء، وإن هذه الأشياء تكون قد تحركت بعضها نحو الأخرى. وليس الاختلاط في الواقع إلا تركب عدة أشياء في شيء واحد، أو إنما هو كجمع بين الأشياء المختلطة عن طريق التصنيف. وعلى هذا النحو قد تختلط الأشياء لأنها تنفصل بعضها عن الأخرى. ولما أن هذا الجمع يحصل في سحق الأشياء، فقد يجب أن يوجد جليا كل واحد منها برفع الأشياء الأولى التي اختلطت باقترابها بعضها من بعض، وليس توجد واحدة من هاتين الحالتين.
6
وهكذا على هذه الطريقة تكون الأشياء - على رأي ميليسوس - متكثرة، ولا تظهر لنا ألبتة بوحدة. وبالنتيجة لما أنه ليس ممكنا أن يكون الحال هكذا على هذا الوجه، وأنه لا يمكن أن تكون الأشياء متكثرة، فيلزم القول بأن هذا ليس إلا ظاهرا خداعا كما أنه مع ذلك يوجد كثير من الأشياء تخدع حواسنا وتغرها، ولكن العقل يؤكد لنا أن تلك الأشياء ليست موجودة، بل هو يؤكد لنا أن الموجود لا يمكن أن يكون كثرة، وأنه واحد أزلي لامتناه متشابه في جميع أجزائه.
7
وحينئذ هل تكون عنايتنا الأولى بعدم قبول كل ظاهر، وألا نثق منه إلا بما هو الأحق؟ ولكن إذا كان ما يظهر لنا أنه حق ليس صحيحا ولا يستحق على ذلك تصديقنا، فقد نحسن صنعا بعدم قبول هذه القاعدة أيضا: أنه لا شيء ألبتة يمكن أن يأتي من لاشيء؛ لأنه ربما كان هذا أيضا واحدا من تلك الآراء القليلة الصدق والكثيرة العدد التي نحن جميعا قد تصورناها بواسطة إدراكات قليلة الصدق أو كثيرته.
8
ولكن إذا كانت كل إدراكاتنا ليست فاسدة، وإذا كان بعض آحادها صحيحا فيلزم أن يختار إما الرأي الذي قام الدليل على صحته، وإما الآراء التي تظهر أنها أحق؛ لأن هذه الأخيرة تكون دائما أمتن من الآراء التي يجب أن يدلل عليها من بعد بمساعدة تلك المبادئ الأولى.
9
فلنسلم - إذا شئت - بأن هذين الرأيين مضادان أحدهما للآخر كما يفترض ميليسوس: بادئ بدء إنه عند تأييد الكثرة يضطر إلى استخراجها من اللاموجود، ثم لما كان هذا محالا وجب أن يستنتج من ذلك أن الموجودات ليست متكثرة والموجود بما هو موجود فقط هو لامتناه وبما هو لامتناه هو واحد.
10
نزعم أن هذين الرأيين لا يثبتان لأحدهما ولا الآخر أن الموجود هو واحد وأنه كثرة. ولكن إذا كان أحد الاثنين أحق وأمتن فتكون النتائج التي تستنتج منه هي أيضا أجلى وضوحا؛ فإن كان لنا هذان الاعتقادان معا: أن لا شيء يمكن أن يأتي من لاشيء، وأن الموجودات هي متكثرة ومتحركة، فلما أن هذا الأخير يظهر لنا حقيقا بالثقة فهو أولى من الآخر بتصديق الناس. وبالنتيجة إذا كان هذان الرأيان هما متضادين في الواقع، وإذا كان من المحال أن شيئا يأتي من لاشيء وأن الموجودات متعددة؛ فإن هاتين النظريتين تتباطلان وتتفاسدان على التكافؤ.
11
لكن لماذا إذن يكون رأي ميليسوس أحق؟! إنه يمكن أيضا تأييد الرأي المضاد ما دام أن ميليسوس قد وضح استدلاله من غير أن يكون قد دلل على أن الرأي الذي يصدر عنه هو الحق أو على الأقل أنه أمتن من الرأي الذي يقصد إلى أن يبرهن على فساده. وهذا من جانبه ليس إلا فرضا محضا أن يرى أن مجيء الأشياء من لاشيء أشبه بالحق من أن تكون متعددة.
12
ولقد أصاب من قال على ضد ذلك ها هنا إن أشياء لم تكن قد كانت، وإن كثيرا من الأشياء أخرج من العدم. وليس هؤلاء الذين افتكروا هذه الأفكار من أناس كيفما اتفق. بل هم مشهورون بأنهم أعقل الناس، مثال ذلك قال هيزيود:
كان العماء موجودا قبل كل الأشياء
ثم ظهرت الأرض ذات الصدر الفسيح
وهي الأساس الأزلي لكل ما تحمل ... ... ... ... ...
ثم بعد ذلك العشق الذي هو أقدر الآلهة.
فعلى رأي هيزيود سائر الأشياء تولد من هذا، ولكن المبادئ الأول لم تتولد من شيء.
13
ومن الفلاسفة من يقولون بأن لا شيء يكون وأن الكل يصير، وهم يؤكدون كذلك أن كل الأشياء التي تصير تولد من أشياء غير موجودة. وبالنتيجة يمكن أن يقال إن عند بعض الفلاسفة الصيرورة يمكن أن تنتج حتى من اللاموجود.
14
الباب الثاني
نحن لا نشتغل ببحث ما إذا كان ما يقوله ممكنا أو ممتنعا. لكن هنا نقطة يجب علينا أن نعيرها بعض الالتفات، وهي ما إذا كانت مثل تلك النتائج تنتج بلا تخلف من فروضه أو إذا كانت الأشياء يمكن أن تكون ضد ما يعتقد؛ لأنه يمكن في الحق أن يكون الواقع مخالفا تمام المخالفة.
15
فهو يقرر بادئ بدء أن ليس شيء يمكن أن يأتي مما هو ليس موجودا. ولكن يرد عليه هذا السؤال: أمن الضروري إذن أن تكون جميع الأشياء بلا استثناء غير مخلوقة؟ أوليس من الممكن أيضا أن تأتي الأشياء بعضها من بعض، وأن هذه السلسلة يمكن أن تتمشى إلى ما لا نهاية؟ أوليس من الممكن أيضا أن تتكون رجعى دائرية بحيث إن الواحد يأتي من الآخر، وأنه على ذلك يوجد دائما موجود ما، وأن كل واحد قد أمكن أن يخرج على هذا النحو من جميع الآخر على التكافؤ في عدد غير متناه من المرات؟ على هذا المعنى لا شيء يمنع أن الكل قد خلق وأصبر حتى مع التسليم بذلك الفرض أنه ليس شيء يمكن ألبتة أن يأتي من لاشيء. وبما أن الموجودات على ذلك غير متناهية فيمكن إذن - كما يشاؤه - أن تسمى بجميع الأسماء التي لا تناسب إلا الوحدة؛ لأنه يطبق هو أيضا على اللامتناهي كيفية أنه كل وأنه يسمى كلا.
16
حتى من غير أن يفرض أن عدد الموجودات غير متناه، يمكن أن يفهم أن كونها دائري، فإذا كان كل بصير وأن لا شيء يوجد كما يزعم بعضهم، فكيف يوجد إذن أشياء أزلية؟ ولكن ميليسوس يتكلم عن الموجود كأنه كائن وكأنه مسلم به على الإطلاق. فإنه يقول: «إذا الموجود لم يصر وإذا هو يكون فيلزم أن يكون أزليا.» وهذا إنما هو تسليم بأن الوجود يتعلق ضرورة بالأشياء.
17
وأكثر من ذلك أنه مع الافتراض - بقدر ما يراد من الافتراض - بأن اللاموجود لا يمكن أن يصير، وأن الموجود لا يمكن أن ينعدم ألبتة، فما الذي يمنع أيضا أن من الأشياء ما تولد ومنها ما تكون أزلية؟ تلك إنما هي نظرية أمبيدقل نفسه؛ فإنه مع أنه مسلم وفقا لرأي ميليسوس بأن من الممتنع أن أي شيء اتفق يخرج مما لم يكن وأنه لا سبيل مطلقا لأن شيئا وجد مرة يمكن أن ينعدم ألبتة «ما دام أن الموجود يبقى دائما حيث أمكن وضعه»، مع كل هذا لا يزال هذا الفيلسوف يؤيد أن من الأشياء ما هو أزلي كالنار والماء والأرض والهواء، وأنه إنما من هذه الأشياء أتت وتأتي جميع الأخر. وعلى رأيه ليس للموجودات كون آخر غير هذا، وأن الكون ليس في الحقيقة إلا اختلاطا وتحللا. وهذا ما يسمى عاميا كون الأشياء وطبعها.
18
ومع ذلك فإن أمبيدقل يزعم أن الصيرورة لا تنطبق على الأشياء الأزلية، وأن ما هو موجود لا يصير. فتلك في نظره محالات واضحة؛ إذ يقول: «كيف يمكن في الحق أن يقال: إن شيئا يزيد الكل؟ ومن أين يأتي ذلك الشيء؟ إنما هو من اختلاط النار وتركبها، ومن جميع العناصر التي تصحبها أن خرج تكثر الأشياء، وبانفصال هذه العناصر وتباعد بعضها عن بعض تنعدم الأشياء من جديد. والتكثر يأتي من الاختلاط والتفرق ولو أنه بالطبع لا يوجد إلا أربعة عناصر بصرف النظر عن العلل، بل عنصر واحد أحد.»
19
حتى مع افتراض أن العناصر لامتناهية منذ الأصل لتكون الأشياء بتركبها وتفسدها بافتراقها كما يدعي أحيانا أنه كذلك كان يفكر أنكساغوراس الذي كان يعتبر هذه العناصر الأزلية غير المتناهية كمصدر لجميع الأشياء التي تتكون. وقد لا ينتج من هذا أيضا أن الكل هو أزلي بلا استثناء، بل يوجد دائما بعض أشياء قد تأتي وتكون أتت من موجودات متقدمة وتفنى في جواهر أخرى.
