مقدمة
الباب الأول: ظهور النصرانية وانتشارها
1 - كنيسة أوروشليم أم الكنائس
2 - حيث دعي المؤمنون مسيحيين أولا
3 - البدع والفرق والهرطقة في القرن الأول
4 - النظم والعقائد في القرن الأول
5 - أغناطيوس ثيوفوروس
6 - الدفاع الأول عن العقيدة
7 - مشكلة عيد الفصح
8 - الكنيسة والدولة
9 - الاضطهادات الكبرى
10 - وهن وضعف وارتداد وانشقاق
11 - قانون الإيمان الأنطاكي قبل نيقية
12 - لوقيانوس المعلم الأنطاكي
13 - المقاومة الوثنية
14 - روابط الكنيسة ونظمها في القرن الثالث
15 - الاضطهاد العظيم
16 - ليكينيوس وقسطنطين
الباب الثاني: انتصار النصرانية وانقسامها
17 - آريوس والآريوسية
18 - ملاتيوس الشريف
19 - يوحنا الذهبي الفم
20 - الرهبان في القرنين الثالث والرابع
21 - كنيسة أنطاكية في الربع الأول من القرن الخامس
22 - نسطوريوس والمجمع المسكوني الثالث
23 - أوطيخة والمجمع المسكوني الرابع
24 - النزاع الخريستولوجي
25 - يوستينوس ويوستنيانوس
26 - تنصر العرب
27 - القوانين والنظم والطقوس والأعمال الخيرية في القرن السادس
28 - فوقاس وهرقل
الفهارس
سلسلة البطاركة
مقدمة
الباب الأول: ظهور النصرانية وانتشارها
1 - كنيسة أوروشليم أم الكنائس
2 - حيث دعي المؤمنون مسيحيين أولا
3 - البدع والفرق والهرطقة في القرن الأول
4 - النظم والعقائد في القرن الأول
5 - أغناطيوس ثيوفوروس
6 - الدفاع الأول عن العقيدة
7 - مشكلة عيد الفصح
8 - الكنيسة والدولة
9 - الاضطهادات الكبرى
10 - وهن وضعف وارتداد وانشقاق
11 - قانون الإيمان الأنطاكي قبل نيقية
12 - لوقيانوس المعلم الأنطاكي
13 - المقاومة الوثنية
14 - روابط الكنيسة ونظمها في القرن الثالث
15 - الاضطهاد العظيم
16 - ليكينيوس وقسطنطين
الباب الثاني: انتصار النصرانية وانقسامها
17 - آريوس والآريوسية
18 - ملاتيوس الشريف
19 - يوحنا الذهبي الفم
20 - الرهبان في القرنين الثالث والرابع
21 - كنيسة أنطاكية في الربع الأول من القرن الخامس
22 - نسطوريوس والمجمع المسكوني الثالث
23 - أوطيخة والمجمع المسكوني الرابع
24 - النزاع الخريستولوجي
25 - يوستينوس ويوستنيانوس
26 - تنصر العرب
27 - القوانين والنظم والطقوس والأعمال الخيرية في القرن السادس
28 - فوقاس وهرقل
الفهارس
سلسلة البطاركة
كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (الجزء الأول)
كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (الجزء الأول)
34-634م
تأليف
أسد رستم
مقدمة
بسم الآب والابن والروح القدس
الإله الواحد
آمين
أومن بإله واحد آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى؛ وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر ، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنس، وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي، وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب، وأيضا يأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه.
وبالروح القدس الرب المحيي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن، مسجود له وممجد، الناطق بالأنبياء.
وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي. آمين. ••• «وديننا لا يقتصر على ما يثبته العقل بدليل منه، ولو اقتصر على ذلك لما شعرنا بحاجة إليه، ولكنه لا يعلم ما يراه العقل محالا، ولو فعل لكان ضربا من الضلال والتضليل، وليس كل معقول قابلا للإثبات بحجج العقل؛ فحقائق الوجود أعمق من أن يسبر غورها عقل محدود، وحقائق الوحي كالشمس تبهر ولكنها تنير السبيل.»
وقد أقام العلماء حججا كثيرة على وجود الله، منها: حجة الحركة والقول إن الكون سلسلة أحداث، وإن كل حادث مفعول، وكل مفعول يفترض فاعلا، ومنها الاستناد إلى قضية الإمكان والوجوب، والقول إن في الموجودات حاجات وكمالات، وإن الله وحده كامل بذاته لا يتأتى له الكمال من غيره، وإنما هو كامل بحكم طبعه، والقول أيضا بتدبير الكون، وبأن الله عقل ما لا يعقل وقصد ما لا يقصد، وأنه قد طبع في كل طبع ما أراده إليه، وهيأ لكل طبع فعلا ملائما له محققا لغايته.
ولكن أهم من هذا كله وأشد أثرا في النفس دليل الخبرة الشخصية، فالرسل والأنبياء والقديسون والمؤمنون جميعهم خبروا الله يوما بعد يوم، ولمسوا عنايته لمسا، فعلموا أنه عالم بكل معلوم.
ولكم دجا ليل الخطوب، وأظلمت سبل الخلاص، فصلوا مع داود: «إلى الرب صرخت في ضيقي، يا رب أنقذ نفسي، إني ولو سلكت في وادي ظل الموت لا أخشى سوءا؛ لأنك معي، عصاك وعكازك هما يعزيانني.» فأتاهم من ألطافه فرج لم يحتسبوه . وكم أثقلت الذنوب ظهورهم، وسودت العيوب صحفهم، فصرخوا مع باسيليوس الكبير: «يا رب، يا رب، يا من أنقذنا من كل سهم يطير في النهار، أنقذنا أيضا من كل عائق يسري في الدجى.» فستر عفوه وشمل لطفه، فكانت صلاتهم نورا لهم وبرهانا.
وندموا واستغفروا وتقدموا من جسد الرب ودمه الكريم للتطهير والتقديس والإنارة والحراسة، وللنمو في الفضيلة والكمال، فخرجوا شاكرين واثقين من شفاء النفس والجسد، وإنارة العين وسلامة القوى، ممتلئين حكمة، عاملين بالوصايا، عائشين بالبر والطهارة للسيد له المجد. •••
وميزة ديننا أن الكلمة صار جسدا، فكان إلها كاملا في إنسان كامل، فالشرقي كان قد أذعن لله، ولكنه لم يكن حرا طلقا، فجاء إذعانه سلبيا؛ وكان الغربي قد نشط وتحرر، وحاول جهد المستطاع أن يصل بالإنسان إلى درجة الكمال، ولكنه كان لا يزال يجهل الله، فجاء المسيح إلها كاملا في إنسان كامل، فأوجد للشرق ضالته، وأعطى الغرب ما طلب واستقصى، وأظهر الحقيقة وهو الحقيقة المتجسدة، فأبان للشرق الإله الكامل متحدا بالإنسان الكامل، وأكد للغرب أن الإنسان الكامل إنما هو مظهر من مظاهر الإله الكامل، ومن هنا سجود مجوس الشرق ل «الإله المولود»، ومن هنا أيضا قول ممثل الغرب بيلاطس البنطي: «ها هو ذا الرجل.»
ولم يبق بعد هذا أي مجال لثقافة شرقية وثقافة غربية، فالمولود الجديد أوجد ثقافة إنسانية شاملة ثقافة الشرق والغرب معا، وأوجب على الخلق أجمعين أن يجعلوا من أنفسهم بشرا أقوياء طلقاء كاملين قدر المستطاع؛ لينصرفوا إلى تطبيق مشيئة الله على أكمل وجه.
والكنيسة في العالم هي جماعة المقدسين في المسيح وبنعمة الروح القدس، المدعوين ليكونوا قديسين بشرا أحرارا كاملين قدر المستطاع، منصرفين إلى تطبيق مشيئة الله على أكمل وجه، والكنيسة فوق العالم هي سر الله المكنون، ولولا هذا لما عاشت في العالم.
والهرطقة على ممر العصور هي تفريق ما جمعه المسيح في شخصه، فالإبيونيون
Ebionites
لم يروا في المسيح إلا نبيا عظيما، خصه الله بشرط وافر من الحكمة، والمشبهون
Docetistes
لم يروا فيه إنسانا، فقالوا وما صلبوه ولكن شبه لهم ، والآريوسيون جعلوه مخلوقا وسطا بين الله والإنسان، والنساطرة قالوا إنه ولد إنسانا ثم حل فيه روح الله، وبالتالي فالعذراء أم يسوع لا والدة الإله، والمونوفيسيون قالوا بطبيعة واحدة إلهية لا بطبيعتين إلهية وبشرية، والمونوتيليون قالوا بمشيئة واحدة إلهية لا بمشيئتين إلهية وبشرية، ولم تكن حرب الأيقونات نزاعا سطحيا حول طقس معين من طقوس الكنيسة، وإنما كانت بحثا في سر التجسد نفسه، فمن حارب الأيقونات أنكر حرمة شكل الإله المنظور، وهدد سر التجسد بالانهيار، وإنكار الأسرار المقدسة عند الإنجيليين، ولا سيما سر الاستحالة، هو في حد ذاته خروج على اتحاد الإله الكامل بالإنسان الكامل. «ففي المسيح يحل كل ملء اللاهوت جسديا وفيه نحن نمتلئ» (كولوسي، 2: 9). •••
وكنيستنا واحدة جامعة مقدسة رسولية؛ فإننا جميعنا قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهودا كنا أم يونانيين، عبيدا أم أحرارا، وسقينا جميعا من روح واحد، ونحن جسد واحد هو جسد المسيح وأعضاء كل بمقدار، ومكانة كنيستنا في تاريخ البشر أنها أذعنت لله وسعت لتطبيق مشيئته، وطلبت من المؤمنين إيمانا وعملا في آن واحد.
والكنيسة تتألف من عنصرين؛ إلهي وبشري، من الحقيقة الإلهية المعطاة لها ومن سعيها البشري لتنفيذ المشيئة، وقد يسهو البعض عن أن النعمة الإلهية لا تقسر الناس قسرا، وإنما تعمل فيهم عمل النور في الهواء، فتخترق نفوسهم لتعطيهم حرارة وإشعاعا، ونحن أعضاء هذه الكنيسة الجامعة بشر، وكبشر نستبق التطور أحيانا، فنلجأ إلى الإكراه والقسر، وإكليروسنا قد يستكن أو يتحرك، فبينما يستكن الإكليروس الشرقي في بعض الأحيان، يتحرك الغربي أحيانا إلى أن يمسي متهجما صلفا؛ وهكذا فإنه نشأ - على ممر العصور - شيء من الاختلاف في تطبيق العقائد الواحدة، ولم يخل حقل الرب في فرعيه الغربي والشرقي من الزوان من حب السيطرة والمجد الفارغ، ومن الطمع والحسد وسوء الظن والحقد، فكان انشقاق مؤلم مخيف.
ويتوجب على المؤمنين والحالة هذه، أن يصلوا بحرارة لأجل زوال هذا الشقاق، وأن يبتهلوا بقلب منكسر ونفس منسحقة لأجل التقارب والوحدة، وألا ينسوا قول الذهبي الفم: «إن الذي يشق كنيسة الله يعمل عملا أفظع من إنكار الإيمان؛ لأن الذي ينكر الإيمان يهلك نفسا واحدة، وأما الذي يشق الكنيسة فإنه يهلك نفوسا كثيرة.» وعلى كل مؤمن أن يلاحظ هؤلاء الذين يحدثون الشكوك والشقاق، وأن يعرض عنهم؛ لأنهم على حد قول بولس الرسول: «لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم.»
وإذا ما صلينا وابتهلنا لوحدة الصفوف، فإنما نفعل ذلك لأجل متابعة العمل في حقل الرب بعد جمود دام طويلا، وحقل الرب واسع جدا يشمل العالم بأسره، والعمل فيه لا يثمر إلا إذا اقترن بظروف صالحة معينة، وأهم هذه الظروف التجدد الداخلي الذي يتحلى بإنكار الذات، وإنكار الذات يبدأ باعتراف داخلي بالعيوب وعدم الوصول إلى الكمال، ويفرض تنازلا حقيقيا عما نسميه كرامة شخصية، وهو يتطلب استعدادا للتعاون مع الغير في سبيل مبدأ صحيح عام كلي المفعول؛ والمبادئ الأدبية الروحية كثيرة لا يخلو منها فؤاد، ولكن المقصود هنا هي تلك التي يعترف جمهور المؤمنين بصحتها، وتوجب الكنيسة الجامعة تطبيقها، وإذا كان الشرقيون منا قد أخطئوا في مجرد التمادي في التأمل والتعبد والمحافظة على قدسية الإيمان والوقوف عند هذا القدر، فالغربيون منا أخطئوا أيضا في التشديد على نواح معينة من العمل وإعطائها المرتبة الأولى؛ وهكذا فإنه يحق للأرثوذكسي الشرقي أن يفاخر بشدة حرصه على استقامة الإيمان، ولكنه ينسى في بعض الأحيان قول الرسول بولس: «ولو كانت لي النبوة، وكنت أعلم جميع الأسرار والعلم كله، ولو كان لي الإيمان كله حتى لأنقل الجبال، ولم تكن في المحبة؛ فلست بشيء!» ويحق للكاثوليكي أن يفاخر بدوره بأعماله الكثيرة، ولكنه ينسى في بعض الأحيان قول هذا الرسول نفسه: «ولو بذلت جميع أموالي إحسانا، ولو أسلمت جسدي لأحرق، ولم تكن في المحبة؛ فلا أنتفع شيئا!» والواقع أن عيب الكاثوليكيين والأرثوذكسيين كان ولا يزال منذ الانشقاق إغفال المحبة. «والمحبة تتأنى وترفق ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ ولا تأتي قباحة، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد ولا تظن السوء، ولا تفرح بالظلم بل بالحق، تتغاضى عن كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء ، وتصبر على كل شيء!» •••
وقد أزمن الداء وتعسر برؤه، ولكنه ليس من النوع الذي لا ينجع فيه دواء، ورأينا أن نبتعد عن سياسة القسر والإكراه، فلا نستغل ظرفا سياسيا، ولا نستعين بسلطة زمنية مسيطرة، فقد جربنا هذا النوع من العلاج مرارا وتكرارا؛ فأخفقنا وتباعدنا.
وعلينا أيضا أن نقلع عن التشويق إلى طقس معين، أرثوذكسيا كان أم كاثوليكيا؛ فكنيسة المسيح غربية وشرقية في آن واحد، ويجب أن تظل هكذا؛ لأن السيد المخلص إله كامل في إنسان كامل، ولأن هذه الصفة الشاملة التي تضم الشرق والغرب صفة لازمة للكنيسة على ممر العصور، وكفانا نحن الاثنين - إلى أن يتم اتحادنا - أن هيرارخيتينا رسوليتان، وأن دستور إيماننا إلهي بشري واحد لا غش فيه، وأننا نمارس أسرارا إلهية مقدسة واحدة، تنشئ فينا بنعمة الله عندما نصبح مستعدين، ظرفا روحيا طاهرا يتطلب الاتحاد.
وإذا ما تمت هذه المهادنة بيسوع وله وتابعنا الصلاة المخلصة الحارة، «من أجل ثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الجميع»، زال من نفوسنا مركب الشقاق والانشقاق، وحل محله مركب المحبة، وعندئذ نجلس معا ونتبادل الرأي بإلهام الروح القدس إلى ما فيه مشيئة الله وخير البشر. •••
وكنيستنا الأنطاكية يونانية سريانية عربية؛ فقد كانت يونانية برجالها في المدن، وبفكرها ولغتها وطقوسها، وكانت سريانية وعربية بشعبها في القرى والأرياف، ولا يخفى أن الأرياف السورية اللبنانية الفلسطينية الأردنية استعربت قبل الفتح الإسلامي بتسعمائة سنة، وأن السريانية تقلصت تدريجيا، فانحصرت في القرى والمدن، ثم في التلال النائية في لبنان والقلمون مثلا، وأخبار العرب والعروبة ثابتة في المراجع الهلينية، وفي سفر الأعمال، وفي أخبار القديسين ولا سيما أفثيميوس العظيم (377-473) وسمعان العمودي (390-460).
ولا نرى مبررا للضجة التي يثيرها بعض إخواننا من رجال الكنائس السريانية، كلما وجدوا مخطوطة من مخطوطات كنائسنا الأرثوذكسية مكتوبة باللغة السريانية؛ فمجرد العثور على هذه المخطوطات لا يجيز الاستنتاج أن كنيسة أنطاكية كانت سريانية بلغتها وطقوسها ثم تهلنت؛ فالواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن هذه الكنيسة التي نتشرف بالانتماء إليها جمعت في جميع عصورها يونانيين وسريانيين وعربا، وأن لغتها الرسمية وطقوسها وقوانينها وثقافتها كانت يونانية قبل أن تكون سريانية أو عربية.
وقد يفيد أن نذكر إخواننا السريانيين أن مثل اجتهادهم هذا لا يصح إلا في أحوال منطقية معينة؛ فلا بد من كلية معترف بصحتها، كأن نقول مثلا إن اللغة التي كتب بها كتاب كنسي هي وحدها لغة الكنيسة التي استعملت هذا الكتاب. ولا بد من جزئية صحيحة أيضا، كأن يقال إن هذا السواعي الأرثوذكسي كتب بهذه اللغة؛ فتلزم النتيجة بطبيعة الحال، فكل ما صدق على حد صدق على كل ما يصدق عليه ذلك الحد إيجابا وسلبا، وأنى لنا أن تكون هذه الكلية صحيحة! وكنيستنا الأرثوذكسية كانت ولا تزال تعمل بوصية الرسول، فتجعل الصلاة بلغة يفهمها الشعب، وقد رأينا بأم عيننا كتابا طقسيا أرثوذكسيا يعود إلى السنة 1680 مكتوبا باللغة الثلاث معا: اليونانية والعربية والسريانية، وإذا جاز استنتاج إخواننا، فماذا نقول عن اللغة الكرجية في كنائس فلسطين؟ فالرقوق الكنسية الكرجية والكتب القديمة الكرجية كثيرة في ديري المصلبة والقديس سابا. •••
وندرس ماضي كنيستنا لفهم حاضرها وإعداد العدة لمستقبلها، ولا سبيل لفهم الحاضر فهما تاما كاملا شاملا إلا بالطريقة العلمية المثلى، والطريقة العلمية المثلى تستوجب جمع جميع مخلفات الآباء، بالإضافة إلى الأناجيل الطاهرة والرسائل المقدسة وفهمها فهما دقيقا كاملا؛ وفهم هذه المخلفات فهما علميا كاملا يوجب التذرع بما يسميه المؤرخون العلوم الموصلة، والعلوم الموصلة لتاريخ كنيستنا تشمل إجادة اللغات التي كتبت بها الأناجيل والرسائل ومخلفات الآباء، وهي بترتيب أهميتها: اليونانية واللاتينية والسريانية والعربية، ولما كان لا بد من الاطلاع على أبحاث المؤرخين الزملاء، وجب علينا أن نجيد الألمانية والإفرنسية والروسية والإنكليزية وغيرها.
وقد جمعت مخلفات الآباء ونشرت بنصوصها الأصلية، ونقلت إلى اللاتينية وبعض اللغات الحديثة، وأكمل هذه المجموعات مجموعة الأب جاك بول مين الإفرنسي (1800-1875)؛ فإنه أصدر ما بين السنة 1844 والسنة 1855 أكثر من مائتي مجلد، شملت مخلفات الآباء اللاتينيين حتى السنة 1216،
1
ثم نشر ما بين السنة 1857 والسنة 1866 مائة وواحدا وستين مجلدا من مخلفات الآباء اليونانيين حتى السنة 1439.
2
ويعنى الآباء البنديكتيون في بلجيكة بجمع نصوص الآباء، ومقررات المجامع، وسير القديسين، والنقوش الكتابية المسيحية؛ لنشرها نشرا علميا في سلاسل ثلاث لاتينية ويونانية وشرقية،
3
وقد ظهر مجلد في برنامج هذا المشروع العظيم في السنة 1951،
4
وظهر بعده في السنة 1953 الجزء الأول من المجلد الأول، وتعاونت أكاديمية برلين مع أكاديمية فينة في نشر نصوص الآباء نشرا دقيقا كاملا، فنشرت برلين منذ السنة 1897 ثلاثة وأربعين مجلدا من النصوص اليونانية،
5
ونشرت فينة ثلاثة وسبعين مجلدا من النصوص اللاتينية،
6
وكرس شابو وغويدي وهيبرنا وكراديفو وفورجي أوقاتهم لنشر النصوص التي جاءت باللغات الشرقية، فنشروا منذ السنة 1903 مائة وسبعة وأربعين مجلدا في سلاسل أربع سريانية وقبطية وعربية وحبشية،
7
ونشر غرافان ونو منذ السنة 1907 سبعة وعشرين مجلدا من النصوص الشرقية،
8
وهنالك مقررات المجامع المسكونية والمحلية، وقد نشرها دومينيكوس منسي ما بين السنة 1759 والسنة 1798 في فينة في واحد وثلاثين مجلدا،
9
وقام بعده العلامة الألماني شفارتز فبدأ في السنة 1914 بنشر أعمال المجامع المسكونية نشرا عمليا دقيقا،
10
ولا بد من التنويه هنا بفضل المونسنيور دوشان لعنايته بالمناشير الباباوية، وفضل الأب غرومل لاهتمامه بمحفوظات البطريركية المسكونية.
11
وينتقل المؤرخ المدقق في المرحلة الثانية من عمله إلى نقد هذه المراجع الأولية؛ ليتثبت من أصالتها وعدم تزويرها أو الدس فيها، ويعين تاريخها ومكان تدوينها، ثم يتحرى نصوصها، فيجيء بلفظها الأصلي، ويتذرع بالعلوم الموصلة إلى فهم ظاهرها وباطنها، ثم يدقق في أخبار رواتها، فيتعرف إلى أحوالهم ويتوصل إلى تقدير عدالتهم وضبطهم، فيتمكن من المفاضلة بينهم، ويعين درجات متانة رواياتهم، فيجعلهم ثلاثة: راو لا تقبل روايته، وآخر ضعيف الرواية مجهول المكانة، وثالث هو أولاهم في انتباهه، ولكنه على هذا يظل موضوعا للنظر والاختبار، ولا يصل المؤرخ في هذا النقد كله إلى نتيجة إيجابية يمكنه الاعتماد عليها للتثبت من حقيقة الماضي، ولا يقطع في شيء سوى أمر واحد هو إسقاط رواية من لا يعتمد عليه.
وأفضل ما يرجع إليه في نقد المراجع لتاريخ الكنيسة في القرون الأولى مصنفات هرناك وبوخ ولابريول وبومشتارك وشابو،
12
ولا يستغنى في معالجة مراجع العصور الوسطى اليونانية عن مصنفي العلامة الألماني كارل كرومباخر،
13
وفي معالجة المراجع اليونانية الحديثة عن كتاب ثيودوري بابادوبولو.
14
وتجيء المرحلة الثالثة في التأريخ، وهي دور إثبات الحقائق المفردة، فيتابع المؤرخ البحث والتنقيب للوصول إلى طمأنينة العقل وسلامة الاستنتاج؛ فيبتعد أولا عن الروايات التي انفرد بها راو واحد، فإذا كانت العلوم الطبيعية تتطلب المشاهدة والاستدلال القياسي والتحقيق بالمقابلة والتجربة؛ فتبتعد كل الابتعاد عن الإطلاق في النتيجة من مشاهدة واحدة، فالتأريخ أولى بذلك منها؛ لأنه بعيد عن المشاهدة، ضعيف الاستدلال بالقياس، عديم التجربة؛ فحري بنا أن نبتعد عن كل رواية تاريخية انفرد بها راو واحد، فإذا قضت الظروف بتدوينها، فعلينا أن نصرح بأنها فريدة في بابها، وقد تتعدد الروايات التاريخية في أمر واحد فتتوافق أو تتناقض، وحيث تتناقض يجب على المؤرخ أن يترفع عن اتخاذ موقف وسط بين الطرفين، فإذا ما وقع مثلا على أصل من الأصول فيه أن عدد الشهداء كان أربعمائة، وآخر فيه أنهم كانوا مائتين؛ فإنه من الخطأ الفاضح أن يوفق بين الطرفين، فيزعم أن العدد الحقيقي كان وسطا بين الطرفين أي ثلاثمائة، فإذا جعل أحدهم حاصل الرقمين 2 × 2 أربعة، وجعل الآخر الحاصل ستة، فهل يقال إن الحاصل الحقيقي لا هذا ولا ذاك، بل هو خمسة؟! وعلى المؤرخ أن يعيد النظر لعله يكشف الستار عن عيب في إحدى الروايتين لم يتنبه إليه أولا، أو لعله يجد ما يجعله يثق بالواحدة أكثر من الأخرى، فيسقط ما قلت ثقته فيه ويرجح القول الآخر.
وعليه أن يمتنع عن الحكم إذا عم الشك وبانت قلة الثقة؛ فليس هنالك ما يضطره لإبداء رأيه وإصدار حكمه، والعالم من يعلم أنه لا يعلم، والشك في الإيمان قبل اليقين، وشدة الانطباق بين الروايات المختلفة توجب الشك لا الثقة، وهنالك تآلف بين الحقائق التاريخية لا بد من الالتفات إليه، والاستعارة هنا من فن الموسيقى، فكما تتآلف الألحان فتؤلف مجموعا شائقا، كذلك الروايات التاريخية المختلفة، فإنها إذا ما عبرت عن الحقيقة الراهنة، تتآلف بعضها مع بعض، فتتناصر على البطل وتلمع لمعان الحق .
وقد تتوفر الحقائق المفردة في ناحية، وتعدم في الناحية الأخرى، فيجتهد المؤرخ في تلافي ما قد يقع من فراغ ويتذرع بالمنطق، فيعمل أحيانا بما نسميه الاجتهاد السلبي، وأحيانا أخرى بالاجتهاد الإيجابي؛ والاجتهاد السلبي هو ما عبر عنه المناطقة بقولهم: «السكوت حجة.» ومعناه أن يتمكن المؤرخ من القول بأن كذا وكذا حدث أو لم يحدث؛ لأن الأصول ساكتة خالية، وهو أمر خطر للغاية، فقد يكون السكوت حجة وقد لا يكون، ولا بد من التثبت من أمور ثلاثة قبل التذرع بمثل هذه الحجة، وهي أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر اطلاعه على جميع الأصول، وألا يعتريه شك في أن ما لديه من هذه المراجع الأولية هو جميع ما دونه السلف في الموضوع الذي يبحث، وأنه لم يضع منها شيء، وثالثا أن يتأكد من استحالة سكوت الأصول عن الموضوع الذي يبحث؛ وهكذا فإن حجة السكوت لا تتم إلا إذا اقترن بالراوي حالتان لا تنفصلان: أولاهما أن تكون الوقائع التي يمكن أن يكون قد سكت عنها وقائع يهتم بها اهتماما شديدا، والثانية أن يكون الراوي قد صمم على تدوين جميع الأخبار التي أحاط علما بها.
وسيتضح في تضاعيف هذا الكتاب أن بعض علماء الأوساط البروتستانتية وبعض علماء الكنيسة الكاثوليكية الغربية، لم يتقيدوا في بعض أبحاثهم بقواعد علم المصطلح؛ فدونوا استنتاجات من هذا النوع لا يقرها المنطق.
وهنالك محاولات في بعض المصنفات الغربية للحط من قدر رجالات الكنائس الأرثوذكسية، وللمبالغة في الاختلافات التي نشأت بين بعض كنائسنا، وهي أمور لا تخفى على كل ذي بصر.
وبعد هذا القدر كله من التحذير نوصي وننصح بمطالعة المصنفات التالية، أولا الموسوعة والقواميس العامة: قاموس الدومين كابرول ولكلرك في الليتورجية والآثار المسيحية،
15
وقاموس بودريار وفوغت وروزيس في تاريخ الكنيسة وجغرافيتها،
16
وقاموس فاكان ومانغينو وأمان في اللاهوت الكاثوليكي،
17
وقاموس آليس في الإيمان والدفاع عنه،
18
وموسوعة هوك الفنية البروتستانتية في اللاهوت والكنيسة،
19
ومصنف غونكل وزشرنك في الدين في الماضي والحاضر،
20
وموسوعة هايستنغس في الدين والفلسفة الأدبية،
21
ولا يخفى أن أهمية المقالات في الموسوعات والقواميس العامة تختلف باختلاف كتابها.
ثانيا التواريخ العامة: ولا يستغني باحث في تاريخ الكنيسة عن الاطلاع على كتابي هرنك ولوفس في تاريخ العقيدة،
22
ويجب الرجوع من آن إلى آخر إلى مصنف تيكسيرون في الموضوع نفسه،
23
وأفضل خلاصة لموقفنا من مشاكل العقيدة كتاب فلاديمير لوسكي،
24
ورسالة المطران سيرافيم،
25
وكتاب الأنوار في الأسرار للمطران جراسيموس، وقد يفيد الرجوع إلى كتاب للعلامة مالتزيف للمقابلة والمقارنة بين العقيدة الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية.
26
ولا تزال مجلدات العلامة تيلمون الستة عشر على علاتها مرجعا مفيدا من حيث إحاطتها ووفرة وثائقها،
27
ولا بد من الاطلاع على عمل المونسنيور دوشان للمدة نفسها
28
وكتاب الأب بارغوار في تاريخ الكنيسة البيزنطية من السنة 527 حتى السنة 847،
29
ومصنف ماسبيرو في بطاركة الإسكندرية،
30
وكتاب ليبيديف العالم الروسي في انفصال الكنائس في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر،
31
ومؤلفي لويس براهيه في الكنيسة والشرق وفي الانشقاق،
32
وكتاب ذيميتراكوبولو في العالم اليوناني الأرثوذكسي،
33
ومصنف دوسيثيوس في بطريركية أوروشليم،
34
وكتاب ذيوميذس كيرياكوس في تاريخ الكنيسة الشرقية من السنة 1483 حتى السنة 1898،
35
وأفضل ما ظهر في الغرب في هذا الباب، باب التواريخ العامة، مجموعة فليش ومارتان في تاريخ الكنيسة، ومجموعة هيفيلي في تاريخ المجامع.
36
وأفضل ما جاء في تاريخ كنيسة أنطاكية كتاب الطيب الذكر خريسوستوموس (بابا ذوبولوس) رئيس أساقفة أثينة وبلاد اليونان، فإنه بعد أن صنف في تاريخ كنيسة أوروشليم وكنيسة الإسكندرية وكنيسة القسطنطينية، أتحف الأرثوذكسيين بكتاب جليل في تاريخ كنيسة أنطاكية، وإننا ننتظر بفارغ الصبر المجلد الثالث والعشرين من مجموعة فليش ومارتن في تاريخ الكنائس «المنفصلة».
وهنالك مئات من الأبحاث في مواضيع خصوصية محدودة في اللغات الألمانية والإفرنسية والروسية والإنكليزية والإيطالية واليونانية، أشرنا إليها في محلاتها إشارات واضحة تامة تعاون على الرجوع إليها عند الحاجة.
وقد لقيت في شخص كل من حضرات الآباء: أغناطيوس (هزيم)، وجاورجيوس (خضر)، واسبيريدون (خوري) غيرة واندفاعا وتضحية، ولولا جهود السيد أندره جحا وغيرته الأرثوذكسية ونشاطه الذي لا يعرف الكلل، واهتمام غيره من شباب الحركة الأرثوذكسية المباركة، لما تم طبع هذا الكتاب في هذا الوقت القصير.
عن الشوير ورأس بيروت
في يوم تذكار القديس الأنطاكي
يوحنا الذهبي الفم
13 تشرين الثاني سنة 1958
أسد رستم
لقد بزغت النعمة من فمك فأنارت المسكونة،
فتشفع إلى الكلمة المسيح الإله في خلاص نفوسنا.
الباب الأول
ظهور النصرانية وانتشارها
30-313
الفصل الأول
كنيسة أوروشليم أم الكنائس
منذ الصلب حتى حلول الروح القدس
وأسلم السيد الروح معلقا على الصليب يوم الجمعة، فيما يعادل في حسابنا السابع من نيسان من السنة 30 بعد الميلاد،
1
وأنزل يوسف الذي من الرامة جسد السيد، ولفه في كتان ووضعه في قبر منحوت لم يكن قد وضع فيه أحد، وكان قد أخذ السبت يلوح، وكانت النساء اللواتي أتين مع السيد من الجليل يتبعن، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده، فرجعن وأعددن حنوطا وأطيابا، وفي أول الأسبوع باكرا جدا أتين إلى القبر يحملن الحنوط، فوجدن الحجر مدحرجا، فدخلن فلم يجدن جسد الرب، فإذا برجلين بلباس براق يقولان لهن إنه ليس ها هنا لكنه قد قام، اذكرن كيف كلمكن وهو في الجليل إذ قال: ينبغي لابن البشر أن يسلم إلى أيدي أناس خطأة، ويصلب ويقوم في اليوم الثالث. فذكرن كلامه ورجعن من القبر، وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين، وهؤلاء اللواتي أخبرن الرسل هن: مريم المجدلية، وحنة، ومريم أم يعقوب، وأخر معهن، فقام بطرس وأسرع إلى القبر، وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة، فانصرف متعجبا، وكان اثنان في ذلك اليوم سائرين إلى عمواس، وكانا يتحادثان في هذا كله، فدنا السيد منهما وسار معهما واشترك في حديثهما، فقال: يا قليلي الفهم وبطيئي الإيمان، أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم، ثم يدخل إلى مجده.
فلما اقتربوا من القرية دخل يسوع ليمكث معهما، ولما اتكأ أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما، فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أوروشليم، فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين، وهم يقولون: لقد قام الرب وتراءى لسمعان. فأخذا يخبران بما حدث، وبينما هم يتحدثون وقف يسوع في وسطهم، وقال: السلام لكم أنا هو لا تخافوا . وقال: ينبغي للمسيح أن يتألم، وأن يقوم في اليوم الثالث من بين الأموات، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا في جميع الأمم ابتداء من أوروشليم، وأنا أرسل إليكم موعد أبي، فامكثوا أنتم في المدينة إلى أن تلبسوا قوة من العلاء. ثم خرج بهم إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم، وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أوروشليم بفرح عظيم، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون الله ويباركونه.
2
يوم العنصرة
والعنصرة كلمة عبرانية معناها اجتماع أو محفل، وعيد العنصرة عند اليهود هو عيد الشكر، وعيد تذكار قبولهم الشريعة في طور سينا على يد موسى.
3
وعيد العنصرة عند النصارى هو عيد تذكار حلول الروح القدس على التلاميذ، وهو بعد عيد الفصح بخمسين يوما؛ ولذا يسمى باليونانية بنتيكوستي
.
وعاد الرسل إلى أوروشليم، وواظبوا على الصلاة بنفس واحدة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته، وكان عدد «الإخوة» جميعا نحو مائة وعشرين، فطلب إليهم بطرس أن ينتخبوا من الرجال الذين رافقوا يسوع منذ معمودية يوحنا، رجلا يحل محل يهوذا الذي علق نفسه فانشنق، فقدموا اثنين: يوسف البار المسمى برسابا، ومتيا؛ وصلوا وقالوا: أيها الرب العارف قلوب الجميع، أظهر أي هذين اخترت لكي يستخلف في الخدمة والرسالة التي سقط عنها يهوذا، ثم ألقوا القرعة فوقعت على متيا، فأحصي مع الرسل الأحد عشر.
4
ولما حل يوم الخمسين بعد القيامة كانوا كلهم معا في مكان واحد، فحدث بغتة صوت من السماء كصوت ريح شديدة، وملأ كل البيت الذي كانوا جالسين فيه، وظهرت ألسنة منقسمة كأنها من نار، فاستقرت على كل واحد منهم، فامتلئوا كلهم من الروح القدس، وطفقوا يتكلمون بلغات أخرى؛ وكان في أوروشليم رجال من اليهود أتقياء من كل أمة تحت السماء من البرتيين، والماديين، والعيلاميين، وسكان ما بين النهرين، واليهودية، وقبدوقية، والبونط، وآسية، وفريجية، وبمفيلية، ومصر، وليبية، والغرباء من رومة، واليهود الدخلاء، والكريتيين، والعرب؛ وكانوا كلهم مندهشين متحيرين، يقول بعضهم: ما عسى أن يكون هذا؟ ويقول آخرون مستهزئين: إنهم قد امتلئوا سلافة. فقال بطرس إلى اليهود: فليعلم يقينا جميع آل إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه ربا ومسيحا. وقال إلى الإخوة: فيسوع هذا قد أقامه الله ونحن كلنا شهود، وإذا كان قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الموعد بالروح القدس أفاض هذا الروح الذي تنظرون وتسمعون. فلما سمع اليهود نخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟ فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة الخطايا، فتنالوا موهبة الروح القدس. فالذين قبلوا كلامه اعتمدوا، فانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس، وكانوا مواظبين على تعاليم الرسل والشركة في كسر الخبز والصلوات.
أم الكنائس
وكان جميع المؤمنين معا، كان كل شيء مشتركا بينهم، وكانوا يبيعون أملاكهم وأمتعتهم، ويوزعونها على الجميع على حسب حاجة كل واحد، وكانوا يلازمون الهيكل كل يوم بنفس واحدة، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بابتهاج ونقاوة قلب، مسبحين الله ونائلين حظوة لدى جميع الشعب، وكان الرب كل يوم يضم الذين يخلصون إلى الكنيسة.
5
ثم صعد بطرس ويوحنا إلى الهيكل معا لصلاة الساعة التاسعة، وكان رجل أعرج من بطن أمه يحمل، وكان يوضع كل يوم عند باب الهيكل ليسأل صدقة، فلما رأى بطرس ويوحنا سألهما صدقة، فتفرس فيه بطرس مع يوحنا، وقال: ليس لي فضة ولا ذهب، ولكني أعطيك ما عندي باسم يسوع المسيح الناصري، قم وامش. وأمسكه بيده وأنهضه، فوثب وقام وطفق يمشي ودخل معهما إلى الهيكل وهو يمشي ويسبح، فتبادر إليهم الشعب وهم منذهلون، فوعظ بطرس قائلا: ما بالكم متعجبين من هذا؟ ولماذا تتفرسون فينا كأننا بقوتنا وتقوانا جعلنا هذا يمشي؟ إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب قد مجد فتاه يسوع الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه، وقد حكم هو بإطلاقه.
6
وإن كثيرين من الذين سمعوا آمنوا، فصار عدد الرجال خمسة آلاف.
وفي الغد اجتمع في أوروشليم رؤساء اليهود والشيوخ والكتبة وحنان رئيس الكهنة وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة، وكانوا قد أمروا بحبس بطرس ويوحنا ، فلما اكتمل الجمع أقاموا بطرس ويوحنا في الوسط، وسألوهما: بأي قوة صنعتما هذا؟ فأجاب بطرس: باسم يسوع المسيح الناصري، الذي أقامه الله من بين الأموات بذاك وقف هذا أمامكم متعافيا. فلما رأوا جرأة بطرس ويوحنا، ونظروا الرجل الذي شفي واقفا معهما، لم يكن لهم شيء يقولونه، فتهددوهما ألا يكلما أحدا من الناس بهذا الاسم، فأجاب بطرس ويوحنا، وقالا لهم: احكموا أنتم ما العدل أمام الله؛ أن نسمع لكم أم نسمع لله؟ فإنا لا نقدر ألا نتكلم بما عاينا وسمعنا. فهددوهما وصرفوهما، فصلى المؤمنون أن يهبهم الله أن ينادوا بكلمته بكل جرأة، وباع يوسف اللاوي القبرصي الأصل - الذي لقبه الرسل برنابا، الذي تفسيره: ابن العزاء - حقله وأتى بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل.
7
وكان المؤمنون بالرب يأخذون في الازدياد جماعات من الرجال والنساء، وجرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة.
8
وامتلأ رئيس الكهنة ومن معه غيرة، وألقوا أيديهم على الرسل وجعلوهم في الحبس، ففتح ملاك الرب أبواب السجن وأخرجهم، وقال: «كلموا الشعب بجميع كلمات تلك الحياة.» فلما كان الفجر ذهب الرسل إلى الهيكل وطفقوا يعلمون، ثم التأم محفل اليهود وأنفذوا إلى السجن ليحضروا الرسل، فجاء رجال الشرطة ولم يجدوهم، فعادوا وأخبروا أن السجن مقفل، وأنهم لم يجدوا أحدا في الداخل؛ فتحير أعضاء المحفل، ثم علموا أن الرسل في الهيكل يعلمون الشعب، فانطلق الوالي مع الشرطة وأحضر الرسل، فسألهم رئيس الكهنة: قد أمرناكم أمرا ألا تعلموا بهذا الاسم. فأجاب بطرس والرسل: إن الله أحق من الناس بأن يطاع! فتشاور الأعضاء في قتلهم، فنهض أحدهم غملائيل وأمر بأن يخرج الرسل قليلا، ثم قال: اعدلوا عن هؤلاء الرجال واتركوهم؛ لأنه إن كان هذا الرأي من الناس فسوف ينتقض، وإن كان من الله فلا تستطيعون نقضه. فارتضوا برأيه ودعوا الرسل وجلدوهم، وأمروهم ألا يتكلموا باسم يسوع ثم أطلقوهم، فخرج الرسل فرحين بأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا لأجل اسم يسوع، وعادوا إلى التعليم والتبشير في الهيكل وفي البيوت.
9
بداية التنظيم
ولما تكاثر التلاميذ حدث تذمر من اليونانيين على العبرانيين بأن أراملهم كن يهملن في الخدمة اليومية، فدعا الاثنا عشر جمهور التلاميذ وقالوا: لا يحسن أن نترك كلمة الله ونخدم الموائد؛ فاختاروا أيها الإخوة سبعة رجال منكم يشهد لهم بالفضل، قد ملأهم الروح والحكمة، فنقيمهم على هذه الحاجة، ونحن نواظب على الصلاة وخدمة الكلمة، فاختار الجمهور إسطفانوس وفيليبوس وبروكوروس ونيقانوروس وطيمون وبرمناس ونيقولاوس دخيلا أنطاكيا، وأقاموهم أمام الرسل فصلوا ووضعوا عليهم الأيدي،
10
وهؤلاء هم الشمامسة، وهنالك إشارات في مواضع أخرى من هذا السفر نفسه؛ أي سفر الأعمال، إلى ال
.
11
وهؤلاء هم الشيوخ المقدمون أعوان الرسل في الخدمة الروحية؛ وهكذا فتكون أم الكنائس قد انتظمت منذ أوائل عهدها برسل يقودون، وشيوخ يدبرون، وشمامسة يخدمون، وتلامذة وإخوة مؤمنين، وكان أنفذ الرسل كلمة بطرس ويعقوب أخو الرب.
أول الشهداء (36-37)
وكانت كلمة الله تنمو وعدد التلاميذ يتكاثر في أوروشليم جدا، وكان جمع كثير من الكهنة اليهود يطيعون الإيمان، وكان إسطفانوس الشماس مملوءا نعمة وقوة، وكان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب، فنهض قوم من اليهود الغرباء يباحثون إسطفانوس، فلم يستطيعوا أن يقاوموا الحكمة والروح؛ حينئذ دسوا رجالا يقولون: إنا سمعناه يجدف على موسى وعلى الله. فهيجوا الشعب والشيوخ والكتبة، فنهضوا جميعا واختطفوه وأتوا به إلى المحفل، وأقاموا شهود زور يقولون: إن هذا الرجل لا يزال ينطق بكلمات تجديف على المكان المقدس والناموس، فإنا سمعناه يقول إن يسوع الناصري سينقض هذا المكان، ويبدل السنن التي سلمها إلينا موسى. فقال رئيس الكهنة: هل هذه الأمور هكذا؟ فقال إسطفانوس قولا طويلا في تاريخ إسرائيل، ثم اختتم كلامه بالعبارات التالية: «يا قساة الرقاب وغير المختونين في قلوبكم وآذانكم، إنكم في كل حين تقاومون الروح القدس، كما كان آباؤكم كذلك أنتم، أي نبي من الأنبياء لم يضطهده آباؤكم! أنتم الذين تسلمتم الناموس بترتيب الملائكة ولم تحفظوه.» ثم أردف فقال: «ها أنا ذا أرى السموات مفتوحة، وابن البشر قائما عن يمين الله.» فصرخوا وهجموا عليه وطرحوه خارج المدينة ورجموه، وكان هو يقول: أيها الرب يسوع اقبل روحي . ثم جثا وصرخ: يا رب لا تقم عليهم هذه الخطيئة. ثم رقد في الرب.
12
اضطهاد وتبدد
وحدث اضطهاد شديد من اليهود على أم الكنائس، وكان بين المتلفين فيها شاب يهودي من طرسوس يدعى شاوول، وكان هذا قد أم أوروشليم ليدرس الشريعة على غملائيل المعلم الكبير، فدفعته عاطفته الشديدة إلى الاشتراك في إتلاف الكنيسة، فطالب برجم إسطفانوس وشهد الرجم مشجعا، وعاد مملوءا نقمة، فدخل بيوت المؤمنين بيتا بيتا، وجر الرجال والنساء وسلمهم إلى السجن، ثم أقبل إلى رئيس الكهنة، وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى المجامع، حتى إذا وجد أناسا من هذه الطريقة رجالا أو نساء يسوقهم موثقين إلى أوروشليم.
13
وكان من جراء هذا الاضطهاد أن تبدد المؤمنون في اليهودية والسامرة «ما عدا الرسل»، فانحدر فيليبوس أحد الشمامسة إلى السامرة، وكرز بالمسيح، فاعتمد كثيرون رجالا ونساء، وانحدر إليهم بطرس ويوحنا، فوضعا أيديهما عليهم، فنالوا الروح القدس؛ ثم انطلق فيليبوس نحو الجنوب، وسلك الطريق بين أوروشليم وغزة، فتقبل النعمة على يده رجل حبشي خصي ذو منزلة عظيمة عند كنداكة ملكة الحبشة، وتابع فيليبوس التبشير فوجد نفسه في أشدود، ومن هناك جال مبشرا في جميع المدن إلى أن انتهى إلى قيصرية عاصمة فلسطين آنئذ.
14
شاوول بولس (36-37)
وقصد شاوول بعد مقتل إسطفانوس إلى دمشق برسالة من رئيس كهنة اليهود ليسيء إلى المؤمنين فيها، فظهر له يسوع في الطريق وهداه إلى الإيمان، وبعث به إلى التلميذ حنانيا في دمشق فعلمه ماذا يفعل، ونادى بولس باسم يسوع أولا في دمشق، ثم في بلاد العرب القريبة منها، ثم في أوروشليم، فالتمس اليهود اليونانيون قتله، فلما علم الإخوة بذلك أحضروه إلى قيصرية، ثم أرسلوه إلى طرسوس مسقط رأسه.
15
اللدة ويافة وقيصرية
وسارت الكنيسة في سلام في اليهودية والجليل والسامرة،
16
وكان بطرس يطوف في جميع الأطراف، فنزل إلى لدة فأبرأ إينياس، فرجع جميع الساكنين في لدة وشارون إلى الرب، وزار يافة فجثا على ركبتيه وصلى، ثم التفت إلى جثة طابيثة، وقال: قومي. ففتحت عينيها وقامت؛ فذاع الخبر في يافة فآمن كثيرون بالرب، وبقي مقيما في يافة أياما كثيرة عند سمعان الدباغ.
17
وكان في قيصرية عاصمة فلسطين قائد مائة اسمه كرنيليوس، وكان كرنيليوس تقيا يخشى الله هو وجميع أهل بيته، فرأى في رؤيا ملاك الله داخلا عليه، وقائلا: أرسل رجالا إلى يافة، واستحضر سمعان الملقب بطرس، فهذا يقول لك ماذا ينبغي أن تعمل. فجاءه بطرس وقال: «قد علمتم أنه حرام على رجل يهودي أن يخالط أجنبيا أو يدنو إليه، أما أنا فقد أراني الله ألا أقول عن أحد أنه بخس أو دنس، فالله لا يحابي الوجوه، ولكن في كل أمة من أتقاه وعمل البر، فإنه يكون مقبولا عنده، وأنتم قد علمتم كيف مسح الله بالروح القدس وبالقوة يسوع الناصري، وكيف قتله اليهود معلقين إياه على خشبة. هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطاه أن يظهر علانية لا للشعب كله، ولكن لشهود اصطفاهم الله من قبل، أي لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته، وقد أوصانا أن نكرز للشعب، ونشهد بأنه هو الذي عينه الله ديانا للأحياء والأموات، وكل من يؤمن به ينال مغفرة الخطايا.» وفيما كان يتكلم حل الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة، ثم أمر بطرس أن يعتمدوا باسم الرب.
18
وسمع الرسل والإخوة الذين في اليهودية أن الأمم أيضا قد قبلوا كلمة الله، فلما صعد بطرس إلى أوروشليم خاصمه الذين من أهل الختان قائلين: إنك دخلت عند رجال قلف وأكلت معهم. فشرح لهم بطرس ما جرى، وقال: بعد حلول الروح القدس على هؤلاء القلف تذكرت كلام الرب حيث قال: إن يوحنا عمد بالماء، وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس. فإن كان الله قد أعطاهم نظير الموهبة التي أعطانا نحن، فمن أنا حتى أستطيع أن أمنع الله؟ فلما سمعوا ذلك سكتوا ومجدوا الله.
19
ثاني الشهداء
وكان الإمبراطور كاليكيولا قد عطف في السنة 37 على نديمه هيرودوس أغريبة، فجعله ملكا وولاه على تترارخيتين في أقصى الشمال في فلسطين، ثم ولاه على الجليل وعلى بلة في شرقي الأردن وتوابعها، وفي السنة 41 بعد الميلاد وسع الإمبراطور كلوديوس صلاحيات هيرودوس، فولاه بالإضافة إلى ما تقدم على السامرة واليهودية، وكان هيرودوس قد اشتهر بتهتكه في أثناء إقامته في رومة وبعدها، فلما أصبح ملكا على جميع فلسطين، ودخلت أوروشليم في ملكه، أحب أن يتودد إلى رجال الدين ويسترضيهم، فشدد في السنة 43 على المؤمنين بيسوع، وألقى الأيدي على قوم من الكنيسة، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، ولما رأى أن ذلك يرضي اليهود عاد في ربيع السنة 44، فقبض على بطرس أيضا، وكانت أيام الفطير، فلما أمسكه جعله في السجن وفي عزمه أن يقدمه إلى الشعب بعد الفصح، وكانت الكنيسة تصلي من أجل بطرس بلا انقطاع، ولما أزمع هيرودوس أن يقدمه جاء ملاك الرب في الليل، وأيقظ بطرس وأخرجه من السجن، فتوجه بطرس إلى بيت مريم أم يوحنا الملقب مرقس؛ حيث كان قوم كثيرون مجتمعين يصلون، فلما فتحوا ورأوه دهشوا، فقص عليهم كيف أخرجه الرب من السجن، وقال: «أخبروا يعقوب والإخوة بهذا.» ثم خرج ومضى إلى موضع آخر.
20
أم المؤمنين
وكانت مريم أم يسوع قد نالت نعمة عند الله، فحل الروح القدس عليها وظللتها قوة العلي، فذهبت إلى مدينة يهوذا، ودخلت إلى بيت زكريا وسلمت على اليصابات؛ فعندما سمعت اليصابات سلامها ارتكض الجنين في بطنها وامتلأت من الروح القدس، فصاحت مباركة: أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك. من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي. فقالت مريم: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي، فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال؛ لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى أجيال وأجيال للذين يتقونه.
21
ثم ولدت الرب وأضجعته في مذود، فسبح جمهور من الجند السماويين قائلين: المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وللناس المسرة. فسمعت مريم بهذا «وحفظته كله وتفكرت به في قلبها»، ولما أتم يوسف ومريم كل شيء حسب الناموس، رجعا بيسوع إلى الناصرة، فكان الصبي ينمو ويتقوى ممتلئا حكمة، وكان أبواه يذهبان إلى أوروشليم كل سنة في عيد الفصح، فلما بلغ اثنتي عشرة سنة صعدا إلى أوروشليم ، ولما تمت الأيام عند رجوعهما بقي الصبي في أوروشليم، فطلباه فلم يجداه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا فيما بين المعلمين يسمعهم ويسألهم، فقالت أمه له: لم صنعت بنا هكذا؟ إننا كنا نطلبك متوجعين. فقال: إنه ينبغي لي أن أكون فيما هو لأبي. ثم نزل معهما إلى الناصرة، «وكانت أمه تحفظ ذلك الكلام كله في قلبها»،
22
ثم اعتمد يسوع، ولما ابتدأ في الوعظ والعمل كان له نحو ثلاثين سنة، وكان عرس في قانا الجليل، وكانت مريم هناك، فدعي يسوع وتلاميذه إلى العرس، وفرغت الخمر فاشتركت مريم في أداء الرسالة، فقالت ليسوع ليس عندهم خمر، فقال: لم تأت ساعتي بعد. فقالت للخدام: مهما يأمركم به فافعلوه. فحول يسوع الماء خمرا،
23
وكانت هذه أولى عجائبه، ورافقت مريم يسوع حتى ساعة موته على الصليب، فقد جاء في إنجيل يوحنا الحبيب أنها كانت واقفة عند صليب يسوع، وأن السيد قال لها مشيرا إلى الذي كان يحبه: «هو ذا ابنك.» وأنه قال لهذا: «هذه أمك.» وأن يوحنا أخذها من تلك الساعة إلى خاصته،
24
وبعد الوفاة وبعد أن قام السيد من بين الأموات واظبت مريم على الصلاة مع الرسل والتلاميذ.
25
ويرى بعض العلماء المتطرفين المتحذلقين في النقد أن السيدة العذراء لم تنتسب إلى أم الكنائس، وأنها لم تقم بأي دور فيها، وأن أم الكنائس لم تعر شخص العذراء أي اهتمام، وهم يستندون في رأيهم هذا إلى سكوت متى ومرقس عما جاء من أخبار العذراء في لوقا ويوحنا، ويرون أن متى يجعل من مريم العذراء شخصية سلبية، وأن مرقس يذهب إلى أبعد من هذا فيزجها في مرتبة إخوة الرب وأخواته في الجسد.
26
والإشارة هنا إلى ما جاء في الفصل الثالث من إنجيل مرقس إلى الآيات العشرين، والحادية والعشرين، والحادية والثلاثين، حتى الخامسة والثلاثين: «وسمع ذووه فخرجوا ليمسكوه؛ لأنهم قالوا إنه شارد العقل، وجاءت أمه وإخوته، ووقفوا خارجا، وأرسلوا إليه يدعونه، فقالوا له: إن أمك وإخوتك خارجا يطلبونك. فأجابهم: من أمي وإخوتي؟ ثم أدار نظره في الجالسين حوله وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي؛ لأن من يعمل مشيئة الله، ذاك أخي وأختي وأمي.»
ونحن نرى أن التضلع من اللاهوت لا يكفي وحده للتثبت من صحة الروايات في تاريخ الكنيسة ومن سلامة الاستنتاج، فهؤلاء الرجال وفي طليعتهم موريس غوغل، عميد كلية اللاهوت البروتستانتية في باريز، يجهلون فيما يظهر أبسط قواعد المصطلح؛ فلا يكون سكوت الأصول حجة إلا بشروط معينة، وهي أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر اطلاعه على جميع الأصول، وألا يعتريه شك في أن ما لديه من الأصول هو «جميع ما دونه السلف في الموضوع الذي يبحث»، وأنه «لم يضع مما دونه السلف شيء»؛ وعليه أن يتثبت من «استحالة» السكوت في الأصول عن الموضوع الذي يدرس، فقد تسكت الأصول عن أمور شتى تكون قد وقعت في الماضي.
ونحن علاوة عما تقدم لا نرى مبررا لاعتماد مرقس دون لوقا، فالاثنان دونا في عصر واحد وفي زمنين متقاربين جدا، وهناك ما يجعلنا نؤثر رواية لوقا من حيث الإحاطة على رواية مرقس؛ لأن لوقا توخى كتابة سيرة السيد لأجل المثقفين من الوثنيين، ويوحنا الحبيب اتخذ العذراء إلى خاصته منذ وفاة السيد، فهو والحالة هذه أقرب لفهمها والإحاطة بأخبارها من مرقس ومتى.
الفصل الثاني
حيث دعي المؤمنون مسيحيين أولا
34-44
أنطاكية
وكان سلوقوس الأول قد رصد النسر من الجبل الأقرع، فأنشأ حيث حل هذا النسر في الثالث والعشرين من نيسان سنة 300 قبل الميلاد مدينة سلوقية، ثم كفر وضحى في جبل سيلبيوس
Silpios ، ورصد النسر في أول أيار من تلك السنة، فأكمل بناء أنتيغونية، التي كان قد شرع مناظره أنتيغونوس
Antigonos
في بنائها على بعد قليل من موقع أنطاكية، ولاحظ سلوقوس بعد ذلك أن النسر حمل فريسته وأتى بها سفح سيلبيوس، فأمر بنقل المواد التي كانت قد استحضرت لبناء أنتيغونية إلى السهل عند سفح سيلبيوس؛ وفي الثاني والعشرين من شهر أرتميسيوس (أيار) من السنة 300، وعند بزوغ الشمس أسس عاصمة لملكه دعاها أنطاكية على اسم والده أنطيوخوس.
1
ورأى المؤرخ ديودوروس أن أنتيغونوس انتقى منحنى العاصي مركزا لعاصمته؛ ليكون في وسط يشرف منه على سير الأمور في ولايته الشرقية والغربية في آن واحد.
2
وجاء في جغرافية سترابون وفي خطب ليبانيوس أن أنطاكية جمعت في موقعها الجغرافي بين فوائد البحر والبر؛ فالبحر كان قريبا، والعاصي كان صالحا للملاحة بين أنطاكية والبحر،
3
ورغب سلوقوس وخلفاؤه في إنماء عاصمتهم هذه، فربطوها بستربية بابل بطريقين معبدتين؛ تسهيلا لنقل الجيوش، وتشويقا لانتقال التجار وتبادل السلع، وقالوا بتهلين الشرقيين من رعاياهم، فسهلوا لهم الإقامة في العاصمة، ونمت أنطاكية في عهد السلاقسة، فأصبحت أربعة أحياء كل منها محاط بسور منيع منفصل عن الآخر؛ ومن هنا نعتها باللفظ اليوناني
tetrapolis ، ومعناه المدن الأربع. وقيل إنها دعيت تترابوليس؛ لأنها كانت إحدى المدن الأربع الكبيرة التي بناها سلوقوس، وهي: أنطاكية، وسلوقية، وأبامية، واللاذقية.
4
وفي السنة 64 قبل الميلاد استولى بومبايوس على مملكة السلاقسة وعلى غيرها مما جاورها، فاحترم حق أنطاكية في إدارة شئونها الداخلية، وأشاد فيها ندوة الذاريوم، وجعلها عاصمة ولاية سورية بكاملها ومقر الحاكم الروماني العام
، وفي السنة 27 قبل الميلاد عندما أعيد النظر في نظام الولايات، ظلت أنطاكية عاصمة لسورية،
5
ولم تسلخ اليهودية - فلسطين - عنها قبل السنة 70 بعد الميلاد.
وكانت أنطاكية لم تزل رافلة بحلل الفخر، فأنشأ فيها الفاتحون الهياكل والقصور والمراسح، وجروا المياه إليها، وبنوا الحمامات فيها على طريقتهم الخاصة، وفتح هيرودوس الكبير فيها طريقا بأعمدة على الجانبين، وظلت أنطاكية زاهية زاهرة فيما يظهر حتى الفتح الإسلامي؛ فقد جاء في كتاب فتوح الشام للواقدي أن أبا عبيدة كتب إلى الخليفة عمر في السنة 637 ما نصه: «وإني لم أقم بها - أي بأنطاكية - لطيب هوائها. وإني خشيت على المسلمين أن يغلب حب الدنيا على قلوبهم، فيقطعهم عن طاعة ربهم.»
6
وقال سلوقوس الكبير وخلفاؤه بتهلين سورية وغيرها من ممتلكاتهم، فاستقدموا المقدونيين واليونانيين وأنزلوهم المدن والقرى، ومنحوهم الامتيازات؛ ليستعينوا بهم في الحرب وفي التهلين، وكان نصيب أنطاكية من هؤلاء كبيرا، فساد العنصر اليوناني فيها، وظل مسيطرا على مقدراتها قرونا طوالا؛ وهكذا وبناء على ما نعلمه من أنطاكية وعن بعض المدن المماثلة لها المعاصرة، فإنه يجوز الافتراض أن مجلس العموم في أنطاكية ومجلس إدارتها كانا لا يزالان عند ظهور النصرانية يونانيين في صبغتهما، وأن معظم المواطنين أصحاب الحق في التصويت كانوا إما يونانيين في الأصل أو متهلنين تهلنا كاملا.
7
ومما يجوز القول به أيضا أن حقوق التمتع بالغمنازيين كانت محصورة بهؤلاء
8
وأن تدابير خصوصية كانت لا تزال تتخذ لحصر الملكية في أنطاكية في يد اليونانيين.
9
ومن المفيد أن نذكر لهذه المناسبة أن الأنطاكيين ظلوا يفاخرون بأصلهم اليوناني الهليني حتى الفتح الإسلامي، فذكر ليبانيوس الأنطاكيين بتحدرهم من هرقيل، وبأصلهم اليوناني الهليني في القرن الرابع بعد الميلاد؛
10
ويوليانوس الجاحد أشار في الكلام، الذي وجهه إلى الأنطاكيين إلى أصلهم اليوناني الهليني، وذكرهم بأنه هو يوناني أيضا بعاداته وتفكيره. وفي القرن الخامس مرت أفذوكية الأثينية زوجة الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بأنطاكية في طريقها إلى أوروشليم، وخطبت في الأنطاكيين، ففاخرت بأنها من عرقهم ودمهم.
11
وأم العاصمة المقدونية اليونانية منذ تأسيسها عناصر مختلفة من سكان الدولة السلوقية، بينهم الآرامي المحلي واليهودي والغلطي والبرتي وغيرهم؛ ومن هنا في الأرجح اعتزاز ليبانيوس في أن بلدته أنطاكية كانت مضيافة تتقبل النازلين عليها برحابة صدر وإكرام، فهو يقول في خطاب له: «ليس هنالك مدينة لم نتقبل منها بعض أبنائها، وليس من قبلنا من هذه المدن أقل بكثير ممن بقي فيها.»
12
وأهم هذه العناصر غير اليونانية في نظرنا هم العرب واليهود، فالأرياف السورية كانت قد استعربت منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد،
13
واليهود كانوا قد عششوا فيها منذ أن استقدمهم ديمتريوس الثاني في السنة 145 قبل الميلاد؛ ليعاونوه في تثبيت دعائم ملكه ضد مناظريه الأنطيوخيين، فإن يوناثان صديقه كان قد أمده بثلاثة آلاف مقاتل منهم.
14
ومما جاء في تاريخ يوسيفوس أيضا أن زماريس
Zamaris
اليهودي البابلي قام إلى أنطاكية بخمسمائة خيال،
15
ويستدل من بعض ما جاء في خطب ليبانيوس أن بعض الفلاحين الذين عملوا في مزارعه كانوا يهودا أيضا.
16
ويرى البحاثة كارل كرايلنغ أن عدد اليهود في أنطاكية تراوح بين خمسة وأربعين ألفا وخمسة وستين ألفا،
17
من مجموع عام بلغ أربعمائة ألف على وجه التقريب. وتدل النصوص والآثار الباقية أن اليهود سكنوا في مختلف أحياء المدينة وفي ضواحيها؛ فبعضهم أقام في حي الكيراتيون
Kerataion
بالقرب من الباب الشرقي،
18
والبعض الآخر عند الباب الغربي باب دفنة،
19
وسكن بعضهم في دفنة نفسها، كما عمل آخرون منهم في المزارع العديدة في السهل إلى الشمال الشرقي من أنطاكية.
20
ولا صحة فيما يظهر لما جاء في تاريخ يوسيفوس
21
من أن سلوقوس المؤسس الأول منح اليهود في أنطاكية حقوق المواطن الهليني، فإن رجال الاختصاص يرون أن يوسيفوس ناقض نفسه بنفسه، وأنه كتب في عهد متأخر كثرت فيه الدعايات المغرضة؛
22
وجل ما يمكن القول به هو أن الجيش السلوقي حوى بعض العناصر اليهودية البابلية، وأن شرف الخدمة قضى بمعاملة اليهود العسكريين معاملة العناصر الهلينية؛ فتسنى لهؤلاء اليهود دون سواهم أن يتمتعوا بحقوق المواطن الهليني.
23
ومما يجوز القول به أيضا أن يهود أنطاكية تمتعوا بحرية العبادة، وبتنظيم محاكم خاصة تنظر في شئونهم، وبانتخاب رئيس لجاليتهم شأن غيرهم من الجاليات غير الهلينية، والإشارة هنا إلى نظام ال
، الذي ذكره يوحنا الذهبي الفم في كلامه عن اليهود.
24
ومما جاء في تاريخ الحروب ليوسيفوس أن الجالية اليهودية في أنطاكية كانت في العصر الذي نحن بصدده غنية سعيدة، تستهوي العناصر الهلينية لحضور حفلاتها،
25
وأن مرقس أنطونيوس أوجب إبقاء القديم على قدمه، وإعادة ما أخذ من اليهود إليهم، وأن طيطس لم يسمح بإخراج اليهود من أنطاكية، ولم يصغ إلى رغبات الأنطاكيين في ذلك.
26
ومما يجب ذكره عن اليهود في أنطاكية عند ظهور النصرانية أنهم كانوا في الأرجح لا يزالون منقسمين على أنفسهم، فإن بعضهم كان لا يزال متمسكا بكل قديم، والبعض الآخر كان يقول بوجوب التهلن والاختلاط باليونانيين والأخذ عنهم؛ ومن هنا في الأرجح خروج أنطيوخوس ابن رئيس الجالية اليهودية على اليهود في أنطاكية، وحضه الجنود والجماهير على إكراه أبناء ملته على العمل يوم السبت.
27
أول المؤمنين في أنطاكية
ولعل نيقولاوس «الدخيل الأنطاكي» هو أول المسيحيين الأنطاكيين، فهو أحد الإخوة السبعة الذين انتخبوا ليشرفوا على الخدمة اليومية، عندما تذمر اليهود اليونانيون بأن أراملهم كن يهملن في هذه الخدمة، وهو أحد هؤلاء السبعة الذين ملأهم الروح والحكمة، وشهد لهم بالفضل.
28
ثم كان ما كان من أمر الشهيد الأول إسطفانوس القديس، وقضت العناية الإلهية بأن يتفرق التلاميذ في البلدان، وكان قوم من هؤلاء قبرصيين وقيروانيين، فقدموا أنطاكية وأخذوا يكلمون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع، وكانت يد الرب معهم فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب، فبلغ خبر ذلك إلى مسامع الكنيسة التي بأوروشليم فأرسلوا برنابا إلى أنطاكية، فلما أقبل ورأى نعمة الله فرح ووعظهم كلهم بأن يثبتوا في الرب، فانضم إلى الرب جمع كثير، ثم خرج برنابا إلى طرسوس في طلب شاوول، ولما وجده أتى به إلى أنطاكية، وترددا معا سنة كاملة وعلما جمعا كثيرا.
29
بطرس الأسقف الأول المؤسس (34)
وعلى الرغم من هذا كله، فإن الآباء المؤرخين المفسرين الأولين يصرون على أن بطرس الرسول هو الذي أسس الكنيسة في أنطاكية، فالقديس أيرونيموس في تعليقه على الفصل الثاني من الرسالة إلى أهل غلاطية، يأخذ على القديس لوقا الإنجيلي صاحب سفر الأعمال إهماله بطرس وعمله التأسيسي في أنطاكية.
30
وينهج أفسابيوس المؤرخ النهج نفسه في تاريخه الكنسي، فيؤكد أن الفضل في تأسيس الكنيسة في أنطاكية يعود إلى بطرس الرسول،
31
وإذا ما ذكرنا أن السيد المخلص قضى في السنة 30 بعد ميلاده كما سبق وأشرنا، وأن بولس تقبل النعمة بعد ذلك بسنة واحدة؛ أي في السنة 31، وأنه لم يعد إلى أوروشليم إلا بعد سنوات ثلاث؛ أي في السنة 34، وأنه لم يجد آنئذ من الرسل في أوروشليم سوى يعقوب أخي الرب، وأن بطرس الرسول كان آنئذ منطلقا يبشر في كل مكان، وأنه بموجب التقليد الكنسي ترأس كنيسة أنطاكية سبع سنوات متتالية حتى السنة 41 بعد الميلاد؛ نقول: إذا ما ذكرنا جميع هذه الأمور، جاز لنا الافتراض بأن بطرس الرسول أسس كنيسة أنطاكية في السنة 34 بعد الميلاد.
ومما جاء في التقليد أيضا عن أفسابيوس المؤرخ ونيقيفوروس كاليستوس أن كثرة أشغال بطرس اضطرته إلى التغيب عن أنطاكية، وأنه سام لهذه المناسبة القديس إفوذيوس
Evodios
نائبا عنه وخلفا له.
32
ويرى
Tillemont
أن بطرس أسس كنيسة أنطاكية ورعاها بعنايته، ولكنه كسائر الرسل قضى معظم وقته متجولا مبشرا، فلم يمكث في أنطاكية إلا فترات وجيزة،
33
ويفرق
Belser
الألماني بين تنصرين اثنين في أنطاكية: أولهما تنصر بعض الأوساط اليهودية في السنة 33، وقيام كنيسة مسيحية متهودة على يد بطرس في السنة 34-35، والثاني تنصر العناصر الأممية الذي لم يبدأ إلا بعد البت في قضية كورنيليوس وقبوله في الكنيسة، أي في السنة 39 أو 40.
34
ولا يتردد الأب
James Kleist
اليسوعي في الاعتراف برئاسة بطرس على كنيسة أنطاكية وتأسيسه لها، فإنه يجعل أغناطيوس «الحامل الإله» الأسقف الثالث على أنطاكية بعد بطرس،
35
أما الأب
Jean Colson
الذي يخصص كتابا كاملا للأسقف في الكنائس الأولى، فإنه يجعل برنابا المؤسس في أنطاكية دون أن يذكر بطرس مرة واحدة، أو يبين موقفه من أقوال أفسابيوس وغيره من الآباء، ودون أن يبدي رأيه في عيد «منبر بطرس»، الذي لا تزال الكنيسة الكاثوليكية تكرس له يوما معينا في كل سنة.
36
ويصعب على المؤرخ المدقق أن يتتبع بطرس وغيره من المبشرين؛ ليتثبت من كيفية تأسيس الكنائس في فلسطين ولبنان وسورية، فدوروثاوس الصوري صنف لائحة طويلة بأسماء التلامذة السبعين وغيرهم، ممن ورد ذكرهم في الرسائل المقدسة، وجعلهم يؤسسون الكنائس في أمهات المدن في الأقطار الشامية الثلاثة، ولكن أفسابيوس المؤرخ لا يتعرف إلى هذه اللائحة.
37
ولما كان أفسابيوس من أقدم المراجع وأوسعها، نرانا مضطرين أن نشك في لائحة دوروثاوس؛ لأن الأصل في التأريخ اتهام الأخبار لا براءة ذمتها.
ومن هذه الروايات غير الثابتة أن الصوريين والصيداويين والطرابلسيين ادعوا أن بطرس أسس كنائسهم،
38
ومنها أيضا أنه هو الذي أسس كنيسة قيصرية فلسطين وسام زكى أسقفا عليها،
39
وأن سمعان الغيور بشر في منبج وحلب، وأن يهوذا دعا إلى الإيمان أهل بيروت وأرواد، وأنه استشهد في إحداهما، وأن كيفا أحد السبعين نادى بالإنجيل في بعلبك وحمص والرستن وحماة وتوفي في شيزر، وأن يوسي بشر في درعة وطيمون في بصرى ،
40
أما أعمال حنانيا وبولس في دمشق فإنها ثابتة بنص سفر الأعمال ورسائل بولس.
المعمودية والاختتان
ومنذ أن بدأ الرسل والإخوة في الكرز والتبشير نشأ اختلاف بينهم حول دخول الوثنيين في النصرانية، وقد سبق لنا وأشرنا إلى اضطرار بطرس أن يدافع عن موقفه وفعله عندما قبل كورنيليوس قائد المائة في الدين الجديد؛ والواقع أن اليهود كانوا منذ قيام دولتي البطالسة والسلاقسة قد انقسموا على أنفسهم؛ فقال بعضهم بوجوب الأخذ بأساليب حضارة اليونان والتمشي مع هؤلاء، وقال آخرون بالمحافظة على كل قديم عند اليهود، فلما تقبل اليهود رسالة المخلص، قال المتهلنون منهم بوجوب التسامح مع الوثنيين الذين يقبلون المسيح وإعفائهم من إتمام جميع ما جاء في شريعة موسى، كحفظ السبت والاختتان وما شاكل ذلك؛ أما اليهود المحافظون الذين قبلوا رسالة الإنجيل، فإنهم أوجبوا على الوثنيين «إتمام الناموس» قبل الدخول في الدين الجديد.
ويذهب بعض رجال البحث في تعليل هذا الاختلاف في الرأي بين الإخوة، إلى أن أبناء الجليل لم يتهودوا إلا في آخر الزمان، وأنهم كانوا قد قالوا بشيء من هذا التوسع في تطبيق الناموس في زمن السيد المخلص؛
41
ونحن نرى أن موقف هؤلاء العلماء نظري صرف؛ فليس هنالك أي نص يمكن الاستناد إليه لافتراض هذا التعليل. والأقرب إلى الحقيقة التاريخية أن يكون تهلن «الإخوة اليونانيين» قد جعلهم أبعد نظرا وأوسع أفقا من الإخوة غير اليونانيين، وأن يكون كلام السيد المخلص إلى بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس قد أثر في نفوس الإخوة اليونانيين، فجعلهم يرون في الرسالة رسالة عالمية، ينقض بموجبها الهيكل ويكرز بها بالإنجيل في جميع الأمم، «وهذا الذي تنظرون - حجارة الهيكل - ستأتي أيام لا يترك فيها منه حجر على حجر إلا ينقض. وينبغي أن يكرز أولا بالإنجيل في جميع الأمم، وحينئذ يشاهد ابن البشر آتيا على السحاب بقوة وجلال عظيمين.»
42
ومما لا يجب إغفاله في معالجة هذا الأمر أن يهود الجليل كانوا من أشد اليهود تحمسا في إبان الثورة على رومة بعد ذلك بقليل.
وحدث اضطهاد شديد على الكنيسة في أوروشليم بسبب موقف إسطفانوس كبير هؤلاء الإخوة المتهلنين، فتبدد الإخوة في بلاد اليهودية والسامرة ما عدا الرسل،
43
واجتازوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية، وهم لا يكلمون أحدا بالكلمة إلا اليهود، ولكن قوما منهم كانوا قبرصيين وقيروانيين، فهؤلاء لما قدموا أنطاكية أخذوا يكلمون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع، فآمن عدد كبير ورجعوا إلى الرب،
44
ثم وصل إلى أنطاكية فريق من المسيحيين، الذين من أصل يهودي، فنقلوا إليها حدة في المناقشة حول علاقة الناموس بالإنجيل، وأوجبوا على الإخوة الذين من أصل وثني أن يختتنوا ويتمموا الوصايا التي فرضها الناموس، فرأى الإخوة في أنطاكية أن يوفدوا بولس وبرنابا وطيطس وغيرهم إلى أوروشليم لمباحثة الإخوة فيها بهذا الشأن.
45
مجمع في أوروشليم (43-44)
وبعد أن شيعت كنيسة أنطاكية هذا الوفد، اجتاز أعضاؤه فينيقية والسامرة محدثين المؤمنين بتوبة الأمم، فسر جميع الإخوة سرورا عظيما، ولما قدم الوفد أوروشليم قبلتهم الكنيسة والرسل والكهنة، فأخبروهم بجميع ما صنع الله معهم، «وأن قوما من الذين آمنوا من مذهب الفريسيين قاموا وقالوا إنه يجب أن يختتنوا ويؤمروا بأن يحفظوا ناموس موسى»؛
46
فاجتمع الرسل والكهنة لينظروا في هذا الأمر، وإذ جرت مباحثة كثيرة قام بطرس وقال لهم: أيها الرجال الإخوة، إنكم تعلمون أنه من الأيام الأولى اختار الله من بيننا أن الأمم من فمي يسمعون كلمة الإنجيل فيؤمنون، والله العارف بالقلوب شهد لهم إذ أعطى لهم كما لنا الروح القدس، ولم يفرق بشيء بيننا وبينهم؛ إذ طهر بالإيمان قلوبهم، فالآن لم تجربون الله لتضعوا على رقاب التلاميذ نيرا لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله، ولكن بنعمة الرب يسوع نؤمن أن نخلص نحن مثل أولئك. فسكتت الجماعة كلها، واستمعت لبرنابا وبولس وهما يشرحان جميع ما أجرى الله على أيديهما من الآيات والعجائب في الأمم، وبعد أن سكتا أجاب يعقوب قائلا: قد شرح سمعان كيف افتقد الله الأمم منذ الأول ليتخذ منهم شعبا لاسمه، وعليه وافق الأنبياء؛ ولذلك أحكم بألا يثقل على من يرجع إلى الله من الأمم، وبأن يرسل إليهم أن يمتنعوا من نجاسات الأصنام والزنى والمخنوق والدم، وائتمن بولس على إنجيل القلف كما ائتمن بطرس على الختان.
47
واختار الرسل والكهنة مع جميع كنيسة أوروشليم يهوذا وسيلا، وبعثوهما إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا وطيطس وسائر أعضاء الوفد، وكتبوا كتابا بما أجمعت الكلمة عليه، فلما أتى هؤلاء جميعا إلى أنطاكية جمعوا الجمهور، ودفعوا إليهم الرسالة فقرءوها وفرحوا بالعزاء، وبقي سيلا في أنطاكية، أما يهوذا فإنه انطلق وحده.
بولس وكيفا
48
ولم تنته المشادة بين الإخوة الذين من أصل يهودي والإخوة من أصل وثني، فقد جاء في رسالة بولس إلى أهل غلاطية بعد الكلام عن مؤتمر أوروشليم، أنه لما قدم كيفا (بطرس) إلى أنطاكية قاومه بولس مواجهة؛ لأنه قبل قدوم قوم من عند يعقوب - أي من أوروشليم - كان كيفا يأكل مع الأمم، أي يتناول العشاء الرباني مع الإخوة الذين من أصل وثني، فلما قدم هؤلاء تنحى كيفا، واعتزل مخافة من أهل الختان، وتظاهر معه سائر الإخوة الذين من أصل يهودي؛ حتى إن برنابا أيضا انجذب إلى تظاهرهم، فلما رأى بولس أن هؤلاء لا يسيرون سيرا مستقيما إلى حق الإنجيل، قال لكيفا أمام الجميع: إن كنت أنت مع كونك يهوديا قد عشت عيش الأمم لا كاليهود، فلم تلزم الأمم أن يسلكوا مسلك اليهود؟ إن الإنسان لا يبرر بأعمال الناموس، بل بالإيمان بيسوع المسيح.
49
ودعي المسيحيون مسيحيين في أنطاكية أولا
وسمع الأنطاكيون الوثنيون اسم السيد المسيح بدون انقطاع؛ لأن الإخوة كانوا يبشرون به ويصلون له ويعتمدون باسمه، فأطلقوا عليهم اسم المسيحيين.
50
وكان المسيحيون في الأماكن الأخرى يدعون أنفسهم إخوة أو تلاميذ أو مؤمنين، واليهود اعتبروهم خارجين، فلم يطلقوا عليهم الاسم مسيحيين؛ لأنهم كانوا يعتبرون اسم المسيح مقدسا، فاكتفوا بأن دعوهم ناصريين نسبة إلى يسوع الناصري. ويرى بروشن الألماني أن الاسم مسيحيين كما استعمله الأنطاكيون الوثنيون حمل بادئ ذي بدء شيئا من التهكم على الإخوة، فهؤلاء في نظر الوثنيين كانوا يمسحون مسحا،
51
ولعل في كلام ثيوفيلوس الأنطاكي ما يؤيد هذه النظرية في أصل هذه التسمية،
52
وأطلق هذا الاسم الجديد على أتباع السيد من غير اليهود، ثم على كل من قبله مخلصا.
وأقدم الآثار التي تشير إلى المسيحيين بهذا الاسم الأنطاكي كتابة من نوع الغرافيتو وجدت على جدار في خرائب بومبايي في إيطالية سنة 1862، وقد جاء فيها الاسم هكذا:
HRISTIAN ، وهي تعود بطبيعة الحال إلى السنة 64 بعد الميلاد؛
53
وأشار تاسيتوس إلى نصارى السنة 64 في رومة بالاسم مسيحيين.
54
أنطاكية أم الكنائس الأممية
وأقبل اليونانيون الوثنيون المقيمون في أنطاكية عاصمة الشرق آنئذ على النصرانية وكثر عددهم؛ فأصبحت أنطاكية مركز الرسالة العالمي ونقطة الانطلاق للتبشير بين الأمم، فقد جاء في الفصل الثالث عشر من سفر الأعمال أنه «كان في أنطاكية أنبياء ومعلمون، منهم: برنابا، وسمعان الملقب بالأسود «نيجر»، ولوقيوس القيرواني، ومناحيم الذي تربى مع هيرودوس رئيس الربع وشاوول بولس، وبينما كان هؤلاء يخدمون للرب ويصومون، قال لهم الروح القدس: أفرزوا لي شاوول وبرنابا للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما، فانحدرا إلى سلوقية، ومن هناك أقلعا إلى قبرص.» وكان ما كان من أمر انطلاق بولس وصحبه إلى آسية الصغرى ومقدونية وبلاد اليونان وإيطالية، وليس لنا أن نتتبعه في ذلك؛ لأن هدفنا في هذا الكتاب هو تاريخ كنيسة أنطاكية دون غيرها من الكنائس، ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن أعمال بولس نشأت عن حرارة الإيمان في أنطاكية، وعن تضحية أبناء أنطاكية في سبيل الكرز باسم يسوع.
وانتشر الإيمان بالسيد المخلص في هذه الفترة نفسها في ما وراء الفرات، ويعود الفضل في ذلك إلى الرسول توما وإلى أخيه أو تلميذه أدي، فقد جاء في تاريخ الكنيسة لأفسابيوس أن توما الرسول، الذي كان يدعى يهوذا أيضا، بشر بالإنجيل في بلاد الفرات وما وراءها.
55
ومما جاء في هذا التاريخ نفسه أن أدي أو ثدي
Thaddaion
أحد السبعين هو الذي أسس كنيسة الرها (29 أو32) وغيرها من الكنائس في العراق وبعض ما جاورها.
56
وقد تسرع القديس إيرونيموس فيما يظهر في قراءة هذا النص، فقرأ لبس بدلا من ثدي،
57
وقد تكون هذه القراءة من ناسخ قديم؛ ويؤكد مؤرخو الكنيسة الأرمنية أن ثدي وبرثلماوس أسسا كنيستهما، وأن مقاميهما لا يزالان محجين يزورهما المؤمنون في ماكو وبشمكالي حتى يومنا هذا.
58
ومما جاء في تاريخ الكنيسة لأفسابيوس أن أبجر الخامس ملك الرها
Edessa
كان قد بعث وفدا إلى السيد المسيح، حاملا رسالة يعترف فيها الملك بالإيمان بالمخلص، ويسأله القدوم إلى الرها ليشفيه من عاهة ألمت به ويسكن في مدينته، وأن السيد له المجد أجاب برسالة بارك الملك فيها ومدينته، ووعده بإرسال أحد تلاميذه ليشفيه نفسا وجسدا، ولكن بعد صعوده إلى السماء؛ فأنجز توما الرسول وعد الرب، فانطلق أدي إلى الرها، وحل ضيفا على طوبيا بن طوبيا اليهودي الفلسطيني، ثم مثل أمام أبجر الخامس، فأبصر هذا الملك هالة تحيط برأس الرسول فآمن، فشفاه أدي من داء النقرس الذي كان قد ألم به، وعمده وبشر أهل الرها وبنى فيها كنيسة فاخرة، ثم حمل مصباح الإنجيل المنير إلى بلدان كثيرة ما بين النهرين، منها: آمد أي ديار بكر، وجنوبي أرزون، ووادي دجلة الشرقي، وبازبدي، وحديابين أي أربيل، ثم عاد إلى الرها وصار أول أساقفتها وفيها توفي،
59
وجاء مثل هذا إلى حد بعيد في ال
Acta Edessena
التي نظمها لبونة بن سناك بن عبد شادر كاتب الملك وختمها حنان.
60
ولكن علماء الكنيستين اليونانية واللاتينية يرون أن خبر تبادل الرسائل بين السيد المخلص وبين أبجر، وقصة أدي وعلاقته بأبجر، وضعا وضعا في القرن الثالث أو الرابع بعد الميلاد؛ وذلك لأسباب أهمها اقتباس آيات وردت في أناجيل متى ولوقا ويوحنا
61
وزجها في متن الرسالتين، مما يدل دلالة واضحة على أن واضع هاتين الرسالتين كتبهما بعد انتقال السيد، وبعد تدوين سيرته في هذه الأناجيل، وهنالك خلط في تواريخ بعض الحوادث لا يتفق والصحة.
62
ومن الأخبار التي لم تثبت صحتها - وقد لا تثبت أبدا - ما أخذه بعض المؤرخين عن سفر أعمال توما، الذي وضع فيما يظهر في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد،
63
ومما جاء في هذا السفر المنحول أن القرعة أصابت توما الرسول للتبشير في الهند، فباع نفسه لتاجر هندي اسمه حبان بصفة صانع ماهر يبني القصور، ولما اتصل بملك الهند وتناول منه مالا جليلا برسم البناء، وزعه على أهل البؤس والفاقة، وقال للملك إنه بنى له به قصرا في السماء، فلما أوقع الملك به ثم عرف صحة قوله بحلم ظهر لأخيه، استنار لبه بالنعمة الإلهية، فآمن بالسيد المسيح هو وجمهور من رجال دولته وبني قومه، بعدما عاينوا بواهر المعجزات التي فعلها الله على يد رسوله المجاهد الأمين.
64
الفصل الثالث
البدع والفرق والهرطقة في القرن الأول
سيمون الساحر
وظهرت البدع في عصر الرسل أنفسهم، فإنه جاء في الفصل الثامن من سفر الأعمال أن سيمون الساحر السامري تنصر واعتمد، وأراد أن يشتري موهبة الروح القدس بالمال، فزجره بطرس الرسول وطرده: «وانحدر فيلبس إلى مدينة السامرة، وجعل يكرز لهم بالمسيح، وكان قبلا رجل اسمه سيمون يسحر في المدينة، ويدهش شعب السامرة مدعيا أنه شخص عظيم، فأصغوا إليه من صغيرهم إلى كبيرهم، قائلين: هذا هو قوة الله التي تدعى عظيمة. وإنما أصغوا إليه لأنه كان منذ زمان كثير يخلبهم بسحره، فلما آمنوا بما كان فيلبس يبشرهم به من ملكوت واسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالهم ونساؤهم، وسيمون أيضا آمن واعتمد ولزم فيلبس، وإذ عاين ما كان يجرى من القوات والآيات دهش، ولما سمع الرسل الذين في أوروشليم أن أهل السامرة قد قبلوا كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا، فانحدرا وصليا من أجلهم لكي ينالوا الروح القدس؛ لأنه لم يكن قد حل على أحد منهم، سوى أنهم كانوا قد اعتمدوا باسم الرب يسوع، فلما رأى سيمون أنه بوضع أيدي الرسل يعطى الروح القدس، عرض عليهما نقودا قائلا: أعطياني أنا أيضا هذا السلطان؛ حتى ينال الروح القدس كل من أضع يدي عليه. فقال له بطرس: لتذهب فضتك معك إلى الهلاك؛ لأنك ظننت أن موهبة الله تقتنى بالنقود، فلا حصة لك ولا نصيب في هذا الأمر؛ لأن قلبك غير مستقيم أمام الله، فتب من شرك هذا وتوسل إلى الرب، عسى أن يغفر لك وهم قلبك، فإني أراك في مرارة العلقم ورباط المعصية. فأجاب سيمون: توسلا أنتما إلى الرب من أجلي؛ لئلا يصيبني شيء مما ذكرتما.» ومما جاء في بعض المراجع أن سيمون انطلق بعد هذا إلى رومة فعظم شأنه، وهو قول ضعيف؛ لأنه مأخوذ عن نصوص غير معترف بصحتها كسفر أعمال بطرس ورسالة الرسل وغيرهما من كتب الأبوقريفة.
ويقول القديس يوستينوس الذي انتسب إلى منطقة السامريين إن أتباع سيمون كانوا كثرا، وإنهم اعتبروه الإله الأعلى، وأشركوا معه إنوية
Ennoia
الفكر الذي انبثق عنه، فتجسد في امرأة اسمها هيلانة،
1
ومما جاء في الدفاع ضد الهرطقة للقديس إيريناوس أن سيمون قال بإله ذكر أعلى
Sublimissima Virtus
وبفكر
Ennoia
منبثق عن هذا الإله الأعلى أنثى موازية له، وأن إنوية هذه خلقت الملائكة الذين خلقوا العالم، وأن هؤلاء الملائكة حبسوا إنوية في جسم امرأة، وأوقعوا بها أنواعا من الإهانات، وأن إنوية هذه هي هيلانة امرأة مينيلاوس
Menelaus
الزانية في صور. ومما قاله سيمون بموجب رواية القديس إيريناوس أن الإله الأعلى أظهر نفسه بصفة الابن بيسوع بين اليهود، وبصفة الآب بين السامريين في شخص سيمون، وفي بلاد أخرى بصفة الروح القدس.
2
ومما نقله أفسابيوس المؤرخ عن هيغيسبوس
Hegesippus
أن مينانذروس الكباراتي
Menandros Capparatea ، وذوسيثفس
Dositheus ، وكليوبيوس
Cleobius ، جميعهم ادعوا الألوهية في القرن الأول، وعلموا مثل ما علم سيمون الساحر. ويرى البعض أن مينانذروس تتلمذ على يد سيمون، وعلم في السامرة وأنطاكية.
3
ستورنينوس
ومن هؤلاء أيضا ستورنينوس
Saturninus ، الذي علم في أنطاكية في عهد تريانوس الإمبراطور (98-117)، فصادف نجاحا ملموسا، ومما يعزى إليه أنه قال بإله واحد أب خلق القوى والملائكة ورؤساءهم، وقال إن سبعة من هؤلاء الملائكة كونوا العالم المنظور، ثم قدر لهم أن يرمقوا الإله الأعلى بالرؤيا، فخلقوا الإنسان على صورة هذا الإله، ولكنهم جعلوه يزحف زحفا فشمله الإله الأعلى بعطفه وحنانه؛ لأنه كان على مثاله، فأمر أن ينصب فيمشي على قدميه. ومما يعزى إلى ستورنينوس أيضا أنه جعل إله اليهود أحد هؤلاء الملائكة، وجعل الباقين مصدر وحي الأنبياء، وأشرك الشيطان في هذا الوحي في بعض الأحيان، وجعل الملائكة السبعة في نزاع متواصل مع الإله الأعلى، كما جعل هذا الإله يفصل عن نفسه مخلصا؛ ليقضي على هؤلاء الملائكة ويخلص الإنسان أو أولئك البشر الذين أسعدهم الحظ بأن ينالوا من الإله الأعلى نعمة تمكنهم من الخلاص. والمخلص في عرف ستورنينوس لم يولد ولادة بشرية، ولم يكن له جسم بشري.
4
ورأى ستورنينوس أن الزواج والتوالد من أعمال الشيطان، وفرض عفة وزهدا شديدين، ولم يدع الألوهية؛ فاحترمه الأنطاكيون وأعجبوا به.
5
كيرينثوس
واشتهر في هذا القرن الأول أيضا مبتدع آخر اسمه كيرينثوس
Cerinthos ، ولا نعلم سنة ولادته كما أننا نجهل تاريخ وفاته، وجل ما يمكن قوله عن أخباره الشخصية أنه كان يهوديا مصريا قدم أوروشليم في أيام الرسل وأقام فيها، ثم انتقل إلى قيصرية فلسطين فأنطاكية وعلم فيهما، وألقى العصا في آسية الصغرى ولعله توفي فيها.
ومما دونه القديس إيريناوس عن هذا المبتدع أنه أزعج يوحنا الحبيب بتعاليمه وضلاله؛ فاضطره أن يقول عنه لدى دخوله إلى أحد حمامات أفسس ووقوع نظره عليه: لنهرب مسرعين من هذا البيت قبل أن يتهدم علينا؛ فإن فيه كيرينثوس عدو الحق.
6
وقال هذا القديس أيضا إن كيرينثوس أوجب حفظ السبت والاختتان وغير ذلك من فروض الناموس، وإنه ادعى بأن السيد هو ابن يوسف ومريم، وأن ملاكا من الملائكة خلق الكون، وآخر الذي هو الله إله اليهود أعطى الشرائع والناموس، وأن شيئا من الروح القدس المنبثق من الإله الأعلى حل على يسوع عند اعتماده في الأردن، فرافقه حتى الصلب.
7
وأضاف القديس هيبوليتوس
Hippolytus
أن كيرينثوس نفى قيامة السيد بعد الصلب وأرجأها حتى قيامة «جميع الأتقياء».
8
الغنوسية
وأثر الغنوسية ظاهر في هذه التعاليم كلها، واللفظ اليوناني غنوسيس
Gnosis
معناه: المعرفة أو الحكمة، والغنوسية محاولة فلسفية دينية لتفسير الشر والخلاص منه، والغنوسيون قالوا بإله أعلى لا يدرك صدرت عنه أرواح سموها أيونات وأراكنة، وأن هذه صدرت زوجا فزوجا ذكرا وأنثى، فتضاءلت في الألوهية كلما ابتعدت عن مصدرها الإله الأعلى. وقالوا إن أحد هذه الأراكنة أراد أن يرتفع إلى مقام الإله الأعلى، فطرد من العالم المعقول، ثم أضافوا أنه صدر عن هذا الأركون الخاطئ أرواح شريرة مثله، وصدر العالم المحسوس الذي لم يكن ليوجد لولا الخطيئة؛ فهو والحالة هذه عالم شر ونقص بصانعه وبالمادة المصنوع منها. وقالوا أيضا إن هذا الأركون الخاطئ حبس النفوس البشرية في أجسامها فكون الإنسان، وإن هذه النفوس تتوق إلى الخلاص، وإن الناجين قليل؛ لأن الناس طوائف ثلاث متمايزة: طائفة أولى تشمل الروحيين الذين هم من أصل إلهي، وهم الغنوسيون صفوة البشر؛ وطائفة ثانية تتألف من الماديين، الذين لا يمكنهم الصعود فوق العالم السفلي؛ وطائفة ثالثة تجمع الحيوانيين الذي قدر لهم الارتفاع والسقوط، النجاة والهلاك. واختلفوا في وسيلة النجاة؛ فمنهم من قهر الجسم وطرح كل ما يثقل النفس ويمنعها من الوصول إلى المقر الذي هبطت منه، ومنهم من قال بدناءة الجسم فأطلق العنان للشهوة. وعظموا الفراغ بين الإله الأعلى والعالم، وخشوا استحالة رجوع النفوس إلى هذا الإله، فقالوا بأيونات تصدر عن الإله الأعلى، ووجدوا فيها سلسلة من الوسطاء بين الأنفس والإله الأعلى، فإذا ما حاولت الأنفس الاجتياز من عالمها السفلي إلى العلوي، قالت «كلمة السر» لكل أيون تصادفه وتحولت إلى صورته. وكان القول بالوسطاء شائعا؛ فسماهم البعض مثلا أخذا عن الأفلاطونية، ودعاهم البعض الآخر «كلمات»
Logos ؛ أي القوى الطبيعية الكبرى بموجب الفلسفة الرواقية، وسماهم فيلون اليهودي «الملائكة»، وغيره عبر عنهم ب «الجن».
9
النصارى المتهودون
وهكذا فإن الرسل والتلاميذ والأساقفة الأولين عانوا مشقة شديدة في مكافحة هذه البدع والصمود في وجهها؛ كي لا تتسرب إلى أوساط المؤمنين الأولين، ولكن المشقة الكبرى جاءت من بعض فرق النصارى المتهودين؛ فإن بعض المسيحيين الأولين لم يذعنوا لقرارات مجمع السنة 43-44، ولم يباركوا عمل بولس الرسول وأتباعه في التبشير بين الأمم، والغريب المستغرب أنهم لم يقفوا عند هذا الحد من الاختلاف، بل تأثروا ببولس العظيم في آسية الصغرى وبلاد اليونان، مبينين خطأ الرسول، موجبين الاختتان وحفظ السبت وما شاكل ذلك من فرائض الناموس، وعظم أمرهم فخشي بولس سوء العاقبة؛ فرد على هؤلاء برسائل ست بعث بها إلى كنائس معينة، فلاقت رواجا كبيرا؛ فقد جاء في رسالته الأولى إلى أهل كورينثوس: «أدعي أحد وهو مختون فلا يعد إلى القلف، أدعي أحد وهو في القلف فلا يختتن، ليس الختان بشيء ولا القلف بشيء، بل حفظ وصايا الله، فليستمر كل واحد على الدعوة التي دعي فيها، أدعيت وأنت عبد فلا يهمك ذلك، ولكن إن أمكنك أن تنال الحرية فالأحرى أن تغتنمها؛ لأنه من دعي في الرب وهو عبد فهو معتق للرب، وكذلك من دعي وهو حر فهو عبد للمسيح، قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدا للناس.»
10
وأصغى المسيحيون في غلاطية إلى هؤلاء الدعاة، فاستحقوا وعظا وإرشادا شديدي اللهجة، وكتب الرسول إلى أهل رومة بهذا المعنى فقال: «ليس اليهودي هو من كان في الظاهر، ولا الختان ما كان ظاهرا في اللحم، بل إنما اليهودي هو من كان في الباطن، والختان هو ختان القلب بالروح لا بالحرف، ومدحه ليس من الناس بل من الله.»
11
ثم دخل في النصرانية المتهودة يهود آخرون، فأدخلوا آراء غريبة تمت بصلة قوية إلى المذاهب اليهودية الرائجة آنئذ، وإلى الفلسفة الغنوسية اليونانية، ولاقت هذه الآراء أرضا خصبة في وادي الليكوس
Lycus
بين فريجية وليدية وكارية في آسية الصغرى، وفي الأوساط المسيحية في هيرابوليس
Hierapolis ، واللاذقية، وكولوسي
Colossae ؛ فهرع إبفراس
Epaphras «الحبيب» يخبر بولس بذلك في منفاه، فكتب بولس إلى أهل كولوسي يحذرهم «ألا يسلبهم أحد بالفلسفة والغرور بالباطل حسب سنة الناس على مقتضى أركان العالم لا على مقتضى المسيح»، الذي «فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا»، وهم «مملوءون فيه وهو رأس كل رئاسة وسلطان»، وألا يحكم عليهم أحد «في المأكول أو المشروب، أو من قبيل عيد أو رأس شهر أو سبوت»، وألا يخيبهم أحد في جعالتهم مبدعا مذهب تواضع وعبادة للملائكة، وخائضا في سبل لا يبصرها.
12
وهكذا فإنه يستدل من كلام بولس الرسول أن هؤلاء الدخلاء علموا بحفظ أعياد خصوصية وحفظ رءوس الأشهر وحفظ السبت، وأنهم حرموا بعض المآكل وأوصوا بعبادة الملائكة.
وينبه يوحنا الحبيب في رسالته الأولى إلى «مسحاء دجالين» كثيرين (2: 18)، ويقول: «منا خرجوا، ولكنهم لم يكونوا منا ؛ لأنهم لو كانوا منا لاستمروا معنا.» (2: 19) ثم يستطرد فيقول: «من الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح.» (2: 22) ويرى أهل العلم أن الإشارة هنا هي للإبيونيين
Ebionaioi ، الذين تفرعوا عن كنيسة أوروشليم، وتفرقوا مبشرين معلمين أن المخلص هو ابن يوسف، وأن بولس مرتد عن الدين القويم، متمسكين بالإنجيل إلى العبرانيين، مستمسكين بالناموس، متخذين أوروشليم قبلة لهم في صلواتهم.
13
ويختلف رجال البحث في أصل هذا الاسم، فينسبه بعضهم إلى أبيون المؤسس - وهو قول ضعيف - ويقول آخرون إنه مشتق من العبرية إبيونيم ومعناه الفقراء، وإنه مأخوذ من الآية: «طوبى لكم أيها المساكين، فإن لكم ملكوت الله.»
14
ويذكر يوحنا الحبيب في الفصل الرابع من رسالته الأولى، الأنبياء الكذبة الكثيرين الذين خرجوا إلى العالم، فيوجب على المؤمنين اختبارهم فيقول: «وبهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بأن يسوع المسيح قد أتى (في الجسد) فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع ليس من الله.» والفرق هنا هو بين من يعترف بتجسد الكلمة وبين من ينكر المسيح في ناسوته أو لاهوته، ولعل هؤلاء الملحدين هم الدوكينيون الذين قالوا إن يسوع المسيح لم يولد من لحم ودم، ولم يكن له جسد ولم يتألم ولكن شبه لهم، واللفظ
Dokein
يوناني معناه لاح وبدا.
15
وعاد يوحنا الحبيب إلى هؤلاء مرة ثانية في رسالته الثانية فقال: «لقد دخل إلى العالم مضلون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسيح آتيا في الجسد، هذا هو المضل والضد للمسيح، كل من تعدى ولم يثبت في تعليم المسيح فليس له الله، ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جميعا. إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلام؛ لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة.»
وينبه الرسول الحبيب في الفصل الثالث من رسالته الأولى إلى نوع ثالث من الضلال فيقول: «لا يضلكم أحد، من يفعل البر فهو بار، ومن يفعل الخطية فهو من إبليس.» ويرى المجتهدون من علماء اليوم في هذا التنبيه إشارة إلى ضرب من الأنتينومية
Antinomism ، التي ذرت قرنها منذ ذلك العهد، أي إلى القول بأن من يؤمن لا يخطئ، وبالتالي فلا يربطه ناموس.
16
وتوجه رؤيا يوحنا الحبيب ما بين السنة 75 والسنة 85 إنذارا إلى ثلاث من الكنائس السبع التي في آسية إلى تيتيرة وبرغامون وأفسس، إنذارات بوجوب الابتعاد عن النيقولاويين، الذين يتمسكون بتعليم بلعام الذي علم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل «حتى يأكلوا من ذبائح الأوثان ويزنوا»، وتأخذ الرؤيا على ملاك كنيسة تيتيرة أنه يدع المرأة إيزابل الزاعمة أنها نبية تعلم وتضل العباد حتى يزنوا ويأكلوا من ذبائح الأوثان، ولا سيما أنها أمهلت مدة لتتوب من زناها فلم ترض أن تتوب؛ ولذا فهي تطرح في فراش، والذين يزنون معها في ضيق شديد إن لم يتوبوا من أعمالهم، «ولسائر من في تيتيرة من جميع الذين ليس لهم هذا التعليم، والذين لم يعرفوا أعمال الشيطان، إني لا ألقي عليكم ثقلا آخر، ولكن تمسكوا بما هو عندكم إلى أن آتي.»
17
ولا نعلم بالضبط من هم هؤلاء النيقولاويون، ويذهب البعض إلى أنهم شيعة نيقولاوس الأنطاكي أحد الشمامسة السبعة الذين رسمهم الرسل، وأن نيقولاوس هذا ضل في الإيمان وخرج عن الكنيسة، ولكن مراجع أصحاب هذا الرأي متأخرة ونصوصها مبهمة غامضة؛ فلا بد والحالة هذه من الاعتراف بأننا لا ندري من هم هؤلاء بالضبط؛ أما تعاليمهم التي استوجبت هذه الإنذارات الشديدة اللهجة، فإنها قد تكون من نوع التعاليم الأنتيمونية التي سبقت الإشارة إليها. وقد يكون الزنى المشار إليه في هذا الفصل من الرؤيا، هو النوع نفسه الذي ورد في الفصل الخامس عشر من سفر الأعمال، ذاك الذي عبر عنه بالكلمة اليونانية
؛ أي التزاوج بين الأقرباء الذي نهى عنه الناموس، فإذا كان هذا هو الواقع يصبح النهي عن الزنى وعن الآكل من ذبائح الأوثان، نهيا عن قلة الاكتراث بتعاليم التوراة والناموس وارتكاب ما يخل بالآداب.
18
هذه أهم أنواع البدع والهرطقات، التي اعترضت في القرن الأول سبل الآباء في الكنائس في الشرق، وليس غريبا أن تظهر هذه البدع والهرطقات في الشرق في القرن الأول من تاريخ الكنيسة؛ فالشرق كان لا يزال منذ عهد خلفاء الإسكندر أشد اهتماما بالفكر والفلسفة من الغرب، وأكثر إقبالا على كل جديد.
الفصل الرابع
النظم والعقائد في القرن الأول
الرسل
وكانت أم الكنائس قد انتظمت حول الرسل الأطهار، معترفة بسلطتهم المطلقة، صاغية لوعظهم وإرشادهم، طائعة عن إيمان ومحبة، وتبعها في ذلك جميع الكنائس على الإطلاق.
واللفظ اليوناني
Apostolos
الذي يطلق في الأناجيل والرسائل على الرسل الاثني عشر، وعلى قليلين غيرهم؛ مشتق من الفعل
Apostellein ، وهذا الفعل اليوناني مركب من
Apo ؛ ومعناه: بعيد، و
Stellein ؛ ومعناه: أرسل أو أوفد. وقد ورد هذا اللفظ في الترجمة السبعينية للدلالة على حمل رسالة دينية ونقلها، ويؤكد أفسابيوس المؤرخ أن اليهود دعوا منذ عهد أشعيا من حمل منشور زعيم من الزعماء رسولا، ويؤيد أفسابيوس كل من أبيفانيوس ومكاريوس المغنيسي، ويفيد أبيفانيوس أن يوسف الجليلي الذي عاصر قسطنطين الكبير، وحمل رسالة إلى يهود قيليقية سمي لهذه الغاية رسولا بوضع الأيدي. ويرد مكاريوس المغنيسي على بورفيريوس الفيلسوف فيقول إن الرسل الدجالين الذين أشار إليهم بولس الرسول، كانوا رسلا من اليهود يحملون مناشير يهودية معينة.
1
والرسول في سفر الأعمال هو أحد الاثني عشر الذين انتقاهم السيد المخلص، فتبعوه منذ اعتماده حتى صلبه، ومن هنا قول بطرس الرسول لمناسبة الخيانة التي ارتكبها يهوذا الأسخريوطي: «فينبغي إذن أن يعين واحد من الرجال الذين اجتمعوا معنا في كل الزمان، الذي فيه دخل وخرج الرب يسوع بيننا، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع عنا ليكون شاهدا معنا بقيامته.» وهؤلاء الرسل بموجب نص سفر الأعمال هم الذين «اصطفاهم السيد وأوصى لهم بالروح القدس؛ ليكونوا له شهودا في أوروشليم وجميع اليهودية وفي السامرة وأقصى الأرض». والرسل هم الذين «استقر عليهم الروح القدس في كل واحد منهم»، وهم أيضا أولئك الذين «جرت على أيديهم آيات وعجائب كثيرة أهمها استحلال الروح القدس على غيرهم بالصلاة ووضع الأيدي».
2
ويقول مرقس الإنجيلي إن السيد اصطفى الرسل اصطفاء، فإنه «فيما كان ماشيا على شاطئ بحر الجليل، رأى سمعان وأندراوس أخاه يلقيان شباكا في البحر، فقال: اتبعاني فأجعلكما صيادي الناس.» وهم الذين انتقاهم بعد أن صعد إلى الجبل «ليكونوا معه وليرسلهم للكرازة، فأعطاهم سلطانا أن يشفوا المرضى ويخرجوا الشياطين».
3
ويؤيد متى ولوقا ويوحنا هذه الرواية، ويضيف يوحنا أن الرب نفخ في الرسل بعد قيامته، وقال: «خذوا الروح القدس من غفرتم خطاياهم تغفر لهم، ومن أمسكتم خطاياهم تمسك لهم.»
4
وأطلق هذا اللقب على غير الرسل الاثني عشر، فقد جاء في الفصل الرابع عشر من سفر الأعمال أن بعض أهل أيقونية كان مع اليهود، وبعضهم مع «الرسولين»، والإشارة هنا إلى بولس وبرنابا، وقد سلم بولس على أندروتيكوس ويونياس في رسالته إلى أهل رومية جاعلا منهما «رسولين» في المسيح قبله (16: 7). وجاء في الفصل الخامس عشر من رسالة بولس إلى أهل كورينثوس أن الرب تراءى لكيفا ثم للأحد عشر، ثم لأكثر من خمسمائة، ثم ليعقوب، ثم «لجميع الرسل». ويرى صاحب الذيذاخة أن كل من حمل كلمة الله فهو رسول، وعندما يشير إلى الرسل الاثني عشر يستعمل اللفظين اثني عشر، ويبين أنه ليس للرسول العادي أن يمكث أكثر من يوم واحد في محل واحد، وأنه يجوز له أن يقيم يومين متتاليين عند الحاجة، ثم يؤكد أنه إذا أقام أكثر من يومين أصبح من الدجالين.
5
الأنبياء والمعلمون «وكان في الكنيسة التي بأنطاكية أنبياء ومعلمون، منهم: برنابا، وسمعان الملقب بالأسود، ولوقيوس القيرواني، ومناين.»
6
والأنبياء والمعلمون في نظر بولس غير الناطقين بالألسنة، فالذي كان ينطق بالألسنة كان لا يكلم الناس بل الله، أما الذي تنبأ فإنه كلم الناس كلام بنيان وموعظة وتعزية،
7
وبعض هؤلاء في نظر كاتب سفر الأعمال أنبياء ينبئون بما سيقع من حوادث، فإن أغابيوس أنبأ بالروح أن ستكون مجاعة شديدة في جميع المسكونة، فوقع ذلك في أيام كلوديوس.
8
وليس في المراجع الأولية ما يخولنا تحديد صلاحيات هؤلاء الأنبياء، أو يمكننا من القول بأنهم حازوا درجة معينة من درجات الكهنوت، فاهتمام صاحب الذيذاخة بهم واعترافه بحقهم في أخذ باكورة المواسم، وفي دعوة المؤمنين إلى الاجتماع والتمتع بلقب «رئيس الكهنة »؛
9
لا يكفي وحده لجعلهم رؤساء الكنائس وأصحاب السلطة فيها؛ فإن ظروف التبشير والوعظ في القرن الأول قضت بتسهيل مهمة الأنبياء، ولا سيما وأن معظمهم كان متجولا غريبا لا يملك ما يعتاش به، ولا يمارس مهنة تدر عليه بالمال اللازم لقضاء حاجاته.
10
أما المعلمون
Dedascales ، فإنهم كانوا يقومون فيما يظهر بالعمل نفسه الذي قام به الأنبياء؛ أي التبشير والإرشاد. والفرق بين الاثنين نشأ عن مصدر الوعظ، فالأنبياء اعتمدوا الوحي، والمعلمون اجتهدوا اجتهادا.
11
الأساقفة
وتوجب الذيذاخة على المؤمنين انتخاب أساقفة وشمامسة مستقيمين أمناء مجربين ذوي سهولة ودماثة في الأخلاق لا يحبون المال، فتنيط بالأساقفة ممارسة أقدس الأسرار وأرفعها وتعلمهم الصلاة لهذه المناسبة.
12
وكان قد سبق لبطرس الرسول أن دعا المسيح أسقفا على النفوس
13
ولبولس أن جعله وكيل الله، وأوجب أن يكون بغير عيب رجل امرأة واحدة، صاحيا عاقلا مهذبا مضيفا للغرباء، قادرا على التعليم، غير مدمن الخمر ولا سريع الضرب، بل حليما غير مخاصم ولا محب للمال، يحسن تدبير بيته، ويضبط أبناءه في الخضوع بكل عفاف.
14
والأسقف
Episkopos : لفظ يوناني مركب معناه الرقيب أو الناظر، وهو مؤلف من
Epi ؛ ومعناه: «على»، و
Skopein ؛ ومعناه: لاحظ أو راقب. وقد اجتهد ابن السكيت وغيره من علماء اللغة في أصل هذا اللفظ، فجعلوا كلمة أسقف مشتقة من السقف، وهو عندهم طول في انحناء، فقالوا سمي أسقفا؛ لأنه يتخاشع، وهو اجتهاد في غير محله، واللفظ
Episkopos
قديم العهد عند اليونان؛ فقد جاء في أشعار هوميروس أن الآلهة أساقفة على القيام بالعهود المقطوعة،
15
وجاء في شرائع أفلاطون أن ذيكي أرسل نمسيس أسقفا ليؤدب الأولاد عما ارتكبوه من ذنوب ضد الوالدين.
16
وورد هذا اللفظ نفسه في الترجمة السبعينية بمعنى المراقب،
17
والحاكم،
18
ورئيس الكهنة.
19
الشيوخ
وتشير رسائل الرسل في كثير من الأحيان إلى زعماء الكنائس، فتجعلهم رؤساء أو مدبرين أو ملائكة أو رعاة أو أساقفة أو شيوخا؛ فقد جاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكية، وفي فصلها الخامس إشارة إلى الذين يتعبون «ويرأسون»، كما جاء في رسالة بولس إلى أهل رومية في فصلها الثاني عشر أمر يوجب على المعلم التعليم، والواعظ الوعظ، «والمدبر العناية». وجاء أيضا في الفصل الثالث عشر من الرسالة إلى العبرانيين «اذكروا مدبريكم»، والكواكب السبعة في الفصل الأول من الرؤيا هم «ملائكة» الكنائس السبع، والمسيح في رسالة بولس إلى أهل أفسس وفي فصلها الرابع هو الذي جعل بعضا رسلا، وبعضا أنبياء، وبعضا مبشرين، وبعضا «رعاة» ومعلمين، وليس في هذه النصوص ما يمكننا من التعرف بوضوح إلى نوع العمل، الذي كان يقوم به كل من هؤلاء الرؤساء والمدبرين والرعاة والأساقفة والشيوخ، أو إلى درجة السلطة التي كانوا يمارسونها.
وأكثر هذه الألقاب استعمالا في رسائل الرسل الأسقف، وقد سبقت الإشارة إليه والشيخ
، وليس في استعمال هذين اللقبين ما ينبئ بوضوح أن أحدهما كان أعلى رتبة من الآخر؛ فالشيوخ هم رؤساء الكنائس في رسائل بطرس ويعقوب،
20
والأساقفة والشيوخ هم رؤساء كنيستي فيليبي وأفسس، والرؤساء في الرسائل الرعائية هم أساقفة أحيانا وشيوخ أحيانا أخرى.
ويصعب التفريق بين الأسقف والشيخ في رسالة إقليمس الروماني إلى أهل كورينثوس،
21
كما يتعذر العثور على أية إشارة واضحة إلى الشيوخ في نص الذيذاخة،
22
وقد يكون السبب في هذا كله أن تنظيم الكنائس في القرن الأول لم يكن واحدا مطردا فيها جميعها.
23
الدرجات في أوروشليم
ولا يختلف اثنان فيما نعلم في أن أم الكنائس كانت في أوائل عهدها أخوية تعمل بقلب واحد وروح واحد، وأن الرسل كانوا قطب الدائرة فيها، فهم الذين شهدوا قيامة الجسد، وهم الذين حملوا التعاليم، وهم أيضا الذين نقلوا هدي الروح القدس إلى جمهور المؤمنين.
ويشير صاحب سفر الأعمال (11: 29-30) إلى المساعدة المالية التي قدمها الأنطاكيون إلى كنيسة أوروشليم، فيقول إنها أرسلت إلى «الشيوخ» على أيدي برنابا وشاوول، ونقرأ بعد هذا أن بولس وبرنابا شكوا أمر النزاع حول الاختتان إلى «الرسل والشيوخ»، وأن «الرسل والشيوخ» اجتمعوا لينظروا في هذا الأمر (15: 2 و6)، ثم نرى «الرسل والشيوخ وجمهور المؤمنين» يختارون رجلين منهم ليحملا نص القرار في هذه المشكلة إلى الإخوة في أنطاكية (15: 22)، فيقولون في متن هذا القرار: «لأنه قد رأى الروح القدس «ونحن» ألا نضع عليكم ثقلا فوق هذه الأشياء» (15: 28).
وهكذا فإنه يجوز القول بناء على هذه النصوص إن الشيوخ في كنيسة أوروشليم شاركوا الرسل في إدارة أم الكنائس، واشتركوا معهم في تحمل المسئوليات، وأبدوا رأيهم في العقيدة، ونقلوا هدي الروح القدس مع الرسل الأطهار.
24
ويجوز القول أيضا بناء على الآيتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة في الفصل الخامس من رسالة يعقوب أخي الرب، وأسقف أوروشليم نفسها؛ إن هؤلاء الشيوخ لم يكونوا وجهاء نافذي الكلمة في كنيسة أوروشليم فحسب، بل كهنة يمارسون الطقوس:
25 «هل فيكم مريض فليدع شيوخ الكنيسة، وليصلوا عليه ويمسحوه بالزيت باسم الرب، فإن صلاة الإيمان تخلص المريض والرب ينهضه، وإن كان قد ارتكب خطايا تغفر له.»
واللفظ اليوناني الذي استعمل للدلالة على هؤلاء الشيوخ في المراجع الأولية هو الكلمة
؛ ومعناها الشيوخ المتقدمون، ولعلهم كانوا في أم الكنائس أقدم المؤمنين في نعمة الإيمان وأوجههم.
26
وجاء بعد الشيوخ في أم الكنائس الشمامسة، والشماس لفظ سرياني معناه خادم ديني، وهو يقابل اللفظ
Diakonos
اليوناني الوارد في سفر الأعمال وغيره من الرسائل المقدسة، وقد سبق لنا وأشرنا إلى كيفية انتقاء الشمامسة السبعة الأولين، فإن المؤمنين انتخبوهم انتخابا والرسل باركوهم بوضع الأيدي، فقاموا بمهام روحية منذ البدء، وأشهرهم أسطفانوس الشهيد، ولعل السبب الرئيسي لانتقائهم كان إشراك العنصر اليهودي الهليني في الخدمة قبل أن يكون مجرد خدمة موائد.
27
وضيق أغريبة على المؤمنين في أوروشليم وشدد عليهم، فاستشهد يعقوب بن زبدي، وألقي بطرس في السجن وأفلت، وقضت حرارة الإيمان بالتبشير، فتفرق الرسل الاثنا عشر، وتزعم يعقوب أم الكنائس، وما فتئ حتى استشهاده في السنة 62.
ويعقوب هذا هو «أخو الرب» وأخو سمعان ويوسي ويهوذا الرسول، وهو الذي قال عنه بولس أنه رأى الرب وحده،
28
وهو الذي يعتز بولس بموافقته، فيذكره قبل بطرس ويوحنا.
29
ولا نعلم بالضبط متى قبل يعقوب الرسالة، ولكن صاحب الإنجيل إلى العبرانيين يؤكد أن يعقوب أقسم في ليلة العشاء أنه لن يذوق طعاما قبل قيامة المسيح من الموت، وأن المسيح بعد أن داس الموت ذهب إلى يعقوب هذا، وقال له: «كل خبزك؛ لأن ابن الإنسان قد قام من بين الأموات.»
30
وجاء في التقليد أن يعقوب أخا الرب كان قد اشتهر بين اليهود بالورع والتقوى والمحافظة على الناموس، وأنه كان قد تقدم على كهنتهم فلبس القميص والجبة والعمامة، ووضع الصحيفة الذهبية على عمامته، ودخل قدس الأقداس وحده.
31
ومما أجمع عليه الآباء أن يعقوب أخا الرب امتنع عن اللحم والخمر، وتقشف وتعبد وأكثر السجود، ولم يحلق رأسه ولم يحتذ حذاء، ويقول إقليمس الإسكندري إنه لم يتقدم أحد على يعقوب، فانتخب أسقفا على أوروشليم في اليوم الأول بعد الصعود.
32
ويرى رجال الاختصاص من علماء الكنيسة أن نصوص سفر الأعمال ورسائل بولس تجعل من يعقوب خلفا للرسل في أوروشليم، يمارس سلطتهم، ويقوم بالأعمال نفسها التي قاموا هم بها في أثناء وجودهم في أوروشليم؛ فهو في نظر هؤلاء العلماء رئيس أم الكنائس، يعمل على إدارتها وسياستها بالتعاون مع شيوخها، كما يرأس الأسقف الكنيسة في عهدنا.
33
الدرجات في أنطاكية
وليس لدينا من النصوص الأولية ما يخولنا التبسط في وصف هذه الدرجات في أنطاكية وتعيين الصلاحيات اللاحقة بكل منها، وجل ما يجوز قوله هو أن بطرس كان راعي هذه الكنيسة منذ نشأتها، وأن أفوذيوس حل محله، فلما توفي هذا أو استشهد تسلم زمام الأمور في هذه الكنيسة أغناطيوس ثيوفوروس؛ أي حامل الإله.
ومما لا ريب فيه أيضا أن برنابا بذل بسخاء من وقته ونشاطه في خدمة الكلمة في أنطاكية، وأن عددا من الأنبياء والمعلمين أقاموا في أنطاكية واشتركوا في تدبير كنيستها، وقد سبقت الإشارة إلى أسمائهم والظروف التي اقتادتهم إلى أنطاكية؛ فلتراجع في محلها. وجل ما لدينا عن صلاحياتهم مضمون الآية: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاوول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي وأطلقوهما.»
34
ويجوز القول أيضا إن مجمع الرسل والشيوخ في أوروشليم استمع إلى بولس وبرنابا يشرحان أمر المشادة، التي نشبت في أنطاكية حول ختن الأمميين فيها قبل دخولهم في النصرانية؛ وإن بطرس اشترك في البحث، وإن يعقوب أخا الرب قال كلمته أيضا، فاتخذ المجمع قرارا، وأوفد يهوذا وسيلا إلى أنطاكية؛ لينقلا قراره إلى الإخوة الأمميين في أنطاكية وسورية وقيليقية.
35
الدرجات في الكنائس المجاورة
وبشر بولس وبرنابا في قبرص وآسية الصغرى، وأسسا الكنائس «وانتخبا للمؤمنين شيوخا
، ثم صليا بأصوام واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به.»
36 «ومن ميليتس أرسل بولس إلى أفسس، واستدعى شيوخ الكنيسة
، وقال لهم: ها أنا أذهب إلى أوروشليم مقيدا بالروح، لا أعلم ماذا يصادفني هناك، فاحترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها «أساقفة»؛ لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.»
37
وهكذا فإننا نرى الرسول المؤسس مدبرا أعلى لكل كنيسة أسسها في آسية الصغرى، ونراه أيضا يقيم شيوخا محليين في هذه الكنائس يدعوهم أساقفة في بعض الأحيان لرعاية الكنيسة.
38
وينبئنا البطريرك أفتيشيوس أن رئيس كنيسة الإسكندرية كان في بادئ الأمر الأول بين أقرانه الشيوخ أو الأساقفة
،
39
وكان هؤلاء يقيمونه رئيسا بوضع الأيدي، كما أقام شيوخ أفسس تيموثاوس أسقفا عليهم،
40
ولعل السبب في ذلك أن أسقف الإسكندرية ظل الأسقف الأوحد في مصر حتى أوائل القرن الثالث، فالأسقف ديمتريوس الثالث (189-232) كان أول من سام أساقفة في مصر خارج الإسكندرية، ولنا في نص ال
Ambrosiasler
ما يؤيد هذه النظرية؛ فقد جاء في هذا المرجع الأولي (القرن الرابع) أن لكهنة مصر حق التثبيت في حال خلو الكراسي من الأساقفة.
41
وتطل علينا السنة 97 فإذا بالقديس إقليمس الروماني، يحاول حل الخلاف الذي نشب في كنيسة كورينثوس، فيحث المؤمنين على المحبة والتوبة والتواضع، ويذكرهم بأن السيد نفسه رفع الرسل إلى مرتباتهم، وأن الرسل هم الذين أقاموا الأساقفة والشمامسة، وأن هؤلاء انتخبوا خلفاءهم، وأن الخضوع لهؤلاء واجب.
42
الذيذاخة
ويجيء القرن التاسع عشر، فيحرك الروح فيلوثيوس متروبوليت نيقوميذية، فيجد في السنة 1873 نسخة قديمة من «تعاليم الرسل» للأمميين الراغبين في تقبل رسالة السيد المخلص، ويتهافت علماء الكنيسة على قراءتها ودرسها، فتنقل في السنة الأولى لظهورها مطبوعة إلى لغات الغرب (1883).
والذيذاخة لمؤلف مجهول من أعيان كنيسة أنطاكية (أو مصر) عاش ما بين السنة 50 والسنة 150، وجمع في كتاب واحد التعاليم المنقولة عن الرسل التي يجب تلقينها للأمميين الراغبين في الدخول في النصرانية.
43
ويتضح من هذه الذيذاخة أن نظام الكنيسة عند نهاية القرن الأول قضى بالاعتراف بسلطة الأنبياء بعد الرسل، وسلطة المعلمين وال
Episcopoi-Presbyteroi
فالشمامسة.
44
الأسرار
ومارس المؤمنون في القرن الأول أسرارا ثلاثة: المعمودية، ووضع الأيدي، وكسر الخبز. فكان على المؤمن أن يعتمد باسم الرب أولا ليتحد بشخص المسيح السري الذي كان ولا يزال حيا بالكنيسة، وكان عليه أن يتثبت بوضع الأيدي ليتغلغل في نفسه فعل الروح القدس فيطهرها، وباشتراكه بسر الأفخارستيه كان يترجى الاتحاد مع الحاضر تحت أعراض الخبز والخمر.
45
الليتورجية والطقوس
وكان على المسيحي في القرن الأول أن يصلي ثلاث مرات في اليوم الواحد،
46
وذلك في الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة،
47
أي في الساعة التاسعة صباحا، وعند الظهر، وفي الساعة الثالثة بعده، وكان عليه أن يصلي واقفا حاسر الرأس رافع اليدين حتى الكتفين، وحضت الذيذاخة المؤمنين على الاتصال في كل يوم بالقديسين أي بإخوانهم المسيحيين؛ ليجدوا في كلامهم عزاء وغذاء للنفوس، وأوجبت التراضي والاعتراف بالخطايا قبل تقديم الذبيحة الإلهية في يوم الأحد.
48
والصلوات في الذيذاخة: الصلاة الربانية، وصلاة المعمودية، وصلاة الذبيحة المقدسة، وقد جاءت الصلاة الربانية متوجة بالذوكسولوجية: «لأن لك القوة والمجد إلى الأبد.»
49
ولا نعلم الشيء الكثير عن المعمودية في القرن الأول؛ فالذيذاخة توجب وعظ المهتدين وتدريبهم في مبادئ النصرانية، وتفرض صوم يوم أو يومين على كل من يصبح مستعدا للمعمودية، وتحض مرشده وغيره من المؤمنين على الاشتراك معه في الصوم التمهيدي، وتعين الذيذاخة أيضا نوع المياه، فتوجب الاعتماد بالمياه الجارية، ولكنها تسمح باستعمال غيرها في حال تعذرها، كأن تجمع كمية كافية من المياه في أحد الأوعية، وهي تجيز تسخين المياه في بعض الأحيان، والتغطيس واجب، وقد يكتفى بالرش إذا قضت الظروف باللجوء إليه. ويجب على من يتولى أمر التعميد أن يعمد باسم الآب والابن والروح القدس،
50
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا لم يكن كل ما في المعمودية، وأن المسيحيين آنئذ قالوا بماء جاء في رسالة بطرس الأولى (3: 21)، فاعتبروا الماء «رمزا لاختيار الضمير الصالح الذي يخلصهم بقيامة يسوع المسيح»، كما قالوا مع بولس الرسول «برب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة»،
51
ومع فيليبوس والخصي «بأن يسوع المسيح هو ابن الله».
52
ويجب ألا يغيب عن البال أن اليهود مارسوا آنئذ معمودية شابهت في بعض مراحلها ومظاهرها معمودية النصارى، فإنهم أوجبوا على الداخل في دينهم أن يتعلم مبادئ هذا الدين، وأن يختتن ويعمد بالماء،
53
ولكن هذا التشابه وسكوت الذيذاخة عن مغفرة الخطايا وعن المقصود بالضبط من العبارة باسم الآب والابن والروح القدس، وعدم توضيح علاقة المسيح بالمعمودية، لا يعني أن معمودية الذيذاخة تقع في صعيد واحد مع معمودية اليهود؛
54
فالسكوت لا يتخذ حجة
Argumentum ex Silentio
إلا في ظروف منطقية يصعب توفرها في غالب الأحيان، وهي غير متوفرة في هذه الحالة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا النوع من الخطأ في عرض الكلام عما قاله بعض العلماء المتحذلقين عن دور السيدة العذراء في أداء الرسالة، فليراجع في محله.
