كشف النور عن أصحاب القبور
पृष्ठ 1
بسم الله الرحمن الرحيم كشف النور عن أصحاب القبور الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، يقول الحقير عبد الغني ابن إسماعيل النابلسي الحنفي: هذه رسالة كتبتها في ظهور كرامات الأولياء بعد موتهم وحكم رفع البناء عليهم وتعليق الستور إلى غير ذلك وسميتها " كشف النور عن أصحاب القبور ". وأسأل الله تعالى أن يلهمني ما هو الحق والصواب وأن يوفق إخواني المسلمين إلى الإنصاف عند ظهور الحق والاعتراف، والله على كل شئ قدير وبالإجابة جدير.
اعلموا إخواني في رضاعة ثدي الإسلام أن الكرامات التي أكرم الله تعالى بها أولياءه المقربين إلى حضرته أمور خارقة لعادة الله في خلقه، خلقها الله تعالى بمحض قدرته وإرادته لا مدخل لقدرة الولي المخلوقة فيه ولا لإرادته المخلوقة فيه أيضا على التأثير فيها البتة وإنما قدرة الولي وإرادته المخلوقتان فيه سبب لخلق الله تعالى تلك الكرامات على يديه ونسبتها إليه، وكل من اعتقد أن الولي له تأثير في شئ من ذلك فهو كافر بالله تعالى على ما عرف في علم التوحيد.
وحقيقة أمر الولي في خلق الله تعالى الكرامات على يديه أنه متحقق بوحدانية الله تعالى في التأثير. وأنه لا تأثير له عند نفسه البتة حتى أن حركات نفسه التي هي القوى الروحانية المتشعبة في البدن وهي القوة الباصرة والقوة السامعة والقوة الذائقة والقوة اللامسة والقوة الشامة والقوة العقلية الباطنية المتفكرة والمتخيلة والحافظة. وكذلك الحركات الظاهرة في جميع الأعضاء والأعصاب ونحو ذلك، فإنها مخلوقة فيه لله تعالى. وهو مشاهد لجميع ذلك في نفسه ومتحقق به في كل وقت إلا إذا سلط الله عليه الغفلة في بعض الأحيان فيكون في ذلك الوقت ليس بولي الله تعالى إلا بحسب ما مضى كالمؤمن النائم فإنه مؤمن بسبب
पृष्ठ 3
حكم ما مضى في اليقظة من الإيمان وهذه الحالة هي أدنى أحوال الأولياء وأدنى شهود من شهوداتهم. وربما سموا شيئا من ذلك في طريقهم موتا اختياريا أخذا من إشارة قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) ومعنى إشارة الآية على عدم الفرق بين ميت بالسكون والتشديد كما ذكره الجوهري في الصحاح: إنك يا محمد وإن ظهر التأثير منك ومنهم في الباطن والظاهر بحسب الإدراك والأفعال ميت وهم ميتون لأن حياتك مخلوقة كحياتهم وهي عرض يخلق الله تعالى الإدراك باطنا والأفعال والأقوال ظاهرا عندها لا بها، فهي سبب لخلق ذلك من الله تعالى فهي موت في حقيقة الأمر فيك وفيهم جميعا. وهذا الموت الاختياري شرط في مقام الولاية حتى إذا لم يتحقق به الولي في نفسه فليس بولي وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " يعني من عرف نفسه، أنها كناية عن قوى باطنية وظاهرية منبعثة من العدم بسطوة قدرة غيره عرف ربه. والرب هو المالك يعني عرف مالك أمره الباطن والظاهر وهو الله تعالى فيعرفه من حيث إنه الخالق لتلك القوى والمصرف لها فيما يشاءه تعالى ويختاره ويعلم أن نفسه في يد الله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء كما كان يقسم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " والذي نفسي بيده " أي وحق الذي جميع قواي الباطنية والظاهرية في تصرفه وحده لا مدخل لي في ذلك البتة. ومن هنا يفهم قول النبي عليه السلام في حديث التقرب بالنوافل: " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به "... إلى آخره فيظهر لذلك المتقرب بالنوافل الفاعل المتصرف في قواه كلها وتبقى القوى عنده أعراضا زائلة كما هي في حقيقة الأمر فيكون الحق كناية عنها بعد زوالها من نظر ذلك المتقرب. وليس هذا كله إلا بعد حصول الموت الاختياري له.
وإذا كان كذلك فالولاية مشروطة عند العارفين بإدراك الموت والتحقق به، والكرامات للأولياء مشروطة حينئذ عندهم بوجود الموت لا بفقده فكيف يزعم عاقل أن الموت ينافي الكرامات؟ والكرامات مشروطة به. وإذا لم يتحقق من الإنسان في نفسه فليس بعارف ولا ولي. وإنما هو عامي من عوام المؤمنين غافل محجوب. وذلك لأن الولي هو الإنسان الذي يتولى الله تعالى جميع أموره الباطنية والظاهرية كما ذكرنا. وأمر غيره فنفسه هي التي تتولى أمرها بسبب
पृष्ठ 4
الغفلة والحجاب عن المتولي في الحقيقة لجميع الأمور وهو الله تعالى لأنه تعالى متولي أمر المؤمن والكافر والغافل والمستيقظ، ولكن قال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). أي إنما يعلم ذلك، وهو عدم الفرق بينهما أصحاب البصائر.
ومما يدل على ثبوت الكرامة بعد الموت من أقوال الفقهاء قولهم بكراهة الوطئ على القبور. قال في مختصر محيط السرخسي للإمام الخبازي:
وكره أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن يطأ على قبر أو يجلس أو ينام عليه أو يبول أو يتغوط لما فيه من الإهانة. وفي جامع الفتاوى لقارئي الهداية: وسئل بعض الفضلاء عن وطئ القبور فقال: يكره. قيل: هل يكره على أنه تارك للأولى. فقال: لا بل يأثم لأنه عليه السلام قال: لأن أضع قدمي على جمر أحب إلي من وطئ القبر. قيل: التابوت والتراب الذي فوقه بمنزلة السقف.
فقال: وإن كان له بمنزلة السقف لكن حق الميت باق فلا يجوز. أن يوطأ.