20
بل يمكن أيضا ألا يكون إلا صورة واحدة للكل كما كان يؤكده أنكسيمندروس وأنكسيمين؛ إذ يؤيدان: أحدهما أن الكل هو من الماء، والآخر وهو أنكسيمين أن الكل إنما هو من الهواء.
21
وإنما هذه هي أيضا نظرية جميع من يفهمون على هذا النحو «الكل» كوحدة، وذلك إنما هو تبعا لأن «الواحد» يتغير بالصور أو بعدد أكبر أو أصغر، وتبعا لأنه رقيق قليلا أو كثيرا أو لأنه سميك، أن الأشياء مهما كانت متعددة ولامتناهية تتوالد، وحينئذ «الواحد» مع بقائه هو هو يكون بقية الأشياء ويشكلها.
22
أما ديمقريطس فإنه من ناحيته يقول على السواء إن الماء والهواء وكل واحد من الأشياء المختلفة هكذا هي متحدة، وإنه لا فرق بينها إلا في المجرى والتماس والاتجاه. وما المانع أيضا - في هذا الفرض - من أن الأشياء المتكثرة تتولد وتنعدم ما دام «الواحد» يتغير أبدا من الموجود إلى الموجود بالفروق التي ذكرت من غير أن «الكل» في مجموعه يصير بذلك أبدا لا أصغر ولا أكبر؟
23
وفوق هذا ماذا يمنع أن أجسامنا متعددة كما يشاء تتولد من أجسام أخر وتتحلل إلى أجسام أخر أيضا، بحيث تكون دائما على كمية متساوية في تحللها وبحيث إنها تنعدم من جديد.
24
لكن حتى مع التسليم بهذا والتسليم بأنه يوجد شيء غير مخلوق، فماذا يزيد هذا في إثبات أن الموجود هو لامتناه؟ على رأي ميليسوس الموجود لامتناه إذا هو يوجد وألا يكون قد ولد ألبتة؛ لأن الحدود على رأيه هي هنا بداية الكون ونهايته. غير أن الموجود مع أنه غير مخلوق ألا يمكن أن يكون له حدود أخرى غير المذكورة آنفا؟ فإذا كان اللامتناهي قد خلق فلا بد من أن يكون له على رأي ميليسوس هذه البداية التي منها يخرج ليكون.
25
فماذا يمنع إذن - حتى بدون أن يكون قد كون - أن يكون له بالأقل بداية؟ لا البداية التي منها أتى - إذا شئت - بل بداية، أخرى، وإن الأشياء مع كونها أزلية يتحدد بعضها ببعض على طريق التكافؤ.
26
بل ماذا يمنع أن «الكل» الذي يكون غير مخلوق أن يكون لامتناهيا، وأن جميع الأشياء التي هي فيه تكون متناهية باعتبار أن لها بالبساطة بداية ونهاية في كونها.
27
ألا يمكن أيضا كما يبغي برمينيد أن «الكل» مع أنه واحد وغير مخلوق يكون متناهيا «بأن يكون من جميع الجهات مشابها لكتلة كرة مضبوطة الشكل، وأن يكون متساوي الأبعاد من المركز من غير حاجة أصلا إلى أن يكون في الجزء الفلاني أو الفلاني أكبر أو أجمد مما هو؟»
28
ولما أن له وسطا وأطرافا فله حد مهما كان غير مخلوق ما دام أن «الكل» مع أنه واحد كما يعترف به ميليسوس نفسه، فإنه - من حيث كونه جسما - كل أجزائه بلا استثناء مشابهة بعضها لبعض. ومن هذه الجهة إنما هو يقرر التشابه المطلق «للكل» ولا يقول كما يقول فلاسفة آخرون إن «الكل» مشابه لشيء آخر غير ذاته. تلك هي النظرية التي يبطلها أنكساغوراس بقوله: إذا كان اللامتناهي مشابها من جهة أن يكون مشابها لمغاير له، فمن ثم هما اثنان بل أكثر، وحينذ لا يوجد بعد لا «واحد» ولا لامتناه.
29
ولكن قد يمكن أن ميليسوس يعني هو أيضا أن اللامتناهي مشابه إضافيا لذاته، أو يقول بعبارة أخرى إن «الكل» هو متشابه لأن أجزاءه متشابهة بما أن هذا «الكل» هو مع ذلك من الماء أو من الأرض أو من شيء آخر.
30
من البين أن ميليسوس مع تسليمه هكذا بالوحدة يرى أن كل جزء من الأجزاء هو نفسه جسم لا يمكن أن يكون لامتناهيا؛ لأن «الكل» هو وحده لامتناه، وبالنتيجة أن هذه الأجزاء التي ليست مخلوقة أيضا يصلح بعضها حدودا لبعض على التكافؤ.
31
ولكن إذا كان «الكل» أزليا ولامتناهيا، فكيف يمكن أن يكون «واحدا» مع كونه جسما؟ ثم إذا كان مركبا من أجزاء متغايرة فإذن يعترف ميليسوس نفسه بأن «الكل» هو كثير ومتعدد. ومع التسليم بأنه من الماء أو من الأرض أو من أي عنصر آخر، فحينئذ يكون للموجود عدة أجزاء، كما أن زينون يحاول أيضا أن يثبت أن «الكل» يجب أن يكون له أجزاء كثيرة إذا كان هو واحدا على الوجه الذي يدعون.
32
ومتى كانت أجزاؤه متعددة لزم أن يكون بعضها أصغر وبعضها أكبر؛ أعني مختلفة جد الاختلاف حتى بدون أن يأتي التخالف من زيادة جسم ما أو فقد جسم ما. ولكن إذا كان «الكل» ليس له جسم ولا طول ولا عرض، فكيف يكون لامتناهيا؟ وما المانع إذن أن يكون بمجموعه كثرة وواحدا بالعدد؟ بل ما المانع أن الأشياء مع كونها هكذا متكثرة وأكثر من واحد أن تكون على عظم غير متناه؟
33
قد يزعم إكسينوفان أن عمق الأرض وعمق الهواء غير متناه، ولكن أمبيدقل يبطل هذه النظرية؛ إذ يبين في انتقاده المحكم أنه إذا كانت الأشياء كما يزعمون، فمن المحال مطلقا أن تكون ألبتة. «إن أسس الكرة والأثير غير الملموس التي كثر ما يكلموننا عنها ليست إلا كلمات فارغات يكررها لسان الحمقى بلا داع.»
34
لكن العالم يمكن أن يكون واحدا من غير أن يكون هناك سخف في افتراض أنه ليس متشابها في جميع أجزائه. وفي الحق إذا كان العالم كله ماء أو كله نارا أو أي عنصر آخر من هذا القبيل، فيمكن جيدا أن يقال بوجود عدة أشياء، ولو أن الموجود يبقى واحدا، وأنه يلزم دائما أن يكون كل واحد من هذه العناصر مشابها لذاته؛ لأنه لا يمكن أن يكون الجزء الفلاني متخلخلا والآخر كثيفا إلا أن يوجد خلو في باطن المتخلخل. ولكن لا شيء يمنع أنه بالنسبة لبعض الأجزاء يوجد في المتخلخل خلو منفصل تماما بحيث إن جزءا بعينه من «الكل» يكون كثيفا وآخر بعينه يكون متخلخلا، مع أن الكل مع ذلك باق هو ما هو. ولكن لما أن «الكل» مليء؛ فالمتخلخل حينئذ لا يكون أقل امتلاء من الكثيف.
35
وإذا كان «الكل» غير مخلوق فكيف يمكن أن يستنتج من هذا وحده أنه لامتناه، وأنه لا يمكن أن يوجد أيضا واحد بعينه أو آخر يكون متناهيا مثله؟ ولماذا يستلزم كونه غير مخلوق التسليم فوق ذلك بأنه واحد وأنه لامتناه بهذا السبب وحده؟ وكيف حينئذ يكون اللامتناهي هو ذلك «الكل» الذي يتوهمونه؟
36
يقول ميليسوس إن الموجود لا متحرك إذا كان ليس ثم من خلو؛ لأن الأشياء لا تتحرك ألبتة إلا بأن تتغير بالأين، غير أنه بادئ بدء كثير من الناس من لا يوافقون على هذه النقطة ومع تسليمهم بوجود الخلو فإنهم لا يقبلون أن يكون جسما. يمكن أن يعني بالأشياء هنا نحو ما يعنيه بها هيزيود حين يقول في الخلقة: «إنما هو العماء الذي ظهر بادئ الأمر» مفترضا بذلك أنه كان يلزم قبل كل شيء أن يوجد محل للموجودات هذا هو ما يعني بالخلو الذي يعتبر كنوع آنية تكون خالية من وسطها.
37
على أنه حتى مع عدم وجود خلو فإن العالم يمكن أن يتحرك أيضا على السواء، وإن أنكساغوراس الذي اشتغل أيضا بهذه المسألة لم يقنع بإثبات أنه لا يوجد خلو، بل أثبت فوق ذلك أن الموجودات تتحرك على سواء من غير أن يكون الخلو ضروريا.
38
وفي هذا المعنى عينه قال أمبيدقل إن الأشياء متى تم تركيبها تحركت طوال الزمان من غير أن يوجد - على رأيه - ما لا يفيد في «الكل» ولا أن يوجد خلو كذلك . وفي الحق من أين يمكن أن يحدث الخلو؟ يقول أمبيدقل لأن الأشياء متى تركبت في صورة واحدة بطريقة أنها تؤلف الوحدة:
فلا شيء يكون خلوا ولا شيء زائد.
أليس يمكن في الواقع أن الأشياء تتحرك بعضها في بعض، وأن الكل يكون دائريا ما دام أن الشيء يتغير إلى آخر، وهذا الآخر إلى ثالث. وما دام أن شيئا بعينه يتغير دائما آخر الأمر إلى الأول؟
39
وفوق ذلك لا ينبغي نسيان تغير الصورة هذا الذي يغير الشيء ولو أنه يبقى في الحيز عينه، تغير يسميه فلاسفة آخرون وميليسوس نفسه الاستحالة، وإذن لا شيء مما قال يدفع أن هذا النوع من الحركة يوجد في الأشياء حينما تمر من الأبيض إلى الأسود أو من المر إلى الحلو؛ لأنه ليكن الخلو غير موجود وليكن المليء لا يمكن أن يقبل شيئا؛ فذلك لا يمنع الاستحالة أن تكون ممكنة.