ومارس المسيحيون في القرن الأول سر الأفخارستية؛ فقاموا باكرا في يوم الرب في الساعة نفسها التي تغلب فيها على الموت، وأموا الكنيسة للصلاة، فبارك الأسقف وشكر من أجل الخبز والخمر، وناول من اعترف بالخطايا وتقدم بنية صالحة وقلب طاهر،
55 «فإذا قدمت قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئا، فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض أولا، فصالح أخاك وحينئذ ائت وقدم قربانك.»
56
ورب معترض يقول: ولكن الذيذاخة لا تذكر الاستحالة. وجوابنا على هذا ذو حدين: أولهما أن المسيحيين كانوا قد أجازوا التقية للتحاشي وللمحافظة على قدسية هذا السر، والثاني أن السكوت لا يكون حجة إلا بشروط معينة لا تتوفر في هذا المقام.
57
وتناول المسيحيون في عشية الأحد عشاء الأغبة
Agapé ؛ أي المحبة، مجتمعين حول مائدة واحدة ناظرين في أمورهم المشتركة، ولا سيما في حاجة المعوزين منهم، وبدءوا حفلتهم بالشكر وأنهوها بالشكر وبقبلة المحبة، وكان الروح يرافقهم ويحل على بعضهم، فيتكلمون بلغات أو يتنبئون .
58
وأساء بعض الكورنثيين السلوك في هذه الحفلات المسائية، فاستحقوا تأنيب بولس الرسول: «فحين تجتمعون معا ليس هو لأكل عشاء الرب؛ لأن كل واحد يسبق، فيأخذ عشاء نفسه في الأكل، فالواحد يجوع والآخر يسكر، أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا؟»
59
الدوغمة أو العقيدة
وتوجب الذيذاخة على المؤمن القول بإله واحد في أقانيم ثلاثة؛ الآب والابن والروح القدس، والله في هذه الذيذاخة هو الآب السماوي الخالق ذو القدرة والجلال، به كان كل شيء وبدونه لم يكن شيء، له المجد إلى الأبد باسم ربنا يسوع المسيح، ويسوع المسيح ابن الله وربنا ومخلصنا، وهو حي في كنيسته وسيجيء في يوم الدينونة، والروح القدس هو الله مع الآب والابن وقد نطق بالأنبياء، وكنيسة الله جامعة مقدسة!
الفصل الخامس
أغناطيوس ثيوفوروس
64-107
ونكاد لا نعلم شيئا عن أفوذيوس خليفة بطرس الأول، وهنالك تقليد أنه استشهد في عهد نيرون،
1
وكلنا نعلم جيدا أن أغناطيوس «حامل الإله» عاصر أفوذيوس وخلفه في رئاسة الكنيسة،
2
ويرى البعض أن ظروف الكنيسة في أنطاكية قضت بأن يسام أسقف على المسيحيين المتهودين، وأسقف آخر على المسيحيين الأمميين، وأن أفوذيوس وأغناطيوس ترأسا معا فترة من الزمن، فلما توفي أو استشهد أفوذيوس تابع أغناطيوس العمل وحده مترئسا على الكنيستين في وقت واحد.
3
وجاء لاناستاسيوس الكتبي أن أغناطيوس هو ذاك الطفل الذي أشار إليه متى في الفصل الثامن عشر، حيث قال: «فدعا يسوع إليه ولدا، وأقامه في وسطهم، وقال الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السموات.»
4
ولكن يوحنا الذهبي الفم الأنطاكي المولد يؤكد أن أغناطيوس لم ير المسيح،
5
وشهادة الذهبي الفم في هذا الموضوع أثمن بكثير من شهادة أناستاسيوس الكتبي، ويرى علماء الكنيسة أن أغناطيوس ولد من أصل سوري هليني حوالي السنة 35، ثم تقبل النعمة في أنطاكية على أيدي الرسل أو التلامذة أو المعلمين، فاتخذ لنفسه لقب ثيوفوروس حامل الإله تيمنا وتبركا.
6
ظروف كنيسة أنطاكية في عهد أغناطيوس
وتفاقمت الخطوب من حول كنيسة أنطاكية في النصف الثاني من القرن الأول، فتغير موقف السلطات الرومانية من النصرانية والنصارى، وتطور من اللامبالاة إلى التضييق والاضطهاد، وذلك لأسباب أهمها أن الرسل انطلقوا يكرزون باسم الرب في كل مكان، فانتقلوا من أوروشليم إلى جميع أنحاء فلسطين ولبنان وسورية، ثم آسية الصغرى، فاليونان وإيطالية ورومة نفسها، وكان العرف عند الرومان واليونان يقضي بأن يعتبر الدين ميثاقا قوميا تجب مراعاته والمحافظة عليه، كما كان يوجب الثبوت على عهد الولاء للدولة، فكان ترك دين الآباء والالتحاق بدين شعب آخر كالفرار من الجيش والدخول في خدمة عدو مداهم،
7
ولكن هذا العرف لم يمنع الأجانب المقيمين في الأراضي الرومانية من ممارسة طقوسهم الخاصة والتعبد لآلهتهم. ثم جاء عصر الفتوحات والتوسع، وتلاه عصر آخر منحت فيه رومة حقوق المواطنين إلى غير المواطنين الرومانيين، فأصبحت آلهة الرومانيين آلهة الشعوب الداخلة في حكم رومة، وباتت آلهة هؤلاء الشعوب محترمة معترفا بها في الأوساط الحاكمة، وتمت معادلات بين الآلهة، فأصبح جوبيتر الرومان زفس اليونان، وتعبد اللبنانيون القدماء إلى جوبيتر في بعلبك تعبدهم إلى هدد بعل هذه المدينة السابق؛ ولكن إله اليهود والنصارى لم يكن إله قوم معين كسائر الآلهة، بل إلها لا إله إلا هو، ولم يكن دينهم دين قوم واحد كسائر الأديان، بل الدين الحقيقي الذي ليس بعده دين؛ وعلى الرغم من هذا التفرد في العقيدة والخروج على المألوف، فإن السلطات الرومانية اعترفت عند الفتح بكيان الدين اليهودي، واعتبرته دينا شرعيا
Religio licita ، وغضت النظر في غالب الأحيان عن الدخول في هذا الدين خارج رومة وأوساطها العالية، ولم تضيق على من قال بإله واحد، ما دام هذا القول لم يتبعه اختتان وانتماء ظاهر إلى الجاليات اليهودية، ولم تكترث هذه السلطات بادئ ذي بدء للنصرانية، فاعتبرتها فرقة من فرق اليهود، وهذا كان موقف بيلاطس في أوروشليم وزميله غاليو
Gallio
في آخية، عندما نظر في شكوى يهود كورينثوس على بولس، ولكن اليهود أبوا أن يتمتع النصارى بامتيازاتهم الخاصة، فأبانوا الفروق بينهم وبين أتباع المسيح، فتفتحت أعين السلطات وبدأ الارتياب والظن.
8
وقضى تيطس على ثورة اليهود في فلسطين، ودمر الهيكل في أوروشليم في السنة 70، فظن أنه أصاب عصفورين بحجر واحد؛ اليهود والنصارى الذين تفرعوا عنهم.
9
وجاء دوميتيانوس (81-96)، فجبى ضريبة الهيكل من اليهود، وممن «عاش عيشتهم وإن لم يكن أصله منهم»، فأدى ذلك إلى التفتيش الدقيق عن المسيحيين، وإلى تدوين أسمائهم وإكراههم على دفع الذيذراخمة
Didrachma
ضريبة الهيكل، وإرسالها إلى صندوق
Jupiter Capitolinus
في رومة، وكانت جالية اليهود في أنطاكية كبيرة كما سبق وأشرنا، وكان قد أصبح عدد المسيحيين في عاصمة الشرق عظيما، فأقلقت هذه الترتيبات بال أغناطيوس وقضت مضجعه.
ولم تكن ظروف الكنيسة الداخلية في أنطاكية أقل خطرا من ظروفها الخارجية، فإن الخلاف بين المسيحيين الأمميين والمسيحيين المتهودين كان لا يزال قائما حينما تسلم أغناطيوس عكازة الرعاية، وكان عدد كل من الفريقين كبيرا في أنطاكية وفي سائر المدن السورية، وكانت الغنوسية لا تزال تفسد على قادة الفكر المسيحي عملهم التبشيري كما سبق وأشرنا في فصل سابق.
موقف أغناطيوس وسياسته الرعائية
وكان أغناطيوس قد دخل في الدين الجديد في عصر بطرس وبولس وبرنابا، فأصلحت سيرهم نفسه وأثار حماسهم حميته، فاندفع في سبيل يسوع وتعلق به، ولم يكن ذلك اللاهوتي النظري فلم يتعرض للبحث في الثالوث الأقدس أو في اتحاد الطبيعتين، ولكنه عني كل العناء بالتعاليم المسيحية التاريخية
Depositum Fidei ، فسعى للمحافظة عليها خالية من الأدران، والتفت إلى إدارة كنيسته، فوحد صفوفها، وحرص على السلطة الرعائية، فقواها وقال برسالة واحدة وكنيسة واحدة في العالم أجمع؛ فكان أول من استعمل اللفظ «كاثوليكي» في الإشارة إلى كنيسة المسيح «الجامعة»، ولعله هو الذي أدخل ترتيل المزامير في كنيسة أنطاكية.
10
رسائله إلى الكنائس
وقضى ظرف استشهاده، كما سنرى قبل انتهاء هذا الفصل، بالتجول في آسية الصغرى والبلقان وإيطالية، فكتب إلى كنائس هذه البلدان واعظا مرشدا، وقويت هذه الرسائل على محن الدهر ونوائبه، فوصلت إلينا في مجموعات ثلاث: القصيرة والطويلة والمختصرة، والقصيرة هي الأصلية فيما يظهر، وقد حفظت في مخطوطة يونانية قديمة تعود إلى القرن الثاني،
11
ولا تشمل هذه المخطوطة نص الرسالة إلى الرومانيين، وأقدم النسخ التي تحفظ لنا نص هذه الرسالة تعود إلى القرن العاشر.
12
وقام في القرن الرابع من عني بهذه الرسائل فحرفها وأضاف إليها، فجعل مجموعها ثلاث عشرة رسالة بدلا من سبع، فجاءت تشمل علاوة عن الرسائل إلى كنائس أفسس ومغنيسية وترلة ورومية وفيلدلفية وأزمير وبوليكاربوس، رسائل إلى كنائس أنطاكية وطرسوس وفيليبي وهيرون ومريم الكسبولة
Cassobola ، ورسالة هذه إلى أغناطيوس؛ ونشر
Cureton
في السنة 1845 نصا سريانيا لا يشمل سوى رسائل ثلاث إلى أهل أفسس وأهل رومة وبوليكاربوس، ولكن
Lightfoot
وغيره من العلماء أثبتوا أن هذا النص السرياني هو في الواقع ترجمة قديمة لما جاء في المجموعة القصيرة المشار إليها أعلاه.
وظلت هذه الرسائل مدة من الزمن موضوع جدل بين علماء الكنيسة وبين العلماء الإنجيليين، فزعم هؤلاء أنها مزورة، وقال أولئك بصحتها، ثم وفق
Lightfoot
و
Harnack
و
Zahn
و
Funk
إلى إثبات أصالتها بالدليلين الداخلي والخارجي، فسكت الإنجيليون وأصبحت هذه الرسائل من أفضل ما تبقى من آثار الآباء الأولين،
13
وقد نقلت إلى لغات متعددة في طبعات مختلفة.
14
وإليك بعض ما جاء فيها: فقد قال أغناطيوس إلى أهل أفسس: «لقد انتهى إلي أنه مر قوم من هناك تشربوا تعليما مفسدا، وأنكم لم تدعوهم ينشرونه بينكم، فسددتم آذانكم لئلا تقبلوا الزرع الردي الذي يزرعون.» وقال: «لا تحبوا شيئا آخر غير المسيح، فإني بالاتحاد معه أسير بسلاسلي التي هي درري الروحية، عسى أن أبعث بها يوم القيامة بجاه أدعيتكم.»
15
وقال إلى أهل مغنيسية: «لا تتخذوا من حداثة أسقفكم حجة للإفراط في الدالة عليه، بل احترموه؛ لأنه يحمل سلطة الله الآب، إني أعلم أن شيوخكم لم يستغلوا حداثته الظاهرة في الجسد، ولكنهم بحكمة الله خضعوا له أو بالحري ليس له، بل لأبي يسوع المسيح أسقف الجميع؛ وكونوا مسيحيين لا بالاسم وحسب، بل بالفعل، فإن هنالك قوما يدعون الواحد أسقفا ولكنهم لا يعبئون به في تصرفاتهم، ويلوح لي أن ضمير هؤلاء ليس مستقيما؛ لأنهم لا يؤمون الصلاة في الأوقات التي يعينها أسقفهم.»
16
أغناطيوس والكنيسة الجامعة
وجاء في الفقرة الثامنة من رسالته إلى أهل أزمير: «واتبعوا جميعكم الأسقف كما تبع يسوع المسيح الله الآب، وسيروا في أثر الشيوخ سيركم في أثر الرسل، واحترموا الشمامسة كما تحترمون وصايا الله، ولا تأتوا بعمل يمت إلى الكنيسة بصلة منفردين عن الأسقف؛ والذبيحة الإلهية لا تصبح شرعية محللة إلا برئاسة الأسقف أو من يفوضه بها، وكونوا حيث يكون الأسقف، فحيث يكون يسوع المسيح هناك أيضا تكون «الكنيسة الجامعة»
Catholici Ecclesia .»
كنيسة أنطاكية وكنيسة رومة
ويختلف علماء الكنيسة في تفسير عبارتين وردتا في التحية التي استهل بها أغناطيوس رسالته إلى أهل رومة، فقد جاء في هذه التحية العبارة التالية: «إلى الكنيسة التي ترأس المكان السائد في أرض الرومان.» وجاء أيضا في هذه التحية نفسها العبارة: «إلى الكنيسة التي ترأس بالمحبة.» ويرى بعض العلماء أن هاتين العبارتين تشيران إلى رئاسة كنيسة رومة وتفوقها وتقدمها على جميع الكنائس، وأن أغناطيوس اعترف بهذه الرئاسة وذاك التفوق.
17
ويذهب غيرهم إلى أن أغناطيوس كرم رومة تكريما، وأنه لا يلزم القول بأكثر من هذا.
18
والواقع أن هنالك غموضا في هذين النصين أدى بطبيعة الحال إلى هذا الاختلاف في الرأي، فما هي «أرض الرومان» بالضبط، وما هو مقدار اتساعها؟ وإذا كانت الكنيسة تترأس في أرض الرومان، فما هو نوع هذه الرئاسة؟ هل هي رئاسة سياسية أم ثقافية أم أدبية أم روحية؟ وما هو معنى «المحبة» بالضبط؟ ولماذا خص أغناطيوس هذه الكلمة بأداة التعريف في النص اليوناني؟ وحيث يشعر المؤرخ بشيء من هذا الشك في فهم النص، يكمل قراءة النص لعله يقف على إيضاح ما التبس، فإن أعياه ذلك فعليه بسائر كتب المؤلف، وأنى لنا هذا ورسائل أغناطيوس ومعاصريه قليلة نادرة، وقد تعرضت مع مرور الزمن إلى جهل الناسخين وعبثهم بها؟ ولذا نرانا مضطرين أن نقول لا ندري؛ ومن ترك قول لا أدري أصيبت مقالته!
الإمبراطور تريانوس والنصرانية
وكان نيرون قد اشترع قانونا خصوصيا جعل به التدين بالدين الجديد خروجا على القانون
Non licet esse christianos ،
19
وجاراه في ذلك كل من فيزبازيانوس وتيطس ودوميتيانوس، وليس لدينا ما يثبت إثباتا قاطعا تطبيق هذا القانون في الولايات خارج رومة وإيطالية،
20
ولكننا نعلم أن تريانوس الإمبراطور وافق منذ السنة 99 على قانون نيرون وأمر بتنفيذه، وأن بلينيوس الأصغر حاكم بيثينية استوضح تريانوس في السنة 112 أمر القانون الذي منع التدين بالنصرانية، فسأله أن يفسر له نقاطا معينة تتعلق بتفاصيل التنفيذ،
21
فأجابه هذا الإمبراطور أن ليس على السلطات أن تفتش عن المسيحيين
Christiani conquirendi non sunt ، وأن من يعلن من هؤلاء أنه ليس مسيحيا يعتبر بريئا، ومن يصر على مسيحيته يدان ويعدم.
22
أفذوكية وشربل وبيبة
وطبق هذا القانون في السنة 100 في رومة، فاستشهد أقليمس أسقف رومة الثالث بعد بطرس، ونفذ في بعلبك فامتحنت أفذوكية البتول المؤمنة بأنواع كثيرة من العذاب، ثم حكم عليها بقطع الرأس فتقبلت هذا الحكم بفرح عظيم.
23
وكان برصوم أسقف الرها قد نجح في الدعوة، فعمد كثيرين في منطقة الفرات الوسطى، وكان بين هؤلاء كاهن الأصنام شربل وأخته بيبة، فلما شدد تريانوس نكل لوكيانوس الحاكم بهذا الكاهن، فنشره بالمنشار وقتل أخته.
24
سمعان أسقف أوروشليم
وفي السنة 107 أثار اليهود الشغب على المسيحيين في مدن فلسطين، فوشى بعضهم بسمعان أسقف أوروشليم الثاني بعد يعقوب، وقالوا إنه مسيحي ومن سلالة داود، فأمر
Claudius Atticus Herodes
حاكم فلسطين آنئذ بتعذيب سمعان الشيخ الطاعن في السن وبصلبه.
25
أغناطيوس أمام السلطة
ولعل ظروفا مماثلة دعت إلى استجواب أغناطيوس أمام حاكم سورية المحلي، فأدت إلى استشهاده في رومة في أوائل السنة 107،
26
وجاء لصاحب ال
Martyrium Colbertinum
أن أغناطيوس مثل أمام الإمبراطور تريانوس نفسه، وذلك لمناسبة الحرب الفرتية وإقامة تريانوس في أنطاكية قاعدته في الشرق.
27
والواقع أن هذه الحرب جاءت في السنتين 115-117، لا في السنة 107 كما تنص هذه الرواية المجهولة الراوي، وأن أفسابيوس والذهبي الفم لا يشيران إلى مثول أغناطيوس أمام الإمبراطور نفسه، وهنالك سبب آخر يجعلنا نشك في صحة هذه الرواية، وهو أن أغناطيوس نفسه يرجو المسيحيين في رومة ألا يسعوا لدى السلطات فيها لاستبدال الحكم بالموت بأي حكم آخر، فلو كان تريانوس نفسه قد حكم عليه بالموت، لكان حكمه مبرما لا يمكن تعديله في رومة.
ومما جاء في التقليد أيضا أن هذا الحكم الروماني وجه إلى أغناطيوس القول : أأنت تجسر كشيطان رجيم أن تخالفني في أوامري، وتغر الآخرين على هلاك نفوسهم؟ فأجاب أغناطيوس: ما من أحد غيرك سمى ثيوفوروس حامل الإله شيطانا رجيما، وعبيد الله ليسوا بأبالسة، والشياطين ترتعد منهم وتنهزم. فقال الحاكم مستدرجا: أتظن أننا لا نحوي في قلوبنا آلهة تقاتل عنا؟ فأجاب أغناطيوس غير هياب: إنك في غرور، فآلهتك ليسوا إلا أبالسة، فلا إله إلا الله الواحد القهار خالق السموات والأرض، ولا يوجد إلا يسوع المسيح وحده ابن الله الوحيد الذي أتوق إلى مملكته. فقال الحاكم: لعلك تعني يسوع الذي علقه بيلاطس على الصليب؟ فأجابه أغناطيوس: يجب أن يقال إن يسوع هذا علق الخطية وصانعها على الصليب، فأعطى الذين يحملونه في قلوبهم سلطانا لسحق الجحيم وقوته. فقال الحاكم: أنت إذن حامل يسوع في أحشائك؟ فقال أغناطيوس: لا ريب في ذلك؛ لأنه قيل أحل بينهم وأسير معهم. فحكم الحاكم في السادس من كانون الثاني سنة 107 بتكبيل أغناطيوس، وإرساله إلى رومة ليطرح للوحوش أمام الشعب، فهتف أغناطيوس: أشكرك يا رب؛ لأنك منحتني حبا كاملا لك، وشرفتني بالقيود التي شرفت بولس بها. ثم تقدم من تلقاء نفسه إلى القيود وصلى لأجل الكنيسة، واستودعها الله بدموع غزيرة، ثم أسلم نفسه للشرطة.
استشهاد حامل الإله
وانطلق أغناطيوس مصفدا بالأغلال يخفره عشرة جنود قساة، ويرافقه كل من الشهيدين روفوس
Rufus
وزوسيموس
Zosimus ، اللذين شملهما الحكم بالإعدام، وقام الجميع من أنطاكية إلى سلوقية التي على مصب العاصي، ثم أقلعوا إلى مرفأ من مرافئ قيليقية أو بمفيلية، ومنها إلى أزمير، وقضت ظروف السفر ببقائهم في هذه المدينة مدة من الزمن، فتعرف أغناطيوس إلى بوليكاربوس أسقف أزمير، وحرر منها عددا من الرسائل إلى كنائس آسية الصغرى واليونان ومقدونية، وهرعت أساقفة مغنيزية وأفسس وفيلادلفية في وفود كنائسها لاستقباله والتبرك به والتقاط درر تعاليمه، فاغترفوا من بحر إيمانه وإرشاده؛ وقد تجلت في رسائله روحه الرسولية، فلا يتمالك قارئها من الشعور في كل فقرة منها أن روح الله يتكلم بلسان هذا القديس العظيم.
28
وقام حامل الإله ورفيقاه من فيليبي إلى شاطئ الأدرياتيك، ومنه أبحروا إلى بوتيولي
، ورغب أغناطيوس أن يقتفي أثر بولس، فينزل في هذه البلدة ثم يقوم منها إلى رومة، ولكن الرياح منعته فأقلع إلى مرفأ رومة، ولدى وصوله إلى هذا المرفأ وجد عددا كبيرا من المسيحيين في انتظاره، فحياهم وكرر رجاءه ألا يعيقوا انتقاله للقاء سيده.
وانتهى هذا القديس إلى عاصمة الإمبراطورية، وحل موعد أعياد الختام
Sigillariu ، فتقاطر الرومانيون إلى مدرج فلافيانوس الذي عرف باسم ال
Collosseum ؛ ليحتفلوا بانتصارات تريانوس في داقية، فيشاهدوا المجالدات الدموية بين ألوف المجرمين والأسرى، والمصارعة بين بعض المجرمين والوحوش الضارية، فاستشهد روفوس وزوسيموس في باحة هذا المدرج في الثامن عشر من كانون الأول، وفي العشرين عري الشيخ الوقور الحامل الإله من ثيابه وطرح إلى الوحوش، فمزقت جسده الطاهر والتهمته، ولم تبق من جسمه إلا العظام الخشنة، فجمعها المؤمنون بكل احترام وأرسلوها إلى أنطاكية، فدفنت خارج السور بالقرب من باب دفنه، وبقيت هنالك حتى أيام إيرونيموس،
29
ثم تحول هيكل فورتونة في قلب أنطاكية إلى كنيسة مسيحية، فنقل ثيودوسيوس الصغير رفات القديس إلى هذه الكنيسة، وأطلق عليها اسم الشهيد البار تخليدا لذكره.
30
ومما نقل عن المؤمنين في رومة، الذين شاهدوا هذه الميتة المجيدة أنهم سكبوا لأجلها العبرات، وأقاموا الليل كله بالسهر والصلاة، متوسلين إلى الرب المخلص أن يشدد ضعفهم، فظهر لهم الشهيد بهيئة مجاهد خرج من القتال ظافرا، فامتلأت قلوبهم فرحا، وعينوا للإخوة في أنطاكية اليوم الذي نال فيه الحامل الإله إكليل الجهاد؛ أملا بالاشتراك في ذكر هذا المجاهد الذي داس إبليس لتمجيد الرب يسوع؛ ولا تزال الكنيسة الأرثوذكسية تحتفل بذكرى أغناطيوس الحامل الإله في العشرين من كانون الأول، أما الكنيسة الكاثوليكية فإنها خصصت الأول من شهر شباط لهذه الغاية النبيلة، ولعل السبب في هذا هو الجمع بين يوم استشهاده ويوم نقل رفاته إلى أنطاكية.
وجاء في حوليات يوحنا ملالاس الأنطاكي أن تيبريانوس حاكم فلسطين كتب إلى تريانوس الإمبراطور ينبئه بمتابعة التنكيل بالنصارى، ثم يفيد أن هذا التنكيل لم يأت بالنتيجة التي توخاها، فإن النصارى ما فتئوا يهرعون إلى قاعة المحاكمة مقدمين أنفسهم للموت.
31
القديسة ذروسيذة
وجاء في هذه الحوليات أيضا أن تريانوس أعد أتونا في أنطاكية، ودعا المسيحيين الذين أبوا إنكار دينهم إلى إلقاء أنفسهم فيه، وأنه ألقى القبض على خمس عذارى بينهن ذروسيذة، فاستنطقهن وحكم بإحراقهن، ومما جاء في هذه الحوليات أن كنيسة أنطاكية شيدت هيكلا باسم ذروسيذة العظيمة في الشهيدات والشهداء، واحتفلت بعيد استشهادها في كل سنة.
الفصل السادس
الدفاع الأول عن العقيدة
وأحب أغناطيوس كنيسته ووله بها، ففارقها مضطرب البال لما كان قد حل بها من خلافات داخلية، وصلى لأجلها وحض المؤمنين في كل مكان مر به أن يصلوا لأجلها، وكتب إلى الرومانيين المؤمنين من أزمير يقول: «اذكروا في صلواتكم كنيسة سورية التي أصبح الله راعيها.» وصادف في تروادة الشيخين غابوس وأغاثوبوس والشماس فيلون، فنقلوا إليه أخبارا سارة ولكنه ظل قلقا، فكتب من رومة إلى بوليكاربوس أسقف أزمير يحضه على إرسال أحد المؤمنين الغيورين إلى أنطاكية لإصلاح حالها، ويؤكد أن مثل هذا العمل هو عمل الله، ولبى المؤمنون في آسية الصغرى نداء الحامل الإله، فأوفدوا إلى أنطاكية من قضى على أسباب الخلاف فيها.
هيرون وكورنيليوس وإيروتوس
وخلف أغناطيوس في رئاسة كنيسة أنطاكية هيرون
Hirona ، ثم كورنيليوس
Kornelios ، فإيروتوس
Erotos ،
1
وحرف «النو» في الاسم الأول واضح جلي، وحرف «التو» في الاسم الثالث ظاهر بين؛ وبالتالي فليس هنالك إيروس أول وإيروس ثان كما جاء في بعض اللوائح العربية.
ولا نعلم بالضبط السنة التي تولى فيها كل من هؤلاء رئاسته، فإن أفسابيوس المؤرخ لا يعين هذه السنوات، وما جاء في ترجمة إيرونيموس من أن كورنيليوس تولى في السنة 128، وأن إيروتوس ترأس في السنة 142، لا يزال قيد البحث والتدقيق.
2
وقد يفيد القارئ أن يعلم أن أقدم اللوائح المؤرخة لسلسلة البطاركة في أنطاكية جاءت في حوليات ثيوفانس، وأن البطريرك المسكوني نيقيفوروس الأول (806-815) اعتمد هذه اللائحة نفسها في تاريخه،
3
وأن هنالك لائحة ثالثة في حوليات ميخائيل السوري.
4
ولم يبق من أخبار هيرون شيء يمكننا الرجوع إليه، ورسالته إلى أغناطيوس مزورة لا يجوز قبولها والاعتماد عليها،
5
والدليل على تزويرها داخلي، فإنها لا تتفق في شيء والعصر الذي تتحدث عنه، وقد فقدت أخبار كورنيليوس وإيروتوس أيضا.
أدريانوس والمسيحيون (117-138)
وقضت سياسة الإمبراطورية الرومانية بعودة تريانوس إلى رومة، وكانت الحرب بين رومة وفارس لا تزال سجالا، فرأى تريانوس أن يعود إلى العاصمة فيسوس الدولة ويستعد للحرب، فترك قيادة جيشه في الشرق إلى نسيبه أدريانوس، وعينه حاكما على ولاية سورية، ونهض إلى رومة في صيف السنة 117، وما إن وصل إلى سيلينوس
Selinus
في قيليقية حتى أدركته المنية فتوفي فيها، ورأت زوجته بلوتينة أن أدريانوس ابن عمة زوجها أحق من غيره في الحكم، فادعت أن تريانوس أوصى بها خلفا له، وكتبت إلى السناتوس بذلك، فوافق هذا المجلس وتبوأ أدريانوس أريكة الحكم، وساس الإمبراطورية حتى وفاته في السنة 138.
6
ولم يعدل أدريانوس الموقف القانوني من المسيحيين ولم يتحسس لهؤلاء، وعلى الرغم من ميله إلى كل جديد وخروجه على تقاليد رومة الدينية، ودخوله في عداد الأخويات الدينية الشرقية، فإنه ظل بعيدا عن المسيحيين متمسكا بقانون نيرون، مستعدا لتطبيقه عند الحاجة، وجل ما يذكر له من التساهل أنه حرم صخب الجماهير وضجيجهم عند المطالبة بالحكم على المسيحيين وإذلالهم، وتفصيل ذلك أن ليكينيوس غرانيانوس
Licinius Granianus
قنصل آسية كتب في السنة 124 إلى أدريانوس يتذمر من ضغط الجماهير الذي أدى إلى الحكم بالإعدام على أشخاص لم يكن لهم ذنب سوى انتمائهم إلى طائفة معينة، فحرم الإمبراطور صخب الجماهير وضجيجهم وضغطهم على الحكام، واكتفى بهذا القدر، ولم يبين ما إذا كان الانتماء إلى النصرانية يشكل جرما يوجب العقاب.
7
وقل ضغط الجماهير على الحكام، ولكن شكاواهم تكررت وتعددت، فاتسع التدقيق والتحقيق والتعذيب، وكثر التفنن في أساليب الإعدام.
8
وسكوت المراجع عن حوادث الاستشهاد في سورية في القرن الثاني لا يعني في حد ذاته أن السلطات ترفعت عن الاضطهاد وامتنعت عن التقتيل، فقد يكون السبب في ذلك ضياع الأخبار والتواريخ.
ثورة ابن كوكب وسخطه على النصارى (132)
وزار أدريانوس الشرق مرارا وخص أنطاكية بعنايته، فجملها وتفقد سائر المدن، فعطف على تدمر وأطلق اسمه عليها، وأنشأ الأبنية العمومية في جرش وعمان، ورفع دمشق وصور إلى رتبة متروبوليس،
9
ورأى أن أوروشليم كانت لا تزال خرابا منذ أن دمرها طيطس، فأمر بتخطيطها تخطيطا يونانيا رومانيا، وأطلق عليها الاسم
Aelia Capitolina ، وقضت سياسته الداخلية بتوحيد الإمبراطورية، وتمكين الروابط بين شعوبها المتباينة، فأوجب إنشاء هيكل لزفس على أنقاض هيكل يهوه، فلم يرق اليهود هذا العمل وأعلنوها ثورة لا هوادة فيها، وأدار دفة هذه الثورة ودبرها الكاهن العالم المجتهد عقيبة، وجعل من أحد الأشداء في القتال المسيح المنتظر، وقاد جواده بيده، واستبدل اسمه «ابن كذب» بابن كوكب
Bar Cocheba ، وانقض اليهود على معسكر روماني في أوروشليم، فقضوا على أفراده.
وكان بعض النصارى قد عاد من بلة إلى أوروشليم، وكانت كنيسة الرسل لا تزال قائمة على إحدى روابي هذه المدينة، فاستغل النصارى خراب الهيكل، وقيام معبد لزفس محله، وقالوا لليهود: ألا ترون في بقاء كنيستنا هذه سالمة وفي خراب هيكلكم أكبر دليل على عناية الباري بنا وغضبه عليكم؟ فرد اليهود: إن أدريانوس أراد إعادة بناء الهيكل، ولكنكم أغريتموه فأفسدتم بيننا.
10
وكسب اليهود الدورة الأولى فاضطهدوا النصارى في كل مكان وأذاقوهم ألوانا من العذاب.
ولكن بوزانياس المعاصر يعلق على هذه الثورة فيقول: إن أدريانوس كان أبعد الناس عن اللجوء إلى العنف، وإن اليهود أكرهوه إكراها على ما أنزل بهم من عقاب؛
11
ويرى الذهبي الفم أن حب العودة إلى الاستقلال تسلط على عقول اليهود في هذه الحقبة فدفعهم إلى الثورة.
12
واهتم أدريانوس للأمر واستدعى يوليوس سيفيروس
Severus
أفضل القادة من الجزر البريطانية، وأنفذه على رأس قوة إلى فلسطين، فأخمد الثورة بقساوة وشدة، ومن لم يسقط في ميدان القتال بيع في أسواق تربينة وغزة ومصر بثمن حصان واحد.
13
أكويلة والتوراة
وقضت ظروف البناء في أوروشليم أن يتولى تشييد المدينة الجديدة رجل عالم قدير مدبر، فانتقى أدريانوس أحد أنسبائه أكويلة البنطي
Aquila ، وأنفذه إلى فلسطين لهذه الغاية، وفي أثناء إقامة أكويلة في فلسطين كثر احتكاكه بالمسيحيين، فأعجب بفضائلهم وبالعجائب الظاهرة على أيديهم، ثم طلب الانضواء تحت لواء السيد المخلص ، فعمد باسم الآب والابن والروح القدس،
14
وكان لا يزال معجبا بنفسه متمسكا بالعلم والمعرفة، مكثرا في درس التنجيم والعمل به، ولم يرض الآباء عن ذلك ورأوا فيه ضلالا وتضليلا، فنصحوا له وردعوه فلم يرعو، فوبخوه فغضب، فقطعوه من الشركة، فخرج على الدين ودخل في اليهودية، واتصل بالكاهن اليهودي عقيبة، فتعاونا في نقل التوراة إلى اليونانية، واقتطعا منها كل ما استشهد به المسيحيون لتدعيم عقيدتهم، ودفعا بتوراتهم إلى الأوساط المسيحية اليونانية ليضللا من جهل العبرية والنصوص الأصلية.
15
الخطر المرقيوني
وكانت الغنوسية قد أصبحت أكثر الحركات الفلسفية الدينية انتشارا وأوسعها ميدانا، وكانت تعاليم مدرستها السامرية قد تسربت إلى مصر وعششت فيها، فإن كلسوس يذكر أن هذا النوع من الغنوسية شاع في مصر، ويشير إلى بعض ما كتب فيه،
16
وأوريجانيوس نفسه درس هذه الفلسفة في الإسكندرية على أحد رجالها السوريين بولس الأنطاكي،
17
وأثر هذه الغنوسية لا يزال ملموسا حتى يومنا هذا في بعض صفحات الأدب القبطي، وفي بعض أوراق البردي التي كشفها العلماء المنقبون؛ على أن أعظم ما جاءت به قرائح رجال هذه المدرسة مربوط بأسماء إسكندريين ثلاثة، صنفوا فيما يظهر في القرن الثاني في عصر أدريانوس الإمبراطور (117-138) وبعده بقليل، وهؤلاء الثلاثة هم: فالنتينوس
Valentinus ، وفاسيليذس
Basilides ، وكربوكراتس
Carpocrates ، وقد فصل إيريناوس القديس مذهب فانتينوس من باب الرد عليه، كما تكلم عن فاسيليذس وآرائه،
18
وعن كربوكراتس وملائكته.
19
ومما نقله إيريناوس عن كربوكراتس، وعن رأيه في المسيح المخلص أنه قال إن يسوع كان ابن يوسف من صلبه، وأنه تمكن بواسطة التقمص وبما اختبره في «دوره» الأول وبما أوتي من مقدرة من فوق؛ أن يسيطر على حكام هذا العالم، وأن يعود إلى الله الآب، وأضاف أنه بمقدور جميع الناس أن يفعلوا ما فعله المسيح إن هم سلكوا سلوكه وتذرعوا بأساليبه.
20
ولم يقتصر نشاط هذه القوة الدينية الفلسفية على سورية ومصر، ولكنه انساب نحو الشمال حتى شاطئ البحر الأسود، فقام في سينوب في هذا القرن الذي نحن بصدده ابن أسقف مسيحي يعظ ويبشر بمسيحية غنوسية، ويعمل لها بكل ما أوتي من مقدرة ونشاط؛ والإشارة هنا إلى مرقيون
Marcion
ابن أسقف سينوب الذي نزع إلى الدين والفلسفة بعد أن أثرى في التجارة البحرية، وقال مرقيون بغنوسية مسيحية، فغضب عليه والده وقطعه من شركة الكنيسة،
21
فخرج من سينوب وطاف آسية الصغرى مبشرا باستحالة التوفيق بين التوراة والإنجيل، موجبا التخير بين محبة المسيح التي لا نهاية لها وصلاحه السامي، وبين عدالة إله إسرائيل القاسية، مبينا أن إله اليهود إله الخليقة والناموس لا يمكن أن يكون هو نفسه إله الرحمة، بل دونه مرتبة، «والمخلص» في نظره كان مظهرا من مظاهر الإله الحقيقي الصالح، وقد خلص البشر بإظهاره حقيقة الإله الصالح، الذي جاء من عنده وبالصلب. ولما لم يكن له أي صلة بإله الخليقة؛ فإنه لم يكن بشرا ولم يولد ولم ينم، ولكن شبه لهم في كنيس كفر ناحوم أولا في السنة الخامسة عشرة لحكم طيباريوس قيصر، ثم في سائر الجليل واليهودية والسامرة.
22
وقال مرقيون بخلاص البعض لا الكل، وأوجب الزهد الشديد في المأكل والمشرب، ونهى عن الزواج، وسمح بمعمودية المتزوجين بعد موافقتهم على الافتراق.
ولم يلجأ مرقيون إلى النبوات ليؤيد صحة مذهبه، ولم يحاول أن يربط عقيدته بنصوص التوراة، ولم يعتمد سوى رسائل بولس وإنجيل لوقا، وقال بأن الرسل الأطهار لم يفهموا الإنجيل فهما تاما؛ لأنهم اعتبروا المسيح رسول الإله الخالق، فاصطفى يسوع بولس ليصحح التعاليم. وقال عما جاء في رسائل بولس من إشارات إلى الإله الخالق أنها دست دسا، ومن هنا قول ترتليانوس إن مرقيون قرض الأناجيل فاستحق اللقب «جرذ البونط»، وأضاف أتباعه فيما بعد إلى إنجيل لوقا ورسائل بولس العشر رسالة مرقيون في التناقض بين التوراة والإنجيل
Antitheses ، فكان لهم كتاب مقدس خاص شاع استعماله في جميع كنائسهم.
23
واحتدم الجدل بين مرقيون والقديس بوليكاربوس، فاعتبره هذا «أول خلق الشيطان»،
24
وأم مرقيون رومة حوالي السنة 140، وكتم غنوسيته ونفح كنيسة رومة بهبة جليلة، وعكف على «قرض» إنجيل لوقا ورسائل بولس، وعلى تصنيف كتابه في التوراة والإنجيل،
25
ولما تم له ذلك كشف عن وجهه الحقيقي ودعا إلى آرائه، فالتف حوله عدد من المسيحيين، فطردته الكنيسة وأطرحت هبته، واغتنم القديس بوليكاربوس فرصة وجوده في رومة في السنة 154، فأنقذ من الضلال عددا من أتباع مرقيون.
26
وحكي أن مرقيون ندم وارتضى بما اشترطته الكنيسة عليه، ولكنه توفي قبل أن يفعل، ولا نعلم سنة وفاته بالضبط، ويرى العلامة هرنك الألماني أنها لم تقع بعد السنة 160.
27
وذاع أمر هذا القول وفشا، فانتشر في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وعلى الرغم من دفاع الآباء فإنه ظل شائعا حتى أواخر القرن الرابع، فقد جاء في كتاب الهرطقات لأبيفانيوس المؤرخ أن مرقيون كان لا يزال متبعا في أنطاكية ومصر وفلسطين والعربية وسورية وفارس وغيرها من البلدان.
28
وجاء القرن الثالث، فسطت المانوية على هذه البدعة، وبدأت تحل محلها في الغرب أولا، ثم في الشرق.
29
برديصان (154-222)
واشتهر في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث غنوسي آخر هو برديصان الرهاوي، وبرديصان
Bardesenes
مشتقة من بار السريانية، ومعناها ابن، ومن ديصان وهو نهر فوق مدينة الرها، ولد برديصان على هذا النهر فسمي به، ثم نشأ في الرها في قصر أبجر التاسع واهتدى إلى النصرانية، فانبرى ينتصر لها، ثم زاغ عندما تقبل الغنوسية على مذهب فالنتينوس،
30
وانتمى إلى فرع هذه البدعة الشرقي، فزامل أكسيونيكوس
Axionikos
واشتغل بالتنجيم، وأجاد السريانية ونظم الأناشيد، وأحسن التلحين فافتتن بأناشيده شبان الرها وفتياتها ونقلوا أضاليله بها. وجاء في تاريخ أفسابيوس أن برديصان كتب مقالات كثيرة في الفلك والقدرة وغير ذلك، وأن بعضها نقل إلى اليونانية، وليس لدينا اليوم من مصنفاته هذه سوى كتابه في شرائع البلدان
31
الذي أملاه على تلميذه فيليبوس، ويرجح العلامة الأستاذ بيفان أن برديصان هو صاحب «أنشودة النفس»، ولكن أحدا من زملائه العلماء لا يشاركه في هذا الرأي.
32
وحكى مار إفرام الملفان أنه قال بسبعة كائنات، ونقل مار ميخائيل الكبير وابن العبري أنه قال بثلاث طبائع كبار وأربعة كائنات صارت 366 عالما وكائنا، وأن الله لم يكلم موسى والأنبياء وإنما هو رئيس الملائكة، وأن مريم لم تلد جسدا قابلا الموت، لكن نفسا نيرة اتخذت شكلا جسديا، وكذب بالقيامة، وخلط في أمر تكوين العالم.
33
التهجم على الإيمان وتحقيره
وظهر خبر النصرانية في أوائل القرن الثاني، وشاع وانتشر فسار على أفواه الوثنيين وملأ أسماعهم، ولكنه التبس عليهم وأشكل، فتخيلوا في النصرانية أشياء وأشياء، فقالت العامة إن النصارى يعبدون إلها رأسه رأس حمار؛ ومن هنا صورة تلة البلاتيوم في رومة التي تعود إلى القرن الثاني، وتمثل شخصا مصلوبا له رأس حمار وفي أسفلها العبارة: أعبد ربك يا أليكسامينوس
Alexamenos !
34
وقال آخرون من هذه الطبقة إن النصارى يجتمعون مرة في الأسبوع حول مائدة واحدة للسكر والأكل والخلاعة، وإن طقوسهم الدينية تستوجب السحر وسفك الدماء، وقالت الطبقة المتنورة إنهم فقراء مساكين لا يفقهون ما يقولون،
35
وشارك الفلاسفة والفصحاء أمثال هيرودوس أتيكوس وكلوديوس سفيروس العامة في قلة الاحترام والتحقير؛ وهذا كلسيوس
Celsius
الذي نقل أخباره أوريجانس، فإنه رأى في الدين الجديد دينا بربريا أعده أناس غير مثقفين يستخفون بالشرائع، ويزدرون العادات والتقاليد، ويهينون ثقافة الأوساط التي يعيشون فيها.
36
دفاع النصارى
واقتدى الشهداء الأولون بالسيد المخلص، فدافعوا عن الإيمان دفاعه أمام بيلاطس، ودفاع أسطفانونس أمام المجلس، وبولس أمام فيستوس، ولكن ظروف الاستشهاد لم تسمح بأكثر من دقائق معدودة، فهب المسيحيون المتنورون يصنفون الرسائل للدفاع عن الإيمان، وهؤلاء هم الآباء الأبولوغيون. والأبولوغية
Apologia
كلمة يونانية معناها الدفاع عن قول أو فعل.
وأقدم المدافعين المسيحيين الذين وصلت أخبارهم إلينا القديس كوادراتوس
Quadratus ، الذي وجه دفاعا عن الدين القويم إلى الإمبراطور أدريانوس فقال: «إن أعمال مخلصنا باقية، فالأموات الذين أقامهم والمرضى الذين شفاهم استمروا في الحياة إلى ما بعد انتقاله، وبعضهم ظل حيا حتى عصرنا.»
37
ووجه القديس أريستيذس
Aristides
الفيلسوف الأثيني دفاعا آخر إلى الإمبراطور أنطونينوس بيوس (138-161) بين السنة 138 والسنة 147.
38
أريستون البلاوي
وبلة
هي فحل وادي الحمة، وأريستون هو أحد المسيحيين المتهودين، الذين نشئوا في بلة هذه بعد خراب أوروشليم على يد طيطس في السنة 70، وهو أول من دافع عن الإيمان في الشرق، فصنف حوالي السنة 137 حوارا بين ياسون المسيحي وبابيسكوس اليهودي، فيما إذا كان السيد المخلص هو المسيح المنتظر ، واستعان بالتوراة فأبان كيف تمت النبوات في شخص يسوع.
39
يوستينوس الشهيد (105-165)
وولد في نابلس في مستهل القرن الثاني من أبوين وثنيين يونانيين، يوستينوس الفيلسوف القديس الشهيد، فنشأ نشأة وثنية، وطلب الحقيقة عند الرواقيين فالأكاديميين فالفيثاغوريين فلم يرتو، ثم استوقفته الأفلاطونية مدة من الزمن، فلم يجد فيها مطلبه، وظل يتوق لمعرفة الخير الأعظم والحق الأسمى، فصادف عند شاطئ البحر رجلا شيخا كلمه فيما كان يبحث عنه، وأرشده إلى الأسفار المقدسة، وأكد له أنه لا يمكنه الوصول إلى ما تمنى «إلا إذا وهبه الله ومسيحه النور السماوي»، ثم غاب عنه واختفى، فثابر يوستينوس على قراءة النبوات والإنجيل، ووجد ضالته فيها، وتقبل النعمة بالمعمودية في الثلاثين من عمره، وشاهد المؤمنين يحتقرون الزمنيات ويتقبلون الموت بلا خوف أو جزع؛ فزاده ذلك إيمانا، وجعل يبتعد عن العالم، فقبل الكهنوت وانطلق يرشد ويعلم،
40
ونفخ في الفلسفة اليونانية روحا مسيحية فكان أول الفلاسفة المسيحيين،
41
وقال بوجوب مشاركة الغير فيما وجد لنفسه، واعتبر امتناعه عن ذلك خطيئة توجب العقاب، فجال في الأرض يبشر بالإنجيل لخلاص النفوس،
42
وما فتئ يجول ويطوف حتى وصل إلى رومة، فاستقر فيها معلما.
وأدى إخلاصه وورعه إلى الدفاع عن الدين القويم فصنف كثيرا، ولم يبق من مصنفاته سوى الأبولوغيتين الأولى والثانية والذيالوغوس، والأبولوغية الأولى موجهة إلى الإمبراطور أنطونينوس بيوس ما بين السنة 148 والسنة 161،
43
أما الثانية فإنها وجهت إلى مجلس الشيوخ الروماني، وأهم ما جاء في الأولى رجاء القديس الفيلسوف أن يشمل الإمبراطور المسيحيين بعطفه، فينظر هو في قضاياهم المماثلة أمام المحاكم، وأردف القديس هذا الرجاء بانتقاد موقف السلطات الرسمي من المسيحيين، فأبان أن اللفظ «مسيحي» كاللفظ «فيلسوف» لا يشكل في حد ذاته جرما أو براءة، ثم يخلص إلى القول بأن امتناع المسيحيين عن احترام الآلهة والتعبد لها إنما هو ناشئ عن خوفهم من غضب الله في يوم الدينونة، وأنهم بابتعادهم عن الشر يصبحون أفضل العناصر لتدعيم الحكم وتأييده، وينتقل بعد هذا إلى وصف عقيدة المسيحيين والطقوس التي يمارسونها والأسباب التاريخية التي تدفعهم إلى ذلك ، فالنبوءات في نظره تثبت أن يسوع ابن الله، والمسيح المخلص أسس الدين المسيحي ليغير البشرية، ويردها إلى ما كانت عليه في الأصل، والشياطين قلدت النبوءات فأنشأت أسرار الديانات الوثنية وطقوسها، وأفلاطون نفسه أخذ عن التوراة؛ ومن هنا هذه الأفكار المسيحية في فلسفته.
ويستهل القديس الشهيد دفاعه الثاني بالإشارة إلى الحكم بالإعدام، الذي أصدره أوربيكوس
Urbicus
برايفكتوس رومة على ثلاثة من المسيحيين لمجرد اعترافهم بأنهم مسيحيون، ثم يحكم الرأي الروماني العام في مثل هذه القضية، ويحتج على قساوة الأحكام الصادرة، ويدحض عددا من التهمات التي كانت تلصق بالنصارى، ويرد على بعض المستهزئين، فيقول للذين استغربوا إحجام النصارى عن الانتحار، على الرغم من أن هذا الانتحار يعجل لقاءهم بربهم: إن النصارى لا يعاكسون إرادة الله، ولكنهم لا يحجمون عن الاعتراف بنصرانيتهم أمام القضاة؛ لأنهم أصحاب ضمير يعتبرون الكذب نفاقا وزندقة.
44
ويخلص إلى القول بأن الاضطهاد يهيئ للمسيحيين ظرفا يظهرون فيه تفوق دينهم على الأديان الوثنية.
والذيالوغوس الذي أعده يوستينوس يتضمن جدلا دار في أفسس زهاء يومين كاملين مع تريفون اليهودي،
45
ويبدأ القديس هذا الذيالوغوس بسرد ما جرى له في سعيه وراء الحقيقة وفي كيفية دخوله في النصرانية، ثم يبين في الفصول 9-47 موقف النصارى من التوراة، فيؤكد أن ناموس موسى كان وقتيا، وأن الناموس المسيحي هو ناموس البشرية بأسرها على مدى الأجيال، وينتقل بعدئذ إلى المسيح الإله، فيكرس الفصول 48-108 إلى تدعيم ألوهية السيد المخلص، ثم يعتبر المؤمنين به الحافظين وصاياه شعب الله الخاص (109-142). والذيالوغوس في الشكل الذي نعرفه عبارة عن تدوين ملخص ما جرى في أفسس، لا تدوين أسئلة وأجوبة بالتسلسل الذي جاءت فيه أثناء المناقشة.
46
ويرى الآباء المجتهدون أن يوستينوس الشهيد الفيلسوف كان أول من كشف الأسرار المقدسة للوثنيين واليهود، فقد جاء في الفصل الحادي والستين من أبولوغيته الأولى أنه يجب على من رام الدخول في النصرانية أن يصوم ويصلي، ويلتمس الغفران عن مآثمه السابقة، وبعد ذلك يقاد إلى المكان المهيأ فيه الماء، فيعمد باسم الآب والابن والروح القدس، ثم يؤخذ إلى حيث يكون الإخوة مجتمعين، فيصل من أجله ومن أجل جميع المؤمنين؛ وبعد قبلة المحبة يقدم الخبز والخمر والماء إلى المترأس، فيشكر هذا الآب مبدع الكون باسم الابن والروح القدس، ويشترك المؤمنون بهذا الشكر بلفظة آمين؛ الكلمة العبرية التي تعني «فليكن»، وبعد أن يكمل المترأس الصلوات والتسابيح يأخذ الشمامسة الخبز والخمر ويوزعونهما على الحاضرين، ثم يأخذونهما للغائبين أيضا؛
47
ويؤكد القديس أن هذا القوت يدعى عند المسيحيين أفخارستية، فلا يتناوله إلا من قال قولهم واغتسل من آثامه، وطبق تعاليم السيد المخلص، وأن الخبز ليس خبزا عموميا، وأن الخمر ليس مشروبا اعتياديا، بل هما جسد الكلمة المتجسد ودمه.
48
وتطاول كريشنتة
Crescens
الفيلسوف الكيني على المسيحيين، فقال إنهم كفرة مجدفون يخدعون الجماهير ليربحوا تأييدهم، فانبرى يوستينوس للدفاع، وحج هذا الفيلسوف الوثني وقرعه، فضمر كريشنتة السوء، ووشى بيوستينوس وبستة آخرين، فاستجوبهم روستيكوس
Rusticus
برايفيكتوس رومة في السنة 165، وأمر بضربهم بالعصي، ثم بقطع رءوسهم، وحفظ المسيحيون المعاصرون نص هذه المحاكمة وأورثوها الخلف الصالح،
49
وإليك بعضها:
روستيكوس :
أي علم تدرس؟
يوستينوس :
لقد درست جميع العلوم الواحد بعد الآخر، وقد انتقيت لنفسي تعاليم المسيح.
روستيكوس :
وما هي هذه التعاليم؟
يوستينوس :
أن يؤمن بإله واحد خالق كل شيء، وأن يعترف بيسوع المسيح ابن الله ديان البشر، ولا يمكنني أنا الضعيف أن أتكلم عن ألوهيته كما يجب؛ فإن هذا الكلام هو عمل الأنبياء الذين تنبئوا عنه منذ قرون بوحي من فوق.
روستيكوس :
أين يجتمع المسيحيون؟
يوستينوس :
حيثما يمكنهم ذلك؛ لأن إله المسيحيين يعبد في كل مكان.
روستيكوس :
هل أنت مسيحي؟
يوستينوس :
أنا مسيحي.
روستيكوس :
يقول الناس إنك فيلسوف فصيح، فإذا ضربتك بالعصي، ثم قطعت رأسك، أتعتقد أنك تصعد إلى السماء؟
يوستينوس :
إني واثق إلى حد لا يعتريني شك بعده.
روستيكوس :
تعبد للآلهة.
يوستينوس :
العاقل لا يشتري الضلالة بالهدى!
وأعدم القديس الفيلسوف في عهد الإمبراطور مرقس أوريليوس، وسرق المسيحيون جسده وأجساد رفاقه ووضعوها جميعها في مكان لائق بها، ولا نزال نحيي ذكر هؤلاء في القداس الإلهي في أول حزيران من كل عام.
50
تاتيانوس السوري (110-180)
ولد تاتيانوس
Tatianus
في الجزيرة السفلى في حديابين، من أبوين وثنيين فتربى في الوثنية، ثم طلب الحكمة، فرحل وتجول وأقام في بلاد اليونان مدة من الزمن وانتهى في رومة، وعاشر اليونانيين والرومانيين ومارس طقوسهم، فلم يجد في أديانهم إلا ضلالا وفسادا؛ فهو يقول: لقد رأيت هذه الأشياء، واشتركت في ممارسة الأسرار، وتفحصت جميع الطقوس التي أنشأها المخنثون والخناثى، فوجدت جوبيتر الروماني يستلذ الدم البشري والذبائح البشرية، وكذلك أرتميس فإنها أجازت مثل هذا، ووجدت شياطين آخرين يقذفون انفجارات من الشر؛ وعندئذ عدت إلى نفسي أبحث عن السبل التي تقودني إلى الحقيقة، فوقعت يدي على مصنفات برابرة أقدم من آراء اليونانيين وأقرب من ضلالاتهم إلى الحق الإلهي، فراقت لي سذاجتها، وتجلى لي صدقها وحسن عندي تعليمها بوحدانية الله، وثبت لدي أن الطقوس الوثنية تقود إلى الدينونة والعقاب، وأن هذه الأسفار تخرج من العبودية، وتخلص من ربقة الطغاة وجمهور المعلمين.
51
ويرى العلماء الباحثون أن تاتيانوس تنصر في رومة، ولزم يوستينوس الفيلسوف وأخذ عنه وانتصر للنصرانية ودافع عنها، ولكنه خالف أستاذه في موقفه من الفلسفة اليونانية، فيوستينوس وجد شيئا من الحقيقة فيما صنفه رجال الفكر اليوناني واحترم فلسفتهم، أما تاتيانوس فإنه انثنى على اليونانيين بالملام الشديد، فانهال على فلسفتهم وعلومهم وفنونهم ولغتهم، وعذلها عذلا.
52
وأنشأ تاتيانوس بعد استشهاد معلمه مدرسة في رومة علم فيها الدين وشرح الأسفار، والتف حوله عدد من الطلبة بينهم رودون
Rhodon .
53
وصنف تاتيانوس لمناسبة الأستذة خطابا
Discursus
في أربعة أجزاء؛ خص الأول منها بالكوسمولوغية
Cosmologia ، فأبان موقف المسيحيين من الإله الخالق وعلاقة الكلمة بالآب، وكيفية خلق العالم والإنسان والملائكة، وبحث في الجزء الثاني من هذا الخطاب في الشياطين والشيطنة، وشدد في الثالث النكير على الحضارة اليونانية، فأظهر محالية الفلسفة اليونانية وسمو التجسد النصراني، ورذائل المسرح اليوناني، والتناقض بين الفلسفة اليونانية والشرع اليوناني، وتفوق الدين المسيحي، وأبان في الجزء الرابع من هذا الخطاب قدم عهد الآداب المسيحية.
وساقه الغرور إلى الانحراف عن الصراط المستقيم، وأخذ عن الغنوسيين وغيرهم من هراطقة القرن الثاني ،
54
فانكفأ إلى وطنه حوالي السنة 172، وأقام مدة في أنطاكية فقيليقية فالرها، وجمع في الرها الأناجيل الأربعة في كتاب واحد أسماه «من خلال الأربعة»
Diatessaron ، وكتبه باليونانية أولا، ثم بالسريانية، فتلي في كنائس الرها وإقليم الفرات زمانا مديدا حتى أبطله رابولا أسقف الرها في القرن الخامس، واستبدله بالأناجيل الأربعة المفضلة.
55
وقد عثر المنقبون في دوره في السنة 1934 على جزء من الدياتيسرون باليونانية، يعود فيما يظهر إلى ما قبل السنة 254،
56
ونقل الدياتيسرون إلى الأرمنية في القرن السادس، وإلى العربية في القرن الحادي عشر، وذلك على يد الراهب أبي الفرج ابن الطيب ودعي «الرباعي».
ويرجح العلماء المدققون أن تاتيانوس هو مؤسس مذهب الإنكراتيت
Encratites ، وهؤلاء قوم «من غلاة الأعفة نسجوا على بعض منوال المرقيونية، واستهواهم الإفراط في الزهد، فحرموا أكل اللحم وكل ذي نفس والخمر والزواج»، واستعاضوا عن الخمر بالماء في سر الأفخارستية، فسموا «الأكواريون» أيضا
Aquariens ، ولا نعلم شيئا عن وفاته.
57
ثيوفيلوس الأنطاكي (169-185)
وهب للدفاع عن الإيمان المقدس بعد أرستون ويوستينوس وتاتيانوس ثيوفيلوس أسقف أنطاكية، ولا يخفى ما لدفاع هذا الأسقف من الأهمية؛ لأنه صدر عن رئيس مسئول، ولأنه قوبل بارتياح تام في الأوساط المسيحية القديمة، فظل مرجعا هاما لمن عني بالعقيدة طوال قرون ثلاثة متتالية.
وعلى الرغم من تقدير لكتانيتوس (250-325)
58
لهذا الأسقف المجاهد واهتمام أفسابيوس المؤرخ (265-339) لمؤلفاته ومصنفاته،
59
وتذرع إيرونيموس (331-420) بأقواله،
60
فإن أحدا منهم لم يحفظ لنا شيئا من أخباره، وجل ما دونه أفسابيوس أن ثيوفيلوس كان الأسقف السادس بعد بطرس، وأنه جاهد ضد الهراطقة، وكتب في مواضيع معينة.
ولذا ترانا مضطرين أن نعود إلى ما تبقى من مصنفات ثيوفيلوس لالتقاط ما أشار إليه هذا الأسقف عن نفسه في عرض كلامه، ويستدل من رسالته الثانية إلى أوتوليكوس أنه نشأ في بيئة هلينية يونانية بالقرب من الفرات، وأنه اهتم للغة العبرية،
61
ويجوز القول إنه كان واسع الاطلاع يعرف شعر هوميروس وإسيوذ وبعض مناقشات أفلاطون، وأنه أحب التاريخ واستعان به كثيرا، ولا نراه كثير الاهتمام بالعلوم الزمنية والفلسفية؛ فهو يسخر ممن بحث في شكل الأرض، ويقول إن العقل البشري لا يمكنه أن يعلم ما إذا كانت الأرض كروية الشكل أو مكعبة؛
62
ولا يجوز القول إنه كان لاهوتيا قديرا، فإن ما قاله عن خلق السموات والأرض ينم عن شيء من السذاجة والسخف،
63
ولكن لا يختلف اثنان فيما نعلم في مقدرة ثيوفيلوس في الكتابة والتصنيف، فإنه كان أديبا واسع الخيال، رشيق اللفظ، فخم الكلام.
64
وقد غالى بعض العلماء في النقد، فقالوا بثيوفيلوسين أحدهما أسقف أنطاكية والآخر صاحب الرسائل التي أشرنا إليها، واستدلوا على ذلك بالإشارة الواردة إلى وفاة مرقس أوريليوس في الرسالة الثالثة، فقالوا إن تاريخ هذه الوفاة أمر تاريخي ثابت يجب الابتداء به والبنيان عليه؛ فمرقس هذا توفي في السابع عشر من آذار سنة 180، وثيوفيلوس الأسقف توفي بموجب رواية أفسابيوس في السنة 178، فلا يجوز والحالة هذه أن يقال إنه هو صاحب هذه الرسائل، وآثروا القول بثيوفيلوس آخر عاش بعد الأسقف الأنطاكي.
65
وقد فات هؤلاء أن أفسابيوس الذي يستمسكون بروايته يقول بصراحة إن واضع هذه الرسائل هو ثيوفيلوس أسقف أنطاكية، ويرى العلامة الأب بردي أن أفسابيوس أخطأ في تاريخ وفاة ثيوفيلوس الأسقف، وأنه أقرب إلى الحقيقة أن يكون هذا الأسقف قد توفي في السنة 185 لا 178.
66
وليس لدينا من مصنفات هذا الأسقف الباسل سوى رسائله الثلاث إلى أوتوليكوس، ولا نعلم من هو أوتوليكوس، فقد يكون شخصا حقيقيا ألف ليسخر من الدين المسيحي، وقد يكون شخصا وهميا جعل منه الأسقف هدفا للنصح والإرشاد.
67
وقد جاء في رسالة ثيوفيلوس الأولى إلى أوتوليكوس أن أوتوليكوس هذا كان أحد أصدقائه الوثنيين، الذين مجدوا آلهتهم وأنبوا ثيوفيلوس لاعتناقه العقيدة النصرانية، وهزءوا من إلهه غير المنظور ومن قيامة الموتى، قائلين إنهم لم يروا ميتا عاد إلى الحياة، فيجيبهم ثيوفيلوس: إن الله روح لا يراه إلا المؤمن، ولا يجده إلا نقي القلب ولا يوصف لأنه يفوق البصيرة، وإذا كنا لا نبصره فإننا نلمس وجوده بمظاهر عنايته وتدبيره.
68
ثم ينتقل هذا الأسقف الباسل إلى قيامة الموتى فيتذرع بالإيمان فيقول: أليس من الضروري أن نثق بالطبيب الذي يعالجنا ، والمعلم الذي يعلمنا ، والربان الذي يقود سفينتنا؟ فأحرى بنا أن نؤمن بما يقوله الله لنا، الإله الحق لا آلهة الوثنيين المزورة.
69
ويستهل ثيوفيلوس رسالته الثانية بخلاصة ما جاء في الأولى، ثم يحاول أن يرد أوتوليكوس عن الآلهة، فيتساءل عن ماهيتها وقيمتها وسبب توقفها عن التناسل بعد خصبها الأول، ويهزأ من الفلاسفة فيرى باعترافهم بوجود هذه الآلهة ضربا من الجهل والبلاوة، وفي اختلافهم في الرأي حولها دليلا على قلة وزن ما يقولون.
70
وينتقل بعد هذا إلى النبوات المقدسة التي أوحى الله بها إلى أنبيائه، فيبين صدقها باكتمالها فيما بعد، ثم يعرض عندئذ قصة الخليقة كما جاءت في سفر التكوين،
71
ويجيء بعد هذا كلام عن السيبولات المتنبئات اليونانيات، يظهر ثيوفيلوس فيه بعض الاتفاق بين ما قلنه وبين ما جاء على ألسنة الأنبياء.
72
ويثير أوتوليكوس حداثة عهد النصرانية والنبوات التي تستند إليها، فيكرس ثيوفيلوس قسما هاما من رسالته الثالثة إلى هذا الموضوع، وبعد أن يبين ضآلة الأساطير اليونانية التي تبحث في كيفية نشوء العالم، يؤكد أن الأنبياء وحدهم يستحقون الثقة فيما يقولون عن هذه المواضيع البعيدة الأجل؛ لأنهم تكلموا فيها بوحي من الله. ويخلص بعد هذا كله إلى القول بأن موسى والأنبياء أقدم بكثير من مشترعي اليونان وشعرائهم.
73
وقد ضاعت مؤلفات ثيوفيلوس الأخرى، وأهمها كتابه في تكوين العالم الذي أشار إليه في الرسالة الثانية إلى أوتوليكوس،
74
ورده على كل من هيرموجانوس ومرقيانوس اللذين ذكرهما أفسابيوس في تاريخ الكنيسة،
75
وقد يكون رد ترتيليانوس على هيرموجانوس مستوحى من كتاب ثيوفيلوس،
76
ويرى بعض العلماء أن كلا من أدمنتيوس وإيرينايوس اعتمدا رد ثيوفيلوس على مرقيانوس في مصنفيهما الشهيرين.
77
ويفيد أفسابيوس أن ثيوفيلوس صنف في التعليم المسيحي، ويذكر إيرونيموس أن ثيوفيلوس كتب في تفسير الإنجيل وفي شرح أمثال سليمان.
78
ويرى رجال اللاهوت أن ثيوفيلوس الأنطاكي تشرد في الإيمان، فلم ير موجبا لإقامة الدليل على العقائد، ولكنه لم يحرم اللجوء إلى العقل والفلسفة، فهو يقول إن مجرد الالتفات إلى الكون والوقوف على نظامه يكفيان للاعتراف بخالق حكيم قدير،
79
بيد أنه لا يشعر بحاجة إلى هذا النوع من الدليل؛ لأن البرهان الحقيقي في مثل هذه الأمور هو قول الأنبياء.
ويقول ثيوفيلوس بإله واحد خالق السموات والأرض، لا بداية له ولا نهاية، حي قيوم لا يتغير، وهو آب؛ لأنه سبق كل شيء وخلق كل شيء، وكان الكلمة عند الله، وكان كائنا فيه
Logos Endiathetos ، ففاه الله الكلمة قبل كل شيء
Logos Proforichos
وصنع به كل شيء،
80
وأنطق الأنبياء بالروح القدس فكانوا قديسين عادلين، وبحكمته تكلموا عن خلق العالم وعن كل شيء.
81
ويعزو المؤرخون المجتهدون هذا التفريق بين الكلمة الكامنة - إذا جاز هذا التعبير بالعربية - والكلمة الناطقة؛ إلى أثر الفلسفة الرواقية.
82
ولا يجوز القول إن ثيوفيلوس هو «أول من جاهر بالثالوث الأقدس»؛
83
لأن المكاشفة بالثالوث جاءت في الأناجيل الطاهرة والرسائل المقدسة، وجل ما يجوز قوله هو أن اللفظ اليوناني
Trias
يرد لأول مرة في الأدب المسيحي القديم (كما نعرفه اليوم) في رسائل ثيوفيلوس إلى أوتوليكوس، ويجوز القول أيضا إن هذا اللفظ اليوناني ليس من نحت ثيوفيلوس؛ لأن ثيوفيلوس لا يشعر عند استعمال هذا اللفظ أنه أتى بشيء جديد، فهو لا يقف عنده ولا يلفت النظر إليه، بل يستعمله كلفظ معروف شائع مفهوم؛ ولا يستغرب والحالة هذه أن يكون غيره قد استعمل هذا اللفظ من قبله، وأن تكون الألسن قد تداولته حتى أصبح معروفا لا حاجة إلى تفسيره والتعليق عليه.
84
ويرى العلامة الأب باردي أن سكوت ثيوفيلوس عند التجسد الإلهي في رسائله الثلاث هذه، إنما نشأ عن اهتمامه في الرد على قضايا معينة أثارها الوثنيون المعاصرون، فهو لم يهدف إلى وضع مصنف كامل شامل في العقيدة المسيحية، وإنما قصد أن يرد تهما معينة ويهدي من الضلال.
85
هيغيسيبوس الباحث (110-180)
واشتهر في النصف الثاني من القرن الثاني هيغيسيبوس الباحث
Hegesippos ، ولد يهوديا متهلنا في فلسطين وتنصر حوالي السنة 150، وهاله انتشار الغنوسية فرحل في طلب الإيمان الصحيح، وزار كورنثوس في عهد أسقفها بريموس، ثم انتقل إلى رومة فوصلها في عهد أسقفها أنيكسيتوس
Enixitos
الحمصي (155-156)، وبقي فيها حتى أسقفية إلفثيريس
Eleutheros (174-189)؛ ولما كان رائده التثبت من صحة العقيدة والتعليم، فإنه نظر في تسلسل البركة الرسولية في كل كنيسة زارها، ودون هذا التسلسل منذ أيام الرسل المؤرخين حتى عهده، واطمأنت نفسه إلى أرثوذكسية العقيدة والتعليم، فعاد إلى الشرق وصنف كتابا باليونانية دعاه «الذكريات»، وكرس معظمه لدحض أقاويل الغنوسيين.
وقد ضاعت «ذكريات» هيغيسيبوس، ولم يبق منها سوى ما أخذه أفسابيوس المؤرخ عنها، ومعظم هذا يبحث في أخبار أساقفة أوروشليم وأقرباء السيد المخلص في الجسد، كاستشهاد يعقوب أخي الرب وسمعان خلفه وما إلى ذلك، وكان هيغيسيبوس يجيد اليونانية والسريانية والعبرية.
86
سرابيون (191-212)
وجلس بعد ثيوفيلوس في سدة أنطاكية مكسيمينوس
Maximinos (185-191)، وقد ضاعت أخباره، ولم يبق منها سوى ذكر اسمه،
87
وخلفه بعد وفاته سرابيون
Serapion
وهو التاسع بعد بطرس، وقد اشترك في الدفاع عن الإيمان، وصنف في ذلك رسائل عدة، منها رسالة إلى الإكليريكيين كيريكسوس
Carixos
وبنطيوس
، ومنها رسالة وجهها إلى ذمنوس
Domnos
الذي كان مسيحيا فارتد عن الإيمان؛ ليرد عن نفسه آلام الاضطهاد في عهد سبتيميوس سويروس «فسقط في خرافة اليهود».
88
ومما نقل عنه أنه صنف كتابا في إنجيل بطرس بين فيه ما حواه هذا الإنجيل المزور من التعاليم المرقيونية الفاسدة، وكان الداعي لذلك أن دعاة المرقيونية تسللوا إلى صفوف كنيسة أرسوز
Rhossos
بين رأس الخنزير والإسكندرونة، فبذروا فيها بذور الشقاق، فأقبل بعض أبناء هذه الكنيسة على مطالعة هذا الإنجيل المزور وامتنع غيرهم عن ذلك، فأذن سرابيون بقراءته أولا تهدئة للخصام، ثم استحصل على نسخة من هذا الإنجيل وعكف على مطالعتها، فلمس الدس والتضليل فيها، فوضع رسالة في ذلك كله، وبعث بها إلى المؤمنين في أرسوز وأنبأهم بقرب زيارته لهم؛
89
وجاء في التقليد أن سرابيون سام بالوط أسقفا على الرها،
90
فأثبت بذلك وبتدخله في شئون كنيسة أرسوز سلطته على الكنائس التي أسسها المبشرون الذين انطلقوا من أنطاكية.
الفصل السابع
مشكلة عيد الفصح
154-198
وذكر المسيحيون الأولون صلب السيد وموته وقيامته في صبح كل أحد، فأموا الكنيسة باكرا؛ ليجتمعوا ويصلوا ويذكروا الرب في مثل الساعة نفسها التي قهر فيها الموت، وأفردوا بالإضافة إلى هذا ثلاثة أيام متتالية مرة في كل سنة لذكر القيامة والآلام، فجعلوها تبدأ في الرابع عشر من نيسان القمري العبراني، وتنتهي في السادس عشر منه، وذلك لورود الآية: «وبلغ يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.»
واختلف المؤمنون الأولون في اليوم الذي يذكرون فيه الآلام، وفي اليوم الذي يبتهجون فيه بالقيامة؛ فكنائس آسية الصغرى وقيليقية وسوريا الشمالية وبين النهرين كانت تقيم هذه الذكرى في أي يوم من الأسبوع وافق وقوعه الرابع عشر من نيسان أو السادس عشر منه، أما كنائس بلاد اليونان وإيطالية وأفريقية ومصر وفلسطين والبونط، فإنها خصت يوم الجمعة وحده بالآلام ويوم الأحد بالقيامة، وكانت في السنين التي لا يوافق فيها الرابع عشر من نيسان يوم جمعة، تذكر الآلام في أول يوم جمعة بعده ومثله يوم الأحد للقيامة.
واقترن هذا الخلاف بخلاف آخر، فاعتبرت كنائس آسية الصغرى ومن شد أزرها يوم الآلام يوم تحرير من العبودية وخلاص، فكانت تفرح في يوم موت الرب وتحل الحزن والصوم معا مستشهدة بيوحنا الحبيب وبفيليبوس أيضا، أما الكنائس الأخرى فإنها كانت تعتبر يوم الصلب يوم حزن، فلا تسمح بحل الصوم قبل تذكار القيامة، وكانت تستشهد بتعاليم بطرس وبولس في ذلك.
1
واستمر هذا الخلاف وقتا طويلا، ولكنه لم يقطع ربط السلام والمحبة بين الكنائس، ثم كثر عدد المسيحيين وتغربوا، فاضطروا أن يقيموا في بلدان جرت كنائسها على غير عادة كنائسهم، فساءهم كما ساء غيرهم أن يختلفوا في موعد العيد الكبير، ولكنهم واظبوا على ممارسة التقاليد الموروثة بسلام ومحبة، وكثر عدد المسيحيين الآسيويين في رومة وجروا على عادتهم الخاصة في ممارسة عيد الفصح، ولم يعترضهم أسقف واحد من أساقفة رومة قبل فيكتور، ولم يقطعوا أحدا من الشركة، بل إنهم ذكروا هؤلاء الآسيويين في صلواتهم، وأرسلوا لهم الأفخارستية في حينه.
بوليكاربوس وأنيقيطس (154)
وجاءت سنة 154 وكان القديس الشهيد بوليكاربوس أسقف أزمير قد ناهز الخامسة والثمانين، فقام إلى رومة لقضاء مصالح متعددة منها النظر في مسألة الفصح، والتقى بزميله أنيقيطس أسقف رومة وبحث معه أمر الخلاف، فاستمسك كل منهما بتسليم الرسل كما مارسه، ولم يستطع أحد منهما أن يقنع الآخر، ولم يؤثر هذا الاختلاف في ربط المحبة الأخوية، فإن الاثنين اشتركا في خدمة القداس الإلهي، وعند تقديس القرابين تنحى أنيقيطس لبوليكاربوس؛ لأنه كان شيخا طاعنا في السن، ورجلا رسوليا تلميذا ليوحنا الحبيب وأقرب منه إلى الرسل، ولا نرى في النصوص الأولية ما يبرر استنتاج المؤرخ شميدت الألماني في أن بوليكاربوس وجد في رومة في فصل الربيع، وأنه بعد اختلافه في الرأي مع زميله الأسقف الروماني أقام خدمة قداس الفصح لجماعته الآسيويين، بينما أقام أسقف رومة قداسا آخر للرومانيين.
2
مليتون وبلاستوس
واستشهد بوليكاربوس في السنة 155 وحذا حذوه أنيقيطس في السنة 166، وظل الخلاف قائما بين المؤمنين، وتكاثرت صفوف الهراطقة وتراصت، وحوالي السنة 170 انبعثت حركة التهود في كنيسة لاذقية فريجية، فهب مليتون يصنف في عيد الفصح، ونهض أبوليناريوس هيرابوليس يقاوم التهود بكل ما أوتي من حكمة ومقدرة،
3
وخشي كل من أقليمس الإسكندري وهيبوليتوس العلاقة بين رأي الآسيويين المسيحيين وبين فكرة الفصح عند اليهود، فصنفا في عيد الفصح دفاعا عن الدين القويم، ولكن شيئا من هذين المصنفين لم يبق حتى عهدنا هذا.
4
فيكتور وبوليكراتس
ودب الشقاق إلى كنيسة رومة نفسها من جراء ما قاله بلاستوس
Blastus ، فهرع فيكتور أسقفها (185-197) إلى درس الموقف مجددا، ورأى من مصلحة الكنيسة جمعاء أن تقول كلمتها في عيد الفصح، فكتب بذلك إلى بوليكراتس أسقف أفسس، ولعله كتب إلى غيره من الأساقفة أيضا، ولم يأمر فيكتور أسقف رومة بوليكراتس أمرا بذلك، بل رجاه رجاء فيما يظهر، فالكلمة التي أشار بها بوليكراتس إلى رغبة فيكتور في الاجتماع هي
Exiosate
ومعناها رمتم أو طلبتم،
5
أما رسالة فيكتور فإنها ضائعة!
والثابت الراهن هو أن أساقفة الشرق عقدوا قبيل نهاية القرن الثاني مجامع مكانية في قيصرية فلسطين وفي البونط وغلاطية، وبين النهرين وكورينثوس، بحثوا فيها أمر الفصح، وأقروا رأيا واحدا وهو أن تراعى عادة ذكر القيامة يوم الأحد، وألا يحل الصوم إلا فيه.
6
مجمع قيصرية فلسطين (198)
وجاء في كتاب الاعتدال الفلكي
7
لبيد المحترم
Venerable Bede (673-735) أن مجمع قيصرية انعقد برئاسة ثيوفيلوس أسقف قيصرية ونركيسس أسقف أوروشليم، وبحضور كاسيوس أسقف صور وكلاروس أسقف عكة وغيرهما، فتداول الأساقفة كيفية خلق العالم، فأقروا أن يوم الرب هو أول أيام الخلق والسبت آخرها، ثم بينوا أن الربيع هو أول فصول السنة، وأن العالم وجد في الخامس والعشرين من آذار، حينما كانت الشمس في وسط المشرق والقمر بدرا، ثم شرعوا بتعيين عيد الفصح، فأجمعوا على أن يقع في يوم الرب؛ لأن الظلام انقشع في هذا اليوم وأشرق النور، ولأن الشعب تحرر فيه من أرض مصر كما من ظلام الخطيئة، ولأن الشعب منح فيه طعاما سماويا، ولأن موسى أوجب تكريمه، ولأن المرتل قال عنه إنه اليوم الذي نبتهج ونفرح فيه، ولأنه هو اليوم الذي قام فيه الرب.
8
وبعد أن تم كل هذا كتب الأساقفة المجتمعون في قيصرية فلسطين إلى إخوانهم في الكنائس الأخرى؛ ليجتهدوا فيرسلوا صورة رسالتهم إلى الكنائس لئلا «يصيروا سببا للذين يخدعون أنفسهم بسهولة»، وأضافوا: «ونعلمكم أنه في اليوم الذي نحتفل فيه نحن يحتفلون في الإسكندرية أيضا، وقد تبودلت بيننا وبينهم رسائل حول هذه المسألة لكي نحتفل معا بهذا اليوم المقدس.»
9
بوليكراتس أسقف أفسس
وتشاور أساقفة آسية الصغرى، فأصروا على إبقاء القديم على قدمه، وكتب بوليكراتس أسقف أفسس بذلك إلى أسقف رومة، فانتفض فيكتور وكتب يهدد بالقطع، فجمع بوليكراتس مجمعا مكانيا اشترك فيه خمسون أسقفا، وبعد التداول كتب بوليكراتس بلسان مجمعه يؤكد أنهم لا يزيدون على التسلم الرسولي ولا ينقصون منه، وأنه رقد في بلادهم يوحنا الذي اتكأ على صدر الرب، وفيليبوس أحد الاثني عشر، وبوليكاربوس الشهيد، وأن هؤلاء جميعهم حافظوا على اليوم الرابع عشر للفصح وفقا للإنجيل؛ ومما قاله بوليكراتس موجها كلامه إلى كنيسة رومة: «أنا أصغركم جميعا، وما دام لي خمس وستون سنة في الرب، وقد اجتمعت بالإخوة الذين من المسكونة، وقرأت كل كتاب مقدس، لا أجزع ولا أخاف؛ لأن الذين هم أعظم مني قالوا إنه يجب الخضوع لله أكثر من البشر، وكنت أستطيع أن أذكر الأساقفة الحاضرين معي الذين «رمتم » أنتم أن أجمعهم، وقد جمعتهم ووافقوا على الرسالة لعلمهم أني لم أحمل هذه الشيبة عبثا، بل سلكت بالرب دائما.»
10
تدخل إيريناوس
ومما جاء في تاريخ أفسابيوس أن فيكتور أسقف رومة غضب، وأراد أن يعتبر كنائس آسية خارجة عن الدين القويم، فاعترضه في ذلك عدد من الأساقفة، وكان بين هؤلاء إيريناوس القديس أسقف ليون، فإنه كتب يقول: «إن الخلاف ليس في اليوم فقط، بل في نوع الصوم أيضا، وإن هذا الاختلاف لم يحدث في أيامنا فقط، بل قبلنا بكثير في عهد أسلافنا، ومع ذلك كانوا ولا يزالون متسالمين، ومنهم الشيوخ الذين تولوا الكنيسة التي تتولاها أنت إلى الآن، وكانوا يشتركون وهم غير محافظين مع الآتين إليهم من الكنائس المحافظة.» ويعلق أفسابيوس فيقول إن فيكتور اتبع نصيحة أسقف ليون، وإن إيريناوس استحق شكر الكنيسة لعمله السلمي.
11
ولا نعلم بالضبط متى عدل الآسيويون عن تقليدهم الخاص،
12
ولا يجوز القول إن ذلك تم في مجمع نيقية؛ لأن مشكلة الفصح التي أثيرت أمام المجمع المسكوني الأول لم تكن التي بحثت في أواخر القرن الثاني.
13
الفصل الثامن
الكنيسة والدولة
193-249
حجر حمص الأسود
وكانت حمص لا تزال تعبد الشمس وتقدس حجرا أسود مخروطي الشكل يحمل لمناسبات دينية خاصة، ويطاف به في شوارع المدينة تبركا وإجلالا، وكان السادن يوليوس باسيانوس
Bassianus
وجيها محترما، له سطوة ونفوذ في جميع الأوساط الوثنية في حمص وما جاورها.
وفي السنة 180 جاء حمص قائد روماني من أصل فينيقي أفريقي يدعى سبتيميوس سويروس
Septimius Severus ، فافتتنته يولية مرتي ابنة باسيانوس الكاهن، ونقل إليه أن عرافة تعلم الغيب تقول إن من يتزوج من يولية مرتي يصبح ملكا، فتزوج سبتيميوس القائد من مرتي، ونقل اسمها إلى اللاتينية فجعله
Domna
فأصبحت زوجته يولية دومنة.
1
وكان ما كان من أمر سبتيميوس القائد، وأصبح في السنة 193 إمبراطور رومة الوحيد، وكانت يولية ذكية قديرة فغص القصر بالحمصيين والحمصيات، وبينهم رجل محنك قانوني كبير هو إميليوس بابنيانوس
Aemilius Papinianus
أحد أنسباء يولية الإمبراطورة، فقدر للوثنية في حمص أن تلعب دورا هاما في سياسة الدولة الدينية.
سياسة سبتيميوس الدينية
وكان سبتيميوس نفسه متمسكا بالوثنية، يقول بغثها وسمينها، ويواظب على القيام بفرائضها، فلما قدر له أن يصبح إمبراطور رومة وحبرها الأعظم
اهتم اهتماما كبيرا بالدين ورجاله، وحافظ على التقاليد الموروثة والفرائض المفروضة، وعني بالمعابد والهياكل فرمم القديم وعمر الجديد وبذل بسخاء في بعلبك، وكان من الطبيعي أن تظهر الحاشية اهتمامها أيضا في الدين وفرائضه، فتبارى أفرادها في تكريم الآلهة والاعتناء بكل ما يمت إلى الدين الوثني بصلة.
2
ولم يتعرض سبتيميوس للنصارى بسوء في السنوات الأولى من حكمه، ويذهب ترتليانوس إلى أبعد من هذا، فيفيد أن النصارى وقفوا إلى جانب سبتيميوس في نزاعه ضد نيجر وألبينوس، وأنهم فرحوا لنجاحه عندما سقطت بيزنطة في يده، وأنه تدخل هو فحمى وجهاءهم من سخط الجماهير في السنة 197؛
3
ولعل السبب في هذا التفاهم والتعاون كان عطف الغريب على الغريب للصمود في وجه الرومانيين الأصليين، ومما جاء في ترتيليانوس أيضا أن سبتيميوس كان قد ألحق عددا من المسيحيين في خدمته قبل وصوله إلى العرش، وأنه كان قد وكل تربية ابنه البكر إلى عائلة مسيحية وتقبل المسح بالزيت المقدس على يد طبيب مسيحي جعل هذا الزيت دواء شافيا.
4
وعلى الرغم من هذا كله فإن المؤرخين يجمعون على أن الاضطهاد الخامس وقع في عهد سبتيميوس، فأفسابيوس يؤكد أن هذا الاضطهاد بدأ في السنة العاشرة من حكم سبتيميوس؛ أي في السنة 202،
5
ويضيف صاحب التاريخ الأوغوسطي أنه بعد أن توشح سبتيميوس بالقنصلية في أنطاكية في أول كانون الثاني من السنة 202، حرم التبشير بالدين اليهودي، واتخذ قرارا مماثلا فيما يتعلق برعاياه المسيحيين.
6
والواقع أن أنطونينوس بيوس كان قد حرم على اليهود ختن غير اليهود من الوثنيين، وأن سبتيميوس كان قد كرر هذا التحريم، فأوجب معاقبة من يختن رومانيا بمصادرة أملاكه وإبعاده إلى جزيرة من الجزر، وعاقب من ختن رقيقا بالموت،
7
واتخذ سبتيميوس الإجراءات نفسها لكبح النصرانية وردها عن التوسع، فكان ينظر في كل حادث على حدة، فيأمر بنوع من العقوبة المشار إليها أعلاه، ولم يتخذ فيما يظهر قرارا عاما أبطل به الدين المسيحي كما فعل خلفاؤه داقيوس وفاليريانوس وديوقليتيانوس.
8
ولا نعلم شيئا عن تطبيق هذه الأحكام وتنفيذها في فلسطين وسورية، ولعل ما حفظه لنا أفسابيوس
9
عن ارتداد دومنوس
Domnos
في أنطاكية وعودته إلى دين اليهود هو أثر من آثار هذا التهديد والتهويل، أما في مصر فإن نجاح ذيذاسقاليون
Didasxaleion
الإسكندرية وإقبال الوجهاء والأعيان عليه، وجلوس الفلاسفة والنسوة الشهيرات وأفراد العائلات الأرستوقراطية العالية وأبناء البيوتات المثرية على مقاعده، أفزع سبتيميوس، فهرع إلى تطبيق عقوباته بشدة؛
10
ففر إقليمس الإسكندري رئيس هذا الذيذاسقاليون إلى قيصرية قبدوقية، واستشهد ليونيذاس والد أوريجانس الشهير وجمهور من المؤمنين والموعوظين من جميع أنحاء مصر، وأشهر هؤلاء القديسة الشهيدة بوتميانة.
11
ولم تؤثر هذه الشدة في نفوس المؤمنين، ولم يقتف أثر دومنوس أحد فيما نعلم، وتابع سرابيون أسقف أنطاكية العمل في حقل الدفاع عن العقيدة، فكتب ما كتب إلى أبنائه الروحيين في أرسوز كما سبق وأشرنا، وقام من أبناء كنائس قيصرية فلسطين وعكة وصور وبيروت من حمل الإنجيل إلى تلال لبنان وحارب الوثنية فيه، وتقبل أبجر التاسع ملك الرها (179-216) النصرانية، فانتشرت بسرعة بين رعاياه في وادي الفرات وما جاورها، ووجه برديصان رسالة بالسريانية إلى سبتيميوس دافع فيها عن دين المسيح،
12
ولم يكن أثر شرائع سبتيميوس في نفوس المؤمنين في الغرب أشد منه في الشرق.
13
كركلا (211-217)
وادعى كركلا أنه أتقى الرجال،
14
واستمسك بدين رومة استمساك سلفه سبتيميوس، ورحب بالآلهة الشرقية وضحى لها في أثناء وجوده في الشرق، وجمع أولبيانوس مستشاره القضائي كل ما كان قد صدر من الأحكام ضد المسيحيين، فأوردها في الكتاب السابع من مؤلفه
De officio Proconsulis ،
15
ولكن كركلا لم يتخذ أي إجراء قانوني ضد النصارى، ويدعي ترتليانوس أن مسيحيين أشرفوا على تربيته؛
16
ومهما يكن من أمر تربيته فالواقع الذي لا جدال فيه هو أن عددا من المسيحيين التحقوا بحاشيته، وقاموا بمهام كبيرة، وأشهرهم أوريليوس بروسينس
Aurelius Prosenes .
17
ولا بد من إعادة النظر فيما نسب إلى عهده من قساوة واضطهاد واستشهاد، فأما أن يكون الآباء المدونون قد ضلوا بسبب اسمه الرسمي
M. Aurelius Antoninus ، أو أن تكون بعض هذه الحوادث قد تمت في الولايات تحت ضغط الغوغاء.
18
وأحب كركلا الشرق فعاد إليه في السنة 215، واستقبلته أنطاكية استقبالا حافلا، وأقام فيها معيدا إليها عزها ومجدها، وكان والده قد غضب على أنطاكية، فجعل اللاذقية عاصمة الشرق، وقسم ولاية سورية إلى ولايتين: سورية الفينيقية وسورية المجوفة
Coele ، فجعل مدينة صور عاصمة الأولى، وضم إليها دمشق وحمص وتوابعهما،
19
وترامى إلى كركلا سخر الإسكندريين منه ومن والدته، فترك والدته في أنطاكية، ونهض إلى الإسكندرية فاقتص من أهلها وعاد إلى أنطاكية، ثم استدعى كلا من ملك الرها وملك أرمينية إلى أنطاكية ليكرمهما إكرام الحلفاء الأصدقاء، فزجهما في السجن وجعل من مملكتيهما ولايتين رومانيتين، وحارب أرطبون ملك البرت فخر صريعا (8 نيسان 217) من جراء مكيدة دبرها مكرينوس قائد الحرس، وتلقت يولية دمنة والدته نبأ مقتله في أنطاكية فخضعت لأمر الإمبراطور الجديد، ولكنها امتنعت عن الطعام فماتت جوعا.
20
إله الجبل (218-222)
ولم يرض أشراف رومة وعظماؤها عن وصول مكرينوس إلى الحكم؛ لأنه لم يمت بصلة إلى الأسرة الحاكمة، ولأنه لم يكن سوى فارس عادي، وعلى الرغم من الاحترام الذي أظهره لأعضاء السناتوس، ومن بعض الإصلاحات الداخلية والوعود التي قطعها على نفسه لجمهور الشعب في رومة، فإنه لم يوفق إلى الحصول على الرضى، وكان قد اضطر لإنهاء حرب الفرات اضطرارا، فجاء سلمها محاطا بكرامة رومة واعتزاز جنودها.
وكانت يولية ماييسة
Julia Maesa
شقيقة يولية دمنة قد عادت إلى مسقط رأسها مع ابنتي شقيقتها يولية سومياس
Soemias
ويولية مامية
Mammaea ، وكان قد ولد ليولية سومياس من زوجها القنصل السوري فاريوس مركلوس
Sex. Varius Marcellus
ولد ذكر اسمه فاريوس باسيانوس
Varius Avitus Bassianns ، وعلى الرغم من حداثة سنه، وكان لم يتجاوز الرابعة عشرة، فإنه كان قد ورث وظيفة جده لأمه، فأصبح كاهن حمص الأعظم، فلما أخفق مكرينوس في استرضاء الرومانيين روجت يولية ماييسة خبرا في الأوساط العسكرية الرومانية في سورية، مؤداه أن فاريوس باسيانوس هو ابن لكركلا غير شرعي من نسيبته سومياس، وأنه هو أحق بالحكم من هذا المغامر الأفاق، ووعدت الجنود بالعطاء فقبلوا، فخرج غنيس
Gannys
مربي باسيانوس إلى معسكر حمص في السادس عشر من أيار سنة 218، وخرج معه كومازون أفتيخيانوس محافظ البلدة، فقدما باسيانوس إلى الجند، فنادوا به إمبراطورا،
21
ولم يقو مكرينوس على الصمود في وجه الإمبراطور الجديد، ففر من سورية وألقي القبض عليه وقتل.
وأدخل باسيانوس عبادة الشمس الحمصية إلى رومة، ونقل إليها حجرها الأسود، واتخذ لنفسه اسم إلهه فعرف ب
Elagabalus
أو
Heliogabalus ، وتلخص سياسته الدينية في أنه توخى الجمع بين جميع الأديان الوثنية الرائجة في إمبراطوريته، ولا صحة فيما يظهر لما جاء في التاريخ الأوغوسطي من أن هذا الإمبراطور أراد أن يمثل في معبد إلهه النصرانية والسامرية واليهودية.
22
واختتن «إله الجبل» وامتنع عن أكل لحم الخنزير،
23
ولكن هذا لم يعن أنه تهود؛ لأن معظم الساميين شاركوا اليهود في هذه التقاليد، وليس لدينا ما يثبت أن السيدة سفيرينة
Severina
التي وجه إليها هيبوليتوس
Hippolytus
عالم الكنيسة إحدى رسائله، هي زوجة إله الجبل أو إحدى نسائه،
24
وجل ما يجوز قوله هو أن أحدا من المسيحيين لم يمس بأذى في عهد هذا الإمبراطور، وأن أحدا من كتابهم لم يذكر هذا الإمبراطور بسوء.
25
سويروس ألكسندروس (222-235)
وكان ما كان من أمر تهتك «إله الجبل» وانصرافه عن شئون الدولة ومصرعه، فتولى الحكم بعده ابن خالته أليكسيانوس باسيانوس
Alexianus Bassianus
ابن يولية مامية وغاسيوس مرقيانوس العكاري
Gessius Macianus ، وكانت ماييسة قد أشاعت عن أليكسيانوس أيضا أنه ابن كركلا غير الشرعي، فلما تسلم أزمة الحكم انتسب إلى سويروس وعرف بالاسم سويروس ألكسندروس.
26
وكانت يولية مامية قد عنيت عناية فائقة بتربية ولدها وتثقيفه؛ فنشأ أليكسيانوس شابا أديبا مهذبا لطيفا وديعا، يجيد اللغتين اليونانية واللاتينية ويتذوق آدابهما، ويحترم رومة وتقاليدها، فلما تسلم أزمة الحكم أعاد الحجر الأسود إلى حمص، وأظهر تعلقه بآلهة رومة ودينها، وأكرم في قصره من الأباطرة من كان قد أصبح في مصاف الآلهة، كما أظهر احتراما شديدا للإسكندر الكبير ولأبولوتيوس تيانة وفيرجيليوس وشيشرون وغيرهما من كبار الرجال،
27
ولا يعقل أن يكون قد أكرم بهذه الطريقة نفسها إبراهيم اليهود ومسيح النصارى؛ لأن شرائع رومة كما سبق وأشرنا كانت قد بينت وجه التناقض بين دين الدولة وهذين الدينين، وقل الأمر نفسه عما جاء في التاريخ الأوغوسطي من أن هذا الإمبراطور أراد أن ينشئ هيكلا للمسيح، وأن يعتبر سيد النصارى إلها من آلهة رومة،
28
وأنه لدى وقوع المشادة بين نصارى رومة وأصحاب الحانات فيها حول ملكية قطعة من الأرض، حكم بالملكية للنصارى، فإن مثل هذه المواقف تتعارض والقوانين السارية المفعول.
29
وجل ما يجوز قوله هو أن هذا الإمبراطور العاقل المسالم سكت عن النصارى ولم يلاحقهم بشيء، فأذن لهم بذلك بالبقاء، ولكنه لم يتمكن في الوقت نفسه من الصمود في وجه تيار قد يثار ضد مسيحي معين أو جماعة من المسيحيين، كما يدلنا على ذلك حادث استشهاد أسقف رومة القديس كليستوس في الرابع عشر من تشرين الأول سنة 222.
30
أحبار أنطاكية
ووافقت رئاسة سرابيون عهد سبتيميوس سويروس، فبدأت في السنة 191 وانتهت في السنة 212، وخلف سرابيون في الكرسي الرسولي أسقليبياذس
Asclepiades ، وكان قد ذاق العذاب لأجل يسوع في قبدوقية فاستحق لقب «المعترف»، وما إن علم إلكسندروس المعترف أسقف قيصرية قبدوقية بوصول أسقليبياذس إلى السدة الأنطاكية، حتى كتب إلى الأنطاكيين يقول:
من إلكسندروس خادم يسوع المسيح وسجينه إلى كنيسة أنطاكية المغبوطة سلام بالرب: لقد جعل السيد أصفادي محتملة خفيفة حينما بلغني، وأنا لا أزال في السجن، إن أسقليبياذس الذي يستحق التقدير لأجل إيمانه قد تقبل بعناية الله أسقفية كنيستكم الأنطاكية المقدسة، وإني أبعث لكم يا سادتي وإخوتي برسالتي هذه على يد إقليمس القس السعيد الفاضل المحترم الذي تعرفون، لقد كان حضوره بيننا بعناية السيد ورقابته مثبتا للكنيسة ومقويا لها.
31
وتوفي أسقليبياذس في السنة 218، فخلفه في الرئاسة فيليطوس
(218-231)، وقدر لهذا الأسقف أن يجني شيئا من فوائد المهادنة التي كانت قد حلت بين الكنيسة والدولة في عهد الأباطرة الحمصيين، فسر من عطف الإمبراطور سويروس ألكسندروس على يوليوس الأفريقي أحد أبناء كنيسة أوروشليم، واغتبط لما شاهده في أنطاكية نفسها من مظاهر الإكرام والاحترام التي أحيط بها أوريجانس الإسكندري عالم الكنيسة آنئذ.
يوليوس الأفريقي
هو سكستوس يوليوس أفريكانوس
Sextus Julius Africanus ، ولد في أوروشليم في المستعمرة الرومانية العسكرية
Aelia Capitolina
في النصف الثاني من القرن الثاني، والتحق بالجيش الروماني، ورافق الإمبراطور سبتيميوس سويروس إلى الرها وجهاتها، واشترك في الأعمال الحربية فيها وأصبح ضابطا محترما، ثم أقام في عمواس
Nicopolis
متقاعدا، وألح زملاؤه من أبناء هذه المستعمرة أن يقوم إلى رومة؛ ليعرض بعض المطالب ويفاوض السلطات فيها، فأم العاصمة الرومانية في السنة 224 لهذه الغاية، فقدر له أن يتصل بشخص الإمبراطور سويروس ألكسندروس، فأصغى إليه وعطف عليه، وطلب إليه أن يجمع له مكتبة بالقرب من البانتيون ففعل.
32
وكان يوليوس قد بدأ بوضع كشكول أدبي علمي، فأسماه الوشاء
Kestoi ، وضمنه مسائل طبية وزراعية وعسكرية وسحرية وتنجيمية، فجاء في أربعة وعشرين بابا، ورأى يوليوس أن يهدي هذا المؤلف إلى الإمبراطور، فاغتنم فرصة وجود الإمبراطور في أنطاكية سنة 231-232، ونهض إليها فقدم هذا المؤلف إلى الإمبراطور نفسه، وصنف يوليوس حوليات في تاريخ العالم
Chronographia
منذ أقدم العصور حتى السنة 221، أبان فيها قدم التاريخ المقدس وأفضليته على تاريخ اليونان والرومان، وشاع استعمال هذا المؤلف فيما بعد، فأخذ عنه أفسابيوس وعدد من مؤرخي الروم،
33
وحرر يوليوس رسائل بحث فيها قصة سوسان ونسبة مار يوسف خطيب السيدة العذراء في إنجيل متى ولوقا، وتوفي حوالي السنة 240.
34
أوريجانس في أنطاكية
وخر أرطبان صريعا في صيسفون في السنة 227، فدالت دولة الأراشقة، وأسس أردشير دولة ساسانية فتية، واضطر أردشير أن يقضي على من تبقى من الأراشقة في أرمينية، فامتد لهيب الحرب إلى أرمينية وحدود رومة، وأنذر سويروس ألكسندروس زميله الساساني الجديد، وذكره بما فعلته رومة بسلفائه الأراشقة فلم تنفع الذكرى؛ فاضطر الإمبراطور الروماني أن يجيش للقاء هذا الخصم الجديد، فنهض إلى أنطاكية في السنة 231 وجعلها قاعدة أعماله، ورافقته والدته يولية مامية، فاستقرت في أنطاكية مدة من الزمن.
واهتمت والدة الإمبراطور لانتشار النصرانية، وعلمت أن علم أعلامها آنئذ كان أوريجانس الإسكندري، فأوفدت إليه حراسا إمبراطوريين، واستقدمته إلى أنطاكية لتسمع منه شروح بعض المسائل الدينية، ففعل وأقام في أنطاكية مدة من الزمن. ويختلف رجال الاختصاص في تعيين الزمن الذي تمت فيه هذه الزيارة؛ فالأستاذ كاديو يجعلها من حوادث السنة 224-225،
35
أما العلامة بينييه والسيد بيلماير، فإنهما يتفقان في جعلها من حوادث السنة 232،
36
ويجب ألا يغيب عن البال أن أفسابيوس الذي ينفرد في رواية هذا الخبر
37
لا يقول إن يولية هذه كانت مسيحية، ولا إنها تنصرت بعد هذه المقابلة، ولا يخفى أيضا أن حاكم العربية، ولعله
Furnius Julianus
كان قد استدعى أوريجانس إلى بصرى ليتحدث إليه في «بعض أمور» منذ السنة 214-215، وأن أوريجانس كان قد لبى الطلب.
38
مكتبة أوروشليم
وكانت أم الكنائس قد خصت رئاستها بأقرباء السيد في الجسد وبغيرهم ممن كان من أصل يهودي، فلما أوقد اليهود نار الثورة سنة 132، وتشردوا كما سبق وأشرنا، أخذت أم الكنائس تختار لرئاستها أساقفة من الأمم، وكان مرقس الأسقف الأول من هؤلاء والسادس عشر بعد يعقوب أخي الرب، وفي السنة 185 رقي السدة الرسولية الأوروشليمية نرقيسوس القديس
Narxisson
الذي تشرف بفعل المعجزات، وعمر نرقيسوس طويلا (100-216)، ولما لم يعد يستطيع القيام بأعباء وظيفته لتقدمه في السن، دعت عناية الله ألكسندروس أسقف قيصرية قبدوقية لزيارة الأماكن المقدسة في السنة 212.
وكان ألكسندروس هذا قد درس على بنطينس وأقليمس الإسكندريين، وجاهد في سبيل الدين، فما إن علم المسيحيون بقدومه حتى ألحوا عليه بالبقاء بينهم وتولي شئون كنيستهم، واشترك مسيحيو الكنائس المجاورة في هذا الإلحاح، فقبل ألكسندروس وساس كنيسة أوروشليم تسعا وثلاثين سنة (212-251)، وأفضل ما يذكر له بعد تمسكه بأهداب الدين القويم وقيامه بالواجب الرعائي، اهتمامه بإنشاء مكتبة في أوروشليم تجمع أهم ما صنف في الدين المسيحي، وأثمن ما تبودل من رسائل في مشاكل الكنيسة واحتياجاتها في ذلك العصر، وقد تسنى لأفسابيوس المؤرخ أن يستعين بهذه المجموعة القيمة عندما صمم على تدوين تاريخ الكنيسة.
39
ويجمع العلماء الباحثون على أن هذه المكتبة هي أقدم مكاتب النصرانية،
40
ومما يذكر لهذا الأسقف التقي الفاضل اهتمامه في تشجيع الحج إلى الأماكن المقدسة، وما كان للحج من أثر في تقريب القلوب وتوحيد الصفوف.
41
مدرسة قيصرية فلسطين
وكان ما كان من أمر الاضطهاد الذي أمر به كركلا في السنة 215-216، ففر أوريجانس العالم من الإسكندرية، والتجأ إلى قيصرية فلسطين، فرحب به أسقفها ثيوكتيستوس
Theoctistos
وأسقف أوروشليم صديقه ورفيقه في التلمذة ألكسندروس، وطلبا إليه مع غيرهما من أساقفة فلسطين أن يفسر الأسفار المقدسة لجمهور المؤمنين، ففعل وعلم وأرشد، فغضب ديمتريوس أسقف الإسكندرية، وكتب يؤنب زملاءه في فلسطين لخروجهم عن العرف المألوف وسماحهم لرجل علماني أن يعلم في الكنيسة، وأمر ديمتريوس أوريجانس بالعودة إلى الإسكندرية، فعاد إليها وواظب على التعليم والتأليف من السنة 217 حتى السنة 230،
42
ثم قام إلى أخائية في بلاد اليونان للفصل في اختلاف نظري بين بعض المسيحيين، ومر بقيصرية فلسطين، فاحتفل أسقفها وأسقف أوروشليم بسيامته قسا، فغاظ ذلك ديمتريوس فأسقطه من وظيفة التعليم.
وفي السنة 231 استقدمته مامية والدة الإمبراطور إلى أنطاكية، فلما انتهى من عمله فيها عاد إلى قيصرية فلسطين واستقر فيها، فنشأت حوله مدرسة لاهوتية اشتهرت بأساتذتها وطلابها، فزادت النصرانية في فلسطين وما جاورها إيمانا وازدهارا، وأشهر من قرأ على أوريجانس في قيصرية غريغوريوس العجائبي وأخوه أثيندوروس وفرميليانوس القبدوقي،
43
وتابع أوريجانس أبحاثه في تحري النصوص المقدسة والتعليق عليها، وفي الدفاع عن الإيمان القويم، ومن أفيد ما دبج يراعه في قيصرية عظاته وإرشاداته، فإنها تلقي ضوءا واضحا على حالة الكنيسة في النصف الأول من القرن الثاني.
44
يوليوس مكسيمينوس (235-268)
وفي آخر السنة 234 نهض سويروس ألكسندروس إلى غالية وعبر الرين على جسر من القوارب ليحارب البرابرة، ولكنه بدأ يفاوض هؤلاء مفاوضة بدلا من محاربتهم، فغضب الجند لكرامتهم ولم يرضوا عن التفاوض، ونسبوا هذا الضعف والتقاعس في السياسة إلى والدة الإمبراطور، التي كانت ترافقه في جبهة القتال، وكانوا قد أحبوا مدربهم
Julius Verus Maximinus
لشجاعته وكرمه، فعرضوا الإمبراطورية عليه فرفض أولا ثم قبل، فنادوا به إمبراطورا، وانقضوا على سويروس ألكسندروس ووالدته وقتلوهما.
وشكا مكسيمينوس من مركب نقص في نفسه، فشعر أن سلفه كان أعلم منه وأشرف، فخشي سوء العاقبة واضطهد حاشية سويروس فنكل بهم تنكيلا، وبما أن سويروس عطف على المسيحيين، وألحق عددا منهم بخدمته، فإن مكسيمينوس اضطهد النصارى، وخص رؤساءهم بعذاب أليم،
45
وكأنه قصد بتهجمه على الرؤساء أن ينفذ الأحكام التي كان قد أصدرها سبتيميوس سويروس منذرا أن التبشير بالنصرانية أمر غير شرعي،
46
فأبعد عن رومة إلى سردينية أسقف رومة بونتيانوس وعالم كنيستها هيبوليتوس، وأمر الإمبراطور الجديد بإلقاء القبض في قيصرية فلسطين على الشماس إمبروسيوس يد أوريجانس اليمني وعلى الأب بروتيكتيتوس، أما أوريجانس نفسه، فإنه ظل حرا طليقا فيما يظهر؛ لأن تلميذه الشهير غريغوريوس المشار إليه آنفا يفيد في خطابه الذي دبجه في السنة 238 أنه تابع دروسه على أستاذه أوريجانس خمس سنوات متتالية بدون انقطاع،
47
ولا نعلم شيئا عما جرى لأسقف أنطاكية زيبنوس
Zebennos (231-238)، ولكن مراجعنا الأولية لا تشير إلى اضطهاده أو استشهاده، وقل الأمر نفسه عن سائر أساقفة سورية وفلسطين. ويرى العلامة المؤرخ موريس بينيه أن قصر عهد الإمبراطور مكسيمينوس وعدم مطاوعة عماله له أديا إلى تخفيف وطأة الاضطهاد وتقصيره.
48
غورديانوس الثالث وفيليبوس العربي (238-249)
وأثقل مكسيمينوس كاهل الأهلين بالضرائب، وأصغى عماله بسهولة فائقة الحد إلى الوشاة، وصادروا أملاك الأغنياء وكنوز الهياكل، فأثاروا بذلك استياء الجماهير وغضبهم،
49
فأعلن جنود أفريقية في السنة 237 غورديانوس الأول إمبراطورا، وكان هذا من أشراف رومة وقد ناهز الثمانين، فأشرك ابنه غورديانوس الثاني في الحكم معه، وقاومهما والي موريتانية (الجزائر)، فسقط غورديانوس الثاني في ميدان القتال وانتحر والده العجوز، وثار جنود مكسيمينوس في وجهه، فقتلوه في أثناء حصار أكويلية في ولاية البندقية، وتدخل مجلس الشيوخ فانتخب بوبيانوس
وبلبينوس
Balbinus
فغورديانوس الثالث (238-244) حفيد الأول؛ نزولا عند رغبة الشعب.
50
وكان غورديانوس الثالث لا يزال في الثالثة عشرة من عمره، فاضطر أن يرضي جنود الشرق، فأشرك فيليبوس العربي معه في الحكم في السنة 243، ثم خر صريعا في السنة 244 بيد قائد الحرس، فاستأثر فيليبوس بالسلطة (244-249).
51
فيليبوس والنصارى
ولد فيليبوس
Julius Philippus
في حوران في أوائل القرن الثالث من أبوين حورانيين من رتبة فارس،
52
ولا صحة للقول بأنه تحدر من أصل وضيع، أو أن والده كان زعيم عصابة من اللصوص،
53
ولا نعلم شيئا عن حداثته أو عن سيرته قبل الحرب الفارسية في عهد غورديانوس الثالث، ويتضح من النصوص الباقية أنه كان قد توصل عند نشوب هذه الحرب إلى رتبة قائد، وأنه كان قد تمكن على الرغم من بعده عن رومة من الاتصال بمجلس شيوخها ومن استرضائهم، وما إن توصل إلى دست الحكم حتى خفف الضرائب عن كاهل الأهلين، وأبعد عن شخصه الوشاة والجواسيس، ونهج نهج الإمبراطور المثالي مستمسكا بالفضائل الرواقية، مثبتا أنه سيد جنوده لا رقيقهم.
54
ولا يختلف اثنان فيما نعلم في أن فيليبوس العربي عطف على النصارى، ولم ينفذ في حقهم القوانين السارية المفعول، ومما لا شك فيه أيضا أن فيليبوس وظف المسيحيين، وجعل من بعض أساقفة أفريقية ولاة إمبراطوريين.
55
فيليبوس والقديس بابولا
وهل يجوز أن نذهب إلى أبعد من هذا، فنقول مع القديس إيرونيموس وأوروسيوس أن فيليبوس كان أول الأباطرة النصارى،
56
ونقول مع الذهبي الفم إن فيليبوس الإمبراطور خضع للتكفير الذي فرضه عليه القديس بابولا أسقف أنطاكية (238-250)، فوقف في كنيسة أنطاكية مع الموعوظين هو وزوجته الإمبراطورة؛ لأنه كان قد اتهم بمقتل غورديانوس الثالث؟
57
وفي الإجابة عن هذا نقول إن النصرانية كانت قد انتشرت انتشارا واسعا في حوران قبيل أيام فيليبوس، وإن أفسابيوس الذي حفظ لنا هذا الخبر ولد في السنة 265 وسيم أسقفا على قيصرية فلسطين في السنة 313، وعرف الرسائل التي وجهها أوريجانس إلى فيليبوس وزوجته أوتاكيلية
Otacilia ، وإن يوحنا الذهبي الفم كان ابن أنطاكية، وإن ما سمعه فيها عن القديس بابولا نقل إليه في النصف الثاني من القرن الرابع، وإنه يجوز والحالة هذه أن يكون فيليبوس قد تقبل النصرانية في حداثته، ولم يتظاهر بها عملا بالتقية الشائعة في أوساط النصارى في ذلك العهد، ولا نرى مبررا للأخذ برواية ثيودوريطس مع العلامة غوستاف بردي، والقول إن الذي فرض عليه التكفير ووقف مع الموعوظين هو ثيودوسيوس لا فيليبوس،
58
وأشهر من اعترض على صحة هذه الرواية المؤرخ الألماني نومان.
59
الفصل التاسع
الاضطهادات الكبرى
249-285
الإمبراطور داقيوس والنصارى (249-251)
وقدر الرومان فيليبوس العربي حق قدره، ورأوا في شخصه حاكما عاقلا رزينا، أحب رومة وأخلص لها وحافظ على تقاليدها، ولكن حدة المناظرة والمشادة بين جيوش الشرق وجيوش الغرب دفعت هؤلاء إلى المناداة بقائدهم
Messius Traianus Decius
إمبراطورا لدى نجاحه في إبعاد البرابرة القوط عن الدانوب، وكان ما كان من أمر القتال بين فيليبوس وبين داقيوس بالقرب من فيرونة في إيطالية، فدارت الدائرة على الأول وسقط في الميدان مقاتلا.
1
وبوصول داقيوس إلى منصة الحكم دخلت الكنيسة في دور جديد من حيث علاقاتها بالدولة الرومانية، فداقيوس اقتدى بتريانوس وحمل اسمه، فأحب أن يعود برومة إلى ما كانت عليه في أيام عزها، واستمسك بدين الآباء والأجداد، فأعلنا حربا لا هوادة فيها على من آمن بيسوع إكليروسا وشعبا، وقد مر بنا أن الأباطرة السابقين اعتبروا الدين المسيحي دينا غير شرعي، واكتفوا أولا بالنظر في الحوادث لدى ظهورها، ثم منعوا التبشير واتخذوا بعض الإجراءات ضد من اشتهر في اجتذاب الناس إلى الكنيسة؛ أما داقيوس فإنه جعل السلطة المركزية في الدولة تأخذ قمع النصرانية على عاتقها، فتتخذ إجراءات معينة للتفتيش عن النصارى ومجازاتهم في جميع أطراف الدولة.
مرسوم التحريم (250)
وقد ضاع نص المرسوم الذي حرم به داقيوس القول بالنصرانية، وادعاء بيدون
Bedon
في السنة 1664 بأنه عثر على هذا النص هو ادعاء باطل؛
2
فرجال الاختصاص يجمعون اليوم على أن نص بيدون نص مزور، وأن بيدون نفسه زوره بيده.
3
وعلى الرغم من ضياع هذا النص، فإن العلماء الباحثين قد تمكنوا باجتهادهم من معرفة مضمون النص أو مؤداه؛ فديونيسيوس الإسكندري يقول إن المرسوم كان مخيفا، وإنه أوقع بكبار الرجال،
4
وأوريجانس يرى فيه محاولة لمحو اسم يسوع،
5
ومما نقله غريغوريوس النيسي أن هذا المرسوم الإمبراطوري قضى بتعذيب المؤمنين لإرجاعهم إلى عبادة الشياطين،
6
ويفيد القديس كبريانوس الأفريقي أن الحكومة الرومانية ألفت لجانا محلية لتنفيذ الإرادة السنية وإرغام المسيحيين على عبادة الآلهة وتقديم البخور والخمر لها وتناول اللحم المقدس،
7
وقد أثبتت آثار مصر ما جاء في هذه النصوص؛ فإن أعمال التنقيب في وادي النيل في القرن الماضي أتحفتنا بما لا يقل عن أربعين وثيقة بردية تعود إلى شهري حزيران وتموز من السنة 250، وتنص على أن حامليها ما برحوا يخدمون الآلهة ويقدمون البخور والخمر لها ويشتركون في تناول اللحم المقدس، وأنهم يستحقون نيل الشهادة بذلك من «أعضاء اللجنة».
8
تنفيذ التحريم
وألفت اللجان وبدأت أعمالها في منتصف السنة 250، فطلبت إلى جميع المواطنين أن يتقدموا من الآلهة بالسجود والإكرام؛ فامتنع معظم المسيحيين فحل بهم العقاب، وارتد بعضهم ثم عادوا فاهتدوا، ودام العذاب سنة كاملة.
استشهاد بابولا أسقف أنطاكية
وجلد بابولا
Babylas
أسقف أنطاكية، وسجن وأوثق بالأصفاد في عنقه وبالقيود في رجليه، وحبس معه ثلاثة إخوة صغار كان بابولا يلقنهم الدين القويم، وأوصى بابولا قبل انطلاق نفسه بدفن هذه الأصفاد والقيود معه، وهنالك اختلاف في كيفية وفاة بابولا، فإما أن يكون قد حز رأسه حزا مع الفتيان الثلاثة،
9
أو أن يكون قد توفي في السجن من جراء العذاب،
10
وبني على اسمه كنيسة حوت ضريحه.
عذاب ألكسندروس أسقف أوروشليم
ومثل ألكسندروس أسقف أوروشليم أمام حاكم قيصرية فلسطين، فأعلن تعلقه بالسيد المخلص، فسجن وذاق ألوانا من العذاب ثم توفي سجينا، وكان قد سبق له أن نادى باسم يسوع في عهد سبتيموس سويروس.
11
دور أوريجانس العظيم
وكان من الطبيعي جدا أن يشمل إحصاء داقيوس كوكب النصرانية أوريجانس العظيم، فقد جاء في تاريخ الكنيسة لأفسابيوس أن إبليس هاجم عددا كبيرا من الأتقياء الأبرار، ولكنه جرد كل ما لديه من قوى لمحاربة أوريجانس، فحكمت السلطات عليه بالحبس، فقيد بالأغلال وزج في أظلم السجون وكوي بالحديد الحامي، وفج حتى الدرجة الرابعة؛
12
فأذاقه اعترافه بالإيمان عذابا أليما طويلا أنهك قواه، واضطر داقيوس أن يعود إلى جبهة الدانوب، فخفت وطأة الاضطهاد وأفرج عن أوريجانس، فأم مدينة صور وتوفي فيها في التاسعة والستين من عمره، وفي السنة 253 ودفن فيها، فاستحق ضريحا جليلا بقي مدة طويلة من الزمن يلفت أنظار السياح وأبناء السبيل.
13
القديس خريستوفوروس
وجاء في التقليد في سير القديسين أن خريستوفوروس الذي كان قد تقبل النعمة على يد بابولا أسقف أنطاكية، ونال شهرة واسعة في التدين والورع والتقوى، لقي حتفه في عهد داقيوس في إقليم ليقية في جنوبي آسية الصغرى، فجلد بقضبان من حديد حتى تناثر لحمه واستحم بدمه، ثم طرح في لهيب النيران، ولما نجا منها عرض لسهام الجنود فلم يمت، فجز رأسه جزا.
غالاكتيون وزوجته
وفي حمص ألقي القبض على غالاكتيون وزوجته أبستيمي، فجلدا ثم قطعت أيديهما وأرجلهما، ولكنهما لم ينكرا يسوع فقطعت هامتاهما ففازا بإكليل الشهادة.
الإمبراطور غالوس والطاعون (251-253)
وعاد القوط إلى البلقان وعبروا الدانوب وتجهوا نحو فيليبوبوليس (250)، فاضطر داقيوس أن يصمد في وجههم ويردهم فسقط في ميدان القتال (251) عند مصب الدانوب، فنادى الجنود بغالوس
Vibius Tribonianus Gallus
إمبراطورا، وقبلوا بهوستليانوس
Hostilianus
ابن داقيوس شريكا له في الحكم، فصالح غالوس القوط وعاد مسرعا إلى رومة ليدبر أمورها.
وانتشر وباء في حوض المتوسط في أواخر السنة 251 ولعله الطاعون، فاجتاح الإمبراطورية من أقصاها إلى أقصاها، وجرف عددا كبيرا من الضحايا، ورأى الوثنيون في هذا كله مظهرا من مظاهر غضب الآلهة لانتشار النصرانية، فطالبوا بالعودة إلى الاضطهاد، فمثلت مأساة أخرى أدت إلى استشهاد عدد من المسيحيين في رومة وفي ولاية إفريقية وفي الإسكندرية.
14
الإمبراطور فاليريانوس (253-260)
وفي السنة 253 عبر القوط الدانوب مرة أخرى، فردهم حاكم ميسية أميليوس أميليانوس
Aemilius Aemilianus ، وأوقع بهم خسارة فادحة، فاستكبر الجنود عمله ونادوا به إمبراطورا، وحذا حذوهم جنود الشرق كله، فاستنجد غالوس بقائد قوات نهر الرين ليكينيوس فاليريانوس
Licinus Valerianus ، وما إن علم جنود هذا بواقع الحال حتى نادوا به أيضا إمبراطورا، فالتقت في إيطالية جيوش متعادية ثلاثة، فانتصر أميليانوس على غالوس في أواخر أيار وقضى عليه، وبعد ذلك بثلاثة أشهر خر أميليانوس نفسه صريعا بخناجر جنوده، وكثرت مشاكل الدولة وتشعبت، فوكل فاليريانوس الأشراف على حدود الرين وما جاورها إلى ابنه غاليانوس
Gallianus ، ونهض هو على رأس جيوشه إلى الشرق لينظر في شئونه ويدرأ خطر الفرس.
15
وكانت هيبة رومة قد ضاعت في الشرق، وكثرت تعديات القبائل العربية في بادية سورية، فلجأ داقيوس في أوائل عهده إلى حيلة غريبة يدرأ بها خطر هذه القبائل، فاستقدم عددا من الأسود واللبوات من أفريقية، وأطلقها في بادية الشام تهدد القبائل بفناء جمالهم وسائر ماشيتهم.
16
وكان غالوس لا يزال في قيد الحياة (253) عندما زحف شابور الساساني على أرمينية والجزيرة وسورية الشمالية، ودخل أنطاكية مخربا محرقا سابيا ، ولولا حزم أمير حمص وكاهنها الأعظم أورانيوس أنطونينوس
Uranius Antoninus
وصموده في وجه الفرس، لانتشر هؤلاء في طول البلاد وعرضها.
وعلى الرغم من تقدم فاليريانوس في السن، وكان قد ناهز السبعين، فإنه ما كاد يستولي على عرش الأباطرة حتى أدرك حراجة الموقف في الشرق، فاستعاد أنطاكية في السنة 254، ونهض بجنوده في السنة التالية، فجعل سميساط قاعدة لأعماله الحربية، ولكن خوفه من مطامع كبار القادة أدى إلى الاستعاضة عنهم بضباط عاديين، فتمكن هورمزد بن شابور من اختراق الحدود عند الصالحية
Doura Europos
والتوغل في سورية الشمالية، وتألبت العناصر المعارضة على فاليريانوس واتصلت بالأكاسرة، فقاد مارياذس
Mariades
أحد أبناء أنطاكية الفرس إلى مسقط رأسه، فدخلوا أنطاكية مرة ثالثة في السنة 258، وأعملوا السيوف في رقاب أهلها، ووقع فاليريانوس (260) أسيرا في يد شابور،
17
ولكن مكريانوس
Macrianus
أمين المال تمكن بمعونة حامية الرها من الامتناع في سميساط وتدبير هجوم معاكس، وصمد القائد بليستة
Ballista
في وجه شابور في قيليقية، وأنزل به خسارة فادحة، فاضطر شابور أن يهرول شطر الفرات، وما إن وصل إلى هذا النهر حتى أوقع به سبتيميوس أذينة أمير تدمر؛ فاضطر أن يسرع في التراجع تاركا شيئا كثيرا من غنائمه.
18
فاليريانوس والنصارى (257-260)
وسكت فاليريانوس في بدء عهده عن النصارى ولم يلحق بهم أذى، وكثر عددهم في البلاط، وشغل بعضهم وظائف هامة، وتظاهرت سالونينة
Salonina
كنة الإمبراطور بعطفها على النصارى ولعلها تنصرت، وغالى بعض النصارى في مديح الإمبراطور فشبه بلاطه بكنيسة الله.
19
ثم أحدق الخطر بالإمبراطورية في جميع أطرافها، فهجم الإفرنج والألمان على حدودها الغربية، وتجرأ القوط في وادي الدانوب وحوض البحر الأسود، وثار البربر في أفريقية، وعبر شابور الفرات وخرق حرمة الدولة؛ فاضطربت الأوساط الرسمية والشعبية، وعزا بعضهم ذلك إلى امتناع المسيحيين عن إرضاء الآلهة، ورأوا فيهم خطرا داخليا كبيرا على سلامة الدولة.
20
وكان مكريانوس يمين الإمبراطور شديد التعلق بالديانات الوثنية الشرقية، فأشار فيما يظهر بوجوب التضييق مرة أخرى،
21
واستصدر إرادتين إمبراطوريتين: الأولى في آب السنة 257، والثانية في السنة التالية، فحرمت الأولى إجراء الطقوس المسيحية وزيارة المدافن، وأوجبت على الأساقفة والكهنة والشمامسة أن يقدموا الذبائح لآلهة الإمبراطورية،
22
ثم تبين للسلطات أن عدد المسيحيين كان أكثر بكثير مما قدروه، وأن عددا غير قليل منهم كان من الطبقات العالية، فجاءت الإرادة الثانية في السنة 258 تفرق بين طبقات أربع من المسيحيين: الأساقفة وسائر الإكليروس، وأعضاء مجلس الشيوخ والفرسان، والسيدات ورجال البلاط، والأملاك السنية، وفرضت هذه الإرادة الثانية عقوبة الموت على الإكليروس، وعزل الشيوخ والفرسان من مراكزهم ومصادرة أملاكهم، والحكم عليهم بالإعدام إذا أصروا على القول بالنصرانية، أما السيدات فتصادر أملاكهن وينفون وتصادر أملاك رجال البلاط، ويكرهون على العمل في أراضي الأباطرة مقيدين بالسلاسل،
23
وتتميز هاتان الإرادتان عن غيرهما من الأوامر التي أوجبت الاضطهاد في أنهما توجبان مصادرة الأملاك، ويجوز القول والحالة هذه إن فاليريانوس أراد أن يدافع عن دين الدولة، وأن يملأ خزائنها في آن واحد.
24
واستشهد في الغرب من جراء التشريع عدد من الرؤساء، أشهرهم: سكستوس الثاني أسقف رومة، وكبريانوس الفرطاجي، ومما يؤسف له أن جميع مصادرنا القديمة خالية من أخبار اضطهاد الرؤساء الأساقفة في سورية وفلسطين. ومع أن أفسابيوس يفيدنا أن ديمتريانوس خلف فابيوس في رئاسة كنيسة أنطاكية فيما يعادل السنة 253،
25
وأن هيليودوروس ترأس كنيسة اللاذقية، وأن مارينوس كان أسقف صور وثيوقتيستوس
Theoctistos
أسقف قيصرية ومزابانس
Mazabenes
أسقف إيلية أي أوروشليم،
26
فإنه لا يذكر شيئا عن علاقتهم بالسلطات الرومانية، ولا يجوز الاجتهاد في هذا السكوت؛ لأن مراجعنا قليلة، ولأنها ليست تواريخ منظمة كاملة. وقد يكون سبب هذا السكوت أن فاليريانوس ووزيره كانا بأشد الحاجة إلى السكينة في الداخل؛ ليتمكنا من التفوق على الساسانيين وإجلائهم عن الأراضي الرومانية، ولا يزال خبر أسر ديمتريانوس أسقف أنطاكية ونقله إلى فارس غير ثابت، وهنالك إشارة في مصدرين آخرين إلى استشهاد أسقفين مرقيونيين لا قيمة سياسية لهما؛ نظرا لقلة أهمية المرقيونيين آنئذ.
27
ويعتز أفسابيوس بحرارة الإيمان التي دفعت ثلاثة من أبناء كنيسته إلى الاستشهاد في سبيل السيد المخلص، فهو يقول إن بريسكوس وملكوس وألكسندروس خرجوا من مساكنهم في الأرياف، وأموا قيصرية فلسطين، ومثلوا أمام السلطة فيها متطوعين غير مكرهين ، فقضوا نحبهم تحت براثن الوحوش.
28
وجاء في التقليد أن الحاكم الروماني في أنطاكية قبض في السنة 258 على الكاهن الأنطاكي سبيريكيوس، وأمره أن يقدم الذبائح للآلهة، فرفض بجرأة ودافع دفاعا مجيدا عن النصرانية، فصدر أمر الحاكم بضرب عنقه، وفيما هو ذاهب ليلقى حتفه اعترض سبيله صديق قديم اسمه نيقيفوروس، وطلب إليه أن يصفح عن الماضي ويغفر له، غير أن الكاهن لم يكترث فرافقه نيقيفوروس إلى موضع النطع، وكرر رجاءه قائلا: «يا شهيد المسيح سامحني؛ لأني أخطأت إليك.» ولكن سبيريكيوس لم يصفح، فركع نيقيفوروس على قدمي الكاهن، والدمع يبلل وجهه وأعاد الكرة، ولكن سبيريكيس لم يفه بكلمة واحدة، ثم أمر سبيريكيوس أن يركع لينفذ فيه الحكم، فاستولى عليه الخوف وجحد النعمة، وقال إنه مستعد لتقديم الذبائح للآلهة، وعندئذ صاح نيقيفوروس بالجلادين قائلا: «أنا مسيحي وإني أؤمن بالسيد المسيح الذي أنكره هذا، فاقتلوني بدلا منه.» فمات شهيدا!