وسئل الخجندي عن رجل لو كان قبر والديه بين القبور هل يجوز له أن يمر بين قبور المسلمين بالدعاء والتسبيح وقراءة القرآن ويزور قبرهما؟ فقال: له ذلك إن أمكنه من غير وطئ القبور انتهى. وفي فتح القدير: ويكره الجلوس على القبر ووطئه. وحينئذ فما يصنعه الناس ممن دفنت أقاربه ثم دفنت حواليهم خلق، من وطئ تلك القبور إلى أن يصل إلى قبر أبيه مكروه ويكره النوم عند القبر وقضاء الحاجة بل أولى وكل ما لم يعهد من السنة، والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائما كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع ويقول: " السلام عليك م دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية ".
انتهى كلامه. وحيث صح هذا وثبت في كتب الفقه فنقول: لم يكره الوطئ على القبر والجلوس عليه إلا لكرامة الموتى بعد موتهم. وهذه الكرامة ثابتة في الشرع. وهي أمر خارق للعادة في الخلق، فإن العادة جارية أن الإنسان يباح له أن يمشي على الأرض وأن يجلس عليها وأن يطئ برجله أبعاض الحيوانات كلها إلا موتى أهل الإيمان، فقد خولفت العادة في حقهم فكره ذلك كله كراهة تحريم،
पृष्ठ 5
لأنها المحمل عند الإطلاق. وإنما كان ذلك تكريما لهم بعد موتهم، وهم من عوام المؤمنين. فكيف الحال مع خواصهم وهم أهل الولاية المقربون إلى الله تعالى. فقد ثبتت الكرامة بعد الموت على لسان الشرع.
وأيضا ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور القبور في البقيع ويدعو عندها قائما دليل على ثبوت الكرامات بعد الموت لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يكن يعلم أن الدعاء عند قبور المؤمنين مستجاب لخصوصية في المكان بسبب الموتى المدفونين فيه لما دعا عند قبورهم بقوله عليه السلام: " أسأل الله لي ولكم العافية " واستجابة الدعاء ببركة قبور المؤمنين التي تنزل عليها الرحمة من جملة الكرامات للمؤمنين بعد الموت.
وذلك في حق قبور عوام المؤمنين فكيف قبور خواصهم من أهل التوحيد الكامل اليقين من المقربين إلى الله تعالى. وفي ذلك ثبوت الكرامة بعد الموت أيضا.
ومن الدليل على ثبوتها بعد الموت أيضا حكم الشرع بوجوب تغسيل الميت المسلم ووجوب تكفينه ودفنه تكريما له. وهي كرامة أثبتها الشرع للمؤمنين بعد الموت خارقة للعادة في حق موتى سائر بني آدم من الكافرين وجميع الحيوانات التي جرت العادة الشرعية بعدم تغسيلها.
ومن الدليل على ذلك أيضا ما قاله صاحب النهاية في شرح الهداية: أن الميت ينجس بالموت وأن التغسيل واجب لإزالة نجاسة تثبت بالموت كرامة للآدمي بخلاف سائر الحيوانات. وفي جامع الفتاوى: يغسل لتنجسه بالموت كسائر الحيوانات الدموية إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له. وقيل: لا ينجس لأنه مؤمن بل الغسل لأجل أنه على غير وضوء انتهى. وهذا يدل على ثبوت الكرامة للمؤمن بعد موته أيضا.
وذكر في جامع الفتاوى: أن البناء على القبر لا يكره إذا كان الميت من المشايخ والعلماء والسادات. وذكر فيه أيضا أنه ينبغي أن يكون غاسل الميت على طهارة ويكره أن يكون حائضا أو جنبا انتهى. وهذا مما هو صريح في ثبوت الكرامة للمؤمن بعد الموت أيضا بل الكرامات كلها لا تكون للمؤمن إلا بعد الموت.
أما في الحياة الدنيا فلا كرامة له في الحقيقة إلا مجازا لأنه يكون في دار الجوار
पृष्ठ 6
لأعداء الله تعالى دار يكفر فيها بالله تعالى وهذا لا يشك فيه عاقل البتة. وفي عمدة الاعتقاد للإمام النسفي رحمه الله تعالى: وكل مؤمن بعد موته مؤمن حقيقة كما في حال نومه وكذا الرسل والأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم رسل وأنبياء حقيقة لأن المتصف بالنبوة والإيمان الروح وهو لا يتغير بالموت انتهى.
وربما نقول: مراده بالمؤمن الكامل وهو الولي، والإيمان وهو الإيمان الكامل وهو الولاية وهي باقية بعد الموت لأن المتصف بها الروح والروح لا يتغير بالموت. أو المراد مطلق المؤمن ومطلق الإيمان فيكون المؤمن الكامل والإيمان الكامل مفهوما بالطريق الأولى بحسب ما ذكرنا لا سيما وقد قال تعالى في حق أهل الجنة: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) ونحن نتكلم على إشارة هذه الآية ولا نمتع؟؟؟ عبارتها كما هو دأب أهل الله تعالى فنقول فيما نحن بصدده العارفون بربهم لهم موتتان موتة في نفوسهم وموتة في أبدانهم. والمعتبر عندهم النفوس دون الأبدان لأن الأبدان مساكن النفوس والعبرة بالساكن لا بالدار والسر في السكان لا في الديار. فإذا جاهدوا أنفسهم المجاهدة الشرعية باطنا وظاهرا وسلكوا طريق الاستقامة ماتت نفوسهم فتحققوا بالحق لما ذاقوا الموت وبقيت أرواحهم مدبرة لأجسامهم في الدنيا بغير واسطة النفوس فكانوا ملائكة في صورة البشر، لأن الملائكة أرواح مجردة وهم بعد موت نفوسهم أرواح مجردة أيضا، كما كان ينزل جبريل عليه السلام إلى صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعند ذلك إذا انقطعت علاقة أرواحهم من تدبير أبدانهم كانوا بمنزلة جبريل عليه السلام إذا عاد إلى عالم تجرده وفارق الصورة البشرية. ولا يسمى هذا موتا حقيقيا في حقهم بل يسمى انتقالا من عالم إلى عالم آخر وتقلبا في الأطوار. ولهذا قال تعالى عنهم (لا يذوقون الموت إلا الموتة الأولى). وهذه إشارة الآية الكريمة التي لا تنحصر معانيها وعباراتها ولا تنفد حكمها وأسرارها وإشاراتها. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتوهم عاقل أن الله تعالى يقطع تكريمه عن هذا الولي الذي كملت ولايته بموته الطبيعي والتحاقه بعالم المجردات حتى صار مع الملائكة في فضاء الأزل والملكوت كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم عند موته: " اللهم الرفيق الأعلى ".