40
وبالتبع فلا ضرورة لأن كلا يكون أزليا وأن كلا يكون واحدا، أو لأن «الكل» يكون لامتناهيا. ولا ضرورة أيضا لأن يوجد عدة لامتناهيات ولا وحدة متماثلة في كل مكان ولا وحدة غير متحركة، سواء مع ذلك وجدت الوحدة أو الكثرة.
41
ومتى سلم هذا لا يرى شيء في نظريات ميليسوس يدفع أن الموجودات تتغير ترتيبا وكيفا ما دامت الحركة هي هكذا في الوحدة التي تختلف حينئذ بالأكثر وبالأقل والتي تستحيل بطرائق شتى بدون أن ينضم إليها شيء أو إذا انضم إليها شيء فبدون أن يكون هذا الشيء جسما، وإذا كانت عدة أشياء هي التي تنضم فبدون ألا تزيد على أن تمتزج بعضها ببعض وتنفصل على التكافؤ.
42
ولكن الاختلاط ليس فيما يظهر هو الجمع أو التركيب اللذين يتكلم عنهما ميليسوس واللذين بدونهما ربما تنعزل الأشياء في الحال، بل بدونهما لا تظهر الأشياء باستغلالها التام إلا بعد أن يباعد بين بعضها وبين البعض الآخر؛ إذ هي تتحاجب، في حين أنه يلزم لوجود اختلاط حقيقي أن كل أجزاء الشيء المختلط تكون بحيث لا يمكن حل تركيبها بعد، لكن بشرط أن كل واحد من الأجزاء المخلوطة يكون على وفاق تام مع مجموع الخليط؛ لأنه بما أنه لا يوجد جواهر فردة فينتج من ذلك أن كل جزء هو مختلط مع كل جزء كيفما اتفق مشابه مطلقا للكل.
43 (2) مذاهب إكسينوفان
الباب الثالث
44
هو يقول إن يوجد من شيء فمحال أن هذا الشيء كان مخلوقا مطبقا هذا في حق الله ما دام أنه يلزم بالضرورة أن كل ما هو كائن يتكون من الشبيه أو من اللاشبيه. وكلا الأمرين غير ممكن؛ فإنه بادئ بدء ليس تولد الشبيه من الشبيه أولى من أن يلد الشبيه نفسه؛ لأن هذا يخالف التضايف المتكافئ الذي بين المتساوين والأشباه، وثانيا ليس من الممكن أن غير الشبيه يخرج من غير الشبيه. فإذا كان - في الحق - الأقوى يخرج من الأضعف، وإذا كان الأكبر يأتي من الأصغر، والأحسن من الأقبح، أو بالعكس الأقبح من الأحسن، فيكون حينئذ الموجود يأتي من اللاموجود، وهذا محال قطعا.
45
إذن يلزم أن يستنتج من كل هذا أن الله أزلي. إذا كان الله هو سيد الموجودات فيلزم - على رأي إكسينوفان - أن يكون أيضا أحدا؛ لأنه لو كان فيه اثنان أو عدة فمن ثم لا يكون إذن سيد جميع الموجودات ولا أكبرها ما دام من ثم أن كل واحد من هذه الموجودات المتكثرة قد يكون مطلقا مشابها له تماما. إن ما يحقق الله في الواقع والقدرة الإلهية إنما هو أن يتسلط على وجه السيادة ولا يكون مسلطا عليه، أن يكون سيد الجميع وأقدرهم. وبالنتيجة ما دام أنه ليس الأقدر فإنه يفقد بنسبة ذلك شيئا من ألوهيته، وإن كانوا عدة وكان بعضهم أعلى أو أدنى من الآخرين من بعض الوجوه؛ فأولئك ليسوا آلهة بعد؛ لأن ماهية الإله ألا يعلو عليه أحد، وإن كانوا عدة متساوين فمن ثم ليس هذا بعد طبع الإله الذي هو أن يكون الأحسن؛ لأن المساوي ليس بالبداهة أقبح ولا أحسن من مساويه.
46
ولما كان الله هو حينئذ كما ذكر آنفا لزم ضرورة أن يكون واحدا، وإلا لا يمكن أن ينفذ كل ما يشاء، لا يمكنه ذلك ما دام فيه آلهة أخر، فيلزم حينئذ أن يكون أحدا.
47
ولأنه أحد فهو مشابه لذاته على الإطلاق، يرى من كل جهة ويسمع من كل جهة، وعنده جميع الجهات على مقياس واحد، وإلا لزم أن بعض أجزاء الإله تكون حاكمة ومحكومة على التناوب، وهذا ممتنع بين الامتناع.
48
ولما كان الله مشابها لذاته مطلقا ومن كل وجه لزم أن يكون فلكيا؛ لأنه ليس كذلك في جزء بعينه دون أن يكونه في أي جزء آخر، لكنه كذلك في جميع الأجزاء بلا استثناء.
49
وما دام الله أزليا أحدا فلكيا، فينتج منه أنه لا يمكن أن يكون لامتناهيا ولا أن يكون متناهيا، فإنما اللاموجود هو اللامتناهي ما دام ليس له أول ولا وسط ولا آخر ولا أي جزء آخر. وهذا هو اللامتناهي. ولكن الموجود ليس كاللاموجود والموجودات ما دامت متكثرة؛ فإنها يحد بعضها بعضا على التبادل. فالأحد لا يمكن أن يشبه لا باللاموجود ولا بالموجودات المتكثرة ما دام الأحد لا يحده شيء.
50
الأحد - الذي إكسينوفان يسميه الله - لما كان كذلك لا يمكن أن يتحرك ولا أن يكون لامتحركا؛ فإن اللاموجود هو في الحق لا متحرك؛ لأنه لا موجود يأتي فيه ولا هو يمكن أن يذهب في موجود آخر، ولا حركة إلا متى كانت الموجودات أكثر من واحد ؛ لأن من الضروري للحركة أن واحدا يتحرك في الآخر. ولا يمكن أن يتحرك شيء في اللاموجود ما دام أن اللاموجود لا يوجد مطلقا في أية جهة. وإذا كانت الأشياء تتغير بعضها إلى بعض فحينئذ يكون الموجود أكثر من واحد.
51
فانظر كيف يزعم إكسينوفان أنه يلزم شيئان على الأقل أو أكثر من واحد لكي توجد الحركة، وأن اللاشيء هو في سكون ولامتحرك، وأن الأحد على ضد ذلك لا يمكن أن يكون في سكون ولا أن يكون في حركة؛ لأنه لا يشبه اللاموجود ولا الموجودات المتكثرة.
52
ومن كل هذه الوجوه فهذا - على رأي إكسينوفان - هو الله أزلي أحد متشابه من كل جهة، وفلكي لا لامتناه ولا متناه، لا هو في سكون ولا هو في حركة.
53
الباب الرابع
ننبه تنبيها أول؛ وهو أن إكسينوفان كميليسوس يفترض أن كل ما يولد ويصير يتولد من الموجود. ومع ذلك فماذا يمنع من أن ما يولد لا يولد لا من الشبيه ولا من اللاشبيه، بل يولد من اللاموجود؟ ولكن الله ليس لامخلوقا أكثر من الباقي إذا كانت كل الأشياء آتية من الشبيه أو من اللاشبيه؛ ذلك هو ما لا يمكن. وبالنتيجة إما أنه لا شيء خارج عن الله، وإما أن يكون سائر الأشياء هي أيضا أزلية.
54
ولكن إكسينوفان يقبل فوق ذلك أن الله هو المولى، يريد بذلك أن يقول إنه الأقدر والأحسن. ليس هذا ما يعتقده العامة، وإنهم ليقبلون أن الآلهة في كثير من الأشياء أعلى بعضها من بعض. على ذلك لم يستعر إكسينوفان هذا الرأي الجريء من إجماع العامة، ولكن متى قيل إن الله هو القادر على كل شيء فليس معناه أن هذا هو طبع الله بالنسبة لواحد آخر، بل هذا هو شأنه الخاص بالنسبة لذاته. أما في علاقته مع الغير فمن الجائز تماما أن الله لا يقدر عليه بعلوه وقوته التي ليس لها من شبيه، بل بضعف الأغيار. وإنه لا أحد يعني على هذا الوجه قدرة الله، بل يفهم الناس أن الله له بذاته كل ما يوجد من الأحسن، وأنه منزه عن النقص أيا كان، وأن له كل ما هو طيب وجميل. وبهذه الكمالات كلها فله أيضا كمال القدرة الكاملة.
55
حقا إنه قد يمكن أيضا التسليم بوجود آلهة متعددة موصوفة بالصفات عينها، جامعة بين أكبر الكمالات الممكنة ما دام أنها أكبر قدرة من سائر الموجودات دون أن يكون بعضها أقوى من البعض الآخر، ولكنه يوجد أيضا على ما يظهر موجودات أخرى غيره.
56
في الحق هو يزعم أن الله هو القدير، ويلزم ضرورة أن يكون أقدر من بعض الموجودات. ولكن بهذا السبب؛ وهو أن الله هو الأحد، لا يليق أن يقال إنه يبصر من كل ناحية ويسمع من كل ناحية؛ لأنه ليس لأنه قد لا يبصر من الجزء الفلاني أو الفلاني أنه لا يحسن البصر، بل فقط أنه لا يبصر من ذلك الجزء بعينه، بل ربما أيضا حينما يقرر أن الله يحس من كل جهة كان معنى ذلك بالبساطة أنه بهذه الطريقة يكون أيضا أكمل ما دام أنه متشابه في جميع أجزائه.