غاليانوس (260-268)
وكان ليكينيوس أغناطيوس غاليانوس
Licinius Egnatius Gallienus
قد شارك أباه في الحكم منذ السنة 253، فلما وقع والده في يد الفرس أسيرا أحاطت به النكبات والمصائب؛ فاشتدت وطأة الطاعون حتى جرف الناس بالألوف،
29
وجاءت الزلازل تصدع الأبنية والمساكن في إيطالية وأفريقية وآسية (262)،
30
وتمرد الأرقاء في صقلية
31
واشتد ضغط البرابرة عند الحدود وكثر عدد الطامعين بالملك، ونادى مكريانوس بابنيه مكريانوس وكوايتوس قيصرين في الشرق، واعترفت بسلطتهما آسية وسورية ومصر (260)،
32
ثم ازداد طمعه، فنهض وابنه البكر إلى الغرب ليقضي على غاليانوس فمني بالفشل في اليرية وخر صريعا (261).
ورأى غاليانوس أن يستعين بأذينة العربي أمير تدمر فمنحه لقب
Dux ، وأمره على جميع جنود رومة في الشرق،
33
فهب أذينة للكفاح في سبيل غاليانوس، فقتل كوايتوس في معركة حمص (262) وقضى على حركته، ودانت له باسم غاليانوس مصر وسورية وآسية الصغرى، ثم عبر الفرات يحارب الفرس، فاكتسح العراق حتى طيسفون وأعاد الحدود الرومانية إلى ما كانت عليه في عهد سبتيميوس سويروس.
34
وفي السنة 266 نهض إلى آسية الصغرى يطهرها من القوط البرابرة، الذين نزلوا إليها من الشمال، فاضطرهم إلى العودة إلى قواربهم بعد خسائر فادحة،
35
فكافأه غاليانوس بأنه منحه لقب إمبراطور ولقب
Corrector Orientis ، ثم كان ما كان من أمر أذينة واغتياله، فظن غاليانوس أن الفرصة سنحت لفرض سلطته على الشرق مباشرة، فلم يمنح وهبة اللات ابن زنوبية من أذينة الألقاب نفسها التي حملها أذينة، فصمدت زنوبية في وجه الإمبراطور وأكرهته على التراجع،
36
وعادت المياه إلى مجاريها، فحكمت زنوبية وابنها باسم غاليانوس كما تدلنا على ذلك المسكوكات التي ضربت في أنطاكية.
غاليانوس والنصارى
وأدى ضغط البرابرة في الخارج وطمع الزعماء في الداخل إلى اعتدال في سياسة غاليانوس، فأمر في السنة 260 بوقف الاضطهاد الذي كان قد أوجبه والده، ولا نعلم نص الإرادة الإمبراطورية بوقف الاضطهاد،
37
ولكننا نقرأ في تاريخ الكنيسة لأفسابيوس أن الأساقفة استغلوا الظرف الجديد فتقدموا من الإمبراطور مطالبين برد الكنائس والمدافن المصادرة إليهم، فأجاب الإمبراطور سؤلهم، وسمح لهم بمزاولة أعمالهم كما سبق لهم وفعلوا قبل الاضطهاد.
38
ثم يتابع أفسابيوس فيذكر وصول ديمتريانوس إلى أسقفية أنطاكية بعد فابيوس (253)،
39
ووصول دومنوس إلى الأسقفية في قيصرية فلسطين بعد ثيوقتيستوس، ووصول هيمينايوس إلى أسقفية أوروشليم بعد مزابانس، ويقول إنه في عهد هؤلاء أي في السنة 262-263 تم استشهاد مارينوس الشريف الغني صاحب الرتبة العالية في الجيش، وذلك لمناسبة ترقيته، فإنه ما كاد أحد زملائه يعلم بهذه الترقية حتى أعلم السلطات العسكرية بأنه هو أحق من مارينوس بها؛ لأن مارينوس كان نصرانيا، فأحيل مارينوس إلى القضاء، فمثل أمام آخيوس القاضي في قيصرية فلسطين، فسأله القاضي عن مذهبه، فأجاب أنه نصراني، فرفق به القاضي ومهل حكمه ثلاث ساعات ليعيد مارينوس فيها النظر في أمر معتقده، فلما خرج من قاعة المحاكمة أخذه الأسقف بيده إلى الكنيسة، ووقف به أمام المذبح ثم رفع رداء مارينوس العسكري وأمسك بالخنجر باليد الواحدة، وتناول الإنجيل المقدس باليد الأخرى، وقال لمارينوس: انتق أنت هذا أو ذاك. فاستمسك مارينوس بالإنجيل، فقال الأسقف: اذهب بسلام. فعاد مارينوس إلى قاعة المحاكمة، فحكم عليه بالإعدام؛
40
ومن هنا تحفظ رجال الاختصاص وقولهم إن الاضطهاد لم يقف وقوفا تاما كاملا شاملا، ولم يصبح الدين المسيحي دينا شرعيا
Religio Licita ، وإنما هدأ الاضطهاد هدوءا، فانتقلت المبادرة في طلب تنفيذ القوانين بحق النصارى من السلطات إلى الأفراد، كما جرى في حادث مارينوس الضابط الروماني، أو إلى الجماعات.
41
ولا يجوز القول إن الفضل في تسامح غاليانوس يعود إلى زوجته سالونينة المسيحية؛ لأن نصرانيتها لا تزال في موضع الشك، فالعبارة
Augusta in
التي ترد على نقودها إنما تشير إلى تعلقها بالإلاهة
.
42
الأباطرة الأليريون (268-285)
وليس هنالك ما يدل على انقلاب في موقف السلطة من النصارى في عهد كلوديوس الثاني (268-270)، والدم الذي أحرق في عهد هذا الإمبراطور في رومة وإيطالية إنما أريق بسبب الجماهير، أو مجلس الشيوخ، أو وغر الصدور في بعض الأوساط الإدارية.
43
وقال أوريليانوس (270-275) بالإله الشمس، وأحب أن يجعله دين الدولة الأوحد، ولو فعل لما أبقى على سياسة غاليانوس، ولكنه اغتيل في صيف السنة 275، فنجت الكنيسة من محنة كامنة.
44
ودام الهدوء في عهد خلفائه، ولم تتخذ السلطات أي إجراء «عمومي» من شأنه أن يلحق الأذى بالنصارى، ولكن وقوع بعض الأذى ظل محتما ما دامت السلطات تعتبر الدين المسيحي دينا غير شرعي.
القديس إليان الحمصي
وجاء في التقليد أن إليان الحمصي وثلاثة غيره استشهدوا في عهد الإمبراطور نوميريانوس
Numerianus
ابن كاروس
Carus
في السنة 284، وإليان الشهيد نشأ مسيحيا صالحا في حمص، فهاله أمر الاضطهاد في بلدته، وأحب أن يواسي المقيدين في سجونها، وأن يجتذب غيرهم إلى الدين القويم، فتعلم الطب وزار السجون بصفته طبيبا، وافتقد «المعترفين» وشجعهم، وأوضح للضالين فساد الوثنية واجتهد في اكتسابهم، وقبض في عهد نوميريانوس في حمص على سلوانس ولوقا الشماس الإنجيلي وموكيوس الأناغنسط، وبعد امتحانهم بشتى أنواع العذاب حكم عليهم بالموت بين مخالب الوحوش الضاربة، وفيما هم مساقون إلى مدرج حمص ليطرحوا إلى الوحوش، قابلهم إليان في الطريق وحياهم وعانقهم مقبلا كل واحد منهم القبلة الأخيرة، فقبض عليه، وامتحن بدوره فثبت في الإيمان بيسوع، فسمر رأسه ويداه ورجلاه، وزج في مغارة خارج حمص، فتشرف بالاستشهاد معلقا على صليب، وتشبه بالسيد له المجد في أنه قاسى نفس النوع من الآلام، ولا تزال الكنيسة تحيي ذكراه في اليوم السادس من شباط في كل عام.
الفصل العاشر
وهن وضعف وارتداد وانشقاق
وثبت كثيرون في الإيمان وداوموا عليه، وواظبوا واستشهدوا وتحملوا العذاب، ولكن كثيرين أيضا وهنوا وضعفت قلوبهم فارتدوا وتحولوا إلى الوثنية، وتاب بعض هؤلاء ورغبوا في العودة إلى حضن الكنيسة، فاختلف الرؤساء في قبولهم، فارتأى بعضهم الشدة ومال آخرون إلى الرأفة والرحمة، فتعددت الانشقاقات وتنوعت وطال أمد الاضطراب والقلق.
اضطراب في كنيسة أفريقية
وقال بريفاتوس
أسقف لامبيزة
Lambaesa
قولا غريبا لا نزال نجهله، فحكم عليه مجمع قرطاجي بالهرطقة، واشتد الشغب في كنيسة لامبيزة وطال أمده، فدام اثني عشرة سنة (236-248) أو أكثر.
وفي السنة 249 رقي كبريانوس كرسي الأسقفية في قرطاجة، فرضي البعض عنه وعارض آخرون، وفي طليعة هؤلاء خمسة من الكهنة أشهرهم نوفاتوس
Novatus ، وحل اضطهاد داقيوس ففر كبريانوس واختبأ، فاستغل نوفاتوس هذا الفرار، وطعن في إيمان كبريانوس، وغالى في تكريم «المعترفين»، الذين تحملوا شتى ألوان العذاب باسم يسوع، واعتبرهم أصحاب الحل والربط في أمر من رغب في العودة إلى الإيمان، وكتب إلى كنيسة رومة في فرار كبريانوس من وجه السلطات في أثناء الاضطهاد، وكان ذلك بين وفاة فابيانوس وقبيل ارتقاء كورنيليوس، فاتخذ مجلس شيوخ كنيسة رومة قرارا أظهر فيه عدم الرضى عن فرار كبريانوس،
1
ودافع كبريانوس عن نفسه، فحرر ثلاث عشرة رسالة إلى كنيسة رومة أبان فيها الأسباب التي دفعته إلى الفرار، واعتدل في موقفه من المرتدين والمعترفين، ولكن نوفاتوس وأتباعه ظلوا معاندين، واستمروا في تقبيح عمل الأسقف، فدعا كبريانوس في أواخر السنة 250 مجمعا محليا قطع بواسطته نوفاتوس ومن قال قوله.
انشقاق في كنيسة رومة
وبرح نوفاتوس أفريقية وأم رومة، فوجد المؤمنين فيها منقسمين على أنفسهم متجادلين في أمر الخلافة بعد فابيانوس، فمنهم من أيد كورنيليوس، ومنهم من فضل نوفاتيانوس
Novatianus
الكاهن العالم صاحب الرسالة في الثالوث
De Trinitate ،
2
فشد نوفاتوس أزر نوفاتيانوس، فلما نجح كورنيليوس عقد مجمعا محليا (251) أيد به موقف كبريانوس في أفريقية! فطعن نوفاتوس ونوفاتيانوس في انتخاب كورنيليوس، مدعيين أن كورنيليوس حصل على شهادة في أثناء الاضطهاد تثبت ارتداده أمام السلطات، وأنه واظب على الاتصال بالمرتدين، ثم استعانا ببعض الأساقفة فساموا نوفاتيانوس أسقفا على رومة، وأصبح لهذه الكنيسة أسقفان في آن واحد،
3
وعرف أتباع نوفاتوس ونوفاتيانوس بال
Cathari
الطهريين لتمسكهم بالطهارة وتطرفهم في أمر المرتدين وعدم قبولهم في عداد المؤمنين.
4
أنطاكية ورومة
وكتب كل من نوفاتيانوس وكورنيليوس إلى كبار الأساقفة في الشرق، فوافق ديونيسيوس أسقف الإسكندرية كورنيليوس في موقفه من الجاحدين العائدين إلى التوبة، أما فابيوس أسقف أنطاكية (250-252)، فإنه آثر الشدة، وقال قول نوفاتيانوس،
5
وكتب إليه كورنيليوس أكثر من مرة، وطعن في إيمان نوفاتيانوس ولكن دون جدوى،
6
وتدخل ديونيسيوس فكتب إلى فابيوس موجبا التروي والاعتدال، مستشهدا على صحة ما ذهب إليه بقصة الرجل الشيخ سيرابيون الإسكندري،
7
وظهرت بوادر الشقاق في كنيسة أنطاكية حول هذا الموضوع،
8
فاضطر فابيوس أن يشاور في الأمر، فدعا أساقفة الكرسي الأنطاكي إلى مجمع يبحث قضية الجاحدين العائدين إلى التوبة، ويتخذ موقفا حاسما من الشقاق الذي دب إلى كنيسة رومة وقرطاجة وغيرهما، ولبى الدعوة عدد من الأساقفة الأنطاكيين أشهرهم: إلينوس
Elenos
أسقف طرسوس، وفرميليانوس
Firmilianos
القبدوقي، وثيوقتستوس
Theoctistos
الفلسطيني.
9
ورأى إلينوس - وكان فيما يظهر أقدم الأساقفة الأنطاكيين سيامة، وأشدهم نفوذا نظرا لحجم طرسوس وتسلسل البركة فيها من الرسل أنفسهم - أن اشتراك ديونيسيوس الإسكندري في أعمال المجمع ضروري، فخاطبه بهذا المعنى واشترك معه في خطابه هذا الأساقفة المذكورون أعلاه، ونحن لا نرى في نص أفسابيوس المؤرخ ما يؤيد استنتاج الأب بردي، من أن إلينوس وأعوانه دعوا إلى المجمع لافابيوس أسقف أنطاكية المتقدم بينهم؛
10
فأفسابيوس يفيد أن ديونيسيوس الإسكندري كتب إلى كورنيليوس الروماني يقول إن إلينوس وفرميليانوس وثيوقتستوس دعوه إلى «اللقاء في مجمع أنطاكية؛ لأن البعض يؤيدون شقاق نوفاتيانوس»، ولكنه لا يفيد أن هؤلاء الأساقفة دعوا أنفسهم إلى هذا المجمع، ولا يخفى أن قلة المراجع الأولى تقضي بالتروي والاعتدال في الاستنتاج.
المجمع الأنطاكي الأول (252)
وتوفي فابيوس قبل انعقاد المجمع، واعتذر ديونيسيوس عن الاشتراك في أعمال هذا المجمع الأنطاكي؛ نظرا لتقدمه في السن، فجلس الأساقفة الأعضاء وأيدوا كورنيليوس أسقف رومة في موقفه من قضية الجاحدين، ونبذوا تعليم نوفاتيانوس،
11
ولعلهم اشتركوا في سيامة ديمتريانوس الكاهن الأنطاكي أسقفا على أنطاكية (252-260) وخلفا لفابيوس، وهنالك من يشك في أمر انعقاد هذا المجمع بعد وفاة فابيوس، وهو قول ضعيف.
12
معمودية الهراطقة والجاحدين
وكان قد خف نشاط الهراطقة منذ نهاية القرن الثاني، وبدأ بعضهم يعود إلى حضن الكنيسة، فاختلف الأساقفة في معمودية هؤلاء واعترف بعضهم بها، وامتنع غيرهم فأوجبوا معمودية ثانية، ودعا أغريبينوس
Agrippinus
أسقف قرطاجة مجمعا لهذه الغاية في السنة 217، وتتابعت جلساته، فقرر عدم الاعتراف بمعمودية الهراطقة، وجرى مثل هذا في الشرق، فعقد فرميليانوس مجمعا في أيقونية وآخر في سنادة سنة 230، فاتخذ قرارا مماثلا.
13
ثم ذر الشقاق قرنه في رومة، فاتخذ نوفاتيانوس موقفا شديدا، وأعاد تعميد التائبين وتعميد من تساهل معهم، وثابر كرنيليوس على تساهل سلفائه، فلم يتطلب إعادة التعميد، ولكنه لم يتدخل في شئون أساقفة الشرق وأساقفة أفريقية ولم يثر أي جدل حول هذا الموضوع.
وتوفي كرنيليوس في السنة 252، وخلفه في كرسي رومة لوقيوس (252-253)، ثم إسطفانوس، وكان إسطفانوس خشن الجانب فيما يظهر، حاد الطبع شديدا؛ فاشتد الخلاف حول معمودية الهراطقة والجاحدين، ودخلت الكنيسة الجامعة في أزمة كادت تشقها شقا، ففي السنة 255 أثار ثمانية عشر أسقفا من أساقفة نوميدية قضية إعادة المعمودية أمام مجمع قرطاجة، فأوجب المجمع التمسك بالتقليد المحلي، ونهى عن قبول معمودية الهراطقة والجاحدين،
14
وبعد ذلك بقليل كتب كبريانوس بالمعنى نفسه في الإجابة عن سؤال وجهه إليه أسقف موري؛
15
وفي خريف السنة 255 أو ربيع السنة 256 أحب كبريانوس أن يجلي هذه القضية جلاء تاما ويبتها بتا، فكتب إلى إسطفانوس مبينا موقف مجمع قرطاجة، موجبا إعادة معمودية الهراطقة والتائبين:
إننا نرفع هذه الرسالة إليك أيها الأخ الحبيب؛ لتقف على حقيقة الأمور رعاية لرتبتنا العامة وكرامتنا المتبادلة، وبرهانا على المحبة الخالصة والشركة، ولنا الثقة بتقواك الحقيقي وإيمانك أن كل ما هو صالح وحقيقي يكون حسنا عندك، ونحن نعلم أن بعضا لا يتخلون أبدا عما يستصوبون من الآراء، وأنهم لا يغيرون مواقفهم بسهولة، وأنهم في الوقت الذي يحافظون فيه على علاقاتهم السلمية مع رفقائهم، يصرون على ما ذهبوا إليه ويعاندون، ونحن لا نريد أن نرغم أحدا على شيء إرغاما، كما أننا لا نرغب في سن الشرائع للغير؛ فكل رئيس من رؤساء الكنيسة حر أن يدير دفة الإدارة كما يرى مناسبا، وهو وحده مسئول عن أعماله أمام الرب.
16
فغضب إسطفانوس وكتب إلى أساقفة أفريقية، موجبا المحافظة على تقاليد رومة الموروثة، مكتفيا بوضع الأيدي على التائبين، مهددا بقطع العلاقات، وكان قد أرسل إنذارا مماثلا إلى كنائس الشرق إلى أساقفة قيليقية وقبدوقية وغلاطية، فدعا كبريانوس الأساقفة إلى مجمع في أول أيلول، فلبى الدعوة سبعة وثمانون أسقفا وقساوسة كثيرون وشمامسة، وأيدوا بقرار جديد موقف أفريقية من معمودية الهراطقة والجاحدين، وأكد كبريانوس في جلسات هذا المجمع «أن اختلاف الآراء لا يضر ولا ينافي الاتحاد في الإيمان، ولا يفك الربط بين الكنائس.»
17
موقف كنيسة أنطاكية
وتجلى موقف كنيسة أنطاكية برسالة طويلة دبجها أشهر أحبارها آنئذ فرميليانوس نفسه أسقف قيصرية قبدوقية، الذي اشترك في أعمال مجمع أنطاكية كما سبق وأشرنا، وكان الداعي لوضع هذه الرسالة أن كبريانوس وأساقفة أفريقية أوفدوا إلى قيصرية قبدوقية الشماس روغاتيانوس
Rogatianus
برسالة إلى فرميليانوس أوضحوا فيها موقفهم وموقف إسطفانوس أسقف رومة.
وكان فرميليانوس قد اشتهر بالتقوى والصلاح والفضل والعلم والمحافظة على سلامة العقيدة، ولكنه كان قد ورث عن أستاذه أوريجانس الإسكندري شيئا من الكره لرومة، وكان قد أخذ على إسطفانوس نفسه قلة اهتمامه ببعض الأساقفة الشرقيين الذين أوفدوا إليه،
18
فلما اطلع على الإضبارة التي حملها إليه روغاتيانوس، ووجد فيها ما يتفق ومقررات مجمعي أيقونية وسنادة، كتب إلى كبريانوس رسالة طويلة باليونانية، سدد بها موقفه وانتقد إسطفانوس انتقادا لاذعا، وقد ضاع نصها الأصلي ولم يبق عنه سوى ترجمتها إلى اللاتينية، ولعل هذه الترجمة هي لكبريانوس نفسه.
19
وبعد أن أكد هذا القديس الأنطاكي «أن بيت الرب بيت واحد»، وشكر لإسطفانوس «عتوه»؛ لأنه أتاح له أن يخبر إيمان كبريانوس وحكمته؛ انتقد أسقف رومة في قوله إن الرسل منعوا تعميد الراجعين من الهراطقة، مؤكدا أن الهرطقة ظهرت بعد الرسل، وبين بعد هذا أن الهراطقة بانشقاقهم عن كنيسة المسيح خسروا السلطة والنعمة اللذين في الكنيسة، وأن الولادة الروحية بالتالي لا يمكن أن تتم من دون الروح. ثم استطرد الحبر الأنطاكي، فأشار إلى الذين عمدهم يوحنا قبل إرسال الروح القدس من الرب عمدهم بولس مرة ثانية بالمعمودية الروحية، ووضع عليهم يده لينالوا الروح القدس، «فما دام بولس عمد تلاميذ يوحنا، وقد كانوا معمدين منه، فكيف نقاوم نحن تعميد القادمين من الهرطقات إلى الكنيسة؟»
ومما جاء في رسالة فرميليانوس قوله: «علينا أن نسأل مساعدي الهراطقة ما قولهم في معموديتهم، أجسدية هي أم روحية؟ فإن كانت جسدية فلا فرق بينها وبين معمودية اليهود، وإن كانت روحية فكيف يمكن أن تكون معمودية روحية عند الذين ليس لهم الروح القدس؟ وإذا كانت معمودية الهراطقة كافية لتمنح الولادة الثانية فالمعمدون من الهراطقة ليسوا هراطقة، ولكن إذا كانت عروس المسيح واحدة، فمن الواضح أن تكون الكنيسة الجامعة هي وحدها التي تلد أبناء لله لا جماعة الهراطقة؛ لأن الزانية والفاسقة ليست عروسا ولا تستطيع أن تلد أبناء لله.»
وتخالف الأحبار وتفرقت كلمتهم، وهدد إسطفانوس بقطع العلاقات فأجابه فرميليانوس: «إنك قد بذرت خصومات لا تعد ولا تحصى في كل كنائس المسكونة، ويا ليتك تعلم تحت أية خطيئة وضعت نفسك إذ انفصلت عن هؤلاء الناس جميعهم، وإنك بعملك هذا لا تفصل عن شركة الاتحاد الكنائسي سوى نفسك فتصبح أنت العاصي.»
تدخل ديونيسيوس الإسكندري (248-265)
وتوفي إسطفانوس أسقف رومة (257) قبل أن ينفذ شيئا من التهديد بقطع العلاقات، وحل محله سكستوس
Sixtus «الأسقف الصالح المسالم»،
20
وتدخل ديونيسيوس أسقف الإسكندرية مصلحا، فقرب القلوب وعادت العلاقات الودية إلى سابق عهدها، واتصل أسقف رومة الجديد بكبريانوس وفرميليانوس وغيرهما،
21
ولكن الخلاف في أمر المعمودية ظل قائما حتى حكم فيه مجمع نيقية.
فساد الإكليروس
والقرن الثالث من تاريخ الإمبراطورية قرن تفكك وانهيار، ففيه نقصت موارد إيطالية والولايات الغربية وكادت تنضب، وفيه دب الفساد إلى صفوف الجيش، واشتدت مطامع ضباطه وتنوعت، وفيه أيضا تمخضت أواسط آسية ، فتحركت قبائل روسية وأواسط أوروبة وارتطمت، فضغطت ضغطا متزايدا على حدود رومة عند الرين والدانوب، وفيه كذلك قدر لفارس أن تتطور، فاستلمت أزمة الحكم فيها أسرة نشيطة قوية حاولت أن تستغل ضعف رومة عبر الفرات.
وكان قد تزايد عدد المسيحيين تزايدا ملموسا، فأصبحوا في أنطاكية وحدها في القرن الثالث الذي نحن بصدده مائة ألف،
22
وأضحوا في عرف الذهبي الفم في القرن الرابع مائتي ألف،
23
فاضطر بعض الحكام في بعض الأحيان إلى استرضاء زعماء النصارى ورؤسائهم، فأصغوا إلى آرائهم وأسندوا إليهم بعض الوظائف فأكسبوهم هيبة ونفوذا،
24
فأدى هذا كله إلى تهافت الرجال على صفوف الكهنوت، ووصول من لا مطلب له سوى المال والنفوذ إلى بعض المناصب الإكليريكية العالية؛ ومن هنا قول أفسابيوس المؤرخ: «إن هؤلاء الذين يتظاهرون أنهم رعاتنا قد استخفوا بقواعد الدين وتلهبوا حسدا، ولم يتقدموا في شيء سوى المجادلة والمنازعة والمناظرة والمشاغبة والمباغضة.»
25
ومن هنا أيضا قول أوريجانس العظيم إن بعض الأساقفة يردون من يقودون عن مملكة الله، ويحرمون بدافع الحسد والغضب مؤمنين أفضل منهم؛
26
ومن هنا كذلك افتخار ديونيسيوس الإسكندري بأنه ترفع فاحتقر مدح الحكام له وإغراء أعضاء مجلس الشيوخ.
27
ولم ينحصر هذا الفساد في الأوساط الإكليريكية الشرقية، فإن كبريانوس يسمعنا النغمة نفسها عندما يقول إن عددا كبيرا من أساقفته احتقروا السماويات فأهملوها ليتفرغوا للأمور البشرية، وإنهم تركوا الوعظ والإرشاد، وابتعدوا عن رعاياهم ليجوبوا الولايات النائية طالبين المال، غير مبالين بالربى وبالطرق المعوجة التي سلكوها للحصول عليه.
28
ديمتريانوس أسقف أنطاكية (253-260)
ونكاد لا نعلم شيئا عن أسقفية ديمتريانوس خلف فابيوس، وليس بإمكاننا أن نبت في زمن بدايتها ونهايتها، ويرى العلامة هارنك الألماني أن ديمتريانوس رقي الكرسي الرسولي قبل حزيران السنة 253،
29
وجاء في خرونوغرافية نيقيفوروس أن أسقفية ديمتريانوس دامت أربع سنوات فقط،
30
وجاء في خرونيقون أفسابيوس أنها كانت سبع سنوات، وجاء أيضا في التقليد لبعض المتأخرين أن ديمتريانوس نفي إلى فارس وتوفي فيها،
31
وهو قول ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه؛ نظرا لتأخر الزمن الذي دون فيه، فإنه لا يرد قبل القرن الثاني عشر ،
32
واستعداد هارنك لقبول هذا القول على أساس تآلفه مع الحوادث الراهنة
33
لا تقره قواعد المصطلح؛ فالحقائق التاريخية لا تثبت بمرد تآلفها مع غيرها من الحوادث، وقل الأمر نفسه عن موقف العلامة الأب بردي من هذه الرواية،
34
وجل ما يجيزه المصطلح هو القول: لا ندري. وإن لا أدري لمن العلم!
ومما جاء في التقليد أيضا أن ديمتريانوس استشهد،
35
ولكن هذا القول يشكو من وروده متأخرا، ويتنافى وسكوت القرار الذي اتخذه مجمع أنطاكية الثاني عند ذكر سلف بولس السميساطي، فديمتريانوس في عرف أعضاء هذا المجمع رجل «مطوب الذكر يستحق الثناء لنجاحه في إدارة الكنيسة».
زينب التدمرية وكنيسة أنطاكية
وغلب الإمبراطور ووقع في الأسر، ونقل إلى فارس (260) كما سبق أن أشرنا، وارتطمت الدولة الرومانية، وقدر لأذينة صاحب تدمر أن يثبت مقدرته في الحرب والسياسة، فجعله غاليانوس إمبراطورا على جميع الولايات الشرقية،
36
ثم اغتاله أحد أنسبائه فتولى الحكم بعده وهبة اللات ابنه لزوجته زينب الشهيرة، ولما كان وهبة اللات لا يزال ولدا قاصرا تولت الحكم باسمه والدته زينب، واتسع سلطانها في هذه الحقبة، التي نحن في صددها حتى شمل جميع سورية ولبنان وفلسطين ومصر وقسما من آسية الصغرى، وتطورت علاقات تدمر مع رومة، فأعلنت زينب استقلالها في منتصف السنة 271، واتخذت لابنها لقب أوغوسطوس بالإضافة إلى لقب إمبراطور، وهرع أوريليانوس الإمبراطور الروماني إلى قتال زينب، فتمكن من إذلالها والدخول إلى عاصمتها واقتيادها إلى رومة أسيرة في أواخر هذه السنة نفسها،
37
وهكذا فتكون الفترة التي ساد فيها نفوذ تدمر هي الفترة نفسها التي تولى فيها بولس السميساطي أسقفية أنطاكية.
بولس السميساطي أسقف أنطاكية (260-268)
ولا نعلم شيئا عن أصل هذا الأسقف سوى اسم المدينة سميساط التي انتمى إليها،
38
ويجوز «الافتراض» أن بولس هذا عرف أشياء عن اليهود ودينهم وعن التوراة قبل وصوله إلى الكرسي الرسولي في أنطاكية، وأن زينب التي اشتهرت بعطفها على اليهود عاونت بولس بنفوذها على الوصول إلى رئاسة كنيسة أنطاكية؛ لتضمن بذلك تعاونا وثيقا بينها وبين المسيحيين في عاصمة الشرق،
39
وما كاد بولس يصل إلى السدة الأنطاكية حتى جعلت زينب منه موظفا مدنيا عاليا، فأسندت إليه مهام مالية والإشراف على الجباية، ومنحته لقب ذوقيناريوس
Ducenarius ،
40
وله تمتع بصلاحيات أوسع بكثير، فمثل ملوك تدمر في أنطاكية، فإن الأساقفة الذين نظروا في أمره فيما بعد قالوا إنه لم يكن بمقدور أحد أن يجرؤ فيشكو جور هذا الأسقف.
41
وتاه بولس بنفسه وتكبر، وسار في الشوارع بأبهة الحكام وفخفختهم، وصنع لنفسه عرشا عاليا في الكنيسة، وأذن لمريديه بتقريظه فيها، ومنع تسبيح السيد المخلص في الكنيسة، مدعيا أن تلك التسابيح إنما أحدثها رجال متأخرون، واستعاض عنها بمزامير داود وبتسابيح خصوصية أعدت لتمجيده، وأنشدتها النساء له في الكنيسة نفسها، وأطلق بولس لسانه في انتقاد الآباء الأولين،
42
ولعله خص أوريجانس بشيء كثير من هذا الانتقاد، فأثار حقد من حوله من الأساقفة المعاصرين تلاميذ هذا العالم العلامة الكبير.
43
ولم يرض أساقفة كنيسة أنطاكية عن حياة بولس الشخصية، فإنه نشأ فقيرا فاغتنى بطرق غير شرعية واستغنى، وخامرهم الشك في سلوكه الشخصي؛ لأنه ساكن النساء واستصحب بعضهن على الرغم من حداثتهن ومظهرهن المغري.
44
ولكن بولس كان رجلا لبقا ماهرا وخطيبا بليغا، فتمكن من إنشاء حزب حوله من أبناء أبرشيته، وكان بين هؤلاء عدد من أساقفة الريف والكهنة والشمامسة، فانشقت كنيسة أنطاكية إلى معسكرين: أبناء الريف وأمهات القرى، وأبناء المدن الكبيرة، أو بعبارة أخرى: إلى وطنيين شرقيين سريانيين وعرب، وإلى يونانيين ورومانيين ومتهلنين، وكان طبيعيا أن يرى البولسيون في زينب العربية زعيمة وطنية، تحاول التحرر من حكم رومة وكل ما يمت إلى الغرب بصلة،
45
وعطف على هؤلاء وأيدهم عدد من اليهود والوثنيين الذين ناصروا زينب في حركتها التحررية.
واستقدمت زينب لونجينوس
Longinus
الحمصي من أثينة إلى تدمر؛ ليتولى الدفاع عن موقفها بما أوتي من حجة وفصاحة، وأصغت إلى إرشاداته في السياسة؛
46
ولا يستبعد أن يكون بولس قد عرف لونجينوس، فتأثر بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة، وإذا ما ذكرنا أن هؤلاء الفلاسفة عطفوا على توحيد اليهود وعلى القول بتقوى المسيح وخلوده وأنكروا ألوهيته، سهل علينا تفهم ضلالة بولس، وقوله بأن المسيح «مخلوق» صالح حمل في أحشائه روح الله؛
47
ووافق بورفيريوس الفيلسوف بولس الأسقف فيما يظهر بالتمسك بظاهر نص التوراة والابتعاد عن التأويل الإسكندري.
48
وقاوم بولس كل من أيد رومة والحضارة اليونانية الرومانية، وكان هؤلاء كثرا في المدن ولا سيما أنطاكية، وعبثا حاولت زينب أن تستميل هؤلاء بفصاحة لونجينوس وبيانه، فإنهم ظلوا يعتبرونها بربرية تتطفل على الحضارة تطفلا،
49
ولم يجمع اليهود على تعضيد الدولة العربية الجديدة، فإن كثيرا منهم آثروا سلطة رومة البعيدة على حكم تدمر القريب.
50
وإذا كان من الخطأ أن نغالي فنقول مع بتيفول إن معظم المسيحيين في أنطاكية قاوموا أسقفهم، وإن الشقاق الذي حل في عهد بولس كان شقاقا بين الأسقف من الجهة الواحدة وجمهور المؤمنين من الجهة الأخرى،
51
فإنه من المغالاة أيضا أن نفترض مع ريفيل أن بولس نجح في استمالة معظم أبنائه الروحيين في عاصمة الشرق.
52
ويجب ألا يغيب عن البال أنه كان لا يزال في كنيسة المسيح أساقفة أبرار، حافظوا على تعاليم الرسل ودافعوا عنها دفاع الأبطال، وهل ننسى ديونيسيوس الإسكندري وفرميليانوس القبدوقي وغريغوريوس العجائبي، وجميعهم من أعيان هذا القرن الثالث نفسه؟ والمقاومة التي لقيها بولس كانت في الصميم مقاومة عقائدية هدفها تطهير الكنيسة من بدعة فاسدة.
53
وتزعم هذه المقاومة الروحية في أنطاكية نفسها اثنان من أبناء هذه المدينة؛ دومنوس بن ديمتريانوس الأسقف السابق، وملكيون أحد معلمي الفلسفة والمنطق والفصاحة والبيان في مدارس أنطاكية الهيلينية،
54
وأحد أبناء كنيسة أنطاكية الأبرار الذين اشتهروا بالتقوى والصلاح. وجاء فيما حفظه لنا بطرس الشماس أن الأساقفة المجتمعين في أنطاكية للنظر في بدعة بولس أجمعوا على تولية ملكيون أمر المناقشة الرسمية،
55
ولا يزال اسمه حتى يومنا مقرونا باسم القديس فرميليانوس في أخبار القديسين تحت الثامن والعشرين من تشرين الأول.
56
وقد يجوز الافتراض أن دومنوس وملكيون نجحا في تنظيم المقاومة، فازداد الشق اتساعا وحدثت اضطرابات في أنطاكية أدت إلى تدخل أساقفة الكنائس المجاورة.
تدخل الأساقفة (264)
ويرى العلامة الأب بردي أن ليس في المراجع الأولية ما يبرر القول مع بارونيوس أن ديونيسيوس الإسكندري كتب بادئ ذي بدء عن ضلال بولس الأنطاكي إلى ديونيسيوس الروماني، وأن الحبرين الروماني والإسكندري اتخذا منذ البدء موقفا حازما فهددا بالقطع، وجل ما توصل إليه هذا العالم البحاثة مع زميله الألماني لوفس هو أن قضية بولس بدأت شرقية وحلت حلا شرقيا مستقلا.
57
ولما اشتدت المشادة في أنطاكية، دعا إلينوس أسقف طرسوس إخوته أساقفة كنيسة أنطاكية إلى اجتماع في أنطاكية للنظر في قضية أسقفها، فلبى هذه الدعوة كثيرون أشهرهم على حد قول أفسابيوس المؤرخ
58
فرميليانوس أسقف قيصرية قبدوقية، وغريغوريوس العجائبي أسقف قيصرية الجديدة في بلاد البونط، وأخوه أثينودوروس، ونيقوماس أسقف أيقونية، وهيميناوس أسقف أوروشليم، وثيوتيقنوس أسقف قيصرية فلسطين، ومكسيموس أسقف بصرى حوران. ولا يخفى أن بلاد البونط ظلت تابعة لأنطاكية حتى مجمع نيقية،
59
ورغب هؤلاء في الاستفادة من علم ديونيسيوس الإسكندري وحكمته ودرايته وشهرته، فدعوه إلى الاجتماع معهم في أنطاكية، وأحب ديونيسيس أن يلبي هذه الدعوة ويعيد الوحدة إلى صفوف كنيسة المسيح، ولكنه اعتذر عن الحضور نظرا لتقدمه في السن،
60
وحض الأساقفة على التقوى وخوف الله،
61
وأوفد أفسابيوس الشماس الإسكندري إلى أنطاكية؛ لينقل رسالة خصوصية في موضوع بولس،
62
وكان هذا قد اشتهر بتمسكه بالدين القويم وبتضحيته في هذا السبيل، فلما أحب أن يعود إلى الإسكندرية مر في اللاذقية التي عند البحر (لاذقية سورية)، فاستمسك به أبناؤها المسيحيون وجعلوه أسقفا عليهم.
63
وأهم ديونيسيوس أمر بولس وأقلقه، فطلب إلى أناطوليوس الإسكندري العالم الفيلسوف
64
أن يرافق أفسابيوس الشماس إلى أنطاكية، وأن يسخر علمه وفلسفته في سبيل الدفاع عن العقيدة، ولا بد وأن يكون ديونيسيوس قد رأى في أقوال بولس خروجا على تعاليم الرسل الأطهار، وتحديا لرأيه ورأي أستاذه أوريجانس في الثالوث الأقدس.
65
والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن مواعظ بولس وآراءه في العقيدة قد ضاعت، ولم يبق منها شيء سوى ما جاء في ردود أخصامه عليه، فأصالة الرسالة إلى هيمنايوس
Hymnaeus ، التي تنسب إلى الأساقفة الستة الذين نظروا في قضية بولس بادئ ذي بدء، لا تزال موضوع جدل بين رجال الاختصاص، وقل الأمر نفسه عن الشذرات الباقية من خطب بولس إلى سبينوس
Sabinus .
66
ويذكر علماء الكنيسة اهتمام الآباء في القرن الثالث بالثالوث الأقدس، وسعيهم للتوفيق بين وحدانية الله في التوراة وألوهية المسيح في الإنجيل، واختلافهم في هذا التوفيق، ثم يذكرون فكرة التبني
Adoptianism
التي قال بها ثيودوتوس وأرطمون، وفكرة المونارخية التي نادى بها براكسياس
في القرن الثاني، ثم سبيليوس
Sabellius
في القرن الثالث، ويقرءون في تاريخ أفسابيوس
67
اعتراض الأساقفة المجتمعين في أنطاكية واتهامهم بولس بالأرطمة، ويطالعون أقوال القديسين هيلاريوس
68
وباسيليوس
69
في موضوع بولس، فيجدون اعتراضا على لجوئه إلى اللفظ اليوناني
Homoousios
للتعبير عن علاقة المسيح بالآب، نقول يذكر علماء الكنيسة جميع هذا، فيخلصون إلى القول بأن بولس شارك المونارخيين، فزعم معهم أن الله أقنوم واحد، وأخذ عن الأرطمة
Artemon
فقال إن الله تبنى المسيح تبنيا.
70
المجمع الأنطاكي الثاني (264)
وعقد المجمع الأنطاكي الثاني جلساته في أنطاكية نفسها في السنة 264، وحضر هذه الجلسات كهنة وشمامسة،
71
وألقيت الخطب وكثر النقاش، ودارى البولسيون الأحبار ولاينوهم، واستتروا فأخفوا هرطقتهم، وحاول الأحبار كشف اللثام فلم يفلحوا،
72
وتوفي ديونيسيوس الإسكندري، فخسر الأحبار سندا كبيرا، ولم يبق بينهم واحد بحزمه وعزمه؛ وكانت زينب لا تزال في أوج عزها ومجدها، وأيد بولس وشد أزره جميع أعداء رومة، واعترف بولس بأنه قال قولا جديدا وقطع العهود على نفسه بالعودة إلى السراط المستقيم،
73
فمال القديس فرميليانوس إلى اللين، واكتفى بما تقدم ذكره، وعاد الأحبار كل إلى أبرشيته.
ولا يجوز القول مع البحاثة رفيل إن فرميليانوس اكتفى بابتعاد بولس عن الغنوسية وعن مونارخية سبيليوس؛ لأن موقف الآباء من اللوغوس
Logos
كان لا يزال مائعا،
74
وذلك لسببين: أولهما أن مؤلفات فرميليانوس ضائعة، والثاني أن القديس باسيليوس استشهد بآراء فرميليانوس لتدعيم موقفه من الروح القدس.
75
المجمع الأنطاكي الثالث (268)
وعاد بولس إلى سيرته الأولى، ولم يعبأ بما قطع من عهود، فكتب إليه الأحبار رادعين واعظين ولكن بدون جدوى،
76
فخامرهم الشك وداخلهم الريب، وقالوا بوجوب العودة إلى أنطاكية لاتخاذ الإجراءات اللازمة، ودعا إلينوس أسقف طرسوس مرة ثالثة إلى اجتماع في أنطاكية وذلك في السنة 268،
77
فأم عاصمة الشرق عدد كبير من الأساقفة،
78
ولعل مجموعهم بلغ السبعين أو الثمانين.
79
وخلا مكان غريغوريوس العجائبي، وتوفي فرميليانوس بعده وهو في طريقه إلى أنطاكية، فتبوأ إلينوس أسقف طرسوس المكان الأول بين المجتمعين، وجاء بعده فيما يظهر هيمنايوس أسقف أوروشليم، ثم ثيوتيقنوس أسقف قيصرية فلسطين، ومكسيموس أسقف بصرى، ونيقوماس أسقف أيقونية، وثيوفيلوس أسقف صور،
80
وبروكلوس، ونيقوماس، وإليانوس، وبولس، وبولانوس، وبروتوجينس، وهيراكس، وإفتيخيوس، وثيودوروس، وملكيون، ولوقيوس،
81
ولا تذكر المراجع أسماء الأساقفة الباقين.
وخشي الأساقفة أعضاء المجمع مكر بولس ودهاءه، فوكلوا أمر المقارعة بالمنطق إلى ملكيون الكاهن، مدرس المنطق في إحدى مدارس أنطاكية الهلينية، كما فعل غيرهم من قبل في ظروف مماثلة،
82
واستقدموا عددا من الكتاب الماهرين لتدوين المناقشة،
83
وكان ملكيون حاضر الدليل صحيح الاستدلال، فناقش بولس في العقيدة، وأثبت رأيه بالحجج الملزمة فاستظهر عليه.
84
فأدان المجمع بولس ووصمه بالهرطقة؛ لأنه «امتنع عن القول بأن ابن الله نزل من السماء، ولأنه قال بأن يسوع المسيح بشر وإنسان».
85
وأكد المجمع شذوذ بولس في حب المال والجاه والفخفخة، وشجب أيضا إقدامه على مساكنة النساء والسماح لبعضهن أن يرتلن في الكنيسة، وما إلى ذلك مما سبقت الإشارة إليه، وصرح المجمع أيضا أن إصلاح من يشعر بوحدة الكنيسة ويعد نفسه منها ممكن، ولكن ذاك الذي يستهزئ بسر التقوى، ويفخر بهرطقة أرطمون المنتنة، لا فائدة من محاسبته.
86
وسر التقوى هنا هو في الأرجح ذاك الذي جاء في الآية السادسة عشرة من الفصل الثالث من رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس: «وإنه لعظيم ولا مراء سر التقوى الذي تجلى في الجسد، وشهد له الروح، وشاهدته الملائكة وبشر به في الأمم وآمن به العالم وارتفع في مجد.»
وخلع المجمع الأنطاكي الثالث بولس وانتخب دومنوس بن ديمتريانوس سلف بولس أسقفا على أنطاكية، وكتب بذلك رسالة محبة إلى «ديونيسيوس أسقف رومة ومكسيموس أسقف الإسكندرية، وجميع الإخوة الأساقفة في المسكونة، والكهنة والشمامسة، وإلى كل الكنيسة الجامعة»، ليكتب هؤلاء بدورهم إلى دومنوس معترفين برئاسته.
87
امتناع بولس عن الطاعة
وامتنع بولس عن طاعة المجمع المقدس، وظل يعتبر نفسه رئيسا على كنيسة أنطاكية،
88
وطاوعه في ذلك أتباعه،
89
وأيدته زينب صاحبة السلطة، فظلت أوامره نافذة،
90
وجل ما ربحه المؤمنون أنه أصبح لهم أسقف صافي العقيدة تقيا يلتفون حوله بإيمان وخشوع، ويمارسون الطقوس كسائر أبناء الكنيسة الجامعة، ولكنهم ظلوا غير معترف بهم من السلطات التدمرية، يعقدون معظم اجتماعاتهم في السر أو في بعض الكنائس الحقيرة.
91
وجاء في بعض المراجع المتأخرة أن مكسيموس الإسكندري وفيليكس الروماني الذي خلف ديونيسيوس على السدة الرومانية اتصلا بدومنوس، واعترفا برئاسته على كنيسة أنطاكية في السنة 269،
92
ولكن بولس لم يعبأ بهذا كله، وما فتئ يتمتع بالسلطتين الروحية والزمنية في أنطاكية حتى خروج زينب منها.
ولم تدم رئاسة دومنوس أكثر من ثلاث سنوات،
93
وجاء في حوليات إيرونيموس أن تيمايوس
Timaios
خلف دومنوس في الرئاسة في السنة الأولى من حكم الإمبراطور أوريليانوس 270-271.
94
زوال زينب وبولس
وسقط غاليانوس محاربا ضد أوريولوس في السنة 268، ولكن الجنود نادوا بكلوديوس الثاني إمبراطورا (268-270)، فقتل هذا أوريولوس وقهر الألماني والقوط وتوفي بالطاعون، فخلفه أوريليانوس (270-275)؛ إذ نادى به جنوده إمبراطورا، وصالح أوريليانوس القوط، وتنازل عن حقوق رومة في ما وراء الدانوب.
وفي أواخر السنة 270 أو أوائل السنة 271 أنفذت زينب زبدة قائد قواتها إلى مصر ليستولي عليها، ففعل وأبقى حامية تدمرية فيها وعاد إلى سورية، وكان حاكم مصر الروماني بروبوس
قد خرج منها لتأديب بعض العصاة في ليبية وقرطاجة، ولتطهير بحر الأرخبيل من القوط، فعاد إلى مصر بعد خروج زبدة منها، وحارب الحامية التدمرية ومن ناصرها من المصريين، فمات محاربا، فأضحت زينب في حرب ضد رومة، فاتخذت لنفسها ولابنها لقب أوغوسطوس،
95
ودفعت برجالها عبر طوروس إلى آسية الصغرى فاحتلت أنقرة ثم بيثينية، ووصلت طلائع جيشها إلى خلقيدونية مفتاح البوسفور، وكان نبأ تولي أوريليانوس قد وصل إلى خلقيدونية، فصمد الخلقيدونيون في وجه التدمريين.
وقام أوريليانوس من إيطالية إلى البلقان في صيف السنة 271، ثم انتقل بجيشه إلى آسية الصغرى، فرأت زينب أن تقاتله قريبة من البادية، فتراجعت برجالها إلى سورية الشمالية وصمدت في أنطاكية ، ووصل أوريليانوس إلى أنطاكية، فوجد الخيالة التدمريين بانتظاره عند ضفة العاصي، فدنا منهم وتناولهم بالقتال وتظاهر بالضعف وتراجع، فلحقوا به وما فتئوا مجدين في إثره، وكانوا من النوع الثقيل حتى أعياهم السعي، ففاجأهم أوريليانوس بهجوم صاعق وذبح منهم عددا كبيرا، فرأى زبدة أن لا مفر من الجلاء عن أنطاكية، فأشاع خبرا مؤداه الانتصار على الرومان، وعرض في المساء في شوارع أنطاكية رجلا بزي إمبراطور روماني، وادعى أنه أوريليانوس نفسه، ثم قام تحت جناح الليل إلى حمص، وترك في دفنة ساقة تؤخر تقدم أوريليانوس، وقام معه عدد كبير من الأنطاكيين الموالين له ولسيدته زينب، ودخل أوريليانوس أنطاكية فضبط أمورها، وتساهل مع الأنطاكيين مدعيا أن من لحق منهم بزبدة إنما فعل ذلك مكرها، ثم نهض أوريليانوس إلى أبامية فحماة فالرستن فحمص، واصطدم هنالك بزبدة ورجاله وكتب النصر له، فانثنت زينب عن حمص وانصرفت إلى تدمر، ولحق بها أوريليانوس، فحارب البدو يمينا وشمالا، ووصل إلى تدمر بعد أسبوع واحد، فشدد على تدمر الحصار، فاتصلت زينب بشابور الساساني وطلبت معونته فأنجدها، ولكن أوريليانوس تمكن من القضاء على هذه النجدة قبل وصولها إلى تدمر، فخفت زينب بنفسها إلى طلب نجدة ثانية، وخرجت من تدمر تحت جناح الظلام طالبة الفرات، ولكن الرومان أدركوها عند هذا النهر، وعادوا بها إلى معسكر سيدهم، فدخل أوريليانوس تدمر ظافرا، ونقل كنوزها إلى حمص وجر وراءه ملكتها وملكها ومستشارها لونجينوس الفيلسوف وبعض أعيانها، وحاكم أوريليانوس لونجينوس في حمص، وأمر بقتله فقتل فيها، وتقبل لونجينوس الموت بشجاعة، فلفظ أنفاسه وهو يعزي ذويه ويقوي أصدقاءه وأحباءه.
96
وبزوال الحكم التدمري زال نفوذ بولس السميساطي، وقويت شوكة تيمايوس وجمهور المؤمنين، فانتهز تيمايوس (271-279) هذه الفرصة السانحة، وتقدم من الإمبراطور المحرر راجيا إخراج بولس من قلاية الأسقفية وكف يده، ورأى أوريليانوس وجه الحق في هذا الطلب، ولعله رأى أيضا في شخص تيمايوس وفي أعوانه حزبا يونانيا رومانيا قاسى الأمرين في عهد زينب «البربري»، «فأمر بأن تعطى القلاية إلى أولئك الذين كانوا على صلة بالمكاتبة بأساقفة العقيدة المسيحية في إيطالية ومدينة رومة»،
97
ولا نعلم عن مصير بولس بعد هذا.
أناطوليوس أسقف اللاذقية
ولدى انفضاض المجمع الأنطاكي الثالث عاد أناطوليوس ممثل حبر الإسكندرية برفقة صديقه القديم أفسابيوس الإسكندري أسقف اللاذقية إلى هذه المدينة، وأقام عنده مدة وجيزة، وفي أثناء إقامته في اللاذقية اختار الله أفسابيوس فشغر كرسيه، فتقدم المؤمنون من أناطوليوس راجين بقاءه في مدينتهم أسقفا عليهم وخلفا لصديقه الراحل، فقبل دعوتهم وساس كنيستهم حتى السنة 282، وكان عالما كبيرا كما سبق وأشرنا ورياضيا ماهرا، فصنف في اللاذقية كتابه الشهير في عيد الفصح.
98
ماني وثنويته (216-276)
وجاء في تاريخ الراهب الرهاوي أن مجمع أنطاكية الثالث حرم تعاليم ماني في الوقت نفسه، الذي حرم فيه تعاليم بولس السميساطي، وهو قول ضعيف لا يجوز الأخذ به؛ لأن المؤرخ الرهاوي دون أخباره في القرن الثالث عشر، وجاء أيضا في بعض التواريخ السريانية وفي تاريخ ميخائيل الكبير «أن ماني ولد في مدينة السوس سنة 240، وتنصر وسامه أسقفها كاهنا سنة 268، ثم مرق من النصرانية لخبث طينته».
99
وهذا القول ضعيف أيضا؛ لأنه جاء متأخرا؛ فميخائيل الكبير ولد في السنة 1126 في ملطية، وتوفي في السنة 1199.
ويجمع رجال البحث والتنقيب على أن ماني بن بابك ولد في ماردين في السنة 215 أو 216، وأنه ادعى الوحي أول مرة في الثالثة عشرة من عمره، ثم في الخامسة والعشرين، أي السنة 240 أو 241، وعلم ماني وبشر في طيسفون وخص شابور بإحدى رسائله، وقال بسببين أصليين النور والظلام، وبظروف ثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل. والنور والظلام عند ماني كائنان مستقلان منفصلان منذ الأزل، ولكن الظلام غزا النور في الماضي، وأصبح بعض النور ممتزجا بالظلام، وهذه هي حالة عالمنا في الحاضر. ثم يخلص ماني إلى القول أن لا بد من تنقية النور من هذا الظلام؛ كي يعود النور والظلام إلى الانفصال التام كما بدآ، والله هو سيد عالم النور، والشيطان سيد عالم الظلام. هذا بعض ما قاله ماني عن الماضي، فأما في الحاضر فإن قوى النور أرسلت بوذا وزورواستر، ثم يسوع وهو أهم الجميع ؛ والعالم عند ماني ينتهي في المستقبل بثوران هائل وسقوط عظيم، فيصعد الصالحون في الفضاء إلى أعلى، والأشرار يهبطون إلى ظلام دائم.
ماني والنصرانية
وخص ماني السيد المخلص بمكانة ممتازة، وادعى أنه هو رسوله، وأنه هو البارقليط المنتظر الذي وعد به السيد، وأن مقدرته على معرفة ما كان وما سيكون مستمدة من البارقليط الذي حل فيه. ويرى رجال الاختصاص الذين وفقوا إلى درس ما بقي من رسائل ماني في تركستان، وفي أوراق البردي في مصر؛ أن المانوية تفرعت عن المسيحية لا الوثنية.
100
وانتظم المانويون في كنيسة واحدة مؤلفة من طبقتين: المنتقين المصطفين والمستمعين، وكان على رأسها بادئ ذي بدء رسل اثنا عشر، ثم تلاميذ ستون، ثم أساقفة وكهنة وشمامسة ورهبان، وكانوا يجتمعون في كل أحد للصلاة والترتيل وقراءة الأسفار، ومنها الأناجيل ورسائل بولس الرسول.
وانتشرت تعاليم ماني في بابل وما بين النهرين أولا، ثم في سورية وفلسطين ومصر وأفريقية الشمالية وفارس وأواسط آسية، وسكت عنها شابور الأول لرحابة صدره واتساع أفقه، ولكن كهنة مزدة قاوموا هذه التعاليم، فاضطر ماني أن يغادر فارس إلى الكشمير وتركستان والصين، وتوفي شابور الأول في السنة 272، وتوفي ابنه وخلفه هورمزد الأول في السنة 273، وتولى العرش بهرام الأول، فظن المانويون أن سيتاح لمعلمهم أن يعود إلى وطنه ويعيش بأمان وحرية، ولكنه اعتقل وصلب وسلخ جلده وحشي قشا في السنة 275 أو 276.
الأسفار الأبوكريفية
واللفظ اليوناني
Apokryphos
معناه المخفي والمستور والمكنون، وأسفار السيبولات عندهم وعند الرومان كانت أبوكريفية؛ لأنها كانت مقدسة لا يجوز أن تبقى في متناول جميع الناس، والأسفار الأبوكريفية عند المسيحيين الأولين كانت الأسفار الخالية من الوحي الإلهي، ويطلق رجال الاختصاص هذا اللفظ اليوم على كل كتاب غير صحيح، أو غير موثوق به، أو غير أصلي.
ولجأ أهل البدع في القرنين الثاني والثالث إلى التزويق والتلفيق والتزوير لخداع المؤمنين، ولمس المؤمنون نقصا في أخبار طفولة السيد وحداثته، وفي أخبار العذراء وأعمال الرسل، فأقدموا على مطالعة ما أعده أهل البدع، فهب الآباء بدورهم يدققون وينذرون ويحرمون.
101
والأسفار الأبوكريفية المسيحية متنوعة؛ منها الإنجيل ، ومنها الرسائل، ومنها أيضا الأعمال، وعدد الأناجيل الأبوكريفية يربو على العشرين: إنجيل العبرانيين وهو قريب جدا من إنجيل متى، وقد كتب بالآرامية بأحرف عبرية، وإنجيل المصريين، وإنجيل الأبيونيين ويدعى أيضا إنجيل الرسل، وإنجيل بطرس وقد سبقت الإشارة إليه عند الكلام عن سيرابيون أسقف أنطاكية، وإنجيل نيقوذيموس، وإنجيل يعقوب، وإنجيل توما، وإنجيل الطفولية العربي، وسيرة يوسف النجار العربية، وإنجيل فيليبوس، وإنجيل متيا، وإنجيل برنابا، وإنجيل برثلماوس، وإنجيل أندراوس، وإنجيل يهوذا الأسخريوطي، وإنجيل تدايوس، وإنجيل بسيليدس، وإنجيل كيرينثوس، وإنجيل فالنتينوس، وإنجيل أبيليس؛ وأثر الغنوسية في الأناجيل الثمانية الأخيرة واضح جلي.
وأهم الأعمال الأبوكريفية أعمال بولس
Acta Pauli ، وأعمال بطرس، وأعمال بطرس وبولس، وأعمال يوحنا، وأعمال أندراوس، وأعمال توما، وأعمال تدايوس، وفيها رسالة أبجر ملك الرها إلى السيد المخلص.
وأشهر الرسائل الأبوكريفية رؤيا بطرس، ورؤيا بولس، ورؤيا إسطفانوس، ورؤيا توما، ورؤيا يوحنا، ورؤيا العذراء، ورسالة الرسل
Epistola Apostolorum ، وهذه من بقايا النصف الثاني من القرن الثاني، وقد حفظت باللغتين القبطية والحبشية.
102
وأفيد هذه النصوص الأبوكريفية لتاريخ كنيسة أنطاكية والنصرانية في القرن الثالث: إنجيل بطرس، وإنجيل يعقوب، وأعمال يوحنا، وأعمال بولس، وأعمال بطرس، وأعمال توما، وأعمال أندراوس، ورسالة الرسل.
وإنجيل بطرس كما نعرفه اليوم يعود إلى النصف الأول من القرن الثاني (120-130)، ويحمل آثارا تدل على أنه دون في سورية.
103
ولعل جامع أخباره قال بالتشبيه
Docetism
وما صلبوه ولكن شبه لهم، فإنه يستعيض عن النص «إلهي إلهي لماذا تركتني»؟ بالعبارة «قدرتي قدرتي لقد تركتيني»! وتقع مسئولية صلب المسيح في هذا النص المزيف على اليهود بأكملها، فإن هيرودوس ملك اليهود حكم على المسيح بالإعدام لا بيلاطس؛ ويظهر مما جاء في شرح أوريجانس على إنجيل متى أن القول بتحدر إخوة المسيح من زوجة ليوسف سابقة لمريم جاء في هذا الإنجيل الأبوكريفي عينه،
104
ويؤكد أفسابيوس أن سيرابيون أسقف أنطاكية حرم مطالعة هذا الإنجيل؛ لأنه كان يمت إلى المشبهين بصلة قوية.
105
وإنجيل يعقوب يعود في أقدم أجزائه إلى النصف الثاني من القرن الثاني (150-180)، وفي مجموعه كما نقرؤه اليوم بنصه اليوناني إلى القرن الرابع.
106
وعلى الرغم من ورود إشارة واضحة في ذيله إلى أن يعقوب أخا الرب وأسقف أوروشليم، هو الذي دون هذا الإنجيل، فإن العلماء الباحثين يرون أن شخصا أقل اطلاعا على جغرافية فلسطين من يعقوب وضع هذا السفر، وأنه كان من المقيمين في مصر،
107
ولعل الغاية الأساسية من جمع أخباره إثبات عذرة العذراء قبل ولادة السيد وبعدها، وهو أغنى المصادر الأولى في أخبار مريم ويوسف وطفولة السيد المخلص، وأكثرها تفصيلا.
أما كاتب أعمال يوحنا فإنه آسيوي عني بجمع أخبار يوحنا الحبيب في آسية الصغرى، فذكر رحلاته فيها ودون عظاته، ووصف العجائب التي تمت على يديه، ويستدل من بعض ما جاء في هذا السفر الأبوكريفي أن كاتبه دون أخباره في النصف الثاني من القرن الثاني، وأنه قال بالتشبيه أيضا؛ فقد جاء في الفصل الثالث والتسعين من هذا الكتاب ما محصله: «وكنت إذا أردت أن ألمس السيد، أضع يدي على جسم مادي صلب، وفي بعض الأحيان كنت إذا لمسته أجد جوهره بدون جسم، كأنه لم يوجد أبدا.»
108
وكتاب أعمال بولس يشمل قصة بولس وتقلا ورد الكورنثيين على رسالتي بولس الثانية والثالثة إليهم، وأخبار استشهاد بولس. وصاحب هذا الكتاب هو في الأرجح كاهن من كهنة آسية الصغرى من أعيان النصف الثاني من القرن الثاني.
109
وأعمال بطرس دونت فيما يظهر في سورية أو فلسطين عند نهاية القرن الثاني، وهي تشمل رحلة بولس إلى إسبانية بعد رومة ووصول سمعان الساحر إلى عاصمة الدولة الرومانية، ولحاق بطرس بهذا الساحر وانتصاره عليه، ثم أخبار استشهاد هامة الرسل، ومما يؤخذ على واضع هذا السفر الأبوكريفي أنه كان يقول بالتشبيه أيضا، فإنه يذكر أن بولس كان يمارس سر الأفخاريستية بالخبز والماء.
110
وأعمال توما من مصنفات القرن الثالث، وقد وضعت بالسريانية أولا، ثم نقلت إلى اليونانية والأرمنية والحبشية واللاتينية، وواضعها رهاوي من أتباع برديصان، وقد سبقت الإشارة إليه، وهو يجعل من توما مبشر الهند بعد ما بين النهرين. وتشكو هذه الأعمال من شيء من الغنوسية والمانوية، وقد تبنى غبطة البطريرك أغناطيوس أفرام شيئا كثيرا مما جاء في هذا السفر الأبوكريفي، وذلك في كتابه الدرر النفيسة في تاريخ الكنيسة.
111
ويرى رجال البحث أن لفكيوس خارينوس
Leukios Charinos
هو الذي صنف أعمال أندراوس في منتصف القرن الثالث، ويقول أفسابيوس إن العقيدة التي تتجلى في هذا المصنف الأبوكريفي لا تتفق والعقيدة الأرثوذكسية الحقيقية، وإن أحدا من المؤمنين لم يردد ما جاء في هذا المصنف، وإن صاحبه أو أصحابه هراطقة.
112
وتشمل أعمال أندراوس قصة أندراوس ومتياس بين أكلة البشر في البحر الأسود، وقصة بطرس وأندراوس، واستشهاد أندراوس في آخية، وعظته في سجن بتراس.
113
أما رسالة الرسل
Epistola Apostolorum
فإنها أبصرت النور، إما في آسية الصغرى أو في مصر بين السنة 160 والسنة 170 بعد الميلاد، وقد ضاع أصلها اليوناني ولم يبق عنه سوى جزء من ترجمته إلى القبطية وترجمته إلى الحبشية،
114
والقسم الأكبر من هذه الرسالة الأبوكريفية يبحث في ظهور السيد المخلص لتلاميذه بعد القيامة، وهنالك مقاطع تبحث في ألوهية السيد فتظهره ذا طبيعتين إلهية وبشرية، وتوجب القول بأقانيم ثلاثة وكنيسة مقدسة ومغفرة الخطايا، وتجعل من المعمودية شرطا لازما للخلاص. وعلى الرغم من ظهور بعض الغنوسية في هذه الرسالة، فإنها تعتبر سمعان الساحر وكيرينثيس رسولين كاذبين، وتؤكد قيامة الجسد في يوم الدينونة.
115
أهمية الأبوكريفية
والأسفار الأبوكريفية تظل على ما فيها من عيب مراجع مفيدة لتاريخ كنيسة أنطاكية والنصرانية جمعاء، فهي تحفظ لنا ما ظنه بعض رجال البدع جذابا لجمهور المؤمنين، وإذا ما فتشنا هذه الأسفار لهذه الغاية نجد موضوع البكارة مطروقا أكثر بكثير من غيره، فقصة بولس وتقلا سحرت عقول المؤمنين أجيالا طوالا، وقد نلمس شيئا من المغالاة في حض الرجال والنساء على العفة في سفر أعمال بولس، ولكننا نضطر في الوقت نفسه أن نكبر في الرسول مثله العليا، ومقدرته على الأخذ بقلوب المؤمنين، فقصة تقلا تمثل لنا سطوة العقيدة الجديدة، وتمكنها من اقتلاع الأنفس من أوساخها الوثنية وتقديمها للمسيح، فقد جاء على فم بولس في الفصل الخامس من الأعمال التي تنسب إليه ما يلي:
طوبى لأنقياء القلب؛ لأنهم يعاينون الله.
طوبى لأعفاء الجسد؛ لأنهم يصبحون هيكل الله.
طوبى لأغضاء الطرف وأنقياء العرض؛ لأنهم يخاطبون الله.
طوبى لمن يتخلون عن هذا العالم؛ لأنهم يستحسنون عند الله.
طوبى للمتزوجين الذين كأنهم لم يتزوجوا؛ لأنهم يرثون الله.
طوبى لمن يخافون الله؛ لأنهم يصبحون ملائكة الله.
ويذهب واضع سفر أعمال يوحنا إلى أبعد من هذا، فيحرم الزواج ويحض المؤمنين على زيجة سماوية طاهرة حقيقية لا تنفصم أبدا هي الاتحاد بالمسيح،
116
ولا يختلف موقف من وضع أعمال توما وأعمال أندراوس من الزواج عن هذا الموقف نفسه.
117
ومما تظهره هذه الأسفار الأبوكريفية تطور في صلوات جمهور المؤمنين، فالسيد المخلص لا الآب أصبح قبلة أنظار المصلين «خارج الكنيسة»، وتقلا في أعمال بولس تهتف: «يا ربي وإلهي إله هذا البيت الذي أبصرت فيه النور، يا يسوع المسيح ابن الله ملجئي في السجن وأمام الحكام وفي النار وبين الوحوش، أنت الله ولك المجد إلى الأبد، آمين.»
118
وما نلاحظه في أعمال بولس من هذا القبيل نجده أيضا في أعمال بطرس وأعمال يوحنا وتوما وأندراوس.
ومن أهم ما جاء في المصنفات الأبوكريفية موقف بعضها من الناموس، فالرسائل المنسوبة إلى إقليمس الشريف الروماني تجعل موسى ينقل الناموس إلى السبعين شفاها، وتصر على أن الناموس لم يدون إلا بعد وفاة موسى، وأن بعض من حمله في صدره بدل قولا غير الذي قيل له،
119
وأن الله سكت عن هذا التبديل كي لا يصبح الناموس كافيا في حد ذاته، ثم تخلص هذه الرسائل إلى القول بأن افتراض فهم الناموس من مجرد قراءته خطأ خطر؛
120
وفي هذا كله تشابه شديد مع ما جاء في رسالة بطليموس الغنوسي إلى فلورة، ففي هذه الرسالة أيضا تفريق في الأهمية بين مصادر الناموس الثلاثة؛ الله وموسى والشيوخ، وبالتالي تحرر من الخضوع لهذا التشريع.
121
وجاء في ذيذاسكالية الرسل أن الله منح شعبه ناموسا طاهرا، فلما سقطوا في التجربة وعبدوا الأصنام، أنزل لهم ناموسا آخر أشد من الأول وأقسى، فجاء المسيح فأقر الناموس الأول وألغى الثاني، وعلى جمهور المؤمنين أن يتحرروا من ربقة الناموس الثاني، وأن يعملوا بموجب نصوص الأول.
122
ويرى العلماء المدققون صلة قوية بين هذين السفرين الأبوكريفيين وبين بعض الأوساط المسيحية في النصف الأول من القرن الثالث في شرقي الأردن.
123
الفصل الحادي عشر
قانون الإيمان الأنطاكي قبل نيقية
وعني العلامة الألماني كتنبوش بتأريخ قانون الإيمان، ففتش وجمع ونقب ونقر، فأتحف الكنيسة بمجلدين مفيدين ظهر الأول منهما في السنة 1894، والثاني في السنة 1900،
1
ونظر في تاريخ قانون الإيمان في كنيسة أنطاكية، فتسرع في الاستنتاج فقال إنه لم يكن لكنيسة أنطاكية قانون إيمان معين محدد قبل بدعة بولس السميساطي، وإن دومنوس أسقف أنطاكية بعد بولس تقبل قانون إيمان كنيسة رومة وتبناه، فجعله قانون إيمان كنيسته.
2
ووجه الخطأ في استنتاج هذا العالم العلامة هو أنه اتخذ من سكوت المراجع حجة، ولم يدر فيما يظهر أن سكوت المراجع لا يصبح حجة إلا بشروط معينة قلما تتوفر لدى المؤرخ المدقق. وإليك حجة كتنبوش والرد عليها:
حجة كتنبوش
يبدأ كتنبوش بالرسالة السلامية، التي وجهها الأساقفة المجتمعون في أنطاكية إلى أسقف رومة وأسقف الإسكندرية وسائر أساقفة المسكونة، فيرى أن أساقفة أنطاكية يكتفون بالقول «إن بولس لا يريد أن يعترف معنا بان ابن الله نزل من السماوات، وأنه لم يحافظ على الإيمان الذي تسلمه».
3
ثم ينتقل كتنبوش من نص هذه الرسالة السلامية إلى نص رسالة الأساقفة الستة،
4
فيقرأ العبارة: «الإيمان الذي تسلمناه منذ البدء فحفظناه وحفظته الكنيسة الجامعة المقدسة، ذاك الذي انتقل إلينا بالتقليد من الرسل الطوباويين.» ويلاحظ أنها خالية من أية إشارة إلى قانون معين، فيخلص إلى القول بأنه لم يكن هنالك قانون معين محدد!
ثم يشير كتنبوش إلى ما جاء بعد ذلك في ذيامارتورية أفسابيوس الدورلي من قانون إيمان كنيسة أنطاكية، فيجده قريبا جدا من قانون إيمان كنيسة رومة،
5
فيخلص إلى القول بأن كنيسة أنطاكية أخذت نص قانونها عن قانون كنيسة رومة، ويلاحظ أن الفرق بين القانونين موجه ضد بدعة معينة، فيرى أن هذه البدعة هي بدعة بولس السميساطي، فيحدد زمن الأخذ عن رومة، ويجعله في عهد دومنوس خلف بولس على السدة الأنطاكية.
الرد على كتنبوش
ونحن نرى أن سكوت المراجع لا يكون حجة قبل التثبت من أمور ثلاثة: أولها أن نكون على يقين جازم من أمر اطلاعنا على جميع المراجع، والثاني ألا يعترينا شك في أن ما لدينا من هذه المراجع هو «جميع» ما دونه السلف، وأنه لم يضع منها شيء، والثالث أن نتثبت من استحالة السكوت في هذه المراجع عن الموضوع الذي ندرس. ونحن لا ننكر على كتنبوش إحاطته بأخبار الرواة عن قانون الإيمان وجده واجتهاده، ولكننا نرتاب في أمر إحاطته بها جميعا، فقد جاء في رسالة أسقف أنطاكية العظيم أغناطيوس حامل الله إلى كنيسة ترولة ما يمكن اعتباره جزءا من قانون إيمان معمول به. وجاء في رسالة القديس كبريانوس الخامسة والسبعين أن القديس فرميليانوس أشار إلى قانون إيمان معمول به في كنائس البونط، كان يردد في ظروف المعمودية؛ فإذا كان هذا أمر الكنائس الصغيرة التي كانت تتأثر أنطاكية، فما قول كتنبوش في كنيسة أنطاكية نفسها؟
6
وهل بإمكان كتنبوش أو غيره من العلماء أن يجزم في أن ما لدينا من المراجع الأولى لتاريخ كنسية أنطاكية قبل مجمع نيقية هو جميع ما دونه السلف، وأنه لم يضع مما دون شيء؟ ثم هل من المنطق بشيء أن نقول باستحالة سكوت الآباء المجتمعين في أنطاكية عن ذكر قانون الإيمان بكامله، في رسالة سلامية وجهوها إلى إخوانهم في المسيح في جميع المسكونة؟ ألا يجوز أن يكون هؤلاء الأساقفة اعتبروا نص قانون الإيمان أمرا معروفا لدى إخوانهم في الرب يسوع، فاكتفوا بالإشارة إلى المهم منه؛ أي إلى القول بأن بولس «لا يريد أن يعترف معهم بأن ابن الله نزل من السموات»؟ ثم هل نسي أن مرقس أفجينيكوس
Eugenicos
متروبوليت أفسس فاجأ إخوانه الغربيين مفاجأة في مجمع فرارة (1438)، عندما صرح أمامهم بأن كنائس الشرق تجهل كل الجهل نص إيمان الرسل
Symbolum Apostolicum
الشائع في الغرب؟
ما يجوز قوله
والراهن الثابت هو أن الرسل أوجبوا منذ بداية التبشير والتعميد اعترافات معينة تنبئ باهتداء الموعوظ ؛ ففيليبس فرض على الخصي الحبشي القول: «إني أؤمن بأن يسوع المسيح هو ابن الله.» وبولس استهل رسالته إلى الرومانيين بقوله: «المولود بحسب الجسد من ذرية داود المقام، بحسب روح القداسة في قدرة ابن الله بقيامته من بين الأموات يسوع المسيح، ربنا الذي به نلنا النعمة.» وقال هذا الرسول نفسه في رسالته الأولى إلى الكورنثيين (15: 3-5): «إن المسيح قد مات من أجل خطايانا، وإنه قبر وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب.» وقال بطرس في رسالته الأولى (3: 18-22): «إن المسيح مات مرة من أجل الخطايا وهذا الماء وما رمز به إليه - أي المعمودية - التي ليست إزالة أقذار الجسد، بل معاهدة الضمير الصالح لله، يخلصكم الآن بقيامة يسوع المسيح الذي هو عن يمين الله منذ انطلق إلى السماء، وأخضعت له الملائكة والسلاطين والقوات.»
وهكذا فإن الجوهر في نص قانون الإيمان يعود إلى عصر الرسل أنفسهم، أما صيغته فإنها تطورت تدريجيا بتطور ظروف الوعظ والمعمودية، ونظرا لبعد المسافات وتنوع الظروف، فإنه نشأ قبل نيقية فصيلتان من النصوص إحداهما شرقية والثانية غربية، وضاعت الأولى بعد نيقية وبقيت الثانية في الغرب، وهذه هي قانون الرسل المشار إليه آنفا. وأهم الظروف التي دعت لاختلاف النصوص قبل نيقية ظهور البدع في الشرق ووجوب محاربتها، وأهم هذه النصوص الشرقية نص كنيسة أوروشليم، كما ورد في إرشادات كيرلس ونص كنيسة قيصرية فلسطين كما حفظه لنا المؤرخ أفسابيوس.
7
الفصل الثاني عشر
لوقيانوس المعلم الأنطاكي
تيمايوس وكيرلس
وتوفي دومنوس الأول بعد خلع بولس السميساطي في السنة 271، فتولى خلافة بطرس في أنطاكية تيمايوس
Timaios
ورعى المؤمنين حتى السنة 279،
1
ولعله هو الذي تسلم الأوقاف والقلاية بأمر أوريليانوس كما سبق وأشرنا، وجاء كيرلس بعده فساس الرعية حتى السنة 303،
2
وجميع هذه التواريخ تقديرية لا يجوز اعتبارها ثابتة.
3
ومما يروى عن كيرلس أنه أبعد عن أنطاكية عند بدء الاضطهاد في السنة 303، وحكم عليه بالأشغال الشاقة في مقالع بانونية، فتوفي فيها بعد ثلاث سنوات.
4
فلول البولسيين
وتدخل الإمبراطور أوريليانوس في النزاع بين المجمع الأنطاكي وبين بولس السميساطي، فنفذ رغبات المجمع، وأكره بولس على تسليم الأوقاف للأسقف الشرعي، وغاب بولس عن أنطاكية وانقطعت أخباره، ولا نعلم شيئا عن أتباعه في أنطاكية وتوابعها قبل مجمع نيقية، ولعلهم انزووا ولم يأتوا بحركة.
5
ويرى لوفس
Loofs
العلامة الألماني أن البولسيين ظلوا منتظمين كنيسة مستقلة في أنطاكية حتى مجمع نيقية برعاية أسقف كان يدعى لوقيانوس، وأن أسقفهم هذا هو غير لوقيانوس المعلم الشهير،
6
ولكن النصوص التاريخية الباقية لا تخول المؤرخ المدقق هذا القدر من الاستنتاج.
دوروثيوس الكاهن
ويقول أفسابيوس المؤرخ إنه عرف في أنطاكية دوروثيوس الكاهن
Dorotheos ، فوجده ملما باللاهوت مطلعا على علوم اليونان، يجيد العبرية ويقرأ الأسفار بلغتها الأصلية. ويقول أفسابيوس أيضا إن دوروثيوس ولد خصيا، وأن الإمبراطور ألحقه بالبلاط، ووكل إليه إدارة مصبغة صور؛ ثم يخلص المؤرخ إلى القول: «لقد سمعناه يفسر الأسفار بحكمة في الكنيسة.»
7
وقام بعد أفسابيوس من خلط أخبار دوروثيوس الكاهن هذا بأخبار دوروثيوس آخر جعله التقليد أسقفا على صور في أيام يوليانوس الجاحد،
8
ولا نعلم شيئا عن دوروثيوس الكاهن أكثر مما أوردناه أعلاه.
9
لوقيانوس المعلم
وجاء في التقليد
10
أن لوقيانوس أبصر النور في سميساط في بيت كريم، وأنه درس الأسفار المقدسة في الرها على مفسر شهير كان يدعى مكاريوس، وإذا صح هذا التقليد جاز القول إن بولس السميساطي استقدم لوقيانوس ابن بلدته إلى أنطاكية بعد أن أصبح رئيس الكنيسة فيها، فعني بتثقيفه ورسمه كاهنا، ووكل إليه الإشراف على تلقين الدين المسيحي في عاصمة الشرق.
11
والثابت الراهن لدى المدققين الثقات هو أن لوقيانوس كان كاهنا عالما في أنطاكية في الثلث الأخير من القرن الثالث، وأنه ماشى بولس السميساطي في آرائه اللاهوتية، فقطعه دومنوس عن الشركة بعد قرار المجمع الثالث، فبقي مقطوعا حتى تولى تيرانوس (304-316) بعد كيرلس،
12
والدليل على قطعه هو شهادة ألكسندروس الإسكندري بذلك بعد وفاة لوقيانوس بعشر سنوات فقط.
13
ومن الأدلة على قطعه انتماء آريوس إليه في المذهب،
14
وقول عدد من كبار الآريوسيين إنهم من أتباع لوقيانوس يقولون قوله ويدينون بمذهبه، وأشهر هؤلاء: أفسابيوس النيقوميذي، وماري الخلقيدوني، ومينوفنتيوس، ونومينيوس، وأفذوكسيوس ، وألكسندروس، وأستيريوس القبدوقيون ، وأنطونيوس الطرسوسي،
15
ويضاف إلى هذا كله دستور إيمان نسب إلى لوقيانوس، وبحث في مجمع أنطاكي في السنة 341، والقول في هذا الدستور بالهوموئيسية الآريوسية جلي واضح.
16
والثابت الراهن أيضا أن لوقيانوس استشهد في السنة 312 في نيقوميذية،
17
فغسلت معموديته بالدم سابق ذنوبه، ونقل جثمانه إلى دريبانوم
Drepanum
ودفن فيها،
18
فأصبح ضريحه مزارا للمؤمنين، وأقامت القديسة هيلانة فيما بعد كنيسة فوق هذا المزار،
19
تلقى فيها ابنها قسطنطين الوعظ والإرشاد قبيل اعتماده،
20
ومن هنا أيضا اندفاع الذهبي الفم في تقريظ لوقيانوس في السابع من كانون الثاني سنة 387،
21
وفي تعليقه على الآية السادسة من الفصل التاسع من نبوة أشعيا.
22
لوقيانوس والتوراة
وعني لوقيانوس بالتوراة وشرح نصوصها، وصحح ترجمتها إلى اليونانية،
23
ولكننا نجهل شرحه وليس لدينا من آرائه سوى ما يجوز استنتاجه من تصحيحاته للترجمة اليونانية، وأفضل ما تبقى من هذه التصحيحات ما حفظه لنا كل من يوحنا الذهبي الفم وثيودوريتس في مصنفاتهما المختلفة.
ويستدل مما تبقى من ترجمة لوقيانوس أنه توخى الضبط والإيضاح، فاستبدل بعض الكلمات الغامضة في مدلولها بما اعتبره أدق وأوضح منها، واستعاض عن الضمير في بعض الأحيان بالأسماء التي يشير إليها هذا الضمير، وتلافى بعض النقص في نص القصص بما يتممه،
24
وكان رائده في هذا كله أن يضمن نصا سهل القراءة، واضح المعنى، دقيق التعبير، لا يفسح المجال للتأويل والتفسير، كما كان يجري في الإسكندرية وغيرها من الأوساط الشرقية، التي تأثرت بطريقة أوريجانس في البحث. وعلى الرغم من خروج لوقيانوس على العقيدة الأرثوذكسية الرسولية في بعض أبحاثه اللاهوتية وتوجيهه الآريوسي (إذا صح هذا التعبير)، فإن طريقته في تفسير الأسفار المقدسة ظلت طريقة أنطاكية زمنا طويلا.
25
ولا نعلم شيئا عن تفاصيل عمله في حقلي الترجمة والتفسير، ولا نعرف من عاونه في هذا العمل العظيم، والقول مع سويت العلامة الإنكليزي إن دوروثيوس اشترك في هذا العمل، هو مجرد افتراض ينقصه الدليل.
26
تعاليم لوقيانوس
وجاء في رسالة ألكسندروس الإسكندري إلى ألكسندروس البيزنطي، التي حررت بعد استشهاد لوقيانوس بعشر سنوات فقط؛ أن لوقيانوس خلف بولس السميساطي، وأنه قطع من الشركة، وأن آريوس قال قوله وقول غيره من الخارجين قبل بولس.
27
وقال القديس أبيفانيوس (310-403) الفلسطيني أسقف قسطنطينة في جزيرة قبرص: «إن لوقيانوس وأتباعه أنكروا أن يكون ابن الله قد اتخذ لنفسه روحا، وقالوا إنه اكتفى بالجسد فقط؛ ليتمكنوا من القول إن ابن الله تألم وجاع وعطش وتعب وحزن واضطرب.»
28
وورد هذا القول في عرض الكلام عن آريوس والآريوسيين، وجاء عن أستيريوس تلميذ لوقيانوس أنه عدل تعليم معلمه، فقال إن طبيعة الابن هي صورة مشابهة تماما لطبيعة الآب.
29
وفي هذا كله ربط بين تعاليم لوقيانوس وتعاليم آريوس بعده، وبالتالي فإنه يجوز القول إن لوقيانوس مهد الطريق فيما يظهر، إما عن قصد أو عن غير قصد، للقول بخلق الابن، وأن معمودية الدم التي اعتمد بها في نيقوميذية في السنة 312 غسلت ذنبه هذا ورفعته إلى مصاف القديسين.
30
بمفيلوس البيروتي (250-309)
ولد بمفيلوس
في بيروت وتلقى علومه الأولية فيها، ثم رحل إلى الإسكندرية، ودرس اللاهوت على بيريوس
خلف أوريجانس، الذي كان يدعى أوريجانس الأصغر، فأصبح بمفيلوس من أتباع المعلم العظيم، يقول قوله ويدافع عن رأيه، وعاد إلى وطنه، فاستقر في قيصرية فلسطين حيث علم أوريجانس في أواخر أيامه، وتقبل سر الكهنوت على يد أغابيوس أسقف قيصرية، وأنشأ مدرسة درس فيها اللاهوت ليواصل عمل أوريجانس، ثم أنفق بسخاء فجمع مكتبة خدم بها الفكر المسيحي أجيالا متواصلة. ومما يروى عنه أنه كان يستنسخ الكتب التي لا يمكن شراؤها، فينقلها بخطه في بعض الأحيان، ودرب أفسابيوس المؤرخ على قراءة النصوص وترجمتها ونقدها وجمعها، ولولا عنايته بآثار أوريجانس لضاع معظمها،
31
وألقي القبض عليه في السنة 307، وزج في السجن، ثم استشهد في السادس عشر من شباط سنة 309 أو 310.
دفاعه عن أوريجانس
وراج القول بظاهر النصوص المقدسة في فلسطين، وشايع أساقفتها وكبار رجالها قادة الفكر الأنطاكيين، فهب بمفيلوس للدفاع عن رأي أوريجانس، واغتنم فرصة سجنه فصنف أبولوغيته الشهيرة في خمسة أجزاء، وبعد استشهاده أكمل أفسابيوس تلميذه عمله هذا، فأضاف جزءا سادسا، وقد ضاع هذا المصنف ولم يبق منه سوى الجزء الأول، وذلك بترجمة لاتينية غير موثوق بها تنسب إلى روفينوس
Rufinus ، ويفيدنا فوطيوس العظيم في مجموعته أن بمفيلوس وجه مؤلفه هذا إلى المؤمنين الفلسطينيين الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة في المناجم، وأشهر هؤلاء باترميثيوس
.
32
بمفيلوس والتوراة
وأفيد ما قام به بمفيلوس تسهيل الاطلاع على نصوص التوراة، فإنه نسخ التوراة مرارا وتكرارا ووزعها، فانتشرت في فلسطين وعبرت حدودها إلى غيرها من البلدان المجاورة، ولا تزال بعض النسخ القديمة للعهدين القديم والجديد، تنتسب إلى أمهات أعدها بمفيلوس وتلميذه أفسابيوس.
33
ذيالوغوس أدمنتيوس
ومحاورة أدمنتيوس
Adamantios
للدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية هي في عرف علماء اليوم نتاج أحد أبناء كنيسة أنطاكية قبل السنة 300، وعلى الرغم من عزوها إلى أوريجانس مدة طويلة من الزمن، وورود اسم أوريجانس في بعض نسخها اليونانية، فإن محتوياتها تدل على اطلاع واضعها على بعض مصنفات مثوديوس، كرسالته في القيامة وقوله في حرية الإرادة، وبالتالي فإنه لا يمكن أن تكون قد كتبت قبل مثوديوس (+311). وأدمنتيوس هو اسم المدافع فيها عن العقيدة الأرثوذكسية، أما اسم واضعها فإنه لا يزال مجهولا، وهي موجهة ضد المرقيونيين وغيرهم من هراطقة هذا القرن الذي نحن بصدده،
34
وقد نقلت إلى اللاتينية في أيام روفينوس فسميت أيام روفينوس فسميت
De Recta in Deum Fide .
ذيذاسكالية الرسل
ومن آثار الفكر المسيحي الأنطاكي في هذا القرن الثالث تعاليم الرسل والتلاميذ
Didascalia Apostolorum ، وهي لمؤلف مجهول تحدر من أصل يهودي وسيم أسقفا، فصنف رسالة في تعاليم الرسل على مثال الذيذاخة، وقصد بها إرشاد رعية مستجدة في النصرانية تقطن شمالي سورية، وهو يستعين كثيرا بالأسفار المقدسة والذيذاخة وإيريناوس وإنجيل بطرس الأبوكريفي وأعمال بولس.
وهو يبحث في فصوله الأولى في الحياة الزوجية، ثم كيفية انتقاء الأساقفة والكهنة والشمامسة، ويبحث بعد ذلك في حقوق الأساقفة وواجباتهم، فيوصي باللين في معالجة التائبين وبالعطف على الفقراء والمساكين، ويحذر المؤمنين من الإخوة الكذبة، ويحضهم على عدم الالتفات لشهادة الوثنيين على المؤمنين. وبعد أن يصف كيفية الاحتفال بالصلاة المشتركة ووجوب الاتجاه نحو الشرق في أثناء القيام بها، يشدد على الاشتراك في هذه الصلاة، وعدم التلهي عنها بمزاولة الأعمال اليومية أو بزيارة الملاهي، وهو يحض الأساقفة على الاهتمام بالمضطهدين والمسجونين لأجل المسيح، ويؤكد على جميع المؤمنين وجوب الترفيه عن «المعترفين» بتقديم الأموال اللازمة، ويشير إلى الرجاء الأكيد بقيامة الموتى، فيوجب عدم التهرب من الاستشهاد، ويحث المؤمنين بعد هذا على صوم الأربعاء والجمعة، وصوم أسبوع الآلام ابتداء من صباح الإثنين حتى «الليل بعد السبت».
ولا يبحث صاحب الذيذاسكالية في العقيدة، ولكنه يكره اليهود ويخشى الغنوسيين، ويحذر المؤمنين من شر الاثنين، فيقول مثلا إن الله ترك كنيس اليهود وجاء كنيسة النصارى، ولكن الشيطان أيضا فعل الأمر نفسه.
وقد ضاع أصل الذيذاسكالية اليوناني ولم يبق منه سوى شذرات يسيرة، ولكن بقاء نص قانون الرسل كاملا يمكننا من ترميم ما تبقى من الذيذاسكالية، ولا يخفى أن الكتب الستة الأولى من قانون الرسل مأخوذة عن الذيذاسكالية.
ونقلت الذيذاسكالية من اليونانية إلى السريانية في عصر قريب من عصر مؤلفها، وبقيت عن ترجمتها السريانية نسخ نشرت في أوروبة في النصف الثاني من القرن الماضي، وهنالك ترجمة لاتينية قديمة تشمل ثلاثة أثمان الذيذاسكالية، وتعود إلى القرن الرابع بعد الميلاد، وقد تولى نشر هذه الترجمة هولر في السنة 1900، ونص الذيذاسكالية العربية والحبشية مأخوذ عن النص السرياني.
35
الفصل الثالث عشر
المقاومة الوثنية
في القرن الثالث
واغتبط الوثنيون بما حل بالنصارى في القرن الثالث من قهر وإيذاء وتعذيب وتشتيت، وأيدوا الحكومة الرومانية بما أوتوا من مقدرة ونشاط، وهب رجال الفكر بينهم إلى التفنيد والتكذيب، وأعلن لوقيانوس وكلسوس وغيرهما الحرب على الكنيسة.
ثم هدأت الأحوال بعض الشيء في عهد الأباطرة السوريين كما سبق وأشرنا، وجرت محاولة لتوحيد الآراء الدينية بالاعتراف بجميع الآلهة اعترافا رسميا، ولكن المسيحيين لم يقبلوا بشيء من هذا؛ لأن إلههم إله واحد لا إله إلا هو.
1
أبولونيوس التياني
وكانت الفوضى والحروب والأوبئة قد أدت إلى نزعات جديدة في الفكر الوثني، فدفعت بعض الرجال إلى الابتعاد عن هذا العالم الفاني، والتأمل في عالم أزلي ملؤه الخير والجمال، فعكف عدد من رجال الفلسفة على فيثاغورس زاهدين ورعين مستوحين قائلين بالسحر والعرافة، جاعلين من بعض حلقاتهم انتداءات سحرية، فظهرت فيثاغورية جديدة.
وكان أبولونيوس قد اشتهر في القرن الأول بفيثاغوريته وسحره، فزادت شهرته في القرن الثالث وأصبح صانع عجائب ونصف إله، وسمح كل من كركلا وسويروس ألكسندروس وأوريليانوس بإحياء ذكره بطقوس خصوصية، وأحبت يولية دومنة الإمبراطورة الحمصية أن تتقرب من مريدي هذا الفيلسوف الساحر ومن أتباعه، فطلبت إلى فيلوستراتوس أن يكتب حياة أبولونيوس ففعل،
2
وجاء أبولونيوس في كتاب فيلوستراتوس فيثاغوريا مثاليا مرتديا الكتان، لا يشرب إلا الماء، ولا يأكل إلا من ثمار الأرض، ولا يرضى عن الذبائح، ولا يتعبد إلا للإله الشمس مكتفيا بحرق البخور، وهو يخبر بما يكون في المستقبل ويطرد الشياطين، ويجوب الأرض في طلب الحكمة، فيضرب فيها حتى بابل والهند والحبشة.
3
ويقول أفسابيوس المؤرخ إن هيروكليس
Hiéroclés
حاول أن يجعل من أبولونيوس مناظرا للسيد المخلص،
4
ولكنه خاطر في رهانه، فنفر بعمله هذا جمهور الوثنيين وأبعدهم عن بطله.
نومانيوس
وعلم نومانيوس
Numenius
في أبامية بين حماة والمعرة في النصف الثاني من القرن الثاني، فنقل عن فيثاغورس وأفلاطون، وشرح ما جاء عن النفس في الجمهورية، واطلع على حكمة اليهود وتعاليم المسيح فأولها، ورأى في أفلاطون موسى، فدعاه موسى اليوناني واعتبره نبيا.
5
وقال نومانيوس بانقسام الوجود إلى مملكتين: مملكة العناية، ومملكة المادة، وقال إن المادة هي أصل الشرور والمفاسد وإنه ليس يليق أن نعزو صنع العالم إلى الإله الأعلى، وأن الابن هو الصانع الذي نظم الكتلة المادية، وهو يتأمل النموذج تارة ويتحول عنه طورا ليحرك الفلك فيصير حينئذ النفس الكلية.
6
وأول نومانيوس النبوات اليهودية، وبحث بالطريقة نفسها في بعض نواح من حياة السيد المخلص، ولكنه لم يذكر اسمه، ولم يفت هذا نظر أوريجانس العظيم فأبانه في أحد مؤلفاته.
7
ويرى رجال الاختصاص أن أفلوطين اعتمد على نومانيوس في أفلاطونيته الجديدة.
الأفلاطونية الجديدة
ووجد آخرون في الطيماوس
Timaeus
لأفلاطون قوتا قامت به أنفسهم فانتعشت، فأكدوا قوله بالواحد الأوحد، وقالوا بالثنائية الأفلاطونية، ففرقوا بين النفس والجسد، وجعلوا من أسطورة أفلاطون في الحياة بعد الموت عقيدة، وتقبلوا نظريته في الوسطاء بين الله والبشر
Daimones ، وأكدوا أن رائد الإنسان إنما هو أن يصير مشابها لله، فظهرت في مصر وسورية أفلاطونية جديدة كان لها شأن كبير في عالم الفكر حتى أواخر القرن الخامس.
8
أفلوطين (204-270)
وأشهر المؤسسين في هذا الحقل أفلوطين
، ولد في مصر في ليقوبولس في السنة 204 بعد الميلاد، وبدأ دروسه الفلسفية في سن متقدمة في الثامنة والعشرين في مدينة الإسكندرية، ولكن ما لقيه في هذه الدروس خيب أمله، واعترف بذلك إلى أحد أصدقائه، فقدمه هذا فورا إلى أمونيوس سكاس
Ammonius Saccas
فعادت رغبته إليه، وبعد أن قضى إحدى عشرة سنة في معية هذا المعلم، علم أن الإمبراطور غورديانوس فتح أبواب هيكل يانوس في رومة؛ ليعلن الحرب على ساسان، فصمم الفيلسوف الطالب على الالتحاق بهذه الحملة العسكرية ليسمع عن حكمة الفرس والهنود، والتحق بجيش غورديانوس ووصل معه إلى الفرات، ثم تمرد الجند واغتالوا الإمبراطور عند الصالحية، فعاد أفلوطين إلى أنطاكية (244)، وزار أبامية ليطلع عن كثب على فلسفة نومانيوس، ثم توجه من أنطاكية إلى رومة وبدأ يعلم فيها، وتميز بسمو أخلاقه ونفاذ بصيرته، فصادف نجاحا وأقبل على الأخذ عنه عدد من أفراد الأسر العالية.
9
أفلوطين والنصرانية
وكثر عدد طلاب أفلوطين وتنوعوا، وعارضه بعضهم فاتهمه بانتحال نومانيوس، فرد أميليوس
Amelius
برسالة بين فيها الفرق بين عقيدة أفلوطين وعقيدة نومانيوس،
10
وجرؤ آخرون من طلابه الغنوسيين المسيحيين على أفلاطون نفسه، فقالوا إنه لم يستبطن كنه الماهية المعقولة
Essence Intelligible ، فثارت ثائرة أستاذهم ورد عليهم في السنة 264 برسالة هامة سجل فيها موقفه من هؤلاء النصارى، فانتقدهم في رأيهم في العالم وفي الإنسان والخلاص،
11
واتهمهم باستنباط أشياء لا تمت بصلة إلى الثقافة اليونانية القديمة، فقد جاء في الفصل الثامن من هذه الرسالة: «بأن التساؤل عن سبب وجود العالم يعني التساؤل عن سبب وجود النفس، وعن سبب إنتاج الإله الخالق الذميورغوس
Demiourgos ، وهذا التساؤل يعني بدوره الاعتراف ببداية الذي كان دائما موجودا، وهذا الاعتراف يعني بالتالي أن هذا الذي كان دائما موجودا قد أصبح سبب وجود نتاجه بعد أن تغير هو نفسه وتطور، أي إنه قد لحقه التغير والتحول، وهو ممتنع.»
ومما قاله أفلوطين في رسالته هذه أن هؤلاء النصارى يعتبرون أنفسهم موضوع عناية خاصة، وينسون أن هذه العناية كلية جامعة تشمل جميع الكائنات، وتسهر على الكل لا البعض فقط، والدليل على ذلك هو الوجود نفسه المرفق بالحكمة.
وأخذ أفلوطين على هؤلاء النصارى أيضا أنه لم يكن لديهم رأي واضح في الفضيلة، وأنهم تجاهلوا آراء القدماء في هذا الموضوع، فأهملوا النظر في كيفية اكتساب الفضيلة وكيفية إبراء النفوس وتطهيرها.
12
بورفيريوس (233-305)
وأظهر تلاميذ أفلوطين بورفيريوس
الحوراني، ولد في البثنية من أعمال حوران وتعلم في صور، ثم درس البيان والفلسفة على لونجينوس في أثينة، فأعجب لونجينوس بشغفه بالعلم ومواهبه النادرة، وكان يدعى مالكا، فأطلق عليه لونجينوس اسم «الأرجواني» بورفيريوس، ولا نعلم ما إذا كان ولد مسيحيا كما يصرح سقراط المؤرخ،
13
ولكننا نرجح أنه عرف أوريجانس العظيم، وعلم أشياء وأشياء عن النصرانية التي كانت قد شاعت آنئذ في طول الساحل اللبناني وعرضه.
14
ويرى بعض العلماء الباحثين أنه بالإضافة إلى لغته الأم تكلم العبرية، وعرف جيدا طقوس الكلدانيين والفرس والمصريين، ولعله أجاد فهم الأدب اليهودي غير المقدس والفينيقي.
15
ويستبعد أن يكون بورفيريوس قد تذوق رسالة السيد المخلص في هذا الدور من حياته، أو أن يكون قد قدر عظمة التوراة حق قدرها،
16
فإنه في السنة 249 عندما بدأ داقيوس اضطهاده الشهير، اتخذ موقف المدافع عن الإمبراطورية وآلهتها وصنف رسالته في العرافة والعرافين، وطرد قوساته
Causatha
من الحمام؛ لأنه اعتبره شيطانا رجيما.
17
ولما بلغ بورفيريوس الثلاثين من عمره (263)، رحل إلى رومة وأصغى إلى أفلوطين، فقال بفلسفته وأحب كثيرا أن يغني ذاته في الوحدة الإلهية ويتحد بالواحد، كما تسنى لمعلمه ولأفلاطون من قبله، واشتدت رغبته هذه حتى أنزفت قواه العصبية ففكر بالانتحار، ولكن أفلوطين ردعه عن ذلك مبينا سخف هذا العمل، وأشار عليه بالتجول،
18
فرحل بورفيريوس في السنة 268 إلى صقلية وأقام في ليليبة، ولم ير أستاذه بعد ذلك.
وكان ما كان من أمر زينب التدمرية وحاجتها لفصاحة لونجينوس، وانقض القوط على ساحل إيجه وجزره، ففر لونجينوس ملبيا دعوة زينب وأقام معها، وعلم لونجينوس بما حل ببورفيريوس، فكتب إليه أن يبرح صقلية، ويعود إلى بلده الأم (270) ويحمل إليه بعض المصنفات. ولكن بورفيريوس آثر البقاء في صقلية، فاستدرك بذلك خطر الموت الذي حل بلونجينوس في حمص في السنة 272 على يد أوريليانوس.
وكان أفلوطين المعلم يمقت البيان، ويستثقل العناية بالجمل والألفاظ، وأدرك الحاجة إلى إعادة النظر فيما كتب، فوكل ذلك إلى تلميذه بورفيريوس، فقبل التلميذ ولكنه لم ينفذ شيئا منها إلا بعد وفاة معلمه، فدون في صقلية حياة أستاذه، وجمع محاضراته في مجلدات ستة عرفت بالأقسام
Ennead (التاسوعات) وشرحها،
19
وكتب إليه تلميذه خريساريوس
Chrisarios
عضو مجلس الشيوخ الروماني، أن يعينه على فهم كاتيغوريات
Kategoria (مقولات) أرسطو، فصنف له بورفيريوس كتاب الإيساغوجي
Eisagoge (المدخل)، وكسب بهذا السفر شهرة واسعة خالدة.
20
بورفيريوس والنصرانية
وعاد أوريليانوس من الشرق إلى رومة منتصرا، وأحب أن يعمم عبادة الشمس، فيجعلها دين الإمبراطورية الأوحد، فأنشأ في السنة 274 هيكل الإله الشمس على الكورينال، وبدأ يدعو لدين الشمس في أوساط العاصمة وفي الولايات، وعلم بورفيريوس بذلك فهب يهاجم النصارى والنصرانية، وصنف رسائله الخمس عشرة الشهيرة، وأمر الأباطرة المسيحيون في القرنين الرابع والخامس بمصادرة هذه الرسائل وإبطالها، فضاع نصها الكامل ولم يبق منها سوى شذرات مبعثرة في متون الردود التي صنفت ضدها، ثم ضاعت هذه الردود بدورها، فلم يسلم منها سوى رد مكاريوس.
21
ويرى رجال الاختصاص أن هذه الرسائل خالية من أي تفكير فلسفي عميق، وهي في نظرهم أقرب إلى الجدل الفيلولوجي التاريخي منها إلى البحث الفلسفي، فإننا نرى بورفيريوس يسخر من قصة آلام السيد، ويتطلب مثل الفريسيين من قبله عجائب عظمى، وهو يهزأ أيضا من «تناقض» الأناجيل الأربعة، ويلجأ في غالب الأحيان إلى اللجاجة والمماحكة، مبتعدا عن اتخاذ موقف حاسم واضح.
22
يمبليخوس العيطوري
وقام في النصف الثاني من القرن الثالث في خلقيس (مجدل عنجر) يمبليخوس العيطوري يدعو إلى الأفلاطونية الجديدة ويدافع عنها، ويعطي الناحية الدينية في الأفلاطونية الجديدة المقام الأول.
23
وهو تلميذ بورفيريوس أخذ عنه في روما، ودرس الرياضيات على أناتوليوس، وعاد إلى وطنه الأصلي يعلم في أبامية وفي مجدل عنجر، فقال بصدور الموجودات بعضها عن بعض، ورأى أن أفلوطين حين سمى الواحد الأوحد خيرا بالذات قيده بصفة، فوضع فوقه واحدا غير معين ووضع بعده العالم المعقول، فأصبح لديه «حدود» ثلاثة؛ وجعل العالم المعقول ثلاثة حدود أيضا: العقل، والصانع، وبينهما القدرة الإلهية؛ وجعل للعالم الاستدلالي ثلاثة حدود أخرى: الآب، والقوة، والفهم.
الفصل الرابع عشر
روابط الكنيسة ونظمها في القرن الثالث
الأخوة والمحبة
وواظب المسيحيون في هذا القرن على محبة المسيح، وأحب بعضهم بعضا؛ لأنهم أحبوا المسيح ولأن المسيح أحبهم، وبقيت الكنيسة أخوية يتساهم أعضاؤها الوفاء ويتقاسمون الصفاء؛ لأن قلوبهم اجتمعت على محبة السيد المخلص، واتفقت على ولائه، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا كل طماع رغيب، خلا قلبه من نعمة الله ومحبة ابنه الحبيب.
كنيسة واحدة جامعة
وقضت العناية أن يكون المسيحيون واحدا، فذكروا الآية: «لست أنا بعد في العالم، وأما هم فإنهم في العالم وأنا أمضي إليك، أيها الآب القدوس احفظهم باسمك، الذين أعطيتني ليكونوا واحدا مثلما نحن «واحد».» نقول: ذكروا هذه الآية فحفظوها وعملوا بها كأنهم جسم واحد، فكانوا حيثما يحلون ينتظمون كنيسة واحدة لا «كنيسات» متعددة مستقلة كما فعل اليهود من قبل، ولا «كليات» منفردة قائمة بذاتها كما جرت عادة الوثنيين.
1
وعلى الرغم من المسافات الطويلة، التي كانت تفصل الكنائس بعضها عن بعض، واللغات المتباينة التي كانت تعرقل سبل التفاهم، فإن المؤمنين ظلوا متماسكين معتبرين أنفسهم أعضاء جسم واحد، مستهدفين خيرا واحدا هو ملكوت الله، وظلت الرسائل
Litterae Formatae
واسطتهم العادية للمفاوضة وتبادل الرأي كما كانت في القرنين الأولين.
2
وجاءت بدع القرن الثالث، واشتد الاضطهاد، فلجأ الأساقفة إلى التفاوض مجتمعين لتوحيد الرأي ودرء الأخطار الداهمة، والإشارة هنا إلى سنودوسات إيطالية التي التأمت برئاسة أسقف رومة، ومجامع أفريقية برئاسة أسقف قرطاجة، ومجامع أنطاكية برئاسة أسقف أنطاكية، أو أقدم الأساقفة سيامة كأسقف طرسوس.
3
الهيرارخية
والهيرارخية
Herarchia
لفظ يوناني معناه في الأصل سلطة الكاهن أو حكمه، ويرى رجال الاختصاص أن بعض الكنائس في بعض البلدان كانت منذ القرن الأول قد بدأت تخضع للكنيسة الأم التي أسستها، ولما كانت هذه الكنائس المؤسسة في غالب الأحيان كنائس مراكز الحكم في الولايات، تزعم أساقفتها السلطة في القرن الثالث على جميع أساقفة الولاية التي انتموا إليها، ومما يجدر ذكره لهذه المناسبة أن مراكز الحكم في الولايات كانت تتمتع في غالب الأحيان برتبة متروبوليس
Metropolis «المدينة الأم»، وأن الولاية التابعة كانت تدعى «أبرشية»
Eparchia ، فأصبح أسقف المتروبوليس متروبوليت الأبرشية. ومما يذهب إليه رجال البحث في هذا الموضوع أن أبرشيات الشرق سبقت غيرها من الأبرشيات إلى هذا النظام، وأن متروبوليت الأبرشية تمتع منذ القرن الثالث بصلاحية سيامة الأساقفة في أبرشيته، أو بحق تثبيتهم بعد الانتخاب. ومما يقره رجال الاختصاص أيضا أن ظروف التبشير والإدارة والمواصلات قضت بتكتل أوسع وأكبر، ففرض أسقف قرطاجة سلطته في القرن الثالث على جميع أفريقية الشمالية، وعلى إسبانية في بعض الأحيان، وخضعت مصر وليبية لسلطة أسقف الإسكندرية، كما اعترفت إيطالية بأسرها بسلطة أسقف رومة، والشرق بسلطة أسقف أنطاكية.
4
هيرارخية أنطاكية
وكانت أنطاكية ثالثة مدن الإمبراطورية، وقاعدة الأباطرة في الشرق، وكانت قد أصبحت عاصمة النصرانية بعد خراب أوروشليم وتضعضع أم الكنائس، فكان من الطبيعي أن يصبح أسقفها خليفة بطرس وبولس ذا هيبة ووقار وسطوة واقتدار. وقد مر بنا أن أغناطيوس «حامل الإله» اعتبر نفسه منذ نهاية القرن الأول أسقف سورية،
5
كما اعتبر كنيسة أنطاكية كنيسة سورية بأسرها،
6
وأن سيرابيون (191-212) الأسقف التاسع بعد بطرس وبولس كتب إلى الإكليريكيين بونطيوس
وكريكوس
Caricus
البونطيين بشأن هرطقة مونطانوس
Montanos ،
7
وأنه تدخل أيضا تدخلا فعليا في شئون كنيسة أرسوز ليمنع مطالعة إنجيل بطرس.
8
وفي التقليد السرياني روايات عديدة تدل على اتساع نفوذ الكرسي الأنطاكي وسلطته في ما بين النهرين وما وراءهما في هذه القرون الأولى، ولا سيما في أمر سيامة الأساقفة، ولكن هذه الروايات جاءت متأخرة مشحونة بالأغلاط التاريخية، فضاعت فائدتها وتعذر على المؤرخ المدقق أن يأخذ بها، ومن هنا ضلال العلامة اللبناني السمعاني وغيره.
9
ويأخذ فابيوس أسقف أنطاكية في منتصف القرن الثالث برأي فالنتنيانوس كما سبق وأشرنا، فيهرع أساقفة الكرسي الأنطاكي إلى إنقاذه من الضلال، ويلتئم مجمع أنطاكي في أنطاكية نفسها، فيهتم أفسابيوس المؤرخ لهذا الحدث، ويدون أسماء أعضاء هذا المجمع،
10
فيبين لنا بعمله هذا مدى سلطة السدة الأنطاكية، ويتضح من نص أفسابيوس أن هيرارخية أنطاكية شملت في منتصف القرن الثالث: سورية، ولبنان، وفلسطين، والعربية، وقيليقية، والقسم الشرقي من آسية الصغرى حتى البحر الأسود، بما في ذلك قبدوقية وغلاطية وما جاورهما.
11
تقدم رومة في الكرامة
ويتفق المؤرخون الباحثون في هذه الحقبة من تاريخ الكنيسة على تقدم أسقف رومة في الكرامة والاحترام، فهو أسقف عاصمة الدولة الرومانية وممثل الكنيسة الجامعة أمام السلطة المدنية العليا، يدافع عن حقوق هذه الكنيسة الجامعة، ويتحمل مسئولية أقوال المسيحيين وأفعالهم في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وهو يتمتع في الوقت نفسه بتسلسل بركة رسولية لا غش فيها ولا جدال حولها،
12
ويحمل في شخصه ومن حوله أمانة العقيدة الطاهرة المقدسة، يؤم مقامه كبار علماء الكنيسة أمثال إيريناوس وترتوليانوس وأوريجانس، ويراسله غيرهم أمثال ديونيسيوس الإسكندري للمشاورة والاستيضاح.
13
وأحس بعض أساقفة رومة في هذه الحقبة من تاريخ الكنيسة بواجب رعائي تجاه الكنيسة الجامعة، فحاول فيكتوريوس (189-199) أن يفرض رأي رومة في كيفية ممارسة عيد الفصح على أساقفة آسية الصغرى، وهب بعده إسطفانوس (254-257) يوجب الاعتراف بمعمودية التائبين العائدين إلى حضن الكنيسة، والاكتفاء بفرض الندامة والتوبة مهددا أساقفة أفريقية وآسية الصغرى وأنطاكية بالقطع إن هم خالفوا العرف والتقليد الرومانيين، فاحتج بوليكراتس أسقف أزمير على تدخل فيكتوريوس، واستند في احتجاجه هذا إلى العرف الرسولي المتوارث في آسية الصغرى عن يوحنا الحبيب، وأيده في احتجاجه مجمع محلي ضم خمسين أسقفا؛
14
ثم احتج أيضا كل من القديس كبريانوس أسقف قرطاجة والقديس فرميليانوس أسقف قيصرية التابعة لكنيسة أنطاكية، على تدخل إسطفانوس في أمورهما، وقالا بتساوي الرسل
15
وتساوي الأساقفة، مؤكدين أن وحدة الكنيسة إنما تتم بتفاهم الأساقفة وتآلفهم وتعاونهم.
16
ورأى كبريانوس في العبارة «أنت صخر» رمزا بالرقم واحد لوحدة الكنيسة،
17
أما العبارة
«الأولية تعطى لبطرس»، والعبارة «الذي يهجر كرسي بطرس الذي عليه أسست الكنيسة، هل يثق أنه في الكنيسة؟»
Qui cathedram Petri Super quam fundata Ecclesia est, deserit, in Ecclesia se esse confidit?
والواردة في رسالة كبريانوس عن وحدة الكنيسة، فإنها موجودة في بعض النسخ الخطية وساقطة من غيرها؛
18
وهنا يختلف العلماء الباحثون، فإن بعضهم يرى أن هذه العبارات مدسوسة دسا لتأييد سلطة رومة،
19
والبعض الآخر يرى أن نصوص هذه العبارات تتفق وطريقة كبريانوس في التعبير، وأن كبريانوس نفسه ربما أدخلها على النص الأصلي في ظرف متأخر.
20
ولا ينحصر القول بالدس في الأوساط العلمية غير الكاثوليكية، فإن كلا من أرهارد وتكسيرون يشكان في صحة هذه العبارات موضوع البحث.
21
أما الآية «أنت صخر» فإنها في نظر علماء الكنيسة الكاثوليكية مصدر سلطة رومة، فالسيد المخلص وهب بطرس بموجب هذه الآية زعامة رسولية بنى عليها الكنيسة، ثم مكنه من تأسيس كنيسة رومة وأذن باستشهاده؛ فأصبح خلفه في أسقفية رومة وريثه.
22
وآباؤنا وعلماؤنا رأوا، ولا يزالون، في الصخرة التي تبنى عليها الكنيسة صخرة الإيمان، صخرة القول مع بطرس «أنت المسيح ابن الإله الحي» (متى، 16: 16)، ورأوا في القول «أنت صخر» تثبيتا لبطرس في إيمانه، وقال آباؤنا بتساوي الرسل الأطهار في النعمة وفي الحل والربط، ووجدوا في اختلاف بطرس وبولس في أنطاكية واحتكامهما أمام مجمع الرسل في أوروشليم برئاسة يعقوب «أخي الرب»، دليلا واضحا على هذا التساوي؛ فبطرس لم يعترض على الاحتكام، بل امتثل لقرار المجمع، فأين الزعامة! وينهج آباؤنا في وحدة الكنيسة نهج القديس كبريانوس في رسالته «وحدة الكنيسة»، ولا سيما في الفصلين الرابع والخامس، فيرون أن هذه الوحدة تتجلى بتفاهم الأساقفة وتعاونهم، وأن الكلمة التي وجهها السيد إلى بطرس إنما ترمز إلى وحدة الأساس الذي ترتكز إليه الكنيسة.
أنطاكية ورومة
ويرى العلامة الأب غوستاف بردي أن موافقة رومة على قرار المجمع الأنطاكي الثالث القاضي بخلع بولس السميساطي كانت ضرورية؛ ليصبح هذا القرار نافذ المفعول،
23
ويستند في رأيه هذا إلى الرسائل التي تبودلت في السنة 339 بين يوليوس أسقف رومة وبين الأساقفة اليوسيبيين المجتمعين في أنطاكية آنئذ،
24
وإلى قول يوليوس فيها إن القانون الكنسي يقضي بإعلام الجميع بما يتم.
ويلاحظ أن النصوص الأولية التي تحفظ أخبار المجمعين الأنطاكيين خالية من أية إشارة إلى ضرورة موافقة رومة على قرارات هذين المجمعين، وأن الرسائل التي تبودلت بين يوليوس أسقف رومة وبين الأساقفة اليوسيبيين تعود إلى السنة 339؛ أي إلى ما بعد المجمع الأنطاكي الثالث بإحدى وسبعين سنة، وأن جل ما يقوله يوليوس هو إعلام «الجميع»
25
بالقرار المتخذ سنة 339. ومما تجب ملاحظته أن الأب بردي يعترف بضياع القانون الكنسي، الذي أشار إليه يوليوس أسقف رومة، وأنه لا يجوز اتخاذ مرجع ضائع حجة ودليلا، ونحن نلفت نظر الأب بردي إلى أن الكنائس الشرقية لا تزال حتى يومنا هذا توجه رسائل «سلامية» تنبئ بها جميع رؤساء الكنائس الشقيقة بالقرارات الهامة، التي تتخذ لمناسبة خلع رئيس أو ارتقاء غيره.
الأساقفة
وتميز الأسقف في هذا القرن على نظرائه في القرنين الأول والثاني، فأصبح على حد تعبير القديس كبريانوس هو الكنيسة
Ecclesia in Episcopo ،
26
وظل الشعب ينتخبه انتخابا، ويرفعه إلى أسقف عامل في حقل الرب لينال منه الرسامة، ثم تبدلت شروط هذه الرسامة، فأصبح عدد الأساقفة الراسمين ثلاثة، وغدا تثبيت متروبوليت الأبرشية لازما ضروريا، وتمتع الأسقف بعد هذه التولية المزدوجة البشرية والإلهية بصلاحيات واسعة، فأصبح هو الراعي المطاع يدبر أمور الرعية كما يشاء، ويقدم لقاء هذه الطاعة محبة وغيرة وإخلاصا.
27
الكهنة
وقضت ظروف الاضطهاد في القرن الثالث بتوسيع صلاحيات الكهنة، فاختباء بعض الأساقفة واستشهاد البعض الآخر، وتشتت الرعية وعدم تمكنها من انتخاب أساقفة جدد، أدى بطبيعة الحال إلى توسيع صلاحيات الكهنة والسماح لهم بممارسة سر الأفخارستية. ولا يخفى أن أعمالهم كانت تنحصر قبل ذلك بتعليم المؤمنين وإعداد الموعوظين لتقبل سر المعمودية، وإرشاد التائبين إلى سبل التكفير عن خطاياهم؛ وكانوا لا يمارسون سر الأفخارستية إلا بحضور الأسقف الراعي،
28
وأدى ازدياد عدد النصارى في أمهات المدن في هذا القرن إلى تقسيم الأبرشية إلى خورنيات
، وإقامة كاهن على كل منها يدبر شئونها ويقوم بواجبات الرعاية.
29
الخور أسقف
Chorepiscopos
وقضت هذه الظروف عينها بزيادة عدد الأساقفة، فازداد عددهم في هذا القرن ازديادا عظيما، ولا سيما في إيطالية وشمالي أفريقية وسورية وآسية الصغرى، واختلفت الكنائس في صلاحيات هؤلاء الأساقفة الجدد، فلم تفرق رومة بينهم وبين الأساقفة القدماء، أما كنيسة أنطاكية وكنائس آسية الصغرى، فإنها ألحقت هؤلاء الأساقفة بأساقفة المراكز القديمة، وجعلتهم دونهم أهمية ونفوذا، ومنحتهم لقب خور أسقف. وخوره
Chora
لفظ يوناني معناه منطقة تجمع القرى، والكورة العربية هي في الأرجح تحريف خوره اليونانية،
30
وأقدم خور أسقف ورد ذكره في تاريخ الكنيسة هو زوتيكوس خور أسقف كومانة في فريجية،
31
ولم يلق هذا الترتيب ترحيبا في الغرب، فأمسى استعمال هذا اللقب في كنائس الغرب أمرا نادرا شاذا.
32
الشمامسة
وواظب الشمامسة في هذه الحقبة من تاريخ الكنيسة على القيام بالخدمات نفسها التي مارسوها في القرنين الأولين، فعاونوا الأسقف في الصلوات والخدمات الروحية، وأشرفوا على توزيع الصدقات بين المؤمنين الفقراء، كما قاموا ببعض أعمال إدارية داخل الكنيسة وخارجها، وآثر الآباء في هذه الحقبة تأثر الرسل في عدد الشمامسة، فجعلوا هذا العدد سبعة وأبقوه، كما كان في أيام الرسل في أم الكنائس، وكان المقدم بين الشمامسة السبعة يدعى أرشدياكون، وكان الأرشدياكون في معظم الكنائس الكبيرة الشخصية الثانية بعد الأسقف، يخلفه في غالب الأحيان بعد وفاته.
الأناغنوستس
ويستدل مما تبقى من مصنفات القديس يوستينوس
33
أن الكنائس الكبيرة كانت منذ عهده (100-164) قد بدأت توكل قراءة الأسفار المقدسة في الخدمات الروحية إلى أشخاص معينين أطلقت عليهم لقب أناغنوستس
Anagnostes ، وظل الأناغنوستس طوال القرن الثالث رجلا مرموقا في الخدمات الروحية،
34
ولا تزال هذه الرتبة محفوظة حتى يومنا هذا في جميع الكنائس اليونانية.
الأبوذياكون
واتسع عمل الشمامسة في هذا القرن نفسه، وحافظ الآباء على التقليد الرسولي، وأبقوا عدد الشمامسة سبعة، فاضطروا أن يرسموا معاوني شمامسة أطلقوا عليهم لقب أبوذياكون.
35
الإكزورخيس
وجاء بعد الأبوذياكون الإكزورخيس
Exorkistes ، وكانت واجباته في هذا القرن تقضي بطرد الشياطين والأرواح النجسة.
36
الكاتيخيستس
وعني بإرشاد الموعوظين في الكنائس الكبرى في هذا القرن موظف خصوصي أطلق عليه لقب كاتيخيستس
Catechistes ، وهو ال
Doctor Audientium
في كنيسة رومة.
37
الإكليروس والشعب
وأجاز بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (9: 13 و14 ) أن يأكل الذين يتولون الأعمال الكهنوتية من الهيكل، وأن يقاسم المذبح الذين يلازمونه، فحض الآباء المؤمنين على التقدمة مما يملكون،
38
وقدر للكنيسة في القرنين الثاني والثالث أن يكون لها أوقاف تدر عليها دخلا ثابتا، فكان للإكليروس شيء من المال يتعيشون به، ولكن لا هذا ولا ذاك كان كافيا، فامتثل بعض رجال الإكليروس أمر بولس واحتذوه، فتعاطوا الأعمال المدنية لاكتساب الرزق، ولم يقنع بعضهم باليسير، ولم يتكرموا عن المكاسب الشائنة، فأثاروا غضب زملائهم القديسين الأطهار أمثال كبريانوس
39
وأعضاء المجمعين الأنطاكيين الثاني والثالث كما سبق وأشرنا.
وقضت رسائل الرسل بأن يتميز الإكليركي عن سائر أفراد الشعب بالصلاح والتقوى، وأوجب بولس في رسائله إلى تيموثاوس وتيطس أن يكون الأسقف غير متزوج «أكثر من مرة واحدة»، فلم تفرض العزوبة على الإكليروس في القرون الثلاثة الأولى، ولكن التبتل فضل على الزواج منذ عهد الرسل؛ فآثر الآباء في هذه القرون الأولى انتقاء رجال الإكليروس من صفوف العذاب إذا تساوت سائر الصفات بينهم وبين المتزوجين، وامتنع الآباء في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة عن قبول الحديثين في نعمة الإيمان
Neophyte ، والذين تعمدوا معمودية المرضى، والتائبين بعد الإجحاد، والذين شوهوا أنفسهم من غير إكراه؛ في صفوف الإكليروس.
40
الفصل الخامس عشر
الاضطهاد العظيم
303-312
مقدمات الاضطهاد
وقتل الإمبراطور أوريليانوس في حملة قام بها على الساسان في السنة 275، فانتخب مجلس الشيوخ تسيتوس إمبراطورا بإيعاز من الجند، وتوفي هذا بعد ثلاثة أشهر في أثناء حملة شنها على قبيلة الألاني في آسية الصغرى، ولم يفلح أخوه في تسنم الحكم بعده لانكساره أمام بروبوس (276-282)، ورد بروبوس الإمبراطور هجمات الإفرنج والبورغنديين والألمان والفندال، وشغل الجنود بتجفيف المستنقعات وإنشاء الترع وبناء الطرق، فثاروا عليه وقتلوه، فتولى الحكم بعده قائد الحرس كاروس (282-283)، ولكن صاعقة أصابته فيما يظهر بعد أن احتل طيسفون عاصمة ساسان، فخلفه ابنه نومريانوس (284)، ولكنه قتل بمؤامرة دبرها كارينوس والد زوجته، ولم يفلح كارينوس في استلام أزمة الحكم؛ لأن الجند نادوا بديوقليتيانوس (284-305).
وأراد ديوقليتيانوس أن يجعل جلوس الإمبراطور أمرا مدنيا لا علاقة له بالجيش، فجعل للدولة الرومانية إمبراطورين، وجعل لكل منهما قيصرا يعاونه في الحكم، ويحل محله عند الوفاة أو اعتزال الوظيفة، وطبق هذا النظام الجديد، فجعل مكسيميانوس
Maximianus
إمبراطورا يشاطره الحكم، وحكم هو الشرق متخذا نيقوميذية قاعدة له، وحكم مكسيميانوس الغرب وجعل قاعدته ميلان، وفي آذار السنة 293 نصب الإمبراطوران قسطنديوس كلوروس
Constantius Chlorus
أبا قسطنطين قيصرا يعاون مكسيميانوس في الغرب، وجعل من غلاريوس
Galerius
قيصرا آخر يعاون ديوقليتيانوس في الشرق، فساس غلاريوس البلقان وجزيرة كريت، وتولى ديوقليتيانوس بنفسه إدارة شئون الشرق من ليبية حتى الفرات وآسية الصغرى.
1
وزار ديوقليتيانوس فلسطين في السنة 286 وأقام عدة أشهر في طبرية، وفي السنة 288 قام إلى الفرات يهدد بهرام الثاني شاه ساسان ويكرهه على التخلي عن ما بين النهرين وأرمينية، وعاد ديوقليتيانوس إلى أنطاكية وحمص في ربيع السنة 290 ليقتص من القبائل العربية الضاربة في هذه المناطق، ولعل الإشارة الواردة في المراجع لهذه المناسبة هي للغساسنة بزعامة ثعلبة؛
2
واضطرب الأمن في مصر في السنة 296-297، فهجم نرسه الساساني على أرمينية وسورية، فأنفذ ديوقليتيانوس معاونه غلاريوس لقتال نرسه، فوقع في كمين مخيف وتراجع مقهورا، فأكرهه ديوقليتيانوس أن يواكبه ماشيا مسافة ميل مرتديا ثوبه الأرجواني، ثم شرع الإمبراطور يعد العدة للأخذ بالثأر، فأنشأ معامل لصنع الأسلحة في أنطاكية ودمشق والرها، وحض غلاريوس على انتقاء أفضل الرجال وأكثرهم خبرة في القتال، فاستقدم غلاريوس الرجال من البلقان، وانقض على نرسه عن طريق أرمينية، فقدر له النجاح؛ إذ جرح نرسه نفسه واعتقل حرمه وأولاده، واستولى على خزينته، فاضطر نرسه أن يفاوض صاغرا، فتخلى عن ما بين النهرين، واعترف بحماية رومة على أرمينية، ووافق على جعل نصيبين مركزا دائما لتسوية العلاقات التجارية بين البلدين، ودام هذا الصلح أربعين عاما، وعاد غلاريوس مرفوع الجبين، واعتز سيده ديوقليتيانوس بهذا النصر، فنقل عن خصمه الفارسي مظاهر الأبهة والعظمة في التشريفات الملكية، فكثرت الحجب الحريرية في البلاط، وتنوعت الزينة؛ فشاع استعمال الذهب واللؤلؤ والحجارة الكريمة، واحتجب الإمبراطور وتطلب ضروبا من التكريم والتبجيل أهمها الركوع.
وجد ديوقليتيانوس في حماية حدود الدولة، فجدد الحصون التي كان تريانوس ومرقس أوريليوس قد أنشآها ضد فارس، وأمر ببناء غيرها كقصر الملكة في تدمر، وقصور جنيجل، وخان التراب، وخان الشامات، ودير الكهف، وقصر الأزرق؛
3
وعبد الطرقات العسكرية وحماها بالأبراج، وأهم هذه طريق دمشق تدمر الفرات التي دعيت طريق ديوقليتيانوس
Strata Diocletiana ،
4
وطريق دمشق بصرى فالعربية وعمان مادبا حتى وادي الحسا،
5
وأعاد النظر في نظام الجيش، فخفض عدد الرجال في وحداته ليسهل الحركة والانتقال.
6
وكان فاليريانوس قد بدأ في بلاط إمبراطوري في أنطاكية، فأكمل ديوقليتيانوس هذا العمل، وأنشأ بلاطا آخر في دفنة، وشيد هيكلين في دفنة أحدهما لزفس كبير الآلهة والآخر لأبولون.
أسباب الاضطهاد
وهكذا فإن ديوقليتيانوس كان منذ بداية عهده مجددا مصلحا محافظا على سلامة الدولة، وكان منذ بداية عهده أيضا معاديا للنصرانية؛ لأنه لم يجد في أوساطها استعدادا للتعاون معه في توحيد القلوب ودرء الأخطار المداهمة؛
7
فالنصارى لم يقدسوا ما قدسته الدولة، ولم يفتروا عن مصارحة الأوساط الوثنية الرسمية وغير الرسمية بأن لا إله إلا الله، وبأن يسوع ابنه الوحيد تأنس وصلب ومات من أجل البشر، وقام في اليوم الثالث وجلس عن يمين الآب، وأن لا خلاص إلا به.