पृष्ठ 7
هذا وقد ورد في كتاب المحققين من أهل الله تعالى كثير من الحكايات والأخبار المفصحة عن وقوع الكرامات للأولياء بعد الموت وتداولته الثقات مما لا يسعنا إنكاره. فمن ذلك ما ذكره قدوتنا إلى الله تعالى المجتهد الكامل والعالم العامل الشيخ محي الدين ابن العربي قدس الله سره في كتابه " روح القدس في مناصحة النفس " في ترجمة أبي عبد الله ابن زين اليابري بالياء المثناة التحتانية وضم الباء الموحدة التحتانية الإشبيلي. كان من أهل الله تعالى أنه قرأ ليلة تأليف أبي القاسم ابن حمدين في الرد على أبي حامد الغزالي فعمي فسجد لله تعالى من حينه وتضرع وأقسم أنه لا يقرأه أبدا ويذهبه، فرد الله تعالى عليه بصره انتهى. وهي كرامة صدرت لأبي حامد الغزالي رضي الله عنه بعد موته على يد هذا الإنسان. وذكر الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه له في ذكر الموت سماه " بشرى الكئيب بلقاء الحبيب " قال: أخرج الحافظ أبو القاسم اللالكائي في السنة بسند عن محمد بن نصر الصائغ قال: كان أبي مولعا بالصلاة على الجنائز. فقال: يا بني حضرت يوما جنازة.
فلما دفنوها نزل إلى القبر نفسان ثم خرج واحد وبقي الآخر وحشى الناس التراب.
فقلت: يا قوم يدفن حي مع ميت؟ فقالوا ما ثم أحد فقلت: لعله شبه لي. ثم رجعت فقلت: ما رأيت إلا اثنين خرج واحد وبقي الآخر لا أبرح حتى يكشفه الله ما رأيت فقرأت عشر مرات يس وتبارك وبكيت وقلت: يا رب اكشف لي عما رأيت فإني خائف على عقلي وديني. فانشق القبر فخرج منه شخص فولى مبادرا. فقلت:
يا هذا بمعبودك إلا وقفت حتى أسألك فما التفت. فقلت الثانية والثالثة فالتفت وقال: أنت نصر الصائغ. فقلت: نعم. قال: ما تعرفني؟ قلت: لا. قال:
نحن ملكان من ملائكة الرحمان موكلان بأهل السنة إذا وضعوا في قبورهم، نزلنا حتى نلقنهم الحجة. وغاب عني.
وحكى اليافعي في روض الرياحين عن بعض الأولياء. قال: سألت الله تعالى أن يريني مقامات أهل القبور. فرأيت ليلة من الليالي القبور قد انشقت وإذا منهم النائم على السرير ومنهم النائم على الحرير والديباج ومنهم النائم على الريحان ومنهم النائم على السرر ومنهم الباكي ومنهم الضاحك فقلت: يا رب لو شئت ساويت بينهم في الكرامة. فنادى مناد من أهل القبور: يا فلان هذه أمثال الأعمال.
पृष्ठ 8
أما أصحاب السندس فهم أصحاب الخلق الحسن، وأما أصحاب الحرير والديباج فهم الشهداء، وأما أصحاب الريحان فهم الصائمون، وأما أصحاب السرر فهم المتحابون في الله، وأما أصحاب البكاء فهم المذنبون، وأما أصحاب الضحك فهم أهل التوبة.
قال اليافعي: رؤية الميت في خير أو شر نوع من الكشف يظهر الله تبشيرا وموعظة أو مصلحة للميت أو إسداء خير أو قضاء دين أو غير ذلك. ثم هذه الرؤية قد تكون في النوم وهو الغالب وقد تكون في اليقظة وذلك من الكرامات للأولياء أصحاب الأحوال. وقال في كفاية المعتقد: أخبرنا بعض الأخيار عن بعض الصالحين أنه كان يأتي قبر والده في بعض الأوقات ويتحدث معه.
وأخرج اللالكائي في السنة عن يحيى بن معين قال قال لي حفار أعجب ما رأينا من هذه المقابر أني سمعت من قبر والمؤذن يؤذن وهو يجيبه من القبر.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو أدخلت ثابت البناني في لحده ومعي حميد الطويل. فلما ساوينا عليه اللبن سقطت لبنة فإذا أنا به يصلي في قبره. وكان يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدا من خلقك الصلاة في قبره فأعطنيها فما كان الله ليرد دعائه.
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر. قال أبو القاسم السعدي في كتاب الإفصاح: هذا تصديق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الميت يقرأ في قبره. فإن عبد الله أخبره بذلك وصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مندة عن طلحة عن عبيد الله قال أردت ما لي بالغابة فأدركني الليل فآويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حزام فسمعت قراءة من القبر فما سمعت أحسن منها فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال: ذلك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض
पृष्ठ 9
أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة. فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت فيه.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم أن المهلبي قال حدثني الذين كانوا يمرون بالمصر في في الأسحار قالوا: كنا إذا مررنا بجنبات قبر ثابت البناني سمعنا قراءة القرآن.
وأخرج ابن مندة عن سلمة بن شبيب. قال سمعت أبا حماد الحفار. وكان ثقة ورعا. قال: دخلت يوم الجمعة المقبرة نصف النهار، فما مررت بقبر إلا سمعت منه قراءة القرآن. وأخرج ابن مندة عن عاصم السقطي قال: حفرنا قبرا ببلخ فنفذ في قبر فنظرت فإذا بشيخ في القبر متوجه إلى القبلة وعليه إزار أخضر واخضر ما حوله وفي حجره مصحف يقرأ فيه. وأخرج ابن مندة عن أبي ا لنصر النيسابوري الحفار. وكان صالحا ورعا قال: حفرت قبرا فانفتح في القبر قبر آخر، فنظرت، فإذا أنا بشاب حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح جالسا متربعا وفي حجره كتاب مكتوب بخضرة أحسن ما رأيت من الخطوط وهو يقرأ القرآن فنظر الشاب إلي وقال: أقامت القيامة؟ قلت: لا. فقال: أعد المدرة إلى موضعها فأعدتها إلى موضعها.