57
إذا كان الأمر كما قرر آنفا فلماذا يعطي صورة فلك؟ لماذا لا يكون أولى به شكل آخر ما دام أنه يسمع من كل جهة ويرى من كل جهة؟ لأنه كما أننا حين نقول إن الاسبيداج أبيض في كل نواحيه لا نريد أن نعني شيئا آخر إلا أن يكون البياض منتشرا في جميع أجزائه، كذلك ما الذي يمنع حينما يقال إن الله يرى ويسمع ويتسلط من كل مكان أن يفهم أن أي جزء من الله كيفما اتفق، له دائما هذه الصفات؟ ولا يلزم لذلك بعد أن يكون الله فلكيا كما لا يلزم أن يكونه الاسبيداج.
58
وفوق ذلك كيف يمكن أن الله من حيث هو جسم ومن حيث إن له عظما لا يكون متناهيا ولا لامتناهيا ما دام اللامتناهي إنما يقع على ما ليس له حد مع قابليته لأن يكون له حد؟ فإن الحد يجب أن يقع على العظم وعلى العدد وعلى كل كمية ... أيا كانت ، بحيث إن عظما لا حد له هو يسمى لامتناهيا.
59
ومتى جعل الله فلكيا، فمن الضروري أن يكون له حد؛ لأن له نهايات ما دام أن له مركزا على أبعد مسافة ممكنة من الحد. وإذن لا بد له من مركز ما دام فلكيا؛ إذ إنه يعني بفلكي ما له مركز على مسافة متساوية من النهايات. ولا فرق بين أن يقال إن للجسم حدا وإن له نهايات.
60
إذا كان اللاموجود لامتناهيا فلم لا يكون الموجود لامتناهيا كذلك؟ ما المانع أن يكون للموجود وللاموجود بعض كيوف مشتركة ومتماثلة؟ فإنه لا يمكن فعلا أن يحس اللاموجود. وكيف يحس ما ليس موجودا. وكذلك يمكن تماما ألا يحس فعلا ما هو موجود. يمكن قول الاثنين معا ونصورهما معا اللاموجود ليس أبيض، ولكن هل ينتج من ذلك وجوب القول بأن كل الموجودات بيض حتى لا يسند شيء واحد إلى الموجود وإلى اللاموجود؟ أو لا يمكن أن يوجد بين الموجودات واحد لا يكون أبيض؟ وإذا كان الأمر هكذا على نقيض القاعدة العتيقة أن الموجود لا ينحصر في أن يكون له أكثر منه في ألا يكون له، فاللامتناهي قد يقبل أيضا سلبا ثانيا. وبالنتيجة فالموجود أيضا يمكن أن يكون لامتناهيا أو أن يكون له حد.
61
ولكن ربما يكون من غير المعقول أن تلزق اللانهاية باللاموجود؛ فإنه لا يمكن أن يقال على كل شيء إنه لامتناه لا لشيء إلا لأنه ليس له حد، كما أنه لا يقال مثلا على اللاموجود إنه غير متساو.
62
ولكن بما أن الله واحد، فلماذا لا يكون له حد؟ لا شك في ذلك، ولكن لا يمكن أن يكون له حد تلقاء إله آخر. إذا كان الله واحدا كله فيلزم أن تكون جميع أجزاء الله لا تكون أيضا إلا وحدة محضة؛ لأنه لا يفهم - إذا كانت الأشياء المتكثرة يحد بعضها بعضا بالتبادل - أنه يلزم على ذلك أن الأحد يكون لا حد له؛ لأن الكثرة والوحدة لهما عدة محمولات متشابهة تماما، والموجود مشترك بين إحداهما وبين الأخرى؛ فقد يكون من الغريب أن يذهب إلى إنكار وجود الله، ما دام وجود الكثرة أمرا مسلما حتى لا يشبه الله الأشياء في هذا المعنى.
63
لماذا الله مع كونه واحدا لا يكون متناهيا ولا يكون له حدود كما يقوله برمينيد، وهو يعترف لله بالوحدانية حين يشبه «بالفلك المستدير تماما والمتساوي في جميع النقط ابتداء من المركز ...»
في الواقع إن شيئا يمكن أن يكون له بالضرورة حد من غير أن يكون ذلك بالإضافة إلى شيء ما، كما أنه ليس من الضروري أن ما له حد يكون له حد إضافي كالمتناهي بالنسبة لغير المتناهي الذي يليه. أن يكون متناهيا إنما هو أن يكون له نهايات ، ولكن ما له نهايات ليست له بالضرورة بالنسبة إلى شيء ما، بل يوجد بعض أشياء تكون معا متناهية وملامسة شيئا ما، ولكن من الأشياء أيضا ما هي متناهية وليست كذلك بالإضافة إلى شيء ما.
64
ومن جهة نظر أخرى القول بأن الموجود والأحد ليسا لا متحركين ولا يتحركان مع ذلك بحجة أن اللاموجود لا يتحرك إنما هو قول من الغرابة بمكان ما سبقه على الأقل. إنه لا تماثل قطعا - كما قد يمكن أن يظن - بين أن يقال إن شيئا لا يتحرك وبين أن يقال إنه لا متحرك، فمن جهة إنما هذا هو سلب للحركة على جهة ما يقال على شيء إنه لا يكون مساويا، وهذا يمكن أن يصدق حتى على اللاموجود، في حين أنه من جهة أخرى يقال على شيء إنه لا متحرك لأنه فعلا على حال ما، كما أنه يقال على شيء إنه لا مساو، فهنا السكون هو ضد الحركة كما أن على العموم جميع السلوب المكونة من همزة الإزالة تنطبق على أضداد. حق أن يقال على اللاموجود إنه لا يتحرك، ولكنه ليس حقا أن يقال على اللاموجود إنه في سكون. كما أنه لا ينبغي أن يقال إنه لا متحرك، وهذا ما له المدلول بعينيه، ولكن إكسينوفان يستعمل في حق اللاموجود لفظ السكون، ويقول إن اللاموجود هو في سكون لأنه لا نقلة له.
65
وكما قلنا آنفا قد يكون من الخطأ الجزم - لا لشيء سوى أن محمولا يصلح حمله على المعدوم - بأن هذا القول لا يكون صالحا بعد للحمل على الموجود، خصوصا إذا كانت الكلمة التي تستعمل لذلك ليست إلا سلبا، نحو قولهم: لا يتحرك ولا ينتقل؛ فإني أكرر أن كثيرا من المحمولات ما يجوز حمله أيضا على الموجودات؛ لأنه يوجد أشياء كثيرة لا يصدق عليها القول بأنها ليست آحادا بحجة أن المعدوم ليس واحدا. ثم إنه يوجد أشياء فيها السلوب بعينها تنتج الأضداد فيما يظهر. فمثلا من الضروري أن يوجد إما مساواة وإما لا مساواة ما دام هناك كم؛ وإنه كذلك يوجد إما زوج وإما فرد ما دام هناك عدد. وكذلك أيضا يلزم أن يوجد إما حركة وإما سكون ما دام هناك جسم.
66
غير أنه إذا قيل إن الله والأحد لا يتحرك ألبتة؛ لأن الأشياء المتكثرة تتحرك بعضها نحو البعض الآخر، فما الذي يمنع أيضا أن الله يتحرك بأن يسعى نحو شيء آخر؟ هذا قطعا ليس لأنه ليس إلا الله، بل لأنه لا واحد أحد إلا الله. وإذا لم يتحرك هو ذاته فما المانع أن أجزاء الله بتحركها بعضها نحو بعض أن يكون الله هو أيضا له حركة دائرية؟
67
لكن على هذا لا يكون بعد واحدا كما يعني زينون، إنما هو متعدد كما قد نبه إليه؛ لأن زينون يقرر أن الله جسم، سواء جعله هو الكل الذي نرى أو سماه باسم آخر. وإذا كان الله لاجسمانيا فكيف يكون في الواقع فلكيا؟ ويلزم أن يكون لاجسمانيا؛ أعني لم يكن أصلا لكي لا يكون له حركة ولا سكون. وإذا كان جسما فما المانع أن يتحرك كما قد قيل؟
68 (3) مذاهب غرغياس
الباب الخامس
هو يقرر أن لا شيء بموجود حقيقة، وأنه إن يوجد من شيء فهذا الشيء يبقى مجهولا عندنا، وإنه إن يوجد شيء ويمكن لامرئ العلم به فإنه لا يمكن التعبير عنه للأغيار.
69
فيما يتعلق بهذا القول الأول الذي هو أن لا شيء بموجود حقيقة، يؤلف غرغياس بين نظريات فلاسفة آخرين؛ إذ يقررون أفكارا متناقضة في أمر الحقيقة كما تظهر لنا. اعتقدوا هؤلاء أنه لا شيء إلا الوحدة وأن الكثرة ممتنعة؛ وأولئك - على ضد ذلك - أن الكثرة وحدها هي الحقيقية، وأن الوحدة ليست حقيقية؛ ذلك بأن بعضهم يرون الأشياء غير مخلوقة والآخرين يرونها مخلوقة.
70
يؤلف غرغياس بين هذين الرأيين ليدلل هكذا: «يقول إنه يلزم ضرورة إن كان شيء موجودا أن يكون هذا الشيء لا واحدا ولا كثرة، وأن تكون الأشياء لا غير مخلوقة ولا مخلوقة. وحينئذ لا شيء بموجود. وإذا كان في الواقع شيء فيلزم أن يكون إما أحدهما وإما الآخر.» فإما أنه لا وحدة ولا كثرة، وأن الأشياء ليست لا مخلوقة ولا غير مخلوقة؛ فإنه يحاول إيضاح ذلك إما كميليسوس وإما كزينون بعد برهانه الخاص به؛ إذ يثبت على طريقته أن الموجود واللاموجود لا يوجدان لا أحدهما ولا الآخر.
71
فعنده أنه إذا كان ممكنا أن اللاموجود يكون اللاموجود، فيكون اللاموجود ليس باقل وجودا من الموجود؛ لأن هذا اللاموجود يكون اللاموجود، كما أن الموجود يكون الموجود، بحيث إنه لا يمكن أن يقال على الأشياء إنها تكون بأقوى من أن يقال عليها إنها لا تكون.