ويتميز القرن الثالث عن القرنين الأولين بشدة انتشار الدين المسيحي وانكشاف أمره، وإقدام المسيحيين على الجهر به، وبتشييد الكنائس الفخمة والاستعانة بفني النحت والتصوير للتعبير عن العقيدة المقدسة، ولا تزال بعض آثار هذا القرن تنطق بصحة ما نقول، فقد كشف العلماء الباحثون آثار كنيسة كبيرة هامة في عمواس فلسطين تعود إلى القرن الثالث،
8
وأظهروا كنيسة جميلة في الصالحية عند الفرات يعود إنشاؤها إلى قبيل السنة 256، كما أبانوا معالم محل العمادة ودار الكاهن والمخازن،
9
وقامت في هذا القرن أيضا كنيسة النصارى في نيقوميذية، على تلة تحاكي قصر ديوقليتيانوس نفسه على تلة مقابلة لها،
10
وأم المؤمنون هذه الكنائس زرافات زرافات،
11
وخلت الهياكل من الوثنيين،
12
فضجت الأوساط الرومانية المحافظة الرسمية وغير الرسمية، وعلا صوت الفلاسفة الوثنيين ورجال البيان والخطابة مطالبين بدرء هذا الخطر المداهم.
13
رجال الاضطهاد
ولم يكن ديوقليتيانوس ظنونا قاسيا مثل نيرون، أو داعيا ملحا لدين معين كأوريليانوس، ولكنه كان شديد التمسك بالوثنية يقول بجميع خرافاتها، وكان في الوقت نفسه رجل إدارة وسياسة، يكره العنف ويبتعد عنه، فسكت عن النصرانية تسعة عشر عاما؛ لأن الظروف السياسية الخارجية قضت بتحاشي الاضطراب في الداخل.
14
أما القيصر غاليريوس يمين الإمبراطور، فإنه ورث عن أمه تعلقا شديدا بالآلهة، ورغب بأن يظهر بمظهر المدافع عن عقائد أكثرية الشعب، وأن يطهر جيشه من كل عنصر مشاغب،
15
واعتمد غاليريوس في تنفيذ رغباته هذه على القائد فيتوريوس
Veturius
كبير رجال الحرب لديه
Magister Militum .
16
ولا ننس بورفيريوس ورسائله الخمس عشرة وتلميذه هيروكليس
Hierocles
حاكم بيثينية آنئذ، الذي خص النصارى برسالة أسماها «صديق الحقيقة»، فأثر في نفس ديوقليتيانوس ودفعه إلى الاضطهاد.
17
الظرف
ويطل علينا خريف السنة 302، فنجد ديوقليتيانوس في أنطاكية يضحي لآلهته، ويطلب إلى طاغس
Tagis
رئيس العرافين أن يتفحص أحشاء الضحية وينبئه بالمقدر، ففعل طاغس ولم يفلح، وادعى أن المسيحيين الموجودين حوله أفسدوا عليه عمله في أنهم رسموا علامة الصليب، فاضطرب الإمبراطور وخشي سوء العاقبة، ثم اغتاظ فأمر جميع رجال البلاط ونساءه أن يضحوا للآلهة مهددا بالجلد، وتبنى سياسة غاليريوس، فأمر قادة جيوش الشرق مصارحة جميع الضباط والأفراد في أمر احترام الآلهة وتكريمها وتسريح من يمتنع عن ذلك.
18
أوامر السنتين 303 و304
وعاد ديوقليتيانوس إلى مقره في نيقوميذية، ووصل غاليريوس إليها، فتشاورا في أمر النصرانية والنصارى، وألح القيصر على اللجوء إلى العنف للتخلص من الدين الجديد وأتباعه، ولكن ديوقليتيانوس كان لا يزال يكره سفك الدم ويأنفه، فدعا كبار الموظفين والقادة، وبحث معهم نقطة الاختلاف في الرأي بينه وبين غاليريوس، وكان بين المدعوين هيروكليس الفيلسوف، فحض على القمع بالقوة فوافقه المجتمعون،
19
وأبطأ ديوقليتيانوس وتريث مرة ثانية، فأمر بوجوب استلهام أبولون في ميليطة، ففعلوا فثبت العراف رأي هيروكليس وزملائه.
20
وأصر ديوقليتيانوس على عدم سفك الدماء، فأمر في الثالث والعشرين من شباط السنة 303 بتهديم الكنائس وسائر محلات العبادة، وإتلاف الكتب المقدسة وكتب الصلوات والطقوس ومنع صلاة الجماعة، وحرم المسيحيين الأشراف من التمتع بامتيازات الطبقات التي انتموا إليها، واعتبر جميع المسيحيين خارجين على القانون ، فحرمهم حق الدفاع عن حقوقهم أمام المحاكم، ويختلف رجال البحث في تفسير عبارة وردت في تاريخ أفسابيوس، فيرى بعضهم أن ديوقليتيانوس اعتبر جميع المسيحيين أرقاء، ويرى البعض الآخر أنه خص الأشراف المسيحيين بهذا الذل دون سواهم.
21
وفي عشية الثالث والعشرين من شباط وقبل إعلان الإرادة الإمبراطورية، هجم الشرطة على كنيسة نيقوميذية المشرفة على القصر الإمبراطوري، فخربوها وأحرقوا ما وجدوا فيها من الكتب، وفي صباح الرابع والعشرين ألصقت نصوص الإرادة على جدران الشوارع في نيقوميذية، فنزع مسيحي واحدة منها ومزقها فألقي القبض عليه وأحرق،
22
وشبت النار بعد ذلك في أحد أجنحة البلاط فاتهم غاليريوس المسيحيين بذلك،
23
ثم شبت النار ثانية فخرج غاليريوس من نيقوميذية معلنا أنه لا يرغب في أن يحرق حيا؛ فاستوقدت هذه النار غضب الإمبراطور فتسخط وتنمر، واعتبر جميع المسيحيين في بلاطه وعاصمته أعداءه، وحل غضبه على زوجته بريسكة
وابنتها فاليرية
Valeria ، وخيرهما بين الموت والرجوع عن النصرانية، فرجعتا ولكن حوادث البطولة في سبيل يسوع تكررت، فاستشهد دوروثاوس كبير الأمناء، وبطرس رئيس الحجاب، وأنثيموس أسقف نيقوميذية وكهنته، وعدد كبير من رعيته بينهم نساء وأطفال.
24
ونفذ أمر الإمبراطور بقساوة في جميع أنحاء الإمبراطورية ما عدا غالية وبريطانية مقاطعة قسطنديوس زوج هيلانة، وشبت ثورة في ملاطية وسورية، ونادى بعض الجنود بأفجينيوس
Eugenios
إمبراطورا في مرفأ سلفكية،
25
فنسب هذا التمرد إلى المسيحيين، فأصدر الإمبراطور أمرين قضى الأول منهما بحبس رجال الإكليروس، والثاني بإطلاق سراح من يكرم الآلهة، وبتشديد العذاب على من يرفض ذلك.
26
وجاء في الفصل الثاني من رسالة أفسابيوس في «شهداء فلسطين» أن السابع عشر من أيلول سنة 303 وافق مرور عشرين عاما على بداية حكم ديوقليتيانوس، ففتحت أبواب السجون، وأطلق سراح من فيها، ولا نعلم ما إذا كان هذا العفو شمل النصارى، ولكننا نعلم أن ديوقليتيانوس أصيب بمرض عضال في مطلع السنة 304، وأن غاليريوس حل محله، وأعد أمرا رابعا باضطهاد النصارى فنفذ في ربيع السنة 304، وقضى هذا الأمر بإكراه جميع النصارى على الخضوع لآلهة رومة.
27
أنطاكية وأبرشياتها
وخاض حكام الولايات وضباط الجيش في باطلهم، فاستشهد في قيليقية عدد كبير من النساء والرجال أشهرهم: طراخوس رجل الشعب، وبروبوس، وأندرنيكوس،
28
وتناقل الآباء فيما بعد أخبار العذارى السبع اللواتي قضين في غلاطية لأجل يسوع، وخبر ثيودوتوس أنقيرة،
29
وأبت يوليتة الأرملة في قيصرية قبدوقية أن تضحي للأصنام، فحرقت وهي تقول: «إن الله يريد منا جميعا إيمانا وصبرا مكينا.»
30
وتفنن الظالمون في أبرشية البونط عند البحر الأسود بأساليب التعذيب، فأدخلوا القصب الحاد تحت أظافر المؤمنين، ثم صبوا عليها رصاصا مذوبا، فالتجأ بعض المؤمنين إلى جبال هذه الأبرشية، وفر آخرون إلى أرمينية وفارس.
31
ووصل التيار الجارف إلى أنطاكية وفلسطين في نهاية شهره الأول في أواخر آذار السنة 303 أو حوالي عيد الفصح في السابع عشر من نيسان، فألقي القبض على كيرلس أسقف أنطاكية، ونقل إلى بانونية للعمل في مناجمها، فخلفه في رئاسة الكنيسة تيرانوس
Tyrannos (304-314)،
32
وكان رومانوس شماس قيصرية فلسطين مقيما في أنطاكية آنئذ، فهاله تدمير الكنائس وارتداد بعض المؤمنين والمؤمنات، وهب لساعته يقوي النفوس، ويحذر من السجود للأصنام، فقطع لسانه وزج في السجن، ثم هيئت نار لإحراقه فأخمدها الله بسحاب جاد به، فشنق بعد ذلك في السجن في الثامن عشر من تشرين الثاني سنة 303،
33
وقبض على تيرانيوس أسقف صور وعلى زينوبيوس الطبيب كاهن صيدا، وعرضا على الوحوش الضارية في مدرج أنطاكية، فأعرضت عنهما فحز رأساهما حزا.
34
ولا نعلم متى تم استشهاد الضابطين سرجيوس وباخوس بالضبط، ولعل غاليريوس بدأ اضطهاد المسيحيين قبل إعلان الاضطهاد رسميا، فأوقع بعدد كبير منهم لدى عودته ظافرا من حرب فارس، وبين هؤلاء الضابطان سرجيوس وباخوس اللذان نالا إكليل الشهادة في مقاطعة الفرات، حيث شيد لتكريمهما هيكل أصبح فيما بعد مركزا روحيا هاما، فدعيت المدينة القريبة منه سرجيوبوليس (الرصافة).
35
وتجمع روايات التقليد على استشهاد القديس جاورجيوس والقديسة بربارة في السنة 303، ولكنها تختلف في موضع الاستشهاد، وليس هنالك ما يثبت استشهاد جاورجيوس في اللد، واستشهاد بربارة في بعلبك، ولعلهما من شهداء آسية الصغرى.
وامتثل فلافيانوس حاكم فلسطين أمر الإمبراطور، ونشط عماله لتنفيذه في قيصرية، فأكرهوا المؤمنين على الحضور إلى الهياكل، وأجبروهم على الركوع والخشوع، وأعلنوا رجوعهم عن النصرانية وانقيادهم للأوامر العليا،
36
وأول شهداء فلسطين في السنة 303 بروكوبيوس
القارئ، وكان هذا الرجل الصالح يجيد اليونانية والآرامية، فيقرأ الأسفار والصلوات في كنيسة بيسان
Scythopolis
في اليونانية وينقلها إلى الآرامية، فلما وصلت أوامر الإمبراطور إلى بيسان طلب إليه أن يحرق البخور للإمبراطورين والقيصرين، فامتنع مرددا بيتا من أبيات الإلياذة قائلا: «ليس من الحسن تعدد الأسياد؛ إذ ليس سوى سيد واحد وملك واحد.» فحز رأسه! وبعد ذلك ببضعة أشهر فاز بإكليل الشهادة في قيصرية أيضا كل من زكي شماس كنيسة جدروألفيوس قارئ كنيسة قيصرية.
37
وفي السنة 304 أوجب الإمبراطور، كما سبق وأشرنا، على جميع النصارى أن يقدموا الذبائح إلى الأوثان، وحل في هذه السنة نفسها أوربانوس محل فلافيانوس في فلسطين، فانهال أهل غزة بالهوان والضرب على تيموثاوس، فنال إكليل المجد، واستشهد معه أغابيوس وتقلا بين أنياب الوحوش الضارية، وفي قيصرية فلسطين بهرت شجاعة الشبان الثمانية أعين الجماهير، وأشهر هؤلاء الثمانية ديونيسيون الطرابلسي الفينيقي، وروميولوس أبوذياكون اللد
Diospolis ، وألكسندروس الغزاوي.
38
وبين شهداء هذه السنة يوليانوس الطرسوسي، الذي وضع في كيس فيه رمل وحشرات سامة وطرح في البحر، ثم نقل جثمانه إلى أنطاكية، وكرياكوس الطفل وأمه يوليته، اللذان استشهدا في طرسوس، وفبرونية الفاضلة التقية التي قبض عليها في نصيبين ومزقت ثيابها وعلقت على خشبة.
غلاريوس ومكسيمينوس (305-310)
واستقال ديوقليتيانوس وزميله مكسيميانوس من المنصبين الإمبراطوريين، فأصبح كل من قسطنديوس وغلاريوس إمبراطورا، الأول في الغرب والثاني في الشرق، وفي أول أيار سنة 305 أعلن كل من فلافيوس سويروس
Flavius Valerus Severus ، ومكسيمينوس دايا
Galerius Valerius Maximinus Daia
قيصرا معاونا، الأول في الغرب والثاني في الشرق، واحتفظ الإمبراطور غلاريوس بإدارة اليرية وآسية الصغرى ووكل تدبير شئون الولايات الشرقية الباقية إلى نسيبه مكسيمينوس دايا،
39
كان مكسيمينوس هذا سكيرا فاسقا قاسيا عاتيا، وكان يقول بالوثنية وخرافاتها،
40
فلما استتب له الأمر عاد أعوانه إلى الاضطهاد، فاستشهد في قيصرية فلسطين في السنة 306 أبفيانوس
Apphianos ، الذي قرأ الفقه في بيروت، واقتبس عن بمفيلس الكمال المسيحي، وفي صور زج أولبيانوس في جلد ثور مع كلب وصل وألقي في البحر، وفي أنطاكية بسط الشيخ الفلاح برلاها يده إلى لهيب النار حتى فنيت ونكل به تنكيلا فظيعا، فاستحق مدح القديسين يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير، وفي أنطاكية أيضا باغت الجند بلاجية الفتاة منفردة في بيتها، فاستأذنتهم لترتدي أجمل ما لديها، فصعدت إلى السطح ورمت نفسها إلى أسفل، وكان لذومنينة الأنطاكية ابنتان جميلتان: برنيقية وبروسذوكي، ربتهما على سنة السيد المخلص، فبالغ مكسيمينوس الفاسق في التفتيش عنهن، فهربن من أنطاكية إلى الرها، ولما علم زوجها أنها هي وابنتيها في الرها، أخذ معه بضعة جنود للقبض عليهن، فتم له ذلك وعاد بهن إلى أنطاكية، وفي الطريق غافلن الجنود وألقين أنفسهن جميعا في الفرات، فقال الذهبي الفم: «لقد أرادت ذومنينة أن تفوز بالغنائم قبل المعركة، وأن تختطف إكليل الغار قبل الجهاد، وأن تنال الأوسمة قبل التعذيب.» وفي هذه السنة نفسها أيضا نالت ثيودوسية الصورية إكليل المجد في قيصرية فلسطين بعد أن مشط الجند جسدها بأمشاط حديدية، وفيها أيضا عذب لوكيوس الحاكم الطبيبين العربيين قوزما ودوميانوس وضرب عنقيهما بالسيف.
وفي السنة 307 بدأ سلوانس كاهن غزة ورفاقه أعمالهم الشاقة في وادي عربة، وطرح ذومنينوس في النار، ودخل بمفيلوس السجن بعد عذاب أليم، وفي السنة 308 استشهد بولس الغزاوي طالبا الغفران لليهود والسامريين والجلاد الذي أشرف على تعذيبه؛ وفيها أيضا استشهد في النار الشبان الثلاثة: أنطونيوس وزبينا وجرمانوس، والفتاة البيسانية أوناثة وغيرهم. وفي السنة 309 عقد لبمفيلوس إكليل الشهادة مع أحد عشر شهيدا، بينهم فالنسيوس الشيخ شماس أيلية، الذي اشتهر بتضلعه من علوم الكتاب المقدس وبورفيريوس الخطاط.
41
براءة سرديكة (311)
وتوفي قسطنديوس الإمبراطور الغربي زميل غلاريوس في السنة 306 في يورك من أعمال بريطانية، فبعث ابنه قسطنطين بنظام ديوقليتيانوس الجديد، وأعلن نفسه قيصرا على بريطانية وغالية وإسبانية، ونادى حرس رومة بمكسنتيوس إمبراطورا، وعادت شهوة الحكم إلى قلب مكسيميانوس الإمبراطور المستقيل، فأعلن نفسه إمبراطورا أيضا، وأصبح للدولة الرومانية أباطرة ثلاثة وقياصرة ثلاثة، وثار جنود سويروس عليه فقتلوه، فعين غلاريوس قيصرا جديدا محله يدعى ليكينيوس، وعم الاضطراب الأوساط السياسية والعسكرية، فانقض مضجع غلاريوس الإمبراطور، واضطرب وانزعج ، وفي مطلع السنة 310 ألم بغلاريوس مرض غريب مخيف، فتقرح جلده وظهرت به الأخرجة، وقاحت جروحه ونزف دمه، وطال مرضه حتى جاوز الثمانية عشر شهرا، وأعضل الأطباء وأعياهم،
42
فخاف الإمبراطور وخشي أن يكون قد أغضب إله من اضطهد، ولمس الإمبراطور أيضا فساد رأيه في السياسة وإخفاقه في الحرب التي شنها على المسيحيين، فأصدر عن سرديكة بالاتفاق مع ليكينيوس وقسطنطين ومكسيمينوس براءته الشهيرة في نيسان السنة 311.
43
ويرى بعض العلماء أن الفضل في هذه البراءة يعود إلى ليكينيوس لا غلاريوس، ولكنه رأي ضعيف لا يزال في طور الافتراض.
44
وقد حفظ لنا المؤرخ لكتنتيوس نص هذه البراءة باللاتينية،
45
كما أورد أفسابيوس نصها باليونانية.
46
ويبدأ غلاريوس براءته هذه باللوم والتأنيب؛ فيأخذ على المسيحيين خروجهم على دين الآباء والأجداد، وامتناعهم عن ممارسة الطقوس والعادات التي قال بها المؤسسون، ثم يذكر قيامه بالواجب، وإصدار الأوامر إلى هؤلاء بالعودة إلى التقاليد الموروثة، ويشير بعد ذلك إلى رجوع بعض المسيحيين إلى دين الأجداد، ولكنه يبين بوضوح أن هؤلاء لم يعودوا إلا مكرهين، وأن معظم إخوانهم أصروا على الإباء، ولم يتابعوه على ما يريد، فلم يحترموا الآلهة ولم يتعبدوا لإله النصارى! ولعل الإشارة هنا إلى بعض البدع والهرطقات، ثم يخلص الإمبراطور بعد هذا كله إلى القول بالرأفة والرحمة نحو جميع الناس، فيضرب عن المسيحيين صفحا جميلا، ويعترف بوجودهم ويسمح لهم بصلاة الجماعة شرط ألا يخلوا بالنظام، ويؤكد أنه سيكتب إلى القضاة والحكام عن القوانين التي يجب اتباعها، ويرى أنه بالمقابل يجب على النصارى أن يصلوا لإلههم من أجل الإمبراطور والدولة وأنفسهم.
ودخلت الكنيسة بعد هذا في دور جديد؛ إذ أصبحت النصرانية ديانة شرعية
Licet Esse Christianos
لأول مرة، وأدى الاعتراف بحرية المعتقد إلى حرية العبادة، وإلى إعادة الكنائس إلى أصحابها،
47
ثم انقضى أجل غلاريوس، فأدركته الوفاة في الخامس من أيار سنة 311، فلم يتسن له أن يكتب إلى القضاة والحكام كما جاء في نص البراءة.
مكسيمينوس يتابع الاضطهاد (311-312)
وظهر خبر براءة سرديكة واشتهر، فوقف الاضطهاد في ولايات غلاريوس وليكينيوس وقسطنطين، ولكنه لم ينشر في مقاطعات مكسيمينوس؛ أي في سورية ومصر، واكتفى سبينوس
Sabinus
معاون مكسيمينوس بنقل فحوى البراءة ولم يعلن نصها،
48
ثم مات غلاريوس بعد ذلك ببرهة وجيزة، فعاد مكسيمينوس إلى الاضطهاد، فأسس منظمة وثنية على غرار الكنيسة لمحاربة النصرانية،
49
ولفق سفرا جديدا دعاه «أعمال بيلاطس»، وبثه وأشاع محتوياته لتحقير السيد المخلص،
50
ولجأ قائد في دمشق إلى وسائل دنيئة ليبرهن عن ولائه لمكسيمينوس، فأخذ بعض نساء من السوق العمومية، وعلمهن أن يدعين أنهن مسيحيات، وأنهن رأين أعمالا مخجلة ترتكب في الكنائس نفسها، ثم أوعز مكسيمينوس إلى بعض الأوساط الوثنية في بعض المدن بالمطالبة بطرد المسيحيين من مدنهم، فأقيم في صور عمودا نقشت عليه كتابة تعظم الوثنية، وتدعو الأهلين لطرد المسيحيين من البلد، ففر ألوف من المسيحيين من صور وغيرها، وتشردوا في البراري والقفار.
51
شهداء حمص (312)
وعاد بعض الولاة والقضاة إلى المطالبة بإكرام آلهة الدولة، وخصوا كبار النصارى بهذه المطالبة، فألقى والي حمص القبض على سلوانس أسقف هذه المدينة، وعلى شماسها لوقا، والقارئ في كنيستها موكيوس، وزجهم في السجن، وأذاقهم شتى ألوان العذاب، ثم حكم عليهم بالطرح أمام الوحوش الضارية.
وكان بين المؤمنين في هذه المدينة رجل يدعى يوليانوس، فلما اشتدت وطأة الاضطهاد والتعذيب امتهن الطب؛ ليخفف آلاف المعترفين ويرشد الضالين، وكان ما كان من أمر سلوانس ورفيقيه، فلما أخرجوا من السجن وسيقوا إلى المدرج، قابلهم يوليانوس في الطريق وقبلهم القبلة الأخيرة، فقبض عليه وامتحن بالعذاب، فأصر على الاعتراف بالمسيح، فسمر رأسه ويداه ورجلاه، وزج في مغارة خارج البلدة، ففاضت نفسه وانصرف إلى جوار ربه مشرفا بالآلام نفسها التي تألم بها السيد المخلص.
لوقيانوس المعلم الأنطاكي
وفي هذه السنة نفسها ألقي القبض في أنطاكية على الكاهن العالم لوقيانوس، وزج في السجن في نيقوميذية وعذب تعذيبا، فجلد جلدا وضرب ضربا ووضع على الصاجات وتحت العجلات وقدم للأسود الضارية، وانتهز هذا المعلم فرصة السجن، فصنف رسالة وجهها إلى مكسيمينوس نفسه، ودافع بها عن صحة الإيمان بالمسيح. وقد يكون نص هذه الرسالة كما نقله روفينوس المؤرخ مشوها، ولكن هذا لا ينفي قيام الشهيد الأنطاكي بعمل التصنيف للدفاع عن الدين القويم،
52
وحرم لوقيانوس الطعام وجوع، ثم عرض عليه لحم الضحايا للآلهة فامتنع وتصبر، وما فتئ مستمسكا بيسوع مجيبا عن كل سؤال وجه إليه بالعبارة: «أنا مسيحي.» حتى فاضت روحه وعادت إلى ربها، وقد قرظه الذهبي الفم أيما تقريظ في عظته الخامسة والأربعين، ودفن جثمانه في مدينة ذريبانة، وأمرت القديسة هيلانة فيما بعد بتشييد هيكل فخم فوق ضريحه، وخصت ذريبانة باسمها، فأصبحت تدعى إيلينوبوليس؛ أي مدينة هيلانة.
مثوذيوس الأوليمبي
وليس لنا نحن أبناء كنيسة أنطاكية العظمى أن نفاخر بالمعلم اللاهوتي الكبير القديس مثوذيوس، الذي استشهد أيضا في السنة 312، فالقول بأنه كان أسقف ليقية أولا، ثم صور بعدها قول ضعيف لا يقبله الثقات المدققون، فقد جاء أنه كان أسقف أوليمب في ليقية، وجاء أيضا أنه كان أسقف سيرة القريبة، كما ورد أنه كان أسقف ميرة وأسقف صور، ويذهب العلامة ديكامب
Diekamp
إلى القول بالتقليد الصقلبي، فيجعل مثوذيوس أسقف فيليبي،
53
ويؤيده في ذلك زميله لوبون
Lebon ،
54
ولكن البحاثة فايان
Vaillant
الذي عني بآثار القديس مثوذيوس لا يزال مستمسكا بالرأي التقليدي القديم، الذي يجعل مثوذيوس أسقفا على أوليمب في ليقية آسية الصغرى، وهو يرى في نص رسالة مثوذيوس في القيامة ما يوجب هذا الاستنتاج.
55
براءة ميلان (313)
ونظر قسطنطين إلى سماء غالية، فرأى شارة الصليب مرسومة عند الشمس قبل المغيب، فاندفع في سعيه اندفاع المؤمن الواثق وكر على خصمه، فشتت شمله وما فتئ يقاتل ويطارد حتى وصل إلى أبواب رومة،
56
وقبيل فجر الثامن والعشرين من تشرين الأول سنة 312، تلقى هذا البطل الفاتح أمرا من لدن العلي الأعلى يوجب رسم الحرفين اليونانيين «خي» و«رو» على تروس رجاله قبل البدء بالقتال، ففعل وانتصر على خصمه باسم المسيح، ولا يخفى أن هذين الحرفين هما الحرفان الأولان من كلمة خريستوس اليونانية التي تعني المسيح،
57
ولا نزال نرسمهما متراكبين مذكرين بالصليب، كما رآهما قسطنطين تبركا واحتراما، ونزين بهما جدران كنائسنا وآنيتنا المقدسة وأثوابنا الحبرية.
ولمس قسطنطين يد المخلص وأحس بعنايته الفائقة، فأبطل أوامر خصمه مكسنتيوس، وأعلن محتويات براءة سرديكة في إيطالية وأفريقية وأوجب تنفيذها، ثم أمر بإعادة أملاك الكنائس المصادرة إلى المسيحيين، وأوجب على موظفي المالية في الولايات الغربية أن يقدموا إلى الكنائس الكاثوليكية «الجامعة» لا الدوناتية ما تحتاجه من الأموال، وكتب إلى مكسيمينوس زميله في الشرق يوجب إنهاء الاضطهاد، فكتب مكسيمينوس بدوره إلى سبينوس في أواخر السنة 312 يمنع اللجوء إلى العنف في سبيل احترام الآلهة وإكرامها.
58
وفي أوائل السنة 313 التقى قسطنطين وليكينيوس في ميلان وتبادلا الرأي في السياسة، فاتفقا على إعلان حرية المعتقد في جميع أنحاء الإمبراطورية، وعاد ليكينيوس إلى الشرق ليحد من مطامع مكسيمينوس، فانتصر عليه عند تزيرالوم
Tzirallum
بالقرب من أدريانوبل في أول أيار وأكرهه على التراجع، وتوفي مكسيمينوس في طرسوس في آب السنة 313 من مرض ألم به فأضعفه وأفقده البصر، أما ليكينيوس فإنه ما كاد يستقر في نيقوميذية حتى أعلن حرية المعتقد في نص رسمي،
59
هذه خلاصته: «نحن قسطنطين أوغوسطوس وليكينيوس أوغوسطوس، بعد تبادل الرأي في ميلان تبين لنا أن مصلحة الدولة تقضي بتنظيم أمور التعبد ومنح المسيحيين وجميع الرومانيين حق اتباع الدين الذي يؤثرون؛ وذلك ليرضى الإله أيا كان عنا وعن جميع الخاضعين لنا، وبعد التبصر في هذا الأمر قررنا عدم التعرض لحرية المعتقد؛ وهكذا فإننا لا نمنع أحدا من الناس عن اتباع دين المسيحيين أو أي دين آخر يختاره هو لنفسه، آملين أن ننال بذلك رضى الإله الأعلى
Summa Divinitas
وبركته.» وأمر الإمبراطوران بعد هذا بإعادة الكنائس والأملاك المصادرة إلى أصحابها، وبالتعويض من صندوق الدولة عن كل خسارة تلحق بفرد من الأفراد من جراء هذه الإعادة.
60
وهكذا فإنه يتضح مما تقدم أنه لا يجوز القول ببراءة معينة محددة صدرت عن الإمبراطورين المجتمعين في ميلان، وجل ما يجوز القول به هو أن هذين الإمبراطورين اتفقا على خطة معينة فنفذاها كل في منطقته.
61
والقول ببروتوكول وقع في ميلان لهذه الغاية
62
قول ضعيف لا يرتكز إلى أسس عملية راهنة.
63
أهمية التشريع الجديد
وانتهى بهذا التشريع الجديد عصر الاضطهاد، وأصبح المسيحيون يدينون بدين شرعي معترف به من السلطات المدنية، ودخلت الكنائس لا الكنيسة الجامعة
64
في دور جديد، فتمتعت كل منها بحرية العبادة وحق التملك، واستمتع رجال الإكليروس بالامتيازات نفسها التي انتفع بها كهنة الأوثان. ولا يجوز القول إن النصرانية أصبحت دين الدولة؛ لأن الأديان الوثنية ظلت تستفيد من صبغتها الرسمية التي اصطبغت بها في العصور السابقة، وجل ما يجوز قوله هو أن التشريع الجديد ساوى النصرانية بالأديان الوثنية القديمة.
65
الفصل السادس عشر
ليكينيوس وقسطنطين
واستتب الأمر لليكينيوس وحده في الشرق في السنة 313، فأخذ بوحي قسطنطين في إصلاح الأمور وتهدئة الخواطر، وألغى مراسيم مكسيمينوس الشاذة، وزار أنطاكية فسرح جماعة الأنبياء الكذبة وكهنة زفس أولئك الذين كان مكسيمينوس قد أغدق عليهم هباته وأظهر عليهم عطفه، وقدر لتيرانوس أسقف أنطاكية ورئيس كنيستها أن يتنفس الصعداء بعد أن شهد كثيرا من ألوان الطغيان والسفك.
الترميم والتشييد
وتسلم الأساقفة الكنائس والأوقاف، وهرعوا لترميمها أو تشييدها ثانية، واشتد الحماس وكثر التعاون فتم البنيان بسرعة وتعددت حفلات التكريس وصلوات الابتهال والشكر، فاستأنف فيتاليوس أسقف أنطاكية بناء كنيسة الرسل القديمة
،
1
واشترك أفسابيوس المؤرخ في تكريس كنيسة صور، وألقى لهذه المناسبة خطابا ملؤه الفخر والحماسة.
2
مجمع أنقيرة
وتوفي تيرانوس في السنة 314 فخلفه في رئاسة الكنيسة الأسقف فيتاليوس (314-319)، ولمس فيتاليوس اختلاف الآراء في قبول التائبين العائدين إلى حضن الكنيسة بعد الاضطهاد، فدعا الأساقفة إلى مجمع في أنقيرة، ولبى هذه الدعوة عدد من الأساقفة من: غلاطية، وبسيدية، وبمفيلية، وفريجية، وقبدوقية، وقيليقية، وسورية، وفلسطين، وأرمينية، وبحث المجمع أمر الساقطين إبان الاضطهاد، فمنح «المعترفين» غفرانا تاما، وأوجب الندامة سنتين على من تظاهر بالارتداد في أثناء الاضطهاد، ولكنه لم يرتد، وثلاث سنوات أو أربع على من أكره على الارتداد إكراها، وست سنوات على من أكرم الآلهة وضحى لها مكرها، وعشر سنوات على كل من ارتد وليس له عذر في ذلك. ثم نظر المجمع في الزنى والبغاء وقتل الأطفال والإجهاض والقتل والسحر، ففرض العقوبات اللازمة، وتناول واجبات الإكليروس، فأذن بزواج الشمامسة إذا استأذنوا الأسقف في ذلك قبل الرسامة ، ومنع أساقفة الكورات (خور أسقف) من رسامة القساوسة والشمامسة بدون موافقة أسقف الأبرشية، وقضى بعزل القسوس والشمامسة إذا امتنعوا عن أكل اللحم بداعي النجاسة، ومنع الإكليروس عن بيع الأوقاف في أثناء خلو الكرسي من أسقف يدبر شئونها، وسمح للأساقفة الذين لا تقبلهم أبرشياتهم بالاحتفاظ بشرف الأسقفية، شرط ألا يقلقوا أساقفة الأبرشيات التي يخدمون فيها، وألا يحاولوا اغتصاب الكراسي.
3
مجمع قيصرية الجديدة
وعاد المجمع الأنطاكي إلى المشاورة وتبادل الرأي، فاجتمع قبل السنة 319 برئاسة فيتاليوس نفسه في قيصرية الجديدة، فاشترك في أعماله سبعة عشر أسقفا من أساقفة البونط، وقبدوقية، وقيليقية، وسورية، وفلسطين، وغلاطية، وأرمينية. ونظر هذا المجمع في أمر الخطاة، فأوجب ندامة طويلة للزواج الثاني، وأخر تقدم الموعوظين عند وقوعهم في الخطيئة ونهى عن خطيئة الفكر، ووافق على معمودية الحبالى، ومنع رسامة الكهنة قبل الثلاثين، ورسامة من أجل معموديته حتى دهمه المرض، ومن أمسكت زوجته في الفجور، ومنع هذا المجمع من ارتكب الزنى قبل الرسامة من خدمة القداس، وسمح له بممارسة الخدمات الأخرى، وجعل عدد الشمامسة في كل كنيسة سبعة فقط، ومنع قساوسة القرى من إقامة القداس في كنائس المدن، ولكنه سمح بذلك لأساقفة الكورات.
4
ضيق جديد (320-323)
وكان ليكينيوس إمبراطور الشرق لا يزال وثنيا غير مسيحي، وكان قد توسع مع المسيحيين توسعا ليجاري زميله قسطنطين ويخطب وده، وليكسب بذلك تأييد المسيحيين أنفسهم؛ لأنهم كانوا قد أصبحوا عنصرا هاما جدا في الشرق، ولا سيما في آسية الصغرى.
5
ويجب ألا يغيب عن البال أنه تقيد في توسعه مع المسيحيين بما تم الاتفاق عليه في ميلان، وأنه لم يعط المسيحيين أكثر من ذلك؛ أما إقدامه على محاكمة الوزير بفكيتيوس
، ووالي مصر كوليانوس
Culienus ، ووالي سورية ثيوتكنة
Theotekne ، فإنه جرى لأسباب سياسية لا دينية أهمها ولاء هؤلاء لمكسيمينوس، وقل الأمر نفسه عن إعدام كهنة زفس في أنطاكية.
6
ولا نراه يهتم لشئون الكنيسة الداخلية اهتمام زميله في الغرب، ولا نعرف له عطية أو هبة وهبها إلى الأساقفة في الشرق ليعاونهم في أعمالهم التعميرية.
7
وكان ما كان من أمر الخلاف بين قسطنطين وليكينيوس، وبدت طلائع هذا التنافر لمناسبة تعيين قيصري الغرب في السنة 320،
8
فضاق صدر ليكينيوس، وبدأ يزعج رجال الكنيسة وكبار الموظفين المسيحيين؛ ليحفظ بذلك «استقلال الدولة» ويحافظ على مكانتها، ولا مجال للقول مع بعض رجال الاختصاص إن ليكينيوس ضيق على المسيحيين في الشرق ليجتذب العناصر الوثنية في الغرب؛
9
لأنه ليس لدينا من النصوص ما يخولنا القول إنه كان لليكينيوس أي مطمع في الجزء الغربي من الإمبراطورية، وجل ما يجوز قوله أن ليكينيوس خشي تعاون رعاياه المسيحيين مع صديقهم الكبير قسطنطين الذي أصبح خصمه بعد السنة 320.
وبدأ ليكينيوس تضييقه على المسيحيين، فمنع في السنة 320 عقد المجامع الكنسية،
10
ثم حرم اجتماع الجنسين المسيحيين في مكان مقفول، وأوجب اجتماعهما للصلاة في الهواء الطلق وخارج المدن، كما أمر بوجوب تدريب كهنة من النساء لإرشاد الموعوظات.
11
تم تعذر على الإكليريكيين افتقاد المتهمين والمذنبين في السجون، وتعسرت الأفراح والأتراح،
12
ولجأ ليكينيوس بعد ذلك إلى سياسة التطهير، فأمر أولا بإبعاد المسيحيين عن البلاط والوظائف الكبرى، ثم أوجب التضحية للآلهة، فاستمسك بعض الموظفين بالعقيدة المقدسة واستقالوا، واستهان غيرهم بالإيمان وآثروا البقاء في مراكزهم، وأشهر المستقيلين أوكسنتيوس كاتب العدل، الذي أصبح فيما بعد أسقف موبسوستي في قيليقية،
13
وامتنع الأساقفة عن الطاعة لأوامر الإمبراطور فطوردوا، ورغب الولاة في استرضاء سيدهم ليكينيوس، فصادروا الأوقاف ودمروا الكنائس، وساقوا المؤمنين للعمل في المناجم، وحكموا على البعض بالإعدام، وأشهر هؤلاء الشهداء باسيليوس متروبوليت ذيوسبونطة الخاضع لرئاسة أنطاكية.
14
واشتد الضغط في شرقي آسية الصغرى وكثر عدد الشهداء، ولكن أخبار هؤلاء لا تزال غير ثابتة، وبين هذه الأخبار الضعيفة قصة الشهداء الأربعين، الذين استشهدوا فيما يظهر في سبسطية من أعمال أرمينية الصغرى.
15
ولم يرض قسطنطين عن هذا التضييق والتنكيد، فنهى في الخامس والعشرين من أيار سنة 323 جميع الموظفين عن المطالبة بالتضحية للآلهة،
16
ثم رفع الصليب عاليا، وأعلنها حربا شعواء ضد ليكينيوس ووثنيته، واسترضى ليكينيوس الآلهة بدوره، ومشى إلى الحرب واثقا من النصر، فاتخذت الحرب الجديدة لونا دينيا واضحا،
17
ورأت كنيسة أنطاكية في شخص قسطنطين مخلصا مرسلا من الله لتحريرها من ربقة ليكينيوس وأعوانه، وانتصر قسطنطين على خصمه مرتين متواليتين في تموز وأيلول السنة 324،
18
فظهر الحق على الباطل، ودخلت الكنيسة في دور جديد من تاريخها.
19
قسطنطين وكنائس الشرق
واستتب الأمر لقسطنطين وحده، فأصدر في أواخر السنة 324 بيانين؛ صفى في الأول منهما الحساب بين الوثنية والنصرانية في الشرق، فأنهى عشرين سنة من التضييق والتنكيد والاضطهاد، وثبت حرية المعتقد، وأوجب إعادة الأوقاف المصادرة، وأعتق «المعترفين» العاملين في المناجم وعلى الطرقات، وأثنى على شجاعة الشهداء وقوة إيمانهم، وأوجب تسليم ما خلفوه من تركات إلى ذويهم وورثائهم، أو إلى الكنيسة التي انتموا إليها إذا لم يكن لهم وريث شرعي،
20
ثم وجه خطابا «إلى الشرقيين» أكد فيه أن حرية المعتقد تشمل الوثنيين والمسيحيين على السواء، فاستدرك بعمله هذا اضطهادا قد يشنه المسيحيون المنتصرون على الوثنيين، ولام في الوقت نفسه رجال الاضطهاد الذين نفذوا رغبات ليكينيوس، وأبان نقائص الوثنية، وقرع العرافين في هياكل زفس، ونادى باتكاله على سيد الكون وبالواجب المسيحي الملقى على عاتقه.
21
وعلى الرغم من مبدأ المساواة الذي أعلنه قسطنطين في خطابه «إلى الشرقيين»، فإنه ما كاد يستقر به الحال، بعد انتصاره على ليكينيوس، حتى وعد الأساقفة بتقديم المال والمكان والمواد اللازمة لإنشاء الكنائس، وحرر لهم بذلك، وما كتابه في هذا الموضوع إلى أفسابيوس المؤرخ سوى نموذج واحد من نوعه.
22
وأعد الإمبراطور في السنة التالية بابا خاصا في موازنة الدولة لهذه المعونة،
23
ثم أنشأ على نفقة الدولة كنائس القسطنطينية ونيقوميذية وأنطاكية وأوروشليم وبيت لحم والخليل، والإشارة هنا إلى كاتدرائية إيرينة وباسليقة الرسل في القسطنطينية، وإلى الكاتدرائية الكبرى بالقرب من القصر في أنطاكية، وكنيسة القبر المقدس في أوروشليم، وكنيسة المهد في بيت لحم، ومزار البطاركة في الخليل.
24
وقدر لفيلوغونوس
أسقف أنطاكية الثاني والعشرين بعد بطرس أن يرى كنيسة البالية القديمة المتهدمة تعود إلى سابق رونقها ومجدها، وتوفي هذا الأسقف في السنة 324، فنعم خلفه أفستاثيوس
Eustathios
بسخاء قسطنطين، والشروع في بناء الكاتدرائية الكبرى قرب القصر، وذلك في السنة 327، ولم يتم بناؤها قبل السنة 341، وذلك في عهد فلاكيلوس السابع والعشرين بعد بطرس؛ وجاء في مصنف أفسابيوس عن حياة قسطنطين وأعماله أن الفضل في اكتشاف المكان الذي صلب فيه السيد المخلص، والمكان الذي دفن فيه جسده الطاهر يعود إلى مكاريوس أسقف أوروشليم آنئذ.
25
قسطنطين والكنيسة
وكان قسطنطين منذ السنة 318 قد منح الأساقفة شيئا من السلطة القضائية،
26
ثم زادهم سلطة واحتراما في السنتين 321 و323،
27
وبعد أن استتب له الأمر وحده منحهم سلطة إعتاق الرقيق بمجرد إعلان ذلك في الكنيسة بحضور الكهنة، ثم اعتبرهم قضاة فأجاز للمدعي أو المدعى عليه أن يترافع في دعوى ماثلة في محكمة مدنية أمام الأسقف، واعتبر حكم هذا الأسقف مبرما غير قابل الاستئناف.
28
وألغى قسطنطين منذ السنة 320 القوانين التي سنها أوغوسطوس وحرم بها العزوبية،
29
واشترع عقوبات قاسية وشدد في تطبيقها على كل من يرتكب جرم الخطف والاغتصاب، وشملت هذه العقوبات المرأة نفسها إذا ثبتت موافقتها على ذلك،
30
وحرم اعتداء المربي على عفاف تلميذته،
31
ومضاجعة السيدة رقيقها،
32
والعهر بخادمات الفنادق والخانات،
33
وأباح ملاحقة التسرر،
34
وصعب الطلاق،
35
وعني قسطنطين في الوقت نفسه بحماية الضعفاء والمساكين والأبرياء، ففرض العقوبات الشديدة على الوشايات والطعون الكاذبة،
36
ووضع حدا لقساوة السجانين، كما منع الأسياد عن الإساءة إلى أرقائهم، والآباء عن الغلاظة في معاملة أولادهم،
37
وشجع الإمبراطور الاعتناء بالأرامل واليتامى.
38
وهكذا فإن قسطنطين آمن بالسيد المخلص وأخلص لكنيسته، ولكنه لم يطلب المعمودية إلا في ساعة متأخرة وقبيل وفاته؛ ولعل السبب في ذلك أنه كان يشغل وظيفة إمبراطور الدولة، وأن عددا كبيرا من الرومانيين كان لا يزال وثنيا متمسكا بدين الآباء والأجداد، فرأى قسطنطين أن مصلحة الدولة والكنيسة تقضي بأن يظل حبر رومة الأعظم
ليتمكن من خدمة الاثنين معا؛ ومن هنا في الأرجح قوله لرجال الكنيسة: «أنتم أساقفة على من هم داخل الكنيسة، وأنا أسقف بمشيئة الله على من هم في الخارج.»
39
ومن هنا أيضا هذا التحسس بوجوب إصلاح الوثنية، وهذا الإقدام على منع السحر، وإقفال الهياكل التي وصمت بالفسق والدعارة كهيكل أفقا في لبنان وغيره في سورية،
40
وهذا التهجم على الأفلاطونية الجديدة وعلى بورفيريوس ومصنفاته.
وكان لعطف قسطنطين على الكنيسة وقع عظيم في جميع الأوساط النصرانية، فاشتد الحماس له وعظمت الثقة به، حتى أصبح ملجأ النصارى ونصيرهم، فشكوا أمورهم إليه ورجوا تدخله، وكان هو حبر الدولة الأعظم ورأسها، فشعر أنه من واجبه أن يحافظ على الأمن وحرية العبادة، فتدخل في شئون الكنيسة، وسجل بتدخله سابقة خطرة أدت فيما بعد إلى مشاكل ومشاكل بين الدولة والكنيسة، وما الانشقاق العظيم الذي شطر الكنيسة الجامعة في القرن الحادي عشر شطرين، إلا نتيجة محتمة لتدخل الدولة في شئون الكنيسة، وربط السياسة الدينية بالسياسة السياسية.
الباب الثاني
انتصار النصرانية وانقسامها
الفصل السابع عشر
آريوس والآريوسية
323-360
كنيسة الإسكندرية
وعكر الاضطهاد سلام الكنيسة في الإسكندرية؛ ففي السنة 306 صنف بطرس أسقف الإسكندرية رسالة في كيفية قبول الجاحدين، فعارضه ملاتيوس أسقف أسيوط «وخطابه سفه الرأي إلى المنابذة والخلاف، مع أنه داجى الوثنيين، وسجد لأصنامهم فيما قبل»، ثم اشتدت وطأة الاضطهاد، فتخفى بطرس فانطلق ملاتيوس يحرك قضية التوبة، واجترأ على سيامة الكهنة ورجال الإكليروس في غياب الأساقفة وفي أبرشيات غير أبرشيته، فعنفه على عمله هذا أساقفة أربعة كانوا معتقلين يتوقعون الشهادة، وقطعه بطرس وحرمه، ثم نال بطرس إكليل الشهادة في خريف السنة 311، فخلفه أخيلاس بضعة أشهر ثم ألكسندروس، وحاول الاثنان معاجلة قضية ملاتيوس فلم يفلحا؛ وتجرأ كاهن يدعى كولوثوس على سيامة الكهنة والشمامسة، وحل الشقاق في الكنيسة المصرية وتراشق الأساقفة بالحرمان؛ ثم تجرأ كاهن آخر يدعى آريوس على أسقف الإسكندرية، فكانت مشادة أدت إلى شقاق عظيم في كنائس الشرق دام مدة طويلة.
آريوس (256-335)
ونكاد لا نعلم شيئا عن آريوس قبل خروجه على رئيسه ألكسندروس أسقف الإسكندرية، وجل ما نعلمه هو أنه ليبي المولد والمنشأ، وأنه أم الإسكندرية، وتعلم فيها وشايع ملاتيوس لدى خروجه على رئيسه بطرس، ثم تراجع فسيم شماسا، ثم انتقد رئيسه في أمر توبة الجاحدين فقطع، فالتجأ إلى أخيلاس فسامه هذا كاهنا، ثم وثق فيه ألكسندروس فجعله خادم كنيسة بفكالس
Bavcalis .
1
وكان آريوس فيما يظهر عالما زاهدا متقشفا، يجيد الوعظ والإرشاد، فالتف حوله عدد من المؤمنين، ولا سيما عذارى الإسكندرية اللواتي نذرن أنفسهن للعمل الصالح، فأصبحن فخر كنيسة مصر، وانضم إلى هؤلاء عدد كبير من رجال الإكليروس، الذين وجدوا في وعظه غذاء للنفوس، فآثروا الإصغاء إليه على الرغم من التخالف في التعليم بينه وبين الأسقف رئيس الكنيسة.
2
ووافق آريوس لوقيانوس المعلم الأنطاكي وأخذ عنه، ولعله درس عليه كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الكلام عن لوقيانوس، ولا نعلم بالضبط وتمام الوضوح ما علمه لوقيانوس، كما أنه لم يبق من تعاليم آريوس إلا مقتطفات يسيرة جاءت في بعض «الردود» عليه، ولا سيما ما كتبه القديس أثناسيوس الكبير وما أورده القديس إمبروسيوس، الذي اطلع فيما يظهر على تقارير الأسقف هوسيوس، ولا يخفى أن هوسيوس انتدب للتحقيق في قضية آريوس قبيل انعقاد المجمع المسكوني الأول، وأنه أصغى لكل من الأسقف ألكسندروس والقس آريوس.
وجل ما يجوز قوله عن مذهب آريوس أنه كان فيما يظهر محاولة جديدة لتأكيد وحدانية الآب، وتخفيض منزلة الابن
Subordinationisme
والروح القدس، فالآب وحده في نظر آريوس استحق لقب الإله، أما الابن فإنه لم يكن سوى إله ثانوي منخفض في الرتبة والمنزلة، مخلوق من العدم بإرادة الآب؛ بيد أنه تميز عن سائر المخلوقات في أنه كان صورة الله الآب في جوهره
Ousia
وإرادته وقدرته ومجده، والثالوث في نظر آريوس ثلاثة في الأقنوم، ولكنهم ليسوا واحدا إلا باتفاق المشيئات.
3
ومما أخذه سوزومينس المؤرخ على آريوس أنه كان لسانيا منطيقيا متطرفا جره تطرفه هذا إلى الوقوع في الخطأ.
4
وعلم ألكسندروس بما علم به آريوس خادم كنيسة بفكاليس، وسمع اعتراض بعض المؤمنين على هذه التعاليم الجديدة، فدعا الطرفين إلى مناقشة علنية بحضوره في موضوع الخلاف، فأوضح آريوس رأيه في الآب والابن والروح القدس، واستمسك خصومه بولادة الابن من الآب قبل كل الدهور، وبمساواة الابن للآب في الجوهر، وأصغى ألكسندروس إلى كل ما قاله الطرفان، وأثنى على جميع الخطباء، ولكنه قال بولادة الابن قبل كل الدهور، وبمساواته للآب في الجوهر، وأمر آريوس أن يقول قوله ومنعه عما كان يعلم به.
5
واعتز آريوس بعلمه وبالأساقفة خارج مصر، الذين اخذوا عن لوقيانوس المعلم الأنطاكي وقالوا أقوالا مماثلة، وبين هؤلاء أفسابيوس أسقف نيقوميذية، وأفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، وباتروفيلوس أسقف بيسان، وآيتيوس أسقف اللد، وبافلينوس أسقف صور، وغريغوريوس أسقف بيروت، وثيودوتوس أسقف اللاذقية، وأثناسيوس أسقف عين زربة في قيليقية،
6
واعتز آريوس بعلمه وبهؤلاء، فرفض أمر سيده وامتنع عن الطاعة.
وعلم ألكسندروس أن أساقفة مصر يقولون قوله، فدعاهم إلى مجمع في الإسكندرية، وأطلعهم على بدعة آريوس، وكانوا مائة فشجب ثمانية وتسعون منهم قول آريوس، وامتنع عن الشجب أسقفان فقط، فقطع المجمع الإسكندري آريوس وهذين الأسقفين وستة قساوسة وستة شمامسة.
7
آريوس في فلسطين
وقصد آريوس أسقف قيصرية فلسطين أفسابيوس المؤرخ ووصل حبله بحبله، وكان أفسابيوس سيدا منظورا وعالما كبيرا، يتجه اتجاه آريوس في تفكيره، ولكنه لا يجاهر برأيه ولا يجادل، ولعله لم يدقق أمر الثالوث تدقيق آريوس، ولم يتخذ موقفا محددا من هذا الموضوع،
8
ولكن غموضه في التفكير لم يمنعه عن إسعاف آريوس، فإنه كتب إلى ألكسندروس أسقف الإسكندرية يلومه على تحريف أقوال آريوس،
9
وأشار على آريوس بالكتابة إلى أسقف نيقوميذية لتبيان موقفه، فكتب آريوس وحصر شكواه في أنه قطع لأنه لم يقل إن الابن غير مخلوق.
10
وأفسابيوس أسقف نيقوميذية رسم بادئ ذي بدء أسقفا على بيروت، ثم أصبح أسقف نيقوميذية، واتصل بقسطندية أخت قسطنطين وزوجة ليكينيوس ونال ثقتها، فشفعت له عند أخيها، فتقرب من الإمبراطور، فخف لحاجاته واهتم بشئونه.
11
آريوس في نيقوميذية
ثم أم آريوس نيقوميذية، وعمد إلى أسقفها واستحمله أموره، فنزل أفسابيوس على مقترح آريوس، ولم يدخر عنه وسعا، وحرر إلى جميع الجهات، وحض الأساقفة على تأييد آريوس، ولا يزال نص كتابه إلى بافلينوس أسقف صور محفوظا في تاريخ ثيودوريتس، وفيه من عبارات التشجيع على الجهر بالرأي ما يثبت تردد بافلينوس في بادئ الأمر وامتناعه عن مصارحة زملائه في قضية آريوس.
12
ويقول سوزومينس المؤرخ إن أفسابيوس أسقف نيقوميذية دعا إلى مجمع محلي للنظر في قضية آريوس، وإن هذا المجمع اتخذ قرارا بوجوب قبول آريوس وجماعته في الشركة، ووجوب الكتابة إلى ألكسندروس بذلك ليرفع عنهم الحرم،
13
ورأى أفسابيوس أسقف نيقوميذية أن يكتب آريوس نفسه إلى ألكسندروس مبينا عقيدته، فكتب آريوس كتابة لبقة جاء فيها أنه لم يعلم غير ما علمه ألكسندروس نفسه، وأنه حرم ما حرمه سيده ورئيسه،
14
وصنف آريوس في هذا الوقت نفسه رسالة دعاها «الثالية»
Thalia ، وضمنها آراءه في الثالوث وبدأها بمدح نفسه، فراجت في بعض الأوساط رواجا ملموسا.
15
نشاط ألكسندروس
وهب ألكسندروس للدفاع عن الإيمان القويم، فكتب إلى عدد كبير من الأساقفة خارج مصر معلنا وحدة الكنيسة الجامعة، موجبا تبادل الرأي بين الأساقفة؛ ليتألموا مع العضو المتألم ويفرحوا لفرحه،
16
مبينا موقفه وموقف المجمع المصري المحلي. ويستدل من النصوص الباقية أن ألكسندروس حرر بما تقدم ذكره إلى كل من سلفيستروس أسقف رومة، وفيلوغونيوس أسقف أنطاكية، وأفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، ومكاريوس أسقف أوروشليم، وزينون أسقف صور، وأفستاثيوس أسقف حلب، وأسكليباس أسقف غزة، ولونجينوس أسقف عسقلان، وإلى واحد وستين أسقفا آخر.
17
وتجاوزت البدعة من آريوس وزمرته إلى غيرهم، فانتشرت في سنتها الأولى في جميع الأوساط المسيحية في الشرق، وتراشق الخصمان بالقطع والحرمان، وكثرت النشرات الآريوسية والردود عليها، وجمعت مجموعات لتسهيل الاطلاع عليها،
18
ومشى أستيريوس
Asterios
السفسطي المغالط من قبدوقية إلى جميع أنحاء الشرق، يدعو إلى بدعة آريوس ويدافع عنها بالسفسطة، وكان قد ضحى للآلهة الوثنية في أثناء الاضطهاد العظيم، وتاب وأحب الالتحاق بالإكليروس، فمنع فازداد سخطا ومعارضة.
19
تدخل الغوغاء
وكان المجمع المحلي الذي انعقد في نيقوميذية قد كتب إلى ألكسندروس في الإسكندرية أن يرفع الحرم الذي وضعه على آريوس وأتباعه، فامتنع ألكسندروس عن ذلك، فاجتمع بعض الأساقفة الأنطاكيين أمثال: أفسابيوس القيصري، وبافلينوس الصوري، وباترفيلوس البيساني وغيرهم في قيصرية فلسطين، ومنحوا آريوس وجماعته حق الرجوع إلى ممارسة الأسرار،
20
فتسلح آريوس بهذا القرار، وعاد وجماعته إلى الإسكندرية، ونظم الأغاني والأهازيج وعممها؛ فحفظها أناس من جميع الطبقات وتغنوا بها، وسرت العدوى إلى السفلة، فاندفعوا يرددون هذه العبارات في الأسواق والشوارع والباحات وأماكن اللهو.
21
موقف الإمبراطور قسطنطين
وكان قسطنطين قد عانى الأمرين في سعيه للوصول إلى العرش وفي توحيد الإمبراطورية، وكانت موقعة خريسوبوليس التي فصلت في الخلاف بينه وبين ليكينيوس لا تزال قريبة العهد جدا (18 أيلول 324)، فلما علم الإمبراطور بالخلاف بين آريوس وبين رئيسه ألكسندروس، وبتطور هذا الخلاف وتأزمه، تألم وغضب، واستشار في هذا الأمر صديقه القديم الشيخ التقي هوسيوس
Hossius
أسقف قرطبة الإسبانية، ولم يدرك هوسيوس أهمية النزاع العقائدي وصلته بألوهية السيد المخلص، ولا غرو في ذلك فإن معظم أساقفة الغرب كانوا لا يزالون بعيدين عن تفهم هذه الأمور، لقلة تضلعهم في الفلسفة واللاهوت، فقر قرار الصديقين على الكتابة إلى ألكسندروس وآريوس، وعلى قيام هوسيوس بنفسه إلى الإسكندرية للتحقيق في القضية الماثلة وإدلاء النصح للطرفين وحلها حبيا؛ وخلاصة الرسالة الإمبراطورية التي حملها هوسيوس إلى الإسكندرية ألا فائدة من المشادة حول اللغو في الكلام، وأن إقرار السلم أهم بكثير من مثل هذه المشادات، وأن الواجب يقضي بتساهل الطرفين للوصول إلى حل مرض،
22
وقد اختلف رجال الاختصاص في أصالة هذه الرسالة، فمنهم من قال بأنها مزورة، وأنها دست دسا في أوائل عهد قسطنس الثاني،
23
ومنهم من يراها صحيحة غير مزورة.
24
ووصل هوسيوس إلى الإسكندرية، فوجد الأساقفة مجتمعين للنظر في بعض الأمور المحلية، منها قضية كولوثوس الذي اغتصب الأسقفية اغتصابا، ومنها مشكلة الكاهن أسخيراس الذي رسمه كولوثوس، ولا بد وأن تكون قضية آريوس قد بحثت أيضا، ولكننا لا نعلم الشيء الكثير عن أعمال هذا المجمع، وجل ما نعلمه هو أن هوسيوس اتصل بأسقف الإسكندرية وبآريوس، وأنه عاد إلى نيقوميذية فتبعه إليها كل من ألكسندروس وآريوس، وأن ألكسندروس أقلع إلى نيقوميذية بحرا، فوصل إليها قبل آريوس الذي آثر طريق البر.
25
مجمع في أنطاكية (324-325)
وتوفي فيتاليوس أسقف أنطاكية في السنة 319، فخلفه كما سبق وأشرنا فيلوغونيوس، وكان فيلوغونيوس محاميا «له مع عباد الله معاملة جميلة ومروءة ظاهرة ومعدلة فاشية»، فرفع بعد وفاة زوجته إلى السدة الرسولية، وانصرف إلى خدمة الكنيسة بخوف الله وورعه، وأتم بناء الكنيسة القديمة، وعاد بعدد وافر من الجاحدين إلى حظيرة الخلاص، وقاوم اضطهاد ليكينيوس، وتحمل الضيق والشدة فاعتبر معترفا، وأحزنه أمر آريوس فبذل وسعه في محاربة هذه البدعة، وراسل ألكسندروس الإسكندري مثبتا، ثم رقد بالرب يسوع في الرابع والعشرين من كانون الأول سنة 324.
26
وما إن طويت صحيفة هذا الرجل الصالح وخلا مكانه، حتى انتشر الصوت به في الأوساط المستقيمة الرأي، فهرع الأساقفة إلى أنطاكية للتشاور في أمر الخلافة الرسولية، فاجتمع في عاصمة النصرانية ستة وخمسون أسقفا من فلسطين والعربية وفينيقية وسورية وإسورية وقبدوقية برئاسة أفسابيوس الأسوري، فتشاوروا في أمر آريوس وبدعته، وسلموا عكاز الرعاية في أنطاكية إلى أفستاثيوس (325-330) أسقف حلب، الذي كان قد اشتهر بصحة عقيدته وتأييده لألكسندروس الإسكندري، واتخذوا لمناسبة البحث في بدعة آريوس قرارا جاء فيه أنهم يقولون بإله فائق القدرة أزلي لا يتغير، خالق السماء والأرض وكل ما يوجد، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور؛
27
واعترض على هذا القول ثلاثة من الأساقفة المجتمعين؛ أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، وثيودوتوس أسقف اللاذقية، ونرقيس أسقف بانياس
Neronias
إحدى المدن العشر، فقطعهم المجمع لمدة معينة، ثم أقر نص الرسالة السلامية، ووجهها إلى أسقف رومة وغيره من رؤساء الكنائس الشقيقة، وإلى عدد كبير من الأساقفة.
28
ويرى بعض رجال الاختصاص أن كنيسة أنطاكية سبقت غيرها من الكنائس إلى فكرة المجامع المسكونية، وأن هذا المجمع الأنطاكي نفسه اقترح دعوة أساقفة الشرق وآسية الصغرى ومصر والغرب إلى مجمع مسكوني يجلس في أنقيرة للبت في قضية آريوس، وإخراج الكنيسة الجامعة من الورطة التي وقعت فيها، ويستند هؤلاء العلماء في رأيهم هذا إلى نص العبارات التي قطع بها الأساقفة الثلاثة، فقد أتاح نص القطع التوبة أمام مجمع كبير في أنقيرة.
29
وجاء في بعض المراجع الأولية أن الفضل في التفكير بمجمع مسكوني يعود إلى ألكسندروس الإسكندري،
30
وينسب أفسابيوس المؤرخ هذا الفضل إلى الإمبراطور قسطنطين نفسه،
31
ولكن روايته هذه مجروحة ينقصها شيء كثير من العدل؛ نظرا لعلاقة أفسابيوس الشخصية بآريوس والآريوسية.
مجمع نيقية (325)
ودعا قسطنطين جميع الأساقفة من جميع أنحاء الإمبراطورية إلى التشاور وتبادل الرأي، وعين مكان الاجتماع في نيقية لا في أنقيرة، ورأى أن تبديل المكان ضروري لأسباب، منها: أن مناخ نيقية ألطف من مناخ أنقيرة، وأن نيقية أقرب إلى نيقوميذية مقر حكمه، وأن الوصول إليها أسهل على أساقفة الغرب وأوروبة من الوصول إلى أنقيرة. ولا يزال بعض ما كتبه الإمبراطور في هذا المعنى محفوظا حتى يومنا هذا،
32
ولا نعلم السبب الذي حدا بالأساقفة المجتمعين في أنطاكية إلى تعيين أنقيرة مكانا للاجتماع، ولعله قربها كمركز أنطاكي كنسي من نيقوميذية، وشهرة أسقفها مركلوس
Marcellus
وصموده العنيف في وجه آريوس وأتباعه.
ومثل الكنائس عدد غفير من الأساقفة من: سورية، وقيليقية، وفينيقية، والعربية، ومصر، وليبية، وما بين النهرين، وأسكيثية، والبونط، وغلاطية، وبمفيلية، وقبدوقية، وفريجية، وتراقية، ومقدونية، وآخية، وأبيروس، وإيطالية، وغالية، وإسبانية، وأفريقية الشمالية،
33
وتختلف المراجع في عدد الأساقفة المجتمعين، فإنهم مائتان وسبعون في رواية أفستاثيوس أسقف أنطاكية،
34
وثلاثمائة في عرف أثناسيوس الإسكندري، وبعد السنة 360 جعل عددهم ثلاثمائة وثمانية عشر ليتساووا «وغلمان إبراهيم المتمرنين»،
35
وكان معظمهم من الولايات الشرقية.
ويستدل مما تبقى من آثار هذا المجمع المسكوني الأول أن ثمانين أسقفا أنطاكيا أو أكثر أيدوا قراراته، وأنهم جاءوا من ولايات (أبرشيات) سورية وفينيقية وفلسطين والعربية وما بين النهرين وقيليقية وإسورية وقبرص،
36
وأشهر الأساقفة الأنطاكيين الذين اشتركوا في أعمال المجمع: أفستاثيوس أسقف أنطاكية العالم اللاهوتي، ومكاريوس أسقف أوروشليم، وأفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين العالم المؤرخ والخطيب المفوه، ويعقوب أسقف نصيبين الناسك الورع المتوشح بجلد الماعز، وإسبيريدون الراعي أسقف قبرص، الذي ذهبت له في الحلم والدعة شهرة طائلة، وتوما أسقف مرعش المعترف الذي شوهت أعضاؤه وحبس نحوا من عشرين سنة، وبولس أسقف قيصرية الجديدة الذي يبست أعصاب يديه من جراء تعذيبه بالحديد الحامي، وماركوس العالم أسقف أنقيرة.
37
ولم يستطع سيليفستروس أسقف رومة الحضور لشيخوخته، فناب عنه قسيسان رومانيان وأسقف كلابرية، وحضر ألكسندروس أسقف الإسكندرية وشماسه أثناسيوس الشهير، كما حضر ألكسندروس أسقف القسطنطينية، وأفسابيوس أسقف نيقوميذية، وكثير من أجلاء الأساقفة الذين فاح عبير قدسهم، وحضر أيضا آريوس بنفسه.
38
واجتمع الآباء الأجلاء في اليوم العشرين من أيار من شهور السنة 325،
39
في بهو كبير في البلاط، وجلسوا في الأماكن المخصصة لهم إلى اليمين وإلى اليسار، وباتوا ينتظرون وصول الإمبراطور منصتين، ثم أعطيت الإشارة بوصوله فانتصبوا احتراما وإجلالا، ودخل قسطنطين بالأرجوان والذهب ووراءه بعض أفراد الحاشية من المسيحيين، ولما وصل إلى المكان الذي أعد له، شاء ألا يجلس قبل جلوس الأساقفة، وأمرهم بذلك فامتثلوا.
40
وتختلف الروايات فيمن رأس المجمع، فالكاتب الذي رتب فصول كتاب أفسابيوس في حياة قسطنطين يرى أن أفسابيوس نفسه ترأس المجمع،
41
ويخيل للقارئ أن القديس أثناسيوس أراد أن يقول إن هوسيوس أسقف قرطبة تبوأ أول المراكز،
42
ولكن ثيودوريطس المؤرخ يعطي الرئاسة لأفستاثيوس أسقف أنطاكية،
43
ولعل هذا القول أقرب إلى الحقيقة من سواه؛ لأنه أوضح من غيره، ولأن أسقف أنطاكية كان أهم الأساقفة المجتمعين، ولا سيما وأن أسقف رومة لم يحضر بشخصه، وأن ألكسندروس أسقف الإسكندرية كان أحد الخصمين المتداعيين،
44
بيد أنه لا بد من الإشارة إلى أن اسم هوسيوس جاء في طليعة أسماء الموقعين.
45
وتوسط الإمبراطور مجلس الآباء على كرسي من ذهب، ونهض رئيس المجمع، فشكر الإمبراطور عنايته بالكنيسة، فرد عليه الإمبراطور شاكرا «لملك الكون» نعمه الكثيرة، ولا سيما تلك التي أتاحت له أن يرى الأساقفة مجتمعين بفكر واحد وقلب واحد، وذكر بعد ذلك أنه بقدرة «الملك المخلص» تمكن من القضاء على الطغاة الذين قاوموا الله، وأكد أنه يعتبر كل شغب في داخل الكنيسة مساويا في الخطر لحرب كاملة.
46
ونقل خطاب الإمبراطور من اللاتينية إلى اليونانية، وشرع الآباء فور الانتهاء من ترجمة هذا الخطاب إلى بحث القضايا الماثلة؛ ويرد رجال الاختصاص قول أفسابيوس المؤرخ إن الإمبراطور تدخل مرارا في البحث لإقرار السلم والوفاق،
47
ولا يقرون قول روفينوس إن بعض الفلاسفة الوثنيين حضروا الجلسات وناقشوا الأساقفة.
48
ويستبعد رجال الاختصاص أيضا تدخل أثناسيوس شماس ألكسندروس الإسكندري في البحث، ويميلون إلى الاعتقاد بأن الأساقفة وحدهم تباحثوا وتشاوروا، ثم اتخذوا القرارات اللازمة.
49
وبحث الآباء بدعة آريوس، واستمعوا إلى بعض ما جاء في كتابه «الثالية»، فسدوا آذانهم نافرين،
50
ولم يحضروه ولم يستنطقوه، وأول من قال باستحضاره روفينوس وقوله ضعيف مردود، وأيد آريوس من وراء الستار عشرون أسقفا أشهرهم: أفسابيوس أسقف نيقوميذية، وأفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، وثيودوتوس أسقف اللاذقية، وأثناسيوس أسقف عين زربة، وغريغوريوس أسقف بيروت،
51
ولكن الجميع اعترفوا بأن ابن الله هو إله حق، واختلفوا في تفسير هذا الكلام وتحديده، فقال بعضهم بوجوب الاكتفاء بتعبير الآباء السابقين، وقال آخرون بوجوب التدقيق في قول هؤلاء الآباء السابقين وتحديد التعبير.
52
وانتهز أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين هذه الفرصة، فعرض قانون إيمان كان يتلى في كنيسته عند ممارسة سر المعمودية، وترجى قبوله والموافقة عليه، ولعل هذا القانون نفسه هو من اجتهاد ألكسندروس الإسكندري وهوسيوس،
53
أو من صياغة هيرموغونيوس أسقف قيصرية قبدوقية،
54
ولكن الآباء أبوا أن يقبلوه كما كان، فأدخلوا عليه بعض العبارات للضبط والتوضيح، فأوجبوا القول بأن ابن الله مولود من جوهر الآب، وأنه إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساو للآب في الجوهر. ويرى بعض رجال الاختصاص أن هوسيوس اقترح إدخال العبارة «مساو للآب في الجوهر»، فأيده في ذلك كل من أفستاثيوس أسقف أنطاكية وماركلوس أسقف أنقيرة،
55
ووافق قسطنطين على رأي الأكثرية الساحقة، فجاء نص قانون الإيمان النيقاوي كما يلي:
نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد مولود من الآب، أي من جوهر الآب إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر الذي به كان كل شيء، ما في السماء وما على الأرض، الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل وتجسد وتأنس وتألم، وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء، وسيجيء ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس.
56
وألحق الآباء بهذا القانون العبارات التالية: «أما أولئك الذين يقولون إنه كان زمن لم يكن فيه، وأنه لم يكن قبل أن يولد، وأنه صار من العدم، أو من أقنوم آخر ، أو جوهر آخر، أو أن ابن الله مخلوق أو متغير أو متحول، فهؤلاء جميعهم تفرزهم الكنيسة.» وحرم الآباء آريوس وأتباعه، فأيدهم قسطنطين في ذلك، وحكم على آريوس بالإبعاد والنفي.
ثم نظر المجمع في أمر عيد الفصح، فإن كنيسة أنطاكية كانت تجاري اليهود في حسابهم لتعين الرابع عشر من نيسان، وبالتالي اليوم الذي يقع فيه عيد الفصح، وكانت السنة اليهودية تتألف من اثني عشر شهرا قمريا في السنين البسيطة، ومن ثلاثة عشر شهرا في السنين الإضافية، وكانت سنتهم الإضافية تعود سبع مرات في مدة تسعة عشر عاما، وكانوا يزيدون في هذه السنوات الإضافية «أمبوليسمية» شهرا آخر مؤلفا من تسعة وعشرين يوما، يسمونه «وآذار» أي آذار الثاني، لتقريب السنة القمرية من السنة الشمسية، وكانت كنيسة الإسكندرية قد غضت النظر عن حساب اليهود، واتخذت لنفسها قاعدة خاصة جعلت عيد الفصح يقع بعد أول بدر بعد اعتدال الربيع في الحادي والعشرين من آذار، ونتج عن تشبث كل من الكنيستين الشرقيتين بطريقتها الخاصة فرق في موعد عيد الفصح؛ فقد يسبق عيد الفصح الأنطاكي العيد نفسه الإسكندري بشهر كامل. وبعد أن أصغى أعضاء المجمع إلى حجج الفريقين أقروا وجوب الاحتفال بهذا العيد العظيم في يوم واحد في جميع الكنائس، وأوجبوا اتباع قاعدة الإسكندرية ورومة.
57
وسن المجمع المسكوني الأول عشرين قانونا لنظام الكنيسة، فقضى القانون الثامن بقبول النوفاتيين في الكنيسة الجامعة، شرط أن يعترفوا كتابة بعقيدة الكنيسة، وأن يشاركوا ذوي الزيجة الثانية والساقطين في الاضطهاد، وقضى هذا القانون نفسه بالاعتراف برسامة هؤلاء وبأسقفية أساقفتهم الرسمية إذا رضي بذلك أسقف الأبرشية الأرثوذكسي، وأجاز القانون التاسع عشر عودة أتباع بولس السميساطي إلى حضن الكنيسة شرط اعتمادهم ثانية، وأوجب الاعتراف برسامة هؤلاء فور الانتهاء من تعميدهم.
58
وأوجب القانون الأول قطع الإكليريكي الذي يجب نفسه، وعدم انتداب أي علماني لممارسة الكهنوت ما لم يكن قد جبه الأطباء لمرض أو شوهه المضطهدون، ومنع القانون الثاني قبول الحديثين في الإيمان في مصاف الإكليريكيين. وقضى التاسع والعاشر برفض الكهنة الذين رسموا بغير فحص أو خلافا للقانون، وبقطع الذين جحدوا الإيمان ورسموا دون أن يعرف بذلك راسموهم.
وبحث المجمع في القوانين: الثالث، والثالث عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر؛ في تصرفات رجال الإكليروس، فقضى الثالث ألا يساكن الأسقف أو القسيس أو الشماس امرأة غير والدته أو شقيقته أو خالته أو عمته أو من لا تدور حولها أية شبهة، وأوجب الثالث عشر مناولة الذين يطلبون القربان المقدس وهم في حالة الاحتضار، ومنع الخامس عشر والسادس عشر الإكليروس من مغادرة كنائسهم والانتقال إلى كنيسة أخرى، وأوجب بطلان الرسامة التي يقلدها أسقف شخصا من كنيسة أخرى دون موافقة أسقفها، ومنع السابع عشر الإكليروس عن الاتجار بالمال بالربى، وحرم الثامن عشر جلوس الشمامسة بين الكهنة وتقديم القربان لهم.
وحض القانون الرابع على اشتراك جميع أساقفة الأبرشية في سيامة أسقف من الأساقفة، وأجاز سيامته من ثلاثة معا بعد موافقة الغائبين، وأوجب موافقة المتروبوليت وتصديقه، وقضى القانون الخامس عدم قبول الممنوعين من الشركة في الأبرشية الواحدة في شركة أبرشية أخرى، وأوجب لهذه المناسبة التئام أساقفة الأبرشية في مجمع محلي مرتين في كل سنة في الربيع وفي الخريف.
وجاء في القانون السادس «بأن تكون السلطة في مصر وليبية والمدن الخمس لأسقف الإسكندرية؛ لأن هذه العادة مرعية الإجراء للأسقف الذي في رومة أيضا، وعلى غرار ذلك فليحفظ التقدم للكنائس في أنطاكية وفي الأبرشيات الأخرى.» وجاء في القانون السابع: «أنه جرت العادة والتسليم أن يكون الأسقف الذي في إلية أي أوروشليم ذا كرامة، فلتكن له المتبوعية في الكرامة.»
وختم المجمع أعماله في التاسع عشر من حزيران السنة 325، ووافق هذا التاريخ أو كاد يوافق إكمال السنة العشرين لتسلم قسطنطين أزمة الحكم، فدعا الإمبراطور الأساقفة إلى مأدبة كبيرة في قصره،
59
ثم حضر حفلة الختام وألقى فيها كلمة، حض بها الأساقفة على التفاهم والسلم والمحبة، وعلى التعاضد في نشر الإيمان بين الوثنيين،
60
وقدم لهم الهدايا كل بقدر استحقاقه، وأمر بتوزيع الحنطة على الكنائس لسد رمق الفقراء والمساكين.
تدمير هيكل أفقا (325)
وأمر قسطنطين بتهديم المعابد الوثنية التي اشتهرت بفسقها كما سبق وأشرنا، «فعلم بما نصبه إبليس من الأشراك في فينيقية لصيد النفوس، فوجد من ذلك على هضاب لبنان في موضع قفر لا تطرقه السابلة، معبدا تحدق به غيضة، وكان المعبد قد أقيم لبعض الأصنام الدنسة يدعى الزهرة، يتوارد إليه البغايا وأهل الفجور، فأضحى بذلك أشبه بماخور منه بمعبد ديني، ولم يتجاسر أحد من أهل الفضل أن يدخل إليه ليتحقق صحة ما تتناقله الألسن، بيد أن قسطنطين وقف على حقيقة الأمر، فرأى من أخص واجباته أن يقوض أركان ذلك الزون النجس، فأمر عماله بأن يهدموا ذلك المقام ويكسروا أصنامه، ويتلفوا ما حمل إليه من الهدايا النفيسة، فأرسلت إلى أفقا فئة من الجند نفذوا أوامر الملك ولم يبقوا ولم يذروا، وكان ذلك في السنة 325، أما سكان أفقا فأمروا بأن يبارحوا مساكنهم فاستوطنوا بعلبك.»
61
اكتشاف الصليب المقدس (326)
وقام قسطنطين في مطلع السنة 326 إلى رومة؛ ليحتفل فيها كما احتفل في نيقوميذية بعيده العشرين، وكانت والدته القديسة هيلانة قد استقرت في رومة، وتمتعت بلقب أوغسطة، وأثرت ثراء كبيرا، فعزمت في هذه السنة على القيام برحلة إلى فلسطين للتبرك بزيارة الأماكن المقدسة، فغادرت رومة في أواخر الصيف، واتجهت شطر فلسطين بحرا، وكان قسطنطين قد فاوض مكاريوس أسقف أوروشليم في إقامة كنيسة لائقة بالسيد المخلص في جلجثة تكون أفضل الكنائس، فاستحثت القديسة الأسقف على إتمام هذا العمل، وكان قد سبق للنصارى أن أقاموا في القرن الثالث بناء مثمن الأضلاع والزوايا، فوق المذود الذي ولد فيه السيد في بيت لحم، فأضافت هيلانة إلى هذا المثمن بازيليقة فخمة، وفعلت مثل هذا عند كهف الصعود.
وعند انتهاء القرن الرابع بدأ النصارى يتناقلون خبرا، مؤداه أن القديسة هيلانة بعد تفتيش دقيق وعناء شديد وجدت ثلاثة صلبان في جلجثة، وأنها أحبت أن تتعرف إلى صليب السيد منها، فلمست بها جسد مريض شاب، وانتقت منها ذاك الذي شفى المريض. ومما تنوقل أنها لدى عودتها أذابت مسامير الصليب في معدن خوذة قسطنطين ابنها، والآخر في لجام حصانه، كما أنها وزعت عود الصليب على كنائس عدة .
62
حقد الآريوسيين ومجمع أنطاكية (330)
ولم يتمكن المجمع المسكوني الأول من استئصال بذور الشقاق، فإنه عندما عاد بعض الأساقفة أعضاء المجمع المسكوني الأول إلى أبرشياتهم، وزال جو أكثرية الأعضاء، شعروا بشيء من الحرية، فعادوا إلى الكلام عن المساواة في الجوهر، وأولوا نص الإيمان النيقاوي، وجرؤ ثيودوتوس أسقف اللاذقية على مثل هذه الأقاويل أكثر من غيره، وعلم قسطنطين بذلك فكتب إلى ثيودوتوس في خريف السنة 325 يبين له سوء العاقبة، ويحضه على الاستمساك بالإيمان الطاهر؛ ليحظى بالمكافأة في الحياة الأبدية،
63
وحرر رئيس كنيسة أنطاكية أفستاثيوس الورع إلى أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، يؤنبه على التبديل بعقيدة نيقية، فغضب أفسابيوس وكتب إلى خليفة الرسولين يتهمه بالسبلنة
Sabellianisme ؛ أي بالقول بما قال به سبيليوس الكافر، الذي جحد بالثالوث الأقدس فقال بأن الله أقنوم واحد،
64
وذلك لتمسك أفستاثيوس بالمساواة في الجوهر.
وكان أفسابيوس أسقف نيقوميذية مقبول الشفاعة في بلاط نيقوميذية، فإن صوزومينس المؤرخ يقول إن قسطندية أخت قسطنطين أوصت أخاها، وهي على فراش الموت بكاهن آريوسي كان قد أصبح معلم ذمتها، وإن هذا الكاهن قدم أفسابيوس إلى قسطنطين،
65
وكانت هيلانة أم قسطنطين من بنات دريبانوم
Derpanum
في بيثينية، وكانت بلدة دريبانوم قد أصبحت مثوى لوقيانوس الشهيد، وكان قبره قد أصبح مزارا فيها، وكانت هيلانة شديدة العناية بهذا المزار، وكان أفسابيوس أسقف نيقوميذية أحد تلامذة هذا الشهيد كما سبق وأشرنا، وشاركه في التلمذة ثيويغينس أسقف نيقية، فلما أمر قسطنطين بإبعادهما إلى غالية لتمسكهما بآراء آريوس، شفعت هيلانة لهما عند ابنها، فقبل شفاعتها وأعادهما إلى مراكزهما في السنة 328.
66
وما إن عاد أفسابيوس إلى أبرشية نيقوميذية وتسلم مقاليد أمورها، حتى استأنف نشاطه، وخرج يسعى لتعليم مبادئه، وكان عالي الهمة، ماضي العزيمة، ذا علم ودراية وحنكة ومراوغة، فتحاشى الطعن المباشر في دستور نيقية، ولم يتلفظ بشيء من عبارات آريوس، ولكنه ذكر المؤمنين بسبيليوس وهرطقته وتخوف من الوقوع فيها، وأشار بلطف زائد إلى وجه التشابه بين عقيدة نيقية والقول بالمساواة في الجوهر، وبين قول سبيليوس بأن الله أقنوم واحد لا ثلاثة.
وكان أفستاثيوس رئيس كنيسة أنطاكية عالما لاهوتيا كبيرا درس في أنطاكية، فأصبح أحد مصابيحها النيرة، ثم صار أسقفا لحلب، فجاهد في سبيل الإيمان في إبان الاضطهاد العظيم، وجلس على كرسي أنطاكية في أوائل السنة 325، فقاوم الآريوسية وكتب ضدها، وظهرت عظمة جهاده في المجمع النيقاوي، فترأس جلساته
67
وأصبح في نظر الآريوسيين أول أعدائهم وأشدهم خطرا، فرأى أفسابيوس النيقوميذي أن يبدأ بتحطيم هذه الشخصية الكبيرة، فزار أنطاكية في السنة 330 بحجة رؤية كنيستها الجديدة المذهبة، ورافقه في زيارته هذه شريكه في الآريوسية والمنفى ثيوغينس أسقف نيقية، فرحب بهما أفستاثيوس وزار معهما جميع الكنائس والأماكن الأثرية في أنطاكية، ولم يدر بمكرهما، فانتهزا فرصة وجودهما في أنطاكية للاجتماع بزعماء الآريوسية فيها وتدبير المكيدة على خليفة الرسولين،
68
ثم غادرا أنطاكية إلى أوروشليم، واجتمعا بأفسابيوس أسقف قيصرية، وباتروفيلوس أسقف بيسان، وآيتيوس أسقف اللد، ولا بد وأن يكونا قد اجتمعا أو اتصلا بثيودوتوس أسقف اللاذقية، وقر قرارهم على اجتماع أسقفي في أنطاكية للحط من قدر أفستاثيوس وتنزيله عن كرسيه الرسولي، وتوافدوا على عاصمة النصرانية في الشرق واجتمعوا، فاتهم كيروس أسقف حلب رئيسه بالسبلنة واتهمه غيره بالفجور، وكانوا قد تآمروا في ذلك مع امرأة كان قد فجر بها رجل يدعى أفستاثيوس الحداد، وحل بهذه المرأة مرض وبيل واشتدت وطأته عليها، فكشفت سر المؤامرة ولكن بعد فوات الفرصة. ومما قاله هؤلاء المتآمرون عن هذا الحبر الجليل أنه انقبض عن هيلانة والدة قسطنطين لدى مرورها بأنطاكية؛ لأنها أكرمت لوقيانوس الشهيد المدفون في بلدتها، واتخذوا قرارا بخلعه ورفعوه إلى قسطنطين، فنفاه الإمبراطور إلى تريانوبوليس في تراقية في طبقة من القسوس والشمامسة، ثم أمر بنقله إلى فيليبي، وبقي فيها حتى انطلقت نفسه الزكية في السنة 337.
69
وتحلى أفستاثيوس بالدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية، فصنف كتابا في قمع الآريوسية، ودبج رسالات في تفسير الأيام الستة والمزامير والنفس، ولم يبق من مصنفاته سوى رسالته في عرافة عين دور، وفيها يفند هذا العلامة الصالح رأي أوريجانس ويدحض طريقته الرمزية،
70
وأعجب بعض الآباء بتوقد خاطره وسلاسة إنشائه.
71
وجاء في الدرر النفيسة لغبطة البطريرك أغناطيوس أفرام عن ابن كيفا أن أفستاثيوس وضع ليتورجية مطولة.
بافلينوس وإفلاليوس
وقام مكان أفستاثيوس بافلينوس
أسقف صور، وصديق أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، ولكنه توفي بعد ستة أشهر (330-331)،
72
وجاء بعد بافلينوس إفلاليوس
Eulalios ، فخلا مكانه في السنة الثانية أو الثالثة من ولايته.
73
تدخل قسطنطين
وكان لأفستاثيوس القديس الجليل أنصار كثيرون في أنطاكية نفسها وفي الأبرشيات التابعة لها، وكان له أيضا أعداء متعصبون، وأبى أتباعه الانقياد إلى الرؤساء الآريوسيين، فاعتزلوهم برئاسة القس بافلينوس وصلوا في الكنيسة القديمة.
فلما خلا مكان إفلاليوس (332) ازداد الشقاق في الكنيسة، وتعقدت الأمور فأصبح من الصعب جدا إيجاد خلف يرضي به جمهور الشعب، فتدخل الإمبراطور، وكتب إلى صديقه أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين أن يتولى أمور كنيسة أنطاكية، وكان أفسابيوس كما سبق وأشرنا ملقا مصانعا، فداور الإمبراطور والكنيسة معا، وتظاهر بالمحافظة على القانون الكنسي الذي منع انتقال الأساقفة من أبرشية إلى أبرشية أخرى واعتذر، فقبل قسطنطين اعتذاره وشكر له تواضعه، وكتب إلى الأساقفة مقترحا انتخاب القس جاورجيوس خادم كنيسة الرستن
Arethusa
وإفرونيوس
Euphronios
خادم كنيسة قيصرية قبدوقية، وكان الأول قد وقع تحت حرم صدر عن ألكسندروس الإسكندري، أما الثاني فإنه انتمى آنئذ إلى جماعة اليسوبيين أعداء نيقية المتسترين، فانتخب الأساقفة إفرونيوس (333) أسقفا على أنطاكية ورئيسا لكنيستها.
74
بدء المشادة بين الكنيسة والدولة
وعلى الرغم من الانقسام الذي حل في كنيسة أنطاكية حول قضية آريوس والآريوسية، وحاجة الطرفين المتخاصمين إلى السلطة المدنية العليا، فإن أساقفة أنطاكية تخشوا تدخل هذه السلطة في شئون الكنيسة وتوجسوا خوفا، واتخذوا في السنة نفسها التي أقاموا فيها إفرونيوس رئيسا عليهم قرارات من شأنها وضع حد لهذا التدخل، والإشارة هنا إلى القوانين الأنطاكية الخمسة والعشرين، التي كانت تعتبر فيما مضى من أعمال مجمع التكريس الأنطاكي (341)؛ فالقانون الرابع من هذه القوانين يمنع كل مجمع لاحق من إعادة أسقف إلى منصبه إذا سبق لهذا الأسقف أن حرم من مجمع سابق، وظل يمارس صلاحياته على الرغم من هذا الحرم، والقانون الحادي عشر يمنع كل إكليريكي من رفع قضاياه إلى الإمبراطور بدون موافقة أساقفة الأبرشية ومتروبوليتها، والقانون الثاني عشر يوجب على الأساقفة الذين يقعون تحت حرم مجمع ألا يزعجوا الإمبراطور برفع قضيتهم إليه، فإن فعلوا ارتكبوا ذنبا لا يغتفر، وأضاعوا كل أمل في العودة إلى مناصبهم، وعلى الرغم من أنه ليس في هذه القرارات ما يمنع المجامع من عرض أمورهم على مسامع الإمبراطور، فإن هذه القرارات تعتبر بحق أول خطوة رسمية نحو استقلال الكنيسة في إدارة شئونها.
75
عودة آريوس من المنفى
وفي خريف السنة 334 كتب قسطنطين إلى آريوس نفسه يدعوه إلى المثول بين يديه، ويؤكد استعداده لإعادته إلى وطنه،
76
فعاد آريوس ومثل بين يدي الإمبراطور، وأكد «أرثوذكسيته» واعترف أن الابن مولود من الآب قبل كل الدهور، ولكنه لم يقل شيئا عن المساواة في الجوهر
Homoousios ، ثم التمس قبوله في الكنيسة، فأحاله الإمبراطور على مجمع ينعقد في صور.
77
مجمع صور (335)
وتوفي ألكسندروس أسقف الإسكندرية في الثامن عشر من نيسان سنة 328، وخلفه في الرئاسة أثناسيوس القديس، وكان ملاتيوس زعيم المعارضة في كنيسة مصر قد توفي أيضا وخلفه في المعارضة يوحنا أرقف
Arkaph ، وكان يوحنا من أبرع سماسرة الشقاق وتجار الفساد، فاندس إلى الإمبراطور وتناول أثناسيوس عنده وادعى أن أسقف الإسكندرية فرض على المؤمنين الضرائب، وأمد فيلومينوس الخائن بالمال، وأنه أمر بكسر كأس الأفخارستية الذي كان يمارس السر به الكاهن أسخيراس؛
78
ويرى رجال البحث أن أفسابيوس النيقوميذي مسئول عن هذا الشغب، وأنه هو الذي أزكى نار الشقاق في مصر بعد وفاة ألكسندروس وملاتيوس،
79
واستدعى قسطنطين أسقف الإسكندرية إليه، فذهب أثناسيوس إلى نيقوميذية ورد هذه التهم، فاقتنع الإمبراطور وأعاد الأسقف إلى كنيسته قبيل فصح السنة 332، وفي أواخر السنة 333 أو أوائل السنة 334 عاد يوحنا أرقف وأتباعه إلى المشاغبة، فاتهموا أثناسيوس بقتل أرسانيوس أحد أساقفتهم، فأوفد قسطنطين أخاه دلماتيوس للتحقيق في هذا الحادث المزعج، وقام دلماتيوس بالمهمة الموكولة إليه، فوجد أرسانيوس حيا في أحد الأديرة، ونظر في قضية كأس الأفخارستية، واتصل بأسخيراس نفسه، فنفى أسخيراس الخبر وكتب أن شيئا من هذا لم يحدث،
80
واغتبط قسطنطين بما ثبت، وكتب إلى أثناسيوس يهنئه ويعنف المشاغبين ويوجعهم لوما،
81
وكان الإمبراطور قد دعا الأساقفة إلى مجمع في قيصرية فلسطين في ربيع هذه السنة نفسها (334)، فلما ثبتت براءة أثناسيوس كتب إلى الأساقفة أن يعودوا إلى مراكز أبرشياتهم.
وقربت السنة 335 فأحب الإمبراطور أن يحتفل فيها بمرور ثلاثين عاما على تسلمه أزمة الحكم، ورأى أن كنيسة القيامة
Anastasis
التي كان قد أمر بإنشائها قد تم بناؤها على أكمل وجه، وكاد يلمس سلما في الكنيسة الجامعة، ولم يبق في نظره من عقبة في سبيل هذا السلم سوى التفاهم بين آريوس وأثناسيوس، فدعا إلى مجمع كبير في صور للنظر في موقف هذين الزعيمين في صيف السنة 335، وأمر بانتقال الأساقفة بعد الانتهاء من أعمالهم إلى أوروشليم ليحتفلوا بمرور الثلاثين عاما، وليتوجوا هذا الاحتفال بتكريس كنيسة القيامة ورفع الصليب المقدس فوقها.
82
وكان قد توفي إفرونيوس أسقف أنطاكية في السنة 333، فخلفه فلاكيلوس
Flacillus
صديق أفسابيوس القيصري، فقام فلاكيلوس إلى صور، واجتمع حواليه عدد من الأساقفة أخصام أثناسيوس وأركان الآريوسية، أمثال: أفسابيوس النيقوميذي، وأفسابيوس القيصري، وثيوغنيس النيقاوي، وماريس الخلقيدوني، ودعي إلى الاجتماع مع هؤلاء الغلاة عدد من الأساقفة المحايدين أمثال ألكسندروس أسقف ثسالونيكية، فبلغ عدد الجميع ستين أسقفا، وأم أثناسيوس صور على رأس وفد مصري مؤلف من تسعة وأربعين أسقفا، فلم يسمح لهم بالاشتراك في الأعمال،
83
ومثل قسطنطين القومس فلافيوس ديونيسيوس، وحافظ على النظام عدد من الجند.
84
واتهم الملاتيوسيون أثناسيوس بأمور، أهمها: عبثه بكأس الأفخارستية، وضغطه على الإكليروس، وعسفه وجوره. وأراد بعض الأساقفة أعضاء المجمع أن يجعلوا من قضية كأس الأفخارستية تهمة أساسية، فاقترحوا إيفاد لجنة إلى مصر للتحقيق في هذه القضية، فقبل أثناسيوس بذلك شرط ألا تؤلف هذه اللجنة من أخصامه، ولكن المجمع أبى أن يصغي لهذا الرجاء، وأوفد إلى مصر أساقفة آريوسيين منذ اللحظة الأولى، وأجرت اللجنة تحقيقا مغرضا، وقدمت تقريرا مكدرا مؤلما؛
85
ويلوح لبعض رجال الاختصاص أن حرص أثناسيوس على العقيدة الصالحة واندفاعه في سبيلها، أخرجاه في بعض الأحيان عن جادة الاعتدال في معاملة الملاتيوسيين، ويستدلون على هذا بما جاء في بعض أوراق البردي، التي تعود إلى ربيع السنة 335 نفسها.
86
وليس هنالك من الأدلة التاريخية ما يحملنا على القول مع روفينوس المؤرخ
87
بأن المجمع الصوري حقق أيضا في تهمة فجور، واشتدت الدعاية في صور نفسها ضد أثناسيوس، فهاج هائج السكان، وتوافدوا على قاعات المجمع متهمين أثناسيوس بالسحر والقساوة، مطالبين بإنزال أشد العقوبات، وطالب جمهور الأساقفة المصريين الذين لم يشتركوا في أعمال المجمع برفع القضية إلى مسامع الإمبراطور، وأيدهم في مطلبهم ألكسندروس أسقف ثسالونيكية، ولكن معتمد الإمبراطور اكتفى بحث أعضاء المجمع على الاتزان والاعتدال.
88
وأيقن أثناسيوس باليأس مما طلب، وتقوضت حصون آماله، فانسل من صور خفية وانطلق نحو القسطنطينية،
89
فأصدر عليه المجمع حكما غيابيا قضى بعزله من منصبه، وحرر المجمع بذلك رسالة سلامية وجهها إلى جميع أساقفة المسكونة، مبينا تغيب أثناسيوس عن مجمعي قيصرية وصور، وامتناعه عن الإجابة عما وجه إليه من تهم راجيا قطعه من الشركة.
ووصل أثناسيوس إلى القسطنطينية وطلب مقابلة الإمبراطور فرد طلبه، فاغتنم خروج قسطنطين للنزهة على ظهر جواده، واعترض سبيله والتمس عدله، فأصغى الإمبراطور إليه وسمع شكواه، ثم استدعى الأساقفة المجتمعين في صور، فمثل بين يديه أفسابيوس النيقوميذي وأفسابيوس القيصري وأربعة غيرهما، ولم يذكروا قضية كأس الأفخارستية وحصروا شكواهم في أن أثناسيوس هدد بمنع تصدير الحنطة من الإسكندرية إلى القسطنطينية، وعبثا حاول أثناسيوس إقناع الإمبراطور بأن شيئا من هذا لم يصدر عنه، وأمر قسطنطين بإبعاده؛ فنفي إلى تريف
Trèves
في غالية.
90
كنيسة القيامة وعيد الصليب
وقضى برنامج الاحتفال بمرور ثلاثين سنة على حكم قسطنطين أن ينتقل الأساقفة المجتمعون في صور إلى أوروشليم، ليكرسوا كنيسة القيامة التي أمر بإنشائها قسطنطين،
91
فاجتمع في أوروشليم لهذه الغاية عدد كبير من الأساقفة، والتف حولهم ألوف من المؤمنين، وكان بين الأحبار الأرثوذكسيين كل من ألكسندروس أسقف تسالونيكية، وميليس أسقف شوشن، ويعقوب أسقف نصيبين. وفي الثالث عشر من أيلول احتفل الأساقفة والمؤمنون بالقداس الإلهي، وصلوا لتأييد المملكة وسلام الكنيسة، وفي الرابع عشر من أيلول احتفلوا بارتفاع الصليب المقدس،
92
ومنذ ذلك الحين يصعد أسقف أوروشليم في الرابع عشر من أيلول إلى أعلى الكنيسة، ويرفع الصليب الذي مات عليه المخلص للشعوب أجمعين ليشاهدوه، مقدمين له السجود والتكريم، ذاكرين رفعه على يد القديسة هيلانة.
الصليب حافظ كل المسكونة، الصليب جمال الكنيسة، الصليب عزة الملوك، الصليب ثبات المؤمنين، الصليب مجد الملائكة وجرح الشياطين، اليوم يرفع والعالم يتقدس؛ لأنك أيها الجالس مع الآب والروح القدس لما بسطت يديك عليه اجتذبت العالم إلى معرفتك، فأهل المتكلين عليك لمجدك الإلهي. (الميناون)
آريوس يلفظ أنفاسه (336)
ولم ترض مصر عن أعمال المجمع الصوري واحتجت عليه، وكتب القديس أنطونيوس إلى قسطنطين أكثر من مرة يرجوه العفو عن تلميذه القديس أثناسيوس وإعادته إلى أبرشيته، فأجاب قسطنطين أنه لا يعقل أن يجمع عدد كبير من الأساقفة المتنورين الحكماء على إدانة بريء، وأن أثناسيوس كان في نظره وقحا متعجرفا مشاغبا.
93
وجاء في بعض المراجع الأولية أن آريوس أراد أن يعود إلى الإسكندرية، وأن الشعب لم يحتمل ذلك، فاقتدحت نار الفتنة، فأمر القيصر بمجيئه إلى القسطنطينية.
94
وجاء أيضا في بعض هذه المراجع أن الآريوسيين اجتهدوا بإقناع أسقف القسطنطينية ألكسندروس الشيخ الجليل أن يقبل آريوس في الشركة، وأن هذا الحبر استمسك بالإيمان النيقاوي ورفض قبول آريوس، فأمره قسطنطين بذلك فالتجأ إلى الكنيسة، وجثا أمام المذبح باكيا مبتهلا، ومما جاء في هذه المراجع أنه عندما اجتمع أشياع آريوس ليدخلوا زعيمهم إلى الكنيسة، اضطرب آريوس واعتزل القوم لقضاء حاجته، فاندلقت أحشاؤه ومات فوقها (336).
95
وفاة قسطنطين (337)
واحتفل قسطنطين بعيد الفصح في الثالث من نيسان سنة 337، ونالته الحمى فذهب إلى مياه معدنية قريبة يستحم فيها، ثم انتقل إلى أنقيرونة بالقرب من نيقوميذية، وكان يود أن يعتمد في مياه الأردن كما فعل السيد نفسه، ولكن الوقت عاجله فتقبل سر المعمودية على يد أفسابيوس أسقف نيقوميذية، وخلع الأرجوان وألقاه جانبا وتردى بالبياض، وفاضت نفسه يوم العنصرة في الثاني والعشرين من أيار سنة 337، وحنط جسمه ووضع في تابوت من ذهب، ونقل إلى القصر في القسطنطينية ليتقبل احترام الوجهاء، ثم عرض جثمانه في كنيسة الرسل حيث صلى الإكليروس عليه طوال الليل ودفن فيها،
96
وخسرت الأرثوذكسية بوفاته أكبر مدافع عن دستور إيمانها النيقاوي.
وتوفي قسطنطين عن ذكور ثلاثة: قسطنطين الثاني، وقسطنديوس الثاني، وقسطنس، وحكم الثلاثة الإمبراطورية معا، فتولى قسطنطين الثاني الغرب، وتولى قسطنديوس الثاني الشرق، أما قسطنس فإنه حكم إليرية وقسما من أفريقية، وطمع قسطنطين الثاني في ملك قسطنس الصغير، فحاربه ولكنه خر صريعا في أكويلية في السنة 340، ثم تمرد الجند على قسطنس وقتلوه في السنة 350؛ فأصبح قسطنديوس الثاني المالك وحده، وكان رجلا عاقرا لا وارث له، فاستدعى ابن عمه غالوس
Gallus
من منفاه ورفعه إلى رتبة قيصر، وأمره على برايفكتورة الشرق وجعل مقره أنطاكية، ولكن غالوس هذا كان جافي الطبع فظ القلب قليل الرحمة، فطغى وتجبر وأرهب الناس إرهابا، فاستدعاه ابن عمه الإمبراطور إليه في السنة 353 وحاكمه وأمر بقطع رأسه، وعندئذ طلب يوليانوس أخا غالوس وجعله قيصرا على غالية.
الآريوسيون ورومة (338)
ورضي قسطنطين الثاني عن أثناسيوس، فأذن له بالعودة إلى الإسكندرية في السابع عشر من حزيران سنة 337، وشمل هذا العفو سائر الأساقفة المنفيين، ووصل أثناسيوس إلى الإسكندرية في الثالث والعشرين من تشرين الثاني من السنة نفسها، فاضطرب الآريوسيون وسعوا في الشرق والغرب معا للاعتراف بسلطة مرشحهم بيستوس
على كنيسة الإسكندرية وتوابعها، وكتبوا إلى جميع أساقفة المسكونة بذلك، وأوفدوا إلى يوليوس أسقف رومة كاهنا اسمه مكاريوس وشماسين لإطلاعه على قرارات مجمع صور، وإقناعه بقانونية عملهم ووجوب اعترافه بأسقفهم،
97
وعقد الأساقفة الأرثوذكسيون المصريون مجمعا في السنة 338 لدرس الموقف واتخاذ الإجراءات اللازمة، واجتمعوا في الإسكندرية واتخذوا قرارا يؤيدون به أسقفهم أثناسيوس، ويجرحون في الوقت نفسه قرار مجمع صور، وحرروا رسالة سلامية بهذا كله، ووجهوها إلى يوليوس أسقف رومة وجميع أساقفة المسكونة،
98
وإلى الأباطرة الثلاثة خلفاء قسطنطين.
ودعا يوليوس أسقف رومة زميله أثناسيوس إلى رومة، وأوفد إلى الشرق قسين يدعوان الأساقفة الآريوسيين وغيرهم إلى مجمع مسكوني في رومة للبت في القضية الماثلة، فرفض الأساقفة الآريوسيون في مطلع السنة 340 اقتراح أسقف رومة، واحتجوا على إعادة النظر في قضية شرقية بت فيها مجمع شرقي، وهددوا بقطع العلاقات معه إن هو اعترف بأثناسيوس،
99
وأشهر الأساقفة الذين وقعوا هذا الاحتجاج فلاكيلوس أسقف أنطاكية، وأفسابيوس أسقف القسطنطينية، وكان هذا الأخير قد نجح في إبعاد بولس عن كرسي القسطنطينية، وحل محله جاعلا أمفيونوس خلفا له في نيقوميذية، أما أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، فإنه توفي قبل هذا الاحتجاج.
ورد يوليوس ردا قويا على هذا الاحتجاج، مبينا وجوب اطلاع «جميع» الأساقفة على القرارات المتخذة؛ ليشترك «الجميع» في إحقاق الحق، ويرى بعض علماء الكنيسة اللاتينية الشقيقة دليلا في هذا الرد على سلطة رومة،
100
وهو توسع في الاستنتاج لا تقره قواعد المنطق، وجل ما يجوز قوله هو أن أسقف رومة طالب في رده هذا بإعلام جميع أساقفة الكنيسة الجامعة وإشراكهم في إحقاق الحق، والاعتراف بسلطة «الجميع» - أي المجامع المسكونية - حقيقة تاريخية مسيحية ناصعة لا يختلف فيها اثنان.
101
تكريس كنيسة أنطاكية الكبرى (341)
وكان قسطنطين الكبير قد أمر بإنشاء كنيسة كبيرة فخمة في عاصمة النصرانية في الشرق، فبوشر في بنائها في السنة 327 على الجزيرة بالقرب من القصر، وفي عهد أفستاثيوس الشهير،
102
وتوفي قسطنطين في السنة 337، فتبنى هذا المشروع ابنه قسطنديوس الثاني، وقامت هذه الكنيسة مثمنة الأضلاع تعلوها قبة جميلة فدعيت الكنيسة المثمنة، ودعيت أيضا الكروية والجليلة والذهبية.
103
وتم بناء هذه الكنيسة في أواخر السنة 340 أو أوائل السنة 341، فتوافد الأساقفة إلى أنطاكية للاشتراك في تكريس هذا المعبد، وناهز عددهم المائة، ولا نعلم أسماءهم كلهم، وجل ما يجوز قوله هو أن أفسابيوس النيقوميذي دعا إلى هذا المجمع، وأن فلاكيلوس ترأس أعماله،
104
وأن الأساقفة المجتمعين بحثوا أقوال آريوس، فانقسموا إلى فئات ثلاث؛ فأعلن أفسابيوس وجماعته أنهم لم يتبعوا آريوس، وإنما نظروا فيما قاله، واقترحوا تعديلا للفصل الأول من دستور نيقية والرجوع عن اللعنة التي جاءت في آخره. وقال آخرون بدستور نيقية ولكنهم رغبوا في تلطيفه، واقترحت فئة ثالثة تعديلا مسكنا مخدرا في عباراته الإيجابية، موجبا في ناحيته السلبية لعن السبلنيتين القديمة والجديدة،
105
وأقر المجمع هذا الاقتراح الأخير، وأعلن دستور إيمان أنطاكي شبيه بدستور نيقية قريب منه، ولكنه خال من العبارة «مساو للآب في الجوهر».
وأهم ما جاء في هذا الدستور الأنطاكي الجديد عن الابن الكلمة أنه إله من إله، وكل من كل، وواحد من واحد، تام من تام، وأنه غير قابل للتكييف وللتحول في الألوهية، وأنه «صورة تامة» لمجد الآب، كما أنه مظهر من مظاهر مشيئته وعظمته، وأن الآب هو آب حق، وأن الابن ابن حق، وأن الروح القدس روح حق، وأن هذه الأسماء لم تذكر عبثا، بل تدل دلالة حقيقية على منزلة كل ممن تسموا بها وقوتهم ومرتبتهم، وأن هذه الأقانيم ثلاثة ولكنها واحد.
106
ومعظم هذا النص مأخوذ عن تعليم لوقيانوس المعلم الأنطاكي.
107
وكان قسطنس لا يزال منهمكا في أمور الغرب بعد مقتل أخيه قسطنطين الثاني، فكتب إلى أخيه قسطنديوس أن يوافيه بما استقر الرأي عليه في أنطاكية، فأوفد الآباء المجتمعون في أنطاكية كلا من: نرقيس أسقف بانياس
Neronias ، وماري أسقف خلقيذونية، وثيوذوروس أسقف هرقلية، ومرقس أسقف أرسوز
Arethusa ، إلى مقر الإمبراطور في تريف، وذلك في مطلع السنة 342، وخشي أعضاء هذا الوفد ألا يرضى قسطنس عن نص قرار المجمع الأنطاكي، فنقلوا إليه ما اصطلح المؤرخون أن يسموه «دستور أنطاكية الرابع»، وقد جاء فيه فيما يظهر تأكيد لأزلية ابن الله، وتشبث بدوام ملكه، ولعنة لكل من يقول إنه كان زمان أو وقت أو أزل قبل ولادة الابن.
108
وقد يستغرب القارئ تعدد قوانين الإيمان في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة، ولا سيما بعد أن اتخذ المجمع المسكوني الأول قراره الشهير، ولكن الواقع التاريخي هو أن المجمع المسكوني الأول جعل من قراره هذا ردا على بدعة آريوس لا قانونا للإيمان كاملا مانعا، وأنه ترك المجال مفتوحا للقول بالقوانين المحلية القديمة المتوارثة عن الرسل.
109
ومات آريوس وحل أصدق المواعيد بمعظم أتباعه الأولين، فاستصعب خلفاء هؤلاء مخالفة الآباء النيقاويين الثلاثمائة والثمانية عشر، واضطروا أن يعيدوا النظر فيما قاله السلف على ضوء التطورات الأخيرة، وأراد يوليوس أسقف رومة أن يستغل هذا التطور، فانتهز فرصة مثول الوفد الشرقي بين يدي الإمبراطور قسطنس للدعوة إلى مجمع جديد يحل قضية أثناسيوس المعلقة، ويجلس في سرذيكة أي صوفية على الحدود بين الإمبراطوريتين الشرقية والغربية، فاستوسط يوليوس الإمبراطور قسطنس، ورجاه أن يكتب إلى أخيه قسطنديوس محبذا اجتماع الآباء لهذه الغاية، فقبل قسطنس وكتب بذلك.
مجمع سرذيكة (343)
وقبل الآباء ذلك، فاجتمع في سرذيكة في خريف السنة 343 مائة وسبعون أسقفا، منهم ستة وسبعون شرقيون آريوسيون أو نصف آريوسيين، وأربعة وتسعون غربيون وشرقيون أرثوذكسيون مستقيمو الإيمان.
110
وكان فلاكيلوس أسقف أنطاكية قد توفي في السنة 342، فأقيم بعده إسطفانوس رئيسا على أنطاكية وتوابعها، وكان إسطفانوس كاهنا في عهد أفستاثيوس، فأثم فاعلا ما لا يحل له، فقطعه أفستاثيوس، فحاول رفع هذا الحرم فلم يفلح، فانضم إلى الآريوسيين.
111
وترأس إسطفانوس وفد الشرف إلى مجمع سرذيكة، وانضوى تحت لوائه ستة وسبعون أسقفا، أشهرهم: منوفنتس أسقف أفسس، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين، وذيانيوس أسقف قيصرية قبدوقية، وثيودوروس أسقف هرقلية، وماري أسقف خلقيدونية. وتميز في المعسكر الأرثوذكسي هوسيوس الشيخ أسقف قرطبة، وأثناسيوس الوقور أسقف الإسكندرية، وماركلوس أسقف أنقيرة، ومثل يوليوس أسقف رومة كاهنان وشماس.
112
وأدرك الآريوسيون قلة عددهم، فسعوا لعرقلة أعمال المجمع، وطلبوا منذ اللحظة الأولى إبعاد أثناسيوس وماركلوس وأسكليباس عن جلسات المجمع؛ لأن مجمعا سابقا أقر خلعهم، ولأن إعادتهم إلى كراسيهم هي موضوع البحث، واعتبر الأساقفة الأرثوذكسيون خلع هؤلاء لاغيا، فاعتزل الآباء الشرقيون عن الاشتراك في البحث، وعقدوا جلسة منفردين عن سائر أعضاء المجمع، ثم انتقلوا ليلا إلى فيليبوبوليس متخذين عذرا بشرى انتصار قسطنديوس على الفرس، وتخلف عن الوفد الشرقي أستيريوس أسقف البتراء وأسقف فلسطيني يدعى آريوس، واشتركا في أعمال مجمع سرذيكية.
113
وبرأ الآباء الأرثوذكسيون أثناسيوس وأسكليباس وماركلوس، وقطعوا كلا من باسيليوس أسقف أنقيرة وغريغوريوس أسقف الإسكندرية، وكوينتيانوس أسقف غزة، واتخذوا قرارات مماثلة، فحكموا بالقطع على جاورجيوس أسقف اللاذقية، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين، ونرقيس أسقف بانياس، وأسطفان أسقف أنطاكية وغيرهم؛ وبحثوا دستور الإيمان فاقترح بعض الآباء نصا جديدا، هو في زعمهم أدق من نص نيقية وأوسع، يؤكد وحدة الجوهر، ويبين أن الآب غير منفصل عن الابن، ويثبت أن الذي تألم ومات ثم قام هو الإنسان الذي ولد من مريم العذراء لا الله؛
114
وفي هذا النص المقترح خطر على الإيمان القويم، فاعترض أثناسيوس القديس على هذا النص الجديد وأكد أن النص النيقاوي يفي بالغرض المقصود، وحذر الآباء من التمادي في البحث كي لا يجرأ على الاسترسال في الكلام من لا يشبع منه،
115
فاقتنع الآباء وعدلوا.
ووضع الآباء المجتمعون في سرذيكة قوانين منعت تبديل الأبرشيات، وحضت الأساقفة على البقاء في مراكزهم وعدم التغيب عنها، وحذرت من شر اللجوء إلى البلاط الإمبراطوري وغير ذلك من القوانين الغربية المحلية.
وجدد الآباء الشرقيون في أثناء وجودهم في فيليبوبوليس الحكم على أثناسيوس وماركلوس، وقطعوا يوليوس أسقف رومة وهوسيوس أسقف قرطبة وغيرهما، وأقروا ثانية دستور الإيمان الأنطاكي.
في أنطاكية (344)
وأوفد الآباء المجتمعون في سرذيكة فيكنديوس
Vinccnt
أسقف كابوا، وإفراتاس
Euphratas
أسقف كولون إلى أنطاكية؛ لمقابلة قسطنديوس وإطلاعه على المقررات التي اتخذت في المجمع، والتوسل إليه أن يسمح لأثناسيوس وماركلوس وأسكليباس بالعودة إلى مراكزهم، فوصل الأسقفان إلى أنطاكية في ربيع السنة 344، وعلم إسطفانوس بقرب وصولهما، فنصب لهما شركا ليقضي على سمعتهما ويفسد عملهما، فأوصى أحد الشبان أن يستقبلهما وينزلهما ضيفين على إحدى النساء الفاجرات، فاحتج الأسقفان وعلم قسطنديوس بذلك، فأوجب التحقيق فنظر المجمع في هذه القضية في أواخر السنة 344، فثبتت خيانة إسطفانوس فجرد من رتبته وخلع، وانتخب المجمع لونديوس
Leontios
أسقفا على أنطاكية.
116
لونديوس أسقف أنطاكية (344-358)
وكان لونديوس قد أخذ اللاهوت والفلسفة عن لوقيانوس المعلم الأنطاكي، فامتنع أفستاثيوس عن قبوله في مصاف الإكليروس الأنطاكي، وكان أيضا قد جب نفسه ليتمكن من مساكنة المرأة إفستوليوم
Eustolium ، فخرج بذلك على قرارات المجمع المسكوني الأول، وأصبح غير لائق أن يتحلى برتبة الكهنوت،
117
ولكنه اعتدل في آرائه مع تقدمه في السن واتزن في سلوكه، وأظهر مقدرة في تسيير دفة الأسقفية في زمن كثر فيه الشقاق واشتد الخصام،
118
ولم يتمكن الأسقفان الغربيان فيكنديوس وإفراتاس من إقناع الإمبراطور قسطنديوس بإصدار العفو عن الأساقفة الأرثوذكسيين المنفيين، ولكنهما استصدرا أمرا أوجب عودة الكهنة والشمامسة الأرثوذكسيين من أرمينية إلى أماكنهم، وإيقاف الاضطهاد الذي كان قد حل بالإكليروس الأرثوذكسي في مصر.
119
وأظهر لونديوس استعدادا للتفاهم مع الأرثوذكسيين المجتمعين في ميلان آنئذ، فقام وفد مؤلف من الأساقفة ذيموفيلوس وأفذوكيوس ومقدونيوس ومرتيريوس إلى الغرب؛ ليبحثوا أمر العقيدة مع الأساقفة الأرثوذكسيين وأمام الإمبراطور قسطنديوس، وحملوا إلى ميلان (345) قانون إيمان أنطاكيا طويلا، عرف فيما بعد بالمكروستيكوس
Machrosticos ؛ أي ذي الأسطر الطويلة،
120
وأعلن هذا القانون «الطويل» وحدانية الله وألوهية الابن قبل كل الدهور وعدم فناء ملكه، فأنكر بهذا القول الآريوسية الأصلية، ثم كذب القانون الطويل أقوال ماركلوس الأنقيري وفوتينوس السرمي،
121
ولكن الآباء الأرثوذكسيين المجتمعين في ميلان أوجبوا إضافة نص صريح تنكر به الآريوسية، فامتعض أعضاء الوفد الأنطاكي من هذا الإلحاح، ولا سيما وأن البيانات التي صدرت عن أنطاكية في السنة 341 كانت قد أنكرت الآريوسية إنكارا تاما، فرفضوا أن يضيفوا شيئا إلى المكروستيكوس وانسحبوا من المجمع وعادوا إلى أوطانهم.
122
انتصار أرثوذكسي وقتي
وكان الخطر الفارسي لا يزال جاثما منذ السنة 340، فاضطر قسطنديوس أن يضمن سلاما في داخل مملكته ليجابه الخطر الخارجي، وتوفي غريغوريوس أسقف الإسكندرية ومناظر أثناسيوس في الخامس والعشرين من حزيران سنة 345، فرأى قسطنديوس أن يعيد أثناسيوس إلى كرسيه، فكتب إليه بذلك، وألح بوجوب العودة، فامتثل الأسقف وقام إلى الشرق، ووصل إلى الإسكندرية في الحادي والعشرين من تشرين الأول سنة 346.
123
وعرج أثناسيوس في طريقه على أنطاكية، وأقام فيها برهة واتصل بأبنائها الأرثوذكسيين أتباع أفستاثيوس، الذين كانوا لا يزالون يعتبرون الكرسي الرسولي شاغرا منذ عهد أفستاثيوس، وأحب أن يعاونهم في شدتهم، فمثل أمام الإمبراطور قسطنديوس، ورجاه أن يسمح لأتباع أفستاثيوس بكنيسة من كنائس أنطاكية يصلون فيها أحرارا، وكاد قسطنديوس يأمر بذلك، ولكن لاونديوس أسقف أنطاكية اعترض على ذلك ولم يسمح به، فقام أثناسيوس إلى اللاذقية حيث استقبل استقبالا حسنا، وأبحر منها إلى فلسطين، فامتنع أكاكيوس أسقف قيصرية وخلف أفسابيوس القيصري عن استقباله، ولكن مكسيموس أسقف أوروشليم عقد مجمعا محليا مؤلفا من ستة عشر أسقفا، ورحب بأثناسيوس وحمله تحيات الكنيسة الأرثوذكسية الفلسطينية إلى إخوانهم الأرثوذكسيين في الإسكندرية.
124
غالوس والكنيسة (350-353)
وتمرد الجند على قسطنس وقتلوه في السنة 350، فاضطر قسطنديوس الثاني، وقد أصبح المالك الشرعي الوحيد، أن يخمد الثورة في الغرب، وكان قسطنديوس رجلا عاقرا لا وارث له، فاستدعى ابن عمه غالوس
Gallus
من منفاه ورفعه إلى رتبة قيصر، وأمره على برايفكتورة الشرق وجعل مقره أنطاكية، ولكن غالوس هذا كان جافي الطبع فظ القلب قليل الرحمة؛ فطغى وتجبر وأرهب الناس إرهابا، فاستدعاه ابن عمه الإمبراطور إليه في إيطالية في السنة 353 وحاكمه وأمر بقطع رأسه، وعندئذ طلب ابن عمه الأصغر يوليانوس وجعله قيصرا على غالية في الغرب.
ولا نعلم بالضبط ما إذا كان غالوس مسيحيا أو وثنيا، ولكننا نعلم العلم اليقين أن حاشيته في أنطاكية كانت غير أرثوذكسية، فإن ثيوفيلوس الهندي المتقشف الشهير كان قد أخذ أشياء وأشياء عن معلمه أفسابيوس النيقوميذي، وأن لاونديوس أسقف أنطاكية لم يكن أرثوذكسيا، وأن آئيتيوس
Aèce
أقرب المسيحيين إلى القيصر، ومعلم أخيه يوليانوس، كان آريوسيا شديدا صارما،
125
والتف هؤلاء وغيرهم حول القيصر، وأخذوا يدلسون عليه الرأي، فزينوا له وللإمبراطور فوقه أن أثناسيوس على صلة بالمتمردين في الغرب، وأنه رجل خطر يخل بالأمن، وأن المصلحة تقضي بنبذه وإبعاده عن الإسكندرية.
وتمادى لاونديوس في هذه السياسية الجديدة، فرسم آئيتيوس شماسا وسمح له بالوعظ في الكنيسة، فاحتج الأرثوذكسيون على ذلك وأجمعوا على محاربة آئيتيوس، ولم ينفرد أتباع أفستاثيوس بهذا الاحتجاج، فإن السواد الأعظم من الأرثوذكسيين، الذين كانوا قد واظبوا على إجراء الطقوس مع أتباع لاونديوس ضنا بوحدة الكنيسة، استنكروا صوت آئيتيوس في الكنيسة، والتفوا حول زعيمين علمانيين ذيذوروس وفلافيانوس، وهددوا بالانفصال التام ففاوضهم لاونديوس، فأصروا على تعديل في الذوكسة (المجدلة)، يثبت مساواة الابن للآب في الجوهر، فأوجبوا القول «المجد للآب والابن والروح القدس»، بدلا من القول «المجد للآب في الابن والروح القدس»، كما جرت العادة آنئذ، فوافق لاونديوس على ذلك، ولكنه خشي مقاومة الآريوسيين في الكنيسة، فرتل «المجد للآب» ثم أضعف صوته متظاهرا بالألم في حلقه، حتى إذا وصل إلى العبارة «الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين» رفع صوته فرتلها بوضوح.
126
واشتد احتجاج الأرثوذكسيين في أنطاكية، فنزل لاونديوس عند رغبتهم وأبعد آئيتيوس عن أنطاكية.
الغرب ينبذ أثناسيوس
وتوفي يوليوس أسقف رومة (337-352)، وتولى الكرسي الرسولي بعده ليباريوس (352-366)، فاهتم لساعته بقضية أثناسيوس، ورجا الإمبراطور قسطنديوس أن يدعو أساقفة الكنيسة الجامعة إلى مجمع في أكويلية لينظر في قضية أثناسيوس، وكان الإمبراطور يرغب في تهدئة خواطر الآريوسيين في الشرق؛ لأنهم كانوا قد أصبحوا أكثرية راجحة، فدعا الأساقفة الغربيين إلى مجمع في ميلان في مطلع السنة 355، وطلب إليهم أفرادا وجماعات أن ينتقوا لأنفسهم أحد أمرين؛ إما نبذ أثناسيوس أو النفي، فوافق معظمهم على النبذ، وأصر أسقف رومة على تأييد أثناسيوس، فأبعد بأمر الإمبراطور إلى تراقية وأبعد أساقفة ثلاثة آخرون إلى صعيد مصر.
127
وحاول قسطنديوس أن يستدرج أثناسيوس، فأرسل إليه من يؤكد له أن الإمبراطور يرغب في مشاهدته في الغرب، ثم أرسل الإمبراطور بارجة حربية إلى الإسكندرية لنقل أثناسيوس وتسهيل وصوله إلى الغرب، ولكن أثناسيوس اعتذر وامتنع، فلجأ الإمبراطور إلى العنف، وفي مساء الثامن من شباط سنة 356 أحاط الجند بكنيسة ثيوناس
Theonas
في الإسكندرية، ودخلوا إليها طالبين أثناسيوس، فصدهم المصلون واشتد الاختلاط والقتال، وعلت أصوات العذارى الصالحات، وظل أثناسيوس جالسا في كرسيه لا يأتي بحركة، ثم اقتنع بوجوب الفرار، فخرج من الكنيسة والتجأ إلى رهبان الصحراء الغربية، فأحسنوا استقباله وحموه فصنف وكتب، وقال في بعض ما كتب: «إني أسمع لاونديوس أنطاكية، ونرقيس بانياس، وجاورجيوس اللاذقية يتهانفون ويستهزئون؛ لأني لم أمكنهم من اغتيالي، إن أنطاكية تبكي أفستاثيوس المعترف بالحقيقة، وبانياس البحر
Balanyas
تندب إفراتيون
Euphration ، وبلدة
تعدد محاسن كيماتيوس
Cymatios ، وطرطوس تذكر كرتيريوس وحلب كيروس وغزة أسكليباس
Asclepas .»
128
وكأني بهذا القديس يحمل بعض رجال كنيسة أنطاكية مسئولية اضطهاده وشق الصفوف، والواقع أن لاونديوس أنطاكية ونرقيس بانياس وجاورجيوس اللاذقية لم يكتفوا بما جرى بالإسكندرية وبفرار قديسها، فإنهم عقدوا في السنة 356 مجمعا أنطاكيا محليا، وكتبوا إلى الأساقفة باسم هذا المجمع، مذكرين «بالجرائم» التي ارتكبها أثناسيوس، راجين الاعتراف بجاورجيوس القبذوقي أسقفا على الإسكندرية.
129
طغيان الآريوسية
ونفي هوسيوس الأسقف الشيخ «أبو المجامع »، وتخلى ليباريوس أسقف رومة في منفاه عن أثناسيوس (357)،
130
وتولى دفة الأمور في رومة الأرشدياكون فيلكس المشاكس، فعطف على الآريوسية وأيده في ذلك عدد كبير من رجال الإكليروس الروماني،
131
وتوفي لاونديوس أسقف أنطاكية سنة 358، فتولى الرئاسة فيها أفذوكسيوس أسقف مرعش
Germanicia ،
132
وأيد الآريوسية كل من جاورجيوس أسقف الإسكندرية، ومقدونيوس أسقف القسطنطينية، وجرمينيوس أسقف سرميوم، وأوكسنتيوس أسقف ميلان.
133
المساواة في الجوهر والتشابه والاختلاف
وكان من الطبيعي بعد هذا النصر الكبير أن تتطاول أعناق الآريوسيين إلى تعديل دستور الإيمان النيقاوي، وأن يطالبوا بذلك جهارا، ولم يقم بينهم بعد وفاة أستيريوس الصوفي حبر لاهوتي كبير يتزعم هذه المطالبة بالتعديل، فإن ثيودوروس أسقف هرقلية (+355) كان مفسرا للكتاب أكثر منه لاهوتيا متعمقا، وعني أفسابيوس أسقف حمص (+359) بالرد على الوثنيين واليهود والنوفاتيين والمانويين، وكان معتدلا متزنا يكره التطرف.
134
وكان جاورجيوس أسقف اللاذقية من هذا الطراز أيضا، فإنه كتب ضد المانوية، وعني عناية خاصة بسيرة أفسابيوس أسقف حمص.
135
أما أكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين فإنه تابع السلف القيصري، فعني بمكتبة كرسيه، وأضاف إليها وفسر سفر الجامعة،
136
فلم يبق والحالة هذه سوى آئيتيوس الشماس يمين لاونديوس الأنطاكي وعدو الأرثوذكسيين في أنطاكية.
وكان آئيتيوس آريوسيا متطرفا يحب اللاهوت ويعشق الجدل، فلم يرض عن القول بالتشابه في الجوهر
homoiousion
السائد آنئذ في الأوساط الآريوسية، المناظر للقول بالمساواة في الجوهر
homoousion
الذي أقره مجمع نيقية، فأجهر بالاختلاف في الجوهر
anomoios ، وجاهر به الأرثوذكسيين معلنا أنه ليس هنالك أي ارتباط بين الآب والابن!
137
فتخطى بذلك آريوس نفسه، وشاطر جرمينيوس أسقف سرميوم الشماس آئيتيوس رأيه، ودعا إلى مجمع في صيف السنة 357 في سرميوم، فحرم هذا المجمع الإشارة إلى الجوهر والمساواة في الجوهر والتشابه؛ لأن هذه الاصطلاحات لم ترد في الكتاب المقدس، ولأنها تقلق راحة المؤمنين، وأكد عظمة الآب وتفوقه على الابن،
138
ورغب الآباء الآريوسيون المجتمعون في ترويج النص الجديد، فاتصلوا بهوسيوس أسقف قرطبة وشيخ القائلين بالمساواة في الجوهر، وكان هوسيوس قد هرم وولى وبلغ من الكبر عتيا، فعجز عن المقاومة ووافق على القول الجديد.