ونقل السهيلي في دلائل النبوة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه حفر في مكان فانفتحت طاقة. فإذا شخص على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامه روضة خضراء وذلك بأحد، وعلم أنه من الشهداء لأنه رأى في صفحة وجهه جرحا.
وأورد ذلك أيضا أبو حيان في تفسيره. وحكى اليافعي في روض الرياحين عن بعض الصالحين قال: حفرت لرجل من العباد قبرا وألحدته فيه فبينما أنا أسوى اللحد إذ سقطت لبنة من لحد بلية فنظرت فإذا شيخ جالس في القبر عليه ثياب بيض تقعقع وفي حجره مصحف من ذهب مكتوب بالذهب وهو يقرأ فيه فرفع رأسه إلي وقال:
أقامت القيامة؟ رحمك الله. قلت: لا. فقال رد اللبنة إلى موضعها رعاك الله.
فرددتها. وقال اليافعي أيضا: روينا عمن حفر القبور من الثقاة أنه حفر قبرا
पृष्ठ 10
فأشرف فيه على إنسان جالس على سرير وبيده مصحف يقرأ فيه وتحته نهر يجري فغشي عليه وأخرج من القبر ولم يدروا ما أصابه فلم يفق إلا في اليوم الثالث.
وأخرج سعيد بن منصور عن عدية بنت أهبان بن صفي الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أوصانا أبي أن نكفنه في قميص قالت: فلما أصبحنا من الغد من يوم دفنا. إذا نحن بالقميص الذي دفناه فيه عندنا.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات بسند لا بأس به من مرسل راشد بن سعد أن رجلا توفيت امرأته، فرأى نساء في المنام ولم ير امرأته معهن.
فسألهن عنها. فقلن: إنكم قصرتم في كفنها فهي تستحي تخرج معنا. فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظر هل إلى بقية من سبيل. فأتى رجلا من الأنصار قد حضرته الوفاة فأخبره فقال الأنصاري: إن كان أحد يبلغ الموتى بلغته. فتوفي الأنصاري فجاء بثوبين مشردين بالزعفران. فجعلهما في كفن الأنصاري. فلما كان الليل أتى النسوة ومعهن امرأته، وعليها الثوبان الأصفران انتهى.
وذكر الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى في كتابه " طبقات الأخيار " في ترجمة الشيخ أحمد البدوي أن سيدي عبد العزيز الديريني رضي الله عنه كان إذا سئل عن سيدي أحمد البدوي قال: هو بحر لا يدرك له قرار وإخباره ومجيئه بالأسرى من بلاد الفرنج وإغاثة الناس في قطاع الطريق وحيلولته بينهم وبين من استنجد به لا تحويها الدفاتر رضي الله تعالى عنه. قلت: وقد شاهدت أنا بعيني سنة خمس وأربعين وتسعمائة أسيرا على منارة سيدي عبد العال مقديا مغلولا وهو مخبط العقل.
فسألته عن ذلك. فقال: بينما أنا في بلاد الفرنج آخر الليل توجهت إلى سيدي أحمد فإذا أنا به فأخذني وطار بي في الهواء فوضعني هنا. فمكث يومين ورأسه.
دائرة عليه شدة من الخطفة انتهى. وهذا كله، صريح بثبوت الكرامات بعد الموت وهو أمر حق في نفسه لا يشك فيه إلا كل ناقص الإيمان منطمس البصيرة مطرود عن باب فضل الله تعالى متعصب على أهل الله تعالى أوقعه الله تعالى في ورطة الإنكار على أوليائه تعالى وقد أهانه الله تعالى وغضب عليه وألقاه
पृष्ठ 11
إلى الشيطان يتلاعب به ليبغض من يحبهم الله تعالى فيعرضه للاستخفاف بهم وبكراماتهم وإهانة قبورهم واحتقارها مع أن المعلوم عند من قرأ في علم العقائد والتوحيد أن الأرواح لها اتصال بالأجساد بعد الموت كاتصال شعاع الشمس بالأرض والروح في مقرها فيجب احترام قبور المؤمنين البتة لهذا المعنى حتى قال الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه " بشرى الكئيب بلقاء الحبيب ". قال اليافعي: مذهب أهل السنة أن أرواح الموتى ترد في بعض الأوقات من عليين أو من سجين إلى أجسادهم في قبورهم عند إرادة الله وخصوصا ليلة الجمة ويجلسون ويتحدثون وتتنعم أهل النعيم وتعذب أهل العذاب. قال: ويختص الأرواح دون الأجسام بالنعيم والعذاب ما دام في عليين أو سجين وفي القبر يشترك الروح والجسد انتهى.