72
يقول غرغياس: «إذا كان اللاموجود موجودا فمن ثم لا يكون الموجود بعد مقابلة؛ لأنه إذا اللاموجود يكون فيلزم أن الموجود لا يكون. وبالنتيجة أنه لا شيء بموجود؛ إلا أن يكون الموجود واللاموجود شيئا واحدا بعينه. ولكن إنما هما في الواقع شيء واحد؛ ومن ثم لا يوجد شيء؛ لأن اللاموجود ليس يكون، فالموجود ليس يكون كذلك ما دام أنه مماثل للاموجود.» هذا هو تدليل غرغياس حرفا بحرف.
73
الباب السادس
لا ينتج ألبتة من أدلة غرغياس أن لا شيء يوجد؛ لأنك ترى كيف يدلل على الأشياء التي يحاول إثباتها. إذا كان اللاموجود يوجد أو بعبارة أعم: لو أن اللاشيء يوجد فالموجود هو كذلك اللاموجود على السواء.
74
ولكن لا يظهر ألبتة أن الأمر هكذا، ولا أن هناك أدنى ضرورة لأن يوجد اللاموجود، كما يكون الحال في شيئين أحدهما يكون حقيقة والآخر لا يزيد على أن يظهر. فيلزم بالضرورة أن يكون أحدهما حقا والآخر ليس كذلك. كذلك من أن اللاموجود لا يوجد لا ينتج أن الاثنين أو أحدهما يجب أن يكونا أو ألا يكونا. يقول غرغياس: لأن اللاموجود ليس بأقل وجودا من الوجود إذا كان «ليس يكون» هو أيضا شيئا ما. لذلك لا يقال ألبتة إن اللاموجود يكون ألبتة بأي وجه كان، فإذا كان اللاموجود هو في حالة اللاوجود فحينئذ لا يكون اللاموجود على النحو الذي يكون عليه الموجود؛ لأنه ليس إلا حالة اللاوجود، بخلاف الموجود فإنه موجود فعلا.
75
إذا كان حقا أن اللاموجود قد وجد بطريقة مطلقة، فيكون على الأقل عجيبا أن يقال إن اللاموجود موجود. ولكن إذا كان هذا هكذا بالمصادفة فكيف إذن يكون الحال أبدا بالنسبة للأشياء التي يرجح في أمرها أن تكون على ألا تكون؟ لأنه يظهر أن النقيض نفسه قد يمكن أن يكون حقيقيا أيضا.
76
إذا كان اللاموجود يكون وكان الموجود يكون أيضا، إذن فالكل موجود ما دام أن كل ما هو موجود وكل ما ليس بموجود كلاهما كائن من غير فرق، وإنه ليس من الضروري ألبتة إذا كان الموجود كائنا أن يكون الموجود غير كائن. عبثا يقال إن اللاموجود يكون والموجود لا يكون؛ فإن ذلك لم يؤثر شيئا في أن جميع الأشياء موجودة ما دام أننا لو صدقنا ذلك القول لأصبحت الأشياء التي لا تكون كائنة.
77
ولكن إذا كان «يكون ولا يكون» شيئا واحدا؛ فمن ثم لا يمكن أن يقال بعد على شيء إنه يكون، كما لا يمكن كذلك أن يقال عليه إنه لا يكون؛ لأنه كما أن غرغياس يقرر أنه إذا كان اللاموجود والموجود هما شيئا واحدا، فالموجود ليس يكون بأشد وجودا من اللاموجود بحيث ينتج أن لا شيء بموجود، كذلك يمكن أن يؤيد العكس أن الكل موجود؛ لأنه لما أن اللاموجود هو كالموجود تماما فيستنتج منه أن الكل موجود بالحقيقة.
78
بعد هذا الدليل هو يقيم دليلا آخر يقول: أن يوجد من شيء فإما أن يكون هذا الشيء لامخلوقا وإما أن يكون مخلوقا؛ فإذا كان لامخلوقا فهو لامتناه، على ما يفترض غرغياس بحسب مبادئ ميليسوس، ولكن اللامتناهي ليس في مكان ما، ما دام أنه ليس في نفسه ولا في غيره، وحينئذ يكون إذن لامتناهيان أو عدة لامتناهيات هذا الذي في الآخر وذاك الذي الآخر فيه. ولما لم يكن في مكان ما فهو لاشيء، على حسب أدلة زينون على حيز الموجودات. وبهذه الأدلة يستنتج غرغياس أن الموجود لامخلوق.
79
ولكن الموجود لا يمكن كذلك أن يكون قد خلق؛ فإنه لا يمكن في الواقع أن يكون قد خرج من الموجود ولا من المعدوم؛ لأنه إذا كان الموجود يسقط وهو مخلوق فلم يكن إذن الموجود، كما أن اللاموجود لا يكون بعد اللاموجود من وقت أن يصير شيئا ما. ومن جهة أخرى الموجود لا يمكن أيضا أن يأتي من اللاموجود؛ لأنه إذا كان اللاموجود لا يكون فممتنع من ثم أن أيا كان يتولد من لاشيء. وإذا كان بالمصادفة اللاموجود يوجد فإن الأسباب التي تجعل الموجود لا يأتي من الموجود هي عينها تجعله لا يأتي أيضا من اللاموجود الذي هو كائن.
80
فإذا كان حينئذ من الضروري - ما دام أن شيئا ما موجود - أن هذا الشيء يكون لامخلوقا أو مخلوقا، وأن كلا الأمرين ممتنع، فينتج منه أنه ممتنع أيضا أن يوجد أي شيء ما.
81
يقول غرغياس: زد على هذا أنه إذا شيء يوجد فيلزم أن يكون هذا الشيء واحدا أو كثرة. فإذا لم يكن لا واحدا ولا كثرة فينتج منه ألا يوجد شيء. ذلك الشيء لا يمكن أن يكون واحدا؛ لأن «الواحد» يجب أن يكون لاجسمانيا، واللاجسماني هو لا شيء، كما يقول غرغياس متبعا في ذلك رأيا يقرب كثيرا من رأي زينون. وبما أن الموجود لا واحدا؛ فإنه ليس أيضا كثرة من باب أولى. ولكن الموجود بما هو لا واحد ولا كثرة فهو غير موجود ألبتة. وبالنتيجة يقول غرغياس أيضا: إذا كان كذلك فما هو إلا لاشيء. وفي الواقع إذا لم يكن لا واحدا ولا كثرة فإنما هو ليس أيا كان.
82
يزيد على ذلك: لكن لا شيء ليس في حركة؛ لأنه إذا كان الموجود في حركة فلا يكون بعد هو ما هو. وحينئذ الموجود لا يكون بعد واللاموجود يصير شيئا. وفوق ذلك بما أن الموجود يتحرك وينقطع عن أن يكون متصلا بانتقاله فعلى هذا المعنى هو لا يكون بعد. وبالنتيجة إذا كان متحركا في جميع أجزائه فهو منقسم في جميعها على الإطلاق، وإذا كان هكذا فليس موجودا ألبتة. وفي هذا الصدد يقول غرغياس: إن الموجود هو ناقص من جهة ما هو منقسم ، وهو يتكلم على التجربة عوضا عن أن يتكلم على الخلو كما كتبه لوكيبس فيما يسمى بمقالاته.
83
يظن غرغياس أنه في هذا قد وفى البيان حقه. يقول: إذا ثبت حينئذ أن لا شيء فالكل حينئذ يعزب عن علمنا، فلم يبق بعد من ثم إلا ما يتصور. واللاموجود ما دام أنه غير كائن فلا يمكن ألبتة تصوره. ومتى كان هذا كان من المحال - على رأي غرغياس - ألا يكون هناك شيء باطل، بل لا يكون خطأ أن يقال مثلا: إن «العربات تدرج على أمواج البحر.» لأن كل هذا حق كما أن نقيضه حق.
84
ولكن كيف توجد الأشياء التي ترى أو التي تسمع بهذا السبب وحده، وهو أن يتصور كل واحد منها! فإذا لم يكن ذلك هو السبب الذي يجعلها تكون، وإذا كانت الأشياء التي نتصورها لا توجد من أجل ذلك أيضا، فهل للأشياء التي نشاهدها وجود أدخل في باب الحقيقة والفعل من الأشياء التي نتصورها؟
85
في الواقع، كما أنه ممكن جدا أن كثيرا من الناس يشاهد الأشياء، فكذلك من جهة أخرى كثير من الناس يتصورها أيضا؛ فالأشياء الذهنية هي إذن على الإطلاق مثل الأشياء الخارجية. ولكنه لا يدرى أي الفريقين هو الحقيقي، وبالنتيجة أن يوجد من شيء فمن المحال أن تكون الأشياء معلومة لنا.
86
يقول غرغياس: حتى مع التسليم بأنها معلومة لنا ، فهل يمكننا أن ننقل التعبير عنها إلى الغير؟ كيف يمكن الإنسان أن يعلم غيره بطريق الكلام ما قد شاهده هو بالنظر؟ وكيف يمكن الإنسان لمجرد سماعه شيئا أن يفهمه جليا إذا لم يكن قد رآه؟ وفي الواقع كما أن النظر لا يدرك الأصوات كذلك السمع لا يسمع الألوان ولا يسمع إلا الأصوات، فالذي يتكلم كلاما، ولا يتكلم لونا ولا أي شيء آخر أيا كان.
87
لكن كيف يمكن أن يلتمس المرء في كلام الغير شيئا لم يكن هو نفسه قد تصوره؟ هل يتفق بالمصادفة أن توجد دلالة أخرى، تعطيك فكرة الشيء إن لم يكن لونه حينما يرى وصوته حينما يسمع؟ لأن المبدأ ها هنا على رأي غرغياس ليس هو لا الصوت ولا اللون، بل هو مجرد الكلام، فلا يفتكر الإنسان لونا بل يراه، ولا يفتكر صوتا بل يسمعه.