139
مقاومة أرثوذكسية
وتمادى أفذوكسيوس أسقف أنطاكية في ضلاله وغلا في الآريوسية وجاوز الحد، فقبل التعليم الجديد الصادر عن سرميوم، وحض أساقفة الكرسي الأنطاكي على قبوله، وقرب آئيوس وإفنوميوس
Eunomios
واعتمد رأيهما، فثار ثائر الأرثوذكسيين في كنيسة أنطاكية، وانضم إليهم عدد كبير من المعتدلين، ولا يخفى أن مجمع التكريس الأنطاكي كان قد امتنع في السنة 341 عن القول بأقوال آريوس وعن الانتماء إليه وحمل اسمه، وأن معظم الأساقفة الأنطاكيين الذين اشتركوا في أعمال المجمع الأول في سرميوم سنة 351 كانوا قد قالوا قولا لا يجوز اعتباره هرطقة إذا حسن تفسيره، فلما جاء آئيوس ببدعته الجديدة وأنكر ألوهية الابن، هب لمقاومته هؤلاء المعتدلون أنفسهم، وكتب جاورجيوس أسقف اللاذقية كتابا إلى كل من: مقدونيوس أسقف القسطنطينية، وباسيليوس أسقف أنقيرة، وكيكروبيوس أسقف نيقوميذية، وأفجينس أسقف نيقية، يناشدهم الإسراع في المعونة لتخليص كنيسة أنطاكية من أفنوميوس وزمرته.
140
وكان باسيليوس أسقف أنقيرة قد نفر من آئيوس وحذلقاته، فعقد مجمعا في أنقيرة في ربيع السنة 358، وكتب باسم هذا المجمع رسالة سلامية وجهها إلى جميع أساقفة المسكونة،
141
ثم عاد فكتب ثانية باسمه وباسم جاورجيوس أسقف اللاذقية.
142
ويتضح من هاتين الرسالتين أن الآباء المجتمعين في أنقيرة شجبوا القول بالاختلاف في الجوهر وأكدوا ألوهية الابن، وابتعدوا عن المساواة في الجوهر خشية الجنوح إلى بدعة بولس السميساطي، فآثروا القول بالتشابه في الجوهر
homoiousion .
وحمل باسيليوس أسقف أنقيرة، وأفستاثيوس أسقف سبسطية، وإلفسيوس
Eleusios
أسقف كيزيكة؛ مقررات مجمع أنقيرة إلى قسطنديوس في سرميوم،
143
ونبذ عدد من أساقفة غالية وأفريقية قول آئيوس وأفنوميوس،
144
فأيد قسطنديوس موقف الأساقفة في أنقيرة، وكتب إلى الأنطاكيين ينفي أن يكون هو قد عين أفذوكسيوس أسقفا عليهم، ويحذرهم شر أولئك الذين يغيرون أبرشياتهم ليزيدوا دخلهم، وأولئك المتفلسفين الذين يتجرون بالنفاق والزندقة ليخدعوا الجماهير، وذكر الإمبراطور الأنطاكيين بما قاله لهم عن العقيدة، وكيف أنه أبان لهم أن المخلص هو ابن الله وأنه مشابه للآب في الجوهر،
145
وانتهز بافيليوس هذه الفرصة السانحة، فاستصدر أمرا إمبراطوريا أبعد به أفذوكسيوس أسقف أنطاكية إلى أرمينية، وآئيوس إلى بابوزة
، وسجن بموجبه أفنوميوس في أنقيرة.
146
مجمع سلفكية (359)
وسعى باسيليوس لعقد مجمع مسكوني، ينظر في قضية الإيمان ويقر موقفا نهائيا منها، وأراد أن يلتئم أساقفة المسكونة للمرة الثانية في نيقية، ولكن ذكريات النضال حول مقررات المجمع النيقاوي الأول قضت باستبدال نيقية بمكان آخر، فاقترح باسيليوس أن يجتمع الأساقفة في نيقوميذية فوافق الإمبراطور، ولكن هزة أرضية دمرت هذه المدينة في الرابع والعشرين من آب سنة 358، فرأى الإمبراطور أن يستفتي الأساقفة في أمر المكان الذي يرغبون الجلوس فيه وذلك بالكتابة إليهم فردا فردا، فطال أمر الاستفتاء وعاد باسيليوس إلى مركز أبرشيته، فاستغل بعض رجال الإكليروس تغيبه عن البلاط، وطلبوا إلى ركنين من أركان الآريوسية أن يقوما إلى سرميوم ويتصلا مباشرة بقسطنديوس، فأم البلاط الإمبراطوري في سرميوم كل من نرقيس أسقف بانياس وبتروفيلوس أسقف بيسان، وكانا من كبار الأساقفة الذين اشتركوا في مجمع نيقية المسكوني، وخشي الأسقفان ألا يكون أتباعهما ومناصروهما أكثرية في مجمع مسكوني يضم أساقفة الشرق والغرب، فأظهرا صعوبة التفاهم بين الأساقفة لتباين اللغتين اليونانية واللاتينية، وبينا كثرة النفقات اللازمة لنقل الأساقفة الغربيين إلى الشرق، واقترحا عقد مجمعين في آن واحد: مجمع غربي في ريميني
Rimini
على شاطئ الأدرياتيك الإيطالي، ومجمع في سلفكية أسورية بالقرب من الساحل القيليقي.
147
وقبل الإمبراطور اقتراح الأسقفين نرقيس وبتروفيلوس، وطلب إلى مرقس أسقف أرسوز الذي كان آنئذ في سرميوم أن يعد نصا لدستور إيمان جديد يعرض على أساقفة المجمعين، فأعد مرقس دستور إيمان عرف فيما بعد بالدستور المؤرخ؛ لأن مرقس بدأ النص بالإشارة إلى موافقة قسطنديوس، وإلى السنة والشهر واليوم الذي تمت فيه هذه الموافقة. و«الدستور المؤرخ» ينص على التشابه في الجوهر
omoios
بعبارات غامضة، ويؤكد «أن المسيح هو ابن الله مولود قبل كل الدهور، وأنه يشابه الآب في كل شيء كما جاء في الأسفار المقدسة»، ويتميز هذا الدستور بالإشارة الواردة فيه لأول مرة إلى نزول السيد إلى الجحيم،
148
وأوجب الإمبراطور على المجمعين تفحص «الدستور المؤرخ» وإيفاد وفدين إليه يحملان رأيي الأساقفة المجتمعين، وترك البت في الأمور الشخصية الفردية وغيرها إلى كل من المجمعين على انفراد.
149
فالتأم في ريمينة أربعمائة أسقف ، ورفض معظمهم الدستور المؤرخ، وأيدوا دستور نيقية، وقطعوا عددا من الأساقفة المخالفين، وقام إلى القسطنطينية وفدان: أحدهما يمثل الأكثرية الساحقة، والآخر الأقلية، فأذن الإمبراطور لوفد الأقلية بالمثول بين يديه، ورفض الإصغاء إلى وفد الأكثرية، ثم حاوط الآريوسيون هذا الوفد وداوروا رئيسه، فوافق الأكثرية على حذف العبارة «في جميع الأشياء» عن الإشارة إلى تشابه الابن بالآب، وقبلوا بالدستور المؤرخ، ووقعوا بروتوكولا بهذا المعنى في العاشر من تشرين الأول سنة 359.
150
وبدأ المجمع الشرقي أعماله في سلفكية في السابع والعشرين من أيلول سنة 359، وضم أكثر من مائة وخمسين أسقفا، وأشهر أعضائه أصحاب الرأي والقول: باسيليوس أسقف أنقيرة، ومقدونيوس أسقف القسطنطينية، وإلفسيوس
Eleusios
أسقف كيزيكة، وسلوانوس أسقف طرسوس، ومرقس أسقف أرسوز، وواضع نص الدستور المؤرخ موضوع البحث، وكيرللس أسقف أوروشليم، وصفرونيوس أسقف بومبيوبوليس
، وجاورجيوس أسقف الإسكندرية، وأفذوكسيوس أسقف أنطاكية سابقا، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين. وتألف الوفد الأنطاكي من: مرقس أسقف أرسوز، وأكاكيوس أسقف قيصرية، وأورانيوس أسقف صور، وسبعة عشر آخرين بينهم أربعة يمثلون أبرشيات «العربية».
151
واقترح سلوانوس أسقف طرسوس القول بدستور «التكريس» الأنطاكي، الذي أقره المجمع الأنطاكي سنة 341، وأيده في هذا مائة وخمسة أساقفة،
152
فاحتج أكاكيوس أسقف قيصرية على هذا القرار، وخرج من المجمع وتبعه ثمانية عشر أسقفا، واجتمع هؤلاء منفردين، وأقروا قبول «الدستور المؤرخ» ملطفين بعض عباراته، لاغين القول بالاختلاف في الجوهر
anomoios ،
153
وعاد أكاكيوس وجماعته إلى المجمع في الجلسة الثالثة، وحاولوا إعادة البحث في الدستور فلم تقبل الأكثرية بذلك، وقال ألفسيوس قوله الشهير: «لم نجتمع لوضع دستور جديد، وإنما اجتمعنا لإثبات قول الآباء.»
154
وغضب ليوناس ممثل الإمبراطور، وخرج من المجمع قائلا: إني جئت لأمثل الإمبراطور في مجمع متحد متفق لا في مجمع منشق منقسم. ثم رفض أكاكيوس وجماعته الاشتراك في أعمال المجمع.
وتابعت الأكثرية أعمالها، فنظرت في قضية كيرللس أسقف أوروشليم، وفي الخلاف الذي كان قد نشأ بينه وبين أكاكيوس متروبوليت الأبرشية، فإن كيرللس كان قد استمسك في بعض الامتيازات التي أقرها التقليد لأم الكنائس، فقاومه في ذلك أكاكيوس مدعيا أنه هو متروبوليت الأبرشية ، وكان كيرللس قد باع آنية كنيسته ليطعم بثمنها الفقراء والجائعين، فاعترضه أكاكيوس وأمر بخلعه،
155
فأعاده مجمع سلفكية إلى كرسيه مكرما، وقطع هذا المجمع كلا من: جاورجيوس أسقف الإسكندرية، وأفذوكسيوس أسقف أنطاكية سابقا، وأكاكيوس أسقف قيصرية، وبتروفيلوس أسقف بيسان، وخمسة أساقفة آخرين، ورفع أنيانوس
Annianos
أحد كهنة أنطاكية إلى كرسيها الرسولي، ثم أعلن أسماء أعضاء الوفد الذي سيحمل قرارات هذا المجمع إلى الإمبراطور قسطنديوس في القسطنطينية، ولم يرض لوريقيوس دوق أسورية عن القرار الذي اتخذ في أمر أسقفية أنطاكية، وألقى القبض على أنيانوس ونفاه.
156
مجمع القسطنطينية (360)
واجتمع ممثلو المجمعين في القسطنطينية في مطلع السنة 360، فأقروا «الدستور المؤرخ» المعدل، وقالوا بالتشابه في الجوهر كما في الكتب، ونبذوا التخالف في الجوهر، وحرموا استعمال اللفظين
ousia
و
hypostasis
اللذين أثارا الجدل، واعتاضوا عنهما بالكلمة
omoios ؛ فجاء الدستور بهما مبهما غامضا قابلا لتفاسير متناقضة في بعض الأحيان.
157
ثم انتقل الأعضاء إلى البحث في الأشخاص، فنزعوا عن آئيتيوس رتبته وطردوه من الكنيسة، وهددوا بلعنه إن هو أصر على موقفه، وحرموا قراءة كتبه وأوجبوا تمزيقها،
158
وخلعوا مقدونيوس أسقف القسطنطينية، وألفسيوس أسقف كيزيكة، وباسيليوس أسقف أنقيرة، وسلوانوس أسقف طرسوس، وكيرللس أسقف أوروشليم وغيرهم.
159
وكتب المجمع إلى جميع أساقفة المسكونة يدعوهم إلى الموافقة على نص الدستور الجديد، وهددت السلطات الزمنية بالنفي في حال عدم الموافقة، فوافق عدد كبير من الأساقفة في الغرب والشرق معا، وامتنع عدد وافر عن الموافقة، وكان أثناسيوس لا يزال سيد الموقف في مصر، فحض أساقفة مصر وليبية على الاستمساك بالدستور النيقاوي ففعلوا، ولعل الرسالة المرسومة
Epistola Encyclica
هي مما كتبه لهذه المناسبة،
160
ولعلها تعود إلى السنة 356.
161
ملاتيوس أسقف أنطاكية (361-381)
وأقام الأساقفة المجتمعون في القسطنطينية أفذوكسيوس أسقف أنطاكية السابق أسقفا على القسطنطينية، واعتبروا ترقية أنيانوس إلى الكرسي الأنطاكي غير قانونية، فانتخب أكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين وأتباعه ملاتيوس أسقفا على أنطاكية، واحتاطوا لهذا الأمر فوقعوا محضرا بانتخاب ملاتيوس، وجعلوا أفسابيوس أسقف سميساط يحتفظ به دفاعا لكل اعتراض،
162
وكان ملاتيوس قد أبصر النور في ملاطية أرمينية، واشتهر بالتقوى واللطف والمحبة والاستقامة، فلما انفرط عقد المؤمنين في سبسطية أرمينية، وانقسموا على بعضهم، نادى البعض بملاتيوس أسقفا ضد أفستاثيوس الأسقف القديم، ولم يتمكن ملاتيوس من الوصول إلى كرسي سبسطية هذه نظرا لشدة الخصام والشغب، فابتعد عنها وأقام في حلب، وفي السنة 359 التأم مجمع سلفكية، فمثل سبسطية أرمينية أفستاثيوس، ووافق أكثرية المجمع على التمسك بالدستور الأنطاكي، أما ملاتيوس فإنه ماشى أكاكيوس، إما في أثناء انعقاد المجمع أو بعد ذلك بقليل.
163
ودخل ملاتيوس أنطاكية في شتاء السنة 360-361، وتسلم عكاز الرعاية بحضور قسطنديوس الإمبراطور، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين، وجاورجيوس أسقف الإسكندرية، وطلب الإمبراطور إلى الأساقفة الثلاثة أن يتكلموا في موضوع الآية: «الرب حازني في أول طريقه قبل عمله منذ البدء» (أمثال 8: 22)، فصارح جاورجيوس المؤمنين بالآريوسية، واكتفى أكاكيوس بالتعليمات المبهمة، أما ملاتيوس فإنه اعترف بأن المسيح هو ابن الله، إله من إله، وواحد من واحد، وتحاشى استعمال الكلمتين جوهر وأقنوم،
164
فأرضى بذلك الأرثوذكسيين ولكنه أغضب الآريوسيين.
165
ويرى العلامة كافاليرا في كتابه انشقاق أنطاكية
166
أن ملاتيوس كان منذ البدء، وظل حتى النهاية أرثوذكسيا لا غش فيه، والواقع أن ملاتيوس ماشى أكاكيوس كما سبق وأشرنا، وأن أكاكيوس وجاورجيوس اشتركا في تسليمه عكاز الرعاية، وأن سقراط وأبيفانيوس يؤكدان علاقة ملاتيوس بأكاكيوس،
167
ولعل باسيليوس الذي اعتبر ملاتيوس نيقاويا كاملا أراد أن يكتفي بما اعترف به ملاتيوس في أواخر عهده، وأن يغض النظر عما فاه به ووقعه في بدء حياته العملية،
168
ورقب الآريوسيون حركات ملاتيوس وسكناته، فاحتجوا على بعض إجراءاته الإدارية وطلبوا عزله وإبعاده، فنفاه قسطنديوس إلى أرمينية في آخر الشهر الأول من أسقفيته،
169
وتبوأ الكرسي الرسولي الأنطاكي بعده إفظويوس
Euzoios
الآريوسي، وكان إفظويوس شماسا ماشى الآريوسيين منذ اللحظة الأولى، فدخل في حرم ألكسندروس الإسكندري ونزعت عنه رتبته الكنسية، وانتصرت الآريوسية انتصارا باهرا، وأصبح أساقفة معظم الكنائس الكبرى في الشرق والغرب معا، إما آريوسيين متطرفين أو معتدلين.
170
وفاة قسطنديوس الثاني (361)
وكان شابور الثاني ذو الأكتاف قد عبر دجلة في جيش عظيم في السنة 358، فتجاوز نصيبين وزحف على آمد (ديار بكر ) فأخذها عنوة، وكان قسطنديوس لا يزال في سرميوم يعالج الاختلاف في العقيدة كما ذكرنا، فقام إلى القسطنطينية، وبقي فيها طوال شتاء السنة 359-360، وفي ربيع السنة 360 نهض من القسطنطينية لمجابهة الخطر الفارسي، وكان شابور ذو الأكتاف قد استأنف الحرب، فاحتل سنجار ثم اتجه منها إلى بيت زبدي (جزيرة ابن عمر) على ضفة دجلة الغربية وحاصرها، فحاول قسطنديوس أن يفك هذا الحصار فلم يفلح، وسقطت بيت زبدي في يد الفرس في خريف السنة 360، وأقبل فصل الشتاء، فتوقفت الأعمال الحربية، ولبث قسطنديوس في أنطاكية، وكانت حاشية قسطنديوس لا تزال توغر صدره على ابن عمه يوليانوس قيصر غالية، بينما خطر الفرس في الشرق يتعاظم، فطلب الإمبراطور إلى ابن عمه القيصر أن يوافيه بأحسن ما عنده للصمود في وجه الفرس، ويقال إن ابن عمه مال إلى تلبية الطلب، ولكن جنوده تمردوا احتجاجا ونادوا به إمبراطورا في باريز في السنة 360، وكتب يوليانوس إلى قسطنديوس يرجو منه الاعتراف بما تم، ولكن قسطنديوس أصر عليه أن يتنازل، فاضطر يوليانوس أن يزحف بجنده على الشرق، وسار قسطنديوس من أنطاكية إلى القسطنطينية فالغرب لمنازلة خصمه، ولكنه مرض وهو لا يزال في طرسوس، واشتد الخطر على حياته، فاعتمد بيد إفظويوس، وتوفي على مسيرة يوم من طرسوس في الثالث من تشرين الثاني سنة 361، وأجمل ما يذكر عنه أنه عندما أشرف على التلف أوصى بأن يكون يوليانوس نفسه خلفا له.
الفصل الثامن عشر
ملاتيوس الشريف
360-382
يوليانوس الجاحد (361-363)
هو يوليانوس بن يوليوس بن قسطنديوس الأول كلوروس، وهو أخو غالوس لأبيه، كما كان والده يوليوس أخا قسطنطين الكبير لأبيه، ووالدة يوليانوس باسيلينة نسيبة أفسابيوس أسقف نيقوميذية، وقد سبقت الإشارة إليه وإلى نضاله في سبيل الآريوسية.
ولد يوليانوس في النصف الثاني من السنة 331 في ميسية على الدانوب، وما إن مضت بضعة أشهر حتى توفيت والدته، فنقل إلى القسطنطينية ونشأ في قصر لجدته في آسية لا يبعد كثيرا عن العاصمة. وفي السادسة من عمره أي في السنة 337 شهد مقتل والده وجميع أقربائه، ونجا هو وأخوه غالوس بأعجوبة ، وعاشا مدة من الزمن مراقبين محصورين ، فشب يوليانوس مضطرب العصب يكره قسطنطين وذريته، وتولى أمره في هذه الفترة أفسابيوس أسقف نيقوميذية، فوكل أمر تهذيبه إلى خصي نصراني (مردونيوس) كان شديد الإعجاب بهوميروس الشاعر اليوناني، وتوفي أفسابيوس في السنة 341 فنفي قسطنديوس الأميرين إلى قصر في قبدوقية على مسافة قريبة من قيصرية، فقضى يوليانوس ست سنوات يدرس ويطالع مؤلفات أعاره إياها كاهن نصراني، وفي السنة 347 أمر قسطنديوس بانتقال غالوس إلى أفسس ويوليانوس إلى القسطنطينية، وأقام يوليانوس في عاصمة الدولة سبع سنوات احتك فيها بعالمين شهيرين، أحدهما وثني والآخر نصراني، وتعلم مبادئ اللاتينية، ورحب الجمهور بالأمير الصغير وأكرمه، فدخلت الريبة نفس قسطنديوس فأمر بنقله إلى نيقوميذية، وكان ليبانيوس العالم الأنطاكي الوثني قد ترك مدرسة نيقوميذية، فلم يتسن ليوليانوس أن يأخذ عنه مباشرة، ولكنه طالع بعض مصنفات ليبانيوس وأكب عليها فأثرت في نفسه؛ ومن هنا هذا التشابه في الأسلوب بين الاثنين. وفي السنة 351 رضي قسطنديوس عن الأميرين، فجعل غالوس قيصرا وأعاد إلى يوليانوس إرثه فأصبح غنيا، فرحل يوليانوس في طلب العلم وأم برغامون في آسية الصغرى، واتصل فيها بأديسيوس الفيلسوف الأفلاطوني الجديد، وبتلميذه خريسانطيوس الفيلسوف الفيثاغوري، وتردد إلى أفسس فاتصل بفيلسوفها مكسيميوس، وكان هذا يمارس ضروب السحر، فوقع يوليانوس تحت تأثير شعوذاته ودخل في زمرة أتباعه. وفي السنة 355 قضى ثلاثة أشهر في أثينة والتحق بجامعتها، وكان بين رفقائه فيها غريغوريوس النازينزي وصديقه باسيليوس القديس، ثم أصبح قيصرا في غالية، ونادى به جنوده إمبراطورا، فمشى في صيف السنة 361 إلى الشرق، وتوفي قسطنديوس كما سبق وأشرنا، فأسرع يوليانوس إلى القسطنطينية ودخلها في الحادي عشر من كانون الأول سنة 361.
1
وكان يوليانوس قد جنح إلى الوثنية قبل وصوله إلى العرش، وذلك لأسباب أهمها: أن النصرانية كانت دين جلاد أسرته، وأنها كانت في شقاق الاضطراب، وأنها خلت من إبداع الفلاسفة والشعراء، وأن الأفلاطونية الجديدة كانت وريثة هذا الإبداع،
2
ويستدل من الرسائل التي صنفها هذا الإمبراطور الجاحد
3
أنه قال بأكوان ثلاثة أو شموس ثلاث: الشمس الأولى شمس الحقائق الراهنة والمبادئ السامية والعلة الأولى، وهي التي سماها شمس النفس، والشمس الثالثة شمس المادة الملموسة وصورة انعكاس للشمس الأولى، وبين الاثنتين - أي بين النفس والمادة - شمس ثانية هي شمس العقل. ولما كانت الشمس الأولى بعيدة المنال، وكانت الشمس الثالثة مادية غير صالحة للعبادة، فإن يوليانوس عبد شمس العقل، وسماها الملك الشمس، واعتقد أنه هو سليل الملك الشمس يهتدي بإرشاده، وقال بتناسخ الأرواح على طريقة فيثاغورس، فاعتقد أنه هو الإسكندر في «دور» آخر، وتبنى في رسالته «ما يؤخذ على النصرانية» موقف بوفيريوس الفيلسوف الحوراني اللبناني، فقال إن إله التوراة هو إله شعب خاص لا إله الكون بأسره، وأن هنالك تناقضا بين التوحيد في التوراة والتثليث في الإنجيل، وأن الأناجيل الأربعة متنافرة غير متآلفة.
ومنح يوليانوس الشعب حرية المعتقد، فانطلق الوثنيون فرحين مهللين، وراحوا يعترفون ليوليانوس بهذا الفضل ويخلدون ذكرى هذا الانطلاق، ولا تزال بعض نقوشهم الكتابية تنطق «بالجميل» حتى يومنا هذا في عنز إلى الجنوب من صلخد حوران، وفي جنينة وجرش
4
وفي بيروت.
5
في أنطاكية
ودب النشاط في صفوف قبائل القوط في قطاع الدانوب، وحسب يوليانوس لذلك حسابه، ولكنه آثر العمل في الشرق؛ لأنه اعتبر نفسه الإسكندر في دور ثان، فقام إلى أنطاكية قاعدة الشرق الحربية في حزيران السنة 362، وفي أثناء مروره في طرسوس أمر بإعادة أعمدة كانت قد انتزعت من هيكل وثني لتشييد كنيسة مسيحية منذ أكثر من ثلاثين سنة، ووصل أنطاكية في التاسع عشر من تموز، يوم انتحاب العذارى على مقتل أذوناي عشيق عشتروت، وكان ليبانيوس الفيلسوف الأديب قد عاد إليها ليعلم فيها إخوانه الأنطاكيين، فاستقبل الإمبراطور الجاحد استقبالا حارا، ولكن أنطاكية كانت قد أصبحت مسيحية، فهال يوليانوس إعراض أهلها عن «الدين القويم»، وقلة اكتراثهم بهياكل دفنة المقدسة، فقال في إحدى رسائله إلى الأنطاكيين ما معناه: «هو ذا الشهر العاشر، شهر لوس الذي تبتهجون فيه بعيد أبولون الإله الشمس، وكان من واجبكم أن تزوروا دفنة، وكنت أنا أتصور موكبكم لهذه المناسبة شبانا بيضا أطهارا يحملون الخمور والزيوت والبخور ويقدمون الذبائح، ولكني دخلت المقام فلم أجد شيئا من هذا، وظننت أني لا أزال خارج المقام، فإذا بالكاهن ينبئني أن المدينة لم تقدم قربانا هذه المرة إلا وزة واحدة جاء بها هو من بيته.»
6
وأكرم يوليانوس ليبانيوس الفيلسوف الوثني، ورقى عددا من الوجهاء إلى رتبة المشيخة، فجعلهم أعضاء سناتوس أنطاكية، ووهب للمدينة مساحات كبيرة من أراضي الدولة، ولكن الأنطاكيين المسيحيين قابلوه بالهزء، ووجدوا في النقيضين لحيته الطويلة وقامته القصيرة مجالا واسعا للعبث والسخر،
7
وعبثا حاول ليبانيوس أن يوفق بين الإمبراطور وبين رعاياه الأنطاكيين، ثم اشتد الخلاف وتفاقم الشر حين أخرج الإمبراطور بقايا شهيد أنطاكية القديس بابيلاس من قبره، فغضب المسيحيون لكرامتهم، وأحرقوا في الثاني والعشرين من تشرين الأول هيكل أبولون، فأقفل الإمبراطور كنيسة أنطاكية الكتدرائية، وأمر بنهبها وتدنيسها، فكسر المسيحيون تماثيل الآلهة، واحتج إفظويوس أسقف أنطاكية فلم يلق إلا الذل والهوان.
8
وتمادى يوليانوس في ضلاله، وأطلق لنفسه العنان، فنزع عن ميومة مرفأ غزة رتبتها المدينية؛ لأنها مسيحية، وجعلها ضاحية من ضواحي غزة الوثنية، وأعمل السيف في رقاب الكهنة والعذارى في غزة وعسقلان، ورمى بأجسادهم إلى الخنازير لتدوسها. وفي بانياس أنزل تمثالا للسيد المخلص عن قاعدته، وحطمه تحطيما وأقام محله تمثالا لنفسه، وأحرق القومس مغنوس كنيسة بيروت، وأشعل اليهود النيران في كنيستين من كنائس دمشق، ولقي شماس بعلبك حتفه؛ لأنه اجترأ في عهد قسطنطين فأقدم على قلب الأصنام. وأحرقت قبور النصارى في حمص، وحولت كنيستها إلى هيكل لباخوس، وفي حماة أقيم تمثال لباخوس على مذبح الكنيسة.
9
وعلم يوليانوس أن يسوع تنبأ بألا يبقى من الهيكل في أوروشليم حجر على حجر، فلكي يكذب الكتب اهتم لإعادة بناء الهيكل، فأرسل إلى أوروشليم أحد أمنائه أليبيوس ليشرف على العمل، وتقاطر اليهود واجتمع عدد كبير منهم في مكان الهيكل، فجرفوا المكان وحفروا الأرض كبارا وصغارا، رجالا ونساء، ولما انتهوا من هدم الأساسات القديمة، وأوشكوا أن يضعوا الأساسات الجديدة حدثت زلزلة هدمت الأبنية المجاورة، وقتلت بعض الفعلة وملأت الحفر ترابا.
10
ونهض يوليانوس في ربيع السنة 363 إلى الفرات، وزحف على بابل وانتصر على ذي الأكتاف عند سلوقية، فاستأنف الزحف على طيسفون، وأصابه سهم عقبه نزيف، فتوفي وهو يحدث أصدقاءه عن صفات النفس السامية، وقيل إن فارسا مسيحيا من فرسانه رماه بهذا السهم للقضاء عليه. وتشاور رؤساء الجند فيمن يكون خلفا ليوليانوس، فأجمعوا على يوفيانوس
Jovianus
إمبراطورا، وكان هذا رئيس الخدم في القصر مسيحيا نيقاويا أرثوذكسيا، فوقع صلحا مع الفرس وعاد إلى أنطاكية في خريف السنة 363.
مجمع الإسكندرية (362)
واتخذ يوليانوس التساهل في الدين سياسة له في بدء عهده ليعيد الوثنية، ورغب في عودة الأساقفة المنفيين إلى أوطانهم ليزداد الشقاق في صفوف النصرانية، فعاد أثناسيوس الكبير إلى الإسكندرية، ورجع ملاتيوس إلى أنطاكية، واجتمع في الإسكندرية في السنة 362 عدد من الأساقفة المصريين المنفيين وغيرهم، وأمها أستيريوس أسقف البتراء، وأفسابيوس الإيطالي أسقف فركيلية، وكانا قد نفيا إلى مصر، وانضم إلى هؤلاء ممثلون عن لوسيفيروس
Luciferus
أسقف كلياري، وأبولويناريوس أسقف اللاذقية، والكاهن بافلينوس رئيس كنيسة أفستاثيوس الأنطاكية، واعتذر لوسيفيروس عن الحضور بالذات، وقال «إن ظروف الكنيسة في أنطاكية قضت بذهابه إليها»،
11
وخشي زملاؤه الأساقفة المجتمعون في الإسكندرية قلة درايته، فحاولوا إبقاءه في مصر ولكنه لم يرض.
وكان ظرف الكنيسة في أنطاكية دقيقا، فإن إفظويوس كان لا يزال في قيد الحياة يمارس سلطته الأسقفية، فلما عاد ملاتيوس إلى أنطاكية أصبح لعاصمة النصرانية في الشرق أسقفان في آن واحد ومكان واحد، وظل أتباع أفستاثيوس يمارسون العبادة مستقلين عن الآريوسيين أتباع إفظويوس وعن الأرثوذكسيين أتباع ملاتيوس، وذلك برئاسة الكاهن بافلينوس.
12
وتصون كاهن اللاذقية أبوليناريوس من الآريوسية، وتزعم الأرثوذكسيين في هذه المدينة وتوابعها، وعاونه في ذلك ابنه القارئ في الكنسية، وكان يدعى أبوليناريوس أيضا، وتحلى الاثنان بالعلم والأدب اليونانيين، وأصغيا للحكيم الوثني أبيفانيوس بينما كان ينشد شعرا لباخوس في اللاذقية، فقطعهما ثيودوتوس أسقف اللاذقية، ثم قطعهما جاورجيوس خلف ثيودوتوس؛ لأنهما رحبا بأثناسيوس الكبير لدى مروره باللاذقية سنة 346، فلما توفي جاورجيوس بعد مجمع سلفكية (359)، وانتخب بلاجيوس خلفا له، انتخب أيضا أبوليناريوس الأصغر أسقفا على اللاذقية.
13
وهكذا فإن كل الأساقفة الذين اشتركوا في أعمال مجمع الإسكندرية كانوا نيقاويين مضطهدين ، ولكنهم ما كادوا يخرجون من مخابئهم، أو يعودون من الأمكنة التي أبعدوا إليها حتى أدركوا أن معظم أساقفة عصرهم كانوا قد ماشوا الآريوسيين مكرهين أو من تلقاء أنفسهم، فاضطر الأعضاء والحالة هذه أن يعتدلوا في موقفهم من الآريوسيين، وأن يحاولوا تفهم الظروف التي أكرهت زملاءهم على إهمال دستور نيقية وعدم القول به؛ وهكذا فإننا نرى مجمع الإسكندرية يقرر قبول الآريوسيين الأساقفة في الكنيسة الأرثوذكسية، شرط الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه والتنازل عن الأسقفية، أما الآخرون الذين أكرهوا إكراها على القول بالآريوسية، فإن المجمع قرر قبولهم في الكنيسة برتبهم شرط اعترافهم بدستور نيقية،
14
وشمل هذا العفو معظم أساقفة مصر وفلسطين وقبرص ونيقية وبمفيلية وأسورية، أما أساقفة سورية فإن معظمهم كان قد اتخذ موقفا مضادا لجمع نيقية منذ اللحظة الأولى، ولكنهم لم يقولوا بالآريوسية المتطرفة، بل بما جاء في قرارات مجمع التكريس الأنطاكي (341) ومجمع سلفكية (359)، فاعترفوا بألوهية ابن الله، ولكنهم تحاشوا القول بالمساواة في الجوهر.
المجمع الإسكندري ومشكلة أنطاكية
وذكر الأساقفة المجتمعون في الإسكندرية إخوتهم في المسيح المخلص أبناء كنيسة أنطاكية، فحرروا رسالة سلامية إلى الأساقفة النيقاويين الموجودين في أنطاكية والذاهبين إليها وإلى أفسابيوس الإيطالي أسقف هركيلية، ولوسيفيروس السرديني أسقف كلياري، وأستيريوس أسقف البتراء، وكيماتيوس
Cymatios
أسقف جبلة
، وأناتوليوس أسقف أفبية، وهو غير أناتوليوس أسقف حلب.
15
ومما جاء في نص هذه الرسالة ما يلي: «وأولئك الذين يرغبون أن يعيشوا معنا في سلام، ولا سيما أولئك الذين يجتمعون في الكنيسة القديمة، والآريوسيون الذين يأتون إلينا، هؤلاء يدعون ويقبلون قبول الآباء لأبنائهم، اقبلوهم قبول الأوصياء، وضموهم إلى البولسيين الأعزاء، ولا تطلبوا منهم شيئا سوى نكران الهرطقة الآريوسية والقول بالإيمان الذي أقره آباؤنا في نيقية، ونكران القول بخلق الروح القدس واختلافه في الجوهر.»
16
وتجاهل المجمع الإسكندري في رسالته هذه إفظويوس أسقف أنطاكية وأتباعه الآريوسيين، ولعل للأعضاء الآباء عذرا في هذا، ولكن الغريب أنهم لم يذكروا اسم ملاتيوس أسقف أكثرية الأرثوذكسيين في أنطاكية، الذي تحمل مشقة النفي لأجل الإيمان،
17
فجاء تدخل هذا المجمع الأرثوذكسي في أنطاكية أبتر قليل الفائدة منذ انبثاقه.
بافلينوس أسقف أنطاكية
ومما زاد في الطين بلة أن لوسيفيروس السرديني أسقف كلياري كان غيورا عجلا ينتاط الأمور برأي نفسه، فإنه ما كاد يخلص من النفي والأسر حتى أسرع إلى أنطاكية ليحل مشكلتها، ولدى وصوله إليها أسرع الكاهن إلى تأييد البوليسيين فيها، ورسم الكاهن بافلينوس زعيمهم أسقفا عليهم،
18
فجعل بعمله هذا عدد الأساقفة المتناظرين ثلاثة بدلا من واحد، فلما انتهى مجمع الإسكندرية من أعماله، وقام الأسقفان أفسابيوس وأستيريوس إلى أنطاكية لتدبير أمورها، جوبها مجابهة بعمل لوسيفيروس، فامتنع أفسابيوس عن تبكيت زميله الغربي جهارا،
19
ولكنه لم يعترف برسامة بافلينوس، وغادر أنطاكية إلى إيطالية مستصحبا معه الشاب الأنطاكي إفاغريوس
Evagrios .
20
موقف ملاتيوس «الجليل»
وتوفي يوليانوس، وتسلم يوفيانوس أزمة الحكم بعده، وكان يوفيانوس أرثوذكسيا يقول بنص الدستور النيقاوي، فدعا أثناسيوس الكبير إلى مقابلته في أنطاكية،
21
واستغل ملاتيوس الجليل الظرف فدعا بدوره إلى مجمع أرثوذكسي ينظر في أمر العقيدة، فلبى الدعوة عدد من الأساقفة، أشهرهم: أفسابيوس سميساط، وبيلاجيوس اللاذقية، وأورانيوس أبامية، وطيطس بصرى، وأكاكيوس قيصرية فلسطين، وأناطوليوس حلب، وإسحاق أرمينية؛ وكان قد سبق لهؤلاء الأساقفة وقالوا بنص الدستور الذي أقره مجمع القسطنطينية إرضاء لقسطنديوس الإمبراطور، فلما زال قسطنديوس وهلك يوليانوس بعده رأوا من الواجب أن يعودوا إلى دستور نيقية،
22
فكتبوا إلى يوفيانوس رسالة جاء فيها أنهم لا يرغبون الانتماء إلى أولئك الذين حرفوا حقيقة الإيمان، وأنهم يقبلون نص نيقية ويحافظون عليه، وأنهم توصلوا إلى تفسير حكيم للفظ
Homoousios
الذي التبس أمره على بعض الأساقفة.
23
وشك البولسيون أتباع الأسقف بافلينوس في إخلاص هؤلاء الأساقفة، واتهموهم بالرياء والمواربة، ووضعوا ردا بهذا المعنى نسب خطأ فيما بعد إلى القديس أثناسيوس الكبير.
24
ملاتيوس وأثناسيوس
ولبى أثناسيوس الكبير دعوة يوفيانوس، ووصل إلى أنطاكية في خريف السنة 363، واتصل بملاتيوس الجليل ودعاه إلى الشركة، فأجاب ملاتيوس جوابا مبهما مطاطا، ولعل اللوم في ذلك يقع على حاشيته، فاعترف أثناسيوس بأسقفية بافلينوس وعاد إلى الإسكندرية،
25
فأمست الأرثوذكسية في أنطاكية منقسمة على نفسها ذات رأسين: ملاتيوس وبافلينوس .
ولنتنيانوس ووالنس
وتوفي يوفيانوس في السابع عشر من شباط سنة 364، واجتمع رؤساء الجند في نيقية، وتداولوا في أمر الخلافة، فأجمعوا في الرابع والعشرين من الشهر نفسه على ولنتنيانوس
Valentinianus
أحد قادة الحرس، وما إن أطل هذا الإمبراطور على الجند ليخطب فيهم، حتى قاطعه عدد منهم بدق التروس طالبين إمبراطورا آخر يشاركه في الحكم، فاستمهلهم وشاور ثم قدم أخاه والنس
Valens
في الثامن والعشرين من آذار أوغوسطا وشريكا له في الحكم، وتشاطر الاثنان الملك، فحكم والنس الشرق (364-378)، وتولى ولنتنيانوس الغرب (364-375)، واقتسم الاثنان الملك اقتساما تاما كاملا، وأصبحت الإمبراطورية دولتين شرقية وغربية.
سياسة والنس الدينية
وكان الشقاق قد عم الشرق بأسره، فاضطر والنس أن يتخذ موقفا معينا محددا حسما للنزاع، وحبا في توطيد الأمن الداخلي وتوحيد الصفوف للدفاع عن الإمبراطورية ضد القوط في الشمال، والفرس في الشرق، ورأى والنس الأرثوذكسية النيقاوية ضعيفة خارج مصر، ولمس مقاومة عنيفة لعقيدة آئيوس
Anomeisme
في آسية الصغرى وغيرها، ووجد في الدستور «المؤرخ» الذي أقر في ريمينة والقسطنطينية قولا وسطا
Homeisme
بين الأقوال المتضاربة، يؤيده عدد من أساقفة المراكز الهامة في القسطنطينية وأنطاكية وغيرهما، ومما لحظه والنس أيضا أن قسطنديوس الإمبراطور كان قد جعل من الدستور المؤرخ دستورا رسميا للدولة، فقال بالهومايسية ودافع عنها طوال عهده.
26
ويلاحظ في تعليل موقف والنس أن أفذوكسيوس أسقف القسطنطينية الذي قال هذا القول نفسه كان رزينا حكيما مجربا ذا تأثير في نفس الإمبراطور الجديد،
27
وأن الإمبراطورة ذومينيكة كانت آريوسية متحمسة.
28
إبعاد ملاتيوس الجليل
وفي ربيع السنة 365 أصدر والنس أمرا بوجوب إبعاد الأساقفة الذين أقصاهم قسطنديوس عن مراكزهم وأعادهم يوليانوس إليها، فخرج ملاتيوس الجليل من أنطاكية، ولم يعد إليها قبل وفاة والنس،
29
أما بافلينوس فإنه بقي آمنا في أنطاكية؛ لأنه رقي الكرسي الأسقفي بعد عهد قسطنديوس، ولأنه تمتع بشطر وافر من احترام إفظويوس وإكرامه.
30
وتشاور الأساقفة الذين قالوا بالتشابه في الجوهر، فأرسلوا وفدا إلى إيطالية يلتمسون بواسطته عطف ولنتنيانوس، وعقدوا مجمعا في تيانة قبدوقية؛ لسماع أقوال أعضاء هذا الوفد، ولاتخاذ ما يرونه موافقا لمصلحتهم العامة، وكان بين المجتمعين في تيانة عدد من أساقفة الكرسي الأنطاكي: أفسابيوس قيصرية قبدوقية، وأثناسيوس أنقيرة، وبيلاجيوس اللاذقية، وزينون صور، وبولس حمص؛ فاتفق المجتمعون على القول بالمساواة في الجوهر، وقرروا عقد مجمع كبير لهذه الغاية في طرسوس في ربيع السنة التالية، ولكن أفذوكسيوس القسطنطينية خشي سوء العاقبة، فمنع الإمبراطور انعقاد المجمع المنتظر.
31
جوهر الروح القدس
وأدى البحث في جوهر الابن إلى النظر في جوهر الروح القدس، ولا سيما وأن المجمع المسكوني الأول اكتفى بالعبارة: «ونؤمن بالروح القدس.» وقال مجمع الإسكندرية في السنة 362 بألوهية الروح القدس، وأوجب لعنة من يقول بخلق الروح،
32
وراج القول في هذه الآونة في ولايات تراقية وبيثنية والهلسبونط بخلق الروح القدس، وتزعم هذه الحركة ثلاثة من كبار الأساقفة الذين اشتهروا بالفضيلة والمحبة والغيرة، والإشارة هنا إلى أفستاثيوس سبسطية، وإلفسيوس
Eleusios
كيزيكة، ومراثونيوس
Marathnios
نيقوميذية،
33
فكان لتزعمهم أثر في نفوس جمهور المؤمنين في هذه المنطقة؛ فاتسعت حركتهم حتى أصبحت في السنة 381 موضوع بحث رئيسي في المجمع المسكوني الثاني، كما سنرى في حينه.
الأرثوذكسيون لسان واحد
وشغلت القبائل القوطية والنس الإمبراطور عن الدين والعقيدة، وتخالف أتباعه أصحاب القول بالدستور المؤرخ، وتعارضت أهواؤهم فانتظمت صفوف الأرثوذكسيين، ولا سيما في قبذوقية، فجهر أثناسيوس أنقيرة بالعقيدة النيقاوية الأرثوذكسية،
34
وحذا حذوه أفسابيوس قيصرية، واتخذ لنفسه مستشارا ومعاونا باسيليوس الكبير،
35
وعاد غريغوريوس النزينزي أبو غريغوريوس اللاهوتي عن الدستور المؤرخ، وصارح زملاءه بالعقيدة الأرثوذكسية.
36
وقال آخرون من آباء كنيسة أنطاكية في أرمينية والبونط قول هؤلاء الأساقفة الكبار، وصرح الجميع بالأقانيم الثلاثة وبوحدة الجوهر، فمهدوا بذلك لتوحيد الصفوف والانضواء تحت لواء الأرثوذكسية.
الاضطهاد الوالنسي
وعاد والنس إلى القسطنطينية في أواخر السنة 369، وتوفي أفذوكسيوس بعد ذلك بقليل، فخسرت الكنيسة بوفاته أبا معتدلا حكيما، واختلف أبناء كنيسة القسطنطينية في أمر الأسقف الجديد خليفة أفذوكسيوس، فأسرع الأرثوذكسيون إلى تأييد إفاغريوس
Evagrios ، ونادى أصحاب القول بالدستور المؤرخ بذيموفيلوس، فاحتج الأرثوذكسيون وأرسلوا وفدا إلى والنس الإمبراطور مؤلفا من أربعة وثمانين إكليريكيا، يطالبون بالاعتراف بإيفاغريوس، فغضب والنس وأمر بإعدام الوفد، فألقي القبض على هؤلاء الإكليريكيين وأبعدوا على قوارب في مياه البوسفور وأحرقوا
37
أو أحرق بعضهم،
38
ودخلت الكنيسة في دور من الاضطهاد دام طويلا، فطرد الأرثوذكسيون من الكنائس، وسلمت كنائسهم إلى أصحاب القول بالدستور المؤرخ، وأكره الآباء إكراها على القول بهذا الدستور، وصودرت الأملاك والأوقاف، ونفي الأساقفة المؤمنون، وكف الجيش عن محاربة الفرس والبرابرة، ودنس الكنائس والمذابح،
39
وعم اضطهاد والنس جميع الولايات الخاضعة له.
وأطل والنس في ربيع السنة 372 على سورية، وأقام فيها حتى وفاته، فنفى ملاتيوس الجليل،
40
وبيلاجيوس اللاذقية،
41
وبرسا الرها، وإبراهيم بنس (تل بتنان)، وسجن أفسابيوس سميساط.
42
ونشط الكاهنان الأنطاكيان: أفلوغيوس وبروتوجنس لرعاية الأرثوذكسيين في مدينة أنطاكية، فأمر الإمبراطور بنفيهما إلى صعيد مصر،
43
وطرد الأرثوذكسيين من كنائسهم وسلمها لإفظويوس وأتباعه، فاضطر المؤمنون أن ينطلقوا إلى الحقول للصلاة والعبادة،
44
ويؤكد ثيودوريطس المؤرخ أن الإمبراطور أمر بإغراق عدد من المؤمنين في العاصي.
45
باسيليوس الكبير (329-379)
ولمع في فضاء الكنيسة في هذه الفترة من محنتها كوكب براق، أنار سبيلها وبهر خصومها فزادها قوة وثباتا، هو باسيليوس القبدوقي أسقف قيصرية الجديدة ذو القداسة والطهارة والحكمة.
46
ولد باسيليوس في السنة 329 في قيصرية الجديدة في بلاد البونط من أبوين مسيحيين تقيين، ونشأ في جو مشبع بالإيمان القويم والتضحية في سبيله، فإن جدته مكرينة كانت لا تزال حية تحضنه لتسمعه أخبار الاضطهاد الذي عم البونط في عهد ديوقليتيانوس، يوم فرت مع جده إلى الغابات المجاورة ليتخلصا من شر الحكام واضطهادهم.
وتلقى باسيليوس العلوم في قيصرية أولا، ثم في القسطنطينية على يد ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي، فأثينة حيث رافق غريغوريوس النزينزي، فأضاف إلى شدة إيمانه قوة الحجة وفصاحة الكلام، وفي السنة 357 عاد إلى مسقط رأسه، فأشار عليه رئيسه الروحي الأسقف أفستاثيوس أن يرحل إلى سورية ومصر وما بين النهرين؛ ليتفقد شئون الرهبان والنساك فيها، فلما عاد إلى آسية الصغرى وكانت السنة 360، أنشأ على نهر إيريس بالقرب من قيصرية الجديدة ديرا للترهب على طريقة باخوميوس، أصر فيه على الطاعة زيادة على الفقر والعفة.
وأصبح باسيليوس منذ السنة 360 قارئا، وفي السنة 362 سامه أفسابيوس القيصري كاهنا، ولدى وفاة أفسابيوس سنة 370 أجمع المؤمنون في قيصرية على قداسة باسيليوس وثقافته وفصاحته وحنكته؛ فأقامه القديس ملاتيوس الأنطاكي أسقفا عليهم، فخضعوا لرئاسته مختارين غير مكرهين،
47
وفي شتاء السنة 371-372 وصل والنس الإمبراطور إلى قبدوقية في طريقه إلى أنطاكية، فأقام فيها مدة يسيرة حاول في أثنائها تطبيق سياسته الدينية الجديدة، ولكنه لمس في شخص باسيليوس من القداسة والثبات والجرأة والحنكة ما اضطره أن يعف عن كنيسة قيصرية ورئيسها.
48
ومما يروى عن شجاعة هذا القديس وتفانيه في سبيل الإيمان القويم، ما حفظه لنا القديس غريغوريوس النزينزي في عظاته، فقد جاء في العظة العشرين أن مودستوس برايفكتوس الشرق قال لباسيليوس: «وأنت لا تخشى سطوتي؟» فأجابه القديس: «وأي شيء ينتظرني عندك؟ فإن لجأت إلى المصادرة، فإنك لن تجد عندي سوى بعض الكتب، وإن قلت بالنفي فإني غريب في هذا العالم، غريب أينما حللت، وإن أمرت بالتعذيب فإن هذا الجسد النحيل لن يلقى منك سوى ضربة واحدة، أما الموت فإنه سيعجل لقائي بالرب إلهي الذي من أجله أحيا وأتحرك، ولأجله أصبحت نصف ميت، وللقائه أتلهف منذ أمد بعيد.»
49
ومما قاله القديس غريغوريوس أيضا أن والنس نفسه توجه يوم عيد العنصرة إلى كنيسة قيصرية، وتقدم إلى المذبح بهدية، فلم يتناولها منه أحد، فارتعد وارتعش، ثم قبلها الأسقف فلانت صلابة الإمبراطور وعامل باسيليوس معاملة طيبة، ثم أراد نفيه فمرض ابنه الوحيد وأشرف على الموت، فطلب الإمبراطور إلى باسيليوس أن يصلي عليه فقبل الأسقف شرط أن يعمد الولد عمادة أرثوذكسية، فتعافى الولد، ثم عمده أسقف آريوسي فمات حالا، فغضب الإمبراطور وأخذ القلم ليأمر بنفي باسيليوس فانكسر، فبراه فانكسر، وهكذا للمرة الثالثة، فارتجف الإمبراطور ومزق الصك.
50
كنيسة أنطاكية أعظم الكنائس
وهال باسيليوس أمر الانشقاق في كنيسة أنطاكية، وإبعاد ملاتيوس رئيسها الشرعي، وخروج بفلينوس الأرثوذكسي على هذا الراعي الجليل، واعتراف أثناسيوس الإسكندري بأسقفية بفلينوس وتعاونه معه، ورأى في انشقاق أم الكنائس علة العلل، فقال قوله المأثور: «وهل هنالك أعظم من أنطاكية بين كنائس المسكونة! فإذا ما ساد التفاهم فيها عاد الوفق والوئام إلى غيرها .»
51
وأخذ باسيليوس يسعى لحل المشكلة الأنطاكية منذ بداءة عهده في الأسقفية، فكتب إلى أثناسيوس يستحثه على مفاوضة دماسوس أسقف رومة؛ ليرسل إلى الشرق من يتحلى بدماثة الخلق والمقدرة على المفاوضة والإقناع، فينقل جميع القرارات التي اتخذت في الغرب بعد مجمع ريميني، فمحت أثر العنف وتغلبت على الشقاق فأعادت الوفاق والوئام، وأضاف باسيليوس راجيا أن يتيسر لدى الزملاء الغربيين أمر الاعتراف بشرعية انتخاب ملاتيوس والحكم على ماركلوس أسقف أنقيرة،
52
فرحب أثناسيوس باقتراح باسيليوس وأفاده بذلك، فهب باسيليوس لساعته يفاوض ملاتيوس في الأمر، ثم كتب إلى دماسوس أسقف رومة يرجو تدخله في الشرق بإيفاد من يتمكن من جمع الشمل وإحياء المحبة بين كنائس الله، أو كشف اللثام عن المفسدين، فيعرف من يستحق الدخول في الشركة.
53
ووكل باسيليوس أمر القيام بنقل هذه الرسالة وتوضيحها إلى دوروثاوس أحد شمامسة ملاتيوس الأنطاكي، ووافق وصول دوروثاوس إلى الإسكندرية مجيء سبينوس شماس ميلان، حاملا رسالة سلامية من المجمع المحلي الذي عقد في رومة سنة 368 تجدد القول بدستور نيقية، فاطلع أثناسيوس على هذه الرسالة السلامية، ونصح إلى سبينوس أن يقوم بها إلى قيصرية الجديدة، فسر باسيليوس بقدوم الرسول الروماني، وكتب رسائل إلى «الغربيين» عموما، ثم حرر بالاشتراك مع ملاتيوس الأنطاكي وأفسابيوس السميساطي، وغريغوريوس النزينزي (الأب)، وأفستاثيوس السبسطي وغيرهم من أساقفة الشرق؛ رسالة أساقفة إيطالية وغالية، يوضح فيها حالة الكنائس الشرقية المحزنة، ويرجو تدخل أساقفة الغرب لإنقاذ الموقف، وعاد سبينوس إلى رومة حاملا هذه الرسائل، وتوفي أثناسيوس الإسكندري وخلفه أخوه بطرس، وقضت ظروف مصر بقيام بطرس إلى رومة، فلما وصل إليها بحث الوضع الراهن في أنطاكية، فاعتبر ملاتيوس خارجا عن الإيمان القويم مغتصبا، وأوصى ببفلينوس أسقفا شرعيا على أنطاكية.
54
وفي صيف السنة 374 أم قيصرية إفاغريوس الكاهن الأنطاكي عائدا من رومة، حاملا نصا معينا موجبا توقيعه بحروفه دون أي تغيير، مصرا على قيام وفد من كبار الأساقفة إلى رومة للمفاوضة،
55
فأحجم باسيليوس وزملاؤه عن القبول، وأوضحوا السبب في ذلك، فقام إفاغريوس إلى أنطاكية، واشترك في الذبيحة الإلهية مع بفلينوس رافضا الاعتراف بملاتيوس،
56
وقضت الظروف أن يحمل باسيليوس على أكثر من هذا، فإن والنس عاد إلى التشديد والتضييق، فأمر بخلع عدد من الأساقفة الأرثوذكسيين ونفيهم، ولكن باسيليوس وطن نفسه على الصبر، فتلقى هذه الأمور جميعها بسعة صدر وثبات جنان، وعاد إلى مفاوضة الغرب، فكتب ثانية في السنة 375 إلى أساقفة إيطالية وغالية كتابا مؤثرا، مبينا ما قاساه الشرق من تصلف الآريوسيين واستئثارهم بالسلطة، مؤكدا صعوبة انتقال الأساقفة الشرقيين إلى الغرب، راجيا الإصغاء إلى دوروثاوس لفهم الموقف في الشرق،
57
ولكن التفاهم بين نصفي الكنيسة كان قد بدأ يبدو صعبا لاختلاف التعبير وكثرة الهموم وتنوعها.
58
وما كاد باسيليوس ينتهي من وضع رسالته هذه ودفعها إلى دوروثاوس، حتى علم باعتراف دماسوس أسقف رومة ببفلينوس أسقفا على أنطاكية، وعاد دوروثاوس حاملا جواب دماسوس، وفيه يستنكر أسقف رومة أخطاء ماركلوس وأبوليناريوس، ويوضح دستور الإيمان الواجب القبول والاتباع، ولكنه يتجنب الكلام في وحدة الجوهر، فاستأنس باسيليوس بهذا الجواب، وكتب في ربيع السنة 377 يشكر لأساقفة الغرب اهتمامهم، ويرجو زيارة كنائس الشرق لتعزية المضطهدين وتقوية الضعفاء، ثم يشير إلى خطر جديد مداهم، فيرى في أفستاثيوس سبسطية وأبوليناريوس اللاذقية وأتباعهما ذئابا بلباس الحملان تندس بين الصفوف لتمزق الكنيسة تمزيقا، ويتهم بفلينوس بهرطقة ماركلوس وبالتسرع في القبول بالشركة.
59
وحمل دوروثاوس هذه الرسالة وأسرع إلى رومة، فصادف اجتماع الأساقفة في مجمع محلي، فتليت الرسالة على الأساقفة، فتهجم بطرس الإسكندري على ملاتيوس الأنطاكي وعلى أفسابيوس السميساطي؛ فاضطر دوروثاوس أن يرد على هذا التهجم ردا شديدا، ثم حمل جواب الأساقفة إلى باسيليوس وفيه شيء من التعزية، ولكن رومة ظلت تعترف ببفلينوس.
هجوم القوط (372-378)
وعبر الهون الفولكة في السنة 372 أو قبيلها، متدفقين كالسيل الجارف في سهول روسية الجنوبية، فاحتلوا مراعي الآلاني والقوط والشرقيين، ولم يبق حائلا بينهم وبين مصب الدانوب سوى القوط الغربيين، واشتد ضغط الهون ففر جماعة من القوط الغربيين، وخذلوا قومهم واتجهوا غربا، وجاءوا يفاوضون الإمبراطور والنس في الانتقال إلى داخل الحدود الرومانية والإقامة في تراقية، ورأى والنس في هؤلاء عنصرا طيبا وأداة فعالة لتقوية الجيش ولا سيما فرق الخيالة ، فقبل مطلبهم فعبروا الدانوب خمسين ألفا، وما إن فعلوا وألقوا سلاحهم حتى شعروا بالفاقة وقلة المأكل، فاستعادوا سلاحهم بالرشوة وجالوا في البلقان ينالون قوتهم بالقوة. وفي السنة 377 اندلعت نيران الحرب بين الفريقين، ولم يقو الجيش الروماني المرابط في البلقان على ضبط الموقف، فاستقدم والنس نجدات من الشرق وأمده غراتيانوس ابن أخيه إمبراطور الغرب ببعض الكتائب، ثم قام هو بنفسه على رأس الجيش الغربي لإعانة عمه، ولكن والنس تسرع فنازل القوط وحده، فخر في ساحة القتال صريعا في الثامن من آب سنة 378.
ثيودوسيوس الكبير (379-395)
وعظم الأمر على غراتيانوس وهاله، فاستدعى إليه ثيودوسيوس أشهر القادة وأمهرهم في الحرب، وفاوضه في أمر القوط، ورفعه إلى منصة الحكم، ونادى به إمبراطورا على الشرق، وهب ثيودوسيوس يعالج الموقف العسكري، فأوقع بالقوط ضربات أولية متتالية، ثم رأى أن لا بد من الاستيلاء على تسالونيكية لتأمين الزاد والعتاد الواردين من مصر والشرق، فاشتق طريقه إليها، ووصلها في أوائل حزيران سنة 379 واستقر بها، وفي شباط السنة 380 انتابه مرض عضال أشرف به على الموت، فطلب الاعتماد ليغسل به ذنوبه قبل ملاقاة ربه، ولكنه تساءل قبل اعتماده عن إيمان الأسقف المعمد، ولما تثبت من أرثوذكسيته اعتمد،
60
وكان والنس قد عدل عن اضطهاد الأرثوذكسيين مذ أن بدأ يعد العدة لمنازلة القوط، وكان غراتيانوس قد أيده في ذلك في خريف السنة 378،
61
فلما استتب الأمر لثيودوسيوس، عاد فأكد وجوب توقيف الاضطهاد والسماح للآباء المنفيين بالعودة إلى أوطانهم.
62
مجمع أنطاكي محلي (379)
وعاد ملاتيوس إلى مدينة الله مركز أبرشيته في صيف السنة 378،
63
وعاد أيضا كيرللس إلى أوروشليم، وأفسابيوس إلى سميساط، وإفلاليوس إلى أماسية البونط،
64
ووجد ملاتيوس الرعية ممزقة مشتتة، فقسم وافر منها كان يتبع دوروثيوس الآريوسي أسقف هرقلية، الذي خلف إفظويوس في أنطاكية في السنة 376،
65
وقال بعضهم قول أبوليناريوس فاعتبروا ويتاليوس
Vitalis
أسقفا عليهم، وكان بفلينوس الأرثوذكسي لا يزال يرعى قطيعا صغيرا من الرعية، فاتصل ملاتيوس لدى عودته ببفلينوس أولا، وحاول إزالة الشقاق بين أصحاب الإيمان الواحد بالتفاهم والرضى، ولكن بفلينوس تشامخ وتناسى كلام السيد الفادي واستغنى مكتفيا باعتراف أسقفي رومة والإسكندرية. ولا صحة فيما يظهر لما ورد في بعض المراجع
66
من أن ملاتيوس عرض على زميله بفلينوس رئاسة مزدوجة على كنيسة أنطاكية طوال حياتهما، تتبعها رئاسة موحدة بعد وفاة أحدهما.
67
وأخفق ملاتيوس الجليل في القديسين في مفاوضة بفلينوس، فدعا إلى مجمع أنطاكي محلي في خريف السنة 379، ولبى الدعوة مائة وثلاثة وخمسون أسقفا، بينهم: أفسابيوس سميساط، وبلاجيوس اللاذقية، وزينون صور، وإفلوغيوس الرها، وبيماتيوس ملة، وديودوروس طرسوس، أما باسيليوس الكبير فإنه كان قد توفي في مطلع هذه السنة نفسها، وقد ضاعت أعمال هذا المجمع، ولم يبق منها شيء سوى بعض إشارات غامضة متقطعة، وردت في مجموعة الشماس ثيودوسيوس، وقد أدى هذا الغموض والتقطع إلى اختلاف في الرأي بين العلماء المؤرخين؛ فالعلامة الألماني شوارتز يذكر إشارة إلى دستور إيمان أنطاكي جاءت في القانون الخامس الصادر عن المجمع المسكوني الثاني (382)، فيتوقع احتجاجا في قرارات هذا المجمع على موقف دماسوس رومة وبطرس الإسكندرية من بفلينوس،
68
والعلامتان دوشان وبتيفول يذكران تعلق الإمبراطور ثيودوسيوس بالعقيدة الأرثوذكسية، «كما قال بها دماسوس رومة وبطرس الإسكندرية»، ومحاولات باسيليوس وملاتيوس السابقة للاتصال برومة وإقناعها بوجوب تأييدهما، فيتوقعان انقياد الآباء المجتمعين في أنطاكية إلى القول بما قالت به رومة والإسكندرية، وطلب إدخالهم في الشركة المقدسة.
69
ولعل أفضل ما يقال في مثل هذا الظرف من الاجتهاد أن المجمع الأنطاكي اعتبر ملاتيوس خليفة الرسولين الشرعي، وأعلن استمساكه بالإيمان القويم، وحرر بذلك رسالة سلامية إلى أسقف رومة وغيره.
70
موقف الإمبراطور
ولا نعلم بالضبط ماذا كان موقف الإمبراطور ثيودوسيوس من هذا النزاع بين ملاتيوس الجليل في القديسين وبين بفلينوس مرشح دماسوس رومة وبطرس الإسكندرية، ونجهل أيضا درجة اهتمامه لهذا الاختلاف المحلي، وجل ما يجوز قوله هو أن هذا الإمبراطور المسيحي أهمل ذكر كنيسة أنطاكية ورئيسها عندما أصدر رأيه الرسمي في الثامن والعشرين من شباط سنة 380،
71
فإنه حض جميع المؤمنين بهذه البراءة على القول بما قال به أسقف رومة وأسقف الإسكندرية، ولكن نص هذا الحض جاء في صالح بفلينوس؛ لأن أسقف رومة وأسقف الإسكندرية كانا قد اعترفا به وحده،
72
ثم أدرك ثيودوسيوس بعد اطلاعه على الوضع الراهن في الشرق أن الأرثوذكسية لن تسيطر في الشرق إلا بواسطة الأرثوذكسيين أنفسهم وبتعاونهم مع السلطة الزمنية، فجاءت براءة العاشر من كانون الثاني سنة 381 خالية من أية إشارة إلى أسقف رومة أو أسقف الإسكندرية، وحرمت جميع الذين لا يقولون قول «نيقية» من الاجتماع في المدن، وقضت بتسليم جميع الكنائس لأبناء الكنيسة «الجامعة».
73
المجمع المسكوني الثاني (381)
وكان غراتيانوس وثيودوسيوس قد رغبا في عقد مجمع مسكوني منذ السنة 378، ولكن ظروف الحرب وقلة الثقة بين أساقفة الشرق وأساقفة الغرب حالت دون ذلك، فلما جاءت السنة 381 دعا ثيودوسيوس إلى مجمع مسكوني في القسطنطينية، فأم العاصمة الشرقية مائة وثمانية وأربعون أسقفا وأبا من أعاظم رجال الكنيسة، بينهم: ملاتيوس الأنطاكي وغريغوريوس النزينزي، وييموثاوس الإسكندري، وكيرلس الأوروشليمي، وشمل الوفد الأنطاكي خمسة وستين أسقفا من أساقفة فلسطين، وفينيقية، وسورية، والعربية، والرها، وما بين النهرين، والفرات، وقيليقية، وأسورية.
74
ووفد على الآباء الأرثوذكسيين المجتمعين في القسطنطينية ستة وثلاثون أسقفا من أنصاف الآريوسيين بزعامة الوسيوس أسقف كيزيكة، فامتنعوا عن الاشتراك في أعمال هذا المجمع؛ لأنهم لم يرضوا عن القول بدستور نيقية،
75
وتكلم غريغوريوس النزينزي يوم عيد العنصرة عن الروح القدس، فحث أتباع مقدونيوس على الألفة والاتحاد، ولكن دون جدوى،
76
فلم يبق للاشتراك في أعمال المجمع إلا كل أرثوذكسي مستقيم الإيمان.
وتولى ملاتيوس الجليل في القديسين رئاسة هذا المجمع المسكوني، وتوفي قبل انتهاء الأعمال، فتولى الرئاسة بعده غريغوريوس النزينزي أسقف القسطنطينية، ثم استعفى هذا الثيوغولوس من أسقفية القسطنطينية ومن رئاسة المجمع، فجلس في كرسي الرئاسة خلفه في أسقفية القسطنطينية نكتاريوس الشهير.
فبحث المجمع أمر العقيدة فثبت الدستور النيقاوي، وأضاف إليه فيما يظهر الفصول التاسع حتى الثاني عشر،
77
ويلاحظ هنا أن أعمال هذا المجمع ضاعت، وأنه لم يبق منها شيء سوى ما أعيد ذكره للتثبيت في أعمال المجمع الخلقيدوني. ويرى هرنك العلامة الألماني أن هذه الفصول التي أضيفت إلى دستور نيقية، اتخذت شكلها الحالي بعيد مجمع الإسكندرية (362)؛ لأن أبيفانيوس السلميني يشير إليها في الأنكوراتوس
Anocratus
سنة 374.
78
وسن المجمع أربعة قوانين، بحث الأول والرابع منها أمر الهرطقات وأسقفية مكسيموس القسطنطيني، وحرم الثاني تدخل الأساقفة في شئون الكنائس خارج أبرشياتهم، فجعل لأسقف الإسكندرية أن يسوس أمور مصر فقط، ولأساقفة الشرق أن يسوسوا الشرق فقط مع المحافظة على التقدم الذي في قوانين نيقية لكنيسة الأنطاكيين، وجعل هذا القانون الثاني لأساقفة آسية أن يسوسوا أمور آسية فقط، وللذين في البونط أمور البونط فقط، وللذين في تراقية أمور تراقية فقط، وأما كنائس الله التي بين الأمم البربرية، فيجب أن تساس حسب عادة الآباء. وجاء في القانون الثالث: «أما أسقف القسطنطينية، فليكن له التقدم في الكرامة بعد أسقف رومة؛ لأن القسطنطينية رومة جديدة.»
ويلاحظ هنا أن كتاب المجامع اليوناني يضيف إلى هذه القوانين الأربعة ثلاثة قوانين أخرى، ولكن الخامس والسادس من هذه القوانين المضافة هما من أعمال مجمع السنة 382 لا 381، وأما السابع فإنه في الأرجح نبذة من رسالة وجهتها كنيسة القسطنطينية في منتصف القرن الخامس إلى مرتيريوس أسقف أنطاكية.
79
وختم الأساقفة أعمال المجمع المسكوني الثاني في التاسع من تموز سنة 381، وحرروا بذلك رسالة إلى ثيودوسيوس الإمبراطور، وشكروا له دفاعه عن الإيمان القويم وسعيه لتوطيد السلم بين الكنائس، فأصدر الإمبراطور في الثلاثين من تموز سنة 381 براءة جديدة أوجب بها إعادة الكنائس إلى الكاثوليكيين الأرثوذكسيين، واعتبر أرثوذكسيين أولئك الذين شاركوا نكتاريوس القسطنطينية، وتيموثاوس الإسكندرية، وبيلاجيوس اللاذقية، وديودوروس طرسوس وغيرهم،
80
وكانت أسقفية أنطاكية لا تزال شاغرة بعد وفاة ملاتيوس.
فلافيانوس أسقف أنطاكية (381-404)
وتوفي ملاتيوس في أواخر أيار السنة 381، فبكاه الإمبراطور والأساقفة وأبنه أفصح الخطباء، ومما قاله أبو الآباء غريغوريوس النيصي أحد أعضاء المجمع المسكوني الثاني: «كيف اضطر لساني على حبك الكلام، وقد قيدته الطامة كالسلسلة؟ كيف أفتح فمي وقد أطبقته الدهشة؟ كيف أحدق بعين النفس وأنا مغلف بحلك الأهوال؟ أين شراعنا المجيد الذي كان يسير بهدي الروح القدس؟ أين ثبات العقيدة الذي كنا نفزع إليه واثقين؟ أين النوتي الحكيم الذي كان يقود السفينة إلى الهدف الأسمى؟ فافقهوا أي رجل هذا: جليل من مشارق الشمس، صديق بلا لوم تقي متنكب عن كل أمر رديء.»
81
وبحث الآباء المجتمعون في القسطنطينية أمر خلافة الرسولين في أنطاكية، فارتأى غريغوريوس الثيولوغوس الاعتراف برئاسة بفلينوس الذي كان لا يزال في قيد الحياة، ولا سيما وأن أسقفي رومة والإسكندرية كانا لا يزالان يعترفان بسلطته على أنطاكية وتوابعها، ولكن الأساقفة الأعضاء الصغار «ضجوا ودندنوا»، والكبار أعرضوا ولم يوبخوا، فاضطر الثيولوغوس أن يقول قوله المأثور: «إذا كان السيد له المجد ولد في الشرق، فإنه صلب فيه أيضا.»
82
واستقال الثيولوغوس من رئاسة المجمع ومن أسقفية القسطنطينية، وأجمع الأعضاء على نكتاريوس خلفا له، وعلى فلافيانوس الكاهن خلفا لملاتيوس.
ونفذ شابور الحاكم العسكري إرادة ثيودوسيوس في أنطاكية، فطرد دوروثيوس وأتباعه الآريوسيين، ولم يعترف برئاسة بفلينوس،
83
فأجمع الأساقفة في أنطاكية وانتخبوا فلافيانوس أسقفا وسلموه عكاز الرعاية،
84
وزهت الكنيسة في عهد فلافيانوس، وعاد إليها نشاطها السابق، ولكن رومة ثابرت في تأييد بفلينوس! وكبر بفلينوس وبلغ المائة، وكان لا يزال مكابرا فخرج على مقررات المجمع المسكوني الأول، وسام هو نفسه إفاغريوس خلفا له، ثم توفي في السنة 388، فعاد النشاط إلى صفوف الأفستاثيين في أنطاكية، فاتهموا فلافيانوس بالاستبداد والظلم والجور واستغاثوا بالغرب، ولا سيما بأسقف ميلان إمبروسيوس، وانتهزوا فرصة وجود ثيودوسيوس في رومة في صيف السنة 389، فحاولوا تقويض أسس المحبة والاحترام بين الإمبراطور وخليفة الرسولين في أنطاكية،
85
ودعا إمبروسيوس أسقف أنطاكية إلى كابوا في إيطالية في أواخر السنة 391 لمقابلة إفاغريوس فيها، ولكن فلافيانوس أبى أن يعاد النظر في أمر انتخابه،
86
فلجأ إمبروسيوس إلى أسقف رومة، وألح عليه بوجوب تدخل ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية في الأمر، فكتب سيريقيوس أسقف رومة إلى ثيوفيلوس في ذلك، فالتأم مجمع محلي في قيصرية فلسطين في السنة 392 للنظر في الخلاف القائم بين إفاغريوس وفلافيانوس، فاعترف الأساقفة المجتمعون بأسقف واحد على أنطاكية هو «فلافيانوس التقي الورع»، وعلى الرغم من هذا كله، فإن رومة تباطأت فلم تعترف بأسقفية فلافيانوس إلا بعد ذلك ببضع سنوات!
87
الفصل التاسع عشر
يوحنا الذهبي الفم
345-407
وأنجبت كنيسة أنطاكية في أثناء محنتها أفصح الآباء لسانا وأبلغهم قلما وأشدهم ذودا عن حرمة الدين وشرف الإيمان، هو يوحنا الذهبي الفم، الذي لا يزال يهزنا بصلواته هزا، ويثير فينا بمواعظه خوف الله وطاعته.
مولده وصباه
أبصر يوحنا النور في أنطاكية في السنة 345 من أب عريق في الشرف سكوندوس
Secundus
قائد القوات الرومانية في سورية، وأم مسيحية تقية أنثوسة
Anthusa
الشهيرة.
ولدت أنثوسة ابنة ثم ابنا، وتوفي سكوندوس في السنة الرابعة لزواجه، فترملت أنثوسة وهي لا تزال في العشرين من عمرها، واحتقرت أباطيل هذه الدنيا، وزهدت في ملاذها فرفضت الزواج بعد ترملها، وعطفت على ولديها وتفرغت لهما، فربتهما تربية مسيحية خالصة، ونالت بذلك إعجاب جميع معارفها المسيحيين منهم والوثنيين، واضطر ليبانيوس الفيلسوف الوثني أن يعترف بإخلاصها وثباتها، وأن يهتف قائلا: «ما أعظم النساء عند المسيحيين!»
1
تهذيبه وتحصيله
وشب يوحنا فطلب اللغة والبيان في مدرسة ليبانيوس أشهر بلغاء عصره، فأجاد اليونانية وشرب من مناهلها الكلاسيكية حتى تضلع؛ فكانت له خير عون في مواعظه وشروحاته ورسائله، ولمس ليبانيوس مواهب تلميذه، فافتخر به وعده أبرع خطباء عصره، وقال لتلاميذه عند احتضاره: لقد كان في ودي أن أختار يوحنا لإدارة مدرستي من بعدي، ولكن المسيحيين سلبوه منا.
2
وطلب يوحنا الفلسفة، فقرأها على أنذروغاثيوس
Androgathius
في أنطاكية أيضا، وكان ليوحنا في حياة التلمذة عدد من الأصدقاء الصادقين المخلصين الأمناء، ولكن واحدا بينهم كان أرفع من غيره في إخلاص الولاء، وهو باسيليوس الذي أصبح فيما بعد أسقف رفنية بالقرب من مصياف، لا باسيليوس الكبير كما ظن بعض الباحثين.
3
زهده وورعه
وأراد باسيليوس أن ينتقي لنفسه سيرة الزهد، ويعبر إلى حمى «الفلسفة الحقيقة»، وأطلع صديقه يوحنا على ذلك وحثه على ترك العالم، ولكن يوحنا لم يقبل، ومن هنا قوله: مال الميزان بيننا، فارتفعت كفة صديقي وهبطت كفتي تحت ثقل الملاذ الدنيوي والأميال الشبابية.
4
وامتهن يوحنا المحاماة ليلفت النظر إلى مواهبه ومداركه، ويصعد بها إلى أعلى الدرجات، وبهر أقرانه في قاعات المحاكمة بفصاحته وبلاغته، ونال إعجاب القضاة ورجال الحكم ، ثم رغب عنها فجأة وترفع فتركها أنفة واستنكافا.
وكانت أمه قد زرعت في قلبه خوف الله وحب الفضيلة، فأقبل على الإنجيل والتوراة يستقي إيمانا ومحبة وطهرا، وكان ملاتيوس الجليل في القديسين أسقف أنطاكية يرقب تقدم يوحنا في العلم والفضيلة، فلما تيقن من زهده أحله في دار الأسقفية، وأرشده ثلاث سنين متتالية، ثم منحه سر المعمودية ورقاه إلى درجة القارئ، ولا يخفى أن بعض المسيحيين آنئذ هابوا سر المعمودية، وتحرزوا من عواقب الوقوع في الخطيئة بعدها، فآثروا تأجيل ممارسة هذا السر حتى سن متأخرة، وليس في المراجع ما يبين لنا سبب تأخر أنثوسة عن تعميد ابنها ووحيدها، أو سبب تأخر يوحنا نفسه عن سماع الوعظ وتقبل النعمة حتى الثالثة والعشرين، وقد يكون السبب في ذلك انقسام الكنيسة في أنطاكية على نفسها، وقد لا يكون.
5
وبالمعمودية «رفع يوحنا رأسه فوق أمواج بحر العالم الجائشة»،
6
فهرع إليه باسيليوس وعانقه ولازمه ابتغاء إرشاده، واتفق الاثنان على الانزواء في مسكن واحد، مبتعدين عن العالم، مكرسين وقتهما للدرس والتأمل والصلاة، ولكن أنثوسة ذكرت ابنها بترملها الباكر، وامتناعها عن الزواج للقيام بواجبها له ولأخته، وطلبت إليه بلجاجة أن يعود إليها، فرضخ لسؤالها،
7
وبقي معها ولكنه حبس نفسه في البيت، ولازم الصمت وقضى وقته في المطالعة والصلاة،
8
ثم أنشأ بالاشتراك مع صديقه باسيليوس أخوية نسكية ضمت بعض رفاقهما في التلمذة أمثال: ثيودوروس أسقف موبسوستة فيما بعد، ومكسيموس أسقف سلفكية أسورية، وخضعت هذه الأخوية فيما يظهر إلى ديودوروس وكرتيريوس الراهبين الرئيسين في أنطاكية آنئذ، وهاك ملخص ما قاله الذهبي الفم في وصف هذا التنسك: «منذ نصف الليل وعند صياح الديك يهب رئيس الجماعة، ويطوف على غرف الإخوة، فيمس كلا منهم برجله ناطقا بعض كلمات مقدسة ليوقظهم ويدعوهم إلى الصلاة، فيقومون بصمت وتهيب، ويرفعون قلبهم وأصواتهم إلى الله، ويتلون مناوبة صلاة السحر والتسابيح، ثم يعودون ساكتين إلى مخادعهم، فيتبحرون متأملين في الأسفار المقدسة أو ينصبون على التأليف، ثم يجتمعون في الكنيسة خمس مرات في النهار لتلاوة الساعات الأولى، والثالثة، والسادسة ، والتاسعة، والغروب. أما ساعات الفراغ في النهار فإنهم كانوا يقضونها بالأعمال اليدوية؛ كحراثة الأرض، وحياكة السلال، والمسوح، وخياطة ثياب الفقراء، وجمع الحطب ونقله إلى الدير، وحمل ما يحتاج إليه من القوت، وإصلاح الأطعمة. وكان بابهم مفتوحا يرحبون بكل ضيوفهم، إن أغنياء أو فقراء مرضى أو قطاع طرق، أبرارا أو خطأة، أصدقاء أو أعداء، وعندما كان الغريب يطأ عتبة الدير كانوا يحيونه بألفاظ مقدسة، ثم يأتي أحد الإخوة وينفض عن ثيابه الغبار، ثم يغسل رجليه ويقبلهما، ثم يجلسه إلى مائدة الضيوف، ويقف أمامه باحترام لخدمته.
وعند المساء بعد زوال النهار كانوا يجتمعون كلهم لتناول غدائهم الوحيد وهو الخبز والملح لا غير، وكانوا لا يأكلون الزيت إلا قليلا، أما إذا توعك أحدهم أو أضناه المرض، فكانوا يأذنون له بأكل بعض الأعشاب والخضر المسلوقة، وبعد صلاة النوم كانوا يتوغلون في التأمل، ثم ينطلقون لينالوا نصيبا من الراحة، وكان فراشهم حصيرة ممدودة على الأرض، فكانت لهم في النهار مجلسا وفي الليل سريرا، وكانوا يمشون حفاة وليس على أبدانهم إلا أنسجة غليظة من شعر الماعز أو وبر الإبل أو بعض الجلود الجافة، وكانوا كلهم في المأكل والملبس سواء مهما كان شرف أصلهم وغنى أسرتهم.» مأخوذ بتصرف عن نخبة النخب ص11-13.
وفي السنة 374 شاع في الأوساط النصرانية في أنطاكية أن أصحاب الرأي والقول من رجال الإكليروس والشعب، مزمعون أن يرقوا باسيليوس ويوحنا إلى درجة الأسقفية (وفي بعض النسخ إلى درجة الكهنوت)،
9
وقضى العرف آنئذ بوجوب الرضوخ في مثل هذه الأحوال لمشيئة الشعب والإكليروس، وجاز لهؤلاء إكراه من يرون فيه الكفاءة على قبول ما يقرون (ومن هنا بكاء القديس أوغوسطينوس قبل سيامته). وعلم باسيليوس بما تضمره له ولرفيقه الأوساط الدينية العالية، فجاء وأسر إلى يوحنا هذا الخبر، وتوسل أن يبيح له بما في ضميره ليعمل ما هو عامل، فإن رضي يوحنا بالأسقفية انضما فيها كلاهما، وإن رفضها هربا معا، فأجاب يوحنا جوابا مبهما فهم باسيليوس منه الترغيب في قبول الأسقفية، وحان الوقت وجاء الأسقف الراسم، فتوارى يوحنا ورسم باسيليوس وحده، فاستثقل باسيليوس الحمل؛ ولا سيما لما وجد رفيقه قد أفلت منه، فجاءه متذمرا باكيا مذكرا كيف تصافيا على المحبوب والمكروه، وكيف رسخت بينهما قواعد المودة، وتوثقت عرى المحبة، مؤكدا أنه لم يتهم وده قط، ولم يخش غدره مرة واحدة،
10
فوقع هذا الكلام في قلب يوحنا وقعا شديدا، فأنشأ كتابه الشهير في الكهنوت مبينا سمو مرتبته، وافتخر بالخديعة التي اقترفها؛ لأنه بها أعطى الكنيسة كاهنا بحسب قلب يسوع المسيح، واعتبر الكاهن قديسا وملاكا وجيشا وقاضيا وطبيبا وراعيا، وقال: «إن الكهنوت يباشر على الأرض إلا أنه مرتب بين العجائب السماوية؛ لأنه لم يرتب من إنسان ولا من ملاك ولا من أية قوة أخرى مخلوقة، بل من المعزي الإلهي نفسه. ويرسم صورة الحرب الواجبة على كل كاهن، فيرى في الكاهن جنديا مدافعا عن الكنيسة جسد يسوع المسيح السري، مسلحا بسلاحين: سلاح المثل الصالح، وسلاح الكلام الذي يسند القلب ويؤيده.»
11
وكان غضب والنس قد جاش على الأرثوذكسيين في السنة 373، فأكره نساكهم ورهبانهم على الخدمة العسكرية أو المدنية التي تفرضها الدولة، واعتبر بعض المسيحيين تقشفات النساك ضربا من الجنون، فهزءوا بهم وأهانوهم أينما وجدوهم وفاخروا بما فعلوا، وضحك الوثنيون على الطرفين، فأخذت الكآبة من نفس يوحنا كل مأخذ، وعلم أحد الأصدقاء بهذا الانفعال النفساني الشديد، فحض يوحنا أن يقيم من كلامه حصنا يدرأ به نار الاضطهاد، فتردد يوحنا ثم أنشأ ثلاثة كتب في إطراء السيرة النسكية، ولا تزال حتى يومنا هذا من أفضل ما صنف في موضوعها.
وازداد يوحنا في هذه الفترة (374-381) رغبة في الكمال الرهباني، فتوغل في وادي العاصي وأوى إلى مغارة عند مصبه، فلم يقو جسمه على هذا التقشف الجديد، فهزل قديسنا وحل به داء عضال، فظن هو أنه قد قارب أصدق المواعيد، فعاد إلى أنطاكية «ولم يدر أن الله إنما افتقده لما رأى ثمره نضج، وقد حان الوقت ليرفع صوته ويسطع نوره في أفق الكنيسة.»
الشماس والكاهن والواعظ (381-398)
وكان الجليل في القديسين ملاتيوس قد عاد إلى أنطاكية في صيف السنة 378، فلما أطل يوحنا على دار الأسقفية ابتهج الأسقف الأنطاكي الجليل، وجاء به ورسمه شماسا رغم معارضته، فوزع الصدقات اليومية، وزار المرضى والحزانى، وحافظ على النظام والهدوء في الاجتماعات الروحية، وعاون الأسقف في خدمة الأسرار وحمل المناولة إلى المرضى.
ودعي ملاتيوس لحضور المجمع المسكوني القسطنطيني (381)، فاستصحب يمينه الكاهن فلابيانوس، ووكل السهر على شئون الكنيسة في أنطاكية إلى شماسه يوحنا، ثم توفي ملاتيوس في أثناء انعقاد هذا المجمع فبكاه يوحنا؛ لأنه فقد به مرشدا ومحاميا، وأجمع الآباء الأنطاكيون أعضاء المجمع القسطنطيني على فلابيانوس خليفة للرسولين، وأيدهم في ذلك غيرهم من أعضاء هذا المجمع، وتم انتخابه وتسنم السدة الأنطاكية، فتوثقت بينه وبين يوحنا عرى المحبة، وشرع يفكر في ترقية الشماس يوحنا إلى الكهنوت، ثم وضع يده عليه في كنيسة القديس بولس سنة 386، فجعله كاهنا وواعظا، وسمعت كنيسة أنطاكية خطب يوحنا، فأخذتها الدهشة وأصغت جامدة لا تبدي حراكا، فملك يوحنا قيادتها بزمام فصاحته ومثال قداسته، فكان يديرها كيف شاء، ولم يكتف بضرب معاقل الرذائل ودكها، بل سعى لإصلاح المجتمع ومعالجة قضيتي الفقر والرقيق، فمثل المصائب تمثيلا بارعا، وحرك الأغنياء أن يمدوا يد المعونة، فشرعت الكنيسة في إنشاء المستشفيات والمآوي برئاسة الأسقف وتدبير الشمامسة والقساوسة.
الذهبي الفم وعيد الميلاد (386)
وبدأت كنيستنا الأنطاكية تحتفل بعيد الميلاد في أيام الذهبي الفم، آخذة بذلك عن كنيسة رومة، فلما سيم قديسنا قسا في السنة 386 رأى من واجبه إقناع المؤمنين بأهمية العيد المجيد، فقال مما قال في العشرين من كانون الأول:
أيها المسيحيون، إن العيد المقبل علينا هو العيد الأكثر وقارا وهيبة بين جميع الأعياد، ولا نخرج عن محجة الصواب إذا قلنا إنه أبو الأعياد، فلو لم يولد المسيح بالجسد لما كان اعتمد ولا صلب ولا أرسل الروح القدس؛ ومن ثم فما كنا نقيم عيد الغطاس ولا الفصح ولا العنصرة، فمن عيد الميلاد المجيد تولدت جميع الأعياد السيدية، وتدفقت منه كما تتدفق الأنهار من ينبوع واحد، فأطلب إليكم وألتمس منكم جميعا أيها الإخوة أن تتركوا منازلكم وتوافوا إلى الكنيسة بجد ونشاط لنشاهد السيد موضوعا في مذود .
وعاد قديسنا إلى الوعظ في يوم عيد الميلاد بفصاحته المعهودة، فقال قولا بليغا خالدا، وسجل بعض الأخبار المفيدة لتاريخ هذا العيد، فألمع إلى أننا لم نبدأ بالاحتفال به في كنيستنا الأنطاكية قبل السنة 376، وأننا أخذناه عن الغرب:
ولئن كان ظهور هذا اليوم الشريف ومعرفتنا إياه من مدة لا تنيف على عشر سنوات، فمع ذلك بما أظهرتموه فيه أيها المسيحيون من الجد والنشاط قد ازدهى وأضاء كأنه مسلم به قديما، وقد كان معروفا منذ البدء بين الشعوب القاطنين في الغرب، ودخل بيننا حديثا، ومع ذلك فقد أينعت ثماره الدانية القطوف بغزارة تظهر لديكم جليا مما تشاهدون من احتشاد الشعب في الدار وما حولها، فضلا عن أن الكنيسة ضاقت بالذين وافوا إليها، وقد بلغني أنه قامت مناظرة بشأن هذا العيد، وأن البعض نددوا بتعيين هذا اليوم، وأبوا أن يشتركوا في الاحتفال به نظرا لكونه مستحدثا، والآخرين احتجوا على ذلك، وناضلوا عن إقامة هذا التذكار المجيد، مبينين أنه قديم وأن الأنبياء قد سبقوا وأعلنوا عن يوم ميلاد السيد، وأنه معروف عند جميع الشعوب القاطنين بلاد تراكي حتى بلاد إسبانية ويحتفلون به كثيرا.
وثورة أنطاكية
وتلطخت إدارة ثيودوسيوس بالرشوة، وكتب ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي إلى الإمبراطور يقول: «حكامك الذين تبعثهم إلى الولايات ليسوا سوى قتلة.» وجاءت السنة 387 فشرعت الحكومة المركزية تتهيأ للاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم الإمبراطور، وبإتمام السنة الخامسة لإشراك ابنه أركاديوس بالسلطة، فاستثقل الأنطاكيون هذه الترتيبات المالية الجديدة، وتقدم أعيانهم إلى عامل الإمبراطور في أنطاكية يسألونه رفع هذا العبء، فلم يلتفت إلى سؤالهم، وأبدى جباة الضرائب الجديدة عنفا وقسوة، فأمسوا هدفا للشتائم واللعان، واشتدت وطأة هذا الظلم على الفقراء، فأخذوا يتجولون في الشوارع، وجعلوا يجدفون على الإمبراطور وأسرته، وحطموا تماثيلهم النحاسية ولا سيما الإمبراطورة بلاكلة، التي كانت قد غمرت الأنطاكيين بالإحسانات، فإنهم جروا تماثيلها في الأوحال والأقذار، ثم كسروها قطعا، واختبأ رجال السلطة في منازلهم، وحذا حذوهم سائر الأعيان والوجهاء، فأمست المدينة في يد أهل الفوضى، فنهبوا ودمروا وخربوا تخريبا، ثم أفاقوا فتأملوا مرتجفين، وتوقعوا نزول العقاب، فهجر بعضهم المدينة، وهرب آخرون إلى الهضاب المجاورة.
وتفطر قلب فلابيانوس الأسقف، وخشي سطوة الإمبراطور، فأشفق على خرافه من أن يؤخذ البريء بذنب الجريء، وقر قراره أن يطرق باب الإمبراطور نفسه ويلتمس العفو منه، فسار في إبان الشتاء مسرعا؛ ليسبق السعاة المنفذين لإنذار ثيودوسيوس بما جرى، فنظر الأنطاكيون إلى هذه الغيرة بعين الارتياح والتقدير، وشخصت أبصارهم إلى خليفته الذهبي الفم، فاقتدى هذا بأصحاب أيوب، ولزم جانب الصمت سبعة أيام، ثم أخذ يعزي نفوسهم مؤكدا حماية يسوع، مذكرا ببلايا أيوب وبالفتيات الثلاثة، الذين ظلوا يسبحون الرب في وسط أتون النار.
وبلغ ثيودوسيوس خبر الاضطرابات في أنطاكية من الإشاعات قبل وصول السعاة، فاستشاط غضبا وجزم بأن ينزع عن جميع أنطاكية امتيازاتها، وينقل عاصمة المشرق إلى اللاذقية، وأوفد إليها قائدين كبيرين: الليبيكوس
Ellebichus
وقيصاريوس. فلما وصلا إلى أنطاكية في الثاني والعشرين من شباط من السنة 387، أعلنا سقوط امتيازات المدينة، وأقفلا الملاعب والمشاهد والميدان والحمامات، وشرعا ينقبان عن المجرمين، ووقعت الشبهات على كثيرين من وجهاء المدينة لتقاعدهم عن قمع الهيجان، فأوثقوا وطرحوا في السجون، وحجز على أموالهم وطردت نساؤهم من بيوتهم، ولم يجرؤ أحد أن يقبلهن عنده خشية أن يتهم بمشاركة أزواجهن، فتولى الذهبي الفم التعزية بنفسه، وأقبل لمساعدته بعض أساقفة الكرسي الأنطاكي وعدد من الرهبان والنساك، وامتاز بين هؤلاء مقدونيوس الناسك فإنه أوقف معتمدي ثيودوسيوس، وقال لهما قولا حكيما، وطلب إليهما أن ينقلاه إلى سيدهما؛ وخلاصة هذا القول أن ليس له أن يمحو من سفر الحياة صورة الله الممتازة، فاندهش المعتمدان من بلاغة هذا الشيخ الزاهد وقوة لهجته، ووعداه بأنهما لا يمسان أحدا بسوء قبل أن يرفعا كلمته للإمبراطور.
وقابل الذهبي الفم موقف الأساقفة والنساك والرهبان في هذا الحادث الجلل بموقف كبار الوثنيين، فقال في إحدى مواعظه ما معناه: أين هم الآن أولئك الرجال أصحاب الطيالس الطويلة واللحى العريضة، الذين كانوا يتمشون شامخي الأنوف في الأندية العمومية وفي يدهم عصا؟! أين هم في ساعة الأحزان والذعر، لقد هجروا المدينة عند حلول الخطر، وفروا إلى المغاور والأودية إخفاء لعار ضعفهم، ولم يأت لإغاثة الشعب في ضيقه إلا محبو الحكمة الحقيقية حكمة الصليب، هؤلاء النساك مستودعو كنز تعليم الرسل وورثة غيرتهم وشجاعتهم، وكفى بالحوادث صوتا يفحم كل خصم (نخبة النخب: 29).
ووصل أسقف أنطاكية فلابيانوس إلى القسطنطينية وهرع إلى البلاط، وكان قد عانى من التعب أشده، ولا سيما وأنه سافر في أثناء الصوم الكبير وحفظ فريضته، فلما أبصره ثيودوسيوس تصدم قلبه أسفا، فذكر الامتيازات والإحسانات التي غمر بها أنطاكية، وقال: أهذا هو عرفان الجميل؟ فرد عليه الأسقف الشيخ خليفة الرسولين بخطاب طويل، وأفضل ما جاء فيه قوله: «إني لست فقط رسول شعب أنطاكية، بل أيضا سفير الله أتيت باسمه أنبئك أنك إن غفرت للناس سيئاتهم وهفواتهم، غفر لك أبوك السماوي مساوئك وزلاتك. افتكرن في ذلك اليوم الرهيب حين نلتزم جميعا أن نؤدي عن أعمالنا حسابا، تذكر أنك اليوم تستطيع بلا عناء ولا دموع وبكلمة واحدة أن تعطف عدل الله أبيك، وتؤكد لك في دينونة يسوع المسيح الحصول على الصفح والغفران، فبمثل ما تحكم الآن يحكم عليك. إن سائر السفراء يمثلون بين يديك ببهاء الذهب ووفرة الهدايا وكثرة المال، أما أنا فلا أقدم لك إلا شريعة يسوع المسيح المقدسة، والمثل الذي أعطاناه بموته على الصليب ليستحق لنا مغفرة سيئاتنا.» فمست الشفقة قلب ثيودوسيوس، وأجاب: «إن كان يسوع ربنا وسيدنا قد صار لأجلنا عبدا وأسلم نفسه ليصلب، وإن كان قد سأل أباه المغفرة لصالبيه، فكيف أتجاسر أن أتردد في المغفرة لأعدائي» (نخبة النخب: 37-41).
وعاد فلابيانوس إلى أنطاكية حاملا العفو المنشود، واحتفل بعيد الفصح المجيد، فانبرى الذهبي الفم يرد آيات الشكر والتسبيح؛ لأن شعب أنطاكية كان ميتا فعاش، وضالا فوجد.
12
أسقف رومة الجديدة (398-404)
وتوفي نكتاريوس أسقف القسطنطينية في خريف السنة 396، فأصبح كرسي رومة الجديدة كرة شقاق بين الشعب وبين رجال الكهنوت، وكان ثيودوسيوس قد توفي في مطلع السنة 395 مخلفا أزمة الحكم ليدين ضعيفتين لابنيه أركاديوس في الشرق وأونوريوس في الغرب، وتسلط على أركاديوس وزيره الأكبر روفينوس، ثم قوي على هذا الخصي أفتروبيوس فأسقطه وجلس في مكانه، وهذا هو الذي عهد إليه من حيث منصبه أن يرفض توسلات أولي الأطماع، وأن يفتح أذنه إلى وحي ضمير المؤمنين وصوت الشعب المسيحي الحقيقي، وكان أفتروبيوس الخصي قد عرف الذهبي الفم في أثناء إحدى رحلاته إلى «الشرق»، فأعجب بفصاحته وقدر فضله، فلم يجد أجدر منه بإعادة شعب العاصمة إلى الفضائل المسيحية، ولعله أحس بوحي أوتيه من فوق؛ فإنه عند المجاهرة باسم الذهبي الفم استصوب الجميع هذا الاختيار. وعرف الخصي تعلق الأنطاكيين بمرشحه، فكتب إلى فيكتور استريوس والي الشرق أن يرسل يوحنا خفية دون إطلاع أحد من الأنطاكيين على ذلك، فبادر الوالي إلى التنفيذ ووجد أن أيسر الطرق هو الاحتيال بإخراج يوحنا إلى ظاهر البلد ليتمكن من تسفيره سرا، فدعا الوالي الكاهن يوحنا إلى زيارة قبور الشهداء خارج أسوار المدينة، فعد يوحنا هذه الرحلة واجبا مقدسا ورضي بها، وما كاد يعبر باب أنطاكية حتى استلمه أحد الخصيان وقائد من البلاط وحملاه إلى القسطنطينية.
13
ورغب الإمبراطور ومن حوله أن يستقبلوا المرشح الأنطاكي بما استطاعوا من العظمة والأبهة والإجلال؛ لأنه سيتبوأ أسمى المناصب في الكنيسة بعد أسقف رومة، فدعا الإمبراطور إلى مجمع محلي للانتخاب، وجمع كل أكابر العاصمة، واستدعى ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية ليحتفل بوضع يده على الذهبي الفم وتسليمه عكاز الرعاية.
ولم يرض ثيوفيلوس عن مقررات المجمع المسكوني الثاني، التي جعلت من أسقف القسطنطينية الثاني في الكرامة بعد أسقف رومة، وخشي مواهب يوحنا وقداسته، فأحب أن يجعل أيسيدوروس الكاهن الإسكندري أسقفا على رومة الجديدة، وكان هذا الكاهن راهبا فاضلا، ولكنه ساذج مطواع، فأحبه ثيوفيلوس؛ لأنه رأى في انقياده الأعمى آلة يديرها في يده كيف شاء،
14
فجاهر ثيوفيلوس بعدم الرضى، فاضطر أفتروبيوس الخصي أن يقول لهذا الأسقف: «أمامك أحد أمرين: إما أن تنقاد لرأي الأساقفة والوجهاء، وإما أن تدافع عن نفسك ضد المشتكين عليك.» فارتبك ثيوفيلوس واحتفل برسامة يوحنا الذهبي الفم في السادس والعشرين من شباط سنة 398،
15
ويجوز القول أيضا مع السنكسار القسطنطيني إن هذه الرسامة تمت في منتصف كانون الأول من السنة 397.
16
ولم يعبأ يوحنا بأبهة العاصمة، ولم يتعاظم بعظم مركزه، ولم يتباه بقربه من البلاط، بل حاول أن يوفق بين حياته الرعائية وبين حياة المخلص، وابتدأ بالإصلاح من بيته، فخفض النفقات وبذل ما فاض من الدخل في سبيل إسعاف الفقير وتخفيف مصائب المرضى، وسعى سعيا حثيثا لحماية خرافه من حملات الهراطقة: الآريوسيين، والأفنوميين، والمانيين، والمركونيين، والفالنتينيين. والأفنوميون كانوا أتباع أفنوميوس أسقف كيزيكة، وقد سبقت الإشارة إليه في فصل سابق.
وعني هذا الأسقف القديس بإصلاح الإكليروس، فسلق بعضهم بلسانه سلقا، وأوجب عليهم الزهد في الملبس والمأكل والقيام بالواجب المقدس، وكان لكلامه وقع شديد في قلوب السامعين، فانقاد إكليروس القسطنطينية لصوته، وعاد عدد كبير منهم إلى ما اعتاد عليه آباء الكنيسة الأولون من التواضع والفقر والقناعة والقداسة. وكان الأرشدياكون سرابيون أشد من الذهبي الفم غيرة على الإصلاح، فأمسى إفراطه في التنقيب والتأنيب عثرة في سبيل القديس، فحقد بعض رجال الإكليروس على الأسقف وعلى الأرشدياكون، واضطر الأسقف بعد أن يئس من إصلاحهم أن يقطعهم من جسم الكنيسة، وتفقد القديس بنفسه جميع الأديرة، فأثنى على المحافظين على فرائض الدعوة، وأكره الذين نفخ فيهم ريح العالم على الرجوع إلى الأديرة، والتقيد بقوانينها وتقاليدها، وحرم على الكهنة قبول العذارى المصونات في بيوتهم، وأنشأ للعذارى مآوي انقطعن فيها للصلاة والفضائل ولنسج ثياب الفقراء وتزيين الكنائس، وجعل عليهم أما واحدة لسياستهن نيكارتية النيقوميذية، ثم التفت إلى إصلاح ما فسد من أحوال الأرامل فئة الكنيسة العاملة في أوائل عهدها، فمنعهن عن التردد إلى البيوت والحمامات والملاعب، وأمرهن أن يعتضن عنها بالتأمل والصلاة، ومؤاساة الفقراء، وعيادة المستشفيات، وحتم أنهن إن استثقلن الترمل فليتقيدن بزواج ثان خير لهن وأولى، وفاقت أولمبياذة جميع الأرامل بجميل فضائلها وكثرة حسناتها، وكانت قد ترملت وهي في العشرين من عمرها، فالتحقت بأحد الملاجئ، فلما أتى يوحنا القسطنطينية كان لها من العمر خمسون سنة، فأثرت شخصيته في نفسها، فعرضت عليه خدماتها وأموالها، فأنفق القديس عن سعة في سبيل تبشير القوط والروس وبعض الفينقيين في تلال لبنان، وفي إنشاء المؤسسات الخيرية.
سقوط أفتروبيوس (399)
وكان أفتروبيوس ثاقب العقل، وقاد الفكر، ينظر في مشاكل ويحلها من أبواب لم يستطع غيره الوصول إليها؛ فكبرت منزلته في عين أركاديوس، ورأى فيه الرجل الوحيد الذي لا غنى عنه في تدبير السلطنة، وولد هذا الاحترام في قلب الخصي صلفا وتيها.
وكان ثيودوسيوس قد أدخل إلى صفوف الجيش عددا كبيرا من القوط، ولا سيما في سلاح الخيالة، وكان بعضهم قد خدم الجيش بإخلاص وأبلى البلاء الحسن، فرقي من رتبة إلى رتبة، وكان بين هؤلاء غايناس القوطي، وكان غايناس يهتم بشئون القوط أبناء جنسه، ولم يكن عدد هؤلاء قليلا في العاصمة، فأصبح غايناس أحد زعماء السياسة، وأصبحت سياسة العاصمة تطاحنا مستمرا بين غايناس وبين أفتروبيوس، وكان لغايناس نسيب اسمه تربيجلد كان مستلما قيادة بعض الجيوش في آسية الصغرى، فوسوس إليه غايناس أن يجتاح برجاله القوط سهول فريجية مقوضا وناهبا، ففعل فتظاهر غايناس بالغيظ، واستأذن بالانطلاق لإطفاء نار الثورة والعصيان، فسار إلى آسية الصغرى، وجمع الكل تحت إمرته وزحف على القسطنطينية،
17
فانخلع قلب أركاديوس وفاوض غايناس، فكان من أهم شروط الصلح أن يترك الإمبراطور وزيره أفتروبيوس، ثم أمر الإمبراطور بنفي أفتروبيوس ثم بقتله، فالتجأ هذا إلى الكنيسة، وهرع إلى المذبح والتزق به! وتابعه الجنود لإلقاء القبض عليه، فصدهم الذهبي الفم. وفي اليوم التالي، بينما كان أفتروبيوس لا يزال بجانب المذبح، رقي الذهبي الفم المنبر، ووعظ عظته الأولى في حادث أفتروبيوس:
18
باطل الأباطيل كل شيء في هذه الدنيا باطل، أين قنصليتك وظروفها الباهرة، أين ذهبت تلك المشاعل الساطعة والرقص ووقع أرجل الراقصين، أين تلك الأعياد والمآدب، أين ذهبت ستائر المرسح وأكاليل الزهر، أين تصفيق المدينة وهتافات الملعب، أين إطراء المعاينين المتفرجين؟ الكل اضمحل؛ لقد عصفت الزوبعة، فزعزعت الشجرة وذرت أوراقها وهددت بقطع عروقها. أين أصدقاؤك المداهنون الممالقون؟ أين مآدبك وخمرك؟ أين أولئك الذين توددوا إليك وغازلوا سطوتك؟ هي أحلام تضاءلت وتلاشت عند الفجر، باطل الأباطيل كل شيء باطل. أين أولئك الذين كانوا آلة في يد شهواتك؟ أين أولئك السائرون أمامك لتمهيد السبيل لقدميك في الطرق العمومية؟ لقد هربوا عند حلول الخطر وكفروا بنعمتك حرصا على تخليص أنفسهم، أكذلك يا ترى صنع خدمة الكنيسة؟ إن الكنيسة التي اضطهدت أيام كنت مسلطا تفتح ذراعيها اليوم لتعانقك وتحميك، وحذار أيها الشعب أن تفكروا أن غاية كلامي الشماتة على هذه السقطة، كلا لست أقصد فيها إلا تأييد الذين لم يسقطوا بعد، فعندما جاءوا من البلاط أمس ليجروه بالقوة هرع إلى الاعتصام بالآنية المقدسة، وقد امتقع وجهه حتى صار كالأموات، وكانت فرائصه ترعد، وجميع أعضائه ترتعش، واختنق صوته واعتقل لسانه، ولعلكم تقولون إنه بالشرائع البربرية التي سنها قد أغلق في وجهه أبواب هذا الملجأ، أفلا ترون أنه قد ضرب نفسه بالضربة عينها التي أتاها، وأنه هو نفسه كان أول مخترق لأحكامه الجائرة، وجاء الآن يكفر على مشهد من السماء عن قساوته عينها، ليكن لدينا عظيما هذا المذبح المقدس الذي يمسك ويحمي هذا الأسد المقيد.
19
ورضي الإمبراطور وعفا عن أفتروبيوس، فخرج من حمى المذبح المقدس فاعتقل ونقف عنقه.
20
الذهبي الفم وغايناس
وكان غايناس آريوسيا كمعظم القوط أبناء جنسه، فلما تغلب على أفتروبيوس دب النشاط إلى الأوساط الآريوسية، وأخذوا يجتمعون في الليل أجواقا يرتلون أناشيد آريوسية، فنظم الذهبي الفم أجواقا أرثوذكسية، وجعلهم فئات يحيون الليل في الهياكل مرنمين لألوهية السيد ترانيم وأناشيد، وأدى هذا كله إلى الاشتباك وسفك الدماء في بعض الأحيان، ولكن غايناس واظب على احترام الذهبي الفم وتقديره وإجلاله، وكان من مظاهر هذا الاحترام أنه عفا عن أوريليانوس وسترنينوس إكراما للذهبي الفم،
21
وأنه امتنع عن مصادرة إحدى الكنائس في العاصمة للسبب نفسه، وكان بعض القوط أرثوذكسيين، فخصهم الذهبي الفم بعنايته، ورسم لهم كهنة منهم، وأفرد لهم كنيسة يتعبدون فيها بلغتهم.
22
أخصام الذهبي الفم
وخشي الوطنيون الروم مطامع غايناس، فعاهدوا قوطيا آخر فرافيتة، ولدى خروج غايناس من العاصمة في أوائل السنة 400 هجم الوطنيون على من تبقى من عساكره في داخل المدينة وقتلوهم، وعبر غايناس الدانوب ، ووقع أسيرا في يد الهون، وقتل في أواخر السنة 400.
23
وبزوال أفتروبيوس أولا ثم غايناس، زالت هيبة السلطة، فجهر أخصام الذهبي الفم بمعارضة أدت مع مرور الزمن إلى نفيه ووفاته، وشملت هذه المعارضة منذ البداية عناصر معينة من الرهبان والأرامل والأساقفة، وتزعم معارضة الرهبان إسحاق الراهب السوري، الذي كان قد أم العاصمة في عهد والنس الإمبراطور، واشتهر بحق أو بغير حق بقداسة فائقة، وبجرأة في سبيل الأرثوذكسية أدت به إلى مصارحة والنس باقتراب أجله، وكان قد أسس لنفسه مقرا عند مدخل العاصمة أصبح أول الأديار فيها،
24
ولم يرض إسحاق الراهب عن إصلاحات الذهبي الفم، فلما زالت سطوة البلاط بدأ يطعن في الأسقف القديس، فكان لكلامه ودعاياته أسوأ الأثر.
25
وانضم إلى الرهبان المعارضين عدد من الأرامل اللواتي حقدن على الأسقف القديس لأنه انتقد خفتهن جهارا، وكان بينهن عدد من المقربات إلى البلاط كمرسة أرملة الجنرال بروموتوس، وكستريكية أرملة القنصل سترنينوس، وإفغرافية
Eugraphia
التي قدر لها أن تلعب دورا هاما في الدس والمؤامرات في البلاط.
26
في أفسس (400)
وتعبد أنطونينس أسقف أفسس للمال، فشكاه أفسابيوس أسقف ليدية إلى الذهبي الفم، فأرسل الذهبي الفم أسقفين إلى أفسس للبحث والتدقيق، وتوفي أنطونينس في غضون هذا البحث، فأقبلت الرعية تطلب إلى أسقف العاصمة أن يقوم إليها ليصلح شئونها، ففعل وعقد مجمعا محليا وسام شماسه هرقليذس أسقفا على أفسس، وأسقط ستة أساقفة كانوا قد رقوا إلى درجاتهم بالسيمونية.
27
الإخوة الأربعة الطوال (401-403)
وكان ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية مطماعا كلفا بحشد الأموال، فطمع بثروة الرهبان، فاتهم بعضهم باتباع أوريجانس واضطهدهم، فهرب عدد منهم ولاذوا بأسقف أوروشليم، ثم سار خمسون منهم إلى القسطنطينية، يتقدمهم الأربعة الطوال ليرفعوا للإمبراطور شكواهم، وهؤلاء الأربعة هم: أمونيوس، وأفسابيوس، وأفثيميوس، وذيوسقوروس أسقف هرموبوليس،
28
ولدى وصولهم إلى القسطنطينية ذهبوا توا لزيارة أسقفها القديس، وشكوا ما قاسوا من اضطهاد، فأنزلهم في بيت قريب من إحدى الكنائس، وسمح لهم بالصلاة مع سائر المؤمنين، ولكنه منعهم عن الاشتراك في ممارسة الأسرار المقدسة ريثما تنكشف الحقيقة ، وكتب إلى ثيوفيلوس يناشده برابطة «المحبة الأخوية الجامعة» أن يصفح عن الإخوة الطوال، وأبان أنهم إذا كانوا مؤاخذين بذنب، فليرسل أيا شاء من المدعين عليهم إلى القسطنطينية، فخشي ثيوفيلوس المحاكمة في القسطنطينية، وأدرك أنه إذا تمت أخذ هو بجرائره ومظالمه، فاتهم يوحنا الذهبي الفم بقبول الإخوة الطوال بشركة الأسرار بدون فحص أو تدقيق، واعتبره شريكا لهم في أضاليلهم الأوريجانية، ثم أرسل رسلا إلى القسطنطينية، يطوون التهم والتقريعات على الأربعة الطوال، فاضطر هؤلاء أن يذكروا مساوئ ثيوفيلوس نفسه أمام زميله القديس يوحنا، فاستكبر الذهبي الفم هذا الأمر، وكتب ثانية إلى ثيوفيلوس يشير إلى الشكايات عليه، ويرجوه أن يكلفه بحسم المسألة، فأجاب ثيوفيلوس أن قوانين نيقية لا تسمح للأساقفة أن ينظروا في الدعاوي الخارجة عن حدود أبرشياتهم،
29
ولم يتعجل الأمور ولم يذهب إلى القسطنطينية فورا، بل إنه أوفد إليها القديس أبيفانيوس أسقف سلامينة قبرص (403)، وكان هذا لا يطيق أوريجانس وتآويله، فلما قرأ رسالة ثيوفيلوس ضد الأربعة وأوريجانس أقلع حالا إلى العاصمة، وأعلنها حربا لا هوادة فيها على الأربعة وعلى الذهبي الفم أيضا! فتدخلت السلطات في أمره، وطلبت إليه أن يعود إلى أبرشيته، ففعل وتوفي وهو في طريقه إليها.
30
ثيوفيلوس في القسطنطينية
وسئم الأربعة الطوال الصبر، وكتبوا العروض وأودعوها شيئا من جرائم ثيوفيلوس، وذهبوا إلى كنيسة القديس يوحنا، وانطرحوا على أقدام الإمبراطورين، والتمسوا حضور ثيوفيلوس ليحاكم بإزاء الذهبي الفم، وأصابت هذه الشكوى أذنا صاغية، فكتب أركاديوس إلى عامله في مصر أن اقبض على ثيوفيلوس وأرسله مخفرا، فقام ثيوفيلوس إلى العاصمة، وأطلق إليها أيضا جميع الأساقفة الخاضعين لكرسيه، ولما وصل إلى البوسفور أقام في خلقيدونية أياما، ثم جاء القسطنطينية، ومر أمام كنيسة الرسل ولم يدخل إليها، وعلى الرغم من هذا فإن الذهبي الفم ذهب لاستقباله في القصر الذي أعد له ودعاه للإقامة عنده، ولكن ثيوفيلوس أسفر بجفاء أنه لا يريد أن يرى الذهبي الفم، ولا أن يسمع صوته ولا أن يشاركه في الصلوات، وأنشأ ثيوفيلوس حزبا قويا لعضده، فكان لديه تسعة وعشرون أسقفا مصريا ، وعدد من الأساقفة والرهبان الناقمين على الذهبي الفم، وشد أزره بحارة أسطول القمح، وكانوا جميعهم مصريين، ونثر ثيوفيلوس الذهب، فابتاع عددا من الوجوه وكبار الموظفين، وأصبح صالون إفغرافية الأرملة مركز المشاغبة على الذهبي الفم، واقتنعت أفذوكسية الإمبراطورة أن الأسقف القديس عناها هي نفسها عندما أشار في إحدى عظاته إلى إيزابل.
31
مجمع البلوطة (403)
ولما تم اتفاق هذه العناصر واتحدت كلمتهم، خافوا أن تحبط مساعيهم إذا عقدوا اجتماعاتهم في العاصمة؛ لأن الذهبي الفم كان محبوبا من عموم الشعب، موقرا من جمهور الإكليروس، فاستحسنوا بلدة خلقيدونية على ضفة البوسفور الآسيوية، ونزلوا ضيوفا على أسقفها كيرينوس المصري، وعقدوا اجتماعاتهم في قصر البلوطة، وانضم إليهم أكاكيوس أسقف حلب، وسويريانوس أسقف جبلة، وأنطيوخوس أسقف عكة،
32
وماروطة أسقف ميافارقين، ومكاريوس أسقف مغنيسية، وأصغى الأساقفة المجتمعون في قصر البلوطة إلى جميع الاتهامات الواردة في سوء حال يوحنا الذهبي الفم، فبلغت شكايات الأرشدياكون يوحنا تسعا وعشرين، وادعى الأسقف إسحاق على الذهبي الفم أنه قبل في كنفه الرهبان الذين قالوا قول أوريجانس، وأنه لم يصغ إلى الرهبان الذين مثلوا ثيوفيلوس، وأنه تدخل في شئون أبرشيات غيره من الأساقفة، وجاء الراهب إسحاق مقدما ثماني عشرة شكوى، منها «مزيد حنو القديس على الخطأة»!
وبينما كان ثيوفيلوس وأصحابه يفتلون الشر فتلا ويحكمونه إحكاما، قام غيرهم أربعون أسقفا من إقليم القسطنطينية وغيرها ينظرون في ملافاة الخطر، أما الذهبي الفم فإنه طلب إلى هؤلاء الملتفين حوله ألا يدع أحد منهم كنيسته لأجله، ومما قاله: «هو ذا عاصفة شديدة تهب علينا، لكن لا تنخلعن لها قلوبنا؛ إذ لا نخاف البتة من الغرق، فمهما جاش البحر فماذا يستطيع أن يصنع مع صخرة الكنيسة غير المتزعزعة التي نحن عليها راسخون.»
ثم كتب مجمع البلوطة إلى الذهبي الفم أن يبرر نفسه أمامهم، وأن يصحب معه الكاهنين سرابيون وتكريوس، فرد الأساقفة المجتمعون في القسطنطينية أن في هذا الطلب خروجا على القوانين الموضوعة في المجمع النيقوي، وأنه يجب على أقلية مثلهم أن تخضع لأكثرية مؤلفة من أربعين أسقفا برئاسة سبعة مطارنة ،
33
وكتب الذهبي الفم إلى مجمع البلوطة يؤكد أن ضميره لا يبكته بشيء، وأنه مستعد أن يمثل أمام مجمع مؤلف من مائة أو ألف أسقف، ثم يقول: وإن شئتم أن أمثل في محفلكم، فبادروا إلى تطهيره من أعدائي الشخصيين، فثيوفيلوس الإسكندري قال في ليقية: «إني منطلق لعزل الأسقف يوحنا.» وقد أبى منذ دخوله هذه المدينة كل اشتراك معي، وأرفض أيضا أكاكيوس مطران حلب الذي تجاسر في كنيستي نفسها أن يهددني، وأنطيوخوس وسويريانوس أسقفا عكا وجبلة سيجازيهما العدل الإلهي قريبا، فإن أردتم أن أدافع أمامكم، فامحوا هذه الأسماء الأربعة من عداد قضاة مجمعكم.
34
وأبى الذهبي الفم أن يمثل أمام قضاة البلوطة، فاتخذوا قرارا بخلعه، وبعثوا به إلى البلاط، ونشروه في جميع كنائس العاصمة، ولم يبن الحكم فيه إلا على أن المجمع دعاه أربع مرات فلم يحضر ليزكي نفسه،
35
وقد ضاعت أعمال هذا المجمع ولم يبق منها سوى ما نقله فوطيوس العظيم عنها.
36
نفيه إلى بيثينية
واستغاث الذهبي الفم بالكنيسة الجامعة، وسأل عقد مجمع مسكوني، ولم يخضع فورا لحكم قضاة البلوطة، بل ظل يواصل أعماله الرعائية يومين كاملين، وكان يقول: وما هي أفكارهم وآمالهم، أيظنون أنهم يخيفوني بتهديدات الموت، والموت عندي خير عظيم، أم بالمنفى والأرض بكمالها للرب الذي وقفت له حياتي، إن يسوع معي فماذا أخشى، ولا أنفك أقول لتكن مشيئتك يا رب فها أنا ذا بين يديك مستعد لأعمل وأتحمل بسرور ما يجري من معين رحمتك، أو ما تأمر به إرادتك!
ولم يتجرأ عمال الإمبراطور أن ينفذوا حكم البلوطة بالقوة؛ لأن الشعب كان عازما على مقابلة القوة بالقوة، ثم رغب القديس حبا بالسلام أن يسلم نفسه بأيدي الجنود دون علم الشعب، فنقل في الليل إلى مرفأ هيرون على البوسفور، فهام القديس على وجهه، وظل تائها حتى وصل إلى بيت قروي قرب برينيت
في ساحل بيثينية فأوى إليه.
37
رجوعه معززا
واستيقظ الشعب عند الصباح ولم يجد أسقفه فغضب، واكتظت الشوارع بالناس وأحاط بعضهم بالقصر من كل جانب، وصرخوا طالبين إرجاع أبيهم المنفي ، وظلوا على هذا الحال حتى المساء، وفي أواسط الليل أرجفت الأرض وتزلزلت أركان القصر الإمبراطوري،
38
فاشتد خوف الإمبراطورة، ورأت في ذلك انتقاما ربانيا، فقالت لأركاديوس: إن لم يعد الأسقف فليس لنا تاج ولا سلطان. فوكل أركاديوس إليها أن تفعل ما تشاء، فكتبت بخط يدها تبدي عذرها، وأوفدت أحد خصيانها ليرجو العودة، فلما عبر البوسفور أبى العودة إلى كرسيه توا لئلا يخترق حرمة القانون الكنسي، فإن خروجه كان بحكم مجمعي، فكان لا بد من حكم مجمعي لعودته،
39
ولكن الشعب لم يقبل له عذرا، فسار بموكب عظيم إلى كنيسة الرسل وأوجز في الكلام، فبارك اسم الرب إلى الأبد: «أجل تبارك الله الذي يحبط المكايد ويقضي برجوع الراعي، تبارك الذي يثير العواصف، تبارك الذي يحل جليد الشتاء ويقمع هيجان الرياح ليقوم مقامها الهدوء والصحو والسلام.»
40
والتفت في كنيسة الحكمة الإلهية إلى كنيسته، فتراءت له متوجة بإكليل سموي، فهي العروس سارة العفيفة الطاهرة، التي سعرت طلعتها الجميلة نار الهوى في جوانح فرعون،
41
والإشارة هنا إلى ثيوفيلوس الإسكندري.
عودة ثيوفيلوس إلى مصر
ومال كوكب «فرعون» إلى الهبوط وكاد ينفضح أمره، واختلف الآباء المجتمعون في قصر البلوطة حول قضية هرقليذس أسقف أفسس واشتد بينهم الضجيج، وسمع الشعب المحدق بالقصر جلبتهم وتردد اسمي يوحنا وهرقليذس، فانتصروا لهما ولعنوا المجتمعين، فخاصمهم البحارة المصريون واشتد القتال وجرت الدماء،
42
وسمع «فرعون» نفسه أنصار القديس يوحنا يطلبون طرحه في المياه،
43
وعلم أن الإمبراطور يميل إلى دعوة مجمع مسكوني للبت في القضية الماثلة،
44
فركب البحر مستصحبا إسحاق الراهب وعاد إلى الإسكندرية.
التآمر على الذهبي الفم
وفي خريف السنة 403 أقام أركاديوس لزوجته أفذوكسية تمثالا من الفضة الخالصة فوق عمود من البورفير، وعلى قاعدة مزدانة بأجمل النقوش، ولا تزال هذه القاعدة محفوظة حتى يومنا هذا في متحف القديسة إيرينة وعليها كتابة الإهداء والتدشين باللغتين اليونانية واللاتينية،
45
وجعل الإمبراطور محل هذا التمثال في أكبر باحات المدينة بحذاء مجلس الشيوخ وبإزاء كنيسة الحكمة الإلهية، وكان حاكم العاصمة آنئذ رجلا مانويا يكره الذهبي الفم، فأقام لمناسبة الاحتفال بالتمثال ملعبا للرقص والمصارعة أمام أبواب كنيسة الحكمة، فلم يستطع الذهبي الفم صبرا، فذكر المؤمنين أن هذه الملذات من شأنها أن تجدد قبائح الديانات الوثنية، ولا يجوز الاشتراك فيها،
46
ولم يأت الذهبي الفم على ذكر الإمبراطورة ولم يلمح، خلافا لما قاله بعض المؤرخين وكما قلناه نحن سابقا.
47
ولا يستبعد أن تكون العظة «يوحنا المعمدان» التي لا تزال تنسب إلى الذهبي الفم ملفقة مزورة،
48
وخيل لأفذوكسية أنها حقرت فأرعدت وأزبدت، واغتاظ لغيظها الإمبراطور وحاشيته، فاستشاروا ثيوفيلوس الإسكندري، فأفتى بوجوب تبرير الذهبي الفم أمام مجمع كنسي، وانتدب ثلاثة من أعوانه، وأرسلهم إلى القسطنطينية، ولدى وصولهم دعا الإمبراطور أساقفة آسية وأنطاكية، فلبى الدعوة بعضهم وأبى آخرون خشية اتساع الشقاق في الكنيسة، وكان بين الذين هرعوا إلى القسطنطينية أكاكيوس حلب، وسويريانوس جبلة، وأنطيوخوس عكة، وليونيتوس أنقيرة، وأمونيوس لاذقية بسيدية. وأطل عيد الميلاد، وبات المؤمنون ينتظرون قدوم الإمبراطور والحاشية لحضور الاحتفال، فاعتذر أركاديوس مبينا أنه لا يشترك مع الذهبي الفم بشيء ما لم يبرر أمام المجمع،
49
واستمع أركاديوس إلى عشرة من الأساقفة الموالين ليوحنا وعشرة من الأساقفة أخصامهم، فلعب البيذس أسقف لاذقية سورية دوره المشهور، وطلب إلى أخصامه أن يوقعوا قانون أنطاكية، كأنه عمل أرثوذكسي قبل تطبيقه على يوحنا الذهبي الفم، فاحتاروا في أمرهم؛ لأنهم إن قبلوه تلطخوا بالآريوسية وإن أبوا سقطت حجتهم، فلاذوا بالكذب ووعدوا بالتوقيع ثم أخلفوا.
50
فصح السنة (404)
ومضت أشهر عشرة، والمدينة في قلق واضطراب والقديس لا يتزعزع، فاحتال أخصامه في إغلاق فيه وصوروا مجتمعاته مستوقدات للاضطراب والإخلال بالنظام، وسعوا في منع انعقادها، ثم طلبوا طرد الذهبي الفم قبل عيد القيامة (17 نيسان)؛ لأنه محجوج من المجمع، فأتى أركاديوس هذه المنكرة، وأوجب خروج الذهبي الفم من كنيسته، فقال الأسقف القديس: لقد استلمت الكنيسة من يسوع المسيح، ولا أستطيع أن أقصر في خدمتها، فإن أردت أن أترك هذه الحظيرة المقدسة فاطردني قهرا. فطرد يوم سبت النور من الكنيسة طردا، وحذر عليه الخروج من قلايته،
51
وطرد من الكنائس أيضا جميع الكهنة الذين كانوا في شركة الأسقف القديس، وكانت العادة حينئذ تقضي بأن يبقى المسيحيون ساهرين بالصلوات حتى صياح الديك، معدين طالبي المعمودية إلى قبول هذه النعمة، فلجئوا جميعهم إلى الحمام الكبير الذي شيده قسطنطين وحولوه إلى كنيسة، فسعى المتآمرون في فض هذا الاجتماع، فدخل الجند الحمام والسيوف بأيديهم مصلتة، واخترقوا الحشد حتى وصلوا إلى جرن المعمودية، فضربوا الكهنة والشيوخ والنساء واختلسوا الآنية المقدسة، فخرج المؤمنون خارج الأسوار، واحتفلوا بالتعميد، وأقاموا الذبيحة في ميدان قسطنطين.
52
نفي الذهبي الفم
وبعد العنصرة بخمسة أيام؛ أي في التاسع من حزيران سنة 404، سار أكاكيوس وأعوانه إلى الإمبراطور وقالوا: إن الله لم يجعل في الأرض سلطانا فوق سلطانك، وليس لك أن تتظاهر بأنك أكثر وداعة من الكهنة وأعظم قداسة من الأساقفة، وقد حملنا على رءوسنا وزر عزل الأسقف يوحنا، فحذار مما ينجم عن إهمال التنفيذ، فأوفد أركاديوس أحد كبراء البلاط إلى الذهبي الفم يسأله أن يهجر كنيسته ورعيته حبا بالراحة العمومية.
53
فأصغى القديس، وقام إلى المنفى فالموت وصلى وودع «ملاك الكنيسة»، ثم ذهب إلى مصلى المعمودية ليودع الشماسات الفاضلات: أولمبياذة الأرملة القديسة، وبنتاذية، وبروكلة، وسلفينة، وقال لهن: لا تدعن شيئا يخمد حرارة محبتكن للكنيسة.
54
وخرج القديس خفية، وقبض عليه الشرطة، وعبروا البحر به إلى نيقية حيث ألقوه في السجن، واستبطأ الشعب خروج راعيهم، فارتفعت جلبتهم في كنيسة الحكمة، وفيما هم على هذه الحال اتقدت نار تحت المنبر وحولته رمادا، ثم امتد لهيبها إلى السقف وسرى خارج الكنيسة، ثم دفعته ريح شمالية إلى الجنوب، فبلغ قصر الشيوخ فقوضه، وأمست الكنيسة الكبرى قاعا صفصفا، ولم يسلم منها إلا آنية الأفخارستية!
55
وأقام الذهبي الفم في نيقية أربعين يوما أو أكثر، وعلى الرغم مما كان عليه من مضايق السجن وغلاظة الجنود، فإن نفسه ظلت تتوقد غيرة على خلاص النفوس في سورية وفينيقية وتحطيم الوثنية وهياكلها، وكان صديقه قسطنديوس البار لا يزال يعمل في حقل الرب في تلال فينيقية وسهولها، متكبدا أشد المصاعب من الوثنيين ومن «الإخوة الكذبة»، فقيض الله للذهبي الفم راهبا زاهدا في نيقية ، فاستقدمه الأسقف القديس إليه، واستمال قلبه إلى التبشير في فينيقية، وأرسله إلى صديقه قسطنديوس.