ومما يدل على اتصال الأرواح بالأجسام في القبور بعد الموت ما نقله في بحر الكلام للإمام النسفي رحمه الله تعالى من قوله في عذاب القبر. فإن قيل:
كيف يوجع اللحم في القبر ولم يكن فيه الروح؟ فالجواب: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أن قيل له: كيف يوجع اللحم في القبر ولم يكن فيه الروح: فقال عليه الصلاة والسلام: كما يوجع سنك وإن لم يكن فيه الروح؟ ألا ترى إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن السن يتوجع لما أنه متصل باللحم، وإن لم يكن فيه الروح. فكذلك بعد الموت لما كان روحه متصلا بجسده فيتوجع انتهى وهذا صريح في أن روحانيات الموتى متصلة بأجسامهم التي في قبورهم وإن بليت أجسامهم وصارت ترابا. ولهذا جاء الشرع باحترام قبورهم كما ذكرناه فيما تقدم. فكيف لا ينبغي للمؤمنين احترام قبورهم وتعظيمها وزيارتها والتبرك بها وهم يعلمون أن الروحانيات الكاملة الفاضلة متصلة بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة كما هو مقتضى الأخبار النبوية وأن صارت ترابا. ولا أرى المنكر لذلك إلا جاهلا يعتقد من جهله أن الأرواح أغراض تزول بالموت كما تزول الحركة عن الميت، طبق ما هو مذهب بعض الفرق الضالة، حتى أنهم يزعمون أن الأولياء إذا ماتوا صاروا ترابا والتحقوا بتراب الأرض وذهبت روحانياتهم، فلا حرمة لقبورهم. ولهذا يهينونها ويحتقرونها وينكرون على من زارها وتبرك بها حتى إني سمعت بأذني رجلا يقول يوما وأنا أسمع وكنت
पृष्ठ 12
ذاهبا إلى زيارة قبر الشيخ أرسلان الدمشقي رضي الله عنه: كيف تزورون ترابا؟
ما هذا إلا قلة عقل! فتعجبت من ذلك غاية العجب، وقلت في نفسي: ما هذا قول من يدعي الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد ورد في الحديث " أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ولا معنى لذلك إلا أن روحانيات الموتى إما تنعم في قبورهم أو تعذب فيها. وذلك باتصال الروحانيات بالأجساد البالية التي خرجت من الدنيا وهي طاهرة بالإيمان والطاعات أو قذرة بالكفر والمخالفات. فحينئذ قبور المؤمنين محترمة متبجلة معظمة كما كانوا قبل ذلك، وهم أحياء محترمون متبجلون. فإن من احتقر عالما أو بغضه خيف عليه الكفر، كما صرح بذلك الفقهاء.
ولا فرق بين الأحياء في ذلك والأموات. أرأيت أن الأحياء والأموات كلهم مخلوقات الله تعالى لا تأثير لأحد منهم في شئ من الأشياء البتة. وإنما المؤثر هو الله تعالى وحده على كل حال والأحياء والأموات سواء في عدم التأثير قطعا من غير شبهة ولكن الاحترام واجب في حق الجميع. قال تعالى (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وشعائر الله هي الأشياء التي تشعر أي تعلم به تعالى كالعلماء والصالحين أحياء وأمواتا ونحوهم.
ومن تعظيمهم بناء القباب على قبورهم وعمل التوابيت لهم ومن الخشب حتى لا تحتقرهم العامة من الناس وإن كان ذلك بدعة فهي بدعة حسنة، كما قال الفقهاء في تكبير العمائم وتوسيع الثياب للعلماء، أنه جائز حتى لا تستخف بهم العامة ويحترمونهم. وإن كان ذلك بدعة لم يكن عليها السلف حتى قال في جامع الفتاوى في البناء على القبر: وقيل لا يكره إذا كان الميت من المشايخ والعلماء والسادات. وفي المضمرات: وكان الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل يقول: لا بأس باستعمال الأجر في ديارنا وكان يجوز استعمال رفرف الخشب. وذكر الإمام التمرتاشى: هذا إذا كان حول الميت وأما إذا كان فوقه فلا يكره لأنه عصمة منن السباع وهذا كما اعتادوا التسنيم باللبن صيانة عن النبش. ورأوا ذلك حسنا. وفي تنوير الأبصار: ولا يرفع عليه بناء. وقيل: لا بأس به. وهو المختار وفي شرح الكنز
पृष्ठ 13
للزيلعي. وقيل: لا بأس بالكتابة ووضع الحجر ليكون علامة لما روى أنه عليه السلام وضع حجرا على قبر عثمان بن مظعون انتهى.
وأما وضع الستور والعمائم والثياب على قبور الصالحين والأولياء فقد كرهه الفقهاء حتى قال في فتاوى الحجة: وتكره الستور على القبور انتهى. ولكن نحن الآن نقول إن كان القصد بذلك التعظيم في أعن العامة حتى لا يحتقروا صاحب هذا القبر الذي وضعت عليه الثياب والعمائم ولجلب الخشوع والأدب لقلوب الغافلين الزائرين لأن قلوبهم نافرة عن الحضور والتأدب بين يدي أولياء الله تعالى المدفونين في تلك القبور، كما ذكرنا من حضور روحانياتهم المباركة عند قبورهم.
فهو أمر جائز لا ينبغي النهي عنه لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
فإنه، وإن كان بدعة على خلاف ما كان عليه السلف ولكن من قبيل قول الفقهاء في كتاب الحج: إنه بعد طواف الوداع يرجع القهقري حتى يخرج من المسجد لأن في ذلك إجلال البيت وتعظيمه، حتى قال في منهج السالك:
وما يفعله الناس من الرجوع القهقري بعد الوداع فليس فيه سنة مروية ولا أثر محكي وقد فعل أصحابنا انتهى. وهذا تعظيم للبيت الحرام مع أنه جماد والأولياء أفضل منه من غير شبهة لأنهم مكلفون بخدمة الله تعالى دون الكعبة لأن عبادتها بلا تكليف. وإن كانوا أمواتا فالميت كالجماد والاحترام لازم في حق الجميع.
وكسوة الكعبة أمر مشروع حتى ذكروا أنه يجوز ستر الكعبة بالحرير وقبور الصالحين والأولياء وإن لم تكن كعبة ولا كالكعبة من جهة الأحكام ولكنها محترمة لأن الكعبة إنما أمرنا بالتوجه إليها والطواف بها وتعظيمها واحترامها مع أنها جماد ابتلاء من الله تعالى تكليفا لنا وإلا فهي أحجار. وكل من كان سجوده لها نفسها كان عابد أصنام فيكفر بالله تعالى ولهذا ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حين قبل الحجر في طوافه: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ما فعلته. قالوا سبب ذلك إنه تذكر وضع الجاهلية الأصنام حول البيت وسجودهم لها فخشى أن يظن أحد أن تقبيل الحجر يشبه نوعا من الجاهلية فقال ما قال رضي الله عنه: وما سمعنا أحدا من العامة ولا
पृष्ठ 14
غيرهم يعتقد أن قبور الصالحين كعبة يصح الطواف بها أو تصح الصلاة إليها حتى نخاف عليهم من ذلك. وإنما العامة جميعهم يعلمون أن القبلة هي الكعبة وحدها.