88
لتفترض - إذا شئت - أن ذلك ممكن، وأن الذي يتكلم يعلم الشيء وعند الحاجة يمكنه أن يعرفه كيف أن الذي يسمع الكلام يكون موقنا بأنه يفهم الشيء بعينه على هذا النحو؟ لأنه ليس ممكنا أن يكون الشيء بعينه في آن واحد في كائنات عدة وفي كائنات منفصلة؛ لأنه حينئذ يكون الشيء الواحد عدة. يقول غرغياس: ولكن شيئا واحدا ولو كان في آن واحد في عدة أذهان وكان فيها هو بعينه فلا شيء يمنع أنه يظهر متماثلا عند جميع الأشخاص الذين هم أنفسهم ليسوا متماثلين في الظاهر، والذين هم ليسوا على استعداد واحد بعينه.
89
لنسلم أيضا أنهم في استعداد واحد، أفلا يكونون إذن اثنين بالأقل أو عدة؟ ولكن الشخص بعينه ليس له في الوقت الواحد إحساسات متشابهة؛ فإن سمعه وبصره يعطيانه إحساسات مختلفة، والإحساسات التي به في الحال هي مغايرة لإحساسات سابقة؛ فباطل إذن أن تظن أن غيرك يمكن أن يكون له إدراكات شبيهة بإدراكاتك في أي شيء كان.
90
على هذا لا يمكن العلم بشيء ما مع التسليم بوجود شيء ما، خصوصا أنه لا يمكن ألبتة للإنسان أن يعلم غيره ما يعلم هو؛ لأن الأشياء ليست أقوالا، وإنه لا شخص يمكنه ألبتة أن يفهم بالضبط ما يفهمه شخص آخر.
91
كل هذه المسائل المحيرة قد أثارها فلاسفة آخرون أقدم عهدا. وسندرس هذه النظريات عند البحث الذي سنعقده لمذاهبهم المختلفة.
92 (4) قطع من ميليسوس
1
قال سمبليسيوس في شرحه كتاب الطبيعة لأرسطو (الورقة 22): فلننظر إذن إلى أدلة ميليسوس، وهو الأول الذي أنحى عليه أرسطو. إن ميليسوس معتمدا على مبادئ الطبيعيين
93
في كون الأشياء وفسادها؛ يبدأ كتابه بالعبارات الآتية:
إن لم يوجد شيء فكيف يمكن بأي حال اعتبار هذا اللاشيء كأنه شيء ما؟ إن كان يوجد شيء ما فهذا الشيء إما مولود وإما أزلي؛ فإن كان مولودا وكان قد كون فهو لا يمكن أن يأتي إلا من الموجود أو من اللاموجود، ولكن ليس ممكنا أن ما ليس شيئا - وبالأولى ما هو موجود على الإطلاق - يمكن ألبتة أن يأتي مما ليس موجودا، كما لا يمكن أيضا أن يأتي مما هو موجود؛ لأن الموجود حينئذ يكون قد وجد ولم يكن به من حاجة إلى أن يصير وأن يوجد. إذن الموجود لا يمكن أن يصير وإذن فهو أزلي، ومن جهة أخرى الموجود لا يمكن أن يفسد؛ لأنه ليس ممكنا أن الموجود يتغير إلى لا موجود. وتلك هي نقطة يوافق عليها الطبيعيون، ليس ممكنا أيضا أن الموجود يتغير إلى اللاموجود؛ لأنه بهذه الطريقة أيضا الموجود يبقى ولا يفسد؛ على ذلك فالموجود ما كان ليمكن أن يولد وإنه لن ينعدم، فقد كان وسيكون أبدا.
2
سمبليسيوس، المرجع السابق:
لكن إذا كان ما قد ولد له أول فالذي لم يولد ليس له أول؛ فإذا كان الموجود ليس مولودا فلا يمكن أن يكون له أول كذلك. ويمكن أن يزاد على ذلك أن ما قد فسد له آخر، ولكن إذا كان شيء غير قابل للفساد فليس له آخر ممكن؛ إذن فالموجود بما هو غير قابل للفساد ليس له من آخر، وما ليس له لا أول ولا آخر هو بهذا عينه لامتناه؛ وإذن فالموجود لا متناه.
3
سمبليسيوس، المرجع السابق:
إذا كان الموجود لامتناهيا فهو واحد؛ لأنه إذا كان موجودان فلا يمكن أن يكونا لامتناهيين ما دام أنهما يحدان بعضهما بعضا. وبما أن الموجود هو لامتناه فالموجودات لا يمكن أن تكون كثرة، وإذن فالموجود هو واحد.
4
سمبليسيوس، المرجع السابق:
إذا كان الموجود واحدا فهو بالتبع لا متحرك؛ لأن الموجود بما هو واحد هو على الدوام مشبه لذاته، الموجود بما هو باق على الدوام شبيها لذاته لا يمكن أن ينعدم، ولا أن ينمو، ولا أن يتغير، ولا أن يتأثر، ولا أن يضمحل، فإذا كان يعاني أدنى واحد من تلك التأثرات فلا يكون بعد واحدا؛ لأن موجودا يعاني حركة من أي جنس كان يتغير من حالة ما إلى أخرى. والموجود لا يمكن أن يكون شيئا إلا الموجود، وبالنتيجة الموجود لا يمكن أن يكون له حركة.
5
سمبليسيوس، المرجع السابق:
ومن جهة أخرى لا شيء من الموجود يمكن أن يكون خلوا؛ لأن الخلو ليس شيئا، واللاشيء لا يمكن أن يكون، وإذن فالموجود لا يتحرك؛ لأنه ما دام أنه لا خلو فلا مكان فيه يمكنه أن يتحيز. ولكن ليس ممكنا أن يدخل الموجود في ذاته ما دام أنه يلزم على ذلك إذن أن يكون أكثر تخلخلا أو أكثر كثافة مما هو. وهذا ممتنع لأن المتخلخل لا يمكن أن يكون مليئا كالكثيف، وما هو متخلخل هو أشد خلوا مما يمكن الكثيف أن يكونه، إذن الخلو لا يوجد. للحكم على الموجود أهو مليء أم لا فذلك يمكن معرفته بأن ينظر هل هو يمكنه أو لا يمكنه أن يقبل في ذاته شيئا ما؛ فإن لم يقبل فذلك بأنه مليء، وإن يقبل فذلك بأنه ليس مليئا. لكن إذا لم يكن خلو فمن ثم كل شيء مليء، وإذا كان الكل مليئا فلا حركة بعد؛ لأنه ليس ممكنا أن تقع الحركة في الملء كما نقوله حين نتكلم على الأجسام. وأخيرا فالموجود الذي هو الكل لا يمكن أن يتحرك في الموجود ما دام أنه لا شيء خارج عنه، ولا في اللاموجود ما دام اللاموجود ليس موجودا.
6
سمبليسيوس، الورقة 34:
لإثبات أن الموجود لا يمكن أن يكون قد خلق، يعتمد ميليسوس على هذه القاعدة العامة: ما قد كان قد كان دائما ويكون دائما؛ لأنه إذا كان قد ولد في لحظة ما، فيلزم أنه لم يكن شيئا قبل أن يولد، فإذا لم يكن شيئا حينئذ فقد كان من «الممتع أن شيئا يولد من لاشيء».
7
سمبليسيوس، الورقة 7، 9، 23:
قد وجه نقد إلى ميليسوس هو أن لفظ البداية متعدد المعاني؛ فعوضا عن أن يأخذ البداية بالإضافة إلى الزمان الخاص بالموجود الكائن أخذ البداية بالإضافة إلى الشيء، تلك البداية التي لا يمكن أن تنطبق على الأشياء التي تتغير دفعة واحدة؛ فلقد رأى ميلسوس، حتى قبل أرسطوطاليس، أن كل جسم متناه مع أنه أزلي ليس له إلا قوة متناهية، وأن هذا الجسم معتبر في ذاته، فهو دائما على حد الزمان ... بحيث إنه بما أن له من جهة العظم بداية ونهاية يجب أن تكونا كلتاهما له على السواء، بالإضافة إلى الزمان. وعلى التكافؤ: ما له بداية ونهاية بالإضافة إلى الزمان لا يمكن معا أن يكون الكل. ومن أجل ذلك يسند ميليسوس برهانه إلى البداية والنهاية مطبقتين فقط على الزمان، ولا يسمى بلا بداية وبلا نهاية ما ليس الكل. يعني ما ليس معا العالم أجمع، وهذا لا ينطبق إلا على الأشياء التي لا أجزاء لها وغير المتناهية في وجودها، وينطبق على الخصوص على الموجود المطلق ما دام الموجود المطلق هو بالضبط الكل، وهاك مع ذلك أقوال ميليسوس أعيانها:
على ذلك ما لم يكن قد كون فهو كائن دائما، وقد كان دائما، وسيكون دائما؛ فليس له أول ولا آخر، ولكنه لامتناه، فإذا كان قد كون فيكون له أول لأنه يكون قد بدأ يصير في حين ما، ويكون له أيضا آخر لأنه يكون قد انقطع أيضا عن أن يصير؛ فإذا لم يكن قد بدأ قط وإذا لم يكن قد انتهى قط فذلك بأنه قد كان دائما ويكون دائما بما أنه ليس له لا أول ولا آخر؛ لأن ما ليس الكل لا يمكن أن يصل إلى أن يكونه.
8
سمبليسيوس، الورقة 23:
كما أن الموجود أزلي كذلك يلزم أن يكون عظمة أبديا لامتناهيا.
9
سمبليسيوس، المرجع السابق:
ما له أول وآخر لا يمكن ألبتة أن يكون أزليا ولا لامتناهيا.
10
سمبليسيوس، المرجع السابق:
إذا لم يكن هو أحد فهو يحد آخر.