56
وفي الرابع من آب سنة 404 قامت قوة من الحرس الإمبراطوري إلى نيقية لتنقل الذهبي الفم إلى منفاه، وقضى أمر النفي بوجوب مواصلة السفر نهارا وليلا إجهادا وتعجيلا، وما كاد الذهبي الفم يصل إلى مداخل قيصرية قبدوقية حتى وقع لا يعي حراكا، فوقف حراسه عن المسير وأذنوا له بشيء من الراحة، بيد أن فارتاريوس أسقف قيصرية شدد النكير، فاضطر الذهبي الفم أن «يخرج وينفض غبار رجليه»، وبعد سفر دام ستة وخمسين يوما وصل الأسقف القديس في آخر أيلول إلى منفاه بلدة كوكوس في شمالي طوروس، وعلى الرغم من إقفارها وحقارتها فإن الذهبي الفم ابتهج بمرآها؛ لأنه أحب الانقطاع والراحة، ولأن أهلها كانوا قد أوفدوا الرسل إلى قيصرية يسألونه قبول دعوتهم في بيوتهم، ولأن أذلفيوس أسقف كوكوس كان على جانب من القداسة والطهارة، ولأن جماعته الفقراء في المادة كانوا أغنياء بالتقوى والكمال، ومما زاد في سروره أنه لاقى في كوكوس صديقه القديم القس قسطنديوس الأنطاكي، الذي اضطهد في أنطاكية لولائه وإخلاصه، وابتهج القديس ودهش أيضا عندما رأى الشماسة سبينة تنتظر قدومه في كوكوس، فإنها على الرغم من تقدمها في السن تجشمت مشقة الأسفار، وسبقت راعيها إلى المنفى!
موقف أنطاكية ورومة
وكان فلافيانوس أسقف أنطاكية قد بلغ من العمر قرنا كاملا، فلم يقو على محاربة عقارب الحسد التي دبت في قلوب بعض الأساقفة أمثال: أكاكيوس حلب، وسويريانوس جبلة، وأنطيوخوس عكة، وفاليريوس طرسوس، فالذهبي الفم بلغ رتبة تقاصر عنها هؤلاء، وشأوا تقطعت دونه أعناقهم، فأصغوا إلى مفاسد ثيوفيلوس الإسكندري، وآثروا الإقامة في العاصمة والدس على الذهبي الفم على العمل المثمر في أبرشياتهم.
57
وتوفي فلافيانوس في السادس والعشرين من أيلول سنة 404، فهرع أكاكيوس وأعوانه إلى أنطاكية لانتخاب خلف يقول قولهم ويسعى سعيهم، فأيدوا بورفيريوس الكاهن الأنطاكي، وحاربوا قسطنديوس مرشح الشعب، وانتهزوا خروج الشعب إلى دفنة لمشاهدة الألعاب الأولمبية، فأتموا انتخاب بورفيريوس وسيامته، ثم تواروا عن الأنظار وتولت السلطات المدنية إخماد كل حركة مضادة. وفي الثامن عشر من تشرين الثاني صدرت إرادة إمبراطورية أوجبت الاعتراف بسلطة أرساكيوس في القسطنطينية، وثيوفيلوس في الإسكندرية، وبورفيريوس في أنطاكية،
58
ونفذت هذه الإرادة السنية بشدة، فنفي كيرياكوس أسقف حمص إلى تدمر، وسجن كل من إلبيذيوس
Elpidius
أسقف اللاذقية، وببوس
ثلاث سنوات متتالية.
59
وحرر ثيوفيلوس الإسكندري إلى أنوشنتيوس أسقف رومة في موضوع الذهبي الفم، وكتب يوحنا نفسه أيضا إلى أسقف رومة يعلمه بالجريمة التي ارتكبت في القسطنطينية، ويقول: «ولما كان لا يجوز لنا أن نحزن، بل يجب علينا أن نعيد النظام، ونبحث عن الوسائل التي تمكننا من إيقاف هذه العاصفة، رأينا من الضروري أن نقنع السادة الجزيلي الشرف والتقوى، الأساقفة: ديمتريوس، وبانسوفيوس، وببوس، وأوجينيوس، أن يتركوا كنائسهم، ويجازفوا بأنفسهم، فيقوموا بهذه الرحلة البحرية الطويلة ويسرعوا لملاقاة محبتكم، وبعد اطلاعكم على كل شيء يتخذون الإجراءات اللازمة لمداواة الموقف بسرعة.»
60
وأرسل الذهبي الفم مثل هذه الرسالة إلى كل من فينيريوس
Venerius
أسقف ميلان، وكروماتيوس
Chromatius
أسقف أكويلية، راجيا المعونة لإنقاذ الموقف، فكتب أنوشنتيوس إلى كل من ثيوفيلوس والذهبي الفم يؤيد دوام الشركة، ويقترح عقد مجمع مسكوني يمثل الشرق والغرب للنظر في الأمر.
61
ويلاحظ العلامة الأب غوستاف بردي أنه ليس في نصوص هذه الرسائل ما يخولنا القول إن الذهبي الفم لجأ إلى أسقف رومة ليستصدر حكما في القضية الماثلة بينه وبين أسقف الإسكندرية، ويضيف الأب بردي أن الذهبي الفم لم يخص أسقف رومة وحده بهذه «الشكوى»، فإنه كتب إلى أسقفي ميلان وأكويلية بمثل ما كتب إلى أسقف رومة.
62
ويلاحظ أيضا لهذه المناسبة أن القديس أنوشنتيوس أسقف رومة أوصى بمجمع مسكوني للبت في هذه القضية، وألح بذلك.
وأيقن أنوشنتيوس أن دعوى ثيوفيلوس فارغة، فاندفع في سبيل الذهبي الفم، ولم يكترث لموقف القديس إيرونيموس الذي نقل كلام ثيوفيلوس إلى اللاتينية، فاتصل بأونوريوس أخي أركاديوس، فقر قرار الاثنين أن يدعى إلى مجمع مسكوني في تسالونيكية، وكتب أونوريوس إلى أخيه بذلك وتألف الوفد الروماني إلى المجمع المنتظر، وما كاد هذا الوفد يدخل داخل حدود إمبراطورية أركاديوس، حتى ألقي القبض على أعضائه وأعيدوا إلى الغرب.
63
وفاته (407)
وتوفي أرساكيوس في الحادي عشر من تشرين الثاني سنة 405،
64
فتأمل الأرثوذوكسيون أن تعود الراحة بموته إلى مجراها، وأن يعود يوحنا إلى رعيته، ولكن المتآمرين أقاموا أتيكوس السبسطي أسقفا على القسطنطينية، فأبى بعض الأساقفة الاشتراك معه وتنحى الشعب عنه، فاستشاط غيظا، فنال من الإمبراطور أمرا بنقل يوحنا من كوكوس إلى بيتوس على الساحل الشرقي من البحر الأسود، وعهد في إجراء هذا الأمر إلى بعض الجنود، فقطعوا به آسية الصغرى من غربيها الجنوبي إلى شرقيها الشمالي بعنف وصلابة وبدون راحة، ولما دنوا من كومانة كان قديسنا قد أضحى كالخيال، فتوفي على بعد ستة أميال منها في الرابع عشر من أيلول سنة 407، في كنسية أسقفها القديس باسيليكوس الشهيد.
65
مؤلفاته
وصنف الذهبي الفم كثيرا، ولعله أكثر الآباء إنتاجا، وكتب متأثرا بنفحات إيمان حار، «فكان تارة يوشح خطبه البسيطة بثوب قشيب من الطلاوة الشعرية الظريفة، وطورا يزينها بحلي التشابيه اللطيفة، فيسكر السامعين ويسترق ألبابهم».
ووعظ وأرشد فأبان ضرورة المعمودية للحصول على نعمة الله في الدنيا والسعادة في الآخرة، وأوجب مصارعة إبليس، فأنشأ ثلاث خطب في قدرة الأبالسة، وثلاثة كتب وجهها إلى ستاجير في «فوائد» التجارب وأخطارها، وأعد تسع خطب في التوبة والمحبة، واعتبر الوثنيون في أنطاكية تجسد ابن الله حلما من الأحلام، فرد قديسنا مبددا أقاويلهم مبينا اتفاق السماء والأرض في هذا العمل العظيم، وألف خطبتين في خيانة يهوذا بعد تناول جسد الرب، مبديا إيمانه في سر الاستحالة:
أيها الرب إلهي، أنا أعلم أني لست مستحقا ولا أهلا أن تدخل تحت سقف نفسي؛ لأنها مقفرة ساقطة، وليس لك في موضع أهل لتسند إليه رأسك، لكن كما أنك من أجلنا تواضعت منحدرا من العلاء، تنازل الآن أيضا إلى حقارتي ... فلتصر لي جمرة جسدك الأقدس ودمك الكريم لتقديس وإنارة وتقوية نفسي وجسدي الحقيرين ... ولئلا أمسي فريسة الذئب العقلي إذا ابتعدت جدا عن شركتك. (السواعي، المطاليبسي)
وشرح قيامة المسيح في خطبتين بليغتين، ورأى فيهما عربون قيامتنا، ولا نزال نقول معه: «لا يخافن أحد من الموت؛ لأن موت المخلص قد حررنا، أين شوكتك يا موت، أين ظفرك يا جحيم؟ قام المسيح وأنت غلبت، قام المسيح والملائكة يفرحون. قام المسيح واستقرت الحياة، قام المسيح وليس ميت في القبر؛ لأن المسيح بقيامته من الأموات قد صار مقدمة الراقدين.»
وحرض القديس على أعمال التقوى، ففي خطبته في شهداء مصر يوجب احترام ذخائر رجال الله المقدسة، وفي خطبه في حنة أم صموئيل وشاوول وداود، وفي خطبه الثماني في سفر التكوين يبين قديسنا لسلفائنا في هذه الكنيسة الأنطاكية المقدسة الأسباب الداعية لتكريم ذخائر الشهداء، وأهمية الصوم ومنفعة التوبة وفوائد الصدقة وطهارة القلب، ويطعن طعنا عنيفا في الملاعب العمومية، وألقى في كنيسة القديس بولس في أنطاكية أيضا ثمانيا وثمانين خطبة في إنجيل يوحنا، فارتقى مع «التلميذ الحبيب» إلى البحث في الجوهر، وتولد الكلمة المتأنس وتساوي الآب والابن في الجوهر.
ولاقى القديس يوحنا أعداء النصرانية ببرهان كلامه وحسن سيرته، فخص الكهنوت بكتب ثلاثة كما سبق وأشرنا، وأنشأ ثلاثة كتب شديدة اللهجة في الدفاع عن الرهبان والرهبانية، ودبج خمس مقالات في طبيعة الله الغير المدركة، رد بها على أفنوميوس وبدعته، وخص اليهود بثماني خطب أبان لهم بها بطلان موقفهم من النصارى. وله إحدى وعشرون خطبة في ثورة أنطاكية سرد فيها رذائل عاصمة الشرق أنطاكية، وتخلي الله عنها وسقوطها في لجة الإثم، ثم أشار إلى كيفية التخلص، فأوجب الابتعاد عن السباب والتجديف والتمسك بالتوبة والفضيلة.
وعني الذهبي الفم منذ صبوته بتفسير الأسفار المقدسة، فخص سفر التكوين بسبع وستين خطبة، ثم فسر الزبور، ولم يبق من هذا التفسير سوى ثماني وخمسين خطبة، وفسر أيضا بعض ما جاء في أشعيا وآرميا ودانيال، وله في إنجيل متى تسعون خطبة، وفي رسالة بولس إلى أهل رومة اثنتان وثلاثون خطبة، وقد دحض فيها أضاليل بيلاجيوس وفظائع المانويين.
وأورع ما جاء على يد هذا الرجل البار أربع وأربعون خطبة في تفسير رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، وشرح أيضا الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، وفسر رسالة الرسول إلى الغلاطيين ففند أضاليل ماني ومرقيون وأنوميوس ، وأنشأ أربعا وعشرين خطبة في رسالة بولس إلى أهل أفسس، وثمانيا وعشرين في رسالته إلى تيموثاوس، وأربعا وثلاثين في الرسالة إلى العبرانيين، وقد اعتبرها من رسائل بولس.
وأقدم الطبعات لمؤلفات الذهبي الفم وأكملها طبعة الآباء البندكتيين التي ظهرت باليونانية واللاتينية في آن واحد في باريز سنة 1713 في ثلاثة عشر مجلدا، وقد أعيد طبعها في البندقية سنة 1734-1741، وفي باريز سنة 1834-1839. وفي السنوات 1859-1863 ظهرت طبعة مين
Migne
في ثلاثة عشر مجلدا، وقد ترجمت هذه المؤلفات إلى لغات عديدة منها اللغة الإنكليزية، والإشارات في متن كلامنا هي هذه الترجمة.
66
وقد يلذ للقارئ أن يعلم أن إراسموس الشهير عني بمصنف الذهبي الفم في الكهنوت، فنشره باليونانية في بازل سنة 1525، وأن العالم الإنكليزي السر هنري سافيل
Saville
شغف بالذهبي الفم، فكرس معظم أوقات الفراغ له، ورصد للتفتيش عن مصنفاته ثمانية آلاف استرليني؛ فأقض بذلك مضجع زوجته وأثار غيرتها، فهددت بحرق جميع ما جمع زوجها من آثار الذهبي الفم.
الفصل العشرون
الرهبان في القرنين الثالث والرابع
السوابق
وليس لنا أن نبحث مع كابلي ورايتزنشتاين
1
السوابق اليونانية في ضبط النفس وجمود القلب؛ لنستعين بها على تفهم الزهد والترهيب في النصرانية، ولا أن نجعل من الرهبانية حلقة من سلسلة تشمل نساك بوذة، وإسيني يوسيفوس،
2
وثيرابيفتي فيلون،
3
والأفلاطونيين الجدد أمثال: أفلوطين، وبورفيريوس الحوراني الصوري، ويمبليخوس العنجري.
4
الأصل
والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن السيد المخلص نفسه عاش عيشة فقر وتيه ومسكنة، وأنه علم باقتراب النهاية، وأرسل تلاميذه ليكرزوا بملكوت الله، وأوصاهم ألا يحملوا شيئا للطريق، «لا عصا ولا مزودا ولا خبزا ولا فضة»،
5
وألا يكون للواحد منهم ثوبان. والواقع أيضا أن يعقوب أخا الرب لم يأكل لحما ولم يشرب خمرا ولم يقتن سوى رداء واحد، وأن الرسل جميعا حضوا المؤمنين على العفة والبتولية، وأجازوا الزواج لمن خشي العنت فقط.
6
وجاء الاضطهاد في القرون الثلاثة الأولى، ففر المؤمنون إلى البراري والقفار، وعاشوا عيشة البؤس والطهارة والتقوى،
7
واشتدت وطأة الحكم وكثرت الضرائب وتثاقلت ، فتاه المؤمنون وتركوا القرى والمزارع محتجين على نظام المجتمع، حتى إذا أطل القرن الرابع، وجاء قسطنطين وخلفاؤه لم يكد يغير ذلك شيئا من طريقة المؤمنين؛ إذ أصبحوا يقولون بوجوب الانكفاء والابتعاد عن العالم للتأمل والتفكير بالقيم الروحية والبشرية.
الرهبانية في أبرشيات أنطاكية
واعتكف أنطونيوس الكبير (350-356) على نفسه وذاع صيته في مصر، والتف الزهاد حوله متنسكين أفرادا لا جماعات، وتقبل القديس باخوميوس (290-345) النصرانية وتنسك، فآثر أتباعه الرهبانية مجتمعين غير منفردين، وأقبل على القديسين المؤسسين مؤمنون أنطاكيون، فأخذوا عنهما وعادوا إلى فلسطين وسورية والرها والجزيرة وآسية الصغرى.
وأقدم الرهبان الأنطاكيين فيما يظهر هيلاريون غزة، فإنه بعد أن أخذ التقشف عن القديس أنطونيوس الكبير نفسه عاد إلى فلسطين في السنة 307، واعتكف في برية غزة في اتجاه مصر، وبعد أن قضى عشرين سنة مفكرا متأملا، فاح عبير فضائله فالتف حوله وثنيون من مصر وسورية، وتقبلوا النعمة على يده، وثابروا على الزهد والتقشف، ونسج آخرون على منواله فانتشرت الرهبانية في فلسطين، وتعددت الأديار فيها، وأقام هيلاريون نفسه في أحد هذه الأديار، فاكتظ الرهبان حوله فتاقت نفسه إلى العزلة، فتركهم وشأنهم وعاد إلى البرية.
8
ويلاحظ هنا أن شك إسرائيل
9
وفاينغارتن
10
وغيرهما في صحة أخبار هيلاريون واعتبارها أسطورة من الأساطير جاء متطرفا مبالغا فيها كل المبالغة،
11
ويلاحظ أيضا أن القديس أيرونيموس لم ينفرد في رواياته عن هيلاريون، وأن صوزومينس المؤرخ يؤيده في أكثر ما ذهب إليه،
12
وأن صفرونيوس نقل رواية إيرونيموس إلى اليونانية في النصف الثاني من القرن الخامس.
ويرى رجال الاختصاص أن الرهبانية في فلسطين اتخذت في القرن الرابع شكلين مختلفين، فبينما نرى الفلسطينيين وغيرهم من أبناء الأقطار المجاورة يزهدون فيتنسكون جماعات في ساحل فلسطين وبرية اليهودية، نلحظ عددا من الحجاج الغربيين أيضا يؤسسون الأديرة في أوروشليم وبيت لحم وغيرهما من الأماكن المقدسة، ويقيمون فيها معتكفين على الصلاة والصوم والزهد، والإشارة هنا إلى دير ميلاني للراهبات في أوروشليم، ودير روفينوس للرهبان على جبل الزيتون، وديري بفلا وأيرونيموس في بيت لحم، ويلوح لنا أن العذارى الصالحات آثرن في غالب الأحيان العيشة المنفردة، ولكنهن قمن بالصلاة مجتمعات.
13
واعتكف مالك
Malchus
فيما يظهر في النصف الأول من القرن الرابع في برية قنسرين
Chalcis ، وروى ما قاساه من المتاعب والأخطار إلى القديس أيرونيموس في مارونية على بعد ثلاثين ميلا عن أنطاكية،
14
ويذكر صوزومينس المؤرخ أكثر من ثلاثين ناسكا في براري سورية الشمالية وسورية الوسطى،
15
ويؤكد أنهم فاقوا نساك مصر في ممارسة «الفلسفة»، وزهد إبراهيم القيدوني لسبعة أيام من عرسه، واشتهر بالورع والتقوى، وقدر فضله أناس كثيرون، ولما فاضت روحه في السنة 366 احتشد المؤمنون لتشييع جنازته، وتسابقوا لاقتطاع شيء من ثيابه تبركا.
16
وذكر ثيودوريطس أسقف قورش ثلاثين زاهدا أقاموا الصلاة، واجترحوا المعجزات في براري أبرشيته، وأشار أيضا إلى الدير الذي أنشأه الراهب ثيودوروس في أرسوز في ساحل سورية الشمالية، وإلى رهبانيات جسر شغور
Seleucobelos
وتوابعها.
17
ويرى الأب هنري لامنس أن مدافن عدلون بين صيدا وصور أصبحت مناسك في أوائل عهد الرهبنة في ساحل لبنان، ففيها من شارات النصرانية والصهاريج ما يبرر هذا القول، وهذه المدافن مغاور مختلفة الحجم يربو عددها على المائتين، وفيها مراق متقنة يصعد منها إلى طبقات المغاور العليا فتجمع بين القلالي، ولا يستبعد أن تكون أغوار وادي الفرزل التي تطل على البقاع قلالي أيضا، ولا شك في أن مغارة الراهب عند نبع العاصي بالقرب من الهرمل هي أيضا مجموعة من القلالي.
18
ولنا في اسم مزرعة مندرة بالقرب من تعنايل البقاع أثر من آثار الرهبنة في أوائل عهدها في أبرشيات أنطاكية، ولا يخفى أن اللفظ اليوناني
Mandra
كان يعني حظيرة الغنم، ثم أطلق الرهبان هذا اللفظ على المكان الذي كانوا يجتمعون فيه، ومن هنا اللفظ أرشيمندريت الذي أطلق على رئيس الرهبان، فالأرشمندريت رئيس المندرة. ولنا في الاسم قنوبين أثر آخر من آثار الرهبنات الأولى، فبعض الرهبان الأولين أطلقوا على مكان اجتماعهم اللفظ اليوناني
Choinobion
ومعناه المنتدى أو المجتمع.
القديس باسيليوس الكبير (329-379)
وعاد باسيليوس من أثينة مدينة العلم والنور إلى مسقط رأسه قيصرية قبذوقية في السنة 357، فعلم الفصاحة والبيان ولقي ترحيبا وتقديرا، فخشي الكبرياء، فوزع ماله على الفقراء وسار إلى البرية للتعبد والصلاة.
ثم أشار عليه رئيسه الروحي الأسقف أفستاثيوس أن يرحل إلى مصر وسورية وما بين النهرين؛ لتفقد شئون الرهبان والنساك فيها، ففعل وعاد إلى بلاده في السنة 359، فأنشأ ديرا للرهبان على ضفة نهر الأيريس مقابل دير للراهبات كانت إميلية وشقيقته مكرينة قد أنشأتاه على الضفة الثانية، «وعاش باسيليوس مع رهبانه حياة قشفة، فكان يلبس قميصا خشنا في النهار، ويتمنطق فوقه بمنطقة من جلد، ويلبس المسح ليلا فقط؛ لئلا يلحظه أحد في النهار فيسمو في عينيه، وكان لا يأكل إلا مرة واحدة في اليوم ويكتفي بالخبز والماء، ولا يسمح لنفسه بشيء من البقول إلا في أيام الأعياد، وكان يقضي أيامه في الصلاة والتأمل وعمل اليد، ويحيي لياليه ساهرا مضحيا إرادته على مذابح الصبر والاحتمال وطول الأناة، وكان إذا نام يفترش الأرض ويحتمل البرد إماتة لجسده».
19
وأنشأ هذا القديس الكبير الدير بعد الدير حتى صار أبا لمئات من الرهبان، ووضع قوانينه الكبرى والصغرى فعمت الشرق بأسره، وانتقلت في حينها إلى الغرب أيضا، وتميزت الرهبانية الباسيلية عن الباخومية المصرية وغيرها بانتظامها وخضوع أفرادها خضوعا تاما لرئيسهم ومدبر شئونهم، وبإصغاء هذا الرئيس إلى نصح الرهبان الشيوخ، فأصبح النذر مثلثا يقضي بالطاعة والفقر والعفة، وخشي باسيليوس أثر الكسل في نفوس الرهبان، فحضهم على العمل اليدوي المشترك لمصلحة المجموع، وعلى مطالعة الكتاب المقدس والتأمل في محتوياته:
20
هب لنفوسنا انسحاقا، ولأفكارنا اهتماما بفحص دينونتك الرهيبة العادلة، سمر أجسادنا بخوفك وأمت أعضاءنا التي على الأرض لكي نستنير في هدوء النوم بتأمل تدابيرك، أبعد عنا كل تصور لا يليق وكل شهوة مضرة، وأنهضنا في وقت الصلاة موطدين في الإيمان، وناجحين في وصاياك بمسرة وصلاح ابنك الوحيد الذي أنت مبارك معه ومع روحك القدوس الصالح والمحيي.
أفرام البار (303-379)
وعاصر باسيليوس الكبير أفرام البار «معزي الحزانى ومرشد الشبان وهادي الضالين». ولد أفرام في نصيبين من أبوين مسيحيين حوالي السنة 303، ولحق بأسقفها القديس يعقوب الشهير «فسقاه من التقى والعلم لبانا نقيا، وقرأ كتاب الله فأحكمه »، وترك الدنيا وما فيها، واعتكف فأخذ عن يوليانوس الناسك طريقته، فأكب على الصوم والصلاة والإماتة، ولم يأكل سوى خبز الشعير والبقول المجففة، ولم يشرب سوى الماء، فأصبح جسده على حد تعبير غريغوريوس النيصي هيكلا عظميا كأنه تمثال من الفخار.
وعلم أفرام القديس في مدرسة نصيبين، فلما سقطت بيد الفرس سنة 363 جلا عنها وسار إلى آمد فالرها، وارتاح إلى سكنى الرها، وأشرف على مدرستها، فظهر فيها على أهل البدع، ولقن الطلبة حقائق الدين القويم، وزار النساك المنتشرين في ضواحي الرها، وفاقهم بالكمال والقداسة، فذاع صيته وجاءه الكثيرون لاقتفاء أثره، فوعظ وهدى حتى أصبح أبا للمئات من النساك والرهبان.
ويرى غبطة البطريرك أغناطيوس أفرام الأول أن هذا القديس البار هو إمام اللغة السريانية الأكبر، وفارس ميدانها الذي لا يجارى ولا يطاول، ويضيف غبطته أن أبرز مصنفات هذا القديس ميامره الشعرية على البحر السباعي في أسرار ربنا ومخلصنا، وفي البتولية والتوبة والإيمان والحياة المسيحية والكهنوت.
21
مار مارون (410 +)
ويذكر ثيودوريطس أسقف قورش مارون الناسك في عداد نساك أبرشيته، ويقول إنه اعتكف على إحدى القمم بالقرب من هيكل وثني، وأنه قضى حياته بالصلاة والتوبة، وأن الله من عليه بالقدرة على الشفاء، فتقاطر الناس إليه يتبركون ويلتمسون الدعاء، وأن بعض هؤلاء تتلمذ عليه واقتفى أثره.
22
وكتب يوحنا الذهبي الفم إلى هذا «الكاهن الناسك» في أثناء محنته في أرمينية سنة 405 يستخبر عن أمره ويلتمس دعاءه.
23
ولم يذكر ثيودوريطس سنة وفاة هذا القديس الناسك ولا ذكرها غيره، ولكننا نعلم أن الذهبي الفم التمس دعاء هذا الناسك القديس في السنة 405، وأن ثيودوريطس بدأ يدون أخباره في السنة 423، ومن هنا تعيين الوفاة في السنة 410 أو حواليها،
24
ولا تزال الكنيسة الجامعة بفرعيها اليوناني واللاتيني تعيد لهذا القديس الأرثوذكسي حتى يومنا هذا.
القديس أيرونيموس (347-420)
وأم أنطاكية في السنة 373 أيرونيموس الشاب السلوفيني الإيطالي، الذي أصبح فيما بعد أكبر رجال التفسير في الكنيسة الغربية. ولد أيرونيموس في سلوفينية من أبوين شرقيين مسيحيين تقيين،
25
وفي الثانية عشرة أرسل إلى رومة، فدرس فيها الفصاحة والبيان، واستسلم حينا لأهوائه، ثم قبل سر المعمودية على يد ليباريوس أسقف رومة سنة 365، وعزم على التفرغ للعبادة، وسعى لاجتذاب أخته الصغيرة إلى حياة التبتل والتنسك، فغضبت عليه عمته وثارت في وجهه، فسافر إلى الشرق.
ولدى وصوله إلى أنطاكية حل ضيفا على إفاغريوس الكاهن
26
يمين بفلينوس زعيم الأفستاثيين الأرثوذكسيين، وفي أثناء إقامته في عاصمة الشرق درس اليونانية والعبرية، وأصغى لكبار رجال التفسير واللاهوت، وشعر بالدعوة إلى التبتل والتنسك، فانفرد في برية خلقيس (قنسرين)، وأقام فيها مدة مثابرا على الصوم والصلاة والسهر والإماتة، وفي السنة 377 عاد إلى أنطاكية فسعى بفلينوس أسقف الأفستاثيين وأقنعه بقبول درجة الكهنوت، ثم رحل إلى القسطنطينية ليأخذ العلم واللاهوت عن غريغوريوس الثيولوغس، فلبث فيها سنتين، وفي السنة 381 أصبح بعلمه وفصاحته مقررا للمجمع المسكوني الثاني، وفي السنة التالية رافق بفلينوس إلى رومة، فاتخذه دماسوس أسقفها كاتبا له، ووكل إليه وضع ترجمة موحدة للكتب المقدسة.
وتوفي دماسوس (384)، فأراد البعض أن يخلف أيرونيموس هامة الرسل في رومة، فثارت ألسن الحساد ورشقوا هذا الراهب المسكين بسهام «القلوب الدنيئة»، فحمل أيرونيموس صليبه بصبر، وحمل مكتبته وترك رومة (385)، وقام إلى الشرق إلى أنطاكية وعكة ويافة فأوروشليم وبيت لحم، وجاء برفقته إلى هذه الديار أخوه بولنيانس، والكاهن منصور، والتقيتان بولا
، وإفستوكيوم
Eustochium ، وشيدت بولا ديرين في بيت لحم في جوار «المذود المقدس» واحدا للرجال وآخر للنساء، وتسلمت هي رئاسة دير النساء، وأشرف أيرونيموس على إدارة دير الرجال، وعكف أيرونيموس على تقديس نفسه في بيت لحم خمسة وثلاثين عاما، وتوفي فيها (420) ودفن بالقرب من المذود الشريف، ثم نقل جسده إلى رومة.
ونقل أيرونيموس خرونيقون أفسابيوس القيصري من اليونانية إلى اللاتينية، وأضاف إليه وأكمل أخباره حتى السنة 378،
27
وفي السنة 392 أخرج مجموعته في مشاهير أدباء النصارى
De Viris Illistribus ، وكتب رسائل عديدة بعث بها إلى أكابر رجال عصره ردا على كتاباتهم أو رسائلهم، وفي السنة 405 أنجز هذا القديس العظيم ترجمة الكتب المقدسة التي طلبها منه دماسوس أسقف رومة، فكانت ال
Vulgata
التي لا تزال مقبولة في الأوساط الكنسية الغربية حتى يومنا هذا.
الوثنيون والرهبان
واعتبر الوثنيون المثقفون الرهبان أعداء ألداء لجميع المسرات الطبيعية وخونة، سخفاء الذمة لم يثبتوا على عهد الولاء للمجتمع المدني، وقالوا إنهم لا يدخلون المدن إلا لبذر الشقاق في المجتمع وإلحاق الضرر بهياكل الآلهة. وجاء في رسالة يوليانوس الجاحد التاسعة والثمانين أن في الرهبان أرواحا نجسة تجعلهم يتغالظون ويشاكسون ثم يبتعدون عن الناس، وكتب ليبانيوس الفيلسوف الوثني الأنطاكي في السنة 384 إلى ثيودوسيوس الإمبراطور، يطلب تدخله الفعال ضد «هؤلاء الذين يخربون الهياكل ويملئون الكهوف والمغاور، وليس لديهم من الزهد والتقشف سوى معاطفهم، هؤلاء الذين يرتدون الأسود، ولكنهم يأكلون أكثر من الفيلة، ويشربون أثناء الترتيل ما يتعب الأرقاء من كثرة السكب، يصفرون وجوههم ولكنهم يخبئون تحت هذا التصفير بلبلة وتشويشا، هؤلاء أيها الإمبراطور هم الذين يهجمون على الهياكل عابثين بالقانون، حاملين الأخشاب لإضرام النار، والحجارة والحديد للتقويض والنهب».
28
الدولة والرهبان
ولم يرض والنس عن تدخل رهبان النطرون في قضية خلف أثناسيوس في الإسكندرية، فأصدر في السنة 375 قانونا قضى بإكراه الرهبان على القيام بالخدمة العسكرية، وهب عماله في مصر والشرق يسوقون الرهبان والنساك فيعزرونهم ويهزءون بهم، وقضوا على عدد غير قليل منهم تحت ضرب السياط وسفع الحديد.
29
واضطر ثيودوسيوس على الرغم من ورعه وتقواه أن يصد الرهبان ويمنع تدخلهم في الأمور المدنية، فإنه تألم من تدفقهم على أنطاكية في السنة 387 كما سبق وأشرنا، ومن تهافتهم في الغرور في السنة 388 في كلينيكوم في مقاطعة الرها، عندما انقضوا على فئة من الغنوسيين، فأحرقوا هيكلها وطمعوا في اليهود فخربوا كنيسهم، وأراد ثيودوسيوس أن يكره أسقف كلينيكوم على إعادة تعمير الكنيس على نفقة المسيحيين، ولكن تدخل القديس إمبروسيوس رفع عن زميله في كلينيكوم عبئا ثقيلا،
30
فسن الإمبراطور قانونا في الثاني من أيلول سنة 390 منع به الرهبان من الإقامة في المدن، وأجبرهم على البقاء في البراري الفسيحة،
31
وفي الثاني من نيسان سنة 392 حرم الإمبراطور على الرهبان التدخل في الأحكام والتشفع أمام السلطات.
32
موقف الأوساط المسيحية
ولم يجمع المسيحيون على تقرير التبتل والزهد والتنسك، ولم يشاركوا كلهم الذهبي الفم في قوله إن رهبان الفيافي في مصر ملائكة في شكل بشري،
33
فإنه قام من أبناء أنطاكية نفسها من المسيحيين من قرف بالرهبان وعد تقشفهم ضربا من الجنون، واستفرغ كل ما في وسعه لمنع الناس عن اقتفاء آثارهم.
34
وإذا جاز لنا أن نأخذ بشهادة سالفيانوس قلنا معه: «إذا خرج رجال الله من أديرتهم في مصر أو من أماكن أوروشليم المقدسة أو من البراري، وأموا المدن بوجوههم الصفر وشعورهم المجزوزة حتى الجلد، قوبلوا بالضحك والصفير والاستهزاء.»
35
الأساقفة والرهبان
وليس لنا أن نغالي مع مؤرخ الكنيسة لويس دوشان
Duchesne ، فنرى في مجرد التنسك انتقادا للحياة الإكليريكية آنئذ، وليس لنا أيضا أن نقول معه إن البقاء في الكنيسة في نظر نساك ذلك العصر أضحى مستحيلا لمن أراد منهم أن يحيا حياة مسيحية حقيقية،
36
بل يمكننا أن نقول إن الرهبانية، رغم بعض التطرف في التبتل والتعبد، كانت بمثابة تنفس للقوى الروحية الفائضة في الأفراد الذين اضطروا إلى الاعتزال لمتابعة الجهد الروحي، وتكشف المثل العليا دون الاعتداء على نظم الكنيسة وأوضاعها القائمة. والواقع أن تشريع والنس وثيودوسيوس وحده يثبت تدخل الرهبان والنساك في أمور الكنيسة، وأن أخبار ثيوفيلوس الإسكندري تؤكد أيضا تعاونا وثيقا بين الأسقف وبين الرهبان،
37
ويجب ألا ننسى أن مجمع أسنة
Latopolis
بحث ادعاء باخوميوس أنه «يرى ويقرأ الأرواح»،
38
ولا يخفى أيضا أن علاقات باخوميوس مع أساقفة مصر كانت حسنة، وأن عددا كبيرا من رهبانه تقبلوا درجة الكهنوت، وأن أثناسيوس يبين بوضوح تام احترام أنطونيوس الكبير للسلطة الدينية. ويلاحظ هنا أن العالمين الكبيرين هارناك وغروتزماخر الألمانيين تطرفا في خروجهما عن المألوف، فاستحقا نقد زميلهما شيفيتز.
39
ويلاحظ أيضا أن النساك المتبتلين من أبناء كنيسة أنطاكية ساهموا منذ القرن الرابع في أعمال الكنيسة الخيرية وفي التبشير أيضا، فكان بعضهم يخرج من الصوامع عند اقتضاء الحاجة للعمل والتبشير، ثم يعود إلى العزلة بعد إنجاز المهمة، وقد أجاد الأب أولاف هندريك في إظهار هذه الناحية من الحياة الرهبانية الأنطاكية، ولكنه تطرف في الاستنتاج عندما رأى أن اشتراك هؤلاء في هذه الأعمال هدف بعد مجمع خلقيدونية إلى الاستقلال عن بيزنطة، ولعله يقصد الرهبان الذين قالوا بالطبيعة الواحدة لا رهبان كنيسة أنطاكية، فهؤلاء ظلوا أبناء الكنيسة الأم الجامعة!
40
تطرف في التبتل والتأبد
وتطرف بعض المؤمنين في موقفهم من لذات الجسد، ولا سيما في أمر الزواج، فافترق الزوجان ليلة العرس
41
أو حافظا على العفة إلى ما شاء الله،
42
أو ترك أحد الزوجين الآخر على الرغم من فائق المحبة وشدة التعلق،
43
وعاد البعض إلى تمجيد التأبد والتبتل والدفاع عنهما دفاعا عقليا منطقيا، ولا تخلو بعض مصنفات الآباء القديسين من التأسف الشديد على وجوب المحافظة على الجنس بالطريقة الجسدية المعروفة، وعلى ما يتبعها من عواقب «نجسة قذرة».
44
ويستدل من مقررات مجمع غنغرة المحلي الذي انعقد في منتصف القرن الرابع، أن المؤمنين في أبرشية سبسطية في أرمينية الصغرى اعتبروا المتزوجين منهم موبوئين لا خلاص لهم، وامتنعوا عن التعبد في الكنائس التي قام بالخدمة فيها كهنة متزوجون، وقالوا إن الأغنياء لن يدخلوا ملكوت السماوات، وحضوا الأرقاء على عدم الطاعة، وطالبوا بجزء كبير مما قدم للكنيسة مدعين أنهم أحق بذلك من سواهم؛ نظرا لمستواهم الأدبي العالي،
45
فأوجب الآباء المجتمعون الابتعاد عن كل بدعة لا تقرها الأسفار المقدسة أو قوانين الكنيسة، وأكدوا احترامهم في الوقت نفسه للتنسك والعفة والطهارة.
والتأم في هذا القرن نفسه مجمع محلي آخر في لاذقية فريجية ضم عددا غير قليل من أساقفة آسية، ويتضح من خلاصة أعمال هذا المجمع أن الأساقفة المجتمعين حرموا الربا على الكهنة، ومنعوا رجال الإكليروس من التردد إلى الفنادق، وأوجبوا خروجهم من العرسات قبل بدء الرقص، وابتعادهم عن الحمامات عند دخول النسوة إليها، وحرموا إقامة حفلات الأغبة في الكنائس، وأوجبوا على الكهنة ألا ينقلوا إلى بيوتهم فضالة الموائد بعد هذه الحفلات، ثم منعوا النساء منعا باتا من الاقتراب من المذبح، ولعلهم أوصوا بسيامة الشماسات خارج الكنيسة لا داخلها، ولم يرضوا فيما يظهر عن اشتغال الكهنة بالسحر والتنجيم، وعن إعداد التعويذات والأحراز لصيانة حاملها من الأمراض والأرواح النجسة.
46
الفصل الحادي والعشرون
كنيسة أنطاكية في الربع الأول من القرن الخامس
الهيرارخية
وتدل النصوص الباقية أن هيرارخية كنيسة أنطاكية شملت في الربع الأول من القرن الرابع، أي قبيل التئام المجمع المسكوني الأول، الأبرشيات الآتية: أبرشية فلسطين ومركزها قيصرية، وأبرشية فينيقية ومركزها صور، وأبرشية العربية ومركزها بصرى، وأبرشية سورية ومركزها أنطاكية، وأبرشية ما بين النهرين ومركزها الرها، وأبرشية قيليقية ومركزها طرسوس، وأبرشية أسورية ومركزها سلفكية.
وهناك ما يدل على أن هذه الأبرشيات أصبحت خمس عشرة في الربع الأول من القرن الخامس، فأبرشية فلسطين أصبحت ثلاثا: فلسطين الأولى ومركزها قيصرية، وفلسطين الثانية ومركزها بيسان
Scythopolis ، وفلسطين الثالثة ومركزها البتراء، وقد أنشئت هذه في السنة 357-358، فشملت كل ما وقع جنوبي أرنون وبحر الميت.
1
ويجوز القول أيضا إن أبرشية قيليقية قسمت إلى اثنتين ما بين المجمع المسكوني الثاني (381) والمجمع الثالث (431)، فظهرت أبرشية قيليقية أولى مركزها طرسوس، وأبرشية قيليقية ثانية مركزها عين زربة، وجرى مثل هذا وفي الوقت نفسه في فينيقية فظهرت أبرشيتان فينيقيتان: فينيقية الساحلية ومركزها صور، وفينيقية اللبنانية ومركزها دمشق، وقضت ظروف الحدود الفارسية في السنة 359 بتقسيم أبرشية سورية إلى أبرشيتين: سورية ومركزها أنطاكية، والفرات ومركزها دولك، ثم ظهرت أبرشية الرها في السنة 371 فسورية الأولى ومركزها أنطاكية، وسورية الثانية ومركزها أبامية،
2
ولم يرتبط عدد المطارنة بعدد الأبرشيات الإدارية المدنية، فإن أسقف بيروت أصبح متروبوليتا منذ عهد ثيودوسيوس الثاني (408-450)، وتمتع أسقف حلب بهذا اللقب في مجمع السنة 536، وقل الأمر نفسه عن حمص ودارا والرصافة
Sergiopolis ، فقد تمتعت جميعها باللقب متروبوليس في أوقات لم تكن هي فيها مراكز أبرشيات إدارية.
3
أسقف أنطاكية
وكفى أسقف أنطاكية فخرا آنئذ أن يكون أسقف أنطاكية، ومن هنا في الأرجح هذا السكوت في المراجع الأولية عن ألقابه وعن صلاحياته قبل أيام يوستنيانوس الكبير، وجل ما نعلمه وتقره المصادر هو أن موافقة الأبرشيات الخاضعة له كانت ضرورية لارتقائه إلى منصب الرئاسة، وأنه لم يكن له حق التدخل في ترقية إكليروس هذه الأبرشيات من درجة إلى درجة.
متروبوليت الأبرشية
أما متروبوليت الأبرشية فإنه حفظ في يده حق ترقية رجال الإكليروس في داخل أبرشيته، وكان لا بد من موافقته وحضوره لسيامة الأساقفة الخاضعين له، وكان عليه أن يدعو إلى مجمع محلي جميع أساقفة أبرشيته مرتين في كل سنة، مرة في الأسبوع الثالث بعد الفصح، ومرة ثانية في منتصف تشرين الأول، وهي أمور نصت عليها قوانين مجمع التكريس في أنطاكية (19 و20) ومجمع نيقية (6).
ويستدل مما خلفه سويروس الأنطاكي أن انتخاب الأساقفة في الأبرشية كان يتم في غالب الأحيان باشتراك الشعب والسلطة الروحية، فيجتمع الوجهاء ويتخذون قرارا
بثلاثة من أفضل المرشحين اللائقين بمقام الأسقفية، ثم يرفعون هذا القرار إلى متروبوليت الأبرشية أو إلى رئيس الكنيسة أسقف أنطاكية نفسه لينتقي الأفضل،
4
وجاء بعد الأسقف الخور أسقف والبرديوت
والكاهن والبرمون
.
5
الكنيسة والدولة
واتبع يوفيانوس بعد يوليانوس سياسة الحياد بين النصرانية والوثنية، وتبعه في ذلك فالنتنيانوس فاستحق شكر أميانوس ماركلينوس المؤرخ الوثني،
6
وسكت والنس عن الوثنية ولم يضيق عليها، وجاء ثيودوسيوس فخرج من هذا الحياد الرسمي إلى تدخل فعلي في شقاق النصارى واختلافاتهم الداخلية، ثم أعلن في ربيع السنة 381 ما ينتظر النصراني الجاحد من عقوبات،
7
وفي الخامس والعشرين من أيار السنة 385 جدد تحريم الذبائح للعرافة،
8
ثم أرسل المدبر كينيغيوس
Cynegius
في جولة إدارية تفتيشية إلى إقليمي سورية ومصر؛ ليقفل بإجراءات إدارية ما أمكنه من الهياكل الوثنية، ودامت رحلة كينيغيوس ثلاث سنوات (385-388) تمكن في أثنائها من إغلاق عدد غير قليل من هذه الهياكل،
9
ثم دخل الإمبراطور ثيودوسيوس في مشادة عنيفة مع القديس إمبروسيوس
10 (390)، فعطف على مشاهير الوثنيين وقربهم إليه،
11
وهكذا فإن ثيودوسيوس لم يحزم ولم يكن متوثقا من سياسته الدينية وموقفه من النصرانية قبل السنة 391، ولا يخفى أن إنشاء الهياكل الوثنية في الشرق أو ترميمها أو تزيينها لم ينقطع طوال القرن الرابع؛ ففي السنة 329 زين سكان عرنة حوران هيكلا لزفس،
12
وفي السنة 367-368 رمم الوثنيون هيكل زفس في كوريفايوس (الحصن)،
13
وفي السنة 389 أنشأ الحورانيون معبدا للإله ثيانذريتس،
14
وجاءت السنة 391 فبدأ ثيودوسيوس تحريماته الشهيرة الأولى في رومة في 24 شباط، والثانية في الإسكندرية في 16 حزيران، والثالثة بعد سنة وأكثر (8 تشرين الثاني سنة 392) في القسطنطينية، وقد حرمت هذه التدين بالوثنية في جميع أنحاء الإمبراطورية.
15
وبعد السنة 392 استغلت الكنيسة وحدها جميع الامتيازات التي كان قسطنطين الكبير قد منحها رجال الإكليروس ليساويهم بكهنة الوثنيين، وأهم هذه الامتيازات إعفاءات مالية معينة،
16
وصلاحيات قضائية، وحق حماية اللاجئ، وحق الاستقلال القضائي.
17
واختلف الآباء القديسون في موقفهم من موضوع الكنيسة والدولة؛ فالقديس أثناسيوس الكبير قال إلى الإمبراطور قسطنديوس في السنة 357: «إني لم أقاوم أوامر تقواكم، أعوذ بالله، إني لا أعارض أحكام وال من الولاة، فكيف أجرؤ على مقاومة أمير عظيم؟»
18
وعلم هذا القديس بوجوب طاعة الملوك؛ لأن سلطتهم مستمدة من الله، وبوجوب اهتمام هؤلاء بشئون الكنيسة وحمايتها، وعندما احتج دوناتوس على تدخل الإمبراطور في شئون الكنيسة، أجابه الأسقف أوبتاتوس: «إن الكنيسة جزء من الدولة، وليست الدولة جزءا من الكنيسة.»
19
أما إمبروسيوس فإنه لم يخضع السماويات للأرضيات، وأكد للإمبراطور «أنه ليس رئيس الكنيسة»،
20
Imperator intra ecclesiam non supra ecclesiam .
وعلى الرغم من هذا الاختلاف في الرأي، ومن استمساك عدد من الأباطرة بالسلطة وتدخلهم في شئون الكنيسة، وتسخير هذه لأغراضهم الخاصة وسياساتهم الدنيوية، فإن تنصر الدولة أدى إلى خضوع الأباطرة لمبادئ الإنجيل الطاهر، وجعل منهم أداة للخير في كثير من الأحيان. ولا يختلف اثنان في أن حكم الأباطرة المسيحيين كان أليق بالحرية والعدالة والمحبة من حكم سلفائهم الوثنيين.
21
الآباء العلماء
وأنجبت كنيسة أنطاكية في الخمسين سنة التي تلت وفاة ملاتيوس عددا من العلماء الأعلام، الذين دافعوا عن العقيدة القويمة في عصر كثرت فيه البدع واشتد ضغط الهراطقة، وحافظوا على نصوص الأسفار المقدسة في زمن كثر فيه اختلاف المعاني الرمزية، والإشارة هنا إلى ديودوروس الطرسوسي
22
وتلميذيه يوحنا الذهبي الفم وثيودوروس الموبسوستي.
23
رهط من كبار الأساقفة
وإذا ما ذكرنا بالإضافة إلى ديودوروس أسقف طرسوس، وثيودوروس أسقف موبسوستة، كلا من: أفلوغيوس أسقف الرها، ومركلوس الشهيد أسقف أبامية،
24
وكيرلس ويوحنا أسقفي أوروشليم، وأبيفانيوس أسقف سلامينة قبرص؛
25
نجد فلابيانوس رئيس الكهنة محاطا بعدد غير قليل من الشخصيات القوية المحترمة.
بين اللاذقية وبيروت
ولا نعلم ماذا حل بأبوليناريوس أسقف اللاذقية، الذي غالى في دفاعه عن لاهوت السيد المخلص ضد آريوس وأتباعه، فزعم أن لاهوت السيد قام مقام العقل فأصبح ناسوته ناقصا. أما تلميذه فيتاليوس الأنطاكي فإنه توفي في السنة 382، ووافق تلميذه الآخر تيموثاوس أسقف بيروت على مقررات المجمع المسكوني الثاني، فعاد إلى كرسيه مكرما وصنف بعض الرسائل ووضع تاريخا كنسيا، فنفر منه بوليمون وابتعد ليصبح مغاليا من الغلاة.
26
المصلون والراهب ألكسندروس
والمصلون
Messaliens
الذين ظهروا في الأبرشيات الأنطاكية الشمالية في الربع الأخير من القرن الرابع لزموا الصلاة، ولا سيما الذكسولوجية ورددوها دائما؛ لأنهم زعموا أن لكل إنسان شيطانا لا يخرج إلا بالصلاة، «وامتهنوا النسك والصيام والسهر والشغل، ولازموا النوم وعاشوا بالصدقات»، وادعوا أنهم بالصلاة والتجرد عن الأموال يتحدون بالله اتحادا شديدا، ومن هنا اعتبارهم أنفسهم ملائكة وأنبياء ورؤساء ومسحاء، ومن هنا في الأرجح قول دوشان المؤرخ أنهم «دراويش النصرانية».
27
وأشهر هؤلاء المصلين الراهب ألكسندروس، بدأ حياته الرهبانية في سورية الشمالية وفي الجزيرة، فكان تارة يجول مبشرا بالإنجيل وطورا يجمع الرهبان ليقيم معهم في مسكن دائم، وأم أنطاكية في أوائل القرن الخامس، فدارت حوله الشبهات فطرد منها طردا، فذهب إلى القسطنطينية حيث أصبح مشكلة المشاكل في عهد أتيكوس أسقفها.
28
ويختلف المؤرخون في موقفهم من هذا الراهب، فهو قديس عند بعضهم سابق ممهد بإتيان فرنسيس الأسيزي،
29
وهو خارج عند غيرهم مبتدع مهرطق.
30
ذوات الأقراص
واهتمت نساء أبرشية بصرى بالسيدة العذراء، فأقمن لها احتفالا خصوصيا، وصنعن لها عرشا، وأعددن أقراصا، واجتمعن حول العرش لأكل الأقراص وممارسة بعض الأعمال كأنهن من الكهنة.
بورفيريوس (404-414)
وتوفي فلافيانوس وخلا عرش أنطاكية فجاء بورفيريوس، وجل ما نعلمه عن بورفيريوس أنه وصل إلى السدة الأنطاكية بتواطؤ أكاكيوس وسويريانوس وأنطيوخوس أساقفة حلب وجبلة وعكة، وأنه تذرع بالإرادة السنية الإمبراطورية، فأنزل بأخصامه العذاب، ونفى معظمهم كما سبق وأشرنا، ولا نعلم مدى مدة رئاسته بالضبط، ولكننا نقرأ أنه اشترك في المفاوضات التي جرت في السنة 409-410 مع كنيسة فارس.
31
ألكسندروس (414-424)
وتولى خلافة الرسولين بعد بورفيريوس ألكسندروس الراهب الوقور الذي تمكن بلطفه ودماثة أخلاقه أن يزيل الشقاق بين الأرثوذكسيين الشرعيين أتباع ملاتيوس وبين الأرثوذكسيين الأفستاثيين، وأن يجعل الطائفتين رعية واحدة لراع واحد؛ فإنه قبل الكهنة الأفستاثيين بين كهنته في الرتب نفسها التي تمتعوا بها، وقام بشخصه إلى كنيسة الأفستاثيين وجاء بهم إلى كنيسته مرتلا مصليا!
32
وبقيت بقية متعنتة من الأفستاثيين ولم ترض عن شيء من التفاهم والتعاون حتى عودة رفاة أفستاثيوس في عهد كالنذيون (479-483).
وكان ثيوفيلوس خصم الذهبي الفم قد ناشد أساقفة الشرق والغرب موجبا رفع اسم خصمه من الذبتيخة، والذبتيخة مصحف يضم أسماء الذين يراد ذكرهم من شهداء وأبرار وقديسين أو من أساقفة وبطاركة عند تقديم الذبيحة الطاهرة، وكان قد أصر على هذا العناد عدة سنين حتى أصبح ذكر الذهبي الفم في الذبتيخة من أهم مشاكل الكنيسة في الشرق ما بين السنة 404 والسنة 414، وتوفي ثيوفيلوس في السنة 412، وخلف الرسولين في أنطاكية ألكسندروس التقي المسالم، وأحب أن يزيل النفور الذي كان قد دب إلى قلوب «الحناويين» من أبناء رعيته، فدون اسم يوحنا الذهبي الفم في الذبتيخة الأنطاكية، وقبل في الشركة ألبيذس أسقف اللاذقية وببوس وغيرهما ممن وقع تحت الاضطهاد من أصدقاء الذهبي الفم.
وقضى العرف الكنسي بتسطير رسالة سلامية إلى كبار الأساقفة خارج كنيسة أنطاكية، فكتب ألكسندروس إلى أنوشنتيوس أسقف رومة ينبئه بما جرى ويلتمس الشركة، وبعث بكتابه مع وفد صحبة الكاهن كاسيانوس تلميذ الذهبي الفم، فتهللت نفس القديس الروماني، وأنفذ إلى ألكسندروس رسالة مجمعية مذيلة بتواقيع أربعة وعشرين أسقفا إيطاليا قابلا شركة كنيسة أنطاكية، وكتب أنوشنتيوس أيضا كتابا خصوصيا إلى ألكسندروس أعرب فيه عن حبه وتقديره، ودفع الرسالتين إلى وفد مؤلف من الكاهن بولس والشماس نقولا والشماس بطرس، وكان بورفيريوس قد كتب إلى أنوشنتيوس مسلما ولكن أسقف رومة لم يجب.
33
وفي هذه الأثناء عرف أكاكيوس أسقف حلب خطأه، فوضع اسم الذهبي الفم في الذبتيخة الحلبية، ولم يمض وقت يسير بعد هذا حتى اتحدت الكنيسة الأنطاكية على تكريم الذهبي الفم مفتخرة بكونه ابنها ورسولها، وأصرت كنيسة القسطنطينية على إنكاره وغمص جميله، فسار ألكسندروس أسقف أنطاكية إلى القسطنطينية، واستنفد الجهد في اجتذاب أتيكوس، فأخفق فاستفز حمية الشعب بتعداد فضائل الذهبي الفم، فتضرعوا إلى أتيكوس أن يقبل بتكريم سالفه، فأبى فعاد ألكسندروس إلى أنطاكية حابط السعي.
وكتب أكاكيوس إلى أتيكوس أسقف القسطنطينية وإلى كيرلس أسقف الإسكندرية، فاشتد اللغط في الأوساط الشعبية في العاصمة حتى خشي من شبوب ثورة، فاستشار أتيكوس الإمبراطور الشاب، ثم بادر إلى تسطير اسم سالفه يوحنا في الذبتيخة، ولم يسر كيرلس من هذا الخبر، فكتب إلى زميليه القسطنطيني والحلبي يلومهما،
34
ولكنه لم يثبت في ذلك طويلا، ولعله وافق زملاءه أجمعين في إكرام الذهبي الفم قبل السنة 419.
35
ثيودوتوس (424-428)
وهو الثامن والثلاثون بعد الرسولين، واسمه يوناني ومعناه عطا الله
Theodotos ، ويختلف المؤرخون في تعيين مدة رئاسته؛ فقد تكون 424-428، وقد تكون أيضا 417-429،
36
وقد تكون أيضا 418-427 كما جاء في تاريخ قسطنديوس البطريرك القسطنطيني،
37
وأفضل ما يعزى إليه أنه حاول رد الأبوليناريين عن ضلالهم، فعاد إلى الأرثوذكسية حوالي نصفهم،
38
ويعزى إليه أيضا أنه اتخذ موقفا حازما من بيلاجيوس
وأتباعه، فعقد مجمعا أنطاكيا وخطأ هؤلاء وحرم عليهم الوصول إلى الأماكن المقدسة.
39
الفصل الثاني والعشرون
نسطوريوس والمجمع المسكوني الثالث
428-441
شغور الكرسي القسطنطيني
وتوفي أتيكوس أسقف القسطنطينية في خريف السنة 425، فترشح للخلافة كل من بروكلوس سكرتير أتيكوس، وفيلييبوس أحد كهنة العاصمة، وقد عرف هذا بشغفه بالآثار وباهتمامه بتاريخ النصرانية، ولكن الشعب آثر سيسينيوس
Sisinnius
أحد كهنة الضواحي، الذي اشتهر بمحبة المسيح وبتواضعه وزهده وعطفه على الفقراء، فتم انتخابه في الثامن والعشرين من شباط سنة 426،
1
ثم اختار الله له ما عنده، فاصطفاه لجواره في ليلة عيد الميلاد سنة 427، فعاد كل من بروكلوس وفيليبوس إلى سابق نشاطهما، ولكن ثيودوسيوس الثاني آثر التفتيش عن خلف لسيسينيوس خارج العاصمة، فاتجهت أنظاره نحو أنطاكية نحو الراهب نسطوريوس رئيس أحد أديارها، الذي كان قد اشتهر بفضله وفصاحته.
نسطوريوس
ولد نسطوريوس في ضواحي مرعش في الربع الأخير من القرن الرابع من أبوين سوريين أو فارسيين، وهو ابن عم ثيودوريطس المؤرخ أسقف قورش،
2
ودرس اليونانية ومبادئ العلوم في مرعش، ثم انتقل منها إلى أنطاكية حيث أخذ العلوم الدينية عن ثيودوروس الموبسوستي ، وقدم النذر والتجأ إلى دير أفبريبيوس
Euprepios
في ضواحي أنطاكية، ثم سيم كاهنا على مذابح كنيستنا الرسولية، وكلف بتفسير الأسفار المقدسة لتفوقه في اللغة والأسلوب ولجمال صوته.
3
وشغر الكرسي القسطنطيني واشتد نشاط المرشحين وأصحاب المصالح، فوقع اختيار السلطات على نسطوريوس، فقام إلى القسطنطينية في أوائل السنة 428، وجاء في أسطورة سريانية أن نسطوريوس عرج وهو في طريقه إلى القسطنطينية على معلمه القديم الأسقف ثيودوروس، فأقام عنده في موبسوستي يومين كاملين، وأن ثيودوروس شيعه حتى مشهد القديسة تقلا، وقال له عند الوداع: «إني أعرفك يا بني، لم تلد امرأة رجلا أشد حماسا منك، فعليك بالاعتدال إن رمت النجاح في معالجة الاختلافات في الرأي.» فأجاب نسطوريوس: «ولو عشت أنت يا سيد في زمن السيد المسيح لقيل لك وأنت أيضا ذاهب.»
4
واحتفل بتتويج نسطوريوس أسقفا على القسطنطينية في العاشر من نيسان سنة 428، فخاطب الإمبراطور على مسمع من جمهور المحتفلين قائلا: «أعطني بلادا خالية من الهراطقة، أقدم لك السموات بديلة، واستأصل الهراطقة لنا نستأصل الفرس معك.»
5
حمية نسطوريوس واندفاعه
واندفع نسطوريوس في سبيل الإيمان القويم، فاستصدر أمرا بإغلاق كنيسة الآريوسيين في القسطنطينية في الأسبوع الأول من رئاسته، وفي الثلاثين من أيار أي في الأسبوع الثامن لرئاسته صدرت إرادة سنية إمبراطورية تستأصل الهرطقة في جميع مظاهرها، فشملت في حكمها: الآريوسيين، والمقدونيين، والأبوليناريين، والنوفاتيين، والأفنوميين، والفالنتينيين، والمونتانيين، والمركيونيين، والبوربوريين، والمصلين، والأفخيتيين، والدوناتيين، والبولسيين، والمركلوسيين، والمانويين، وغيرهم.
6
ونفذت هذه الإرادة بحزم فأغلقت كنائس هؤلاء المبتدعين، وأدى إغلاقها إلى استعمال العنف في بعض الأحيان، وإلى خسائر في الأرواح.
والدة الإله
وكان الشقاق لا يزال مستحكما في العاصمة بين أتباع آريوس وأتباع أبوليناريوس، وكان من الطبيعي أن يشترك في الجدل بين هذين المعسكرين بعض الكهنة والشمامسة الأرثوذكسيين، ويستدل مما جاء في بعض المراجع الأولية
7
أن كاهنا أنطاكيا من ناحية نسطوريوس يدعى أنستاسيوس تدخل في الجدل القائم وقال إن مريم بشر، وكبشر لا يمكنها أن تلد إلها؛ ولذا فإنه لا يجوز القول عنها إنها والدة الإله
Theotokos . وتضيف هذه المراجع نفسها أن نسطوريوس أبى أن يلوم أنستاسيوس، وأنه تحاشى هو بدوره استعمال التعبير «والدة الإله». وجاء في مخلفات المجمع المسكوني الثالث أن دوروثيوس أسقف مركيانوبوليس حرم استعمال الاصطلاح والدة الإله، وأن نسطوريوس سكت عن هذا التحريم ولم يقطع دوروثيوس من الشركة.
8
والاصطلاح «والدة الإله» قديم العهد فيما يظهر، فألكسندروس الإسكندري استعمله بدون تكلف، وغريغوريوس النزينزي لعن من لا يعتبر مريم أم الله.
9
ورأى نسطوريوس أن هذا الاصطلاح لم يرد في الأسفار المقدسة، وأن الآباء لم يستعملوه في نيقية،
10
وذكر القول النيقاوي «إن ابن الله تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء.» فرأى في هذا اعترافا بطبيعتين: طبيعة ابن الله المساوي للآب في الجوهر، وطبيعة الإنسان المولود من العذراء، فرأى في الاصطلاح «والدة الإله» خلطا بين اللاهوت والناسوت، واقترح القول «والدة المسيح».
11
اللاهوت والناسوت
وعلمت الكنيسة منذ البدء أن مخلصنا الوحيد إله كامل، وإنسان كامل، رب واحد لمجد الله الآب، فقام آريوس وأنكر على الكنيسة الاعتقاد بطبيعة لاهوت الكلمة المتأنس، فعقدت المجمع المسكوني الأول وحكمت عليه وعلى تعليمه، وقررت حقيقة كمال لاهوت المخلص؛ ثم قام أبوليناريوس وقال بنقص في طبيعة المسيح البشرية، فعلم أن اللاهوت في المسيح قام مقام العقل في الإنسان، فعقدت الكنيسة المجمع المسكوني الثاني وحكمت على أبوليناريوس، وقررت حقيقة كمال ناسوت المخلص. ولكن الكنيسة لم تعين بعبارات محدودة مضبوطة وجه العلاقة بين الطبيعتين الإلهية والبشرية، ووجه الاتحاد بين اللاهوت والناسوت، فأدى هذا إلى تفاوت في فهم التعبير، ونشأ عنه اختلاف في التعليم وخصام ونزاع أفضى إلى الانشقاقين النسطوري والأوطيخي.
الإسكندرية وأنطاكية
وتزعمت الإسكندرية الفكر المسيحي مدة من الزمن وشاطرتها أنطاكية هذه الزعامة، وكان لكل من هذين المركزين نهج خصوصي في التعليم، واصطلاح في التعبير كثيرا ما خالف اصطلاح المركز الآخر في تأدية المعنى الواحد.
12
وقالت الإسكندرية بكمال الطبيعة البشرية في شخص المخلص وبكمال الطبيعة الإلهية، ولكنها لم تعين وجه اتحاد الطبيعتين، فقالت مثلا بالاتحاد الطبيعي والاتحاد الشخصي والاتحاد الجوهري بين الطبيعتين، وبعضهم نظر إلى الطبيعة الإلهية بنوع خصوصي، فقال بطبيعة واحدة متجسدة، وما عني بذلك سوى الاتحاد الحقيقي بين لاهوت الكلمة وناسوته، وأن الإله المتأنس شخص واحد وليس اثنين؛ لأن كلمة طبيعة كانت عندهم بمعنى الشخص والأقنوم، ولكن أحدا منهم لم ينكر الطبيعتين بمعنى الجوهر اللاهوتي والعنصر البشري، ونظرا لامتداد بدعة آريوس ووجوب محاربتها كان كلام الإسكندريين في لاهوت المخلص أكثر من كلامهم في ناسوته، وهكذا فإنهم سموا سيدتنا مريم والدة الإله، وقالوا إنها ولدت إلها وإن الإله ولد وتألم وصلب.
وأما مدرسة أنطاكية فإنها توخت البساطة والإيضاح، فميزت بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح الواحد، ومع أنها كانت تعتقد بأن المسيح واحد وليس اثنين، فإنها كانت ترفض التعليم بالاتحاد الطبيعي وبالمزاج بين الطبيعتين، وكانت تعتبر اتحادهما إضافيا بمعنى السكنى والارتباط حفظا لكمال الطبيعة البشرية، التي زعم أبوليناريوس أسقف اللاذقية الأنطاكية أنها كانت ناقصة، وكانت تنكر على الناسوت خواص اللاهوت كالحضور في كل مكان، والقدرة على كل شيء، وما شاكل ذلك، كما أنها أنكرت على اللاهوت أهواء الناسوت وآلامه كالولودة والتألم والموت؛ ولهذا السبب ابتعد الأنطاكيون عن كل تعبير يؤدي على زعمهم إلى مثل المعنى، كتسمية العذراء والدة الإله وغيرها من العبارات التي عينتها الكنيسة بعد ذلك صيانة للتعليم القويم. وقالوا بوجوب كمال الطبيعة البشرية؛ لأن لوقا يقول إن يسوع «كان ينمو في الحكمة والقامة.» وأوجبوا السجود للناسوت؛ لأنه متحد بالكلمة، ومن هنا قولهم: «إنما نسجد للأرجوان من أجل المتردي به، وللهيكل من أجل الساكن فيه، ولصورة العبد من أجل صورة الله، وللحمل من أجل رئيس الكهنة، وللمتخذ من أجل الذي اتخذه، وللمكون في بطن البتول من أجل خالق الكل.» ولا يجوز القول إن الأنطاكيين علموا بأقنومين، فإنهم قالوا بأقنوم واحد ذي طبيعتين متحدتين، بلا انمزاج ولا اختلاط ولا تشويش.
13
وهكذا فإن أساتذة المدرستين علموا تعليما مستقيما، ولكن بمناهج مختلفة وبانتقاء عبارات معينة قضت باستعمالها ظروفهم الخصوصية، فالمصريون الإسكندريون توخوا العبارات التي أوضحت كمال اللاهوت حذرا من بدعة آريوس، والأنطاكيون طلبوا إيضاح كمال الناسوت حذرا من بدعة أبوليناريوس، وآريوس إسكندري وأبوليناريوس لاذقي أنطاكي!
وقام في الكنيستين والمدرستين أناس تطرفوا فسقطوا في الضلال، فإن نسطوريوس الأنطاكي تطرف في التعليم بالطبيعتين إلى حد قال عنده بشخصين أو أقنومين، وأوطيخة الإسكندري كما سنرى تطرف في التعليم باتحاد الطبيعتين إلى حد قال عنده باختلاطهما طبيعة واحدة لا يميز بعدها بين اللاهوت والناسوت، وهاتان البدعتان أدتا إلى عقد المجمع المسكوني الثالث للنظر في بدعة نسطوريوس، وعقد المجمع المسكوني الرابع للبت في بدعة أوطيخة، وعقد المجمع المسكوني السادس للنظر في بدعة المشيئة الواحدة التي تفرعت عن بدعة الطبيعة الواحدة.
نسطوريوس وإكليروس القسطنطينية
ومع أن نسطوريوس كان أنطاكي المذهب، فإن رهبان الكرسي القسطنطيني وإكليروسه كانوا إسكندريين يعملون ضد آريوس والآريوسية، فلما قاوم نسطوريوس القول باتحاد الطبيعتين اتحادا طبيعيا وجوهريا، ونهى عن تسمية السيدة العذراء والدة الإله؛ وقع تعليمه موقع الاستغراب في جميع الأوساط الأرثوذكسية في العاصمة، ثم وصمه المحامي أفسابيوس باتباع بولس السميساطي،
14
واحتج الرهبان لديه فأمر بضربهم وحبسهم، فاضطر الشعب أن يلجأ إلى الإمبراطور،
15
فعقد الأسقف مجمعا سنة 329 وحرم جميع الذين لم يقبلوا تعليمه.
16
كيرلس ونسطوريوس
ولم يلبث خبر نسطوريوس أن ظهر وشاع، فانتشر بريده في الأنحاء ووصل إلى الإسكندرية، وكان كيرلس قد خلف خاله ثيوفيلوس في كرسي الأسقفية (412)، وورث عنه شيئا من المنافسة بين الإسكندرية والقسطنطينية التي كانت قد دبت إلى الصدور بعد المجمع المسكوني الثاني، عندما أصبح أسقف القسطنطينية الثاني بعد أسقف رومة في الكرامة.
17
وإذا كان الحاسد يغتاظ على من لا ذنب له، فكيف به والذنب خروج على الدين القويم، وهكذا فإن كيرلس تكلم في منشوره الفصحي للسنة 429 في تعليم الكنيسة عن الطبيعتين، وحارب تعليم نسطوريوس دون أن يذكر اسمه،
18
ثم كتب إلى نسطوريوس يوضح الاصطلاح والدة الإله، ويفسر أن هذا الاصطلاح لا يعني أن مبدأ اللاهوت منها، وإنما أن المولود منها كان إلها كاملا وإنسانا كاملا،
19
فأجابه نسطوريوس بعبارات مبهمة غامضة، ولامه على جفاف العبارة وقلة المودة الأخوية،
20
وعقد كيرلس مجمعا محليا، وعرض عليه الرسائل المتبادلة فاستصوب المجمع رأيه وحكم بصحته.
كيليستينوس ونسطوريوس
وكتب نسطوريوس إلى كيليستينوس
Celestinus
أسقف رومة، وإلى كثير من الأساقفة الغربيين لتعزيز موقفه وتكثير أنصاره، ولكن كيليستينوس أنكر على نسطوريوس بقاء بعض الأساقفة البيلاجيين في القسطنطينية، واعتمد في رأيه على مشورة يوحنا كاسيانوس
Jean Cassien
الذي عرف الشرق جيدا، وبلغ كيرلس اتصال نسطوريوس برومة، فكتب هو أيضا لكيليستينوس وأفاد أن الإيمان القويم معرض لخطر عظيم، وأرسل هذه الرسالة مع مخصوص اسمه بوسيذونيوس وأوصاه أن يلاحظ ويفهم، فإذا كان نسطوريوس قد كتب فيقدم الرسالة، وعلم بوسيذونيوس أن نسطوريوس كتب فدفع هو أيضا رسالة كيرلس، فعقد كيليستينوس مجمعا محليا في صيف السنة 430 واعتبر تعليم نسطوريوس غير قويم، وكتب بذلك إلى كيرلس الإسكندري ويوحنا الأنطاكي وغيرهما من رؤساء الكهنة في الشرق، وأوجب التراجع عن الضلال في العشرة الأيام الأولى التي تلي التبليغ وهدد بالقطع،
21
وكتب أسقف رومة إلى نسطوريوس نفسه أيضا وإلى رعيته بمثل ما تقدم.
22
وكتب كيرلس أيضا إلى رؤساء الكهنة في الشرق راجيا التدخل لهدي نسطوريوس ورده عن الضلال، وكان بين هؤلاء الذين كتب كيرلس إليهم أكاكيوس أسقف حلب، وقد زاد سنه على المائة، فكتب هذا الشيخ إلى كيرلس يرجوه أن يجتهد في إطفاء نار الخصومة ضنا براحة الكنيسة.
البنود الاثنا عشر
وكان أسقف رومة قد أوجب على نسطوريوس إظهار إيمانه كتابة، فكتب كيرلس رسالة لنسطوريوس «يعلمه فيها كيف يجب أن يؤمن»، وأضاف إليها اثني عشر بندا يشتمل كل واحد منها على قضية، وحرم ضد من يعلم غير ذلك وكلفه أن يوقع هذه البنود! ووصل الوفد الإسكندري إلى العاصمة في السابع من كانون الأول، وأموا دار الأسقفية في أثناء خدمة القداس الإلهي، وطلبوا مواجهة نسطوريوس فأرجأ الأسقف المقابلة إلى الغد، ولما اطلع على الرسالة والبنود رفض مقابلة الوفد الإسكندري، ولم يكتب نسطوريوس ضد كل بند بندا كما شاع بعد ذلك، وما ينسب إليه من هذا القبيل هو من قلم أحد المعجبين به من المتأخرين،
23
ولكنه أخبر يوحنا أسقف أنطاكية بالبنود الاثني عشر، وما إن اطلع هذا على نص هذه البنود حتى وصمها بالأبولينارية ، وشجع علماء الكرسي الأنطاكي على درسها والرد عليها، فكتب ثيودوريطس أسقف قورش اثني عشر فصلا، كما صنف مؤلفا آخر في تجسد الكلمة، ووضع إيبا أسقف الرها رسالة دافع بها عن نسطوريوس، وألف أندراوس أسقف سميساط أيضا كتابا ضد كيرلس وبنوده.
24
وهكذا فإن الاختلاف في الاصطلاح واندفاع كل من نسطوريوس وكيرلس وانتفاخهما وتسرعهما، قسم الكنيسة في ظرف سنوات ثلاث إلى شطرين: رومة وآسية وأوروشليم والإسكندرية في الجهة الواحدة، وأنطاكية ونسطوريوس في الجهة الأخرى.
الدعوة إلى مجمع أفسس (430)
واتصل نسطوريوس بالإمبراطور ثيودوسيوس الثاني، وأطلعه على واقع الحال، ورجاه أن يأمر بدعوة الأساقفة إلى مجمع مسكوني للنظر في القضية القائمة بينه وبين كيرلس، وكان ثيودوسيوس يعطف على أسقف عاصمته، فأمر في 19 تشرين الثاني سنة 430 بدعوة جميع «مطارنة» الإمبراطورية إلى مجمع مسكوني يعقد يوم عيد العنصرة في السابع من حزيران سنة 431، وشملت هذه الدعوة كيليستينوس أسقف رومة وأوغوسطينوس وغيرهما من كبار أساقفة الغرب.
25
وتوافدت الوفود على أفسس، وشمل الوفد الإسكندري خمسين أسقفا وعددا كبيرا من الشمامسة والرهبان، ولم يعبأ كيرلس بنص الدعوة الإمبراطورية، ووجوب الاكتفاء بعدد قليل من الأساقفة، وجاء نسطوريوس إلى أفسس تصحبه حاشية مخلصة صادقة، وكان من أعضاء هذه الحاشية القومس إيريناوس أحد كبار رجال البلاط الإمبراطوري، وفي الثاني عشر من حزيران أطل أسقف أوروشليم على رأس وفد مؤلف من خمسة عشر أسقفا، ولا يخفى أن يوبيناليوس
Juvenal
الأوروشليمي كان مشاغبا من الدرجة الأولى وطماعا كبيرا، وكان همه الوحيد أن يصطاد في الماء العكر ليرفع عن رأسه سلطة أنطاكية، ويستقل بأبرشيات فلسطين،
26
ولم يرض ممنون أسقف أفسس ومائة غيره من أساقفة آسية عن تدخل أسقف العاصمة في أمورهم، فوقفوا إلى جانب كيرلس، وناصروه مناصرة فعالة نظرا لكثرة عددهم، وأوفد كيليستينوس أسقف رومة الأسقفين: أركاذيوس وبرويكتوس
والقس فيليبوس، وأوجب عليهم التقيد برأي كيرلس أسقف الإسكندرية،
27
وكان أوغوسطينوس قد توفي قبل صدور الدعوة إلى المجمع في الثامن والعشرين من آب سنة 430. أما كابريولوس
Capreolus
أسقف قرطاجة ورئيس كنيسة أفريقية، فإنه اعتذر عن الحضور بداعي هجوم الوندال ، وأوفد الشماس بسولة
Bessula
ليمثله في المجمع.
وترأس يوحنا أسقف أنطاكية (428-441) الوفد الأنطاكي، وتألف هذا الوفد من أربعة وثلاثين أسقفا: يوحنا أسقف أنطاكية، وألكسندروس أسقف أبامية، ويوحنا أسقف دمشق، وإيلاذيوس أسقف طرسوس، وألكسندروس أسقف منبج
Hierapolis ، ومكسيموس أسقف عين زربة، وذكسيانوس أسقف سلفكية، وكيروس أسقف صور، وأستيريوس أسقف آمد، وأنطيوخوس أسقف بصرى، وثيودوريطس أسقف قورش، وبولس أسقف حمص، ومكاريوس أسقف اللاذقية، وأبرنجيوس
Apringios
أسقف قنسرين
Chalcis ، وجيرونتيوس أسقف كلوديابوليس أسورية، وكيرلس أسقف أدنة، وكيروس أسقف مركوبوليس الرها
Marcoupolis ، وأوسونيوس أسقف هيميرية الرها
Himeria ، وأوريليوس أسقف أيرينوبوليس
Irenopolis
أسورية، وبوليخروتيوس أسقف حماة، وملاتيوس أسقف قيصرية الجديدة، وموسايوس
Musaeus
أسقف أرواد وطرطوس، وأيلاذيوس أسقف عكة، وهيسيخيوس أسقف كستبالة بودروم قيليقية، وتريانوس أسقف أوغوسطة، وسلوستوس أسقف كوريكوس، وفالنتينوس أسقف ملوس، وزوسيس أسقف أسبوس، ويوليانوس أسقف شيزر
Larissa ، وديوجينس أسقف جسر شغور
Seleucobelos ، وإلياس أسقف بلقيس
Zeugma
بالقرب من بيرة جك، وبلاكوس أسقف اللاذقية، ومركلوس أسقف عرقة، ورابولا أسقف الرها.
28
ونهض الوفد الأنطاكي إلى أفسس، ولم تخل رحلتهم هذه من المتاعب وبعض الحوادث، ولا سيما وأنهم سافروا برا، فأوفدوا من سبقهم إلى أفسس؛ ليؤكد وصولهم إليها بعد حين ويرجو انتظارهم، ورأى رأي هؤلاء ثمانية وستون أسقفا وأوصوا كيرلس بالانتظار،
29
ووافقهم على هذه النصيحة القومس كنديديانوس ممثل الإمبراطور، وكان الوفد الروماني في طريقه إلى أفسس، ولكن حسد كيرلس وحقده الموروث وخوفه من مناقشة بنوده أمام المجمع بكامله وطمع يوبيناليوس، أوقع الكنيسة الجامعة في مأزق كان من الممكن تجنبه.
30
الجلسات
وفي الثاني والعشرين من حزيران سنة 431 اجتمع في كنيسة السيدة في أفسس مائة وخمسون أسقفا برئاسة كيرلس أسقف الإسكندرية، فهرع ممثل الإمبراطور إلى هذه الكنيسة يؤكد أن الإمبراطور لا يرضى عن مجامع ناقصة، ويرجو الانتظار ريثما يصل وفد أنطاكية، فامتنع الآباء عن الإصغاء، وكادوا يطردون ممثل الإمبراطور طردا من الكنيسة، فاضطر هذا الممثل أن يدون احتجاجه ويعلنه للجمهور.
ثم دعي نسطوريوس إلى الحضور فلم يحضر، فدعي ثانية وثالثة فلم يحضر، فحكم عليه بالقطع، ثم تليت رسائل كيرلس وبنوده الاثنا عشر ورسالة البابا كيليستينوس إلى نسطوريوس وأساقفة الشرق وقرار مجمع رومة المحلي، فصدق المجمع على هذه كلها واعتبرها أرثوذكسية، وكتب كيرلس باسم المجمع إلى الإمبراطور وإلى إكليروس العاصمة وشعبها، منبئا بما تم في أفسس، واحتج نسطوريوس وعشرة أو سبعة عشر من مؤيديه على خروج كيرلس ومجمعه على النظام، ورفعوا احتجاجهم إلى الإمبراطور.
31
وفي الرابع والعشرين من حزيران وصل يوحنا أسقف أنطاكية ووفد كنيسته، فأرسل المجمع من أفاد بقطع نسطوريوس، فأسف يوحنا واعتبر عمل المجمع ظاهرة من ظواهر الرعونة والاستبداد، ثم عقد يوحنا مجمعا مؤلفا من ثلاثة وأربعين أسقفا حكم فيه بالقطع على كيرلس وممنون لظلمهما، وحكم أيضا بمثل ذلك على سائر الأساقفة الذين قبلوا قرار المجمع بدون فحص ولا ترو
32
إلى أن يجتمعوا ثانية ويلغوا ما قرروه ويحرموا بنود كيرلس الاثني عشر، وكتب يوحنا بهذا كله إلى الإمبراطور والمجلس الأعلى والإمبراطورة والإكليروس والشعب.
33
ثم وصل وفد رومة، فاجتمع مجمع كيرلس في دار الأسقفية في العاشر من تموز، فتليت تحارير كيليستينوس الجديدة وأعمال الجلسة الأولى، وفي الحادي عشر وافق أعضاء الوفد على مقررات هذا المجمع، ثم عقد كيرلس وأتباعه جلستين في السادس عشر والسابع عشر من تموز، ودعي يوحنا أولا وثانيا وثالثا، فأرسل رئيس شمامسته فلم يقبل المجمع، فحكم حالا بقطعه وقطع أربعة وثلاثين أسقفا معه،
34
وكتب يوحنا إلى الإمبراطور ضد كيرلس ووافقه في ذلك ممثل الإمبراطور، فأمر ثيودوسيوس الثاني بتكدير كيرلس وتوبيخه وببقاء جميع الأساقفة في أفسس ليجتمعوا مجمعا جديدا واحدا.
35
دستور الإيمان
وبحث مجمع كيرلس في جلسته السادسة في الثاني والعشرين من تموز أمر دستور إيمان كان قد فرض في فيلادلفية على بعض التائبين من الهراطقة، فحرم المجمع كل محاولة لإعداد دستور إيمان غير ذلك الذي أقره الآباء في نيقية بإلهام الروح القدس.
36
استقلال كنيسة قبرص
وشملت ولاية الشرق قبرص، فخضعت هذه الجزيرة لأنطاكية في شئونها المدنية، واعتبرت كنائس قبرص كنيسة أنطاكية كنيسة مؤسسة، فنشأت مرتبطة بالكنيسة الأم خاضعة لها. وكان ما كان من أمر آريوس والآريوسية، ودب الشقاق إلى صفوف المؤمنين في أنطاكية، فتشاغلوا عن شئون قبرص وتركوها رهن الطوارق، وقيض الله لقبرص في النصف الثاني من القرن الرابع راعيا صالحا عالما ورعا، فوحد صفوف المؤمنين فيها وزادهم ثقة في النفس وإحساسا بالعزة والكرامة، والإشارة هنا إلى القديس أبيفانيوس صاحب كتاب علبة الأدوية البيناريون، وكتاب الإنكيروتس «الثابت في مرساه»، وكتاب الأدوية ضد البدع، وفيه محاولة لدحض ثمانين بدعة وهرطقة. وقد يفيد أن يعلم أن أبيفانيوس ولد في بيت جبرين وتنسك في بيت صدوق، وأنه ذاع صيت علمه وقداسته؛ فعين أسقفا على مدينة قسطنسية (سلامينة) سنة 367، وبقي حتى وفاته في السنة 403، والواقع أن احترام أبيفانيوس أدى إلى ممارسة الاستقلال قبل الاعتراف به. وفي السنة 415 نرى الجدال محتدما بين تروئيلوس متروبوليت الجزيرة وبين ألكسندروس رئيس كنيسة أنطاكية، ونرى هذا الأخير يستعين بزميله الروماني أنوشنتيوس الأول، فيؤكد أسقف رومة وجوب الاعتراف بسلطة أسقف أنطاكية في جميع أنحاء ذيقوسية الشرق، ويضيف أن هذا التقدم عائد إلى أمرين: أولهما أن أنطاكية كانت مقر الرسول بطرس وأنها كانت عظيمة،
37
ولكن أساقفة قبرص لم يكترثوا بشيء من هذا كله، فلما كان ما كان من أمر نسطوريوس ومجمع أفسس، سأل أسقف أنطاكية يوحنا والي ذيقوسية الشرق أن يأمر بتأجيل انتخاب خلف للمتروبوليت ثيودوروس في قبرص إلى أن يرفض مجمع أفسس، ولكن رجينيوس المتروبوليت الجديد كان قد انتخب فأقلع للحال إلى أفسس ومعه أسقفان، وبات رجينيوس ينتظر فرصة مناسبة لإثارة قضيته، فلما توترت العلاقات بين يوحنا وكيرلس تقدم متروبوليت قبرص بطلب رسمي إلى المجمع في جلسته السابعة في الحادي والثلاثين من تموز سنة 431 يرجو به منح قبرص استقلالها، فكان له ذلك، ولا يجوز القول إن هذا تم في الثلاثين من آب.
38
بيان إمبراطوري
وفي أوائل آب أطل على الآباء المجتمعين المختلفين أحد كبار رجال البلاط يوحنا قومس العطايا المقدسة وبيده براءة إمبراطورية، ولدى وصوله أمر الحزبين المتنافرين أن يجتمعا في مكان واحد، ثم قرأ عليهم البراءة، وفيها خلع نسطوريوس وكيرلس وممنون ووجوب الاستمساك بنص الدستور النيقاوي والعودة إلى الأوطان.
39
ووافق الوفد الأنطاكي على مضمون هذا البيان، وأعلن استمساكه بالدستور النيقاوي واعتقاده بصحة الاصطلاح «والدة الإله»، ولم يأت الوفد على ذكر نسطوريوس؛ والواقع أنه منذ وصول الوفد إلى أفسس ونقطة الدائرة في البحث هي بنود كيرلس الاثنا عشر، أما الوفد الإسكندري ومن شد أزره فإنهم صعقوا صعقا، وراحوا يسعون للدفاع عن كرامة كيرلس وممنون، وعاد كيرلس إلى أساليب خاله ثيوفيلوس فنثر الذهب في العاصمة، ولا سيما في البلاط، ووزع الهدايا على أنواعها،
40
فأصغى الإمبراطور إليه وقال بالتسوية.
في خلقيدونية
واستقال نسطوريوس من منصبه وآثر العودة إلى الدير في أنطاكية، ولم يطلب شيئا سوى إبطال بنود كيرلس الاثني عشر، ووافق الوالي أنطيوخوس فعاد نسطوريوس إلى دير أفبريبيوس،
41
ودعا الإمبراطور ممثلين عن الحزبين المختلفين إلى خلقيدونية، واستمع إلى أقوالهما وأمر بإعادة كيرلس وممنون إلى منصبيهما، ونصب على كرسي القسطنطينية مكسيميانوس الكاهن الوقور المحب المحترم،
42
ولكن هذا وحده لم يكف لإعادة السلم والوئام إلى الصفوف، فبنود كيرلس الاثنا عشر كانت لا تزال موضع جدل عنيف بين أنطاكية والإسكندرية.
ورجع الأساقفة إلى أوطانهم وهم على شقاق لا على سلام واتفاق، وبعد رجوعهم عقد الأنطاكيون مجمعين أحدهما في طرسوس والآخر في أنطاكية، وأعادوا حرم كيرلس وبنوده.
مهمة أرسطولاوس
فساء هذا كله في نظر الإمبراطور، فشاور مكسيميانوس في الأمر، فأشار بدعوة كل من كيرلس ويوحنا إلى اجتماع خصوصي يعقد بينهما وحدهما في نيقوميذية، فاستدعى الإمبراطور القائد أرسطولاوس
Aristolaus
ودفع إليه بإرادة سنية قضت بقيام كل من كيرلس ويوحنا إلى نيقوميذية لأجل التفاهم، وبامتناعهما عن خلع الأساقفة وسيامتهم حتى وصولهما إلى الصلح والاتحاد، ولدى وصول أرسطولاوس إلى أنطاكية رأى من المفيد جدا أن يتصل بعميد الأساقفة، وشيخهم الوقور أكاكيوس متروبوليت حلب، ففعل وحمل إليه أيضا جواب أساقفة أنطاكية، وكان هؤلاء قد أكدوا للإمبراطور أرثوذكسيتهم واستمساكهم بدستور نيقية وبنص رسالة أثناسيوس إلى أبيكتيش، ولكنهم أعلنوا عدم استعدادهم لتقبل أية إضافة إلى التعاليم الموروثة.
43
ورأى أكاكيوس أن يطلع كيرلس على جواب أساقفة أنطاكية، فأوصى أرسطولاوس بذلك، فكتب كيرلس إلى أكاكيوس مبينا شروط التفاهم المنشود، وأهمها الاعتراف بخلع نسطوريوس وتحريم بدعته، وأما سائر الأمور المعلقة، ولا سيما البنود، فإن كيرلس لم يقصد بها سوى نسطوريوس وعقيدته، فلمس الأسقف الشيخ استعداد كيرلس للمصالحة، فكتب إلى ثيودوريطس قورش وألكسندروس منبج يبين شروط كيرلس، وينصح بقبولها ويرجو التفضل بالرد،
44
فرفض ألكسندروس منبج هذا النصح، وأيده في الرفض عدد من زملائه الأساقفة، وأجمعوا أن فيما يقوله كيرلس شيئا من الأبولينارية، أما ثيودوريطس قورش وأندراوس سميساط، فإنهما لمسا تقربا في رد كيرلس، ولكنهما رفضا ذم نسطوريوس والحكم عليه.
45
بولس أسقف حمص
وكتب يوحنا أسقف أنطاكية كتابا كريما إلى زميله الإسكندري، جاء فيه أنه لا يطلب إلا السلام، وأنه يغتبط لتمسك زميله برسالة أثناسيوس لأبيكتيتس؛ لأنه هو أيضا مستمسك بها،
46
فرأى أكاكيوس أن يوفد صديقه بولس أسقف حمص إلى الإسكندرية لينقل رسالة يوحنا ويفاوض كيرلس في التفاهم والاتحاد.
47
وصل بولس إلى الإسكندرية فوجد كيرلس مريضا، ثم لمس شيئا من الدس يزرعه البلاط الإمبراطوري طمعا بالمال، فطالت إقامة الرسول الأنطاكي، ونثر كيرلس الذهب مرة ثانية فسكتت القسطنطينية، ثم استأنف الفريقان التفاوض فاتفقا على أن يعلن بولس اعترافه بقانونية انتخاب مكسيميانوس وبصحة التعبير «والدة الإله»، وأن يخطئ نسطوريوس فيما ذهب إليه، فيدخله عندئذ كيرلس في شركته، واعترف بولس بهذا كله، فاشترك في الذبيحة الإلهية في الإسكندرية مرتين متتاليتين؛ في 25 كانون الأول سنة 432، وفي أول كانون الثاني سنة 433.
48
اتفاق وسلام
وكان أرسطولاوس قد عرج على أنطاكية حاملا رسالة بين فيها كيرلس موقفه النهائي من المسالمة، وقد أوجب فيها قطع نسطوريوس ونبذ تعاليمه، ولم يشر بشيء إلى بنوده الاثني عشر، فقبل يوحنا وأرسل إلى كيرلس نص اعتراف كان قد حرره ثيوذوريطس في أفسس، فوافق كيرلس عليه وتم التفاهم بين الإسكندرية وأنطاكية، وإليك أهم ما جاء في هذا الاعتراف:
نؤمن بأن سيدنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد، هو إله تام وإنسان تام من نفس ناطقة وجسد ... وأنه قام به اتحاد طبيعتين، وأنه مسيح واحد، وابن واحد، ورب واحد، وأن البتول بحسب هذا الاتحاد العادم الاختلاط هي والدة الإله ؛ لأن الإله الكلمة تجسد وتأنس منها، ومن بدء الحبل اتحد بذاته الهيكل المأخوذ منها ... إلخ.
49
وصدر عن أنطاكية وعن الإسكندرية رسائل سلامية إلى كل من سيكستوس أسقف رومة، ومكسيميانوس أسقف القسطنطينية، وثيودوسيوس الإمبراطور؛ تنبئ بالحادث السعيد.
50
اختلاف الكلمة في أنطاكية
واختلف الأساقفة الأنطاكيون في أمر هذا الاعتراف، فاعتبره ألكسندروس منبج انتصارا لكيرلس واندحارا ليوحنا وأتباعه، وقال هذا القول معظم أساقفة قيليقية الأولى والثانية كما يتبين من مقررات مجمع عين زربة في ربيع السنة 433، وتفرقت الطرق بأساقفة وادي الفرات، فبعضهم أيد ألكسندروس والبعض الآخر عاد إلى الشركة مع يوحنا رئيس الكنيسة، وبين هؤلاء أندراوس أسقف سميساط ويوحنا أسقف مرعش.
وتوفي مكسيميانوس أسقف القسطنطينية في ربيع السنة 434، وحل محله بروكلوس، وقد سبقت الإشارة إليه، وظل ألكسندروس منبج، وإيلاذيوس طرسوس، ومكسيميانوس عين زربة، وملاتيوس موبسوستي، وثيودوريطس قورش؛ مستبدين برأيهم منفردين به، فأطلت عليهم السلطات المدنية، وأكدت لهم أن الوقت قد حان للتواضع والتعقل، وضغطت بشكل خصوصي على ثيودوريطس أعلم الأساقفة وأبعدهم أثرا، فبعثت بسمعان العمودي ويعقوب وغيرهما من مشاهير الرهبان إليه؛ ليتوسلوا إليه بوجوب المحافظة على الاتحاد، وشجعت السلطات وجهاء رعية هذا الأسقف القديس على مطالبته بالأمر نفسه، وتعددت رسائل زملائه الأساقفة للغاية نفسها، فقبل ثيودوريطس أن ينهض إلى أنطاكية لمقابلة رئيس الكنيسة يوحنا، ولدى وصوله إليها اشترك بالذبيحة مع يوحنا ووقع الاعتراف وكتب إلى كيرلس بذلك، ولم يطلب إليه أن يقطع نسطوريوس،
51
وتبع ثيودوريطس في هذا عدد غير قليل من أساقفة القيليقيتين وأسورية، وأصر ألكسندروس منبج على غيه وأمعن في تيهه فنفي إلى مناجم مصر، وهام في أودية الضلال حتى وافته المنية، وعميت وجوه الرشد على خمسة عشر أسقفا آخرين فخلعوا وأبعدوا، وأشهر هؤلاء: ملاتيوس موبسوستي، وأنستاسيوس تنذوس.
52
إبعاد نسطوريوس
وكان نسطوريوس لا يزال مقيما في ديره في أنطاكية منذ أواخر السنة 431، يرقب سير الحوادث ويجمع المواد اللازمة للرد على خصومه، ورأى كيليستينوس في ذلك ضررا على الإيمان والوحدة، فكتب بإبعاده عن أنطاكية في السنة 432،
53
ثم خشي يوحنا نفسه أثر بقاء نسطوريوس في كنفه، فكتب إلى الإمبراطور بإبعاده، فأبعد إلى البتراء أولا، ثم إلى الواحدة الكبرى في صحراء ليبية، وبقي فيها حتى وفاته ولا نعلم تاريخ وفاته، ولم يعلم سقراط المؤرخ، الذي كان يدون تاريخه في السنة 439، ما إذا كان نسطوريوس قد مات فعلا أو أنه كان لا يزال حيا.
54
وفي الثالث من آب سنة 435 صدر قانون إمبراطوري قضى بتحريم تعاليم نسطوريوس وحرق كتبه،
55
واضطهد الولاة أتباعه وخصوا صديقيه القومس إيريناوس والكاهن فوتيوس بعنايتهم، فنزعوا عنهما الألقاب والرتب وصادروا أملاكهما ونفوهما إلى البتراء.
56
فاتحة الفصول الثلاثة
وانتمى نسطوريوس إلى مدرسة أنطاكية، فنزع إلى أستاذته فيها إلى ثيودوروس الموبسوستي وديودوروس الطرسوسي، ولكن أحدا من الباحثين في قضيته في أفسس والإسكندرية لم يثر هذا النسب العلمي، ولا سيما وأن كلا من ثيودوروس وديودوروس كان قد توفي على إيمان وتقوى.
وكانت الكنيسة في أرمينية في نهضة مباركة، وكان آباؤها قد آثروا نقل مؤلفات الآباء اليونانيين إلى الأرمنية على التصنيف من جديد، فتعرفوا إلى أقوال ثيودوروس وديودوروس وغيرهما من الآباء الأنطاكيين ونقلوها إلى الأرمنية، وشاء القدر أن تتاخم أبرشيتا أكاكيوس ملاطية ورابولة الرها البلاد الأرمنية، وكان كل من هذين الأسقفين كيرلسيا حساسا، فكتبا إلى إخوانهما في الرب أساقفة أرمينية، يرشدانهم إلى الابتعاد عن مصنفات ثيودوروس الموبسوستي؛ لأنه «أبو النسطرة»، وكانت العقائد الأبولينارية أيضا قد تسربت إلى بعض الأوساط الأرمنية، فقام أنصارها يعارضون الاعتماد على مصنفات الآباء الأنطاكيين، فعقد الأرمن مجمعا محليا للنظر في هذا الأمر، وأوفدوا كاهنين إلى القسطنطينية ليعرضا القضية على بروكلوس ويستبصرا برأيه.
57
ورحب بروكلوس بالوفد الأرمني ودرس نصوص ثيودوروس المحمولة إليه، فألفاها تتطرف في التفريق بين «ابن الله» و«ابن الإنسان» إلى درجة يصعب عندها القول بوحدانية الأقنوم، فشجبها ودون «اعترافا» خصوصيا عرف باسمه، ودفع بهذا النتاج كله إلى الوفد الأرمني موصيا بوجوب قبوله وتوقيعه.
ولم يقف بروكلوس أسقف القسطنطينية عند هذا الحد، فإنه بعث بمثل ما خص الأرمن به إلى الآباء الأنطاكيين، وأوجب شجب بعض الأقوال التي نسبت إلى ثيودوروس، وأرفق هذا كله بإرادة إمبراطورية توصي يوحنا رئيس كنيسة أنطاكية وزملاءه الأساقفة بالابتعاد عن كل ما من شأنه الإخلال بالسلام والمحبة.
58
ودهش يوحنا ولفيف الأساقفة الأنطاكيين لهذا التجرم والتجني، فكتبوا إلى بروكلوس يشجبون نسطوريوس والنسطرة، ويؤكدون استمساكهم بالدستور النيقاوي، ولكنهم رفضوا شجب ثيودوروس «كي لا يشجبوا أثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس وثيوفيلوس وغيرهم ممن علم المبادئ نفسها».
59
وكتب يوحنا إلى الإمبراطور بالمعنى نفسه، ولفت نظره بالإضافة إلى الخطر الذي يتحتم وقوعه من جراء محاكمة آباء سبق رقادهم على إيمان وتقوى،
60
وحرر إلى كيرلس أيضا يوجب تسكين هذا اللهيب وإطفاء جمره،
61
وكان كيرلس يعد كتابا في الرد على علماء أنطاكية، ولكنه أحب السلام فيما يظهر، فكتب إلى بروكلوس يذكره أن مجمع أفسس شجب قولا عزي إلى ثيودوروس، ولكنه لم يذكر اسما واحدا عند شجب هذا القول، وأضاف أنه يجدر به ألا يتطلب أمورا كثيرة من أساقفة الشرق.
62
وسكت الأساقفة الكبار الثلاثة، ولكن أسقف الرها خلف رابولة لم يسكت، وكان يدعى إيبا
Ibas ، فإنه شنها حربا شعواء على بروكلوس في سبيل الدفاع عن ثيودوروس الموبسوستي وديودوروس الطرسوسي المعلمين الأنطاكيين، وعرف فيما بعد برسالة امتدح فيها هذين المعلمين، ووجهها إلى ماري أحد أتباع ملك الفرس في سلفكية.
63
وفاة يوحنا وكيرلس وبروكلوس
وتوفي يوحنا أسقف أنطاكية في السنة 441 أو 442 وخلفه ابن أخته دومنوس، ثم لحق بيوحنا كيرلس أسقف الإسكندرية (444)، فتولى الرئاسة بعده الأرشدياكون ديوسقوروس. وفي السنة 446 انتقل بروكلوس أسقف القسطنطينية، فرقي سدة الرئاسة بعده فلافيانوس الكاهن، وبوفاة هؤلاء الثلاثة أصبح ثيودوريطس أسقف قورش زعيم الكنيسة الأوحد في الشرق كله.
ثيودوريطس (393-457)
ولد في أنطاكية ونشأ فيها، وأخذ عن أساتذتها شطرا وافرا من العلوم الدنيوية، ثم نقل عن آبائها تفسير الأسفار المقدسة واللاهوت، وقبل النذر فالتجأ إلى أحد الأديار بالقرب من أبامية،
64
واشتهر بالعفة والطهارة والتقوى فسيم أسقفا على قورش في السنة 423.
وكانت أبرشية قورش كبيرة، ولكنها لم تكن غنية ولم تخل من الوثنيين والهراطقة، فكرس ثيودوريطس سنواته الأولى (423-430) لمكافحة الوثنية والهرطقة بالوعظ والكتابة والتأليف، ويجمع رجال الاختصاص اليوم على أن مصنفه ال
Curatio
في الدفاع عن المسيحية ظهر في هذه الحقبة الأولى من أسقفيته،
65
وأن عددا كبيرا من رسائله الضائعة التي رشق بها الآريوسيين والمركيونيين والأفنوميين والمقدونيين تعود إلى هذه الحقبة نفسها أيضا،
66
وصادر ثيودوريطس في أثناء حربه هذه أكثر من مائتي نسخة من دياتسرون
Diatessaron
تاتيانوس، وأحل محلها نسخا من الأناجيل المفردة؛ حرصا على سلامة النص، وأعاد الأسقف إلى حظيرة الخلاص أكثر من عشرة آلاف ضال،
67
وواصل الأسقف أبناءه الروحيين حيثما كانوا في المدن وفي القرى والمزارع، وأصغى إلى شكاواهم ودافع عن حقوقهم، ولا سيما أمام الجباة والشرطة.
68
ووصل نسطوريوس إلى السدة القسطنطينية، وحلت العاصفة ووضع كيرلس الإسكندري بنوده الاثني عشر، وهبت أنطاكية تدافع عن موقفها العلمي اللاهوتي، فوكل أسقفها يوحنا أمر هذا الدفاع إلى ثيودوريطس، فصنف كتابا أسماه «الرد على اللعنات»، وقد ضاع هذا المؤلف ولا نعلم عن محتوياته شيئا سوى ما جاء في معرض الرد عليها في رسائل كيرلس.
69
ومثل ثيودوريطس رئيسه ألكسندروس منبج في اجتماع خلقيدونية المنبثق عن مجمع أفسس، وتولى الكلام باسم كنيسة أنطاكية، وما فتئ يدافع عن مدرسة أنطاكية حتى كان ما كان من أمر التفاهم بين يوحنا وكيرلس، فطغت محبة المسيح على نعرة إقليمية، ووقع ثيودوريطس ما أدى إلى توحيد الصفوف في الكنيسة الجامعة.
الفصل الثالث والعشرون
أوطيخة والمجمع المسكوني الرابع
441-451
أوطيخة (378-455)
وراجت تعاليم كيرلس الإسكندري في الأوساط الرهبانية في القسطنطينية، وتزعم هذه الأوساط بعد وفاة القديس دلماتوس (440) الراهب أوطيخة أو إفتيشيس
Eutyches ، وكان أوطيخة راهبا زاهدا ورعا محترما، وقد تقدم جميع رهبان العاصمة وبرز تبريزا، وكان الإمبراطور يجله كما كان الخصي خريسافيوس ابنه في المعمودية يحترمه ويستشيره في جميع المشاكل الإدارية الدينية.
1
واهتم أوطيخة للجدل بين كيرلس ونسطوريوس، وكان يكره نسطوريوس فقال قول كيرلس، ثم تمادى فقال إن الطبيعة الإنسانية في المسيح امتزجت بالطبيعة الإلهية حتى تلاشت فيها «تلاشي نقطة خمر وقعت في بحر ماء»، فالمسيح والحالة هذه أقنوم واحد وطبيعة واحدة.
2
وراجت هذه التعاليم في القسطنطينية وخارجها؛ نظرا لروابط الصداقة التي كانت تربط أوطيخة بأصدقاء كيرلس وأتباعه، ونظرا لبراعة أوطيخة في وضع الخطط ونصب المكايد، فإنه تودد إلى أورانيوس أسقف هيميرية في منطقة الرها ليحارب به إيبا الأسقف الشهير، وتحبب إلى الناسك برصوم ليشاغب به على دومنوس أسقف أنطاكية وثيودوريطس أسقف قورش في سورية وفي العاصمة.
3
دومنوس أسقف أنطاكية (441-449)
هو دومنوس الثاني
Domnos ، ولد في أنطاكية ونشأ فيها وأخذ العلم عن أساتذتها، ثم عكف على الصلاة والتأمل في جوار القديس أفثيميوس الكبير في ساحل أريحا، وكان بإمكانه أن يلجأ إلى دير أفبريبيوس؛ حيث تقبل النذر خاله يوحنا أسقف أنطاكية ونسطوريوس أيضا، ولكنه آثر طهر أفثيميوس وقفار أريحا، فأطل على هذا القديس في السنة 428 وتقبل النذر على يده، ثم هاله موقف خاله من كيرلس في السنة 431، فأحب أن يعود إلى أنطاكية ليقنع خاله بوجوب تأييد العقيدة القويمة كما رآها معلمه ومرشده، فنهاه أفثيميوس عن ذلك، مبينا أنه إذا عاد إلى أنطاكية، فإنه لا يستفيد شيئا، وأنه سيبقى هناك وسيقام أسقفا ليخلف خاله في كرسي الرسولين، ولكن المنافقين سيحطونه من مقامه. والواقع أن القديس الكبير أفثيميوس عرف دومنوس حق معرفة، فقدر فيه طهره وقداسته وتواضعه وحسن نواياه، ولكنه لمس فيه «بساطة» وضعفا في تقدير الرجال لم يؤهلاه للزعامة والرئاسة.
4
دومنوس وأوطيخة
ولم يرض دومنوس عن تعليم أوطيخة، ولم يخش خريسافيوس الخصي ولا سيده الإمبراطور، فرأى رأي ثيودوريطس، ورضي عن تصنيف كتاب يرد به على أوطيخة، فظهر في أواخر السنة 447 إيرانيستيس
Eranistes
ثيودوريطس أي كتابه «الشحاذ»، وراج هذا الكتاب في الأوساط الرسمية والدينية، فوجد المؤمنون فيه رسالة متينة تثبت أن الله لا يتغير ولا يتألم، وأن الطبيعتين وجدتا معا في المسيح بدون امتزاج، ورصع ثيودوريطس فقراته بمقتطفات من كلام الآباء القديسين، ولم يستهدف شخصا معينا، ولكنه لم يترك لقرائه مجالا للشك في أنه إنما يقصد أوطيخة و«الأوطخة». وفي مطلع السنة 448 كتب دومنوس إلى الإمبراطور نفسه يلفت نظره إلى خروج أوطيخة وهرطقته.
5
الإمبراطور يدافع عن أوطيخة
ولم يرض الإمبراطور عن هذه الشكوى، فأجاب في السادس عشر من شباط سنة 448 بإرادة إمبراطورية قضت بتحريم مصنفات بورفيريوس ونسطوريوس، وجميع المصنفات التي لم تتفق ونصوص قرارات نيقية وأفسس و«بنود كيرلس»! وأمر أيضا بعزل إيريناوس أسقف صور من منصبه،
6
فاتخذ لنفسه بعمله هذا صلاحيات لم يسبقه إليها قسطنديوس من قبل، ولا يخفى أن القومس إيريناوس كان أحد أصدقاء نسطوريوس، وأنه نفي إلى البتراء ثم أطلق سراحه بعد وفاة كيرلس، وأن أساقفة فينيقية الساحلية ألحوا بوجوب سيامته أسقفا على صور، فوافق بروكلوس نفسه على ذلك، وقام بفروض السيامة ثيودوريطس أسقف قورش.
7
وذاع خبر هذه الإرادة السنية، ودبت عقارب أوطيخة وخريسافيوس بين القوم، فخاض عملاؤهما في الأخبار الكاذبة إيقادا للفتنة، فأم أنطاكية من الرها من شكا الأسقف إيبا إلى رئيسه دومنوس، فاحتار دومنوس في أمره وأجل وسوف، فرفع المتذمرون شكواهم إلى القسطنطينية والإسكندرية، وشكوا دومنوس نفسه وثيودوريطس،
8
فصدرت إرادة جديدة تقضي بوجوب بقاء ثيودوريطس ضمن حدود أبرشيته، وحصر اهتمامه بأبنائه الروحيين، وكتب ديوسقوروس إلى دومنوس كتابا ناشفا، أشار فيه إلى تأخر دومنوس عن سيامة خلف لإيريناوس في صور واهتمامه بأعداء الأرثوذكسية ومعاونته لهم،
9
فاحتج دومنوس على تدخل ديوسقوروس في شئون غيره ولكن دون جدوى.
10
وفي الثامن والعشرين من تشرين الأول سنة 448 صدر أمر سني إلى القائد دمسكيوس
Damascius
بوجوب نقل كل من إيبا الرها ودانيال حران ويوحنا الرسينة إلى فينيقية؛ لإجراء محاكمتهم أمام هيئة روحية مؤلفة من: أورانيوس أسقف هيميرية، وفوطيوس أسقف صور، وأفستاثيوس أسقف بيروت،
11
ومثل المتهمون أمام الهيئة الحاكمة في صور أولا ثم في بيروت، وترافع الطرفان فنصحت الهيئة الحاكمة بالصلح والمسالمة، فتم ذلك في بيروت في ربيع السنة 449.
12
فلابيانوس وأوطيخة
وفي الثامن من تشرين الثاني سنة 448 أثار أفسابيوس أسقف دورلة قضية أوطيخة أمام المجمع القسطنطيني، وكان أفسابيوس قد نبه أوطيخة إلى ضلاله فلم يصغ، واضطر فلابيانوس أن يأمر الأرشمندريت أوطيخة بالمثول أمام المجمع المقدس للإجابة عما يوجه إليه من أسئلة تتعلق بتعاليمه، فلم يحضر ولم يمتثل إلا بعد التهديد. وفي الثاني والعشرين من تشرين الثاني خرج أوطيخة من ديره، يحف به عدد كبير من الرهبان والموظفين واتجه نحو الأسقفية، ومثل أمام الأساقفة في المجمع وأصر على القول بالطبيعة الواحدة، فحكم عليه المجمع بالهرطقة، وقطعه من كل رتبة كهنوتية ومن الشركة ومن رئاسة الدير، وكان بين الأساقفة الجالسين أربعة أنطاكيون: باسيليوس سلفكية، وسابا «بلدة»
عند مصب نهر السن بين بانياس وجبلة، وبروكلوس أذرح، وذيفرنطيوس
Diapherontios
حلبان في شرقي حماة.
13
ولم يرضخ أوطيخة، وأكد أنه سيرفع أمره إلى مجامع رومة والإسكندرية وأوروشليم وتسالونيكية.
14
لاوون وأوطيخة
وكتب أوطيخة إلى لاوون أسقف رومة، وبطرس أسقف رابينة، وغيرهما من الشخصيات الكبيرة؛ راجيا إنصافه،
15
فكتب لاوون إلى الإمبراطور يفيد أن فلافيانوس لم يكتب إليه بشيء مما جرى، وأنه بناء على ما أفاد به أوطيخة نفسه لا يرى ما يستعاب به للبت في الأمر.
16
تلصص في أفسس (449)
وكتب خريسافيوس الخصي إلى ديوسقوروس أسقف الإسكندرية يطلب معونته، فعقد ديوسقوروس مجمعا محليا، وحل أوطيخة من القطع واعتبره أرشمندريتا على ديره، ثم طلب إلى القيصر أن يدعو إلى مجمع سكوني للنظر في قضية أوطيخة، وبمداخلة خريسافيوس وأفذوكية زوجة الإمبراطور وغيرهما من رجال البلاط انتصر الإمبراطور لأوطيخة، وكتب إلى لاوون أسقف رومة يلمح بوجوب النظر في قضية أوطيخة أمام مجمع مسكوني، فكتب لاوون إلى فلابيانوس بعناية الإمبراطور في الحق والعدل واستعلم منها ما جرى، فأرسل فلابيانوس أعمال المجمع القسطنطيني الذي حكم على أوطيخة، فعقد لاوون مجمعا محليا، ودقق هذه الأعمال فوافق عليها، وكتب إلى الإمبراطور يعتذر عن حضور المجمع بشخصه، ويفيد أن يوليوس أسقف بوزولة سيرأس الوفد الروماني إلى المجمع، وأن ليوليانوس أسقف كوس الحق بتمثيله أيضا.
17
ودعا الإمبراطور إلى مجمع في أفسس يبدأ أعماله في أول آب سنة 449، وأكد الإمبراطور أنه لا يجوز اشتراك ثيودوريطس في هذا المجمع إلا إذا طلب ذلك الأساقفة المجتمعون، وأمر أيضا بأن يمثل الزهاد والنساك في الشرق الأرشمندريت برصوم (عدو ثيودوريطس)، وأوجب الإمبراطور على إلبيذيوس
Elpidios
وإفلوجيوس
Eulogios
من رجال المعية أن يمثلاه في المجمع، وأعلن مسبقا أن رئاسة هذا المجمع ستكون لديوسقوروس أسقف الإسكندرية، يعاونه فيها كل من يوبيليانوس أسقف أوروشليم، وثلاسيوس
Thalasios
أسقف قيصرية.
ومثل كنيسة أنطاكية في هذا المجمع دومنوس رئيسها وواحد وعشرون أسقفا بينهم: ملاتيوس شيزر، وفوطيوس صور، وثيودوروس دمش، وأفستاثيوس بيروت، وإسطفانوس عين زربة، وثيودوروس طرسوس، وروفينوس سميساط، وسمعان آمد، وبوليكاربوس جبلة،
18
ومنع ثيودوريطس كما مر بنا، وألقي القبض على إيبا أسقف الرها في أواخر حزيران، وتجاذبته أيدي الشرطة مدة من الزمن.
19
طوموس القديس لاوون
وحمل الوفد الروماني عددا من الرسائل، منها واحدة للمجمع بكامله، وثانية للإمبراطور، وغيرها للإمبراطورة، ورابعة لرهبان العاصمة، وأهمها طوموس القديس لاوون، وهي رسالته إلى زميله فلابيانوس أسقف القسطنطينية، وفيها أيد موقف فلابيانوس ضد أوطيخة، وشرح تعليم الكنيسة بالطبيعتين في الأقنوم الواحد شرحا مدققا واضحا:
20
لقد جلست أيها المجيد على كرسي الكهنوت، وأبكمت بعقائد الثالوث الموقر أفواه الأسد الناطقة، وأنرت رعيتك بنور معرفة الله، فلذلك مجدت يا مقرا إلهيا لنعمة الله.
السواعي
18 شباط
المجمع اللصوصي
ودعا ديوسقوروس الوفود إلى الاجتماع في كنيسة السيدة في أفسس في الثامن من آب سنة 449، فلبى الدعوة مائة وثلاثون أسقفا أو أكثر، وافتتح ديوسقوروس الأعمال بتلاوة أوامر الإمبراطور، وعند الانتهاء من تلاوتها طلب إليه ممثل رومة الأسقف يوليوس أن يقرأ رسائل رئيسه، فتناولها ديوسقوروس ولكنه أمر بتلاوة ما تعلق بمهمة الأرشمندريت برصوم، ثم طلب إلى أوطيخة أن يعترف بالإيمان، فأكد هذا الراهب أن إيمانه هو إيمان الآباء، ثم لعن جميع الهرطقات، ولا سيما تلك التي ادعت بأزلية جسد المسيح. واحتج على قطعه وطلب إنصافه، فأشار فلابيانوس بوجوب استماع أفسابيوس أسقف دورلة، ولكن البيذيوس ممثل الإمبراطور رفض ذلك، ولم يسمح أيضا بقراءة رسائل أسقف رومة، ثم بدءوا بتلاوة أعمال المجمع القسطنطيني الذي حكم على أوطيخة بالقطع، وعندما بلغ القارئ إلى العبارة: «إن أفسابيوس الدورلي قد بذل جهده في حمل أوطيخة على الإقرار بأن في المسيح طبيعتين.» هتف عدد كبير من الحاضرين: «فليحرق أفسابيوس حيا وليقطع؛ لأنه أراد أن يقسم المسيح.» ثم طرح ديوسقوروس قضية أوطيخة للتصويت، فقال باستقامة رأيه مائة وأربعة عشر أسقفا، أولهم دومنوس أسقف أنطاكية، ويوبيليانوس أسقف أوروشليم، وآخرهم ديوسقوروس!
21
فشهر أوطيخة أرثوذكسيا وأعيد إلى مقامه ورئاسة ديره.
وذكر ديوسقوروس بعد هذا الأعضاء الجالسين بموقف المجمع المسكوني الثالث، ممن يجسر على مخالفة دستور نيقية، وطلب إدانة فلابيانوس وأفسابيوس على هذا الأساس، فاحتج فلابيانوس وصرخ الشماس الروماني هيلاريوس باللاتينية:
Contradicitur ، وتقدم بعض الأساقفة نحو ديوسقوروس ورجوه التبصر والتريث، فادعى أسقف الإسكندرية بأنهم هددوه، وطلب المعونة من ممثلي الإمبراطور، ففتح هؤلاء أبواب الكنيسة، وأدخلوا إليها الجند والرهبان والبحارة المصريين وغيرهم من عناصر الغوغاء، وعبثا حاول فلابيانوس الالتجاء إلى قدسية المذبح، فإن الرهبان جروه جرا، فوقع على الأرض فداسه ديوسقوروس وجماعة برصوم، وأخرج خارجا وسجن وتوفي بعد ثلاثة أيام وهو في طريقه إلى المنفى،
22
واتهم ديوسقوروس بقتله قتلا.
23
أما أفسابيوس أسقف دورلة فإنه كان أسعد حظا، فتمكن من الفرار والالتجاء إلى رومة.
24
وعقد هذا المجمع جلسته الثانية في الثاني والعشرين من آب من السنة نفسها، فنظر في قضية إيبا أسقف الرها، فاستمع إلى أعمال المجمع الأنطاكي وقرار محكمة بيروت وإفادات قاضي الرها
Chereas ، فحطه عن مقامه الأسقفي، ونزع عنه ممارسة السلطات الكهنوتية، وأكرهه على «إعادة الذهب المسروق».
25
ونظر المجمع أيضا في قضية دانيال أسقف حران، فاعتبره غير أهل لأن يكون كاهنا،
26
وحرم المجمع إيريناوس أسقف صور وأكلينوس
Aclynos
أسقف جبيل، وكان هذا قد سيم أسقفا على يد إيريناوس، وطلب المجمع إلى فوطيوس أسقف صور الجديد أن يرسم أسقفا آخر على جبيل،
27
وجاء دور صفرونيوس أسقف قسطنطينة، وكان قد اتهم بالسحر والعرافة وبكسر الصوم والاشتراك في الأكل والقصف مع يهودي معين، فقرر المجمع إحالة ملف صفرونيوس إلى عهدة متروبوليت الرها.
28
ثم تليت بعض فقرات من مصنفات ثيودوريطس أسقف قورش، فاتهم بالنسطرة، وأوجب ديوسقوروس حرق هذه المصنفات، وخلع صاحبها من كرسي الأسقفية وإبعاده، ولفت ديوسقوروس نظر دومنوس إلى هذه الأمور، فوافق دومنوس على هذه الاقتراحات، وخرج بذلك على الإيمان القويم؛ ومن هنا في الأرجح امتناع المجمع الخلقيدوني من إعادة النظر في قضيته،
29
واستجار ثيودوريطس بأسقف رومة وأساقفة الغرب
30
ولكن دون جدوى، وترجى أن يسمح له بالعودة إلى ديره القريب من أبامية،
31
فكان له ذلك.
32
وكان دومنوس قد وعد مسبقا بأنه يوافق على جميع الإجراءات التي تتخذ ضد النساطرة،
33
ولكن هذا لم يكف لغض النظر عنه، فإنه كان في نظر ديوسقوروس وأعوانه صديق فلابيانوس أسقف القسطنطينية وثيودوريطس وحامي النساطرة، فحكم المجمع عليه بالخلع،
34
فعاد إلى فلسطين إلى ساحل أريحا وجاور معلمه الكبير أفثيميوس،
35
وخلف فلابيانوس في كرسي القسطنطينية أناتوليوس ممثل ديوسقوروس في العاصمة، وخلف دومنوس في أنطاكية مكسيموس (449-455) عدو يوحنا وصديق الإسكندرية.
رومة تحتج
ولم يرض لاوون الكبير عن هذا التلصص ولم يسكت، فإنه كتب في خريف السنة 449 إلى الإمبراطور والإمبراطورة والإكليروس والشعب، يعترض على ما جرى، ويوجب انعقاد مجمع مسكوني لإعادة النظر، ولكن ثيودوسيوس لم يكترث ولم يجب، فحرر الأسقف الروماني مرة ثانية يوم عيد الميلاد، ثم وصل إلى رومة في مطلع السنة 450 كل من فالنتنيانوس الثالث وأمه بلاكيدية
وزوجته أفذوكسية، فتوسل لاوون بالدموع إليهم أن يكتبوا إلى ثيودوسيوس، فكتبوا ولكن ثيودوسيوس أجاب أن ما جرى كان كافيا، وأنه لا حاجة إلى عقد مجمع آخر.
36
بلشيرية ومركيانوس
ووقع ثيودوسيوس عن حصانه، ومات في الثامن والعشرين من تموز سنة 450، ولم يكن له ولد فاستلمت بلشيرية أخته زمام الأمور، ثم تزوجت من قائد جيشها مركيانوس، شرط أن تبقى عذراء، وأن تقتصر الزيجة على الاشتراك في إدارة الإمبراطورية.
وكان مركيانوس رجلا حازما عادلا يتمتع بتأييد الجيش، فوفقت فيه رومة الجديدة إلى حاكم مناسب، وأعلن مركيانوس انتهاء الظلم والفوضى بإعدام خريسافيوس الخصي وإبعاد مستشاره أوطيخة،
37
فسعى الأساقفة المظلومون لديه وأسقف رومة أيضا، فأرجع المنفيين من منافيهم، ووافق لاوون في الدعوة إلى مجمع مسكوني جديد ينظر في أمر أوطيخة ويصلح ما هدمه ديوسقوروس، ولكنه لم يرض أن يلتئم هذا المجمع في أرض إيطالية كما رغب في ذلك لاوون.
المجمع المسكوني الرابع
وفي السابع عشر من أيار سنة 451 صدرت عن بلاط مركيانوس دعوة إلى مجمع مسكوني يفتتح في اليوم الأول من أيلول ، ولبى هذه الدعوة خمسمائة أسقف، وتلاقوا في القسطنطينية ليقوموا منها إلى نيقية في الموعد المعين، وقضت ظروف عسكرية بتأخر مركيانوس عن الحضور، فتأجل انعقاد المجمع مدة وجيزة، وانتهز ديوسقوروس هذه الفرصة للدس والتخريب، فسعى سعيا حثيثا لقطع لاوون أسقف رومة،
38
ولكنه لم يلق آذانا صاغية خارج أوساط الأساقفة المصريين، واعترف في هذه الآونة نفسها بمكسيموس أسقفا على أنطاكية.
39
ثم رغب مركيانوس أن تعقد جلسات المجمع في خلقيدونية لقربها من العاصمة، وأمر بإخراج رهبانها منها لتأمين السلام والصفاء فأخرجوا، وبدأ المجمع المسكوني الرابع أعماله في الثامن من تشرين الأول سنة 451 في خلقيدونية.
الوفد الأنطاكي
وتألف الوفد الأنطاكي من مائة وثلاثين أسقفا، وذلك على الوجه التالي: (1)
أساقفة سورية الأولى: مكسيموس أسقف أنطاكية، وماراس أسقف خناصير
Anasartha (إلى جنوبي حلب وشرقيها، وعلى بعد ستين كيلومترا عنها)، وثيوكتيستوس أسقف حلب، ورومولوس أسقف قنسرين
Chalcis ، وبوليكاربوس أسقف جبلة، وبطرس أسقف الجبول
Gabboula ، ومكاريوس أسقف اللاذقية، وسابا أسقف بلدة
، وجيرونتيوس أسقف سلفكية. (2)
أساقفة سورية الثانية: دومنوس أسقف أبامية، ومرقس أسقف الرستن
Arethusa ، وتيموثاوس أسقف بانياس
Balanée ، وأفتيخيانوس أسقف حماة، وملاتيوس أسقف شيزر، وبولس أسقف مريمين إلى شرقي المشتى، ولمباذيوس
Lampadios
أسقف رفنية
Raphania ، وأفسابيوس أسقف جسر شغور
Seleucobelos . (3)
أساقفة أسورية: وهم اثنان وعشرون، أولهم باسيليوس أسقف سلفكية الساحلية، ويأتي بعده يعقوب أسقف أنيموريون، وأكاكيوس أسقف أنطاكية. (4)
أساقفة قيليقية الأولى: ثيودوروس أسقف طرسوس، وفيليبوس أسقف أدنة، وثيودوروس أسقف أوغسطة، وخمسة آخرون. (5)
أساقفة قيليقية الثانية: كيروس أسقف عين زربة، ويوليانوس أسقف الإسكندرية، وباسيانوس أسقف موبسوستي، ويوليانوس أسقف أرسوز
Rhosos ، وخمسة آخرون. (6)
أساقفة الفرات: إسطفانوس أسقف منبج
Hierapolis ، وقوزمة أسقف بالس
Barbalisos (بين منبج والرقة وقبل صفين)، وثيودوريطس أسقف قورش، وتيموثاوس أسقف دولك
Doliché ، وداود أسقف جرابلس
Europos ، ويوحنا أسقف مرعش، وبتريقيوس أسقف صفين
Neocesaria ، وماراس أسقف روم قلعة
Ourima ، وأثناسيوس أسقف بيرين
، وماريانوس أسقف الرصافة
Sergiopolis ، وروفينوس أسقف سميساط، وأورانيوس أسقف سورية أو سورة على الفرات، وإيفولغيوس
Evolcios
أسقف بلقيس
Zeugma . (7)
أساقفة الرها: نونوس أسقف مدينة الرها، ودانيال أسقف بيرة جك
Birtha
وأحيانا
Macedonopolis ، ودميانوس أسقف الرقة
Callinicum ، وإبراهيم أسقف كيراسيوم
Ciresium ، ولعلها قرقيسيون عند مصب الخابور في الفرات، وصفرونيوس أسقف قسطنطينة، ويوحنا أسقف حران
Carrhes ، وقيومة أسقف مركوبوليس وهي مجهولة الموقع، ويوحنا أسقف العرب
Sarracènes . (8)
أساقفة ما بين النهرين: سمعان أسقف آمد، وماراس أسقف غزة (وهي مجهولة الموقع)، وقيومة أسقف أنجل، ونوح أسقف كيفا، وزبنوس أسقف ميافارقين
Martyropolis ، وأفسابيوس أسقف صوفانة. (9)
أساقفة العربية: قسطنطين أسقف بصرى، وبروكلوس أسقف درعة، ومالك أسقف مسمية
، وثيودوسيوس أسقف القنوات
Canatha ، وسليم أسقف قسطنطينة اللجا، وماراس أسقف السويدا
Dionysias ، ويوحنا أسقف الصنمين
Erès ، وزوسيس أسقف حسبان
Esbos ، وأناستاسيوس أسقف حران
Eutimia ، وبلانكوس أسقف جرش، وغيانوس أسقف مادبا، وسويروس أسقف شقة
Maximianopolis ، وخيلون أسقف خان النيلة
Neapolis ، وأيوب أسقف نوي
Nevé ، وغوطوس أسقف مشنف
Neela ، وأفلوجيوس أسقف عمان
، وهورميداس أسقف شحبة
، ونونوس أسقف أذرح
Zerabene . (10)
أساقفة فينيقية الأولى أو الساحلية: فوطيوس أسقف صور، وألكسندروس أسقف طرطوس
Antarados ، وبولس أسقف أرواد، وإيراقليطس أسقف عرقة
Arce ، وأفستاثيوس أسقف بيروت، وبورفيريوس أسقف البترون
Botrys ، وبطرس أسقف جبيل
Byblos ، وفوسفوروس أسقف عرطوز
Orthosia ، وأوليمبوس أسقف بانياس، وتوما أسقف النبي يونس
، وبولس أسقف عكة
، ودميانوس أسقف صيدا، وثيودوروس أسقف طرابلس. (11)
أساقفة فينيقية الثانية أو اللبنانية: ثيودوروس أسقف دمشق، ويردانوس أسقف سوق وادي بردي
Abila ، وإبراهيم أسقف حرلانة في الغوطة، وذاذاس أسقف قارة أو كناكر
Chonacara ، وبطرس أسقف جيرود
Corada ، وثيودوروس أسقف مهين
Danaba ، وأورانيوس أسقف حمص، وتوما أسقف حوارين
Evaria ، ويوسف أسقف بعلبك
Heliopolis ، وأفسابيوس أسقف يبرود، وفاليريوس أسقف قطينة
Laodicia ، ويوحنا أسقف تدمر، وأفستاثيوس أسقف العرب.
40
الوفود الأخرى
وتألف الوفد الروماني من الأسقفين باسكاسينوس
ولوشنتيوس
Lucentius ، والقسين بونيفاتيوس وباسيليوس، وانضم إليهم يوليانوس أسقف جزيرة كوس للمرة الثانية، وجاء ديوسقوروس ووراءه سبعة عشر أسقفا، وانضم إلى هؤلاء أساقفة آسية وتراقية واليونان واليرية وأفريقية، ومثل الدولة الرومانية أناتوليوس القائد الكبير، وبلاذيوس برايفكتوس الشرق، وتاتيانوس برايفكتوس العاصمة، وخمسة عشر موظفا.