وأنها في مكة ولكنهم يبالغون في التعظيم والاحترام لتلك القبور لأنها قبور أولياء الله تعالى وقبور أحبائه تعالى وأهل صفوته. هذا مقدار ما نعلم من أحوالهم والمؤمن لا يظن بالمؤمنين إلا خيرا.
وقد ورد في الحديث كما أخرجه الأسيوطى رحمه الله تعالى في الجامع الصغير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسن الظن من حسن العبادة. وقال تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن أن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) الآية. ويجب الحمل على الكمال في حق عامة المؤمنين كما كان يعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه باطلاع الله تعالى له إن منهم المنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر والجحود ويظهرون الإيمان. ومع ذلك كان يعامل الجميع معاملة أهل الإيمان لأنه جاء يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر كما قال عليه الصلاة والسلام. أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. ولا ينبغي لمسلم أن ينكر كل ما يراه حدث ولم يكن في العصر الأول ما لم يطلع على قباحته وأن فاعله فعله على وجه يخالف ما هو مقصود الدين المحمدي. أرأيت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سن سنة حسنة كان له، ثوابها وثواب من عمل بها إلى يوم القيامة. فقد سمى ما تحدثه الأمة بعده مما هو غير مخالف لمقصود شرعه سنة مع أنه لم يكن له وجود في زمنه صلى الله عليه وسلم. فالبدعة الحسنة الموافقة لمقصود الشرع تسمى سنة على هذا، تسمية وردت على لسان الشارع صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا القبيل ما ذكره الفقهاء في مبحث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم وما يفعله بعض الناس من النزول بالقرب من المدينة والمشي إلى أن يدخلها حسن.
وكل ما كان أدخل في الأدب والاجلال كان حسنا كما ذكره والدي رحمه الله تعالى في حاشيته على شرح الدرر في كتاب الحج.
पृष्ठ 15
ويقاس على هذا إيقاد القناديل والشمع عند قبور الأولياء والصالحين وهو أيضا من باب التعظيم والاجلال للأولياء. فالمقصد فيها مقصد حسن لا سيما إن كان لذلك الولي فقراء يخدمونه، يحتاجون إلى إيقاد المصباح ليلا لقراءة قرآن أو تسبيح أو تهجد وإن كره الفقهاء الصلاة عند القبور ولكن محله في غير الموضع المعد لذلك، المتباعد عن القبر. وقد قال والدي رحمه الله تعالى في حاشيته على شرح الدرر: وتكره الصلاة في المقبرة لأنه يشبه اليهود. فإن كان فيها موضع أعد للصلاة ليس فيه قبر ولا نجاسة. فلا بأس به كما في الخانية وفي الحاوي.
فإن كانت القبور وراء المصلي لا يكره وإن كان بينه وبين القبر مقدار ما لو كان في الصلاة ومر إنسان لا يكره فههنا أيضا لا يكره انتهى.
وأما وضع اليدين على القبور والتماس البركة من مواضع روحانيات الأولياء فهو أمر لا بأس به أيضا. قال في جامع الفتاوى. وقيل: لا يعرف وضع اليد على المقابر سنة ولا مستحبا ولا نرى به بأسا انتهى. والأعمال بالنيات فإن كان مقصده خيرا كان خيرا. والله يتولى السرائر.
وأما نذر الزيت والشمع للأولياء يوقد عند قبورهم تعظيما لهم ومحبة فيهم فهو جائز في الجملة. أرأيت أن الفقهاء قالوا في وقف الذمي الزيت على سراج بيت المقدس:
إنه صحيح لكونه قربة عندنا وعندهم. وفي كتاب أوقاف الخصاف من بحث وقف الذمي فإن قال أرضي صدقة موقوفة تكون غلتها في ثمن زيت للإسراج في بيت المقدس.
قال: هذا جائز لأنه قربة عندنا وعندهم انتهى وبيت المقدس مسجد شريف فالإسراج فيه من جملة تعظيمه وكذلك قبور الصالحين والأولياء المقربين.
وكذلك نذر الدراهم والدنانير للأولياء بأن تصرف على فقرائهم المجاورين عند قبورهم أمر جائز في نفسه لأن النذر فيه مجاز عن العطية كما قالوا في الهبة للفقراء إنه صدقة فليس له الرجوع بها وفي الصدقة على الأغنياء. أنها هبة فيثبت له الرجوع فيها. فالعبرة لمقاصد الشرع دون الألفاظ. فإن النذر إنما هو مخصوص بالله تعالى فإذا استعمل في غيره كمن قال لرجل: لك على عشرة دراهم إن شفا الله مريضي ونحوه. ثم قال: نذرت لفلان كذا كان وعدا منه بذلك
पृष्ठ 16
وهو مجاز عن الهبة إن كان ذلك الرجل غنيا وعن الصدقة إن كان فقيرا. ورب إنسان يقول لآخر من أهل الذمة الكافرين بالله تعالى إن شفا الله تعالى مريضي فلك عندي مائة درهم مثلا. ولا يأثم في قوله ذلك. ويكون صدقة لأن الصدقة على فقراء أهل الذمة جائزة ما عدا الزكوات، كما قرره الفقهاء في كتبهم. فكيف يقول عاقل بحرمة قول الإنسان لولي من الأولياء بعد الموت إن شفى الله مريضي فلك عندي مائة درهم ونحوه. مع أن أهل الولاية أولى في هذا المعنى من غيرهم.
وإن كانوا أمواتا فإن القائل يعلم أن ذلك يصرف في مصالح الخادم لذلك الولي وللفقراء المجاورين عنده فيجعل ذلك وعدا وعطية وإباحة من ذلك القائل لكل من يأخذه، تصحيحا لقول المؤمنين ما أمكن والله ولي التوفيق.