11
سمبليسيوس، الورقة 24:
إن لغة ميليسيوس نفسه يمكن أن تكون قديمة ولكنها ليست غامضة. وقد يمكننا أن نضع تحت الأنظار هذه المؤلفات العتيقة حتى يتهيأ للذين يقرءونها أن يكونوا قضاة يحسنون الحكم في إيضاحات أضبط وأوفى. وهاك إذن ما يقول ميليسوس ملخصا ما قد بسطه في الماضي ومتابعا نظريته على الحركة :
على هذا إذن فالعالم - الكل - هو أزلي لامتناه واحد ومتشابه. إنه لا يمكن أن يفنى، ولا يمكن أن ينمو، ولا يمكن أن تتغير صورته، ولا يمكن أن يقبل، ولا يمكن أن يضمحل؛ فإذا هو عانى شيئا من ذلك فلا يكون واحدا. وفي الحق أنه إذا صار الموجود غيرا فيلزم ضرورة ألا يكون متشابها، وأن الموجود الأول يفنى وأن اللاموجود يصير، ولو اقتضى الكل ثلاثين ألف عام ليصير غيرا لانتهى بأن يفنى في كل ما يلي من الزمان.
12
سمبليسيوس، المرجع السابق:
ولكن لا يمكن أن تتغير صورته؛ لأن النظام المتقدم للعالم لا ينعدم، والنظام الذي لم يكن بعد لا يتكون، ولكن ما دام أنه لا شيء يولد من جديد، وما دام أنه لا شيء ينعدم، وما دام أنه لا شيء يتغير كيف يمكن أن أي موجود اتفق يمكن أن تتغير صورته؟ إنه يكون قد تحول من قبل إذا كان يمكن أن يصير غير ما هو.
13
سمبليسيوس، المرجع السابق:
إنه لا ينفعل؛ لأن الكل لا يمكن أن ينفعل ما دام أنه لا يمكن أن شيئا قابلا يكون أزليا؛ ومن ثم لن يكون له بعد قوة شيء يكون في كمال الصحة. وكذلك هو لا يكون متشابها إذا كان ينفعل. إنه لا يمكن أن ينفعل إلا إذا فقد أو كسب شيئا، وبهذا وحده ينقطع عن أن يكون متشابها. كذلك ليس من الممكن أن شيئا صحيحا ينفعل بأي ما كان؛ لأنه حينئذ الموجود وهذا الصحيح ينعدم واللاموجود يكون. والدليل عينه الذي ينطبق على الانفعال ينطبق أيضا على أي اضمحلال ما للموجود.
14
سمبليسيوس، القطعة 9 و17 و24:
لا شيء من الخلو بموجود؛ لأن الخلو ليس شيئا، وبما هو لاشيء لا يمكن أن يكون. الموجود لا يتحرك؛ لأنه لا محل يمكنه أن يستقر فيه، ولكن الكل هو ملء. إذا كان خلو فالموجود يتحيز في الخلو، ولكن ما دام أنه لا خلو فلا محل يستقر فيه. ما دام الكل ملئا فلا حركة، كذلك لا يكون لا كثيفا ولا متخلخلا؛ لأنه ليس ممكنا أن يكون المتخلخل مليئا كالكثيف سواء بسواء. والمتخلخل هو أخلى من الكثيف، إليك كيف يلزم الحكم في الملء والخلو.
وإذا كان شيء يتحيز أو يقبل شيئا ما، فذلك بأنه ليس مليئا، فإذا لم يتحيز أو إذا لم يقبل فذلك بأنه مليء. إذن ليس إلا الملء إذا لم يكن خلو. إذا كان إذن الكل هو ملئا فلا حركة ممكنة.
15
سمبليسيوس، المرجع السابق الورقة 24:
إذا تجزأ الموجود تحرك. ولكن حينئذ لا يتحرك كله معا.
16
سمبليسيوس، ما سبق الورقة 19:
وإذا كان الموجود يوجد فيلزم أن يكون واحدا، وبما هو واحد يلزم في آن واحد ألا يكون جسما؛ لأنه إذا كان له سمك كان له أيضا أجزاء ولا يكون بعد واحدا.
17
سمبليسيوس، شرح كتاب السماء، الورقة 173:
أو سيب وهو يستشهد أرسطوقلس
XV
هذا هو إذن الدليل الأقوى على إثبات وحدة الموجود. ولكن هاك من جهة أخرى أدلة تثبتها أيضا. إن كان موجودات متكثرة فيلزم أن يكون كل واحد منها كالموجود الذي أثبتت وحدته. إذا كان الأرض والنار، وإذا كان الهواء والحديد، والذهب والنار، إذا كان الحي والميت، إذا كان الأبيض والأسود وسائر الأشياء التي يعتبرها الناس حقائق، هي موجودة في الواقع كما يقال، فيلزم أن يكون كل شيء على الحقيقة هو ما قد ظهر لنا بادئ الأمر. وإنه لا يتغير حاله ، وإنه لا يصير غيرا، بل يبقى دائما هو ما هو، ولكنا نعتقد في حالة الأشياء الراهنة أننا نحسن رؤيتها ونحسن استماعها ونحسن إدراكها. فالحار يظهر لنا أنه يصير باردا، والبارد يصير حارا، والصلب يصير لينا، واللين يصير صلبا، والحي يظهر لنا أنه يموت، ويتولد ثانيا مما ليس حيا بعد. فالكل بلا استثناء يظهر لنا أنه يصير غيرا، ولا شيء يظهر بأنه يبقى في الحالة بعينها التي كان فيها والتي هو فيها. الحديد نفسه مهما كان صلبا ينبري بملامسة الأصبع، والذهب والحجر وأي جسم آخر مما يظهر لنا صلبا هكذا تأتى من الماء كما يأتي منه الأرض والحجر. وبالنتيجة يمكن أن يقال إننا لا نرى ولا نعرف الموجودات في حقائقها؛ على ذلك فكل ذلك أبعد من أن يتطابق.
إننا نقول حقا على بعض الأشياء إنها أزلية، ومع ذلك نرى صورها كلها وخواصها كلها تتغير تحت أعيننا وتنقطع عن أن تكون على ما قد كنا رأيناها عليه في كل حالة خاصة. إذن يلزم التسليم بأننا لا نحسن رؤية الأشياء، وأن ظهور الأشياء لنا متكثرة إنما هو خطأ؛ لأنها لو كانت حقيقية ما تغيرت، ولكنها تكون على ما يظهر لنا كل واحد منها أنه موجود، ما دام أنه لا شيء فوق الموجود الحقيقي؛ ففي التغير قد هلك الموجود، وهذا الذي يتكون هو اللاموجود، حينئذ مرة ثانية إذا كانت الأشياء متكثرة كما يقال فيلزم أنها كانت على الإطلاق كما يكون الموجود الأحد.
هوامش
تحليل نظرية غرغياس
لسكستوس أمبيريكوس
Adversus Mathemadicos Logicos (ك7، ص385، طبعة 1842)
قال سكستوس بعد أن أثنى على فروطاغوراس وأوتيديم وريونيسودور الذين لم يعترفوا بالموجود وبالحقيقة إلا في الإضافي: «غرغياس الليونتيومي قد تبوأ مكانا أيضا في طائفة الفلاسفة الذين أنكروا ملكة الحكم، ولكنه لم يتخذ في هجماته الطريقة التي اتخذها فروطاغوراس؛ فإنه في كتابه المعنون «في اللاموجود أو في الطبيعة» يقرر النقط الثلاث الآتية: أولا أنه لا شيء بموجود، وثانيا أنه إذا كان شيء موجودا فذلك الشيء هو غير قابل لأن يدركه الإنسان، وأخيرا وثالثا أن هذا الشيء لو كان قابلا لإدراكنا لما أمكن التعبير عنه ولا تفهيمه الغير.
وإليك كيف يثبت النقطة الأولى؛ وهي أن لا شيء بموجود. إذا كان شيء موجودا فإنما هو الموجود أو اللاموجود أو الموجود واللاموجود معا. ولكن الموجود ليس موجودا كما سيبسطه، واللاموجود كذلك ليس موجودا كما سيبينه. وأخيرا ما هو معا موجود ولا موجود لا يوجد كما سيبينه. إذن لا شيء بموجود، بديهي أن اللاموجود غير موجود؛ لأنه إذا كان اللاموجود موجودا فينتج منه أنه يوجد ولا يوجد معا؛ لأنه من جهة أنه متصور لاموجودا فلن يوجد، ومن جهة أنه اللاموجود فهو سيوجد من جديد وعلى العكس. ولكن من السخف أن شيئا يكون ولا يكون معا؛ إذن اللاموجود غير موجود ألبتة. أضف إلى ذلك أنه من جهة نظر أخرى إذا كان اللاموجود موجودا فالموجود حينئذ لا يوجد لأنهما على التكافؤ ضدان أحدهما للآخر. وإذا كان الموجود يصل إلى اللاموجود فاللاموجود يصل إلى الموجود.»
ولكن ما دام الموجود ليس موجودا فاللاموجود ليس موجودا من باب أولى، على هذا أقول: إن الموجود ليس موجودا؛ لأنه إذا كان الموجود موجودا فإما أن يكون أزليا وإما أن يكون مخلوقا وإما أن يكون معا أزليا ومخلوقا. ولكن - كما سنبرهنه - الموجود ليس لاأزليا ولا مخلوقا ولا كليهما معا. أقول: إذن إن الموجود لا يكون؛ لأنه إذا كان الموجود أزليا - ما دام أنه يجب الابتداء بذلك - فليس له أول وكل ما يولد له أول، والأزلي بما هو لم يخلق لا يمكن أن يكون له أول ما، وبما هو ليس له أول فهو لامتناه، وبما هو لامتناه فليس في أي مكان ما. وفي الحق إنه إذا كان في مكان ما فيلزم أنه كان موجود آخر غيره وفيه يوجد. وإذا كان الموجود محويا هكذا في شيء ما فلا يكون بعد لامتناهيا ما دام أن الحاوي هو أكبر من المحوي، ولا يمكن أن يكون شيء أكبر من اللامتناهي؛ إذن اللامتناهي ليس في حيز ما.