الجلسة الأولى:
وافتتحت أعمال المجمع في الثامن من تشرين الأول في كنيسة القديسة أفيمية
41
في خلقيدونية، بحضور هذا العدد الكبير من الأساقفة، ووجود عدد من وجهاء الدولة في صدر المجمع أمام الباب الملوكي، وعن يسارهم: نواب رومة القديمة، وأنانوليوس أسقف رومة الجديدة، فمكسيموس أسقف أنطاكية، وعن يمينهم: ديوسقوروس أسقف الإسكندرية، ويوبيناليوس أسقف أوروشليم، ثم سائر الأساقفة من الجهتين ، ويتضح من هذا الترتيب أن رئاسة المجمع المسكوني الرابع كانت في يد السلطة.
42
وبعد الافتتاح قام باسكاسينوس ووقف في وسط المجمع وقال لعظماء الدولة: «إن أسقف مدينة الرومانيين الرسولي الجزيل الغبطة رأس جميع الكنائس، أمرنا أن نخاطبكم بألا يجلس معنا ديوسقوروس أسقف الإسكندرية، فإما أن يخرج هو وإما أن نخرج نحن.» فرأى ممثلو السلطة أن يجلس ديوسقوروس في وسط المجمع فجلس، ثم وقف أفسابيوس أسقف دورلة، ودفع للمجمع كتابا مضمونه ملخص ما جرى من التلصص في أفسس، وتليت بعد ذلك أعمال المجمع اللصوصي، ثم أعمال المجمع القسطنطيني قبله، وبعد أخذ ورد شديدين اقترح ممثلو السلطة قطع كل من ديوسقوروس الإسكندرية، ويوبيناليوس أوروشليم، وثلاسيوس قيصرية، وأفسابيوس أنقيرة، وأفستاثيوس بيروت، وباسيليوس سلفكية؛ باعتبارهم زعماء التلصص في أفسس، ثم ارتفعت الجلسة فخرج الآباء يرددون: «قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا.» وهي أول مرة يرد فيها ذكر التريصاجيون في تاريخ الكنيسة، وهتفوا بعد هذا التقديس قائلين: «لتكن سنو الإمبراطور عديدة! المسيح أسقف ديوسقوروس القاتل! قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا.»
الجلسة الثانية:
وعاد الآباء إلى العمل في العاشر من تشرين الأول، وظل ديوسقوروس ويوبيناليوس وسائر المتهمين بأعمال التلصص في أفسس خارج المجمع، فطلب ممثلو السلطة إلى الآباء المجتمعين أن ينظروا في أمر الإيمان، وأن يتفقوا على صيغة تصبح هي المعول عليها، فذكر الآباء أن المجمع المسكوني الثالث حرم أي تعديل في قانون الإيمان النيقاوي، ولكن نظرا لإلحاح السلطة فإن الآباء أصغوا إلى نصوص رسائل كيرلس إلى نسطوريوس ويوحنا، وإلى «الطوموس» رسالة لاوون إلى فلابيانوس، فهتف معظم الآباء قائلين: «هذا هو إيمان الآباء، هذا إيمان الرسل، جميعنا هكذا نؤمن، الأرثوذكسيون هكذا يؤمنون، محروم من لا يؤمن هكذا، بطرس نادى بهذا التعليم بواسطة لاوون، كيرلس هكذا علم، محروم من لا يؤمن هكذا.» وتردد أساقفة فلسطين، وطلبوا شرح الطوموس، ولم يتخذ أساقفة مصر موقفا معينا نظرا لتغيب رئيس وفدهم ديوسقوروس، وقبيل ارفضاض الجلسة هتف بعض الإليريين للأساقفة المتهمين.
الجلسة الثالثة:
والتأم المجمع في جلسة ثالثة في الثالث عشر من تشرين الأول، وفي كنيسة مجاورة لكنيسة القديسة أفيمية تضم رفاة بعض الشهداء، وتغيب ممثلو السلطة فتسلم تسيير دفة الأمور الأسقف باسكاسينوس ممثل أسقف رومة، ونهض أفسابيوس أسقف دورلة وقرأ مذكرة جديدة بين فيها هفوات ديوسقوروس وذنوبه، ثم تلاه أربعة إكليريكيين إسكندريين انتقدوا ديوسقوروس من حيث موقفه من أسرة سلفه كيرلس وقساوته وظلمه، ومن حيث طمعه بالمال وجشعه في جمعه، فدعا المجمع ديوسقوروس ثلاث مرات فلم يحضر، فقال باسكاسينوس: «لقد دعي ديوسقوروس ثلاث مرات ولم يحضر، فماذا يستحق هذا الذي يزدري بالمجمع؟» فقال المجمع: «يستحق جزاء العصاة.» ثم قال لوقيانوس أسقف بيزا ونائب أسقف هرقلية: «لقد أجرى المجمع المسكوني السابق أعمالا ضد نسطوريوس، فلنقف على إجراءاته ولنعمل بموجبها.» فقال باسكاسينوس: «أتأمرون أن نطبق في حقه عقوبات كنسية؟» فقال المجمع: «إننا نوافق على ما هو حسن.» وخاطب الأسقف يوليانوس وفد رومة وطلب إلى رئيسه باسكاسينوس أن يبين القصاص المعين في القوانين، فقال باسكاسينوس: «إني أكرر ماذا تستحسنون؟» فقال مكسيموس أسقف أنطاكية العظمى: «كل ما يستحسنه بركم نوافق عليه.» فاقترح باسكاسينوس قطع ديوسقوروس؛ لأنه برأ أوطيخة وقبله في الشركة قبل اجتماع أفسس، ولأنه لم يسمح بقراءة رسالة لاوون إلى المجمع، ولأنه أصر على قطع العلاقة مع الأرثوذكسيين، فقال أناتوليوس أسقف رومة الجديدة: «إني أعتقد في كل شيء مثل الكرسي الرسولي، وأوافق على قطع ديوسقوروس.» وقال مكسيموس أسقف أنطاكية: «إني أضع ديوسقوروس تحت العقاب الكنسي الذي فاه به لاوون أسقف رومة القديمة وأناتوليوس أسقف رومة الجديدة.» ووافق كثيرون آخرون، فحكم على ديوسقوروس بالقطع، أما الأساقفة الباقون من المتهمين فإنهم قدموا ندامة ونالوا الصفح.
الجلسة الرابعة والخامسة:
وبحث الآباء في الجلستين الرابعة والخامسة أمر العقيدة، فنظروا في طوموس لاوون على ضوء دستور الإيمان الذي سن في المجمعين المسكونيين الأول والثاني، وعلى ضوء تحديدات القديس كيرلس كما جاءت في أعمال المجمع المسكوني الثالث.
وقدم ثلاثة عشر أسقفا مصريا لائحة إيمان أثبتت تعلقهم بإيمان الآباء منذ عهد مرقس الإنجيلي حتى أيام كيرلس، وشجبوا آريوس وفنوميوس وماني ونسطوريوس ، ولكنهم سكتوا عن أوطيخة، فوبخهم المجمع فقالوا إنهم يعملون بموجب القانون النيقاوي السادس؛ إذ لا يجوز لهم أن يقطعوا رأيا بدون موافقة أسقف الإسكندرية.
وحاول برصوم أن يدافع عن ديوسقوروس ولكنه لم يفلح، فإنه ما كاد يطل على الآباء المجتمعين حتى تعالت الأصوات بوجوب خروجه، فقال البعض: «إلى الخارج أيها القاتل، إلى المرسح المدرج، إلى الوحوش الضارية.» فخرج برصوم والوفد الرهباني الذي كان يرافقه.
وألفت لجنة تمثل جميع الآراء في المجمع لتعد صورة اعتراف يبت في قضية الطبيعة الواحدة التي أثارها أوطيخة، فقامت هذه اللجنة بالمهمة الموكولة إليها خير قيام، وتقدمت من المجمع في جلسته الخامسة بمشروع اعتراف هذا نصه:
إننا نعلم جميعنا تعليما واحدا تابعين الآباء القديسين، ونعترف بابن واحد هو نفسه ربنا يسوع المسيح، وهو نفسه كامل بحسب اللاهوت، وهو نفسه كامل بحسب الناسوت، إله حقيقي وإنسان حقيقي، وهو نفسه من نفس واحدة وجسد، مساو للآب في جوهر اللاهوت، وهو نفسه مساو لنا في جوهر الناسوت، مماثل لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة، مولود من الآب قبل الدهور بحسب اللاهوت، وهو نفسه في آخر الأيام مولود من مريم العذراء والدة الإله بحسب الناسوت لأجلنا ولأجل خلاصنا، ومعروف هو نفسه مسيحا وابنا وربا ووحيدا واحدا بطبيعتين، بلا اختلاط ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال، من غير أن ينفى فرق الطبائع بسبب الاتحاد، بل إن خاصة كل واحدة من الطبيعتين ما زالت محفوظة، تؤلفان كلتاهما شخصا واحدا وأقنوما واحدا لا مقسوما ولا مجزأ إلى شخصين، بل هو ابن ووحيد واحد هو نفسه الله الكلمة الرب يسوع المسيح، كما تنبأ عنه الأنبياء من البدء، وكما علمنا الرب يسوع المسيح نفسه، وكما سلمنا دستور الآباء.
43
الجلسة السادسة:
وفي هذه الجلسة في الخامس والعشرين من تشرين الأول حضر الإمبراطور بشخصه، وخطب في الآباء، فحضهم على استقامة الرأي والسلام، وتلا تحديد المجمع فأمضى عليه الآباء وصدق الإمبراطور.
صور وبيروت
ونظر الآباء في الجلسة الرابعة في الدعوى التي أقامها فوطيوس أسقف صور على أفستاثيوس أسقف بيروت، وخلاصة هذه الدعوى أن أناتوليوس أسقف القسطنطينية وهب أفستاثيوس أسقف بيروت لمناسبة ارتقائه إلى رتبة متروبوليت؛ الرئاسة على أسقفيات جبيل والبترون وطرابلس وعرطوز وعكار وطرطوس، وذلك بعد أن كانت هذه جميعها خاضعة لمتروبوليت صور، فلام المجمع أناتوليوس على هذا التعدي، وحكم بإرجاع هذه الأسقفيات إلى متروبوليت صور.
ثيودوريطس وإيبا
وفي الجلسة الثامنة فاه ثيودوريطس أسقف قورش لأول مرة بقطع نسطوريوس «وكل من لا يدعو مريم العذراء والدة الإله، ويجعل من الابن الوحيد اثنين»، وحذا حذوه كل من صفرونيوس أسقف قسطنطينة الرها، ويوحنا أسقف مرعش، فعرف المجمع جميع هؤلاء أرثوذكسيين، وفي الجلسة العاشرة تبرأ إيبا.
كنيسة أوروشليم
وكان الآباء القديسون المجتمعون في نيقية في المجمع المسكوني الأول قد خصوا أسقف أوروشليم بامتيازات معينة نجهلها، وحافظوا في الوقت نفسه على حقوق متروبوليت الأبرشية أسقف قيصرية، وكان يوبيناليوس منذ أن تسلم عكاز الرعاية قد بدأ يمارس صلاحيات أوسع بكثير مما سمح به العرف والتقليد؛ فإنه تشوف إلى ممارسة السلطة في العربية وفي فينيقية، فسام الأساقفة في هاتين الأبرشيتين، وزور الوثائق وأبرزها في أفسس ليثبت حقا لم يعترف به أحد، واعترض كيرلس سبيله وكشف أمره، فسكت وبات ينتظر فرصة مؤاتية، فلما تعكر الجو واجتمع الآباء لينظروا في أمر أوطيخة، عاد يوبيناليوس إلى سابق مطلبه. وفي الجلسة السابعة من جلسات المجمع الخلقيدوني المنعقدة في السادس والعشرين من تشرين الأول سنة 451، تفاهم الأسقفان الأنطاكي والأوروشليمي، فاعترف مكسيموس بسلطة يوبيناليوس على أمهات المدن بيسان وقيصرية والبتراء، وامتنع يوبيناليوس عن المطالبة بأية صلاحية في فينيقية أو العربية.
أسقف رومة الجديدة
وفي الجلسات الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة حلت مسائل تتعلق بأساقفة آسية، وفي الجلسة الخامسة عشرة سن المجمع ثلاثين قانونا لا تزال سارية المفعول، وجاء في القانون التاسع أنه إذا وقع خلاف بين إكليريكي وبين متروبوليت الأبرشية، يرفع إلى إكسرخوس الولاية أو إلى الجالس على كرسي القسطنطينية، وجاء مثل هذا في القانون السابع عشر، ونص القانون الثامن والعشرون بالمساواة في الكرامة بين أسقفي رومة الجديدة ورومة القديمة، فاعترض الوفد الروماني على هذه المساواة.
انتهاء الأعمال
وصدق الإمبراطور على القرارات والقوانين، وحل المجمع المسكوني الرابع، ومنع أتباع أوطيخة عن إقامة الحفلات الدينية، ونفى أوطيخة فتوفي بعد ذلك بقليل، ونفى أيضا ديوسقوروس فجعل إقامته جبرية في كنغريس أفلاغونية.
الفصل الرابع والعشرون
النزاع الخريستولوجي
441-518
الأباطرة
وتوفيت بلشيرية في السنة 453 وتبعها مركيانوس في السنة 457، ولم يكن لهما وارث، فاتجهت الأنظار إلى قائد الجيش أسبار، فوجد آلانيا آريوسيا فوقع الاختيار على وكيل خرجه لاوون، فتربع على عرش القسطنطينية حتى السنة 474، واصطنع لاوون منافسا ينافس أسبار، فأنشأ حرسا إمبراطوريا من الأسوريين، وأتى بزعيمهم زينون وأزوجه من بنته أرياذنة (467)، وبطش زينون بأسبار وحرسه (471)، ونشب خلاف بين لاوون وفيروز شاه الفرس حول مصير إمارة لازقة على شاطئ البحر الأسود، وتدفق القوط الشرقيون على شاطئ الأدرياتيك الشرقي، فعاد لاوون إلى دفع الإعانة المالية السنوية إليهم.
وتوفي لاوون الأول في السنة 474، فتولى العرش بعده حفيده لاوون الثاني ابن بنته أرياذنة، وكان لا يزال في السادسة من عمره، فأشرك الولد والده زينون في الحكم (474-491)، ثم توفي بعد بضعة أشهر، فعظم أمر الآريوسيين في الدولة.
وفي إيطالية أصبحت السلطة محصورة بيد العسكريين البرابرة، فكانوا ينصبون الأباطرة ويعزلونهم حسب أهوائهم، وخلعوا في السنة 476 آخر الأباطرة، ونصبوا مكانه أحدهم أودواكر، واستقل هذا بالحكم ولم يكترث لصاحب السلطة الشرعي زينون إمبراطور الشرق، فالتفت زينون شطر القوط الشرقيين في البلقان الغربي ووجههم شطر إيطالية، فزحف ملكهم ثيودوريكوس على إيطالية واستولى على رابينة، ثم على رومة، وخلع أودواكر وجلس مكانه (493) ملكا على مملكة قوطية شرقية ذات حول وطول.
مركيانوس ينفذ
وفي السابع من شباط سنة 452 شرع مركيانوس بالتنفيذ، فأمر بتطبيق جميع مقررات المجمع الخلقيدوني، ونهى عن التردد في قبولها وتطبيقها، ثم عاد فكرر هذه الأوامر في الثالث عشر من آذار من السنة نفسها، وفي الثامن والعشرين من تموز أعلن عدم الرضى الإمبراطوري على أوطيخة وأتباعه.
بلبلة في فلسطين
وكانت أفذوكية أرملة ثيودوسيوس الثاني قد استقرت في فلسطين منذ السنة 442، بعد أن دب الخلاف بينها وبين بلشيرية شقيقة زوجها وزوجها أيضا، وأنفقت هذه الإمبراطورة بسخاء في سبيل الدين في فلسطين، فاكتسبت عطف الرهبان وجمهور المؤمنين، وقالت أفذوكية بالطبيعة الواحدة؛ لأنها توهمت أن الإيمان الصحيح يقضي بذلك، ولأن بطانتها أكدت لها أن القول بالطبيعة الواحدة هو قول كيرلس الإسكندري، وارتاحت نفس الإمبراطورة الأرملة إلى القول بالطبيعة الواحدة؛ لأن بلشيرية وزوجها مركيانوس قالا بالطبيعتين.
1
وكان قد أم فلسطين عدد كبير من النساك والرهبان الذين قالوا بالطبيعة الواحدة؛ لأنهم توهموا أن في ذلك مجاراة لاعتقاد الآباء الأطهار، وأن في القول بالطبيعتين خروجا على التقليد، وكثر عدد هؤلاء حتى أصبحوا في السنة 451 أكثرية ساحقة بين الرهبان، وغدا معظم رؤساء الرهبان أمثال: البيذيوس، وجيرونتيوس، ورومانوس، ومركيانوس؛ من أقحاح الأوطيخيين، وجارى الرهبان في قولهم هذا نصف الأحبار الأساقفة، واضطر يوبيناليوس أسقف أوروشليم أن يصرح قبل قيامه إلى خلقيدونية في السنة 451: «إن من يؤيد طومس لاوون أسقف رومة، فليتبوأ مقعده بالقرب من سمعان الساحر ويهوذا الخائن، وليختتن اختتان اليهود أنفسهم.»
ثيودوسيوس الراهب
وقدر لثيودوسيوس - أحد هؤلاء الرهبان الفلسطينيين أو الموجودين في فلسطين - أن يتزعم القول بالطبيعة الواحدة ويدافع عنه. ويستدل من بعض المراجع الأولية أن ثيودوسيوس هذا كان مشاغبا من الطراز الأول، وأنه كان يجمع في شخصه صفتين قلما اجتمعتا في شخص واحد: الممالقة والوقاحة، وأن صلابة وجهه كانت قد دفعته للتواقح على ديوسقوروس في الإسكندرية، فأمر به فجلد وأركب الأجرب الأعر!
2
فلما دعي الأساقفة إلى خلقيدونية في السنة 451 أسرع ثيودوسيوس السير وأقام في خلقيدونية يترقب أخبار الآباء الأعضاء ويتجسسها أحيانا، وعند ارفضاض المجمع سبق يوبيناليوس إلى فلسطين، فحدث بما جرى ولام الآباء الأساقفة، وشدد عليهم النكير مدعيا أنهم خانوا كيرلس وأيدوا نسطوريوس، فاغتاظ الرهبان وقبحوا وأنكروا، ثم تمادوا في اللوم بعد أن تزعمت هذه الحركة المعارضة أفذوكية الإمبراطورة الأرملة المقيمة في فلسطين.
3
وعاد يوبيناليوس إلى أوروشليم فخيره الرهبان المعارضون بين الموافقة على موقفهم من المجمع الخلقيدوني وبين الاستقالة والعزلة، فرفض يوبيناليوس فأحاط الرهبان به من كل جانب، وهددوه بالقتل واغتالوا سويريانوس أسقف بيسان، وفر يوبيناليوس إلى القسطنطينية، فسام بعض الأساقفة المعارضين ثيودوسيوس أسقفا على أوروشليم، ورأى ثيودوسيوس وأعوانه أن لا بد من الاستغناء عن خدمات الأساقفة الأرثوذكسيين واستبدالهم بغيرهم ممن يقول بالطبيعة الواحدة، فأقاموا بطرس الكرجي
4
أسقفا على مايومة، وثيودوتوس أسقفا على يافة.
واهتم الإمبراطور مركيانوس للأمر، فأنفذ القائد دوروثيوس إلى فلسطين على رأس قوة عسكرية للقضاء على المعارضة وإيصال يوبيناليوس إلى كرسيه في أوروشليم، فقاوم ثيودوسيوس والرهبان ولجئوا إلى العنف، فكانت معركة بالقرب من نابلس سقط فيها عدد كبير من الرهبان، وفر ثيودوسيوس إلى سيناء وكذلك بطرس الكرجي، ووقع ثيودوسيوس في أيدي الشرطة ونقل إلى القسطنطينية، وأكره على الإقامة في أحد أديارها، وما فتئ حتى توفي فيها في الثلاثين من كانون الأول سنة 457، ونقل رفاته إلى جزيرة قبرص.
5
وظلت أفذوكية الإمبراطورة الأرملة في أوروشليم وتابعت نشاطها في المعارضة، وظل جمهور الرهبان ناقما ساخطا، فلجأ الإمبراطور إلى الطرق السلمية وحرر هو وزوجته الإمبراطورة إلى رهبان سيناء ورهبان أوروشليم
6
وإلى الراهبات في أوروشليم والمجمع المقدس ناشدين السلم للكنيسة،
7
وحذا حذوهما أسقف رومة لاوون الكبير، فكتب إلى أفذوكية يحضها على إنقاذ الرهبان من الضلال.
8
اضطراب في مصر
وأوعز مركيانوس بانتخاب خلف لديوسقوروس وأوصى ببروتيريوس
وكيل ديوسقوروس في الإسكندرية، فتم انتخابه وسلم العكاز واعتبر خليفة أرثوذكسيا لمرقص الإنجيلي، فثارت فتنة فتدخل الجند فأكروها على اللجوء إلى السيرابيوم فأحرقوا أحياء، فمنعت الحكومة توزيع الحنطة وأقفلت الحمامات والملاهي.
9
وتوفي ديوسقوروس في الرابع من أيلول سنة 454 ولم تقع حوادث هامة، ولكن لما توفي مركيانوس في السادس والعشرين من كانون الثاني سنة 457 اعتبر تيموثاوس الهر
Ailouros
نفسه مرسلا من السماء، ودعا إلى خلع بروتيريوس، وسيم أسقفا وهجم على بروتيريوس وقتله وعرض جثته في قلب البلد، ثم أمر بجرها إلى محل سباق الخيل وهناك أحرقها،
10
وبعد ثبوته في الكرسي جمع مجمعا وحرم المجمع الرابع المسكوني، وقطع أساقفة رومة والقسطنطينية وأنطاكية.
11
في أنطاكية
وفي أنطاكية خلع مكسيموس خلعا في السنة 455، فخلفه باسيليوس الأول، ثم أكاكيوس، فمرتيريوس
Martyrios (458-471).
وانتشر القول بالطبيعة الواحدة في وادي الفرات، وسار على أقواه النساك والرهبان وملأ الأسماع، وتولى زينون الأسوري قيادة الجيش في الشرق، فجاء أنطاكية يجر وراءه أخلاطا من الناس بينهم راهب خلقيدوني قال بالطبيعة الواحدة وأبطل النذر، يدعى بطرس القصار،
12
وما كاد هذا القصار يستقر في أنطاكية حتى ألف عصبة من بقايا الأبوليناريين وهاجم بها مرتيريوس، فانطلق هذا إلى القسطنطينية يشكو زينون وصديقه القصار، فضغط زينون على بعض الأساقفة فساموا بطرس أسقفا على أنطاكية وسلموه عكاز الرعاية في سلفكية الساحلية، ولدى عودة مرتيريوس فائزا بعطف الإمبراطور توارى القصار وبات ينتظر فرصة ثانية، ثم عاد إلى المشاغبة، فيئس مرتيريوس واستقال، فجلس القصار مرة ثانية على سدة الرسولين في أنطاكية، فغضب الإمبراطور لكرامته وكرامة القانون فأصدر أمرا بإبعاد بطرس، فابتعد فتبوأ يوليانوس الكرسي الرسولي.
13
وفي مطلع السنة 475 تغلب باسيليسكوس القائد على زينون، واستوى على عرش القسطنطينية وأصغى لأقوال الرهبان في مصر وآسية، فأعاد تيموثاوس إلى سدة الإسكندرية، وبطرس القصار إلى رئاسة أنطاكية، ثم أصدر برأيهما منشوره الشهير وأكره خمسمائة أسقف على تأييده، فأصبح القول بالطبيعة الواحدة قول الدولة، والقول بالمجمع الخلقيدوني وطومس لاوون قولا منبوذا،
14
ولم يدم حكم باسيليسكوس أكثر من عشرين شهرا، وعاد زينون إلى سابق عزه (477) بمعونة الخلقيدونيين، فاضطر أن يرضيهم فألغى شرائع باسيليكوس وخلع بطرس القصار من كرسي الرئاسة، وأجلس صديقه يوحنا الثاني محله
Jean Codonat ، وكان هذا لا يزال قائما في أنطاكية منذ سيامته؛ لأن أبرشيته أبت أن تعترف برئاسته، وهو الذي قطع في السنة 478 بقرار من مجمع روماني عقد برئاسة سيمبليكيوس أسقف رومة.
15
وفي هذه السنة نفسها عادت السلطة الزمنية فأقصت يوحنا وأجلست إسطفانوس الثاني في كرسي الرئاسة (477-481)، وليس لدينا في هذه الحقبة سوى إسطفان واحد هو إسطفان الثاني بدليل اتفاق النصوص.
16
ولم يرض أتباع أوطيخة عن أرثوذكسية إسطفانوس، فأوقعوا به وهو في طريقه إلى كنيسة الأربعين، وذلك بشكه بالقصب الحاد الذرب،
17
فتدخلت العاصمة وانتقت كلانذيون
Calendion
وسامته أسقفا على أنطاكية وأرسلته إليها (481-485).
18
كتاب الاتحاد (482)
ولم يثمر حزم مركيانيوس ولاوون، ودام الشقاق في مصر وفلسطين وفي كنيسة أنطاكية أيضا، وأصبح القوم لا تجمعهم جامعة، فاضطرب زينون لهذا التشعب في الآراء والتباين في المذاهب، فاستشار أكاكيوس أسقف العاصمة في ذلك، فاقترح هذا أن يصار إلى التراخي بانتهاج سبيل وسط، فأصدر زينون في السنة 482 الأينوتيكون
Henotikon
كتاب الاتحاد، وهو إرادة سنية إمبراطورية موجهة إلى الأساقفة والإكليروس والرهبان والمؤمنين في الإسكندرية ومصر وليبية والمدن الخمس، وفيها يشجب زينون تعاليم نسطوريوس وأوطيخة معا، ويقر رأي كيرلس، ويجتنب الكلام في الطبيعة الواحدة والطبيعتين ليرفض بلباقة ما كان قد أقره المجمع الخلقيدوني الأخير.
19
ولكن الأينوتيكون بدلا من أن يؤلف القلوب ويوحد الصفوف، سعر نار الشقاق والتفرقة؛ لأنه لم يرض الأرثوذكسيين ولا أصحاب الطبيعة الواحدة. وانشق في مصر عن بطرس أسقف الإسكندرية قسم من جماعته، فألفوا طائفة سموها الآكيفلي أي العادمة الرأس، وكتب الأرثوذكسيون إلى أكاكيوس يلومونه على مماشاة بطرس الإسكندري، فلم يكترث، بل أصر على القول بكتاب الاتحاد، فكتبوا إلى أسقف رومة فيلكس الثالث (483)، ولكن هذا بدلا من أن يراسل زميله القسطنطيني مستوضحا حسب العادة القديمة والمحبة الأخوية، فإنه عقد مجمعا محليا وحرم بطرس وأكاكيوس، فلما علم أكاكيوس بذلك محا اسم أسقف رومة من الذبتيخة، فنشب انشقاق دام أكثر من خمس وثلاثين سنة.
ولم يرض كلانذيون أسقف أنطاكية عن كتاب الاتحاد ولم يوقعه، وعلى الرغم من أرثوذكسيته ونجاحه في إنهاء الانشقاق الأفستاثيوسي بنقل رفاة أفستاثيوس إلى أنطاكية، فإنه اتهم بالمؤامرة على سلامة الإمبراطور وتأييد القائد لاونديوس مرشح البطريق أيلوس للعرش، فأنزل عن الكرسي الرسولي ونفي إلى الواحة الكبرى في أواخر السنة 484، أو أوائل السنة 485.
بطرس القصار (485-490)
وعاد بطرس القصار إلى الكرسي للمرة الرابعة والأخيرة، وكان قد تولى الرئاسة في أثناء غياب مرتيريوس، ثم بعد استقالته، ثم في أثناء حكم باسيليسكوس، ووقع بطرس كتاب الاتحاد ودعا المجمع الأنطاكي، فأرسل الرسائل السلامية ولا سيما إلى بطرس أسقف الإسكندرية، وحاول أن يرجع كنيسة قبرص إلى طاعة أنطاكية ولكنه لم يفلح.
وهو أول من أوجب تلاوة قانون الإيمان في أثناء القداس الإلهي، وأنشأ رتبة تكريس الماء ليلة عيد الظهور فضلا عن تبريكه يوم العيد نفسه، وأضاف إلى التريصاجيون العبارة: «يا من صلبت لأجلنا»، كأن يقال: قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، الذي صلب من أجلنا، ارحمنا.
ودخلت الكنيسة في دور من الفوضى، كثرت فيه سيامة الأساقفة زوجا زوجا، أرثوذكسيين ومونوفيسيين، في وقت واحد، ومدت الأيدي إلى الكراسي لخلع هذا وتنصيب ذاك، وكان من أهم أسباب هذه الفوضى سعي الأباطرة لاسترضاء من قال بالطبيعة الواحدة في مصر وسورية؛ لكثرة عددهم ولضعف هيبة السلطة إذ أحرجتها مشاغل أخرى، وظلت الحال على هذا المنوال حتى ظهرت كنائس مونوفيسية مستقلة في مصر وسورية وأرمينية.
الإمبراطور أنسطاسيوس الأول (491-518)
وكان زينون قد سعى لإجلاس أخيه لونجينوس على العرش بعده، ولكن زوجته الإمبراطورة أرياذنة لم تر في لونجينوس الكفاءة اللازمة، فانتقت أنسطاسيوس الموظف في التشريفات ورفعته إلى منصة الحكم، وكان أنسطاسيوس في الحادية والستين من عمره ورعا تقيا، وعلى الرغم من ميله إلى القول بالطبيعة الواحدة، فإن الشعب قابل ارتقاءه بالهتاف: «ليكن عهدك في الحكم كعهد مركيانوس، وكسيرتك أنت في حياتك الشخصية.» واشترط أوفيميوس العاقل أسقف القسطنطينية ألا يحيد الإمبراطور عن العقيدة الأرثوذكسية، وأن يكتب قبل التتويج تعهدا بذلك، ففعل وتقبل تاجه من يد الأسقف القسطنطيني.
بلاذيوس وفيلوكينوس
وخلف بطرس القصار في رئاسة الكنيسة بلاذيوس
(490-491) أحد كهنة القديسة تقلا في سلفكية أسورية، الذين قالوا بالطبيعة الواحدة وشملهم عطف الإمبراطور أنسطاسيوس،
20
فلما استتب له الأمر دعا رعاياه إلى قبول كتاب الاتحاد وتأييده، ووجد في شخص فيلوكسينوس
أسقف منبج خير عون لتأدية هذه الرسالة.
وجاء في بعض المراجع أن فيلوكسينوس هذا كان رقا فارسيا اسمه أكسينائياس، ففر من بيت سيده وتزيا بزي قس ودخل أبرشية أنطاكية في أيام كلانذيون، وعلم بخلع الأيقونات من الكنائس وكان غير معمد فطرده كلانذيون، أما بطرس القصار فإنه سامه أسقفا على منبج وسماه فيلوكسينوس، وعلم أنه غير معمد ولكنه قال: «لا بأس فالشرطونية تغنيه عن المعمودة.» واشتهر فيلوكسينوس بتعلقه بالطبيعة الواحدة، فجاب الأقطار مبشرا ناشرا المصنفات المونوفيسية حيثما حل.
21
وفيلوكسينوس هذا نفسه هو في نظر الكنيسة السريانية «علم من أعلام السريان وأقطاب الزمان، مع ديانة وصيانة وزهد ظاهر وورع معروف، بحث عن أصول الدين أتم بحث وأبعد استقصاء؛ اقرأ كتابه في التثليث والتجسد تراه الملفان المتبحر، وتصفح رسائله تعلم أية نفس وثابة كان يحمل بين جنبيه ذلك الرجل العظيم، أقامه بطرس الثاني خوريا ثم مطرانا، فبذل قصارى عنايته في حماية العقيدة الأرثوذكسية، وغلا في مناوأة النساطرة والخلقيدونية.»
22
تقلب أنسطاسيوس
وكان أنسطاسيوس كلما زاد سنا ازداد تعلقا بالقول بالطبيعة الواحدة، فأدى تشبثه إلى مشاكل متتالية في العاصمة وفي أنطاكية والإسكندرية ورومة، وبدأت مشاكله عندما حاول أن يسترجع التعهد الذي كان قد كتبه قبيل تتويجه وسلمه إلى أسقف القسطنطينية، ولكن أوفيميوس الأسقف أبى فجمع الإمبراطور مجمعا محليا سنة 496، وقطع المجمع أوفيميوس ونفاه، وتولى رئاسة كنيسة القسطنطينية مقدونيوس الثاني، وكان هذا نقي السيرة مستقيم العقيدة محبوبا، فحاول مصالحة بعض الرهبان الذين تباعدوا عن كنيسته منذ ظهور الأينوتيكون فلم يستطع، فعقد مجمعا محليا ثبت فيه قرارات المجمع المسكوني الرابع الخلقيدوني، ونوى أن يكتب بذلك إلى كنيسة رومة، فمنعه الإمبراطور وحاول إقناعه بوجوب شجب قرارات هذا المجمع الخلقيدوني، فلم يجب مقدونيوس طلبه.
سويروس الأنطاكي
وفي نيسان السنة 505 أنهى أنسطاسيوس الحرب الفارسية بعد إخماد ثورة الأسوريين وترتيب أمور الهون، فتمكن من اتباع سياسة إيجابية في معالجة الموقف الديني، فاستعان بسويروس وفيلوكسينوس الأنطاكيين.
ولد سويروس في سوزوبوليس من أعمال بسيدية في حدود السنة 459، ودرس الأدب اليوناني والبيان في الإسكندرية والفقه الروماني في بيروت، وتقبل النعمة في دير الشهيد لاونديوس بالقرب من طرابلس في السنة 488، واختار لنفسه الزهد فلجأ إلى برية بيت جبرين، ثم التحق بدير رومانوس فحبسة
Laura
مايومة، وأنشأ ديرا خصوصيا وأقام فيه مدة طويلة، وتقبل الكهنوت على يد أبيفانيوس أسقف مغيذوس في بمفيلية، وكان هذا قد أخرج من أبرشيته لقوله بالطبيعة الواحدة.
وكان سويروس من فحول علماء عصره، تضلع من البيان وعلوم اللغة، وتبحر في الفقه والمحاماة، ثم أوغل في بحث الأسفار المقدسة وأمعن في تنقيب التقليد؛ ليدحض طومس لاوون ويخرج على مقررات المجمع المسكوني الرابع الخلقيدوني، فيشتت بذلك صفوف المؤمنين ويشق الكنيسة، غير مكترث بدستور الإيمان الموروث وبنص الإنجيل الطاهر المبارك: «ليكونوا واحدا مثلما نحن واحد.»
ويلاحظ لهذه المناسبة أن العلماء المؤرخين، الذين يعنون اليوم بتاريخ هذه الحقبة، يرون أن كيرلس وديوسقوروس وتيموثاوس أيلوروس الإسكندريين وسويروس الأنطاكي لم يقولوا بمزج الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص السيد المخلص، ولم ينكروا العنصرين البشريين الجسد والنفس اللذين وجدا فيه، وإنما قصدوا أن يظهروا وحدة العامل المتصرف الذي هو الله، وعبروا عن هذه الوحدة بالقول بطبيعة واحدة، وآثر الآباء الأرثوذكسيون الشرقيون والغربيون التعبير عن وحدة هذا العامل المتصرف بالقول بوحدة الأقنوم، وأصروا في الوقت نفسه على القول بطبيعتين إلهية وبشرية.
23
التهجم على فلابيانوس الثاني
وما كاد أنسطاسيوس ينهي الحرب الفارسية في ربيع السنة 505، حتى أوعز إلى فيلوكسينوس أن يداعب فلافيانوس رئيسه ليحرجه فيخرجه، وكان فلافيانوس قد قضى مدة طويلة في القسطنطينية ممثلا الحبر الأنطاكي فيها
Apokrisis
أمام السلطات العليا، فلما كانت السنة 498 انتخب أسقفا على أنطاكية، فهب يعمل بأمانة واستقامة، وكان أرثوذكسيا مستقيم الرأي، فتم شيء من التفاهم والتعاون بينه وبين زميله مقدونيوس أسقف القسطنطينية وإيليا أسقف أوروشليم،
24
فلما قضت الظروف بالعمل للطبيعة الواحدة، أعلنها فيلوكسينوس حربا لا هوادة فيها على فلابيانوس مدعيا أنه كان لا يزال يقول بالنسطرة،
25
فتنصل فلابيانوس ولعن نسطوريوس والنسطرة، ولكن فيلوكسينوس لم يرض بذلك وأصر على وجوب التراجع عن القول بالطبيعتين، وكتب فيلوكسينوس بهذا كله إلى مارون أناغنوسطوس عين زربة،
26
وادعى الجهاد ودخوله في حرب ضد نسطوريوس وجميع علماء أنطاكية ديودوروس وثيودوروس وثيودوريطس وإيبا، وعاونه في ذلك كل من إلفسينوس
Eleusinos
أسقف ساسيمة قبدوقية، ونيقياس
Nicias
أسقف اللاذقية وغيرهما،
27
وأعد فيلوكسينوس رسالة في مقومات الإيمان الصحيح ورفعها إلى البلاط الإمبراطوري، فأمر أنسطاسيوس بوجوب مثوله في القسطنطينية، فامتثل ومثل بين يدي الإمبراطور ولكن مقدونيوس لم يسمح له بالمثول أمامه لتقبيل يده، فاضطر فيلوكسينوس أن يفر من العاصمة تحت جناح الظلام.
سويروس يؤم القسطنطينية (508-511)
وما كاد فيلوكسينوس يخرج من العاصمة حتى دخلها سويروس على رأس مائتي ناسك فلسطيني يحاربون نيفاليوس وغيره من الرهبان الذين قالوا بالطبيعتين، وأجيب طلب سويروس سريعا، ولكنه بقي ثلاث سنوات متتالية في عاصمة الدولة يخطب ويجادل ويؤلف في سبيل القول بالطبيعة الواحدة، فرد على الخلقيدونيين بالفيلاليتة مبينا أن ما نسبوه إلى كيرلس غير صحيح، ووجه رسالة إلى أبيون وبولس البطريقين نافيا ما نسب إليه من المانوية وغير ذلك،
28
واجتمع حوله عدد لا يستهان به من أخصام مقدونيوس أسقف العاصمة، وافتروا أقوالا وأفعالا ونسبوها إلى مقدونيوس وهو براء منها، ثم تجرءوا على أكثر من هذا فجعلوا رهبان سويروس يسبحون التريصاجيون مضيفين إليها عبارتهم «المصلوب من أجلنا»، فأدى هذا إلى هياج شعبي عظيم جعل أنسطاسيوس يخشى سوء العاقبة ويستعد للفرار، وبات الإمبراطور يعد العدة لخلع مقدونيوس وإبعاده، فاستمال بعض العناصر الإكليريكية وأمر بإقفال أبواب العاصمة في وجه الرهبان الداخلين إليها، ووزع العطايا على الجيش، وفي السادس من آب سنة 511 أمر بخلع مقدونيوس وإبعاده، فتم ذلك بدون مقاومة،
29
ثم أوعز الإمبراطور بتنصيب تيموثاوس الأول (511-518) أسقفا على القسطنطينية.
مجمع صيدا (512)
وعاد فيلوكسينوس إلى منبج مركز أبرشيته ليستأنف النزاع ضد رئيسه فلابيانوس، وشدد الخناق على فلابيانوس واضطره أن يوقع بيانا شجب فيه تعاليم ديدوروس وثيودوروس وإيبا وغيرهم من الآباء الأنطاكيين،
30
وما إن نال هذا القدر من الرئيس المسالم حتى طالب بأكثر، فإنه أكد أن لا بد من شجب أعمال المجمع الخلقيدوني، وشجب كل من يقول إن في المسيح طبيعتين لا طبيعة واحدة،
31
ودفع بوثيقة مهيأة لهذه الغاية
، وطلب إلى فلابيانوس أن يوقعها لتعاد إلى القسطنطينية، فوقع فلابيانوس هذه الوثيقة أيضا معترفا بحكم المجمع الخلقيدوني على نسطوريوس وأوطيخة، ممتنعا عن تأييد أي تحديد للعقيدة ورد في مقررات هذا المجمع.
32
وعاد فيلوكسينوس للمؤاخذة وشفاء الغيظ، فرأى فلابيانوس أن يدعو المجمع الأنطاكي للنظر في جميع الأمور التي أثارها فيلوكسينوس، ولا سيما قضيته الأخيرة، فاجتمع الآباء الأنطاكيون في صيدا في خريف السنة 512، وبلغ عددهم الثمانين، ومثل الإمبراطور بينهم القائد أفتروبيوس، ومشى في ركاب فيلوكسينوس كل من بطرس أسقف حلب، ونيقياس أسقف طرابلس، ومكسيموس أسقف بيروت، وسبعة آخرون؛ بحيث أصبح عدد المونوفيسيين عشرة فقط، وأيد فيلوكسنوس ووفده عدد كبير من الرهبان، فقدموا إلى المجمع طلبا بشجب مقررات خلقيدونية وأردفوا طلبهم هذا بسبعة وستين فصلا في تفنيد طومس لاوون وقرارات المجمع الخلقيدوني،
33
فتدبر الآباء الأرثوذكسيون هذه الفصول وغيرها، وجادلوا خصومهم واستظهروا عليهم بدليل العقل والنقل، ثم استشهدوا بنصوص الآباء المونوفيسيين برسائل بطرس مونغوس وأثناسيوس الثاني، فثبتوا وجوب الاكتفاء بتوقيع الأينوتيكون،
34
فأفحموا فيلوكسينوس وتركوه معتقل اللسان، وانتهت أعمال المجمع بانتصار الأرثوذكسية على المونوفيسية، ولا نرى ما يوجب القول بتدخل الإمبراطور لتعليل الإسراع في إنهاء الأعمال.
35
وقبل الارفضاض وجه فلابيانوس أنطاكية وإيليا أوروشليم رسالة إلى أنسطاسيوس الإمبراطور أكدا فيها تأييدهما لنص الأينوتيكون.
36
خلع فلابيانوس وإبعاده (512)
وخرج فيلوكسينوس من مجمع صيدا ساخطا حاقدا، فجمع الرهبان من كل حدب وصوب واتصل بأساقفة أسورية، فأفسد بينهم وبين رئيسهم فلابيانوس، ثم أرسل رهبانا إلى القسطنطينية يطالبون بخلع فلابيانوس وإبعاده، فتم لهم ذلك في أوائل تشرين الثاني سنة 512 بواسطة مجمع محلي عقد خصيصا لهذه الغاية في مدينة اللاذقية، وأبعد فلابيانوس إلى البتراء.
37
سويروس أسقف أنطاكية (512-518)
وأوعز أنسطاسيوس بانتخاب سويروس خلفا لفلابيانوس، فتم ذلك في السادس من تشرين الثاني سنة 512، وسيم سويروس في أنطاكية نفسها على يد متروبوليتي طرسوس ومنبج وعشرة أساقفة محليين من أبرشيات الفرات وسورية الأولى،
38
ووجه سويروس لمناسبة تسلمه عكاز الرعاية خطابا إلى الرهبان لا تزال ترجمته إلى السريانية محفوظة حتى يومنا هذا،
39
وقد جاء في هذا البيان الرعائي تأكيد باستمساك سويروس بما جاء في أعمال مجامع نيقية وأفسس، واعتراف بصحة ما تضمنه الأينوتيكون، ولكنه شجب نسطوريوس وأوطيخة والمجمع الخلقيدوني وطومس لاوون وجميع الذين قالوا بالطبيعتين.
40
وفي السنة التالية (513) دعا إلى مجمع أنطاكي في أنطاكية نفسها، فأقر هذا المجمع الرئيس في كل ما ذهب إليه، وشجب المجمع الخلقيدوني وطومس لاوون،
41
واعترض على هذه المقررات ولم يؤيدها كل من أبيفانيوس متروبوليت صور (أخي فلابيانوس الرئيس السابق)، ويوليانوس متروبوليت بصرى، وبطرس أسقف دمشق، وأساقفة الرستن وحماة وشيزر والرفنية.
42
مجمع صور (514)
وادعى سويروس أن أكثرية الأساقفة الساحقة تؤيده، فذكر في رسائله عددا كبيرا منهم،
43
وادعى خصومه غير ذلك، فدعا إلى مجمع في صور في السنة 514 فاشترك في أعماله أساقفة أنطاكية وأبامية ووادي الفرات والرها وما بين النهرين والعربية وفينيقية اللبنانية، وأيد هذا المجمع موقف سويروس السابق من مشكلة العقيدة، وفسر الأينوتيكون تفسيرا معاكسا لمقررات المجمع الخلقيدوني، فاضطرب معظم الأساقفة، وامتنع عدد من أساقفة أسورية عن الاعتراف بسلطة سويروس، وقطعه من الشركة أساقفة صور ودمشق وبصرى، وأنزله عن السدة الرسولية كل من سويريانوس الرستن وقوزمة حماة، وأرسلا إليه نص القرار المتخذ،
44
ووافق هذا كله ظهور قرار مجمعي في الإسكندرية يوفق بين بنود كيرلس وطومس لاوون، ويحتج كل الاحتجاج على مشاغبات سويروس وفيلوكسينوس؛
45
فرأى سويروس أن لا بد من اللجوء إلى العنف، فوكل أمر تهذيب الأساقفة إلى سويروس أبامية وبطرس رفيقه، فدعا سويروس الأبامي إكليروس الأبرشيات المجاورة إليه وحادثهم في موضوع الساعة، فبسط على بعضهم جناح الرحمة، وأعرض عن غيرهم واستبدلهم بآخرين ممن قالوا قول سويروس الأنطاكي ومجمع صور، ولم يقف الأبامي عند هذا الحد، فإنه صادر الذهب والفضة من فوق المذابح وأجران المعمودية، وتذوق بطرس رفيق هذا الأبامي الخشونة والغلاظة والفظاظة، فاستعان بالأسوريين على الزهاد والنساك فكانت معركة في شيزر، وسقط عدد من الرهبان دفاعا عن الدين القويم.
46
أوروشليم
ولم يعترف إيليا أسقف أوروشليم بأسقفية سويروس الأنطاكي، ولم يذكره في الشركة لخروجه على العقيدة الأرثوذكسية، فكان لا بد من خلعه وإجلاس غيره ليقول قول الإمبراطور ويتعاون مع أسقف أنطاكية، وفي السنة 516 قام أوليمبيوس حاكم فلسطين من مركز حكمه في قيصرية إلى أوروشليم على رأس قوة لخلع إيليا وتنصيب غيره، فاعترضه الرهبان فأطلعهم على بعض الوثائق الصادرة عن إيليا فأثبط عزمهم، ودخل أوروشليم بدون مقاومة وخلع إيليا ونفاه إلى أيلة عند خليج العقبة.
47
واختار أوليمبيوس الحاكم الشماس يوحنا «حامي الصليب المقدس»
Stavrophylax
خلفا لإيليا، وكان هذا الشماس ابن مرقيانوس أسقف سبسطية وشقيق أنطونيوس أسقف عسقلان ، وطلب إليه أوليمبيوس أن ينبذ طومس لاوون ويشجب قرارات المجمع المسكوني الرابع قبل تنصيبه، فوعد يوحنا بذلك، فحدد يوم التنصيب وعين المكان، فهرع الناس إلى كنيسة القديس إسطفانوس أكبر الكنائس آنئذ، وأم أوروشليم ثمانية عشر ألفا من الرهبان الأرثوذكسيين، وأطل يوحنا يواكبه القديسان سابا وثيودوسيوس، وهتفت الجماهير: «العن الهراطقة وأيد المجمع.» فلعن يوحنا كلا من نسطوريوس وأوطيخة وسويروس الأنطاكي وسوتيريخوس
Soterichos
قيصرية قبدوقية، وأيد في الوقت نفسه المجامع المسكونية الأربعة.
48
ضغط الإمبراطور وفشله
وكان تيموثاوس الأول أسقف القسطنطينية (511-518) رجلا متقلبا، فحرم قرارات المجمع الرابع المسكوني، وتفاهم مع سويروس الأنطاكي ويوحنا النيقاوي الإسكندري، فاضطر متروبوليت تسالونيكية أن يماشي تيموثاوس خوفا من الإمبراطور، فتظاهر الشعب ضد الإمبراطور والأساقفة، وعقد أربعون أسقفا من البلقان وبلاد اليونان مجمعا وقطعوا علاقاتهم مع تيموثاوس ودخلوا في شركة أسقف رومة.
وتتابع ضغط الإمبراطور على الأرثوذكسيين، فثار فيتاليانوس قائد فرقة بلغارية في الجيش واحتل وارنة على البحر الأسود، ثم تقدم نحو العاصمة مطالبا بإلغاء التسبيح المونوفيسيتي، وبإعادة الأساقفة الأرثوذكسيين من منفاهم، وهاجم العاصمة برا وبحرا، فصد ولكنه لم يغلب، فعاد برجاله إلى بورغاس وبقي فيها ثائرا غاضبا!
49
وعلم سويروس في هذه الآونة أن عددا كبيرا من المؤمنين الأرثوذكسيين سيقصدون مقام سمعان العمودي؛ احتجاجا على قساوة سويروس وهراطقته، فأرسل سويروس من كمن لهؤلاء وانقض عليهم فقتل تقتيلا.
50
وعلى الرغم من هذه القساوة وهذا الضغط المتزايد، فإن الشعب في آسية وتراقية والبلقان واليونان وفلسطين ظل محافظا على التقليد القويم، مستمسكا بمقررات المجامع المسكونية، وظل أساقفته بعيدين عن القول بالطبيعة الواحدة، وفي كنيسة أنطاكية كثر القائلون بالطبيعة الواحدة أساقفة وشعبا، ولكن الأرثوذكسيين ظلوا كثرا أيضا، ولا سيما بين الرهبان والنساك، أما في مصر فإن القول بالطبيعة الواحدة عم القسم الأكبر من الشعب والإكليروس.
وفي ربيع السنة 518 توفي تيموثاوس الأول أسقف القسطنطينية، وتبعه أنسطاسيوس الإمبراطور فزهقت نفسه في التاسع من تموز من السنة نفسها، وانصرف إلى جوار ربه في التاسع عشر من تموز من السنة 518 أيضا فلابيانوس الثاني أسقف أنطاكية المنفي وزميله إيليا أسقف أوروشليم. وفي خريف هذه السنة أيضا نفي فيلوكسينوس إلى غنغرة ليحبس في بيت يوقد فيه وتسد منافذه فيموت خنقا.
الفصل الخامس والعشرون
يوستينوس ويوستنيانوس
518-590
الإمبراطور يوستينوس
وتوفي أنسطاسيوس في التاسع من تموز سنة 518 بدون عقب، فتولى العرش بعده يوستينوس أحد قادة الحرس الإمبراطوري، وذلك بتدبير لا يزال غامضا، وكان يوستينوس هذا وضيع الأصل، جاء العاصمة مغامرا يمشي على القدمين من مقدونية، إلا أنه كان جنديا باسلا فألحق بالحرس الإمبراطوري، وظل يتقدم حتى أصبح قومس إحدى فرق الحرس، على أنه في الواقع لم يكن شيئا غير جندي باسل، وقد رأى فيه المؤرخون المعاصرون له أميا لا يقرأ ولا يكتب، متطفلا على السياسة وأهلها، جاهلا علم اللاهوت، ويقولون أيضا إنه لولا مساندة ابن أخته يوستنيانوس له لناء بحمله وضاع في متاهات الإدارة والسياسة. وكان يوستينوس قد استقدم يوستنيانوس إليه في حداثته وعني بتثقيفه وتهذيبه، فأصاب يوستنيانوس شطرا وافرا من العلم في مدارس العاصمة، فلما تبوأ خاله عرش الأباطرة كان يوستنيانوس قد أنهى علومه وخبر الحياة السياسية وتحلى بالنضج والاتزان.
1
العودة إلى الأرثوذكسية
وكان يوستينوس قد نشأ يتكلم اللاتينية ويقول قول أساقفة رومة، فلما أدرك أن المعارضة منوفيسية في الصميم، اضطر هو أن ينهج نهجا أرثوذكسيا خالصا،
2
واندفع الشعب في سبيل هذا الإيمان القويم، فطالب الأسقف في الأحد الأول بعد وصول يوستينوس إلى العرش وفي كنيسة الحكمة الإلهية، أن يقوم إلى الأمبون
Ambon
وينادي بصحة أعمال الآباء في المجمع المسكوني الرابع ففعل، ثم طالبوا بذكر أفيميوس ومقدونيوس ولاوون في الذبيحة فذكر، وألحوا بلعنة سويروس الأنطاكي فلعن،
3
وأوجبوا إعادة الإكليريكيين الأرثوذكسيين الذين أبعدوا عن مراكزهم، فالتأم مجمع محلي في العشرين من تموز، وأقر ذلك ورفع قراره إلى الإمبراطور،
4
فصدرت إرادة سنية إمبراطورية فرضت الاعتراف بالمجمع الخلقيدوني فرضا، وأوجبت إعداد نص جديد يحل محل الأينوتيكون، وقضت إرادة سنية أخرى بإبعاد الهراطقة المونوفسيين عن وظائف الدولة وصفوف الجيش.
5
وتجاوب الأرثوذكسيون فالتأم مجمع مقدس في أوروشليم في السادس من آب من هذه السنة نفسها، واتخذ القرارات نفسها التي اتخذها مجمع القسطنطينية في العشرين من تموز، وحذا الشاطئ اللبناني حذو القسطنطينية وأوروشليم، فاتخذ مجمع صور في السادس عشر من أيلول قرارات مماثلة، وتظاهر الشعب تظاهرا كبيرا في كنيسة صور الكتدرائية، وقام كيروس أسقف مريمينة المشتى في مجمع جمع زويلوس رفنية، وسويريانوس الرستن، وقوزمة حماة، وأفسابيوس شيزر، فطلب لعن أسقف أبامية وقطعه ففر بطرس فرارا،
6
وأمر الإمبراطور بإلقاء القبض على سويروس الأنطاكي وقطع لسانه، فلاذ سويروس بالفرار، فقام إلى سلفكية الساحل في التاسع والعشرين من أيلول وأقلع منها إلى الإسكندرية حيث أقام مدة طويلة.
7
وخير الأساقفة الأنطاكيون بين القول بالطبيعتين وبين الاستقالة، فآثر اثنان وثلاثون منهم الاستعفاء من الخدمة على الرضوخ والاعتراف بالمجمع الخلقيدوني، وكان بين هؤلاء: بولس الإسكندرونة، وقسطنطين اللاذقية، وأنطونيوس حلب، ونونوس سلفكية الساحل، وأيسيدوروس قنسرين، وبطرس أبامية، وتوما دمشق، وألكسندروس وادي بردي، وتوما يبرود، ويوحنا تدمر، ويوحنا حوارين (أسقف الرهبان العرب)، وفيلوكسينوس منبج، وسرجيوس قورش، وتوما مرعش، وبولس الرها، ويوحنا حران، وبولس الرقة، ومريون سورة، وماراس آمد, وتوما دارا.
8
واتخذت إجراءات قاسية لإكراه الرهبان على القول بالطبيعتين، فطردوا من أديرتهم شبانا وشيوخا، أصحاء ومرضى ومقعدين، في حر الصيف وبرد الشتاء.
9
بولس الثاني (519-521)
ولمست المقامات الأرثوذكسية في العاصمة كفاءة في شخص الكاهن الأنطاكي بولس «مضيف الغرباء»، فأوصت به فسيم أسقفا على أنطاكية، وما كاد يستلم أزمة الرئاسة حتى كاشف المونوفيسيين بالعداوة وجاهر بها، وخص رهبانهم بشطر وافر من كرهه وحقده، ثم حامت نفسه على المال والمادة، فلجأ إلى البلص وما يتبعه، وكاد يمثل أمام القضاء، ولكنه استعفى من الخدمة (521)، فخلفه راهب فلسطيني اسمه إفراسيوس
Euphrasios .
10
إفراسيوس (521-526)
وقال إفراسيوس بالطبيعة الواحدة حينما كان لا يزال قسيسا في أوروشليم، ثم عدل عن هذا القول وأعلن تمسكه بالإيمان القويم، وتبوأ السدة الأنطاكية، فتابع التضييق على المونوفيسيين فخنق فيلوكسينوس في غنفرة 523،
11
واقتلع بولس اقتلاعا من كنيسة الرها، وطارد الرهبان فهاموا طالبين البادية وأسسوا فيها أديارا جديدة.
12
مصر ملجأ الهراطقة
وتشاغل الأباطرة عن مصر وسياستها ، فأطمعوا أبناءها في هيبة الحكم وروعته فتطمعوا وراحوا يخادعون ويراوغون، ولولا الشقاق المزمن بين الفلاح والملتزم، لما تمكن الروم من البقاء في مصر حتى ظهور الإسلام،
13
ومن هنا التجاء سويروس ويوليانوس وغيرهما من كبار المونوفيسيين إلى وادي النيل، وإقامتهم فيه أعزاء الجانب لا ينالهم طالب ولا يطمع فيهم طامع، ومن هنا أيضا هذه الصلابة التي دفعت سويروس إلى متابعة العمل في أنطاكية وأبرشياتها بعد خروجه منها،
14
ومن هنا كذلك أعمال يوحنا أسقف قسطنطينية الذي ظل يمارس السلطة الروحية في مسقط رأسه الرقة بعد استعفائه من الخدمة وخروجه من أبرشيته.
15 «وأقام سويروس في مصر عشرين سنة يدبر الكنيسة بنوابه ومراسلاته، ويحبر الكتاب إثر الكتاب نقضا «للبدع ودحضا للمضللين» بهمة لا تعرف الملل، ولا تتعثر بأذيال الكلل، مجيبا على مسائل السائلين، معطيا الفتاوى السديدة في المشاكل الشرعية.»
16
وأكمل سويروس في مصر كتابه ضد يوحنا النحوي القيصراني الذي بدأ به في أنطاكية،
17
ثم اختلف مع يوليانوس الإليكرناسوسي فيما إذا كان جسد المسيح قابلا أو غير قابل الفساد، فانقسم المونوفيسيون في مصر إلى سويريين ويوليانيين، وما فتئوا حتى الفتح الإسلامي.
18
زلزال أنطاكية (526)
وتنوعت الكوارث الطبيعية في عهد يوستينوس واشتدت، فزلزلت الأرض في عين زربة،
19
وطفت المياه في الرها فغمرتها (22 نسيان 525)،
20
وحلت صاعقة في بعلبك فأحرقت هيكلها،
21
وعم الجفاف فلسطين بأسرها وطال أمده فحل الجوع فيها، وفي التاسع والعشرين من أيار سنة 526 دهمت زلزلة كبرى أنطاكية، فخربتها تخريبا وقضت على خمسين ألفا من السكان وعلى الأسقف إفراسيوس أيضا.
22
يوستنيانوس (527-565)
هو فلافيوس بتروس سباتيوس يوستنيانوس ابن أخت يوستينوس، ولد في توريزيوم
Tauresium
مقدونية
23
في السنة 482، وقدم العاصمة في حداثته، فعني خاله الإمبراطور بتثقيفه وتهذيبه، فأصاب شطرا وافرا من العلم، ولما تبوأ خاله عشر القسطنطينية كان يوستنيانوس قد أنهى علومه وخبر الحياة السياسية وتحلى بالنضج والاتزان، ويقول معاصروه إنه كان يميل إلى البساطة في العيش، لا يشرب الخمر ولا يأكل إلا القليل من الخضراوات، وكثيرا ما كان يصوم ليلتين ونهارا بينهما،
24
وجاء أيضا أنه كان يحب مجالسة الأساقفة والرهبان للبحث في العقيدة والدين، وأنه كان قد أخذ اللاهوت عن أكبر رجال عصره لاونديوس البيزنطي مؤسس اللاهوت البيزنطي السكولاستيكي،
25
ويجوز القول إن مغامرات يوستنيانوس في اللاهوت نشأت في بعض هذه الجلسات التي أحياها الإمبراطور في قصره.
26
أهدافه
وأراد يوستنيانوس أن يعيد إلى الدولة الرومانية سابق وحدتها السياسية، وأن يضرب على أيدي الوثنيين واليهود والهراطقة؛ ليؤمن كنيسة واحدة جامعة،
27
واعتبر نفسه مسئولا أمام الله والناس عن الأمن والسلام في الدولة وفي الكنيسة، فتدخل في شئون هذه تدخلا منتظما لم يسبقه إليه أحد من قبل، فلا قسطنطين ولا ثيودوسيوس ولا غيرهما تدخل في أمور الكنيسة هذا التدخل المستمر المطلق الصلاحية، ولا هذا ولا ذاك حاول أن ينظر في جميع المشاكل الكبيرة والصغيرة التي اعترضت الأساقفة في علاقاتهم مع زملائهم ومع الإكليريكيين الخاضعين لسلطتهم؛ ومن هنا هذا الاشتراع الكبير في المسائل الإكليريكية الذي تركه يوستنيانوس للخلف الصالح، والذي لا يزال المرجع الرئيسي في القانون الكنسي حتى يومنا هذا.
28
ولم يكتف هذا الرجل الفذ في تنفيذ قرارات المجامع المسكونية باقتباس نصوصها وجعلها جزءا من إراداته السنية، بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا، فاتخذ لنفسه صلاحية التفسير وكيفية التطبيق دون أن يستند في ذلك إلى أية سلطة كنسية.
29
يوستنيانوس وتقدم رومة
وكان يوستنيانوس شديد الإيمان بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، فما إن تبوأ خاله عرش الإمبراطورية حتى عمد إلى إزالة الانشقاق بين كنيسة رومة الجديدة وكنيسة رومة القديمة، واعترف يوستنيانوس ببطاركة خمسة: بطريرك لرومة القديمة، وآخر لرومة الجديدة، وثالث للإسكندرية، ورابع لأنطاكية، وخامس لأوروشليم،
30
وخص بطريرك رومة القديمة بلقب بابا، فخاطبه إما بهذا اللقب وحده أو باللقبين بابا وبطريرك، وجاء في أحد القوانين الصادرة عنه أن أبرشية رومة الجديدة تأتي بعد أبرشية رومة القديمة، واعتبر بابا رومة القديمة في إحدى الرسائل التي وجهها إليه «رئيس جميع الكنائس المقدسة»
caput omnium sanctarum ecclesiarum ،
31
ولكنه على الرغم من هذا كله ظل يعتبر نفسه مسئولا عن الدولة والكنيسة، ورئيسا لهذه كما كان لتلك.
32
ثيودورة
وحرص يوستنيانوس أن يعلم كل شيء ، وأن يدقق في كل شيء، وأن يقر كل شيء، وكان شديد الإعجاب بمواهبه ومؤهلاته، لا يسمح لأحد من رجاله أن يعارضه في أمر، ولكنه على الرغم من التظاهر بالعزم والحزم والثبات فإنه كان في قرارة نفسه مترددا شديد التأثر بآراء الحاشية، ولا سيما زوجته ثيودورة.
33
ويقول بروكوبيوس المؤرخ في كتابه عن أسرار هذه الحقبة إن ثيودورة هذه تلطخت منذ حداثتها بفساد المحيط حولها؛ لأنها نشأت في مسارح القسطنطينية ابنة لمروض الدببة،
34
ويقول شارل ديل الإفرنسي إن ثيودورة شغلت العاصمة فألهتها، لا بل فتنتها، ثم جرت الخزي عليها،
35
ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن بروكوبيوس كتب ليحطم يوستنيانوس وزوجته، وأنه بالتالي راو مغرض لا تقبل شهادته بدون تبصر وروية، ويجب ألا ننسى أيضا أن ثيودورة ترصنت بعد طيشها، وأنها أخرجت زوجها في كثير من الأحيان من مآزق حرجة.
والمهم هنا هو أن نذكر ما كان لثيودورة من التأثير على زوجها، وألا ننسى أنها قالت بالطبيعة الواحدة وعطفت على من شاركها هذا القول، وأنها ربما عرفت سويروس الأنطاكي قبل زواجها من الإمبراطور، وأننا نجدها «عظيمة» في جميع المراجع المونوفيسية.
36
اضطهاد غير المسيحيين
وأدى شعور يوستنيانوس بالمسئولية الدينية الملقاة على عاتقه بصفته إمبراطورا مسيحيا أرثوذكسيا، إلى أن يأمر بالتضييق على رعاياه غير المسيحيين ليصيروا مسيحيين، وبدأ بهذا التضييق منذ أن شارك خاله يوستينوس في الحكم، فحرم الوثنيين والسامريين والهراطقة حق الانتفاع من إرث آبائهم وأجدادهم، وحق توريث من لم يكن أرثوذكسيا،
37
ثم حرم الكفار واليهود حق الشهادة على الأرثوذكسيين أمام المحاكم،
38
وحق استرقاق الأرثوذكسيين،
39
وأردف هذا كله بقانون آخر منع به المانويين والوثنيين والسامريين من الاستفادة من أي حكم قانوني،
40
ورأى ضروريا أن يقضي على عقائد الوثنيين وفلسفاتهم، فأمر في السنة 529 بإقفال جامعة أثينة، فآثر دماسكيوس وزملاؤه الأساتذة النفي على التنصر، فأموا بلاط كسرى وعاشوا في كنفه، وما فتئوا حتى انتهت الحرب الفارسية (532) فقبل يوستنيانوس بعودتهم إلى أوطانهم آمنين.
41
ونفذ يوستنيانوس قوانينه هذه بشدة وقساوة، واستعان في الوقت نفسه بالرهبان لوعظ الوثنيين وتبشيرهم، فانتدب يوحنا الأفسسي أو الأسيوي لتبشير الوثنيين في جبال أزمير وأفسس، فأحرز يوحنا نجاحا عظيما وهدى ثمانين ألفا، وأنشأ تسعا وتسعين كنيسة واثني عشر ديرا.
42
ولد يوحنا في الأرجح في بلدة أكل من ولاية آمد حوالي السنة 507، وشارف الموت وهو طفل، فدعا له وشفاه مارون الناسك العمودي في دير أرعاربتا في أجل، فلما بلغ الرابعة أرسله أهله إلى الدير عملا بأمر مارون، فأقام فيه حتى الخامسة عشرة، وتوفي الناسك فانضم يوحنا إلى رهبان مار يوحنا الأورطي، فدرس الأسفار وأجاد اللغتين اليونانية والسريانية، (وفي السنة 521) حين اضطهاد الرهبان وتشريدهم خرج يوحنا معهم.
43
ثم أم القسطنطينية لينال عطف ثيودورة وينضم إلى مار زعورا
Zooras
ورفاقه، والظريف اللطيف في هذا المبشر أنه لم ينقل إلى الموعوظين شيئا من التعليم بالطبيعة الواحدة.
44
وعلى الرغم من التضييق والتبشير، فإن الوثنية ظلت عائشة مدة غير يسيرة، فالرها كانت وثنية في معظم سكانها في السنة 540،
45
والشرطة ضبطت في زوايا العاصمة في السنة 562 عددا من كتب السحر، فأوقفت خمسة من كهنة الأوثان؛ واحدا من أثينة، واثنين من أنطاكية، واثنين من بعلبك، وشوهتهم ثم أركبتهم الجمال عراة، ودارت بهم في شوارع العاصمة وأحرقت كتبهم،
46
ولدينا من الأدلة ما يجعلنا نعتقد أن هياكل بعلبك بقيت وثنية تقام فيها الذبائح حتى السنة 580،
47
وأن شيئا من الوثنية بقي لاحقا بمصر حتى أوائل القرن السابع.
48
واحترم الإمبراطور يوستنيانوس حقوق اليهود المدنية، وأذن لهم بحرية العبادة وإقامة الشعائر الدينية، ولكنه لم يسمح لهم بالشهادة أمام المحاكم على المسيحيين الأرثوذكسيين، ولم يأذن لهم بشراء أي شيء له علاقة بالكنيسة والكنائس، وادعى أن عددا كبيرا من اليهود لا يفقهون العبرية، فأمر باستعمال الترجمة السبعينية أو ترجمة أكويلة
Aquila ، ثم تدخل في أمور العقيدة فحرم القول بالذفتيروسيس
Deuterosis (نكران اليوم الآخر وقيامة الموتى)،
49
وأمر بقطع من يقول هذا القول واعتباره وثنيا غير يهودي.
واتخذ السامريون موقفا معاديا من المسيحيين ودولتهم واعتصموا بجبال فلسطين، فأمر يوستنيانوس بتدمير معابدهم،
50
فثاروا في السنة 529 ونادوا بيوليانوس إمبراطورا،
51
فاضطر والي الشرق أن يجهز جيشا لمحاربتهم، فاستعان بالقبائل العربية وطوقهم تطويقا، وقتل منهم عشرين ألفا وسجن عشرين ألفا آخرين وأمر بيوليانوس فقطع رأسه،
52
ثم ثاروا ثانية في السنة 555 فذبحوا إسطفانوس برو قنصل فلسطين وعددا من النصارى، ونجسوا الكنائس وأحرقوها، فأخضعوا ثانية وصلب زعماؤهم صلبا.
53
التضييق على الهراطقة
أبعد يوستنيانوس الهراطقة عن الوظائف والمهن الحرة، ومنع اجتماعاتهم وأغلق كنائسهم كما سبق وأشرنا، وحرمهم حقوقهم المدنية قائلا: «يكفي هؤلاء أن يؤذن لهم بالعيش.»
ولم ينج من هذا التضييق سوى المونوفيسيين ولا سيما السويريين منهم، فيوستينيانوس رأى التفاهم مع هؤلاء ممكنا على أساس الاستمساك بنص الدستور النيقاوي وتفسيره على طريقة كيرلس الإسكندري، ولمس في الوقت نفسه قوتهم المتزايدة في مصر، فرهبانهم هناك ألفوا جيشا متراصا مستعدا لتنفيذ أوامر البطريرك. ولا يخفى أن يوستينيانوس كان مؤمنا مخلصا يقول بكنيسة واحدة جامعة، وأنه كان لاهوتيا واسع الاطلاع أخذ علمه هذا عن يد قطب أهل اللاهوت آنئذ وعميدهم لاونديوس الكبير،
54
ومما تجب الإشارة إليه أن المؤرخين المونوفيسيين لمسوا إخلاص يوستينيانوس في معالجة قضيتهم، فلم يهملوا الإشارة إلى ورعه واهتمامه بالفقراء.
55
وزينت ثيودورة لزوجها وحسنت، فأشارت عليه منذ وصوله إلى العرش أن يسمح بعودة الرهبان المونوفيسيين والأساقفة من منافيهم إلى أوطانهم ففعل، وعاد منذ السنة 531 إلى آمد والرها جميع الرهبان المونوفيسيين الذين كانوا قد لجئوا إلى البادية،
56
ثم حببت إليه إقامة بعض الرهبان المونوفيسيين في العاصمة فسمح بهذا أيضا، وأم العاصمة أساقفة مونوفيسيون ثمانية وعدد كبير من الرهبان، وانتظم هؤلاء برعاية ثيودورة وإدارة مار زعورا
Zooras
في دير ما وراء القرن الذهبي أقيمت فيه الصلوات بحضور الإمبراطورة وحاشيتها.
57
مؤتمر في القسطنطينية (533)
وركن المونوفيسيون إلى يوستنيانوس، فرفعوا إليه طلبا ضمنوه بيانا بمعتقدهم، فتراءى للإمبراطور أنه بإمكانه أن يعيدهم إلى الإيمان القويم بواسطة مؤتمر يضم ممثلين عنهم وعن الكنيسة الأم، ودعا الإمبراطور إلى هذا المؤتمر ستة أساقفة عن كل جانب، ووجه دعوة خصوصية إلى سويروس الأنطاكي زعيم المونوفيسيين، ولكن سويروس اعتذر ولم يحضر.
وعقد هذا المؤتمر جلساته في قصر الهورميذدة في السنة 533 فترأس الجلستين الأولى والثانية قومس العطايا
Comes Sacrarum Largitionum ، وشرف الثالثة والأخيرة الإمبراطور بشخصه ، ووافق الأساقفة الشرقيون المونوفيسيون زملاءهم ممثلي الكنيسة الأم على شجب أقوال أوطيخة، ووجوب دعوة المجمع المسكوني الرابع للنظر في البدعة في خلقيدونية، ثم اختلفوا في الجلسة الثانية حول القول بالطبيعتين، فأقام المونوفيسيون شهادة ديونيسيوس الآريوس باغوسي وأشاروا إلى مؤلفات نسبوها إليه لأول مرة في تاريخ الفكر اليوناني، ثم أبرزوا نصوصا أخرى اعتبرها زملاؤهم الأرثوذكسيون مزورة، وعبثا حاول يوستنيانوس في الجلسة الثالثة التقريب بين الطرفين، ولم يعترف بصحة موقف الكنيسة الأم من جميع الأساقفة المونوفيسيين سوى فيلوكسينوس أسقف دولك، وأصر الخمسة الآخرون على شجب تساهل المجمع الخلقيدوني في أمر إيبا وتيودوريطس.
58
أحد الثالوث تألم في الجسد
Unus de Trinitate passus
وتابع الإمبراطور سعيه للتقريب بين المونوفيسيين والأرثوذكسيين، فأصدر في الخامس عشر من آذار سنة 533 وفي السادس والعشرين من هذا الشهر نفسه أيضا إرادتين سنيتين إمبراطوريتين أبان فيهما موقفه من النزاع القائم حول الطبيعة الواحدة والطبيعتين، فأهمل ذكر أي مجمع مسكوني وتحاشى الإشارة إلى «الطبيعتين»، وأكد وحدة شخص السيد المسيح على طريقة الرهبان السكيتيين الذين قالوا بتألم الإله
Theopaschites ،
59
فأغضب الرهبان الذين «لا ينامون»
Akoimetoi
60
ولم يرض المونوفيسيين!
ونظر البابا يوحنا الثاني في هذا النص اليوستنياني بناء على طلب الإمبراطور نفسه، وشاور الشماس الأفريقي فران
Ferrand ، ووافق على نص الإرادة الإمبراطورية ومضمونها، وشجب موقف الذين لا ينامون.
61
سويروس ويوستنيانوس (535)
وكدت ثيودورة للمونوفيسيين وسعت، فعلمت بقرب أجل تيموتاوس الثالث بطريرك الإسكندرية، فأرسلت في مطلع السنة 535 أحد خدامها الخصي كالوتيخيوس
Kalotychios
إلى مصر، فحض السلطات فيها على مساعدة ثيودوسيوس الشماس أحد تلاميذ سويروس الأنطاكي،
62
وفي شهر حزيران توفي أبيفانيوس بطريرك القسطنطينية، فتدخلت ثيودورة وجعلت زوجها والأساقفة يوافقون على سيامة أنثيموس أسقف طرابزون بطريركا على رومة الجديدة، وكان أنثيموس هذا يتظاهر بالأرثوذكسية ويبطن القول بالطبيعة الواحدة، فلما تبوأ العرش القسطنطيني وجه رسالته السلامية إلى سويروس وثيودوسيوس معتبرا كلا منهما أسقفا شرعيا، متناسيا خلع سويروس عن عرش أنطاكية، وقيام إفراميوس بطريركا أرثوذكسيا على سدة الرسولين.
63
وكان يوستنيانوس قد دعا كلا من: سويروس الأنطاكي وتيموثاوس الإسكندري إلى التشاور في أمر الاختلاف القائم، فاستوفى تيموثاوس أنفاسه وطاحت روحه، وقام سويروس يلبي الدعوة في صيف السنة 535، فنهض إلى القسطنطينية وأقام فيها سنة كاملة، واستصحب سويروس تلميذه بطرس أسقف أبامية للتعاون في الإقناع والتبشير، وبينما كان سويروس وبطرس يسعيان لاجتذاب الشخصيات الإكليريكية العالية، كان مار زعورا يطلق لنفسه عنان هواه في الأوساط الشعبية، وغلا وجاوز الحد فعمد أبناء بعض العائلات المعروفة في يوم عيد الفصح في الثالث والعشرين من آذار السنة 536،
64
وطبع الله على بصيرة مونوفيسي آخر إسحاق الفارسي فتجرأ وثقب عيني الإمبراطور في إحدى صوره الزيتية؛ لأنه «لم يرض عن فتوره»!
65
البابا أغابيتوس
وكان ثيوداتوس ملك القوط قد طلب إلى أغابيتوس بابا رومة أن يفاوض يوستنيانوس في سياسته ومطامعه في إيطالية، ووصل أغابيتوس إلى القسطنطينية في الثاني من شباط سنة 536 فاستقبل استقبالا حافلا حارا، وآثر البابا الدين على السياسة، وكان رجلا تقيا جليلا، فعلم بما في الزوايا من خبايا، فدعا أساقفة القسطنطينية ومقدمي الكهنة فيها إلى مجمع محلي برئاسته، وقطع فيه أنثيموس ومن شاركه رأيه، ثم انتخب الإكليروس والإمبراطور والشعب ميناس بطريركا على القسطنطينية،
66
وفر أنثيموس ولجأ إلى القصر واختبأ فيه اثنتي عشرة سنة،
67
وأصغى أغابيتوس إلى شكاوى رهبان العاصمة ورهبان سورية وفلسطين من سياسة سويروس واعتداءاته، فاقترح عقد مجمع ينظر في هذه الشكاوى وفي قضية أنثيموس وغيرها، ووافق الإمبراطور، ولكن أغابيتوس انصرف إلى جوار ربه في الثاني والعشرين من نيسان.
قطع سويروس الأنطاكي
والتأم مجمع في القسطنطينية في الثاني من أيار سنة 536 برئاسة ميناس البطريرك الجديد، وعضوية أساقفة الكرسي القسطنطيني، وأساقفة الوفد الروماني، ووكيلي بطريرك أنطاكية وبطريرك أوروشليم. ودعا المجمع أنثيموس للدفاع عن نفسه أولا وثانيا وثالثا، فلم يحضر، فجرد من صلاحياته الروحية بما في ذلك صلاحيات الكهنوت وخلع وقطع، وبعد الاتصال بالإمبراطور قطع سويروس الأنطاكي وأبطلت مصنفاته، وقطع أيضا بطرس أسقف أبامية السابق والراهب مار زعورا،
68
وفر سويروس والتجأ إلى مصر ثانية، فلم يرض اليوليانيون عنه، فاختبأ في إحدى القرى، وما فتئ أن لفظ أنفاسه في السنة 538.
69
وأصر مار زعورا وإخوانه الرهبان المونوفيسيون على البقاء في القسطنطينية، فطردوا منها طردا.
70
إفراميوس بطريرك أنطاكية (527-545)
وخلف إفراسيوس في الكرسي الأنطاكي إفراميوس الآمدي، وكان إفراميوس قومس الشرق فاضطر أن يتدخل في شئون أنطاكية السياسية في السنة 525 ليقضي على مشادة عنيفة كانت قد نشبت بين الزرق والخضر، فأعجب الأنطاكيون باتزانه وعدله وجمال خلقه، وقام في سلفكية الساحلية (السويدية) أثر يشيد بفضل هذا القومس العادل،
71
ثم دهمت أنطاكية بزلزال السنة 526 وتهدمت بيوتها وأبنيتها العمومية وكنائسها، وتوفي أسقفها إفراسيوس تحت الأنقاض، فجاءها القومس إفراميوس مرة ثانية يعينها على النهوض من كبوتها، فتعلق الناس به ورأوا في شخصه خلفا صالحا للرسولين، فسيم أسقفا على أنطاكية في نيسان أو أيار السنة 527،
72
وكان إفراميوس أرثوذكسيا صادق العهد وفيا ملما بالعلوم الإلهية مؤلفا كاتبا،
73
فدافع عن الأرثوذكسية دفاعا شديدا.
وكان يوستنيانوس لا يزال ينفق في سبيل إنهاض أنطاكية من الكبوة التي حلت بها بعد زلزالي السنة 526 و528، فلما قارب العمل النهاية اقترح القديس سمعان العمودي «الأصغر» على الإمبراطور أن يطلق على أنطاكية الاسم «مدينة الله» تعوذا، فوافق يوستنيانوس على هذا الاقتراح، ولا تزال أنطاكية مدينة الله حتى يومنا هذا. وقام إفراميوس في السنة 531 ينفذ إرادة إمبراطورية يوستينية فطالب بنفي من قال بالطبيعة الواحدة في أنطاكية، فقاومه العوام في ذلك وتدخلت السلطة فجرت حوادث مؤلمة،
74
وما إن صدر قرار المجمع القسطنطيني بقطع سويروس وحرق مصنفاته في السنة 536، حتى هب إفراميوس ينفذ بالشدة التي عرف بها، فأعاد اضطهاد المونوفيسيين وتشريدهم، وجاب البلاد يفتش عن زعمائهم، ووصل إلى حدود فارس جادا في طلب ديونيسيوس أسقف قسطنطينة، فقيل له إنه عبر الحدود والتجأ إلى المرزبان في نصيبين، فاتصل إفراميوس بالمرزبان وتسلم ديونيسيوس وحبسه في دير على باب أنطاكية وشدد عليه، «فصبر هذا على مكروه عظيم» حتى انقضت أنفاسه.
75
وجاء في بعض المراجع أن إفراميوس أمر بإحراق بعض من أصر على غيه ومضى في طغيانه من هؤلاء المونوفيسيين.
76
ويقول ميخائيل المؤرخ السرياني إن إفراميوس سافر إلى الرها محاولا إقناع أهلها بتقبل قرارات المجمع الخلقيدوني، وإنه توجه إلى بلاد فارس وسنجار للغاية نفسها فاجتذب كثيرين، وإنه قصد الحارث بن جبلة وحدثه في الموضوع نفسه ولكنه عجز عن إقناعه.
77
ونجد هذا البطريرك في مطلع السنة 540 متعاونا مع زميله بطرس الأوروشليمي وبيلاجيوس وكيل الحبر الروماني جالسا في غزة فلسطين، ناظرا في قضية بولس بطريرك الإسكندرية.
78
إسطفانوس بار صوديلي والأوريجينية الجديدة
وقام في الرها في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الراهب السرياني إسطفانوس بن صوديلي، يدعو إلى أوريجينية جديدة تستند إلى تعاليم أوريجينس الإسكندري وتقول بشيء من وحدة الوجود، فنبذه الرهاويون وطردوه، فلجأ إلى فلسطين إلى محابس الرهبان إلى رهبان من أهل مذهبه، وكان القديس سابا لا يزال في قيد الحياة فنهى الرهبان عن هذه الأقوال، وكاشف إسطفانوس بار صوديلي بالمقاومة، ورحل إلى القسطنطينية يطلب المعونة للقضاء على الأوريجينية الجديدة،
79
ولكنه ما كاد يعود إلى فلسطين حتى انتقل إلى دار القرار (532)، فضاعف الأوريجينيون جهودهم وبثوا دعايتهم في دير مار سابا نفسه، فقاومهم الساباويون وطردوا أربعين راهبا من رهبانهم اتهموا بالأوريجينية (539)، وشد أزر الأوريجينيين اثنان منهم كانا قد نالا حظوة في عيني يوستنيانوس (536)، فأمر بترقيتهما إلى رتبة الأسقفية، وتدخل هذان الأسقفان ثيودوروس إسكيذاس أسقف قيصرية قبدوقية، ودوميتيانوس أسقف أنقيرة في الأمر، فقضت الإرادة السنية بوجوب إبعاد أشد الرهبان عداوة للأوريجينية عن دير القديس سابا، فخرج من هذا الدير ستة من كبار الرهبان عرفوا بعداوتهم لبار صوديلي وفلسفته.
والتجأ الستة الكبار إلى إفراميوس بطريرك أنطاكية فقبلهم، وعقد مجمعا أنطاكيا وشجب الأوريجينية، فضغط الأوريجينيون في فلسطين (541) على بطرس بطريرك أوروشليم، موجبين حذف اسم إفراميوس الأنطاكي من الذبتيخة، فأرسل بطرس وفدا إلى القسطنطينية يبين واقع الحال ويرجو اتخاذ موقف واضح من أورويجينس ومؤلفاته، فكان من ميناس بطريرك القسطنطينية أن عقد مجمعا محليا بموافقة الإمبراطور حكم فيه على أوريجينس وتعاليمه.
80
هيرارخية مونوفيسية
وتسابق سويروس الأنطاكي ويوحنا التلاوي إلى حياض المنية، فتوفي الأول في الثامن من شباط سنة 538، وسبقه الثاني بيومين لا ثالث لهما،
81
وكان أنثيموس الطرابزوني لا يزال مختبئا في حمى ثيودورة، وكذلك ثيودوسيوس بطريرك الإسكندرية السابق، فإنه كان مبعدا في تراقية لا يستطيع القيام بأي عمل روحي، فلاحت بارقة أمل للإمبراطور وكبار رجال الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق والغرب معا أن تتقطع حبال السلطة المونوفيسية، فيجيء يوم يصبح فيه المونوفيسيون بدون رؤساء روحيين يدبرون أمورهم.
ولكن ثيودورة ظلت تداهن وتصانع فتمكنت من نقل ثيودوسيوس الإسكندري من منفاه من ذركوسة تراقية إلى القسطنطينية، وتمكن هو من استصحاب يمينه الأسقف يوحنا (الراهب الفلسطيني)، وما إن تم لثيودورة هذا حتى دفعت بثيودوسيوس ويوحنا إلى الاهتمام برعاية المونوفيسيين في آسية، وسيامة الكهنة ورؤساء الكهنة لخدمتهم وتدبير أمورهم، والواقع أن يوحنا الفلسطيني هذا عبر البوسفور مرارا مستترا بداعي المرض، فجاب ولاية آسية بأسرها متفقدا شئون المونوفيسيين ناظرا في احتياجاتهم.
82
وتفيد المراجع الأولى أن الحارث بن جبلة الأمير الغساني اتصل بثيودورة سنة 543 ورجاها أن تعين أسقفا يرعى شعبه، فأحالت الإمبراطورة طلبه على ثيودوسيوس الإسكندري، فسام هذا ثيودوروس رئيسا على أساقفة بصرى، ويعقوب البرادعي أسقفا على الرها ومتروبوليتا مسكونيا.
83
ويرى ثيودور نولدكه مؤرخ الغساسنة أنه ليس ثمة من أساس تاريخي للعلاقة الأولى بين الحارث الغساني وبين يعقوب البرادعي مؤسس الكنيسة السريانية القائلة بالطبيعة الواحدة، التي تدعى أحيانا كنيسة اليعاقبة؛ ومما يذهب إليه نولدكه أن بعض رجال الاختصاص صبغوا هذه العلاقة بمسحة من الإعجاز
84
لا تتفق والواقع التاريخي، ويؤكد هذا العلامة أن الحارث بن جبلة لم يرحل إلى القسطنطينية في هذه الحقبة، وأن ما جاء من هذا القبيل في كلام المتقدمين والمتأخرين هو خطأ فاضح.
85
ولد يعقوب ابن القس ثيوفيلوس بن معنو في تل موزل، وترهب في دير فسيلتا القريب من مسقط رأسه، وأجاد السريانية واليونانية، وفي السنة 528 رحل إلى القسطنطينية مع من رحل إليها من الرهبان المونوفيسيين، وهو في نظر غبطة بطريرك السريان «أشهر الأحبار ورعا وطهرا، وأكبر المجاهدين الرسوليين في نصرة المعتقد القويم ونخبة النساك الصوامين القوامين ذوي الصلاح والدين المتين».
86
وما كاد يعقوب البرادعي يصير أسقفا على يد ثيودوسيوس، حتى طفق يطوف متنكرا مرشدا مشجعا مؤسسا ، ومما يروى عنه أنه سام في رحلاته العديدة سبعة وعشرين أسقفا وبضعة آلاف شماس وقس، وأنه زار مصر ورسم فيها اثني عشر أسقفا، وشملت رحلاته آسية الصغرى وسورية وما بين النهرين وفارس ومصر وقبرص ورودوس وغيرهما من الجزر، وأعطى يعقوب المنوفيسيين بعمله هذا ملاكا إكليريكيا خصوصيا، ولكنه مزق كنيسة أنطاكية إذ جعل من الأسقفية الواحدة أسقفيتين، ومن الكنيسة الواحدة كنيستين، وأقام على هذه الحال خمسا وثلاثين سنة فاعتبر بحق أحد مؤسسي الكنيسة السريانية، ونسبت هذه إليه فدعيت يعقوبية وعرف أبناؤها باليعاقبة،
87
وهذه أسماء خلفاء سويروس الأنطاكي حتى الفتح الإسلامي:
سويروس
512-538
سرجيوس
538-562
بولس
564-581
بطرس
581-591
يوليانوس
591-594
أثناسيوس
595-631
يوحنا
631-649
الفصول الثلاثة (544-545)
واتفق أن كان في البلاط ثيودروس أسكيذاس أسقف قيصرية قبدوقية ودوميتيانوس أسقف أنقيرة، وهما الراهبان الفلسطينيان اللذان رحلا إلى القسطنطينية سنة 536 ليدافعا عمن قال بالأوريجينية الجديدة من رهبان فلسطين، فنالا الحظوة لدى الإمبراطور ورقيا إلى رتبة الأسقفية، وبقيا بين العاصمة وآسية، وكان ثيودوروس لا يزال يحقد على بيلاجيوس ممثل رومة، وجيلاسينوس رئيس أخوية القديس سابا؛ لما أبدياه من النشاط في ملاحقة الرهبان الذين قالوا بالأوريجينية الجديدة في فلسطين، فرأى هذا الأسقف الأوريجيني «الباطني» أن يحقر سميه ثيودوروس المبسوستي مقابل تحقير أوريجنس لتعلق جيلاسينوس وأتباعه به وتعظيمهم له، ولا يخفى أن ثيودوروس المبسوستي كان قد انتقد أوريجينس وتفاسيره الرمزية.
واستدعت رومة بيلاجيوس عام 543 فأضحى الأسقف ثيودوروس أشد المستشارين أثرا في نفس الإمبراطور، وكانت ثيودورة لا تزال تداور زوجها وتدامله لتصلح بينه وبين جماعتها المونوفيسيين، فشجعت ثيودوروس على موقفه من سميه المبسوستي ونصحت إليه أن يطلع زوجها على رأيه، فانتهز ثيودوروس ظرفا ملائما في إحدى سهراته في مكتبة القصر، ولفت نظر يوستنيانوس إلى إمكانية كسب المونوفيسيين بشجب مصنفات النساطرة الذين تبرءوا في المجمع الخقيدوني،
88
فأصغى يوستنيانوس إليه، ثم شاور نفسه فصوب رأي ثيودوروس، وأصدر إرادة سنية جديدة حرم فيها تعاليم ثيودوروس الموبسوستي وثيودوريطس القورشي وإيبا الرهاوي.
وجاءت هذه الإرادة الإمبراطورية في ثلاثة فصول، ومن هنا القول الفصول الثلاثة، وقد ضاع نص هذه الإرادة ولم يبق منه سوى بعض شذرات منثورة هنا وهناك، ويعود الفضل في جمع هذه الشذرات إلى العلامة شوراتز الذي عانى مشقة في مضاهاة النصوص الباقية وضمها بعضها إلى بعض ليؤلف منها مجموعا موحدا متسلسلا متواصلا.
89
ولا يخفى أن ثيودوروس الموبسوستي جعل من اتحاد الكلمة بالناسوت في المسيح مجرد سكنى وتلطف ومسرة
eudoxia ، لا اتحادا في الجوهر
ousia ، فأصبحت السيدة في نظره أم إنسان
anthropotoxos
وأم إله
theotoxos ! وأهم ما أخذ على ثيودوريطس القورشي اعتراضه على البند الثاني عشر من بنود كيرلس الإسكندري، الذي نص على أن «الله الكلمة تألم وصلب ومات في الجسد». أما إيبا الرهاوي فإنه نقل تعاليم ثيودوروس إلى السريانية، وفند أعمال مجمع أفسس في رسالة وجهها إلى ماري أسقف أردشير.
90
وطلب يوستنيانوس إلى جميع الأساقفة في الشرق والغرب معا أن يوافقوه على شجب هذه المصنفات والأقوال، فتردد إفراميوس بطريرك أنطاكية مدة ثم وافق قبيل وفاته،
91
ولم يرض أساقفة الغرب عن هذه الفصول، وجاراهم في ذلك البابا فيجيليوس، وكتب أسقف قرطاجة إلى الإمبراطور أنه لا يجوز إيقاع الحرم بشخص بعد موته، واستخف المونوفيسيون بعمل الإمبراطور؛ لأن نص الإرادة بتحريم الفصول الثلاثة حوى أيضا تحريما مماثلا لمن فكر في إبطال مقررات المجمع الخلقيدوني.
92
فاستدعى يوستنيانوس البابا إلى القسطنطينية، فحضر إليها وانتهى بالنزول عند إرادة الإمبراطور، فأنشأ رسالته المعروفة بالجوديكاتوم
Jvdicatvm ، وفيها شجب الفصول الثلاثة (548)، ولكن أساقفته انتقضوا عليه وعينوا له وقتا للندامة، فلبث فيجيليوس في القسطنطينية ورجع عن قوله في الجوديكاتوم، ثم أصدر يوستنيانوس أمرا ثانيا (551) بشجب الفصول الثلاثة وطلب الموافقة عليه، فأبى فيجيليوس ودخل كنيسة القديس بطرس في قصر الهورميزدا واحتمى بها مستمسكا بعمود المائدة، فسحبه الجند بالقوة فانسحب العمود معه وسقطت المائدة.
93
دومنينوس البطريرك (545-559)
وتوفي إفراميوس في السنة 545 فاهتم يوستنيانوس للأمر اهتماما بالغا، وأخذ يبحث بنفسه عن خلف صالح للرسولين في أنطاكية، فتقدم عدد من الكهنة مرشحين أنفسهم لهذا المنصب الكبير، واتفق أن أم العاصمة آنئذ دومنينوس
Domninos
رئيس إحدى المؤسسات الخيرية في ليخنيذس
Lychnidos
في تراقية، وما إن تعرف الإمبراطور إلى شخص هذا الرجل الصالح الوقور، حتى أوعز بانتخابه بطريركا على أنطاكية العظمى . وهو ذومنينوس لاذومنوس بدليل الكتابة اليونانية التي أنشئت في الجوانية لذكر هذا الراعي الصالح في السنة 554،
94
ولنا في كره السريان له واعتباره «أكولا نهما لا يعمل شيئا سوى ركوب الخيل والاضطهاد»، دليل على اندفاعه الشديد في سبيل المحافظة على الإيمان القويم.
95
المجمع المسكوني الخامس (553)
ورأى يوستنيانوس أن يضع حدا للنزاع حول الفصول الثلاثة، فشاور في الدعوة إلى مجمع مسكوني خامس ينظر في هذا النزاع ويبت فيه، وتوفي في أثناء المشاورة ميناس بطريرك القسطنطينية، فخلفه أفتيشيوس الراهب البونطي، وأعلن أفتيشيوس تسلمه عكاز الرعاية إلى البابا فيجيليوس المقيم في القسطنطينية (6 كانون الثاني 553)، وأرفق رسالته السلامية هذه ببيان بالإيمان موقع منه ومن أبوليناريوس بطريرك الإسكندرية، وذومنينوس بطريرك أنطاكية، وإيليا رئيس أساقفة تسالونيكية،
96
ولمس فيجيليوس أرثوذكسية زملائه لمس اليد، فوافق على الدعوة إلى مجمع مسكوني ينعقد برئاسته لينظر في أمر الفصول الثلاثة.
97
وأحب بابا رومة أن يجتمع المجمع في صقلية أو إيطالية ليضمن أكثرية غربية أفريقية، ولكن يوستنيانوس أوجب المساواة بين البطريركيات الخمس ورومة القديمة ورومة الجديدة والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، وذلك بإرسال عدد مماثل من الأساقفة من كل من هذه البطريركيات،
98
واحتج البابا ولكن الإمبراطور لم يعبأ به.
واجتمع المجمع في القصر البطريركي في جوار كنيسة الحكمة الإلهية في الخامس من أيار سنة 553 برئاسة أفتيشيوس البطريرك القسطنطيني، وعضوية كل من أبوليناريوس بطريرك الإسكندرية ودومنينوس بطريرك أنطاكية ومائة وخمسة وأربعين أسقفا.
وتألف الوفد الأنطاكي من: دومنينوس البطريرك، ودوميتيوس قنسرين، وديونيسيوس سلفكية الساحلية، وتوما أبامية، وثيودوتوس سلفكية أسورية، وبولس أدراسوس، وبطرس دوميتيوبوليس، وبطرس طرسوس، وكبريانوس كوريكوس، وقوزمة مالوس، وإيثيريوس عين زربة، وباسكاسيوس إيجة، ونيقيطاس أبيفانية قيليقية، وثيودوروس منبج، ويوحنا قيصرية الجديدة التي على الفرات، ويوليانوس بلقيس
Zeugma ، وأمازون الرها، ويوليانوس سروج
Batnae ، وتوما قرقيسية، وتوما قسطنطينة، ونونوس دوسر، وسرجيوس هيميرية، وكيرياكوس آمد، وثيودوروس إنجل
Ingel ، ويوحنا بصرى، وذوريمانيوس درعة، وأفسابيوس صور، وزوسيموس طرطوس، وأسينكراتيوس أرواد، ولاونديوس عرقة، وإسطفانوس البترون، وثيودوسيوس جبيل، وجاورجيوس عكة، وأنسطاسيوس رخلة
Rachlé ، وأفستاثيوس دمشق، ويوحنا برقش (الغوطة )، وثيودوروس جيرود
Gorada ، وإفلوغيوس مهين
Danaba ، وثيودوروس اللاذقية، وإسطفانوس اللاذقية، وإسطفانوس بانياس الساحلية، ورومانوس جبلة، وإبراهيم الرصافة، وإسطفانوس دارا.
99
وتليت رسالة يوستنيانوس وفيها استمزاج الأعضاء في أمر الفصول الثلاثة، وتلميح إلى أن معظم الأساقفة سبق لهم أن شجبوا تعاليم الأنطاكيين الثلاثة، ثم تقرر أن ينتقل وفد من الأساقفة إلى مقر البابا فيجيليوس ليدعوه باسم المجمع إلى الاشتراك في أعمال المجمع، فقام وفد مؤلف من البطاركة الثلاثة وعدد كبير من الأساقفة واتصلوا بفيجيليوس وأبلغوه قرار المجمع، فشكا البابا من مرض ألم به واستمهل المجمع بعض الوقت قبل القبول أو الرفض، ثم أعاد الوفد الكرة في اليوم التالي فأجاب فيجيليوس أنه لا يشترك في أعمال المجمع ما لم يشترك معه أساقفة إيطاليون آخرون،
100
فترأس المجمع بطريرك القسطنطينية، وأقر جميع أعمال المجامع المسكونية السابقة، وفي الثاني عشر من أيار أو الثالث عشر دقق المجمع قضية الفصول الثلاثة.
101
وفي الرابع عشر من أيار قدم فيجيليوس بابا رومة إلى الإمبراطور مذكرة
Constitutum
102
استعرض فيها موقفه من الفصول الثلاثة، منذ أن أثيرت قضيتها حتى اليوم الذي حرر فيه مذكرته، وأبان فيجيليوس في هذه المذكرة أشياء عديدة لام فيها ثيودوروس الموبسوستي، ولكنه امتنع عن شجب ثيودوروس بعد وفاته، ولا سيما وأنه توفي في حضن الكنيسة الجامعة، وامتنع أيضا عن نبذ ثيودوريطس وإيبا؛ لأن المجمع المسكوني الرابع استمع إليهما وبرأهما من النسطرة،
103
ورفض يوستنيانوس تناول هذه الوثيقة الباباوية مدعيا أنها عديمة الجدوى، مؤكدا أن البابا سبق له أن نبذ الفصول الثلاثة، وأنه إذا دافع بوثيقته الجديدة عما نبذ من قبل يكون قد ناقض نفسه وأضعف حجته.
104
وفي السابع عشر والتاسع عشر من أيار عاد المجمع يدقق قضية الفصول الثلاثة، وفي الثاني من حزيران في الجلسة الثامنة الأخيرة، أجمع الأعضاء على نبذ جميع مصنفات ثيودوروس الموبسوستي، وعلى استنكار موقف ثيودوريطس من مجمع أفسس وبنود كيرلس، وأبانوا بوضوح كفر إيبا وإلحاده في الرسالة التي وجهها إلى ماري، واعتبر يوستنيانوس قرارات هذا المجمع ملزمة، وأكره الأساقفة على قبولها، ونفى حاشية فيجيليوس إلى صعيد مصر ، وترأف بالبابا نفسه؛ لأنه كان يشكو من داء الحصى ، فأبقاه في القسطنطينية ولم يبعده عنها، كما جاء في بعض المراجع،
105
وبعد ستة أشهر وافق فيجيليوس على قرار المجمع وحرر بذلك إلى زميله القسطنطيني، وأصدر مذكرة ثانية
Constititum
تنقض ما جاء في الأولى (شباط 554)، وبقي فيجيليوس في القسطنطينية سنة أخرى ولم يبرحها قبل أن نال من الإمبراطور موافقته على نظام جديد لإيطالية، وأقلع إلى رومة ولكنه توفي في سرقوصة قبل أن يصل.
ضلال يوستنيانوس
وتوفيت ثيودورة بداء السرطان في السنة 548، فانكشف أمر أنثيموس البطريرك المونوفيسي، وتبين أنه عند خلعه التجأ إلى الإمبراطورة فخبأته في قصرها، وتبين أيضا أنها أوصت بإكرامه وإكرام غيره من الإكليروس المونوفيسي الذين كانوا قد التجئوا إليها وأقاموا في ظلها، وما إن أدرجت وسوي عليها التراب، حتى استدعى يوستنيانوس إليه كلا من أنثيموس وثيودوسيوس البطريركين المونوفيسيين المبعدين، ظانا أن وفاة حاميتهما ستجعلهما أقل تصلفا من ذي قبل، وأكثر استعدادا للتفاهم مع الكنيسة الأم الجامعة، وتحدث الإمبراطور إلى البطريركين في هذه الأمور، وطلب إلى يوحنا الأفسسي أن يقوم إلى سورية ويجيء بعدد كبير من رهبان الإكليروس المونوفيسي للبحث في التفاهم والوئام، وامتنع يوحنا ولكن منوفيسيا آخر دفع بأكثر من أربعمائة راهب مونوفيسي سوري للقيام إلى العاصمة، وظل هؤلاء زهاء سنة كاملة من الزمن يدخلون العاصمة ويجادلون ثم يخرجون بدون جدوى، وفي السنة 557 وصل إلى العاصمة يعقوب البرادعي ووراءه عدد من الرهبان السوريين،
106
ولكن شيئا من التفاهم لم يتم!
وتوفي ثيودوروس سكيذاس أسقف قيصرية في السنة 558، فتقرب أسقف يافة من يوستنيانوس، وأصبح هو صاحب الرأي في المسائل اللاهوتية عند الإمبراطور، ويرى بعض المدققين أن هذا الأسقف الفلسطيني كان مثل سلفه ثيودوروس أسكيذاس أوريجينيا في الباطن، وأنه اقترح على الإمبراطور إمكانية توحيد الصفوف بالتقرب من مونوفيسيين غير سويريين، فذكر اليوليانيين وشرح موقفهم من السويريين وأشار بإمكانية التفاهم معهم.
107
وهكذا فإننا نرى يوستنيانوس يصدر في السنة 562 إرادة إمبراطورية توجب القول بالطبيعتين، وتنذر المخالفين بأشد العقوبات، فيطمئن بها الإرثوذكسيين، ثم يعمل بنصيحة أسقف يافة ، فيعمم في السنة 564 البراءة الأفثرتوذوقية
Aphthartodocetisme ، ويؤكد مع اليوليانيين المونوفيسيين أن جسد المسيح لا يتعب ولا يتألم ولا يفسد! ويعتقد فيما يظهر أنه بعمله هذا إنما يفسر الخريستولوجية الخلقيدونية على طريقة كيرلس الإسكندري.
108
واضطرب أساقفة الكنيسة الجامعة وانزعجوا، فكتب أسقف ترير
Trier
من وادي الرين يؤنب الإمبراطور لسقوطه في أثناء الشيخوخة مع نسطوريوس وأوطيخة اللذين أنكرا على السيد ألوهيته،
109
ولا نعلم موقف البابا يوحنا الثالث، ولكننا نعلم العلم اليقين أن أفتيشيوس بطريرك القسطنطينية لمس ضلال يوستنيانوس لمس اليد، وامتنع عن الموافقة على مضمون البراءة الإمبراطورية، فأمر الإمبراطور بحبسه وإبعاده، وأوعز بانتقاء وكيل البطريرك الأنطاكي المحامي يوحنا السرميني
Sirimis
خلفا له، وكان هذا عالما فاضلا وقانونيا قديرا، ولد في سرمين في سورية الشمالية، وتلقى علومه في أنطاكية، ثم عين وكيلا عن الكرسي الأنطاكي لدى البلاط الإمبراطوري، وقبل يوحنا السرميني الدعوة ولكنه اشترط في الموافقة على البراءة الأفثرتوذوقية موافقة البطاركة الآخرين، ولا سيما بطريرك أنطاكية موكله الكبير.
110
أنسطاسيوس بطريرك أنطاكية (559-570)
وكان ذومنينوس قد توفي في السنة 559، فتولى السدة البطريركية بعده أنسطاسيوس الراهب السيناوي الذي كان وكيل البطريرك الإسكندري في أنطاكية، وكان أنسطاسيوس قد اشتهر بالورع والتقوى وصحة الإيمان والفضل، وكان قد أتقن أيضا العلوم الدينية فبلغ منها موضعا جليلا، وأصبح عالم عصره يرجع إليه في المشكلات،
111
فلما صدرت الإرادة الأفترتوذوقية سنة 564، وطلبت الحكومة إلى الآباء تأييدها، اتجهت الأنظار إلى أنطاكية للفصل بين الحق والباطل، فدعا أنسطاسيوس في السنة 565 إلى مجمع محلي في أنطاكية، فلبى الدعوة مائة وخمسة وتسعون أسقفا، وأجمعوا على رفض الأفترتوذوقية وعلى الكتابة بذلك إلى الإمبراطور، واستعد أنسطاسيوس للنفي وأعد عظة الوداع، ولكن المنية عاجلت يوستنيانوس (565) فظل أنسطاسيوس يدير دفة الأمور في كنيسة أنطاكية حتى السنة 570 كما سيجيء بنا.
112
يوستينوس الثاني (565-578)
ولم يخلف يوستنيانوس عقبا، ولم يشرك أحدا معه في الأرجوان، ولكنه كان يثق بابن أخته يوستينوس ويستشيره في أمور الدولة، ولمس أعضاء مجلس الشيوخ هذه الثقة وأحبوا يوستينوس، فعولوا على انتخابه فور وفاة الإمبراطور الشيخ، وأدرك يوستنيانوس الثالثة والثمانين ومرض مرضه الأخير ، ولم يفه بكلمة واحدة تنبئ عمن يريده خلفا له في الحكم، وكاد يلفظ أنفاسه في ليلة من ليالي الخريف، فجلس يوستينوس وزوجته صوفية في إحدى نوافذ قصرهما التي تطل على البوسفور وباتا ينتظران، وعند الفجر أبلغهما الرسول وفاة الإمبراطور ورجاء مجلس الشيوخ أن يتوليا دفة الأحكام، وقضت التقاليد بأن يرفض يوستينوس الرجاء ففعل، ثم قبل وذهب توا إلى القصر (14 تشرين الثاني، 565)، وخرج منه مرتديا الأرجوان، متزينا بالجواهر التي اقتنصها بليساريوس من القوط، فرفعه الجند على الترس معلنين بذلك موافقتهم، ثم أيدته الكنيسة فباركه بطريرك العاصمة ووضع التاج على رأسه.
113
وكان يوستينوس نشيطا مجتهدا شجاعا جريئا، فامتنع عن أن يؤدي المنح السنوية للبرابرة، «وكانت قد بلغت ثلاثمائة ألف ليرة ذهبا»، وأعاد العناية بالجيش واهتم بالمالية، وحاول محاولة صادقة في إزالة الهم والعناء عن جميع الرعايا، ولكن الحوادث تتالت قوية عنيفة فجاءت بما لم يشته وكعمته كعما، وكان يوستينوس على مزاياه شامخا متغطرسا تعوزه الحيلة، وفي أواخر السنة 573 أصيب في عقله إصابة ظاهرة، فتصدت زوجته صوفية للقيام بأعباء الحكم، مستعينة بقومس الحرس طيباريوس الأمين، ثم إن يوستينوس تبنى طيباريوس، وفي السابع من كانون الأول سنة 574 أعلنه قيصرا، فصرف طيباريوس الأمور باسم سيده أربع سنوات متتاليات، إلى أن قضى يوستينوس فانفرد بالحكم.
تثليث الآلهة
وأدى الشقاق إلى التطرف فالضلال، فإن واحدا من أبامية اسمه يوحنا أسكوصناغ
Askusnagès
علم في القسطنطينية في السنة 557 بأن المسيح له طبيعة واحدة، وأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة له طبيعة واحدة خاصة، فقطع ونفي وتوفي، وانقسم أتباعه فعلم يوحنا فيلوبونوس
الأستاذ الإسكندري بتثليث الآلهة
Tritheisme ، وقال بفناء جسد الإنسان بحسب الهيئة والمادة معا، وعلم كونون
Conon
أسقف طرسوس بأن جسد الإنسان فان بحسب الهيئة فقط، وذهب دميان أحد بطاركة الطبيعة الواحدة في الإسكندرية إلى القول بتربيع اللاهوت، أي إنه اعتبر وجودا خاصا لكل واحد من الأقانيم الثلاثة، ووجودا رابعا عاما للثلاثة معا.
114
يوستينوس الثاني والكنيسة
وعلى الرغم من فشل يوستنيانوس في سياسة التودد إلى من قال بالطبيعة الواحدة، فإن يوستينوس لم يغير شيئا من خطة خاله الكبير، فظل رائده توحيد الصفوف، وظلت وسيلته إما مساومة في العقيدة أو ضغطا في الإدارة، ولم تختلف صوفية زوجته عن نسيبتها ثيودورة، فالاثنتان قالتا بالطبيعة الواحدة على طريقة سويروس الأنطاكي، والاثنتان أيدتا المونوفيسيين بما أوتيتا من حكمة ودهاء ومقدرة.
115
وبدأ يوستينوس برنامجه الديني بإرجاع الأساقفة المنفيين إلى أوطانهم، ثم استقبل ثيودوسيوس البطريرك الإسكندري الذي كان لا يزال في المنفى بعيدا عن أبرشيته، بحفاوة فائقة، ولدى وفاته في السنة 566 أمر يوستينوس بدفنه دفنا فخما عظيما،
116
وتصبر فاستمع إلى المثلثين في العاصمة، وإلى أخصامهم المونوفيسيين؛ محاولا الإصلاح وتوحيد الصفوف، ودعت صوفية إلى مؤتمر شبه دائم في القسطنطينية لتقرب وجهات النظر بين الآباء المتخاصمين المتجادلين، فجاء البرادعي وجاء غيره من كبار المونوفيسيين، ودام الاحتكاك الشخصي سنة كاملة (566)، ولكن بدون فائدة،
117
فلجأ يوستينوس إلى البيانات والتحريم والضغط الإداري، وأصدر في السنة 567 أينوتيكونا قضى بنبذ الفصول الثلاثة، وقبول سويروس الأنطاكي، وتجاهل المجمع الخلقيدوني، ولكن المونوفيسيين أصروا على وجوب الاعتراف جهرا بالطبيعة الواحدة،
118
فأمر يوستينوس سفيره في فارس البطريق يوحنا أن يعرج على سورية لدى عودته، ويحاول إقناع الآباء المونوفيسيين بقبول الأينوتيكون والعمل بموجبه، وهكذا فإننا نرى الآباء مجتمعين في الرقة
Callinicum
في السنة 567 للتداول مع يوحنا البطريق في أمر الأينوتيكون، ويلين البرادعي وغيره، ولكن جمهور الآباء ظل مرتابا في كل حل إمبراطوري من هذا النوع، وقام أحدهم وخطف الوثيقة الإمبراطورية من يد القارئ ومزقها، وعاد يوحنا إلى القسطنطينية مخفقا.
119
وأعاد يوستينوس الكرة وألح على التفاهم، وأطلع كبار المنوفيسيين على نص تفاهم جديد قبل إصداره، وفي السنة 571 أبرز الأينوتيكون الثاني، وفيه اعتراف بطبيعة واحدة متجسدة، ولكن في الثيوريا
theoria
فقط، واعتراف بفرق بين طبيعتين إلهية وبشرية، مع اعتراف ضمني بالمجمع الخلقيدوني، واستمرار القطع الذي حل بسويروس الأنطاكي.
120
طيباريوس وموريقيوس
وتسلم طيباريوس زمام الحكم في خريف السنة 574، فأوقف ملاحة المنوفيسيين، وسمح للبرادعي بالخروج من منفاه والعودة إلى القسطنطينية، ولدى وفاة يوحنا بطريرك القسطنطينية أعاد أفتيشيوس من منفاه وسلمه عكاز الرعاية (577)، وعاد أفتيشيوس إلى سابق حماسه في الضغط على المنوفيسيين والتضييق عليهم، فقال له طيباريوس قوله التاريخي: «تمهل فالبرابرة كثر ومحاربتهم أولى.»
121
واتبع موريقيوس هذه الخطة نفسها في موقفه من الكنيسة ومشاكلها، فإنه اتزن واعتدل فحافظ على أرثوذكسيته ولم يتطرف ولم يضيق على المنوفيسيين وغيرهم، وكان قد صادق غريغوريوس الكبير بابا رومة عندما كان لا يزال وكيلا عن رومة القديمة لدى البلاط الإمبراطوري في رومة الجديدة، فأبقى على هذه الصداقة وعززها، واحترم موريقيوس غريغوريوس بطريرك أنطاكية، ويوحنا الصوام بطريرك القسطنطينية، وتعاون معهما تعاونا وثيقا، والغريب أن التقليد السرياني جعل من هذا الإمبراطور قديسا.
122
غريغوريوس بطريرك أنطاكية (570-593)
ولم يتعاون يوستينوس الإمبراطور مع أنسطاسيوس البطريرك الأنطاكي، ولعل السبب في ذلك أن أنسطاسيوس أخلص للعقيدة الأرثوذكسية كل الإخلاص، وأن تصلبه في الدين لم يتفق ومرونة يوستينوس في السياسة، وفي السنة 570 اشتد الخلاف بين العاهلين فاتهم الإمبراطور البطريرك بالتفوه بما لا يليق بالحضرة السنية وبتبذير أموال الكنيسة، فاضطر أنسطاسيوس أن يغادر أنطاكية إلى أوروشليم، فأقيم مكانه غريغوريوس رئيس دير سيناء، فساس الرعية بالتقى وخوف الله حتى وفاته في السنة 593، فأعيد أنسطاسيوس إلى خلافة الرسولين وظل يرعى بالعزم والغيرة حتى الوفاة في السنة 598.
الكنيسة السريانية والكنيسة الملكية
واعتدل خلفاء يوستنيانوس في موقفهم من المونوفيسيين، فتمكن هؤلاء من تنظيم شئونهم واستقروا في الربع الأخير من القرن السادس كنيسة مستقلة، وأطلقوا على الكنيسة الأم الجامعة اسما جديدا شاع في أوساطهم، هو الكنيسة الملكية، أي إنها كنيسة الملك في القسطنطينية.
123
الفصل السادس والعشرون
تنصر العرب
رسالة عالمية
وقال السيد له المجد: «ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني.» وقال بطرس الرسول: «وأما أنتم فشعب مختار وأمة مقدسة.» وهكذا فإنه بعد أن انتصرت النصرانية على الوثنية وعمت البلاد الرومانية بأسرها، اتجهت أنظار الأباطرة والبطاركة إلى ما وراء حدود الإمبراطورية لأداء الرسالة المقدسة وتنصير العالم.
ومن هنا هذا الاهتمام في القرن السادس بالعالم أجمع، وهذه الألقاب «المسكوني» و«المسكونية»، فرب الكون نفسه هو الملك والإمبراطور عبده يحمل رسالة «عالمية» لا بد من أدائها ، والإمبراطور يوستينوس يحمي ذمار النصرانية في كل المسكونة، فيصغي لشكوى نصارى اليمن ويطلب إلى النجاشي المونوفيسي أن يتدخل في تلك البلاد النائية لينصر النصارى على اليهود،
1
ومن هنا أيضا هذا التعاون بين الدولة والكنيسة لتبشير الوثنيين فيما وراء الحدود، وهذا الربط في ولاء الجماهير بين الأباطرة والنصرانية، فكل من اهتدى جعل عهد الله بينه وبين الإمبراطور، وضمن له من نفسه مودة وإخلاصا.
2
النصرانية والعربية
والعربية في عرف رجال الكنيسة هي الولاية الرومانية العربية التي أنشئت في السنة 105 حول مدينة بصرى، فشملت كل ما وقع بين وادي الحسا في الجنوب، واللجا في الشمال، وبين بحر الميت والأردن من الغرب، حتى أطراف البادية في الشرق.
وجاء في التقليد أن يوسي أخا يعقوب ويهوذا بشر في درعا واستشهد فيها، وأن طيمون أحد الشمامسة السبعة بشر في بصرى وتسقف عليها، وأن يوسف الرامي الذي تشرف بتجهيز الرب بشر في المدن العشر في شرقي الأردن.
3
وتنجلي الشكوك وينتفي الريب في مطلع القرن الثالث، فيرن صوت الإنجيل في بصرى، ويقوم أوريجينس الإسكندري إليها لينظر في بعض ما قاله أسقفها بيرلس، ويقول بولس السميساطي قولا لعينا، فيتوافد الأساقفة إلى أنطاكية للنظر في بدعته، فيمثل العربية زهاء سنوات أربع (264-268) مكسيموس أسقف بصرى، ولكن الإقبال على النصرانية يظل بطيئا وتبقى الأكثرية الساحقة وثنية طوال القرن الرابع، فلا يؤم القسطنطينية في السنة 381 للاشتراك في أعمال المجمع المسكوني الثاني سوى خمسة أساقفة فقط؛ أساقفة بصرى ودرعة والسويدا وبراق وشيخ مسكين أو خان النيلة، ثم يرتفع عددهم في المجمع المسكوني الرابع (451) إلى سبعة عشر، فيجلس في خلقيدونية أساقفة درعة، وعينة، وقنوات، وبراق اللجا، والسويدا، وصنمين، وحسبان، وأفتيمية، وجرش، ومادبا، والشقا، وخان النيلة أو شيخ مسكين، ونوى، وعمان، والشهبا، وأذرع.
4
ويتبارى المؤمنون في العربية منذ منتصف القرن الخامس حتى الفتح الإسلامي في ميدان الإنشاء، فيحولون معابد جرش والقنوات وشقا وبصرى الحريري وأذرع إلى كنائس، وينهي بوليانوس متروبوليت بصرى في السنة 512 كتدرائية فخمة جليلة،
5
ويندفع سرجيوس أسقف مادبا في سبيل الإنشاء، فيتم إنشاء كنيسة الرسل في السنة 578، ويؤسس القس لاونديوس في السنة 603 كنيسة جديدة في مادبا، ويكمل ما أنشأه سرجيوس في إليانة،
6
ثم يلتفت إلى صياغة (الدير في الآرامية) فيوفق إلى إكمال كنيستها الكبيرة،
7
ثم تنشأ الكنائس والأديار في كل مكان آخر في طول هذه الأبرشية العربية وعرضها.
8
عرب البادية
ولا نعرف المؤمن البدوي الأول، ولا نعلم متى بدأ عهد النصرانية في البداية، ولعل أقدم أخبار التنصر في البادية رواية نقلها القديس أيرونيموس، تنبئ باحترام عشائر البدو في منطقة غزة لشخص أيلاريون الناسك (291-371)، وتعلقهم به وتنصرهم على يده،
9
ومن أقدم ما يروى من هذا القبيل خبر ماوية البدوية التي حاربت والنس (364-378) وأنزلت به الخسائر الفادحة، وحينما جاء دور الصلح والتفاهم اشترطت أن يكون «موسى» أسقفا على عشيرتها، فوافق والنس وأمر بذلك، فنقل موسى الناسك إلى الإسكندرية ليسام أسقفا على يد لوفيوس الإسكندري، فلم يرض موسى لتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية، فجيء بأسقف نيقاوي فسامه أسقفا، فأقام في البادية يرعى شئون ماوية وعشائرها.
10
ويقول سوزومينس المؤرخ إن راهبا من الرهبان تضرع إلى الله أن يرزق زقوما
Zocomos
شيخ إحدى العشائر الضاربة في البادية ابنا ذكرا، وإن الله استجاب طلبة هذا الراهب، فتنصر الشيخ زقوم وجميع أتباعه، وإن زقوما وقومه أصبحوا أخلص القبائل العربية لرومة في نزاعها مع فارس.
11
وفي أخبار كيرلس البيساني
12
أن جماعة من البدو دخلوا على النساك في منطقة أريحا في أواخر السنة 420، وأن النساك فزعوا وتوجسوا خوفا، فطلب شيخهم الصبيبة
Asdabet
مقابلة رئيس النساك أفتيميوس الكبير، وكان له ولد مقعد «لم تنجح فيه حيل الأطباء ولا رقي الراقين المشعوذين»،
13
فبارك أفتيميوس الولد الكسيح فقام يمشي، فتنصر الصبيبة مع عشيرته، بل أضحى رسولا عربيا بدويا يبشر باسم المسيح، وكلل الله عمله بالنجاح فسامه يوبيناليوس أسقف أوروشليم أسقفا على المضارب (428)، وكان قد اتخذ من بطرس الرسول شفيعا له فسمي الأسقف بطرس، ومثل نصارى فلسطين في مجمع أفسس ووقع هكذا: «بطرس أسقف المضارب»
، وأصبح الكسيح طربون
Terebon
شيخا على العشيرة وخلفه أولاده وأحفاده، وقدر لأحد هؤلاء طربون الثاني أن ينقل هذه الرواية إلى كيرلس البيساني، فخلدت بخلود مصنفه،
14
وقدم النذر عدد من أبناء هذه العشيرة، بينهم ماري الذي ترأس المحبسة في أريحا وتوفي في السنة 448، ولا يخفى أن القديس إلياس بطريرك أوروشليم كان هو أيضا بدويا عربيا،
15
وهدى ننوس
Nonnos
أسقف بعلبك في هذا القرن نفسه ثلاثين ألف بدوي.
16
الغساسنة
وجاء في الأنساب أن الغساسنة رحلوا من اليمن إلى تهامة، وأقاموا فيها بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان فنسبوا إليه، ونزلوا مشارف الشام وفيها الضجاعم من قضاعة، فغلبوهم على ما في أيديهم وأنشئوا لأنفسهم زعامة في البلقاء وحوران في المنطقة التي دعيت العربية، وتنصروا تنصر سائر أبناء هذه المنطقة كما سبق وأشرنا.
وقضى الغسانيون زمنا طويلا والروم لا يكترثون لهم؛ لأنهم لم يحتاجوا إلى نصرتهم، واشتد ضغط البرابرة واستفرس الفرس، فشعر الروم بالضعف ورأوا الفرس يستنجدون عرب الحيرة، فاضطروا إلى استنصار عرب العربية وما جاورها، فاتجهت أنظارهم نحو الغساسنة، وأول من ذكر من أمراء غسان في خدمة الروم جبلة، وقد ورد عنه أنه أخمد ثورة فمنحوه رتبة فيلارخوس وجعلوه عاملا على البتراء، وجبلة هذا هو في نظر ثيودور نولدكه والد الحارث بن جبلة أكبر ملوك غسان وأكثرهم ذكرا في مراجع الروم، وحارب الحارث الغساني المنذر ملك الحيرة سنة 528، واستعانه الروم لإخماد ثورة السامريين ففاز بها، ثم عاون بليساريوس في محاربة الفرس سنة 531، فهابه الروم وأعجبوا بشجاعته وبالغوا في تقريبه وترقيته، فأصبح فيلارخوسا عاما وبطريقا، وفي السنة 541 حارب الحارث في العراق بجانب الروم، وعبر دجلة على رأس جماعته ثم ارتد إلى مركزه السابق عن طريق غير الطريق التي اتبعها الروم، فشك بعض الروم في إخلاصه. وفي السنة 563 سافر الحارث إلى القسطنطينية ليفاوض البلاط فيمن يخلفه من أولاده، وما يجب اتخاذه من التدابير لمقاومة عمرو ملك الحيرة، فكان لما شاهده من مظاهر العظمة وقع عظيم في نفسه، وكذلك فإنه أحدث هو بدوره تأثيرا قويا على سكان العاصمة، ولا سيما على يوستينوس نسيب يوستنيانوس، فلما أصيب يوستينوس هذا بعقله بعد تسنمه العرش كان أهل البلاط يخيفونه بالحارث العربي كلما بدا منه عصيان أو عربدة، فيقولون له: «تعقل سندعو الحارث.»
وناصر الحارث المونوفيسيين ولم يدخر وسعا في الدفاع عنهم وتحريرهم من الاضطهاد، وتمكن في السنة 542-543 من تحقيق رجائه لدى ثيودورة الإمبراطورة بتعيين يعقوب البرادعي ورفيقه ثيودوروس أسقفين في العربية أو غيرها، فتوطدت بذلك دعائم الكنيسة اليعقوبية. ويظهر من أقوال يوحنا الأفسسي أن الحارث سعى لحل المشاكل العقائدية والشخصية بين إكليروس اليعاقبة وإكليروس الكنيسة الجامعة ولكن بدون جدوى، ويرى العلامة ثيودور نولدكه أن الحارث لم يدرك حقيقة المسائل التي كانت تدور عليها تلك المنازعات، وإنما كان مدفوعا بالعامل السياسي لمعاضدة المذهب الذي كانت تتبعه أكثرية الشعب في إمارته.
17
ويجب ألا يغيب عن البال أن أمراء غسان لم يجمعوا على القول بالطبيعة الواحدة، فالدعاء للمنذر بن الحارث الذي وجد منقوشا على حجر في إحدى نواحي تدمر أو النبك يشمل عبارة هامة جدا تنص بما يلي: «واهد الضالين من إخوته إلى معرفة الحق أيها الله تعالى.» فإذا ما ذكرنا أن هذا النص يتضمن أيضا إشارة «إلى الأسقفين المحترمين القديسين» يعقوب البرادعي ورفيقه ثيودوروس، يتبين أن المقصود من ضلال إخوة المنذر انتماؤهم للكنيسة الأرثوذكسية الجامعة وقولهم معها بالطبيعتين.
18
وتوفي الحارث بن جبلة في السنة 569، أو في أوائل السنة 570، فتسلم زمام الحكم بعده ابنه المنذر
Alamundaros ، فهب لمحاربة قابوس ملك الحيرة؛ لأنه كان قد انتهز فرصة وفاة الحارث للإغارة، فانتصر المنذر بن الحارث على قابوس عند عين أباغ في البادية في ربيع السنة 570، ومما تحفظه لنا المراجع عن هذا الأمير الغساني أنه عقد في أوائل عهده مجمعا محليا للنظر في بدعة المثلثين
Tritheisme
وحكم عليهم بالهرطقة، وكان ممن أمضى قراراته «كاهن البطريق المنذر الأمجد ومحب المسيح»، وهو فيما يظهر كاهن بلاط الأمير.
19
ولم يرض الإمبراطور يوستينوس عن المنذر لأسباب نجهلها، فأوعز إلى عامله البطريق مرقيانوس أن يحتال عليه ويقتله، وأحس المنذر بذلك فشق عصا الطاعة، فأغار عرب الحيرة على أملاك الروم، فاسترضى الروم المنذر فلم يرض بالمفاوضة إلا عند قبر القديس سرجيوس في الرصافة لما تمتع به هذا القديس من الإجلال والاحترام عند السوريين.
20
وفي الثامن من شباط سنة 580 وصل المنذر مع اثنين من أبنائه إلى القسطنطينية، فاستقبل فيها استقبالا حارا، وأنعم عليه الإمبراطور طيباريوس بالتاج بدلا من الإكليل، وانتهز المنذر هذه الفرصة فسعى لنيل العفو عن اليعاقبة أصحاب مذهبه. ويرى مؤرخ الغساسنة العلامة ثيودور نولدكه أنه لا يجوز تعليق أهمية كبرى على قول يوحنا الأفسسي (4: 21 و36) إن قبائل العرب في سورية كانت متمسكة متعصبة لمذهب الطبيعة الواحدة؛ «لأن ذلك لم يكن ليحول دون دخول أكثرهم في الإسلام بعد خمسين أو ستين سنة».
21
وفي السنة 580 عزم موريقيوس قومس الأناضول أن يغزو بالاشتراك مع المنذر إحدى ولايات الفرس، وما إن فعل حتى وجد الجسر الكبير على الفرات مهدوما، فارتد خائبا وعزا هذه الخيبة إلى خيانة المنذر وتواطئه مع العدو،
22
وعلى الرغم من عودة المنذر إلى الغزو ووصوله إلى الحيرة وعودته غانما، فإن سلطات الروم ظلت حاقدة حائرة في أمر هذا الأمير، ولعل السبب في هذا يعود إلى الفارق المذهبي وتوتر الأعصاب؛ فالعاصمة وأمهات المدن حوت آنئذ جماعات كبيرة من كبار رجال الإكليروس والشعب، ونظرت شزرا إلى سياسة التساهل مع اليعاقبة، وتاقت إلى تجريد كنائس هؤلاء من حماتها، فصدرت أوامر مشددة إلى مغنوس
Magnus
حاكم سورية بالقبض على هذا الأمير العربي، فأرسل مغنوس إلى المنذر يدعوه إلى حوارين ليشترك في تدشين كنيستها، ولا سيما وأن البطريرك خليفة الرسولين سيرأس الحفلة، فلبى الأمير الدعوة، فألقي القبض عليه وأرسل مخفورا إلى العاصمة. ومن أغرب ما جاء في كلام يوحنا الأفسسي لهذه المناسبة أن الأمير أقام مع «إحدى نسائه» وابنين وبنت له في الأسر، ومما جاء لهذه المناسبة نفسها كلام الأمير الغساني: «ولقد كان في وسع عرب الفرس أن يأسروا نسائي وأولادي.»