وأما احتجاج بعض الناس على تحريم هذه الأمور بغير دليل قطعي فموجبه عدم الحياء من الله تعالى وعدم الخوف منه فإن الحرام في النهي في مقابلة الفرض في الأمر. وكل منهما يحتاج في ثبوته إلى دليل قطعي إما آية من كتاب الله تعالى أو سنة متواترة أو إجماع معتد به أو قياس يورده المجتهد لا غيره من المقلدين لأنه لا عبرة بقياس المقلدين الذين لم تتوفر فيهم شروط الاجتهاد كما هو مسطر في كتب الأصول.
وأما قول بعض المغرورين: بأننا نخاف على العوام إذا اعتقدوا وليا من الأولياء وعظموا قبره والتمسوا البركة والمعونة منه أن يدركهم اعتقاد أن الأولياء نؤثر في الوجود مع الله تعالى فيكفرون ويشركون بالله تعالى، فننهاهم عن ذلك نهدم قبور الأولياء ونرفع البنيانات الموضوعة عليها، ونزيل الستور عنها، وتجعل الإهانة للأولياء ظاهرا حتى تعلم العوام الجاهلون أن هؤلاء الأولياء لو كانوا مؤثرين في الوجود مع الله تعالى لدفعوا عن أنفسهم هذه الإهانة التي نفعلها معهم.
فاعلم أن هذا الصنيع كفر صريح مأخوذ من قول فرعون على ما حكاه الله تعالى لنا في كتابه القديم بقوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يحدث في الأرض الفساد). وكذلك هؤلاء المغرورون لم يكمل إيمانهم بعد بأن الله تعالى يحب أولياءه وأنه يخلق على أيديهم في حياتهم جميع ما قدر أن يريدوه مما لم يخالف الشرع وجميع ما تريده روحانياتهم بعد موتهم
पृष्ठ 17
بأمره تعالى الذي روحانياتهم منه من الأمور الخارقة للعادة وكأنهم لم يعلموا بعد أن الإيمان حق وأنه منج عند الله تعالى فقلوبهم مملؤة من ظنون وشكوك وأوهام وتحيرات وزيغ. وقد عموا وصموا وختم الله تعالى على قلوبهم حتى لم يقدروا على الفرق بين الحق والباطل. ومن يضلل الله فما له من هاد ولو أنهم صدقوا في خوفهم ذلك على عامة المسلمين لقرروا لهم أحكام العقائد والتوحيد وعلموهم البراهين والحجج القطعية من غير منازعة ولا جدال وحملوهم على الفهم في العقائد والنظر في الفضائل. وشدوا عليهم في ذلك غاية التشديد، فإن العامة متى تحققوا في نفوسهم أن الفاعل واحد على كل حال. ولا تأثير لشئ البتة تحولت خواطرهم عن اعتقاد التأثير في غيره تعالى وعلموا أن كل ما سواه تعالى بيده تعالى، فتن وتحيرات تسمى أسبابا يضل الله بها من يشاء ويهدي من يشاء. قال تعالى: (والله من وراثهم محيط) يعني من وراء جميع الأشياء المحسوسات والأشياء المعقولات على معنى أنه لا يشبهها ولا تشبهه البتة. وعلى فرض أن يكون غرضهم ذلك المذكور فكيف يجوز انتهاك حرمات الله تعالى في حق أوليائه وأهل خاصته بهدم قبابهم وتحقير قبورهم في عيون العامة وهتك ستورهم الموضوعة احتراما لهم من أجل هذا الأمر الموهوم وهو خوف الضلال على العامة.
وكيف يجوز الظن السوء في حق العامة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يفعلون ذلك لا الظن السوء بالمسلمين حرام محقق كما قدمناه.
وأما اعتقاد شيخ بعينه والانتماء إليه والسلوك على طريقته الخاصة فهو أمر مطلوب. فإن العمل بالجوارح كما يحتاج المقلد فيه إلى سلوك مذهب مخصوص إن لم يكن مجتهدا كالحنفي يقلد أبا حنيفة والشافعي يقلد الشافعي ونحو ذلك، كذاك سلوك الطريق إلى الله تعالى يحتاج إلى تقليد شيخ مخصوص في البداية لتتصل البركة والإمداد بواسطة محبة ذلك الشيخ واعتقاده من الله تعالى إلى ذلك الإنسان، كما أن الشيخ إذا كان حيا تتصل بركته بخادمه ومعتقده والمستمد منه. فكذلك الشيخ إذا كان ميتا مدفوفا في قبره فإن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى ولا فرق في الاستمداد بين الشيخ الحي والميت بعد معرفة أنهما لا يؤثران في شئ من
पृष्ठ 18
الأشياء مع الله تعالى قطعا، فإن المريد الصادق إذا صدق في طلب المدد من الله تعالى على يد شيخ حي أو ميت مما هو سبب من جملة الأسباب، فالله تعالى لا يخيبه البتة. فإن المرشد الكامل إذا كان حيا ليس في وسعه إيصال المريد إلى الله تعالى بتأثيره. وإنما الموصل هو الله تعالى وحده ولكن المرشد سبب كما قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم. الذي هو أعظم مرشد للأمة: (إنك لا تهدي من أجبت ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). وقال له: (ليس لك من الأمر شئ).
ونقل قدوتنا الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي قدس الله سره: أن من جملة مشايخه الذين انتفع بهم في طريق الله تعالى ميزاب رآه في مدينة فاس في حائط ينزل منه ماء السطح فانتفع به ومن مشايخه ظله الممتد من شخصه وذكر نحو ذلك في كتابه روح القدس. وهذه الأولياء الذين في قبورهم أليس أتهم أعلى من الميزاب والظل اللذين كان يستمد منهما الشيخ الأكبر رضي الله عنه بسبب صدقه في طلبه.