ولكن اللامتناهي لا يمكن أن يكون كذلك محويا في ذاته؛ لأنه إذن يكون المحل والحال يشتبهان ويصير الموجود اثنين: المحل أولا ثم الجسم، فإن ما فيه الجسم هو الحيز وما في الحيز هو الجسم، ولكن هذا سخف. وبالنتيجة فالموجود ليس كذلك حالا في ذاته، وبالنتيجة أيضا إذا كان الموجود أزليا فهو لامتناه، وبما هو لامتناه فهو ليس في أي حيز، وبما هو ليس في حيز فهو غير موجود، إذا كان إذن الموجود أزليا فلا يمكن أن يكون له كذلك أول.
ومن جهة أخرى الموجود لا يمكن كذلك أن يكون قد خلق، فإذا كان بالمصادفة قد ولد فيجب أن يكون قد أتى من الموجود؛ لأنه إذا كان الموجود موجودا فذلك بأنه لم يكن قد ولد وأنه موجود من قبل، ولا من اللاموجود ما دام اللاموجود لا يمكن أن يكون شيئا ما أيا كان ما دام أن ما هو قادر على أن يكون شيئا يجب بالضرورة أن يكون قد شارك في الوجود؛ إذن فالموجود لا يمكن أن يكون قد خلق.
وقد يثبت بالأدلة عينها أن الموجود لا يمكن أن يكون الاثنين معا؛ أعني أزليا ومخلوقا معا. وفي الحق إن هذين المعنيين يتفاسدان، وإذا كان الموجود أزليا فهو لم يولد، وإذا ولد فليس أزليا. حينئذ مرة أخرى، الموجود بما هو لا أزلي ولا مخلوق ولا الاثنان معا فذلك بأنه لا يوجد ألبتة.
دليل آخر: إذا كان الموجود يوجد فهو واحد أو كثرة. ولكن الموجود ليس واحدا ولا متكثرا كما سنرى ذلك؛ ومن ثم فالموجود ليس ألبتة؛ فإذ افترض واحدا فهو إما كم وإما متصل وإما عظم ما وإما جسم. ولكن ما هو في أي ما من هذه الأحوال ليس بعد واحدا. وفي الحق إنه إذا كان الموجود كما فيكون منقسما، وإذا كان متصلا فيمكن فصله، وإذا افترض له في الذهن عظم فلا يكون بعد غير منقسم. وإذا ذهب إلى حد أن يجعل جسما فإذن يكون له الأبعاد الثلاثة، وبعبارة أخرى يكون له طول وعرض وعمق، ويكون مما لا يستطاع تأييده أن يدعى أن الموجود ليس على الإطلاق شيئا من ذلك كله، وإذن فالموجود ليس واحدا.
أقول: إن الموجود ليس كذلك متكثرا؛ لأنه ما دام ليس واحدا لا يمكن بعد أن يكون كثرة، وفي الحق إن كثرة لا تتألف إلا من تركب الوحدات، ومتى نفيت الوحدة انتفت الكثرة حتما.
حينئذ على ما تقدم كله يرى جليا أن الموجود ليس أكثر وجودا من اللاموجود، ويمكن أن يستنتج منه أن الموجود ليس كذلك الموجود واللاموجود معا. إذا كان الموجود - في الحق - هو ما يوجد وما لا يوجد؛ فحينئذ اللاموجود يتحد مع الموجود في أمر الوجود؛ ومن ثم لا يوجد لا أحدهما ولا الآخر. فأما أن اللاموجود لا يوجد فهذا موضع اتفاق جميع الناس، ولكن قد قرر آنفا أن الموجود يتماثل مع اللاموجود؛ فالموجود إذن ليس يوجد كذلك، ولكن إذا كان الموجود مماثلا للاموجود فلا يمكن أن يكون الاثنين معا، فإذا كان الاثنين معا فلا يكون مماثلا، وإذا كان مماثلا فلا يكون الاثنين، وينتج منه أن الموجود هو لاشيء؛ لأنه إذا لم يكن لا الموجود ولا اللاموجود ولا كليهما - ولا شيء وراء ذلك - فذلك بأن الموجود ليس شيئا.
الآن يلزمنا أن نوضح أنه إن كان من شيء فذلك الشيء غير معروف للإنسان، وأن عقله لا يمكن أن يفهمه. يقول غرغياس: إذا كانت تصورات عقلنا ليست موجودات فالموجود لا يمكن أن يتصور، وذلك بسيط كل البساطة. وفي الحق، كما أنه إذا كانت الأشياء التي نتصورها بيضاء هي في الحقيقة متصورة بيضاء، فكذلك الأشياء المتصورة ليست موجودات، فينتج منه بالضرورة الحتمية أنه لا يمكن أن تتصور موجودات حقيقية. وهذا دليل صحيح تام الصحة ومنتج جد الإنتاج؛ فإذا كانت الأشياء المتصورة ليست موجودات فالموجود لا يمكن أن يتصور الأشياء المتصورة ليست موجودات كما سنقرره، وذلك فرض أول ينبغي التسليم به. إذن الموجود ليس متصورا، فأما أن الأشياء المتصورة ليست موجودات فذلك ما هو بين بذاته؛ لأنه إذا كانت التصورات هي الحقائق فحينئذ كل ما يتصور يوجد وعلى الوجه الذي تصور به أيا كان هذا الوجه. وهذا هو سخيف بالبداهة، وافتراضه غير معقول بالمرة، مثال ذلك: إذا شاء المرء أن يفترض إنسانا يطير في الأجواء وعربات تدرج على الأمواج، فلا ينتج من ذلك وحده أن الإنسان يستطيع أن يطير والعربات تدرج على أمواج البحر. على هذا فالتصورات التي تتصور ليست حقائق.
يلزم أن يزاد على هذا أنه إذا كانت الأشياء المتصورة موجودات فينتج منه أن الأشياء التي ليست موجودة لا يمكن أن تتصور؛ لأن الخواص المتضادة تتعلق بالأضداد. واللاموجود هو نقيض الموجود، فإذا كان إذن الموجود يمكن أن يتصور كما قد يعتقد فينتج منه أن اللاموجود لا يمكن أن يتصور . وهذا سخف؛ لأن الإنسان يتصور «سيعلا» و«الشيمير» وأشياء شتى أخرى ليس لها وجود ما؛ إذن الموجود ليس متصورا، وكما أن الأشياء المرئية هي بذلك يقال عليها إنها قابلة لأن ترى وأن الأشياء المسموعة يمكن أن يقال عليها إنها قابلة لأن تسمع؛ لأن الإنسان يسمعها، وأن المرء لا ينكر الأشياء المرئية؛ لأنه لا يسمعها، كما أنه لا ينكر الأشياء القابلة لأن تسمع بحجة أنه لا يراها، فإن كل واحد من هذه الأشياء يجب أن يحكم عليه بحاسته الخاصة لا بحاسة أجنبية، كذلك الأمر في الأشياء المتصورة؛ لأنه لا يمكن أن ترى بالنظر ولا أن تسمع بالسمع ما دام أنها مدركة بالحاسة الخاصة بها. وبالتبع إذا كان امرؤ يتصور العربات تدرج على المياه ولا يراها فلا يلزم منه إنكار أن العربات تدرج على الماء. ولكن هذا سخف؛ وإذن فالموجود ليس متصورا ولا يمكن أن يفهم.
ولكن بافتراض أنه يفهم فلا يمكن نقله إلى الغير، وفي الحق إن الموجودات التي يمكن للمرء أن يراها ويسمعها - وعلى وجه العموم أن يحسها - هي مفروضة خارجة عنا ومن بينها المرئيات مدركة بالنظر وما يمكن سمعها مدركة بالسمع دون أن يكون ألبتة عكس ممكن. فكيف يمكن حينئذ التعبير عنها للغير. وفي الواقع إن طريقة الإيضاح التي عندنا هي الكلام، والكلام ليس هو الأشياء نفسها ولا الموجودات؛ إذن ليست الموجودات هي التي نعبر عنها للغير، بل هو الكلام وحده الذي هو على الإطلاق خلاف الحقائق أعينها. وإذن فكما أن المرئي لا يمكن أن يصير قابلا لأن يسمع وعلى التكافؤ، فكذلك الموجود المفروض أنه خارج عنا لا يمكن أن يصير هو كلامنا. وبما أن الكلام ليس موجودا فليس من الممكن التعبير عن شيء ما للغير. وفي الواقع إن المقالة - كما يقول غرغياس - لا تتألف إلا من أشياء خارجية تأتي فتقع في ذهننا، أعني أشياء تدركها حواسنا.
وعلى هذا فعلى أثر تسلط ذوق ما في الأشياء المذوقة يتكون عندنا الكلام الذي نعبر به عن هذا الكيف الخاص. وتبعا لتدخل اللون يتكون الكلام الذي نعبر به عنه؛ فإذا كان هذا هكذا فليس الكلام هو الذي يمثل ما هو في الخارج، بل هو الشيء الخارجي الذي يعين الكلام. لا يمكن أن يقال: إن الكلام هو على الوجه الذي عليه الأشياء المرئية أو المسموعة بحيث إن الكلام بافتراضه يمكن أن يستدل به على الموجودات والموضوعات الخارجية. يقول غرغياس: لأنه إذا كان الكلام هو أيضا موضوعا فهو يختلف بالأقل عن جميع الموضوعات الأخرى. ومثال ذلك أية مسافة لا تكون بين الأشياء المرئية وبين الكلمات التي نعبر عنها؟ وفي الحق إنه إنما يختلف العضو الذي تدرك به الأشياء المرئية والذي يدرك به الكلام الذي يعبر عنها. وعلى ذلك فالكلام لا يمكن أن يبين الجزء الأعظم للأشياء الخارجية بذواتها، كما أن أكثر الأشياء لا يمكن على التبادل أن يبين بعضها طبع البعض الآخر.
تلك هي أدلة غرغياس التي هي على قدر قيمتها تفسد كل مقياس للحق؛ لأنه ليس بعد من مقياس ما دام أن الموجود ليس موجودا، وأنه لا يمكن أن يعلم، وأنه ليس قابلا لأن ينقل علمه إلى الغير.
راجع أيضا
Hypotyposes Pyrrhoniennes
ك2 ب6 ف57 و59 و64، ص134 و136 من طبعة سنة 1842.
अज्ञात पृष्ठ