فكيف ينكر عاقل استمداد إنسان من ولي ميت من أولياء الله تعالى وهو يعلم أن روحانيات الأولياء متصلة بأجساهم في قبورهم كما سبق بيانه. وكيف يستبعد إنسان مسلم هذا الاستمداد من الأموات الذين هم أفضل من هؤلاء الأحياء الغافلين عن معرفة رب العالمين بيقين. ومع ذلك تراه إذا عرضت له حاجة إلى ظالم أو فاسق أو كافر جاء إليه متذللا خاضعا ويداهنه، ويطلب منه قضاء حاجته ويستمد منه ثم يقول: فلان قضى حاجتي ونفعني. بل إذا جاع استمد الشبع من المأكل، وإذا عطش استمد الري من الماء، وإذا عرى استمد ستر العورة من الثوب، ونحو ذلك استمدادا طبيعيا مع علمه أن المأكل والماء والثوب جمادات لا روح فيها. ولو صرح بهذا الاستمداد وقال: أنا أطلب الشبع من المأكل ونحوه على المعنى المجازي مع اعتقاده أن الله تعالى هو الممد الحقيقي فلا خطأ عليه ولا إثم ولا عار. وكذلك يقول هذا الغافل الدواء الفلاني مسهل والشئ الفلاني قابض والمعجون الفلاني نافع من كذا، ولا يبالي في هذا القول ولا يظهر منه الانتقاد والاحتراز إلا في حق نسبة التأثير والاستمداد إلى أولياء الله تعالى الذين هم أفضل عند الله تعالى من كل دواء وكل معجون وما ذلك إلا من انطماس البصيرة والعماء عن الصواب.
पृष्ठ 19
ومما يحث المريد على اتخاذ الشيخ الحي مسترشدا منه أو الميت مستمدا منه ما نقله الشيخ عبد الوهاب الشعراوي رحمه الله تعالى في كتابه العهود المحدية:
أن معروف الكرخي كان يقول لأصحابه: إذا كان لكن إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي ولا تقسموا عليه به تعالى. فقيل له في ذلك فقال: هؤلاء لا يعرفون الله تعالى فلم يجبهم، ولو أنهم عرفوه لأجابهم. وكذلك وقع لسيدي محمد الحنفي الشاذلي أنه كان يعدي من مصر إلى الروضة ماشيا على الماء هو وجماعته فكان يقول لهم:
قولوا يا حنفي. وامشوا خلفي وإياكم أن تقولوا يا الله! تغرقوا. فخالف شخص منهم وقال: يا الله فزلقت رجله فنزل إلى لحيته في الماء فالتفت إليه الشيخ وقال:
يا ولدي إنك لا تعرف الله تعالى حتى تمشي باسمه على الماء، فاصبر حتى أعرفك بعظمة الله تعالى. ثم اسقط الوسائط انتهى.
وفي الجملة فاتخاذ الشيخ الحي أن وجد، وإلا فالميت أولى. الكل أموات لما قدمناه من إشارة قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) فافهم ترشد إن شاء الله تعالى ولا تعترض تكن من الهالكين. فإن الله تعالى يغار لأوليائه إذا انتهكت حرماتهم أشد غيرة ولا إله غيره إنه لقول فصل وما هو بالهزل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا.
وأما هذه الطبول والنايات وهذه الأعلام والرايات التي تنقيد بها الفقراء اليوم وهذه الأوقات التي اخترعتها مشايخ هذا الزمان فإن جميعها جهل ولهو وبطالة لا ينبغي للشيخ المرشد أن يعملها ولا أن يقر عليها لما يترتب عليها من مفسدة الغرور بغير الله تعالى والإعراض عن طلب العلم النافع والاجتهاد في سنن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وإن كنا نحن لا ننكرها على الكاملين العارفين إذا صدرت منهم (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب).
وأما الاجتماع وذكر الله تعالى الصحيح الخالي من اللحن مع الأدب والخشوع بعد معرفة الواجب من الاعتقاد الموافق، والواجب من كيفية الأعمال الصالة في العبادات والمعاملات فهو أمر جائز مندوب إليه ولا التفات لمن رده من تعصبه وجهله.
فقد نقل الشيخ المناوي رحمه الله تعالى في الشرح الكبير على الجامع الصغير عن
पृष्ठ 20
الشيخ الاسيوطى رحمه الله تعالى أنه أخذ من قوله عليه الصلاة والسلام: أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون. ونحو هذا الحديث: إن ما اعتاده الصوفية من عقد حلق الذكر والجهر به في المساجد ورفع الصوت بالتهليل لا كراهة فيه. ذكره في فتاواه الحديثية، قال: وقد وردت أخبار تقتضي ندب الجهر بالذكر وأخبار تقتضي الإسرار به والجمع بنيهما. إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص كما جمع النووي رضي الله عنه به بين الأحاديث الواردة بندب الجهر بالقراءة والواردة بندب الأسرار بها انتهى كلامه.
وأما خصوص هذا الصعق والزعق والصياح والاضطراب والتواجد عند سماع أقوال المغنين واحتباك أصوات الذاكرين جهرا فلا نطلق القول فيه. وإنما نفصل.
فإن كان بحق بأن قام للتواجد قومة المضطر الذي استغرته المعاني الإلهية الواردة على قلبه وخاطره في ذلك الوقت، فإنا لا ننكر ذلك ولكن نسلمه لفاعله على أنه ليس كما لا له. والكمال في السكون كما قال الشيخ أرسلان رضي الله عنه في رسالته في علم التوحيد: إذا عرفته سكنت وإذا جهلته تحركت. وأما إذا كان قيامه وتواجده مجرد شهوة نفسية بعثته فحركته عمدا وهيمته وأطربته وحملته على فعل ذلك الصياح والاضطراب، فهو شيطان مريد يجب منعه وطرده وإخراجه من بين الجماعة حتى لا يفسد بقية الذاكرين ويشتت قلوبهم ويزيل خشوعهم وأدبهم.
فإن قال قائل: من أين يعرف المريد المحق من المبطل؟ نقول له: من شرب الخمرة لا بد أن يتقاياها أو تنفح رائحتها من فمه وبيان ذلك إنا نسأله ما الذي حملك حتى صحت وزعقت واضطربت؟ فإن بين معنى اللهيا يحمل ذلك وشرح لنا شيئا من المعاني الواردة على قلبه عند السماع بحيث نستدل بالثمرة على الأغصان وبالزهرة على البستان سلمنا له ذلك واعتقدنا فيه الصلاح.
وأما إذا سألناه فوجدناه من جملة الثيران لا يزيد على قوله همت في محبة ربي وأهاجني ذكرى حقائق الوجود وهو متعر من كل فضيلة فهو شيطان عنيد يجب طرده وإخراجه وتأديبه.
पृष्ठ 21