23
فهل يجوز القول إنه كان للمنذر عدة نساء، وأن الكنيسة لم تكن تبالي بذلك ما دامت زيجات الأمراء المتعددة غير كنائسية؟! وجرى هذا كله في أواخر عهد طيباريوس، فلما توفي هذا الإمبراطور وخلفه موريقيوس عدو المنذر نفاه ورجلا آخر من كبار الحاشية إلى جزيرة صقلية.
24
وتمرد أولاد المنذر على دولة الروم وأوغلوا في البادية بزعامة كبيرهم النعمان، وأخذوا يشنون الغارة تلو الغارة على أراضي الدولة، وألقوا الرعب في قلوب الحامية في بصرى، واضطروها أن تتخلى عن الذخائر الحربية وأموال أبيهم المحفوظة فيها، فاستعان موريقيوس بأحد إخوة المنذر «الأرثوذكسيين» وألقى القبض على النعمان وأخذه أسيرا، وتصدعت أحوال العرب عند تخوم البادية (584)، وتفككت عرى الوحدة بينهم واختارت كل قبيلة أميرا، ولحق بعضهم بالروم وعادوا إلى حضن الكنيسة.
سمعان العمودي والبدو
وقد يعود الفضل في بدء التبشير في شرقي البادية إلى بعض الأسرى المسيحيين الذي نقلوا إلى الحيرة وغيرها بأمر شابور في السنة 260،
25
ولكن الفضل الأعظم يعود فيما يظهر إلى العمودي الأكبر القديس سمعان الذي بهر نوره في النصف الأول من القرن الخامس، فأضاء البادية بأسرها.
26
ولد سمعان في قرية سيسان بين سورية وقيليقية في الربع الأخير من القرن الرابع، ونشأ راعيا فألف الصمت والتأمل، وما لبث أن حمل عصاه وجرابه وذهب يطرق باب أحد الأديار القريبة، فتردد الرئيس في قبوله لحداثة سنه، ثم أخذ برصانته فقبله، وقضى سمعان الفتى سنتين في هذا الدير ثم انتقل إلى غيره طالبا فقرا أكبر وإماتة عظمى، فكان ما كان من أمر الحبل الذي شده على وسطه فأدماه وقرح جلده، وتفنن سمعان في أساليب القهر والإماتة، فطلب إليه رئيسه أن يترك الدير ويذهب حيث يشاء ليكون حرا في أساليبه ونفسه، فأقام سمعان في صومعة على سفح جبل لا يبعد كثيرا عن أنطاكية، وهنا تعرف إلى الكاهن باسوس الذي كان يتفقد شئون النساك من قبل البطريرك الأنطاكي وينقل إليهم الأسرار الإلهية، ثم رغب سمعان في الصوم أربعين يوما من غير طعام أو شراب، فردعه باسوس مؤكدا أن الله لا يرضى عن الانتحار، فقبل سمعان النصيحة وأبقى في كوخه بعض الخبز والماء، وطلب إلى الكاهن أن يسد عليه باب الكوخ بالحجارة، ففعل الكاهن ومضى، وصام سمعان الأربعين بدون خبز أو ماء، وجاء الكاهن في أسبوع الآلام يحمل القربان المقدس فوجه على الأرض لا يتحرك، فعني به وناوله، ومارس سمعان هذا النوع من الصوم سنين كثيرة، ثم توغل في الجبل وبنى صومعة جديدة بلا سقف، وقيد نفسه بالحديد إلى إحدى زواياها، وأقام فيها عرضة لتقلبات الطقس، فمر به نائب بطريركي فدهش لطريقته ثم قال له مشيرا إلى القيد: «من لم يكن إيمانه قيدا له فلا ينفعه قيد.» فأذعن سمعان ونزع القيد من رجله.
وشرف الله سمعان بالعجائب فأقبلت الناس عليه تبركا وإعجابا، فخشي أن يضيع روح الصمت والصلاة، فتوغل بعيدا وبنى لنفسه عمودا وصعد إليه ليأمن شر الوحوش الضارية ويعيش في العراء، فجد الناس في طلبه من جديد، فرأى في سعيهم إرادة العلي، فجعل عموده منبرا يبشر منه ويردع باسم يسوع، وطار صيته فتوافدت الناس عليه زرافات وبينهم الأمراء والأساقفة طالبين نصيحة أو تعزية أو بركة أو شفاء، وكانوا ينتشرون حوله مشتركين في الصلاة، فيطل عليهم عند العصر مرشدا معزيا شافيا، وأتاه يوما خليفة الرسولين حاملا القربان الأقدس، فناوله بيده وعاد معجبا متخشعا (بتصرف عن سنكسار المطران ميخائيل عساف).
ويروى أن أنطيوخوس بن سبينوس حاكم دمشق قال إن النعمان ملك الحيرة جاء بربعه وحل في بادية دمشق ودعاه لتناول الطعام معه، فقام إليه وما إن استوى بهما المقام حتى سأله النعمان عن سمعان العمودي قائلا: هل هو إله في نظر قومه أم بشر؟ فأجاب أنطيوخوس: إنما هو بشر مثلنا ولكنه يخدم الله. فقال النعمان: لقد طبق صيت هذا الرجل الآفاق، ولقد عظم شأنه بين عشائرنا؛ فإنهم ما فتئوا يفدون عليه زرافات زرافات، وينقادون إلى وعظه وإرشاده، ويخشى شيوخنا أن تؤدي هذه الزيارات المتكررة إلى دخول قومنا في النصرانية وإلى موالاة الروم بدافع الدين، وقد اضطررت أنا بدافع المصلحة أن أحرم على قومي الاتصال بهذا الرجل، مهددا بعذاب الموت كل من تخوله نفسه الالتجاء إلى سمعان والإصغاء إليه، ولكني رأيت في منامي رجلا جليلا يدخل علي ممسكا سيفا ويأمر بجلدي، فيطبق بي خمسة من أعوانه ويجلدوني جلدا، ثم سمعته يقول لي: حذار حذار لما منعت قومك عن زيارة سمعان، أولا تدري أني أقطعك إربا إربا. فألغيت المنع وسمحت باعتناق النصرانية، وقد انتشرت النصرانية بيننا وأصبح لنا أساقفة وقساوسة.
27
وكان سمعان كلما ازداد الناس عليه إقبالا ازداد هو لنفسه تعذيبا وإذلالا، وفوق تعذيبه افتقده الله بأمراض مؤلمة، وسمح بالحط من سمعته والنيل من قداسته، ولكنه كان يصبر ويسكت ويتواضع، بل كان يشكر لأولئك الذين أرادوه بسوء؛ لأنهم على رأيه كانوا يعاملونه كما تستحق آثامه ونقائصه، ثم فاضت روحه في السنة 469، وظنه الناس يصلي فسجدوا حول عموده واشتركوا في الصلاة، وطالت عليهم صلاته يومين كاملين فصعدوا إليه فوجدوه جثة هامدة، فجعلوا ذخائره في كنيسة كاسياني ثم نقلوه إلى كنيسة الاتحاد بالتوبة، وبقي عموده مزارا شهيرا، وبنى الرهبان حوله ديرا وكنيسة لا تزال آثارها تنطق بالعظمة حتى يومنا هذا.
28
أساقفة الحيرة
وتوفي النعمان ملك الحيرة في السنة 418 فتعاقب في الحكم بعده كل من المنذر الأول (418-462)، والأسود (462-482)، والمنذر الثاني (482-489)، والنعمان الثاني (499-502)، فقاسى بعضهم شدة لتنصر قومهم، وحمى آخرون النصارى في فارس عند الضيق ولا سيما المنذر الأول، واشترك أساقفة الحيرة في القرن الخامس في مجامع محلية ترأسها كثوليكوس سلفكية، ووافقوا على مقرراتها فأمسوا من النساطرة.
29
المونوفيسيون والحيرة
وفي مطلع القرن السادس نشط المونوفيسيون لبث دعوتهم في الحيرة، فأمها شمعون الأرشمي وأقام فيها ودعا إلى بدعته، فاستجاب له بعض النصارى وبنى أشرافهم كنيسة أو أكثر، «وكان غيورا جدلا حاذقا دربا»،
30
ثم أوفد سويروس الأنطاكي أسقفين مونوفيسيين في السنة 513 إلى بلاط المنذر الثالث (505-554) ليدعواه إلى القول بالطبيعة الواحدة، ويروى أنه تظاهر بالأسف الشديد عندما تناول حديثهما ميخائيل رئيس الملائكة، فلما سئل عن سبب تأسفه قال أولا يؤسف لموت رئيس الملائكة، فطمأنه الأسقفان مؤكدين أن الملائكة لا تموت، فانتفض المنذر وقال متهكما: وهل يموت الإله المتحد بالمسيح بطبيعة واحدة على الصليب؟ فاكتفى الأسقفان وبقيت الحيرة نسطورية خالصة.
31
وظل المنذر الثالث هذا وثنيا يذبح للعزى ويقدم لها أفضل ما عنده، فقد جاء في بعض المراجع أن هذا المنذر قدم في السنة 544 ذبيحة لهذا الغرنوق بن الحارث الغساني الذي وقع في يده أسيرا في إحدى غزواته،
32
وأنه ضحى بأربعمائة عذراء وقعن تحت براثنه في حمص لمناسبة دخوله إليها.
33
المنذر وخلفاؤه
ومات المنذر فتولى زمام الأمور ابنه عمرو (554-569) وكان مسيحيا، فأنشأت أمه هند الغسانية زوجة المنذر الميت ديرا في الحيرة، ونقشت في صدره بموجب رواية ياقوت العبارات التالية:
بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، الملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيده، في ملك ملك الأملاك خسرو أنوشروان، في زمن مار أفريم الأسقف، فالإله الذي بنت له هذا الدير يغفر لها خطيئتها ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بها وبقومها إلى أمانة الحق، ويكون الله معها ومع ولدها الدهر الداهر.
ويستدل من هذا أن الملك عمرو بن المنذر كان نصرانيا؛ لأن النقش علا صدر الدير في أيام ملكه (554-569)، ويظهر أن النصرانية لم تثبت بعد عمرو، فلما مات رجع خليفته أو المنذر بن المنذر إلى الوثنية،
34
ونشأ ابنه النعمان فيها يذبح للأصنام حتى تنصر على يد الكاثوليكوس صبر يشوع في السنة 594، وجاء في تاريخ ابن خلدون (ج2، ص171) أنه تنصر على يد عدي بن زيد.
35
جزيرة تيران
ومما جاء في المراجع خبر أسقف تيران، وتيران جزيرة عند مدخل خليج العقبة اشتهرت في القرون الأولى بجماركها وسلطتها على التجارة البحرية عبر البحر الأحمر، ومما يروى عنها أنها سقطت في السنة 470 في يد عربي اسمه امرؤ القيس
Amorkesos
قدم إليها من المناطق الخاضعة لفارس، فاحتلها وطرد موظفي الروم منها، ثم ما لبث أن أوفد أسقفا اسمه بطرس إلى الإمبراطور لاوون ليقدم خضوعه، ولينال منه لقب فيلارخوس عرب البتراء. وتذكر المراجع أن الإمبراطور استدعى هذا الزعيم إليه ومنحه السلطة على جزيرة تيران ومناطق غيرها، ثم عادت الجزيرة إلى حكم الروم المباشر بنزول القائد رومانوس فيها عام 498، ولكنها احتفظت بأسقفيتها، فإننا نقرأ في أعمال مجمع أوروشليم المحلي المنعقد عام 536 عن أنسطاسيوس أسقف تيران، ولعله كان خاضعا لكنيسة سيناء.
36
حمير
ولا نعلم بالضبط متى تسربت النصرانية إلى اليمن «والعربية السعيدة»، ولكننا نقرأ أن الإمبراطور قسطنديوس أوفد في السنة 356 بعثة يرأسها الراهب الآريوسي ثيوفيلوس لتتفاوض في حرية الاتجار وحرية المعتقد، ولتنشر رسالة السيد المخلص، وأفلح ثيوفيلوس فيما يظهر وأنشأ كنيسة في عدن وكنيسة غيرها في ظفر، ولا نعلم بالضبط ما إذا كان هذا الراهب نجح في تأسيس كنيسة ثالثة في هرمز عند مدخل خليج الفارسي.
37
ويؤكد ثيودوروس القارئ أن النصرانية لاقت نجاحا في حمير في عهد أنسطاسيوس الإمبراطور (491-518)، وأن النصارى في هذا البلد البعيد خضعوا لأسقف يرشدهم ويدبر أمورهم،
38
ولعل هذا الأسقف هو سلوانس عم يوحنا الذيكرينومينوس.
39
نجران
ولا يختلف اثنان فيما نعلم في أن نجران كانت أهم مواطن النصرانية في الجنوب، ولعل الفضل في تنصر أهلها يعود إلى كنيسة أنطاكية، فقد جاء في كتاب السيرة لابن هشام (طبعة أوروبة، 20-22) وفي تاريخ الرسل والملوك للطبري (طبعة أوروبة ج1، ص919)، أن قافلة عربية أسرت راهبا سوريا اسمه فيميون
فنزلت به إلى نجران فهدى أهلها طريق الصواب، ويذكر ياقوت كعبة في نجران يقال لها البيعة بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، فعظموها مضاهاة لكعبة مكة، وكان فيها أساقفة «معثمون».
وكانت اليهودية قد تسربت إلى بلاد اليمن من جراء خراب أوروشليم، وكان آخر ملوك حمير ذو نواس يهوديا، فاشتدت المنافسة بين النصارى واليهود وانقلبت عداء مريرا، وكان ذو نواس يرى في النصرانية ما يذكره بالأحباش ومطامعهم في اليمن، فأوقع بالنصارى في السنة 523 مذبحة نجران، ثم جمع من نجا منهم وخيرهم بين القتل واليهودية، فاختاروا الموت استشهادا، فخد لهم أخدود النار، وروى بعض المحدثين أنه نزل في ذلك ما جاء في سورة البروج:
قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود . ومما جاء في الطبري أيضا أن دوس ذا ثعبان أفلت ولجأ إلى إمبراطور الروم يستنصره على ذي نواس، وأن يوستينوس قال له: «نأت بلادك عنا فلا نقدر أن نتناولها بالجنود ، ولكني سأكتب إلى نجاشي الحبشة وهو أقرب ملوك النصرانية إلى بلادك.» ويروى أيضا أن النجاشي انتصر على ذي نواس مرتين متواليتين في السنة 523 وفي السنة 525، وهنا رب معترض يقول: كيف اضطهد يوستينيوس أصحاب الطبيعة الواحدة في بلاده، ثم تعاون معهم في الحبشة واليمن؟ والجواب أن صاحب القسطنطينية كان يعتبر نفسه حامي ذمار النصرانية في كل المسكونة.
40
الفصل السابع والعشرون
القوانين والنظم والطقوس والأعمال الخيرية في القرن السادس
يوستنيانوس والقانون الكنسي
عني الآباء في القرنين الرابع والخامس بجمع القوانين المسكونية والمحلية، ولكنهم لم يوفقوا إلى درسها وتمحيصها وتنسيقها وتبويبها، وكان بعض هذه القوانين قد وضع لمناسبات خصوصية انتهى أمرها، فزالت فائدة القانون بزوال الظرف الذي دعا إلى وجوده، ونشأت ظروف جديدة تطلبت عودة إلى الاجتهاد والتشريع.
وكان يوستنيانوس يرى في نفسه رئيسا للدولة وحاميا للكنيسة في آن واحد، فأمر بجمع القوانين الكنسية ودرسها وإلغاء الباطل منها، وسن ما تقضي به الظروف الجديدة، فظهر بإرادته السنية قانون الإكليروس (
Nov. 123 ) وقانون الأديرة (
Nov. 133 ) وغيرهما.
نوموقانون يوحنا المحامي
والنوموقانون اصطلاح يوناني مركب مؤلف من كلمتي نوموس الشرع المدني وقانون الشرع الكنسي، ويوحنا المحامي هو البطريرك يوحنا القسطنطيني (565-577) الذي نشأ محاميا في أنطاكية، ثم تولى تمثيل الكرسي الأنطاكي في القسطنطينية، فلما شغر الكرسي القسطنطيني كما سبق وأشرنا شرطن يوحنا كاهنا ثم رقي إلى السدة البطريركية، وما إن استتب له الأمر حتى بادر لجمع القوانين المدنية التي تتعلق بالإكليروس والكنيسة، وأضاف إليها جميع القوانين الكنسية، ثم نسق ما جمع وبوبه لتسهيل الوصول إلى محتوياته، فظهر ما يعرف في تاريخ الكنيسة بنوموقانون يوحنا المحامي.
ويستدل مما تبقى من آثار هذا الحبر الفقيه الجليل أنه استعان بمجموعة من نوع مجموعته صنفت في السنة 534، وأنه اعتمد قوانين الرسل وقوانين المجامع المسكونية الأربعة الأولى ومجامع أنقيرة وقيصرية الجديدة وسرديكة وأنطاكية وغنغرة واللاذقية، وببعض قوانين القديس باسيليوس الكبير، وقد استخرجها من رسائله وعددها ثمانية وستون قانونا، وانتقى هذا البطريرك أيضا من اثني عشر قانونا يوستنيانيا مدنيا ما تعلق بأمور الكنيسة، فنسقه تنسيقا ونشر في سبعة وثمانين فصلا.
1
البنتارخية
وتبنى يوستينانوس قرارات المجامع المسكونية السابقة، فاعتبر الكنيسة الجامعة مؤلفة من خمس بطريركيات
لا سادسة لها، وهي: بطريركية رومة القديمة، وبطريركية رومة الجديدة، وبطريركية الإسكندرية، وبطريركية أنطاكية، وبطريركية أوروشليم، وعمل بالتقليد الموروث وبقرارات المجامع؛ فقدم بطريرك رومة القديمة على سائر البطاركة، وجعل بطريرك رومة الجديدة الثاني بعده، وأعطى المرتبة الثالثة في الكرامة لبطريرك الإسكندرية، والرابعة لبطريرك أنطاكية، والخامسة والأخيرة لبطريرك أوروشليم، وشملت سلطة بطريرك رومة القديمة بموجب هذا الترتيب كل الغرب وذيقوسية أليرية الشرقية، وضمت بطريركية رومة الجديدة ذيقوسيات تراقية وآسية والبونط، وخضعت مصر وصعيدها وليبية والقيروان لسلطة بطريرك الإسكندرية، واعتبر بطريرك أنطاكية بطريركا على ذيقوسية الشرق ما عدا فلسطين الأولى والثانية والثالثة، وتبعت هذه الفلسطينيات الثلاث بطريرك أوروشليم المدينة المقدسة، وظلت كنيسة قبرص تتمتع باستقلالها عملا بقرار مجمع أفسس، وأصبح هذا الترتيب كله قانونا شرعيا بموجب النوفليتين المائة والثالثة والعشرين، والمائة والحادية والثلاثين، وهذه هي المرة الأولى التي ورد فيها لقب بطريرك في معاملات رسمية.
واللقب بطريرك لفظ يوناني، وهو مركب من الكلمة اليونانية
أي العشيرة، والكلمة اليونانية
archi
أي الرئيس، فيصبح البطريرك شيخ العشيرة، وجاء لبلصامون في رسالته في امتيازات البطاركة أن أول من أطلق عليه هذا اللقب رئيس عشائر اليهود،
2
فإن اليهود بعد خراب أوروشليم وتشتتهم، اصطلحوا أن يقيموا عليهم رؤساء أسموهم بطاركة، وجعلوا لهؤلاء البطاركة مساعدين أطلقوا عليهم لقب رسول، وعلى هذا الأساس لقب أسقف أنطاكية بطريركا؛ لأنه اعتبر كبير الأمة أو الطائفة المسيحية في أنطاكية وزعيمها المطاع، وجاء في رسالة كتبها بطرس الثالث البطريرك الأنطاكي إلى رئيس أساقفة إكيليا أن البطريرك الأنطاكي وحده اختص منذ القدم باللقب بطريرك، وأن البطاركة الآخرين لقبوا بهذا اللقب جوازا لا وجوبا، وأن لقب الحبرين الروماني والإسكندري هو بابا، ولقب زميليهما في رومة الجديدة وأوروشليم هو رئيس أساقفة.
3
وفي الثامن من حزيران سنة 533 كتب يوستنيانوس إلى البابا يوحنا الثاني يفيد أنه سيوافيه بجميع ما يتعلق بأحوال الكنائس؛ لأنه هو رئيسها وأنه سوف يسرع في إخضاع أحبار الشرق وضمهم إليه.
4
وجاء في قانون صدر في هذه السنة نفسها أن على أبيفانيوس بطريرك رومة الجديدة أن ينبئ بطريرك رومة القديمة بجميع المسائل الدينية؛ لأن رومة القديمة ما فتئت تدحض الهرطقات الشرقية.
5
وجاء في النوفيلة التاسعة أن أحدا من الناس لا يشك في عظمة حبر رومة وجلاله.
6
كتب يوستنيانوس هذا كله وأكثر منه، ولكنه تدخل في شئون أحبار رومة تدخلا إجباريا، فضيق على فيجيليوس مثلا ولم يتورع عن مخالفته في أمر العقيدة، ولعله ذهب إلى أبعد من هذا فاعتبر نفسه سيد الباباوات والبطاركة وصاحب القول الفصل في إدارة الكنيسة وفي معتقدها.
7
وتبادل البطاركة الخمسة الرسالات السلامية وبينوا معتقداتهم فيها عند وصولهم إلى العرش، وتبادلوا ذكر أسمائهم في ذيبتيخة الأحياء، فقرأها شماس علنا في أثناء القداس وأوفدوا إلى عاصمة الدولة وكلاء يمثلونهم أمام البلاط، وتبادلوا هؤلاء الوكلاء
apocrisarios
بين بعضهم في بعض الأحيان، وكان بين هؤلاء رجال أفذاذ؛ فغريغوريوس العظيم بابا رومة قضى مدة في القسطنطينية قائما بأعمال أبوكريساريوس رومة ومثله يوحنا المحامي، فإنه قبل تسنمه العرش القسطنطيني كان أبوكريساريوس الكرسي الأنطاكي في القسطنطينية.
8
نظام الأسقفية
وقضت قوانين يوستنيانوس بحصر حق انتخاب الأساقفة في أيدي الوجهاء والإكليروس، فكان على هؤلاء أن يتفقوا على ثلاثة من المرشحين، فيرفعوا أسماءهم إلى البطريرك أو المتروبوليت أو مجمع الأساقفة المحلي لانتقاء واحد منهم ورفعه إلى رتبة الأسقف،
9
وكان للإمبراطور في الواقع أو لممثله المحلي القول الفصل في هذا أيضا.
وحاول يوستنيانوس الإصلاح، فوضع حدا أدنى لسن المرشح وجعله خمسة وثلاثين سنة، وعالج السيمونية بأن عين المبلغ الذي توجب دفعه إلى الأساقفة المنتخبين، وأوجب بقاء كل أسقف في أبرشيته، ومنع تغيبه عنها أكثر من سنة واحدة، ومنع أيضا مجيء الأساقفة إلى عاصمة الدولة بدون موافقة المتروبوليت.
10
وأحاط بالبطاركة والمطارنة عدد من الموظفين، وأهم هؤلاء في القرن السادس السنكليوس
Syncellios ، وهو المستشار الأكبر والوكيل الذي يقوم مقام البطريرك أو المطران في أثناء غيابه، وجاء في المصادر ما يدل على أن بعض المطارنة أوفدوا وكلاء عنهم إلى العاصمة وإلى المقر البطريركي، وأن هؤلاء كانوا يدعون أبوكريساريوسيين أيضا، وفي المصادر إشارات إلى الرفرنذاريوس
Referendarios
وهو المستشار العادي، وأطلق على مدير أوقاف الكنيسة وأمين ممتلكاتها لقب أيكونوموس
Economos ، وعني سكيلاريوس
Sacellarios
بمراقبة الأديرة والرهبان، كما أشرف ذيذاسكاليوس
Didaskalios
على تلقين المؤمنين قواعد الإيمان.
11
وتمتع الأساقفة في هذا القرن بصلاحيات قضائية واسعة، فكان لهم وحدهم حق النظر في خروج الإكليريكيين على أنظمة الكنيسة،
12
ومنحهم يوستنيانوس حق النظر أيضا في الدعاوي التي أقامها العلمانيون على رجال الإكليروس، ولكنه حفظ لأولئك حق استئناف هذه الأحكام أمام المحاكم المدنية،
13
وظل المتداعون العلمانيون يترافعون أمام المحاكم الأسقفية في الدعاوي المدنية، ووافق يوستنيانوس على هذا الترافع في جميع المدن ما عدا العواصم، واشترط أن يكون برضى الطرفين.
14
وقضى قانون يوستنيانوس بتنظيم محاكم خصوصية مؤلفة من الأساقفة للنظر والبت في الدعاوي التي تقام على الأساقفة، ولكنه لم يعبأ بما أمر به، فإنه كثيرا ما نظر هو بنفسه في بعض هذه الدعاوي؛ وحذا حذوه يوستينوس الثاني عندما عزل أنسطاسيوس البطريرك الأنطاكي (570)؛ لأنه تفوه بما لا يليق عن شخص الإمبراطور، ولأنه اتهم بتبذير أموال الكنيسة.
15
ويرى رجال الاختصاص أن أساقفة هذا القرن تدخلوا في سير الأمور المدنية تدخلا فعليا، فرفعوا أصواتهم عند الحاجة ليمنعوا حاكما عن التحكم والتعسف، أو لينفذوا القانون ضد الفسق والفجور، أو ليقفوا سدا منيعا في وجه الهرطقة،
16
وتطلبت ظروف مصر أكثر من هذا، فمنع الإمبراطور بطريركين من بطاركتها الأرثوذكسيين أبوليناريوس وأفلوغيوس صلاحيات مدنية وعسكرية مطلقة، أصبحا بموجبها نائبي الإمبراطور في مصر وقائدي جيوشه فيها.
17
جمهور الإكليروس
ودخل تحت هذا التعبير في القرن السادس الكهنة والشمامسة والشماسات والأيبوذياكونات والقراء والمرتلين، وتوجب على المتقدمين من سر الكهنوت، وعلى العذارى والأرامل اللواتي رغبن في الخدمة كشماسات، أن يكونوا جميعهم قد بلغوا الأربعين من العمر، وافترض فيمن طلب الرسامة كشماس أو أيبوذياكون أن يكون في الخامسة والعشرين أو ما فوق ذلك، وأصبح السن الأدنى للقراء والمرتلين ثمانية عشر عاما، وجاز لجميع هؤلاء أن يكونوا متزوجين شرط أن يكون زواجهم قد تم قبل الرسامة، وحرم الزواج ثانية باستثناء القراء والمرتلين. ولا تخلو المراجع الأولية من الإشارة إلى رتبة الخور أسقف، فقد جاء في تاريخ بروكوبيوس الفلسطيني المعاصر أن خور أسقف الرصافة
Sergiopolis
تولى قيادة الحامية فيها، وفاوض الفرس في حصار السنة 543.
18
ويرى العلامة غيلمان الألماني أن البريودفيتس
البرديوط الزائر بدأ في هذا القرن يحل محل الخور أسقف، وأنه كان خاضعا تابعا لأساقفة المدن،
19
وكثر عدد الإكليريكيين في هذا العصر فاضطر يوستنيانوس أن يحصر عددهم فجعلهم خمسمائة وخمسة وعشرين في كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية، وكان بين هؤلاء ستون كاهنا ومائة شماس.
20
حق الأمان
وكان ثيودوسيوس الثاني قد وسع منطقة الحرم التي لا تهتك، فجعلها تشمل الكنيسة وما حواليها حتى مداخلها الخارجية،
21
وجاء لاوون الأول فأباح للمفلسين في الثامن والعشرين من شباط سنة 466 حق الإحرام، وبرأ الكنيسة من كل التزام تجاه الدائنين،
22
ولكن يوستنيانوس رأى في هذا كله توسعا لا مبرر له، فأباح لعماله الدخول إلى مناطق الحرم لإلقاء القبض على القتلة والزناة والخاطفين المغتصبين، كما سمح بجباية الأموال الأميرية في داخل الكنيسة وبتوقيف الممتنعين عن أدائها، وأوجب على الأسقف إن هو عارض في شيء من هذا أن يتحمل بنفسه المبالغ المطلوبة، وأن يدفعها من جيبه الخاص.
23
الأوقاف
وشملت الأوقاف في هذا القرن الهبات على أنواعها (كالأراضي وبيوت السكن والمخازن والعائدات السنوية)، والضرائب الشرعية على ممتلكات الهراطقة والوثنيين والتركات غير الموصى بها، ولا سيما الإكليركية منها.
24
ووافق يوستنيانوس على هذا كله، ووسع حق انتفاع الكنيسة من مرور الزمن، ومنع نقل ملكية الأوقاف واحتباسها الدائم تحت مرتب معين، ونظم حقوق الواقف فأوجب عليه القيام بتعهداته واعترف بحقه في إدارة أوقافه، ولكنه لم يسمح له بفرض إكليريكي معين على الأسقف لخدمة هذه الأوقاف.
25
وكان المجمع الخلقيدوني قد أوجب في قانون السادس والعشرين تعيين مدبر أوقاف
Economos
لكل كنيسة، فحدد يوستنيانوس صلاحيات هذا المدبر وأوجب انتقاءه من بين رجال الإكليروس، ونظر الإمبراطور أيضا في كيفية إنفاق أموال الكنائس، فعين ما وجب دفعه إلى رجال الإكليروس وما جاز إنفاقه لممارسة الطقوس وصيانة الأملاك وإعاشة الفقراء.
26
الرهبان والأديرة
وتكاثر الرهبان في القرنين الخامس والسادس، فأصبحوا ألوفا وعشرات ألوف، ولم يؤثر القول بالطبيعة الواحدة في عددهم عند اليعاقبة، ولم تختلف نظم هؤلاء عن نظم الرهبان الأرثوذكسيين، فظل باسيليوس الكبير زعيم المعسكرين، وبقيت مثله العليا مثل الطرفين، وغصت تلال أنطاكية وأبامية وآمد والرها بالأديرة، وانتثرت الصوامع في بعض أنحاء البادية، وأثر هذا كله في نفس يوحنا أفسس، فصنف «سير النساك الشرقيين» ضمنه ثماني وخمسين ترجمة.
27
وتنوعت طرق الترهب واختلفت وسائل الأمانة، فقام إلى جانب الأديرة قلايات
Kellia
آوت كل منها ناسكا واحدا اشتهر بورعه وزهده وقداسته، فأطلقت له الحرية لقهر الجسم كيف شاء، واشتهر من هؤلاء في جهات أنطاكية الذين اختاروا رءوس الأعمدة مقرا لهم، فقضوا السنين الطوال عليها، وبين هؤلاء السمعانان الأكبر والأصغر، وقد سبقت الإشارة إلى الأكبر فلتراجع في محلها، ويذهب بعض رجال الاختصاص إلى أن عدد العموديين لم يكن قليلا.
28
وقضت مقررات المجمع الخلقدوني بخضوع الرهبان للسلطات الإكليريكية، ولكن نصوصها بقيت حبرا على ورق، وكثر عدد الرهبان التائهين
Sarabaites
الذين عاشوا متنقلين متسولين غير خاضعين لأية سلطة من السلطات الروحية، فحاول يوستنيانوس أن ينظم الحياة الرهبانية من الناحية الإدارية القضائية، فأخضع أديرة كل ذيقوسية إلى سلطة المتروبوليت، وأكره جميع الرهبان أن يعيشوا في أديرة معينة، وأجاز الانحباس شرط أن يتم في داخل الدير، وتوجب على الطالبين الجدد أن يمروا في دور «المبتدئ»، وأن يظلوا فيه ثلاث سنوات، ولا يقبلون نهائيا إلا بعد التثبت من أنهم ليسوا أرقاء هاربين، وحرم عليهم ترك الدير تحريما، وسنت قوانين خصوصية لتنظيم حياة الراهبات.
وكان على الرهبان في كل دير أن ينتخبوا رئيسا لهم هيغومينوسا
Hegoumenos
أو أرشمندريتا
29
يدبر أمورهم ويمثل رهبنتهم ما دام حيا قادرا على العمل، وكان الهيغومينوس مطلق الصلاحية لا يستشير رهبانه إلا في بعض الأمور الهامة، كنقل الملكية واحتباسها بطريقة الحكر، ولكنه كان مقيدا بالتيبيكون الذي حفظ قانون الرهبانية وأشياء أخرى، ورأى يوستنيانوس أن الرقابة مفيدة، فأوجب تعميم نظام الإكسرخوس الذي كان سائدا في بعض الأبرشيات ، أي أن يعين كل متروبوليت أكسرخوسا لزيارة الأديرة في الأبرشية والتثبت من انتظامها، وكان في استطاعة هذا الإكسرخوس أن ينتدب زائرين
Stationarii
لهذه الغاية نفسها، أما في القسطنطينية فإن هذا المفتش الزائر كان يدعى سكيلاريوسا
Sacellarios .
30
الأسكيم
وكان الأسكيم الرهباني يتألف من ثوب فضفاض من الصوف الخشن أو شعر الماعز، وكانوا يسمونه
Kolobion
وهو أصل اللفظ العربي «جلابية»، وتردى الرهبان فوق الجلابية جبة دعوها المنذية
Mandya ، أما غطاء الرأس فإنه كان قبعة عالية عرفت بالكملفكيون
Kamelaukion ، وتبع هذه لاطية دعيت كوكوليونا
Koukoulion ، وشد وسط الراهب زنار جلد، وزين الأسكيم بكامله بطرشيل دعي أنالافوسا
Analabos .
31
الصوم والصلاة
وامتنع الرهبان عن اللحوم وتناولوا الطعام مرة واحدة في اليوم، وصاموا الصوم الكبير (سبعة أسابيع) وصوم الميلاد وصوم الرسل وصوم رقاد العذراء، وصلوا ست ساعات في كل يوم، ولكنهم كرسوا ليالي البارامون كلها للصلاة.
الليتورجية
وكانت لغة كنيسة أنطاكية لا تزال يونانية فجاءت ليتورجيتها باليونانية، ولم تكن سريانية أو عربية إلا في بعض القرى النائية في داخل البلاد.
32
وصلى المؤمنون بموجب ليتورجية يعقوب أخي الرب، وكانت هذه في القرن السادس مسبوكة باللغتين اليونانية والسريانية، ولا بد أن تكون قد نقلت إلى العربية أيضا لكثرة المؤمنين العرب في ريف سورية وفلسطين وعند حدود البادية، أما في كنائس آسية وتراقية والبونط واليونان، فإن الليتورجية السائدة كانت إما الليتورجية التي تدعى باسم ليتورجية الذهبي الفم أو باسيليوس الكبير.
33
البناء
وكانت معظم كنائس هذا القرن بسيليكات في طرازها، والبسيليكة بناء مستطيل الشكل شيد في العصور اليونانية القديمة للاجتماعات العمومية، وتميز هذا البناء عن سواه في أنه حوى صفين من الأعمدة، قسمت أرضه إلى ثلاثة أقسام مستطيلة متساوية، وأنه أفسح في منتصف جداره الرئيسي محلا خصوصيا في شكل حنية لتمثال الإله، وأن النور كان يدخل إليه من نوافذ فوق رءوس الأعمدة ودعي مجموعا منورا، واحتفظ الآباء في هذا القرن نفسه بالأبنية المدورة والمثمنة والمصلبة للتعميد أو لدفن الشهداء، وكنت إذا قصدت الدخول إلى إحدى الكنائس، تمر في صحن كبير مفتوح تحيط به أروقة معمدة، فإذا ما انتهيت منه وجدت نفسك في النرثكس
Narthex ، وهو غرفة خارجية لاصقة ببناء الكنيسة عند مدخلها الرئيسي.
وقامت المائدة عند رأس هذا البناء مقابل الحنية، وخصص ما يجاورها إلى الأسقف والكهنة، وأقيم للأسقف عرش في الحنية وراء المائدة، وقسم البهو كله إلى قسمين غير متساويين أصغر وأكبر، وفصل الأصغر القريب من المائدة عن الأكبر وراءه بحاجز مزين وخصص للخوروس، وانتصب المؤمنون للصلاة في القسم الأكبر الباقي من البهو، أما الموعوظون فإنهم وقفوا إما وراء المؤمنين عند مدخل البهو الرئيسي، أو في الطبقة الثانية من البهو التي أقيمت في جانبي الكنيسة فوق الأعمدة وأطلت على البهو والخوروس، وكان الإيقونوستاسيس
Iconostasis
لا يزال مجهولا،
34
ولا تزال كنيسة القديس أندراوس في القسطنطينية (خوجه مصطفى جامعي) تحفظ هذا الترتيب حتى يومنا هذا.
الأواني
ولنا في الرسوم التي تزين بعض الصواني الفضية الأنطاكية الباقية ما يحفظ لنا أشكال مذابح ذلك العصر وموائده، وما استعمل من الأواني كالبوتيريون
والمراوح
Rhiphidia
وملاعق الأفخاريستية وحقاق الميرون والمباخر،
35
ولا نزال نتبرك بأناجيل تعود إلى ذلك العهد، وقد كتبت بماء الذهب على الرق. ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض كتب الخدمة كان لا يزال بهيئة دروج ملفوفة لفا.
36
وتتميز الملابس الحبرية في هذا القرن أكثر من قبل، فيظهر الأسقف مكسيميانوس مثلا في فسيفساء رابينة (547) مرتديا القميص والصاكوس فوقها، وواضعا الأوموفوريون على كتفيه وحاملا الصليب بيده، ويواكبه الكاهن والشماس، وقد تردى كل منهما بقميص أبيض ذي أكمام واسعة.
الصلوات
وقضى قانون يوستنيانوس
37
على إكليروس كل كنيسة بالصلاة اليومية، وكانت هذه الصلاة قد قسمت في مصر إلى ثلاثة أقسام: صلاة نصف الليل
Mesonyktikou ، وصلاة السحر
Orthos ، وصلاة الغروب
Lykhnikon ، أما في القسطنطينية وفي سائر الولايات فإنها أقيمت في السبع التي انتهت بالإسبيرينوس
Hesperinos
والأبوذيبنون
Apodeipnon
صلاة النوم، وتليت مقتطفات من الأسفار المقدسة وأضيف إليها ترانيم منظومة ملحنة، وأتحفت كنيسة بيروت في هذا العصر الكنيسة الجامعة رومانوس المرتل، وكان يهوديا حمصيا فاهتدى ونبغ في النظم والتلحين وأم العاصمة فأصبح مرتل الكنيسة اليونانية الأكبر.
38
الأسرار
وأصر آباء هذا القرن السادس على ممارسة سر المعمودية في الكنائس دون سواها، ولام الآباء المجتمعون في القسطنطينية في السنة 536 من قال بالطبيعة الواحدة على التعميد في المنازل الخصوصية،
39
وعمد الآباء بالتغطيس ثلاث مرات، وآثروا إجراءه لمناسبة الأعياد الكبيرة كعيد الميلاد وعيد الغطاس وعيد الفصح وعيد الصعود، وألحقوا التثبيت بالتعميد، وعمدوا الأطفال في اليوم الأربعين بعد الولادة وتساهلوا حتى السنتين.
تناول المؤمنين
ويستدل من رسوم صينية الكأس التي وجدت في ريحة، أن المؤمنين في كنيسة أنطاكية في هذا العهد تقدموا من جسد الرب ودمه مغطين اليدين، وأنهم تناولوا الخبز أولا ثم الخمر من الكأس نفسه، وجرت المناولة بعد الأصوام الأربعة، ولمناسبة أعياد الميلاد والرسل والفصح والعذراء، وهنالك ما يدل على أن البعض تناولوا يوميا، وأن آخرين استأذنوا للمناولة في بيوتهم.
40
خدمة القداس
ويرى رجال الاختصاص أن آباء القرن السادس لم يبدءوا الخدمة بتقديم المقدمة إلى المائدة كما نفعل اليوم، وهم يؤكدون أن قداس الموعوظين بدأ بالأيصوذن الصغير وبالتريصاغون والبخور، وأنه بعد تبادل المحبة بين الكاهن المصلي والشعب كانت تقرأ مقتطفات من النبوات والرسائل والإنجيل، وبعد هذا كله كان على أحد الشمامسة أن ينادي: «أيها الموعوظون اخرجوا.» لأنهم كانوا لا يزالون غير معمدين، ولدى خروجهم كان أحد الشمامسة يقدم الطلبات السلامية. ثم يتلى دستور الإيمان (لأول مرة في السنة 511 كما أشرنا)، ويجيء الأيصوذن الكبير فيحمل الشمامسة المقدمة إلى المائدة، ويرتل الشعب التسبحة الكروبية، وبعد البركة وقبلة السلام تقرأ ذيبتيخة الأحياء والأموات، والذيبتيخة دفتان مرتبطتان تصفحان وتغلقان، كتب عليهما أسماء الذين عمروا الكنيسة وغيرهم من الأحياء والأموات، ثم يتبع الأنافور والتسبيح الأفخاريستي وذكر أسرار الفداء فالأبيكليسيس
Epiclesis (الابتهال إلى الروح القدس)، ويعود الشماس إلى الطلبات السلامية، ثم يتم تبادل المحبة ويكسر الخبز وتجري المناولة ويرفع الشكر ويصار إلى الحل
Apolysis .
41
الأيقونات
وشاع في هذا القرن تكريم الأيقونات، ففاخرت الرها بتلك التي قالت إن السيد المخلص نفسه أرسلها إلى أبجر ملك الرها،
42
وبالمنديل الذي انطبع عليه شكل وجهه، واعتبرت هذين الرسمين من يد غير بشرية، فدعيا
Acheiropoietes ،
43
واشتهرت صورة العذراء التي نسبت إلى لوقا الإنجيلي نفسه، فنقلتها الإمبراطورة بلشيرية إلى القسطنطينية، وأقدم ما لدينا من أيقونات القرن السادس ما وجده في سيناء العلامة الروسي بورفيريوس أوسبنسكي، وهي تمثل القديسين سرجيوس وباخوس وبين هالتيهما صورة مصغرة للسيد المسيح، وهي من محفوظات متحف كيف
Kiev ، ومن أيقونات هذا القرن صورة السيدة حاملة الطفل في متحف الإمبراطور فريدريك في برلين، وصورة يوحنا المعمدان في متحف كيف أيضا،
44
وجميع هذه مصورة بالألوان الممزوجة بشمع العسل لحمايتها من الرطوبة، وقد ظهرت فيها العينان جاحظتين كأنهما تنظران من دار البقاء.
الذخائر
واشتدت العناية بما تبقى من آثار القديسين، فلم تخل منها كنيسة من الكنائس، وقضى العرف في هذا القرن بأن ينقل إلى كل كنيسة مستجدة أثر من آثار القديسين الأبرار تبركا واستشفاعا، ومما يروى من هذا القبيل أنه عند تجديد بناء كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية بعد ثورة السنة 532، نقلت إليها قطعة من الصليب المقدس وحجارة بئر السامرية وأبواق أريحا، وأن البطريرك ميناس نقل في السنة 547 إلى كنيسة الرسل الأطهار بقايا القديس أندراوس، وقد سبقت الإشارة إلى ما جرى من هذا القبيل في بعض كنائس الكرسي الأنطاكي، فلتراجع في محلها.
وعني الأباطرة عناية كبيرة بجمع الذخائر وحفظها، فوضعت بلشيرية يد الشهيد الأول اليمني في الكنيسة التي شيدت على اسمه في قصر القديس إسطفانوس في دفنة، وفي السنة 574 نقلت قطعة من عود الصليب من أبامية إلى القصر في القسطنطينية. ويروى عن يوستينوس الثاني أنه اعتبر الذخائر أفضل ما يهدي إلى أصدقائه، ولا سيما عود الصليب، فأرسل شيئا منه إلى البابا وإلى الملكة راديغوند لدى دخولها إلى الدير في بواتية في السنة 569.
45
الحج
وبدأ الأتقياء بزيارة الأماكن المقدسة في أوروشليم وبيت لحم والناصرة وغيرها من مقامات فلسطين منذ أوائل القرن الرابع، وتقاطروا زرافات من جميع أنحاء العالم المسيحي للوصول إليها والتضرع فيها، وذلك لمناسبة عيد القيامة أو عيد رفع الصليب، ولم يقتصر الحجاج في حجهم على زيارة هذه الأماكن، بل قصدوا غيرها في سورية ومصر، وأشهر محجات الكرسي الأنطاكي في هذا القرن مقام سمعان العمودي؛ حيث قامت كنائس أربع حول صحن مخمس حوى في وسطه عمود سمعان .
46
الأعمال الخيرية
وكانت الكنيسة قد عنيت منذ نشأتها بالفقير والمريض واليتيم وابن السبيل، فلما انتصرت على الوثنية وأصبحت كنيسة الدولة كثر دخلها واشتد ساعدها، فتنوعت أعمالها وظهرت الملاجئ والمياتم والفنادق والمستشفيات، وقام بهذه الأعمال جميعها رهبان أتقياء وراهبات صالحات وأرامل متعبدات.
وجاء يوستنيانوس فأحيا قانون السنة 382 ومنع التسول،
47
ثم اعتبر جميع المؤسسات الخيرية شخصيات معنوية قضائية، فضمن أموالها وراقب أعمالها، وسمح للواقف أو الأسقف أن يعين مدراءها، ولكنه أوجب خضوعها للأسقف، ومنح هذا حق التدخل في أمورها وملاحقة مدرائها أمام محكمته، وسمح لهؤلاء بحق الاستئناف أمام مجلس المتروبوليت،
48
وأنشأ الإمبراطور دائرة أوقاف رسمية إكليريكية وأصبح رئيسها الأورفانوتروفوس الأعظم مدير الإسعاف العام.
49
العلم والتعليم
واحتفظت الكنيسة الجامعة بحقها في تعليم المؤمنين قواعد الإيمان، فخلت جامعة القسطنطينية وغيرها من مؤسسات الدولة من أي كرسي لهذه الغاية، وظل تدريس اللاهوت وتوابعه منوطا بالأساقفة ومن يستعينون به لهذا الغرض، وتابعت مدرسة أنطاكية سيرها في هذا السبيل، أما مدرسة الرها فإنها أقفلت بأمر من الإمبراطور زينون سنة 489، وانتقل أساتذتها إلى داخل الحدود الفارسية واستقروا في نصيبين. ويرجح العلماء وجود المدارس في الأديرة؛ ذلك أن يوستنيانوس أوجب على الرهبان مطالعة الأسفار المقدسة وتعاليق يوحنا الأفسسي.
50
والجدير بالذكر هنا أن آباء القرن السادس حذوا حذو سلفائهم رجال القرن الرابع أمثال باسيليوس الكبير، فاطلعوا على المصنفات الكلاسيكية وغرفوا غير خائفين، وذهبوا إلى أبعد من هذا فأجازوا الاستعارة من مصنفات الوثنيين في بعض ما ورد من نقوش على أنصاب القبور.
51
وأشهر علماء هذا القرن لاونديوس البيزنطي؛ ولد في القسطنطينية سنة 485 وتلقى علومه فيها، وبعد أن زار رومة في السنة 519 أم فلسطين ليقضي الباقي من حياته في دير القديس سابا، فدخل بعمله هذا في نطاق بحثنا لشدة أثر هذا الدير في الفكر الأنطاكي، وأهمية مصنفاته في تاريخ الفكر الكنسي تعود إلى المحاولة التي قام بها للتوفيق بين العقيدة الأرثوذكسية وفلسفة أرسطو، وكان من الطبيعي أن يبحث لاونديوس في النسطرة والطبيعة الواحدة، وأن يرد على الاثنتين، وهو أول من استعان باللفظ اليوناني
Enhypostasis
لتبيان العلاقة بين الطبيعتين في الابن.
52
وعاصر لاونديوس عالم سرياني جنح إلى القول بوحدانية الوجود هو أسطفان بار صوديلي؛ ولد في الرها في منتصف القرن الخامس ورحل إلى مصر، فقال إن كل طبيعة مساوية في الجوهر للذات الإلهية والجوهر الإلهي. ومات ابن الصوديلي في السنة 510.
53
وديونيسيوس الكاذب
، ذاك الذي انتحل اسم ديونيسيوس تلميذ الرسول بولس، وأول أساقفة أثينة، هو من كتاب هذا العصر أيضا؛ ولد وثنيا في سورية الشمالية وقال بالأفلاطونية الجديدة، ثم تنصر وصنف ليربط التصوف باللاهوت، فضل وأضل في الشرق والغرب معا طوال ألف سنة.
54
وأنجبت كنيسة أنطاكية في القرن السادس محاميا وواليا ومؤرخا هو إيفاغريوس
Evagrios
الأنطاكي؛ ولد في أنطاكية في السنة 536 وتلقى علومه فيها، واستوظف فعين في المالية في عهد طيباريوس وأصبح واليا في زمن موريقيوس، وعني بالتاريخ الكنسي فصنف كتبا ستة عالج فيها تاريخ الكنيسة منذ مجمع أفسس في السنة 431 حتى السنة 593، فأكمل أعمال سلفائه المؤرخين سقراط وسوزومينس وثيودوريطس، وتوفاه الله بعد السنة 593 وقبل السنة 600.
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى المؤرخ يوحنا ملالا
Malalas ، فإنه أبصر النور في أنطاكية ونشأ فيها، وكتب في تاريخ العالم منذ أقدم العصور حتى أوائل عهد يوستنيانوس أو أواخره،
55
وذلك باللهجة اليونانية الدارجة «ليكون كتابه في متناول العامة من مدنيين وإكليريكيين»، وكتابه هذا محشو بالترهات والمغالطات؛ فقد جاء فيه على سبيل المثال أن قائدا رومانيا اسمه بيبلوس أسس بيبلوس على الساحل الفينيقي فدعيت باسمه، ومن مغالطاته أنه عطف على المونوفيسيين ومالأهم، ولكنه على ضعفه لا يخلو من الفائدة لكثرة أخباره وتنوعها، ولشدة تأثيره على بعض المؤرخين المتأخرين.
56
ويستدل من تضاعيف هذا الكتاب أن معظمه دون في أنطاكية، وأن القسم الأخير منه فقط صنف في القسطنطينية، والقول إنه من آثار البطريرك القسطنطيني يوحنا الثالث قول ضعيف.
57
الفصل الثامن والعشرون
فوقاس وهرقل
602-641
وصول فوقاس إلى الحكم
وتمرد الجند في خريف السنة 602، وعبروا الدانوب بإمرة فوقاس أحد ضباطهم، واتجهوا نحو عاصمة الدولة، وكانت القسطنطينية خالية من الجند، فحشد موريقيوس متطوعة من سكان العاصمة ودفع بهم إلى الأسوار، وكان قسم كبير من السكان قد سئم كبرياء الإمبراطور وأساليبه الأرستقراطية، وجشع أصحاب الأملاك الكبيرة والأموال الوافرة الذين عززهم الإمبراطور، فلما اقترب فوقاس والجند من العاصمة شعر موريقيوس بتذمر الجمهور، وخشي ممالأة ابنه ثيودوسيوس ونسيبه جرمانوس للجند، فأمر بإلقاء القبض على جرمانوس، فنفر الشعب وأخلى المتطوعة مراكزهم على الأسوار، ففر الإمبراطور بعائلته عبر البوسفور إلى نيقوميذية، فنادى الشيوخ والشعب في الثالث والعشرين من تشرين الثاني سنة 602 بفوقاس إمبراطورا، فدخل هذا في اليوم التالي ناثرا الذهب نثرا، ثم وجه إلى نيقوميذية من ذبح موريقيوس وعائلته ذبحا.
هجوم الفرس
وكان موريقيوس قد كتب إلى أبرويز شاه الفرس يستنجده، وسمع أبرويز أيضا بالثورة التي أعلنها نرسيس القائد في السنة 603 في الرها، فرأى أن يستغل فرصة مناسبة، فزحف بنفسه إلى الرها وحاصرها، ثم تغلب على الروم بين الرها ونصيبين في السنة 604، وفي السنة 605 سقطت دارا بيده، فاتجه أبرويز نحو سورية وأرمينية، واحتل قائده شاهين أرضروم
Theodosiopolis ، وأرمينية الصغرى في السنة 605-606، وغزا الأناضول فوصلت طلائع جيشه إلى خلقيدونية في السنة 610، وقام قائد آخر اسمه شهربراز فاحتل ماردين وآمد والرها والرقة، وفي السنة 610 أمسى الفرات الحد الفاصل بين الدولتين.
1
فوقاس وكنيسة أنطاكية
واتخذ فوقاس موقفا حازما من الشقاق، الذي كان قد حل بكنيسة أنطاكية بين المنوفيسيين اليعاقبة والأرثوذكسيين أبناء الكنيسة الجامعة، فأيد هؤلاء تأييدا تاما، ومنع اجتماعات اليعاقبة وضيق على بطريركهم أثناسيوس الجمال في مقره في القبة بين حلب ومنبج،
2
ولكن اليعاقبة تذامروا وتشجعوا، فعقدوا اجتماعاتهم وتشاوروا، وتوافد رؤساؤهم على أنطاكية، واجتمعوا في إحدى كنائسها؛ فاضطرت السلطات أن تفرقهم بالقوة، فامتنعوا فأكرهوا إكراها وكثرت ضحاياهم.
3
ووصل إلى أنطاكية في السنة 608 أنسطاسيوس بطريرك الأقباط المنوفيسيين، واجتمع بزميله أثناسيوس الجمال، فخالف بعمله هذا أوامر الإمبراطور واستهدف جزاءه، فنهض القائد بونوسيوس إلى أنطاكية وأمر بفض الاجتماع، فثار اليعاقبة في وجهه فأخضعهم بالقوة، وتناولت سيوف جنوده عددا كبيرا منهم فكانت مجزرة مؤلمة.
4
ويقول ثيوفانس المؤرخ إن فوقاس رغب في تنصير اليهود، فأمر بتعميدهم فثاروا في أنطاكية، فجرد بونوسيوس قوة عليهم فذبحهم تذبيحا،
5
ولكن كولاكوفسكي المؤرخ الروسي، الذي بحث هذا الأمر بحثا دقيقا يرى أن ثيوفانس يخلط في أمر تعميد اليهود بين فوقاس وهرقل، ويؤكد أن الذين ثاروا على فوقاس هم اليعاقبة لا اليهود، ويأخذ كولاكوفسكي برواية أنطيوخوس القائد،
6
فيرى أن اليهود استغلوا الموقف فأيدوا السلطات في نزاع سياسي بينها وبين الخضر، فأوقعوا باليعاقبة خسائر في الأرواح كبيرة.
7
مصرع البطريرك الأنطاكي
وتقدم الفرس، واحتلوا في السنة 608-609 منبج وخلقيس وحلب، وكان فوقاس لا يزال منهمكا في توطيد سلطته، فلم يعط الخضر شيئا مما وعد، فقاموا عليه وأهانوه علانية في الهيبودروم، فاشتد النزاع بينهم وبين الزرق، وعم معظم المدن الكبرى، وحدث مثل هذا في أنطاكية، فاستغل اليهود الظرفين الداخلي والخارجي، وتدخلوا في مشادة الأحزاب في أنطاكية، فأوقعوا بالمسيحيين خسائر في الأرواح جسيمة.
8
وكان أنسطاسيوس الأول قد توفي في أواخر السنة 598، فخلفه على كرسي الرسولين أنسطاسيوس الثاني (599-610) الراهب السيناوي المحامي، الذي نقل إلى اليونانية مصنف البابا غريغوريوس
Regula Pastoralis ، القوانين الرعوية، فلما دخل الفرس الشهباء، واشتد الضجيج في أنطاكية، استغل اليهود الظرف فيها، وحاكموا أنسطاسيوس الثاني محاكمة اعتباطية، وتفننوا في تعذيبه وإعدامه.
9
ويقول برنيقيوس إن اليعاقبة دبروا المكيدة، ولكنه قول ضعيف،
10
ودبر اليهود تدبيرا مماثلا في صور، ولكن مطرانها أفسد عليهم الخطة، فخسروا بدورهم خسارة كبيرة.
11
اللقب بطريرك المسكونة
وعظم قدر لاوون بابا رومة في منتصف القرن الخامس، وارتفعت منزلة زميله ديوسقوروس بابا الإسكندرية، واستوكف برهما، فعظما باللقب «المسكوني»، ولعل أوليمبوس أسقف إفازة
Evaza
هو أول من استعمل هذا اللقب، فإنه خص ديوسقوروس به في مجمع التلصص في أفسس سنة 449،
12
وحذا حذوه ثيودورس الشماس الإسكندري عندما خاطب لاوون لمناسبة المجمع الخلقيدوني في السنة 451،
13
وجاء مثل هذا أيضا في الرسالة التي وجهها رؤساء الأديار في القسطنطينية إلى البابا أغابيتوس في السنة 535.
14
وأعلن زينون كتابه الأينوتيكون، فأيده فيه أكاكيوس بطريرك العاصمة (472-488)، واعترض سمبليكيوس بابا رومة، فحل الشقاق بين الحبرين فاتخذ بطريرك القسطنطينية لقب بطريرك المسكونة وتبعه في ذلك خلفاؤه، وفي السنة 518 وجهت الأوساط الإكليريكية الأنطاكية رسالة إلى البطريرك القسطنطيني يوحنا الثاني (518-520) فاعتبرته بطريركا مسكونيا،
15
وكتب هذا البطريرك إلى زميله الأوروشليمي ووقع متخذا اللقب «البطريرك المسكوني».
16
وجاء يوستنيانوس بقوانينه وشرائعه، فاعتبر كل بطريرك قسطنطيني بطريركا مسكونيا، وأشار إلى حبر رومة بما يجوز تعريبه هكذا: صاحب القداسة رئيس أساقفة المدينة الأولى رومة وبطريركها
Sanctissimos Archispiscapus Almae Urbis Romae et Patriarcha .
17
وفي أعمال المجمع المسكوني الخامس ما يؤيد هذا كله، فالإشارة إلى بطريرك القسطنطينية مقرونة باللقب بطريرك المسكونة.
18
بيلاجيوس الثاني يحتج
وعلمت رومة بهذا كله، فتغاضت عنه ولم تعره اهتماما، ثم نشبت مشادة بين غريغوريوس الأول بطريرك أنطاكية، وبين أستيريوس والي الشرق، فعقد بسبب هذه المشادة مجمع في القسطنطينية في السنة 587، وتألف هذا المجمع من أساقفة ومطارنة وبطاركة وقضاة، وترأس جلساته يوحنا الصوام بطريرك القسطنطينية، وخرج غريغوريوس نقي الثوب بريئا،
19
ولكن بيلاجيوس الثاني بابا رومة (579-590) اعترض على عقد المجمع بدون علمه، وعلى اللقب «بطريرك المسكونة» الذي ورد في أعمال المجمع مقرونا باسم بطريرك القسطنطينية،
20
وشدد بيلاجيوس على وكيله في عاصمة الدولة ألا يشترك مع يوحنا ما دام مستمسكا بلقبه، أما الصوام فإنه لم يكترث لهذا كله، ولم يعبأ بتهديدات بيلاجيوس، فاكتفى بيلاجيوس بأن شكا أمره إلى زميليه الآخرين بطريركي الإسكندرية وأنطاكية.
21
غريغوريوس يشدد النكير
وخلف بيلاجيوس على سدة رومة غريغوريوس الكبير (590-604)، وكان ورعا تقيا فرأى في إقدام زملائه القسطنطينيين على التلقب بالمسكوني خطرا يهدد وحدة الكنيسة، فكتب إلى يوحنا في السنة 595 رسالة جاء فيها:
أذكر أن سلام الكنيسة يشوش بترفعك الأحمق، فيا أيها الأخ الحبيب أحب من كل قلبك التواضع الذي يحفظ اتفاق جميع الإخوة ووحدة الكنيسة المقدسة الجامعة، فإن بولس لما سمع بعضا يقولون: أنا لبولس وأنا لابولس اضطرب من تجزئة جسم المسيح فصرخ: ألعل بولس صلب لأجلكم أو باسم بولس اعتمدتم!
22
وتوفي الصوام في الثاني من أيلول من هذه السنة نفسها 595، متميزا بالصوم والتقوى والعلم والتصنيف، محرزا «بالتواضع رفعة وبالمسكنة غنى»،
23
وتبوأ السدة القسطنطينية بعده كيرياكوس، فكتب رسائل السلام إلى الكنائس، وفي طليعتها كنيسة رومة القديمة، فأجابه غريغوريوس عنها مهنئا، ثم كتب له أن يترك لقب «البطريرك المسكوني» إذا كان يرغب في السلام، وكتب إلى وكيله سبنيانوس ألا يخدم القداس معه ما لم يترك اللقب.
وكان غريغوريوس قد كتب إلى أنسطاسيوس بطريرك أنطاكية في آذار السنة 593، يهنئه بالعودة إلى السدة البطريركية بعد وفاة سلفه غريغوريوس ويهدي إليه مفاتيح الرسول،
24
فلما بدأت المشادة بينه وبين يوحنا الصوام وجه رسالتين: إحداهما إلى أنسطاسيوس، والأخرى إلى بطريرك الإسكندرية، موجبا الابتعاد عن تلقيب أحد بلقب رئيس كهنة مسكوني، مؤكدا أن الإمبراطور يخاف الله، وأنه لا يفعل شيئا ضد الإنجيل والقوانين، متأسفا أن يصبح يوحنا المتواضع متكبرا، راجيا إبقاء الكنائس على ما كانت عليه، وحفظ الأساقفة الخاضعين لهما من الفساد، مختتما بالعبارة: «فصلوا من أجلي لكي توافق أعمالي أقوالي.»
25
وعلم موريقيوس بما تمكن من ألفة بين أنسطاسيوس الأنطاكي وبين غريغوريوس، فطلب إلى الحبر الأنطاكي في السنة 597 أن يبرد غيظ حبر رومة ويسكن غضبه، فكتب أنسطاسيوس كتابا لطيفا إلى صديقه غريغوريوس، ورجاه ألا يفسح المجال للشر، وأن يعود إلى اللطف والملاينة، فلامه غريغوريوس على تهاونه، وأطلعه على مضمون الرسائل التي تبودلت بينه وبين كيرياكوس.
26
فوقاس واللقب المسكوني
وتمرد فوقاس وذبح موريقيوس وأولاده، فالتجأت أمهم قسطندية وبناتها الثلاث إلى دير أقمن فيه، فطلب فوقاس إلى البطريرك المسكوني تسليم البنات وأمهن، فأبى كيرياكوس ووبخ فوقاس على ظلمه،
27
وكتب غريغوريوس إلى فوقاس مهنئا متملقا، ثم توفي في السنة 604، فخلفه سبنيانوس فمات بعد بضعة أشهر، فتولى بونيفاتيوس الثالث. وتابع بونيفاتيوس سياسة التملق، فأمر فوقاس في التاسع عشر من كانون الثاني سنة 607 بأن تعتبر كنيسة رومة زعيمة جميع الكنائس
Caput omnium ecclesiarum ،
28
ثم منع كيرياكوس من استعمال اللقب المسكوني.
29
الفتح الفارسي (611-614)
وركل هرقل فوقاس برجله، ونادى الشيوخ بهرقل إمبراطورا، فكتب هرقل إلى أبرويز يعلمه بالقصاص الذي أنزله بفوقاس، ويؤكد له أن إعادة السلم بين الدولتين أصبح ميسورا، ولكن أبرويز لم يجب، وكانت جيوشه قد قطعت الفرات، واحتلت قرقيسية عند مصب الخابور والرقة إلى شماليها ، ثم تقدم شهربراز وتوغل في سورية الشمال، فاحتل أبامية وأنطاكية في ربيع السنة 611، ثم زحف على حمص فاستولى عليها، ودخل دمشق في السنة 613، وعاد هرقل إلى المفاوضة فلم يفلح، فرأى أن يجابه الفرس في جبهتين في آن واحد، فأنفذ فيليبيقوس بجيش إلى أرمينية، وقام هو وأخوه ثيودوروس إلى سورية الشمالية؛ ليصدا أبرويز عن لبنان وفلسطين ومصر، فالتقى الجيشان واشتبكا في السنة 613 حول أسوار أنطاكية، فدحر الروم وتراجعوا إلى مداخل قيليقية، فغلبوا فيها أيضا، واحتل الفرس طرطوس وقيليقية بأكملها،
30
وفي السنة 614 تابع الفرس زحفهم إلى الجنوب بقيادة شهربراز، وزحفوا من قيصرية فلسطين إلى أوروشليم، وهي البلد المقدس عند أعدائهم، فحاصروها عشرين يوما ثم دخلوها عنوة، فقتلوا جموعا غفيرة من النصارى؛ سبعة وخمسين ألفا، وأسروا خمسة وثلاثين ألفا، وأحرقوا الكنائس، وألقوا القبض على البطريرك زخريا، واستولوا على عود الصليب وأرسلوه إلى فارس،
31
ولكنهم أبقوا على كنيسة المهد لما شاهدوا في فسيفسائها من تكريم للمجوس،
32
وكان شهربراز قد حالف اليهود على النصارى، فلما تم له ما أراد نفى من المدينة المقدسة جميع اليهود، ثم أمر بترميم الكنائس، وفي ربيع السنة 617 عاد شهربراز إلى الفتح، فزحف على مصر وأدخلها في طاعة الشاه.
الفرس والكنيسة
واستعان أبرويز بالكنيسة الفارسية، فاذخر عددا من أساقفتها وقساوستها النساطرة والمونوفيسيين، وألحقهم بجيشه الفاتح، وأحلهم محل الأرثوذكسيين حيثما حل، فخلت جميع الأبرشيات الأنطاكية الشرقية من إكليروس الكنيسة الجامعة، وشغر الكرسي الأنطاكي بعد مقتل أنسطاسيوس الثاني مدة من الزمن، وجاء في تاريخ ميخائيل السرياني أن هذا الكرسي ظل شاغرا ثمانية وثلاثين عاما،
33
ولكن جاء أيضا في لائحة قسطنديوس البطريرك المسكوني أن غريغوريوس الثاني تولى من السنة 610 حتى السنة 620، وأن أثناسيوس الثالث خلفه حتى السنة 628، ثم مقدونيوس حتى السنة 640، فجاورجيوس حتى السنة 656،
34
ويوافق هذا الترتيب درج الأسماء نفسها في لائحة الأرج الزكي (بعبدا 1899).
مجمع طيسفون (614)
وشقت على أبرويز علة النصارى، وكانوا دخلوا في طاعته ألوفا ألوفا، فتعهدهم برعايته الشخصية، ودعا رؤساءهم إلى الاجتماع في قصره في طيسفون في السنة 614 للتداول والتشاور والاتفاق ،
35
فتوافدوا على العاصمة أساقفة و«فلاسفة» أي رهبانا، وكان بينهم فيما يظهر زخريا بطريرك أوروشليم الذي سيق إلى طيسفون أسيرا، وترأس اجتماعهم بأمر الشاه كل من سمباد البغرتوني الأرمني وطبيب الشاه، واشترك أبرويز في أعمال هذا المجمع بشخصه، وبحث المجتمعون قرارات مجامع نيقية والقسطنطينية وأفسس وخلقيدونية، ويستدل من نص المؤرخ سيبيوس أن أبرويز تكلم في الطبيعة والطبيعتين، وأنه لم يوافق على موقف النساطرة، فأمر بإخراجهم من المجمع، ثم أقر الأرمن في موقفهم، وأصبح القول بالطبيعة الواحدة في نظر السلطات الفارسية قولا مشروعا.
36
هرقل الصليبي الأول
وكان هرقل قد استشفع إلى العذراء في السنة 609 عندما بدأ يستعد للحملة على القسطنطينية، فعاد إليها مستشفعا في شتاء السنة 621، واعتزل الرياضة الروحية تأهبا للقيام بواجب مقدس؛ واجب الدفاع عن الدولة والكنيسة والدين. وفي الرابع من نيسان من السنة 622 تقدم من المائدة المقدسة متناولا جسد الرب ودمه، وفي الخامس من الشهر نفسه دعا إليه كلا من البطريرك المسكوني سرجيوس والحاكم بونوس والشيوخ وكبار الموظفين والوجهاء والأعيان، والتفت إلى البطريرك وقال: «إني أعهد إلى الله وإلى والدته وإليك بهذه المدينة وبابني من بعدي.» وبعد الصلاة في كنيسة الحكمة الإلهية والابتهال والتوسل، تسلم أيقونة السيد المخلص وأقلع بجنوده إلى خليج نيقوميذية، ثم إلى غلاطية وقبدوقية لإكمال التعبئة والتموين، ومن هنا القول إن هرقل أول الصليبيين.
وقام هرقل بحركة التفاف واسعة النطاق واتجه بجيشه شرقا مهددا مواصلات العدو في آسية الصغرى وطرق تموينه، فحاول شهربراز أن يصرف هرقل عن خطته فغزا قيليقية، ولكن هرقل لم يعره انتباها، فاضطر القائد الفارسي أن ينقلب إلى الشرق ليحول بين هرقل وهدفه، وتواقع الخصمان في أرمينية في السنة 622، فدارت الدائرة على الفرس وسجل هرقل نصرا مبينا، وانسحب الفرس من قبدوقية والبونط، وعاد هرقل إلى القسطنطينية لينظر في أمر الآفار، وفي ربيع السنة 623 استأنف الهجوم في الشرق، فقطع أرمينية واحتل دوخان ونشقفان، ثم توغل في أذربيجان واتجه نحو تبريز (كنزاكه) ليفاجئ أبرويز في قصره فيها؛ ففر أبرويز من المدينة ودخلها الروم فأحرقوا معبدها الكبير وتعقبوا الفرس الهاربين وهم ينهبون ويدمرون، ثم رجع هرقل خوفا من حركة التفافية خشي أن يقوم بها شهربراز أو شاهين أو الاثنان معا، وبانتصاراته هذه تسنى لهرقل أن يستمد من شعوب القوقاس المسيحية ما عبأ به الصفوف، وكر كرة أخرى إلى الميدان في السنتين 624 و625، فضرب شهربراز عند بحيرة وان، ثم ضربه في قيليقية عند نهر ساروس، فاضطر القائد الفارسي أن يتراجع إلى الشرق، وعدل هرقل إلى البونط لتمضية فصل الشتاء، ثم نوى أن يتحرك من البونط بجيش عظيم في السنة 626 ليستأنف انتصاره على الفرس، ولكن تقدم الآفار في البلقان وحصارهم القسطنطينية، اضطراه أن يؤجل قصده هذا حتى السنة 627. وفي صيف السنة 627 قام الخزر حلفاء هرقل بحصار تفليس، وهب هو إلى محاربة أبرويز، فانحدر إلى وادي الزاب ونازل خصمه في الثاني عشر من كانون الأول عند أطلال نينوى، فأوقع به هزيمة شنعاء، ثم عبر الزاب متجها شطر طيسفون عاصمة الفرس، فاحتل المقر الملوكي في دستجرد، وانتزع منه ثلاثمائة لواء رومي كان الفرس قد استحوذوا عليها في انتصارات سابقة، وأطلق سراح ألوف من الأسرى، ولما كان جيش شهربراز لا يزال كاملا سالما، وكانت خطوط الدفاع عن طيسفون قوية منيعة، آثر هرقل التربص لعدوه في تبريز، فقطع جبال الزاغروس في إبان الشتاء وبلغ إلى تبريز سالما في الحادي عشر من آذار سنة 628.
وكان شيرويه بن أبرويز قد تمرد على والده وتسنم العرش في الثامن والعشرين من شباط من السنة 628، فكتب إلى هرقل يطلب الصلح، فصالحه الإمبراطور على شروط أهمها: العودة إلى الحدود القديمة، وإطلاق الأسرى، وإرجاع الصليب المقدس. وقبل شيرويه بهذه الشروط فاتصل هرقل بشهربراز لتنفيذها، وكان هذا القائد لا يزال مستوليا على شطر وافر من أملاك الروم في آسية، وبعد مفاوضات طويلة اجتمع هرقل وشهربراز في أرابيسوس في آسية الصغرى في حزيران من السنة 629، وعرف هرقل كيف يحدث شهربراز بما كان يراود نفس هذا القائد، وكان شهربراز يطمع بعرش الفرس فعلله هرقل بالأمل، فأسرع القائد إلى تنفيذ المعاهدة وأجلى جيوشه عما كان يحتله من أراضي الروم.
الصليب المقدس
وجاء في تاريخ أنطيوخوس القائد أن أبرويز أودع الصليب زوجته المسيحية، فحفظته في مكان أمين في طيسفون،
37
وجاء لميخائيل المؤرخ السرياني أن الفرس سلموا الصليب المقدس إلى الروم في منبج، وأنه نقل منها إلى حلب فحمص فدمشق فطبرية، وأن هرقل نفسه تسلمه في طبرية، وقام به إلى أوروشليم،
38
وجاء لسيبيوس أن هرقل أدخل الصليب إلى المدينة المقدسة في موكب باهر الجلالة ظاهر الأبهة، ملأت هيبته الصدور وتخشعت أمامه العيون.
39
ويضيف ثيوفانس أن هرقل أمر بإخراج اليهود من المدينة قبل وصوله إليها، وأن البطريرك زخريا اشترك في هذا الموكب المهيب،
40
وتدل القرائن والنصوص أن وصول هرقل إلى أوروشليم تم في الحادي والعشرين من آذار سنة 630، وأن الاحتفال برفع الصليب إلى مكانه جرى في يوم الأحد التالي.
41
الأكاثيسطون (626)
وفي السنة 617 عبر الدانوب جمع غفير من الصقالبة، ناقلين معهم عيالهم وأمتعتهم، فانتشروا في البلقان وجزر إيجة وشواطئ آسية، وعاثوا في البلاد فسادا، وطوقوا تسالونيكية وحاصروها شهرا كاملا، ولم تكد تنجلي المحنة وينقضي عامان، حتى كر الصقالبة كرة أخرى جارين وراءهم الآفار، وما زالوا حتى بلغوا إلى ضواحي القسطنطينية، فنهبوا ودمروا وأحرقوا وسبوا، ولم يتراجعوا إلا بعد أن زاد لهم هرقل الإتاوة.
وقضت الحرب الفارسية بتغيب الإمبراطور عن العاصمة ثلاث سنوات متتالية، فعاد الآفار إلى سابق سيرتهم، وأرادوا هذه المرة اقتحام العاصمة نفسها في السنة 626، وتقدم الفرس في الحرب حتى خلقيدونية، فنكث خاقان الآفار بعهده واندفع بجموعه إلى أسوار العاصمة، وكان الإمبراطور قد أقام البطريرك المسكوني سرجيوس وصيا على ابنه ونائبه في الحكم، فهب البطريرك بفصاحته وشجاعته يثير الهمم ويشدد العزائم، فيطوف العاصمة بالشعائر الدينية، ويعلو بنفسه الأسوار ومعه أيقونة المخلص وأيقونة العذراء، فأصبح على تعبير أحد المعاصرين خوذة العاصمة ودرعها وسيفها، ويقول معاصر آخر: «إن البطريرك ما فتئ يواجه قوات الظلمة والفساد بأيقونتي المخلص والعذراء حتى أدب في قلوبهم الرعب والخوف، فكانوا كلما عرض البطريرك من الأسوار أيقونة الشفيعة حامية العاصمة، أعرضوا هم عن النظر إليها.»
42
وجمع الفرس أسطولا، وحاولوا الوصول إلى الشاطئ الأوروبي عبر البوسفور، ولكنهم أخفقوا؛ لأن مراكب الروم بددت شملهم عند القرن الذهبي، «فصبغت المياه بدمهم وغطت البحر بجثثهم»، وانقض خاقان الآفار بجموعه على الأسوار لآخر مرة في العاشر من تموز، فارتد خائبا وهو يقول: «إني رأيت امرأة متوشحة بأثمن الأثواب تطوف الأسوار من أولها إلى آخرها!»
وهكذا نجت العاصمة من هذا الخطر المداهم، فعزا سكانها انتصارهم على الفرس والآفار إلى السيدة العذراء حامية المدينة وشفيعتها، ونظم البطريرك سرجيوس تسبيحته الشهيرة الأكاثسطون، التي لا نزال نرددها ونرنمها باللحن الرابع حتى يومنا هذا مساء كل جمعة من الأسابيع الخمسة الأولى من الصوم الكبير:
إني أنا مدينتك يا والدة الإله،
أكتب لك رايات الغلبة يا جندية محامية،
وأقدم لك الشكر كمنقذة من الشدائد،
لكن بما أن لك العزة التي لا تحارب،
أعتقيني من صنوف الشدائد
حتى أصرخ إليك.
افرحي يا عروسا لا عروس لها.
43
والأكاثيسطون لفظ يوناني معناه «الذي لا يجلس فيه»، أي إنه لا يجوز الجلوس عند تلاوته، وقد اختلف العلماء رجال الاختصاص اختلافا كبيرا في الناظم وتاريخ النظم؛ فقال بعضهم ما قلناه أعلاه،
44
وقال آخرون غير ذلك، فأرجئوا النظم حتى أيام لاوون الثالث (717-741) ولم يعينوا الناظم،
45
ولمس غير هؤلاء تشابها شديدا بين هذا المديح وبين بعض ما ورد للقديس أفرام السرياني، فقدموا النظم حتى القرن الرابع، وقالوا بإضافة أبيات إليه تعبر عن النصر عند القسطنطينية.
46
تنصر اليهود
وكانت قلوب اليهود قد دمنت على رومة منذ خراب أوروشليم وتشتيت الشمل، فجاشت صدورهم عليها بالغل، فلما تنصرت الدولة الرومانية، وأصبحت النصرانية دينها الرسمي، أضمر اليهود العداوة للدولة وخاتلوا،
47
وكان ما كان من أمر الفوضى في عهد فوقاس، فنصب اليهود الحبائل الخفية، وضربوا النصارى ضربات مؤلمة، وعاونوا الفرس على الفتح.
48
وقد سبقت الإشارة إلى موقف يوستنينوس من اليهود فلتراجع في محلها. وإذا جاز لنا اعتماد رواية انفرد بها راو واحد، قلنا مع أغابيوس المنبجي إن موريقيوس طرد اليهود من أنطاكية،
49
ولا يجوز القول مع ثيوفانس ، كما سبق وأوضحنا، إن فوقاس أمر بتعميد اليهود.
50
وبدا لهرقل من اليهود ما دعا إلى التحذر من كيدهم، وأوجب التيقظ من مكرهم، ولكنه لم ينكر عليهم أفعالهم ولم يظهر لهم سوء صنيعهم إلا بعد انتهاء الحرب الفارسية؛ فقد جاء في تاريخ سيبيوس الأرمني أنه عند انتهاء الحرب الفارسية جاء ثيودوروس أخو هرقل بجيشه إلى الرها، وحاول الدخول إليها فمنعه يهودها، فحاصرها وكاد يفتك بهم لولا تدخل هرقل، وأن الإمبراطور أمر بخروجهم من المدينة، ففروا من وجهه والتجئوا إلى عرب البادية،
51
وقام هرقل إلى فلسطين معيدا الصليب المقدس، ووصل إلى طبرية فحل ضيفا على بنيامين اليهودي أحد وجوه البلدة، ثم استنكف لما علم أن هذا اليهودي الكبير اشترك في اضطهاد النصارى، فخرج من بيته، واستقر عند أفستاثيوس النابلسي المسيحي، وأكره بنيامين على التنصر ففعل.
52
وجاء في حوليات أفتيخيوس أن يهود الجليل أوفدوا إلى طبرية من رحب بالإمبراطور المنتصر، وقدموا له الهدايا وطلبوا الأمان، فأمنهم ببراءة رسمية حملت الخاتم الإمبراطوري،
53
ولكنه بعد أن دخل المدينة المقدسة أبعد اليهود عنها إلى مسافة ثلاثة أميال احتراما للصليب المقدس،
54
وجاء في حوليات أفتيخيوس أيضا أن نصارى أوروشليم رووا لهرقل ما أنزله بهم يهود المدينة من تعذيب وتقتيل، وأن رهبان المدينة المقدسة حضوا الإمبراطور على التنكيل باليهود؛ جزاء ما فعلوا، فأمر بهم فذبحوه، ولكنه قول ضعيف لا يجوز الأخذ به.
55
وظل الإمبراطور آخذا بقانون يوستنيانوس في معاملة اليهود حتى السنة 634، وفيها زحفت القبائل العربية على فلسطين، فلم يقو سرجيوس على الصمود في وجهها فتراجع أمامها، وما كاد يبدأ بالانسحاب حتى تطوع اليهود لخدمة العرب، فتجسسوا لحسابهم ونقلوا إليهم المعلومات الضرورية، وسمسروا لهم فاشتروا منهم ما غنموا من مال ومتاع وأسرى.
56
ومما يروى من هذا القبيل أنه عندما استولى العرب على جزيرة رودوس أسقطوا صنمها المشهور، إحدى العجائب السبع، فتقدم اليهود منهم وابتاعوا نحاس الصنم.
57
فامتلأ هرقل غيظا وثار ثائره، فأصدر في السنة 634 أمرا عاما بوجوب تنصير اليهود أينما كانوا وحيثما حلوا،
58
وأرسل الرسل إلى ملوك الإفرنج والقوط مبينا الضرر من بقاء اليهود على دينهم، موجبا تنصيرهم بالقوة.
59
فعل واحد ومشيئة واحدة
وأدى استيلاء الفرس على أرمينية وسورية ولبنان وفلسطين ومصر وبقاؤهم فيها خمس عشرة سنة، إلى اضطهاد أبناء الكنيسة الجامعة لعلاقتهم بالقسطنطينية وتمسكهم بعقائد الكنيسة الجامعة، كما كان طبيعيا أن يؤدي ذلك إلى تنشيط اليعاقبة وكل من قال بالطبيعة الواحدة. والواقع أنه لما عاد هرقل إلى هذه الأقطار، وجد أن جميع البطاركة هم من أتباع الطبيعة الواحدة، فعاد إلى معالجة هذا الانشقاق في الكنيسة لتوحيد الكلمة وجمع الصفوف خصوصا لأن الأخطار كانت لا تزال تحيط بالإمبراطورية وتهدد كيانها.
وكان طبيعيا أيضا أن يشعر البطريرك سرجيوس صديق هرقل الأمين بالضعف الذي نجم عن هذا الاختلاف في العقيدة؛ ذلك بأن البطريرك كان سوري المولد يعقوبي النشأة،
60
وأنه كان يمارس الحكم ويطلع على خفايا الأمور في أثناء الحرب الفارسية.
ويرى بعض الباحثين أن القول بفعل
Energeia
واحد، كان قد بدأ في مصر في بعض الأوساط القبطية منذ أوائل القرن السابع، وأن القول بالطبيعة الواحدة جر هؤلاء إلى القول بالفعل الواحد. وكان أفلوغيوس بطريرك الإسكندرية الأرثوذكسي قد حارب هذا القول بشدة وحزم.
61
فلما تسلم هرقل أزمة الحكم، وبدأ التعاون بينه وبين سرجيوس البطريرك المسكوني، تراءى لهذا أنه بإمكانه أن يجد مخرجا سليما من الأزمة اللاهوتية المستحكمة، ووسيلة لتوحيد الصفوف، فقال بالطبيعتين مع آباء المجمع الخلقيدوني، ولكنه خرج من القول بأقنوم واحد إلى القول بفعل واحد، وادعى أن سلفه ميناس قال قوله من قبل في رسالة وجهها إلى زميله فيجيليوس بابا رومة.
62
ولا يخفى على أي أرثوذكسي أن هذا القول لا يتفق والعقيدة الصحيحة، فالمسيح في نظرنا إله كامل وإنسان كامل، وطبيعته البشرية لا يمكن أن تكون كاملة وهي ناقصة الإرادة والفعل؛ وبالتالي فالقول بالطبيعتين يلزمه الاعتقاد بالفعلين والمشيئتين باتحاد وبلا انفصال، فيسوع لم يرد ولم يفعل شيئا من حيث هو إله فقط، ولا من حيث هو إنسان فقط، بل كإله وإنسان معا بدون اختلاط أو انقسام.
وهام سرجيوس في أودية الضلال ، وجره القول بالفعل الواحد إلى القول بالمشيئة الواحدة، ولين ومهد في مصر أولا، فاتصل في بادئ عهده بفرقها الضعيفة الصغيرة بالهرمسيين والأكيفاليين وبث الدعاية بينهم، فوافقه بعضهم فاضطر الراهب أنسطاسيوس السيناوي أن يرد عليه بين السنة 615 والسنة 630 مبينا ضلاله، وذلك في كتابه «المرشد»
Hodegos ،
63
واتصل سرجيوس في السنة 615 بثيودوروس أسقف فارانة
سيناء، وأوضح له رأيه فقال ثيودورس قول البطريرك المسكوني، وأم القسطنطينية لزيادة البحث والتنقيب.
64
وفي السنة 617 قبل الدعوة الجديدة جاورجيوس أرساس رئيس فرقة البولسيين، وأراد البطريرك الإسكندري يوحنا الرحوم أن يعاقب جاورجيوس على ضلاله، فلم ير إلى ذلك سبيلا لدخول مصر في طاعة الفرس.
65
ولما كانت السنة 623 التقى هرقل في أرمينية ببولس أسقف الأرمن في قبرص، فتحدث إليه في رأي سرجيوس، وأرسل سرجيوس إلى بولس نص رسالة ميناس إلى فيجيليوس، وكتب هرقل إلى أركاديوس متروبوليت قبرص محذرا التعليم بالمشيئتين،
66
وفي السنة 626 انتهز هرقل فرصة إقامته في لازقة ففاوض كيروس
Cyrus
أسقف فاسيس في بلاد الأكراد، ونصح إليه أن يكتب إلى سرجيوس، فقبل كيروس وكتب إلى سرجيوس
67
فأجابه هذا
68
بأنه وجد بين رسائل أحد أسلافه ميناس رسالة وجهها إلى فيجيليوس بابا رومة، أشار فيها إلى فعل واحد ومشيئة واحدة،
69
وأضاف أنه لا يعرف أحدا من الآباء يؤيد القول بالمشيئتين؛ وهكذا قال كيروس بالمشيئة الواحدة.
مؤتمر منبج
وسر هرقل بكيروس وازداد شجاعة، ودخل الرها في السنة 630، وأخرج النساطرة من كتدرائيتها وحولها إلى اليعاقبة، وفي يوم الميلاد أم هذه الكنيسة للصلاة، وتقدم من المائدة المقدسة، فامتنع الأسقف أشعيا عن مناولة الإمبراطور، مشترطا رفض طومس لاوون وقرارات المجمع الخلقيدوني، فغضب هرقل وطرد الأسقف واستعاض عنه بغيره،
70
وفي أثناء وجوده في الرها فاوض هرقل أثناسيوس الجمال بطريرك اليعاقبة في أمر المشيئة الواحدة،
71
وأشار على سرجيوس أن يكتب إليه أيضا.
72
ثم رأى الإمبراطور أن يتصل بالجمال، فالتقيا في منبج في أثناء السنة 631، واصطحب الجمال اثني عشر أسقفا بينهم أشعيا بطل رواية الرها، وتفاوض الكبيران فاعترف الإمبراطور ببطريركية أثناسيوس على أنطاكية مقابل اعتراف البطريرك بالمجمع الخلقيدوني، فقبل الجمال ، ثم استدعى الإمبراطور كيروس، وطلب إليه أن يوضح قضية المشيئة الواحدة ففعل، فقال البطريرك قول كيروس، وتبعه في ذلك عدد من الأساقفة والرهبان، وظل أثناسيوس بطريركا على أنطاكية وحده حتى وفاته في السادس والعشرين من تموز سنة 631.
73
وروى ابن العبري اليعقوبي عن ديونيسيوس التلمحري ما ترجمته: وإذ بلغ الملك «هرقل» إلى منبج مثل لديه البطريرك أثناسيوس ومعه اثنا عشر أسقفا، وطلبهم منهم جميعا صورة إيمانهم، وإذ تلاها أوسعها مدحا، ولكنه لم يغفل عن تكليفهم بقبول المجمع الخلقيدوني، وإذ أبوا غضب الملك عليهم، وكتب إلى كل المملكة أن من لا يسلم بالمجمع الخلقيدني يجدع أنفه وتصلم أذناه ويؤخذ بيته.
74
وهو قول ضعيف لا يقبله الثقاة.
75
وجاء إلى الجزيرة كاثوليكوس الأرمن أزر، فقابل الإمبراطور فيها، وبحث معه أمر المشيئة الواحدة فقال بها، ثم تناولا معا وعاد الكاثوليكوس إلى أسز يبشر بالعقيدة الجديدة.
76
رهبان بيت مارون
وانتقل هرقل من الجزيرة إلى سورية الشمالية، فزار أنطاكية ولم يعين خلفا لأثناسيوس الجمال،
77
ثم قصد المدن والأديار، فاستقبل فيها استقبالا حسنا حافلا، ولدى وصوله إلى حمص هرع رهبان بيت مارون إلى الترحيب بقدومه، فأكرم وفادتهم وأقطعهم أراضي واسعة،
78
وقبلوا دعوته فيما يظهر وأيدوه، وكيف لا يؤيدونه وهو الملك وهم الملكيون، «ولو شاءوا لجابهوا المبتدعين (اليعاقبة) بالشدة لا باللين، ولكن بما أن الملك أخذ باللين، فهل على الملكيين إلا السير على الخطة عينها!»
79
ومن هنا قول ميخائيل السرياني: «أما رهبان الموارنة في منبج وحمص وفي البلدان القبلية فقد أظهروا كيدهم، وقبل المجمع عدد كبير منهم، واستولوا على أكثر الكنائس والأديار.»
80
والمجمع المشار إليه في هذا النص هو المجمع الخلقيدوني، عقدة العقد في نظر ميخائيل واليعاقبة، والمعنى المقصود هو أن رهبان دير القديس مارون قبلوا الحل الذي حمله هرقل؛ أي قبلوا القول بالطبيعتين مع المجمع الخلقيدوني، وبالمشيئة الواحدة مع سرجيوس وهرقل،
81
فأظهروا كيدهم واستولوا على أكثر الكنائس والأديار، ولا يخفى أن رهبان القديس مارون كانوا قد قبلوا قرار المجمع الخلقيدوني منذ ظهوره، وأنهم كانوا قد ضحوا في سبيل هذا القبول بثلاثمائة وخمسين راهبا شهيدا،
82
فإذا كان ميخائيل يعني بنصه هذا أن رهبان القديس مارون قبلوا القول بالطبيعتين فقط؛ يصبح ترحيبهم بهرقل في حمص ضربا من المجاملة لا يستحق «إقطاع الأراضي الواسعة»، ولا يخولهم «الاستيلاء على أكثر الكنائس والأديار»، فهرقل أراد تسوية واسعة وتوحيد الصفوف، فعرض القول بمشيئة واحدة وبطبيعتين لاسترضاء اليعاقبة والأرمن والأقباط.
ولا يجوز الجزم في شيء مما تقدم ذكره؛ لأن جميع مراجعنا متأخرة؛ فديونيسيوس التلمحري الذي أخذ عنه ميخائيل السرياني، من أعيان القرن التاسع (815-845)، وقد ضاع مصنفه ولم يبق منه سوى ما اختصره ميخائيل السرياني وغيره، وميخائيل هذا ولد في ملاطية سنة 1126، وترهب في دير مار برصوم، وسيم بطريركا على اليعاقبة في السنة 1166، وتوفي في خريف السنة 1199. وأفتيخيوس هو سعيد ابن البطريق بطريرك الإسكندرية منذ السنة 933 حتى السنة 940، وإذا كان لا يجوز الجزم في صحة هذه الروايات «المستلقة المتآلفة»، فإنه لا يجوز أيضا إغفالها جميعها أو بعضها كما فعل بعض الآباء الأحبار وغيرهم ممن عني بتاريخ الموارنة، وسنعود إلى هذا عند الكلام عن ظهور بطريركية مارونية مستقلة.
فارس وأرمينية ومصر
وليس من العلم بعد هذا كله أن نقول مع المطران يوسف دريان (137) «أنه لم يكن للمونوثيلية أثر بشكلها المعروف في كل سورية قبل الفتح العربي، وأنه لم يبق مجال لدخولها بعد الفتح»، وقد يفيد هنا أن نذكر اندفاع أحد أساقفة دمشق في سبيل هذه المونوثيلية نفسها، وذهابه إلى فارس قبل الفتح العربي للتبشير فيها بالحل الجديد،
83
فإنه بينما كان هرقل لا يزال في حلب مثل أمامه وفد فارسي مؤلف من الكاثوليكوس وبعض الأساقفة، وبين للإمبراطور أسس الإيمان في فارس فرضي الإمبراطور، واشترك مع الوفد في الصلاة والمناولة،
84
وأكمل هرقل جولته في سورية، وعاد إلى جزيرة فعلم في الرها أن الأوساط الأرمنية لا تجمع على تأييد الكاثوليكوس في موقفه الجديد من المجمع الخلقيدوني، فأوعز الإمبراطور إلى الكاثوليكوس أن يدعو الأساقفة إلى مجمع جديد يبت في الأمر، فاجتمع الأساقفة في كارين (أرض روم) في السنة 633 وكرروا تأييدهم لرئيس كنيستهم.
85
واستغل المونوفيسيون في مصر الظرف الفارسي، فاستأثروا بقيصرية الإسكندرية وجلس بطريركهم فيها، وسيم جاورجيوس بطريركا على الإسكندرية في السنة 621، ولكنه لم يتمكن من الوصول، فبقي في القسطنطينية وتوفي فيها في السنة 631، وأعجب هرقل بمواهب كيروس وباندفاعه في سبيل الفعل الواحد والمشيئة الواحدة، فجعله بطريركا وواليا على مصر،
86
وما كاد يصل إليها في خريف السنة 631 حتى فر بنيامين بطريرك المونوفيسيين واختبأ،
87
فخلا الجو لكيروس، فكتب اعترافا بإيمانه بالمشيئة الواحدة، ودعا المونوفيسيين للموافقة عليه، فقبله السويريون فورا فلاينهم البطريرك، ورفضه اليوليانيون فضيق البطريرك عليهم، ففروا واستشرفوا في حركة الفتح الإسلامي نوعا من الإنقاذ.
88
البطريرك صفرونيوس
وكانت كنيسة دمشق قد أنجبت شابا غيورا مؤمنا مندفعا هو صفرونيوس العظيم، وكان صفرونيوس قد تعلم البيان وعلمه، واتخذ لنفسه لقب الحكيم، ثم قدم النذر في الإسكندرية ولبس الأسكيم فيها والتحق بإحدى رهبانياتها، ووضع مواهبه بعد ذلك تحت تصرف بطاركتها المستقيمي الرأي، فعاون كلا من أفلوغيوس وثيودوروس ويوحنا الرحوم في سعيهم لهدي المونوفيسيين، ولدى وصول الفرس إلى مصر خرج صفرونيوس منها، واتجه نحو قرطاجة ورومة، ثم عاد الصليب إلى أوروشليم فعاد صفرونيوس إلى الشرق، إلى فلسطين نفسها، وانعكف متأملا في دير القديس ثيودوسيوس بالقرب من بيت لحم.
وقدر لكيروس أن ينجح في مصر، كما سبق وأشرنا، فذاع خبر نجاحه في فلسطين، وعم الأوساط الرهبانية وطرق مسامع صفرونيوس فأقض مضجعه، فعول على القيام بذاته إلى مصر للاتصال بكيروس وإنقاذه من الضلال، ولم يعبأ صفرونيوس بمشاق السفر، وكان قد بلغ الرابعة والثمانين، فقام إلى مصر وذهب توا إلى الإسكندرية، وارتمى على أقدام بطريركها راجيا العدول عن القول بالفعل الواحد والمشيئة الواحدة،
89
ولكن كيروس لم ير رأيه، فأعلن الراهب الشيخ عزمه على السفر إلى القسطنطينية لمناقشة سرجيوس نفسه في الأمر، فزوده كيروس بنسخة عما وزع في موضوع الاتحاد، ورجاه عرضها على زميله القسطنطيني.
ووصل صفرونيوس إلى العاصمة واتصل ببطريركها وناقشه، فاتفق الاثنان على تدوين ما يقولان حصرا للمعنى، وعرضه على المجمع الدائم في القسطنطينية، ونظر المجمع فيما دون، فقال بوجوب الابتعاد عن المشاحنات الكلامية والاستمساك بقرارات المجامع، فوعد سرجيوس أنه سيكتب لكيروس أن يكف عن البحث في الموضوع،
90
وعاد صفرونيوس إلى ديره في بيت لحم.
ولدى عودة الشيخ الوقور إلى مقره في بيت لحم أثيرت قضية خلافة يعقوب أخي الرب، وكان الكرسي لا يزال شاغرا منذ وفاة موذيستوس في أواخر السنة 630، فلما لمع صفرونيوس في دفاعه عن الإيمان القويم انتخب بطريركا على أوروشليم، وقد اختلف العلماء في تاريخ هذا الانتخاب، فقال العلامة الأب فان سان الدومينيكي بأنه تم في السنة 636،
91
وخالفه آخرون فحددوا السنة 634 تاريخا لهذا الانتخاب؛
92
ومما جاء عن هذا الموعد أن تسليم العكاز تم قبيل عيد الميلاد، وأن البطريرك الجديد لم يتمكن من قيادة المؤمنين إلى بيت لحم لظهور العرب في ضواحيها وقلة الأمن.
93
وقضى العرف والتقليد بأن يوجه البطريرك الجديد ومجمعه رسائل سلامية إلى سائر البطاركة تنبئ بالانتخاب الجديد، وتنقل بيانا بإيمان البطريرك المنتخب، فدعا صفرونيوس المجمع الأوروشليمي، وأطلع أعضاءه على نص إيمانه، ثم وجه الرسائل إلى البطاركة، وجاء في رسالته السلامية إلى سرجيوس كلام واضح في الثالوث والتجسد، وقول ناصع بالمشيئتين والطبيعتين، ورجاء بإيفاد أبوكريساريوس يحمل الجواب ويمثل البطريرك في أوروشليم.
94
سرجيوس وأونوريوس
ونادى مكسيموس القسطنطيني بمثل ما نادى به صفرونيوس، فخاف سرجيوس واضطرب، ومنع جماعته عن المذاكرة في الموضوع، وكتب للبابا أونوريوس يستوضح رأيه، فأجابه البابا أنه من حيث المشيئة يعترف بمشيئة واحدة في المسيح -
Unde et unam voluntatem fatemur
95 - ومن حيث الفعل لا يسمح أن يذكر أحد لا فعلا ولا فعلين،
96
وعقد صفرونيوس المجمع الأوروشليمي، ودفع برسائله السلامية إلى البطاركة، فاضطرب البابا أونوريوس، وكتب له والبطاركة بمعنى رسالته الأولى،
97
فأيد هرقل موقف أونوريوس وسرجيوس وكيروس من قضية الفعلين، فأصدر إرادة سنية في السنة 634-635 حرم فيها البحث في الفعل الواحد والفعلين.
98
الإكثيسيس (638)
واستهال هرقل أمر العرب وغزواتهم وكاد ينشق صدره، ورغب رغبة أكيدة في توحيد الصفوف، وظن أن مثل هذا التوحيد يتم بمجرد صدور إرادة ملكية، وتوفي صفرونيوس في السنة 638 سنة دخول العرب إلى المدينة المقدسة، فأصدر الإمبراطور بيانا
Ekthesis
بالإيمان الصحيح في أواخر السنة 638، وأوجب قبوله والعمل بموجبه.
99
وأهم ما جاء في الإكثيسيس قول المجمع الخلقيدوني بالثالوث والتجسد الإلهي، وتحريم البحث في الفعل أو الفعلين، ووجوب القول بمشيئة واحدة وبطبيعتين بدون اختلاط أو انفصال.
وعقد سرجيوس مجمعا محليا في السنة 638 وصدق الإكثيسيس ثم مات،
100
فخلفه بيروس، وكان هذا قد اشترك في إعداد نص الإكثيسيس، فوافق عليه موافقة سلفه سرجيوس.
101
وخلف صفرونيوس في الكرسي الأوروشليمي سرجيوس اليافاوي فقال بالمشيئة الواحدة، وكان مقدونيوس البطريرك الأنطاكي لا يزال مقيما في القسطنطينية؛ نظرا لاضطراب الأحوال في سورية وسائر ولاية الشرق، فأيد الإكثيسيس وقال بالمشيئة الواحدة.
102
وحمل نص الإكثيسيس إلى الإسكندرية ورابينة الماجيستروس أفستاثيوس فابتهج كيروس وهلل، وتوفي أونوريوس في خريف السنة 638، فخلفه في الكرسي الرسولي سويرينوس، وأوفد سويرينوس أبوكريساريوسا إلى القسطنطينية، ينبئ البلاط والبطريركية بانتخابه، ويرجو الإمبراطور تصديق الانتخاب والسماح بتسليم العكاز، فاشترط هرقل الاعتراف بمضمون الإكثيسيس قبل التصديق، وتوفي هذا البابا في السنة 640 ولم يحرم القول بالمشيئة الواحدة، أما خلفه يوحنا الرابع (640-642) فإنه عقد مجمعا محليا وحرم القول بالمشيئة الواحدة.
103
الفهارس
سلسلة البطاركة
34-634 (1)
بطرس الرسول. (2)
إفوذيوس
Evodios . (3)
أغناطيوس ثيوفورس المتوشح بالله: ولعله توفي بين السنة 106 والسنة 108، أو في السنة 115. (4)
هيرون
Hirona . (5)
كرنيليوس: ولعله تولى في السنة 128. (6)
إيروتوس
Eroutos : ولعله ترأس في السنة 142. (7)
ثيوفيلوس: توفي بعد آذار السنة 181 أو 182 أو 185. (8)
مكسيمينوس: توفي في آذار السنة 190 أو 191. (9)
سرابيون: 191-212. (10)
أسقليبياذس: 212-218. (11)
فيليطوس: 218-231. (12)
زيبنوس
Zebennos : 231-238. (13)
بابيلاس (بابولا): 238-250. (14)
فافيوس (فابيوس): 250-252. (15)
ديمتريانوس: شتاء السنة 252-253، حتى السنة 260-261. (16)
بولس السميساطي: 260-268. (17)
دومنوس: 268-271. (18)
تيمايوس
Timaios : 271-279. (19)
كيرلس: 279-303. (20)
تيرانوس
Tyrannos : 304-314. (21)
فيتاليوس: 314-319. (22)
فيلوغونوس
: 319-324. (23)
إفستاسيوس
Eustathios : 325-330. (24)
بافلينوس
: 330-331. (25)
إفلاليوس
Evlalios : مدة قصيرة غير محددة حسب رواية ثيودوريطس. (26)
إفرونيوس
Euphronios : 332-333. (27)
فلاكيلوس
Flacillos : 333-344. (28)
إسطفانوس: 342-344. (29)
لاونديوس
Leontios : 344-358. (30)
أفذوكسيوس: 358-359. (31)
أنيانوس
Annianos : 359. (32)
ملاتيوس: 360-361. (33)
إفظويوس
Euzoios : 361-376، ثم دوروثيوس. (34)
ملاتيوس: 378-381. (35)
فلافيانوس: 381-404، وبافلينوس، وإيفاغريوس. (36)
بورفيروس: 404-414. (37)
ألكسندروس: 414-424. (38)
ثيودوتوس
Theodotos «عطا الله»: 424-428. (39)
يوحنا: 428-441، وخلفه ابن أخته. (40)
دومنوس الثاني: 441-449. (41)
مكسيموس: 451-455، خلع خلعا. (42)
باسيليوس: 457-458. (43)
أكاكيوس: 458-459. (44)
مرتيريوس: 458-471. (45)
بطرس القصار: 464، 465، 466، 467، و475-476، و485-490. (46)
يوليانوس: 471. (47)
يوحنا الثاني: 477. (48)
إسطفانوس الثاني: 477-481، وهو هو الذي يدعى أيضا الثالث. (49)
كالانذيون: 481-485. (50)
بالاذيوس: 490-498. (51)
فلافيانوس الثاني: 418-512، خلع ونفي إلى البتراء. (52)
سويروس الأنطاكي: 512-518، فر إلى مصر. (53)
بولس الثاني: 519-521، أكره على التنازل. (54)
إفراسيوس: 521-526، توفي في أثناء الزلزال . (55)
إفرام: 527-545، قومس الشرق سابقا. (56)
ذومنينوس لا ذومنوس: 545-559. (57)
أنسطاسيوس السينايتي: 559-570، لجأ إلى القسطنطينية. (58)
غريغوريوس: 570-593. (59)
أنسطاسيوس ثانية: 593-598. (60)
أنسطاسيوس الثاني : 599-609، استشهد على يد اليهود. (61)
غريغوريوس الثاني: 610-620. (62)
أنسطاسيوس الثالث: 620-628. (63)
مقدونيوس: 628. (64)
أثناسيوس الجمال اليعقوبي، الذي وافق على برنامج هرقل.
الباب الثالث: النصرانية والإسلام
1 - محمد والإسلام والنصارى
2 - وصول الإسلام إلى أبرشيات أنطاكية
3 - المجمع المسكوني السادس
4 - يوحنا الدمشقي دفاق الذهب
5 - الأيقونات
6 - نظم الكنيسة وقوانينها وطقوسها في القرنين السابع والثامن
7 - العباسيون والكنيسة
8 - فوطيوس العظيم
9 - عصر الروم الذهبي
10 - الفاطميون والكنيسة
11 - بدء الانشقاق العظيم
12 - صدى الانشقاق
13 - الحروب الصليبية
14 - رومة والقسطنطينية في أثناء الحروب الصليبية
15 - هولاغو والكنيسة
16 - عهد المماليك
17 - المجمع الفراري الفلورنسي
الفهارس
سلسلة البطاركة
الباب الثالث: النصرانية والإسلام
1 - محمد والإسلام والنصارى
2 - وصول الإسلام إلى أبرشيات أنطاكية
3 - المجمع المسكوني السادس
4 - يوحنا الدمشقي دفاق الذهب
5 - الأيقونات
6 - نظم الكنيسة وقوانينها وطقوسها في القرنين السابع والثامن
7 - العباسيون والكنيسة
8 - فوطيوس العظيم
9 - عصر الروم الذهبي
10 - الفاطميون والكنيسة
11 - بدء الانشقاق العظيم
12 - صدى الانشقاق
13 - الحروب الصليبية
14 - رومة والقسطنطينية في أثناء الحروب الصليبية
15 - هولاغو والكنيسة
16 - عهد المماليك
17 - المجمع الفراري الفلورنسي
الفهارس
سلسلة البطاركة
كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (الجزء الثاني)
كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (الجزء الثاني)
634-1453م
تأليف
أسد رستم
الباب الثالث: النصرانية والإسلام
634-1453
الفصل الأول
محمد والإسلام والنصارى
610-632
انتشار النصرانية في قلب الجزيرة
بحثنا في الفصل السادس والعشرين في انتشار النصرانية في بادية الشام شرقا وغربا، وآثرنا أن نرجئ الكلام في انتشارها في قلب الجزيرة نفسها إلى أن يتسنى لنا البحث في ظهور الإسلام في مكة والمدينة، وذيوعه شمالا وشرقا.
ويستدل من أقدم المراجع العربية الإسلامية أن أفرادا وجماعات من قبائل هذيم وعذرة وجذام وجهينة وبلي وبهرا وطي وحنيفة؛ دخلوا في النصرانية قبل الإسلام، وأن بعض هؤلاء لم يسلم إلا بعد وفاة النبي.
1
وأقرب هذه القبائل للمدينة بنو هذيم، وكانوا فقراء ضعفاء، أما بنو عذرة فإنهم نزلوا وادي إضم في شمالي الحجاز، وعرفوا برقة عواطفهم وطهارة عشقهم، وقد جاء في كتاب الطبقات لابن سعد أن أمهات بعض الأنصار كن من بني عذرة.
2
وكانت منازل جهينة بين المدينة والعقبة وفي سيناء حتى الفرما، وجاءت منازل بلي بين المدينة وتبوك.
3
ومن نصارى قضاعة بهرا، وكانت منازلهم بين بلي وبين مشارف الشام، وتاخمت لخم حدود الشام، أما منازل بني طي وبني حنيفة فإنها كانت في قلب الجزيرة وإلى شرق المدينة.
4
والأنصار في القرآن هم نصراء النبي:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم .
5
والأنصار في القرآن أيضا هم الرسل أصحاب عيسى استنصر بهم من اليهود:
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .
6
وقال ابن إسحاق: «وكان من بعث عيسى بن مريم من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم في الأرض؛ بطرس الحواري، ومعه بولس، وكان بولس من الأتباع ولم يكن من الحواريين، إلى رومية، وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وتوماس إلى أرض بابل من أرض الشرق، وفيبليس إلى قرطاجة وهي إفريقية، ويحنس إلى أفسوس قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوروشليم وهي إيلياء قرية بيت المقدس، وابن ثلماء إلى الأعرابية وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر، ويهودا ولم يكن من الحواريين جعل مكان يودس.»
7
وهكذا، فيكون النصارى عند العرب آنئذ هم أنصار عيسى وأنصار أنصاره، ويكون أحدهم نصراني، ومن هنا الآية:
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ، وتكون النصرانية بالتالي دين النصارى.
وتمر العصور ويبقى حس هذا العهد مسموعا في ما تبقى من أدب؛ فهذا حنظلة الطائي يفارق قومه وينسك ويبني ديرا بالقرب من ضفة الفرات، وفيه يترهب حتى يموت. وذاك قس بن ساعدة يتقفر القفار ولا تكنه دار، يتحسى بعض الطعام ويأنس بالوحوش والهوام. وينظم بعضهم الشعر فيزهد في الدنيا ويدعو إلى النظر في الكون والاعتبار بحوادثه.
8
وصول النصرانية إلى مكة
وليس لنا أن نقول مع صديقنا المرحوم الأب لويس شيخو إن النصرانية توطدت في مكة، وإن الدليل على ذلك أن الكعبة خضعت لأسقف عليها، فالأزرقي قال إن الكعبة كانت مكشوفة لا «سقف» عليها، ولم يقل إنها كانت «لأسقف» عليها !
ولكن لا يختلف اثنان - فيما نعلم - في وصول النصارى من الأحباش إلى مكة وإقامتهم فيها لأغراض يقضونها، وإذا كان هؤلاء من «طبقة العبيد»، وكانت منازلهم بعيدة عن الكعبة متاخمة للصحراء، وكان ما يتحدثون به من قصص دينية لا يتصل بسمع أمجاد قريش وأشراف أهل البلد الحرام، فماذا نقول بأمية بن أبي الصلت الذي كان ينظر في الكتب ويقرؤها ويلبس المسوح تعبدا، وبورقة بن نوفل الذي عرف الإنجيل ونقل بعضه إلى العربية!
9
وماذا نقول في القريشيين الأربعة؛ ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن نفيل، الذين خلصوا نجيا
10
فقال بعضهم لبعض: «تعلموا، والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع!» فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب، وأما ابن جحش فإنه هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ثم تنصر ومات نصرانيا، وكذلك ابن الحويرث فإنه لجأ إلى قيصر وتنصر، وابن نفيل لم يدخل في يهودية ولا نصرانية، ولكنه فارق دين قومه واعتزل الأوثان.
11
ومن أخبار النصرانية والنصارى في مكة قبل ظهور الإسلام فيها: أن حليمة السعدية أم النبي بالرضاعة عادت بالنبي إلى مكة فرآه نفر من الحبشة نصارى، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه، وأرادوا أن يأخذوه إلى ملكهم في الحبشة. وأضل محمد الولد أمه في الرضاعة فوجده ورقة بن نوفل، وأتى به عبد المطلب وقال له: هذا ابنك وجدته بأعلى مكة.
12
الراهب بحيرة
وأحب أبو طالب محمدا حتى كان يقدمه على أبنائه، وأراد أن يخرج يوما في تجارة له إلى الشام، وكان محمد لا يزال في الثانية عشرة فأبدى رغبة في مصاحبة عمه، فصحب الغلام القافلة، ووصل الركب إلى بصرى، فنزل بالقرب من صومعة بحيرة الراهب، فرأى بحيرة محمدا «وغمامة تظله»، فأرسل إلى الركب يقول: إني قد صنعت لكم طعاما فاحضروا كلكم كبيركم وصغيركم. فاجتمعوا إليه، وتخلف محمد لحداثة سنه، فأصر الراهب على حضوره فحضر، فجعل بحيرة يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرة وسأله عن أشياء من حاله، فأخبره الرسول فوافق كلامه ما كان عند الراهب من صفاته. ثم نظر الراهب إلى ظهر الرسول فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، وكان مثل أثر المحجم. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب وقال: «ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه من اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا.»
13
خطباء النصارى
ولم يفد أبو طالب مالا كثيرا من رحلته إلى الشام فأقام في مكة، وأقام محمد معه قانعا بنصيبه، فإذا جاءت الأشهر الحرم ظل بمكة مع أهله أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة بعكاظ ومجنة وذي المجاز؛ يستمع لإنشاد أصحاب المذهبات والمعلقات، ويصغي إلى خطب الخطباء ومن بينهم اليهود والنصارى، الذين كانوا يأخذون على إخوانهم العرب وثنيتهم، ويحدثونهم عن الإنجيل والتوراة، ويدعونهم إلى الحق، وكان محمد يزن ذلك بميزان قلبه فيراه خيرا من هذه الوثنية التي غرق فيها أهله.
14
الراهب نسطور
ورعى الغنم - غنم أهله وغنم أهل مكة - وذكر ذلك مغتبطا، وأحب عمه أبو طالب أن يجد له سببا للرزق أوسع، فبلغه أن خديجة المثرية تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وإذ علم أنها تجهز لخروج تجارتها إلى الشام نادى إليه ابن أخيه محمدا، وكان يومئذ في الخامسة والعشرين من سنه، وأخبره بما كان من أمر خديجة، وسأله ما إذا كان يكلمها، فقال محمد: «ما أحببت.» ووافقت خديجة على استخدام محمد، فخرج مع ميسرة، غلامها، وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارة بوادي القرى ومدين وديار ثمود، فلما بلغت بصرى اتصل محمد بنصارى الشام وتحدث إلى رهبانها، وتحدث إليه الراهب نسطور وسمع منه، ولعله جادله.
15
محمد وأول الوحي
وتزوج محمد من خديجة ابنة عم ورقة بن نوفل، وتيسر له التفكير والتأمل، وكان يلجأ في شهر رمضان إلى غار حراء للتأمل والعبادة، وفيما هو نائم في الغار جاء ملاك وفي يده صحيفة، وقال: اقرأ، فقال محمد: ماذا أقرأ؟ فقال الملاك:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
وتنبه محمد فزعا، ودخل على خديجة وقال: زملوني. فزملته وهو يرتعد كأن به الحمى، فلما ذهب عنه الروع نظر إلى خديجة وحدثها بالذي رأى، فانطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وأخبرته بما رأى محمد، فأطرق ورقة - وكان نصرانيا كما أوضحنا - ثم قال: «قدوس قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت.»
16
وخرج محمد للطواف بالكعبة فلقيه ورقة، فلما أخبره محمد بما رأى قال ورقة: «والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبن ولتؤذين ولتخرجن ولتقاتلن، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه.»
17
النجاشي مسيحي لا يظلم عنده أحد
ونزلت سورة الضحى، وعلم الله محمدا الصلاة، وصلت خديجة معه، وأسلم علي بن أبي طالب وأبو بكر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعد والزبير، وتحدث الناس عن محمد وظنوا أن حديثه لن يزيد على حديث الرهبان والحكماء أمثال قس وأمية وورقة، وأن الناس عائدون لا محالة إلى دين آبائهم، وبعد ثلاث سنين أنذر النبي عشيرته، وقال: إنه النذير المبين، فأعرضوا عنه وانصرفوا مستهزئين.
ثم انتقل محمد إلى أهل مكة جميعا، وصعد على الصفا ونادى، فنهض أبو لهب، وقال: تبا لك، فجاءت الآية:
تبت يدا أبي لهب وتب ! فحارب أشراف قريش محمدا بالحط من شأنه وبتكذيبه فيما جاء به، فبادأهم محمد بذكر آلهتهم وعابها، فعظم ذلك عليهم وحز في صدورهم، ومضى محمد في دعوته ومضت قريش في ائتمارها، فاعتصم محمد بقومه، ووثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين الوضعاء يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ثم حاول عتبة بن ربيعة أن يفاوض محمدا، وأن يعرض عليه أمورا لعله يكف، وعرض عليه مالا وزعامة، فتلا محمد سورة السجدة! فزاد ما كان ينزل بالمسلمين من الأذى وبلغ منهم القتل.
فأشار محمد على جمهور المسلمين أن يتفرقوا في الأرض، فسألوه أين نذهب، فنصح إليهم أن يذهبوا إلى بلاد الحبشة المسيحية؛ لأن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق! وخرج المسلمون إلى الحبشة المسيحية في هجرتين، ونقل جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي بعض ما جاء في سورة مريم:
فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
18
جبر النصراني
وفي أثناء الهجرة إلى الحبشة أسلم عمر بن الخطاب، فظن المسلمون في الحبشة أن قريشا رجعت عن أذاها فعادوا إلى مكة، فعادت قريش إلى الأذى فعاد المهاجرون مرة ثانية إلى الحبشة، وهددت قريش محمدا وهددت أهله وتهكمت به وسخرت منه.
وكان محمد يكثر من الجلوس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له: جبر عبد لابن الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام ابن الحضرمي، فجاءت الآية:
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
19
عداس النصراني
وفر المسلمون من مكة إلى شعاب الجبل، وحصروا فيها، ثم مات أبو طالب وماتت خديجة، وازداد أذى قريش، فخرج محمد إلى الطائف وحيدا منفردا، واحتمى إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وحبس إلى ظل شجرة من عنب وابنا ربيعة ينظران إليه، فلما اطمأن رفع رأسه إلى السماء ضارعا وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني.»
فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمتهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، ففعل عداس، وقال: كل، فلما وضع الرسول يده فيه قال: باسم الله، ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال محمد: ومن أهل أي البلاد أنت وما دينك؟ قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له محمد: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال محمد: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي، فقبل عداس رأسه ويديه وقدميه، فقال ابنا ربيعة: ويلك يا عداس ما لك تقبل! فقال: لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا: ويحك! لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
20
إبراهيم وموسى وعيسى
ثم عرض محمد نفسه على القبائل في أثناء المواسم، ولكن عمه عبد العزى بن عبد المطلب كان يتبعه ويحرض الناس على ألا يستمعوا له، وقصد كندة في منازلها، وذهب إلى بني كلب في منازلهم، وأتى بني حنيفة وبني عامر؛ فردوه جميعا ردا غير جميل.
وفي هذه الفترة؛ أي حوالي السنة 621 بعد الميلاد كان الإسراء والمعراج، وأطل جبريل وفي يده دابة عجيبة، هي البراق، لها أجنحة كأجنحة النسر، انحنت أمام الرسول فاعتلاها، وانطلقت به انطلاق السهم فوق جبال مكة ورمال الصحراء متجهة إلى الشمال، فوقف الملاك به عند جبل سيناء حيث كلم الله موسى، ثم وقف به في بيت لحم حيث ولد عيسى، ثم انطلق بعد ذلك في الهواء فبلغ بيت المقدس، فقيد محمد دابته وصلى على أطلال هيكل سليمان ومعه «إبراهيم وموسى وعيسى»، ثم أتي بالمعراج فارتكز على صخرة يعقوب وعليه صعد محمد سراعا إلى السماوات.
21
ونقل الزهري عن سعيد بن المسيب أن محمدا وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة، فقال: «أما إبراهيم فلم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه، وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى، كأنه من رجال شنوءة، وأما عيسى بن مريم فرجل أحمر ، بين القصير والطويل، سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس، تخال رأسه يقطر ماء وليس به ماء، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي.»
22
الهجرة إلى المدينة (622)
وقبل الدعوة عدد من أهل يثرب، وازدادوا، ولم يجدوا فيها من أذى اليهود والمشركين عبدة الأوثان ما وجده إخوانهم في مكة من أذى قريش، والعيش في يثرب آنئذ أرخى منه في مكة، وما أحب محمد أن يرد على قريش إساءتها؛ لأنه كان لا يزال أضعف منها، وقد لا ينصره أهله عليها، وكانت دعوته لا تزال ترتكز إلى الرفق والإقناع والجدل بالتي هي أحسن، فأمر أصحابه أن يلحقوا بالأنصار في يثرب، وبدءوا يهاجرون، ففطنت قريش للأمر فاعترضت السبيل، ومانعت وعذبت ونكلت، وحسبت لهجرة النبي نفسه ألف حساب وخشيت أن تؤدي الهجرة إلى قطع طريق الشام أو إلى الإجاعة، واجتمعت قريش في دار الندوة وتشاورت على قتل محمد، وعلم محمد بما بيتت قريش، فظل في مكة حتى لم يبق من المسلمين بها إلا القليل، وفي ليلة الهجرة أسر إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الأخضر وأن ينام في فراشه، وأن يبقى بعده في مكة حتى يوزع الودائع التي كانت عنده للناس.
وأخبر محمد أبا بكر بأن الله أذن له في الهجرة، فطلب الصديق أن يصحبه فأجابه إلى ذلك، فانطلقا إلى غار ثور أولا وأقاما به، وفي اليوم الثالث امتطى كل منهما بعيره، وأخذا طريقا غير الذي ألف الناس.
وترامت أخبار هذه الهجرة إلى يثرب، وبينما كان مسلموها ينتظرون يوما كعادتهم صاح بهم يهودي: «هذا صاحبكم قد جاء!» وخرجت يثرب لاستقباله، رجالا ونساء، مؤمنين ويهودا ومشركين.
اليهود أمة مع المؤمنين
ودخل محمد في دور جديد من رسالته، واضطر أن يعالج مشاكل جديدة لم تظهر من قبل، نراه في أوائل عهده في المدينة منهمكا في تنظيم العلاقات بين المهاجرين والأنصار، وفي علاقة هؤلاء جميعا باليهود والمشركين، ويتضح من نص «الصحيفة» الواردة في تاريخ ابن هشام عن ابن إسحاق التي اعتاد المستشرقون المستعربون أن يسموها «دستور المدينة» أن النبي اعتبر المؤمنين «أمة واحدة»، وأنه اعتبر اليهود أيضا «أمة مع المؤمنين»، وأن «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم»، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس، وأن قريشا لا تجار ولا تناصر.
23
مخاوف يهود المدينة
وأقبل اليثربيون على الإسلام، وازداد المسلمون شوكة وقوة، فخشي اليهود أن تمتد الدعوة إلى صفوفهم، وأن تفشو في عامتهم، وأسلم عبد الله بن سلام أحد كبار أحبارهم، فازدادوا خوفا وغيظا، وأجمعوا على أن يكيدوا لمحمد.
محمد ويهود المدينة
وبدأ اليهود بالجدل واستعانوا بالدسيسة والنفاق، فنزل صدر سورة البقرة وما يزيد على ثلثها، ونزل قسم كبير من سورة النساء، وفيها تأنيب لليهود على ما أنكروا من كتابهم:
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
24
ثم حاول اليهود فتنة محمد نفسه، فذهبوا إليه، وقالوا: «إنك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا، وإنا وإن اتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة فنحتكم إليك فتقضي لنا فنتبعك ونؤمن بك.»
25
فجاءت الآية:
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ،
26
ثم حاولوا إقناعه بالجلاء عن المدينة، فذكروا له أن الرسل اتخذوا من بيت المقدس مقاما لهم، وأنه يجدر به أن يعتبر المدينة وسطا في هجرته بين مكة ومدينة المسجد الأقصى، فرد محمد على هذا بأن جعل قبلته إلى المسجد الحرام «بيت إبراهيم وإسماعيل»، فأنكر اليهود عليه هذا التغيير، وقالوا: إنهم يتبعونه إذا هو رجع إلى ما كان عليه من قبل إلى جعل قبلته إلى المسجد الأقصى، وجاءت الآية:
قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
27
وجاء سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى ومحمود بن دحية وشاس بن قيس ومالك بن الضيف ؛ فقالوا للنبي: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم:
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .
28
محمد ونصارى نجران
ووفد على محمد في إبان هذا الجدل العنيف ستون راكبا من نصارى نجران، بينهم العاقب، وهو أميرهم، واسمه عبد المسيح والسيد وهو تمالهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم فشرفه ملوك الروم ومولوه وبنوا له الكنائس، فلما وصلوا المدينة دخلوا على النبي في مسجده حين صلى صلاة العصر، وحانت صلاتهم فقاموا في هذا المسجد نفسه يصلون، فقال الرسول: «دعوهم.» فصلوا إلى المشرق، ثم كلموا الرسول، فلما كلمه الحبران قال لهما: أسلما، قالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تسلما، قالا: بل قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما ولم يجبهما، فنزل صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية:
29
الله لا إله إلا هو الحي القيوم ...
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ...
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ...
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ...
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .
سلمان الفارسي
وكان محمد قد وجد في يثرب بين أرقاء اليهود رجلا فارسيا نصرانيا، ذكي الفؤاد كثير الخبرة واسع الاطلاع دقيق التصرف؛ فأحبه وعاونه على عتق نفسه، ثم جعله من صحبه وأخصائه، وهو سلمان الفارسي، ذاك الذي قال عنه النبي فيما بعد: «سلمان منا أهل البيت.»
30
وقال ابن إسحاق: إن سلمان الفارسي قال: «كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، وكان أبي دهقان قريته، وأمرني يوما بالذهاب إلى ضيعته لقضاء بعض ما أراد، فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، فدخلت، فأعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم وقلت: هذا - والله - خير من الدين الذي نحن عليه، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبي، فقال: ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا، إنه لخير من ديننا، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته. وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم، فقدم عليهم ركب من تجار النصارى فخرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ فقالوا: الأسقف في الكنيسة، فجئته وقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين فأحببت أن أكون معك وأخدمك فأتعلم منك وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، وكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضا شديدا، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فأريتهم موضع الكنز، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، وما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أفضل منه وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه، فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله مثله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصي بي وبما تأمرني، فقال: والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، فقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فألحقني برجل بنصيبين، فالتحقت به وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فأوصى بي إلى رجل في عمورية، فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم، واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله، فسألته إلى من توصي بي قال: والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه، ولكنه قد أظل زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين هرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت فافعل.»
31
محمد والقتال
وهكذا، فإن محمدا لم يفكر في ملك ولا في مال ولا في تجارة، وإنما كل همه توفير الطمأنينة لمن يتبع رسالته وكفالة الحرية لهم في عقيدتهم ككفالتها لغيرهم في عقيدتهم، وهذه الوجهة في التفكير هي التي نزل بها الوحي على محمد منذ الهجرة، وهي التي جعلته جنوحا للسلم راغبا عن القتال، مقتصدا - طول حياته - أشد القصد فيه، غير لاجئ إليه إلا لضرورة تقتضيه دفاعا عن الحرية والدين والعقيدة، ألم يقل له أهل يثرب ممن بايعوه في العقبة الثانية حين سمعوا المتجسس عليهم يصيح بقريش ينبهها لأمرهم: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا.» فكان جوابه: «لم نؤمر بذلك.» ثم ألم تكن أول آية في القتال:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، والآية بعدها:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ! فتفكير محمد إذن إنما كان متجها لغاية واحدة عليا، هي كفالة حرية العقيدة والرأي، كفالة في سبيلها وحدها أحل القتال، ودفاعا عنها أبيح دفع المعتدي حتى لا يفتن أحد عن دينه، ولا يظلم أحد بسبب عقيدته أو رأيه!
32
ولم تكن السرايا الأولى التي أنفذت لقتال قريش إلا محاولة لإفهام قريش أن مصلحتهم تقضي بالتفاهم مع المسلمين، تفاهما يكفل حرية الدعوة إلى الدين وحرية التجارة للمشركين، ولعل محمدا رمى من وراء هذه السرايا إلى غرض آخر هو تخويف اليهود الذين بدءوا يقلبون له ظهر المجن، وعملوا لإثارة البغضاء وإيقاظ الأحقاد في المدينة.
ولم ينكر محمد الدفاع عن النفس، ولكنه أنكر حرب الاعتداء، ومن هنا الآية:
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، ومن هنا القول في الآية:
والفتنة أشد من القتل ، والجهاد في سبيل الله معناه قتال الذين يفتنون المسلم عن دينه ويصدونه عن سبيل الله.
إجلاء اليهود
وحاولت قريش إثارة شبه الجزيرة كلها على محمد وأصحابه، فأيقن محمد أنه لم يبق في الاتفاق معهم أي رجاء، وخرج أبو سفيان في خريف السنة 623 في تجارة إلى الشام، فتحين محمد موعد عودته منها وأرسل إلى طريق الشام من ينتظر خبر هذه العودة، وخشي أن تفوته العير في عودتها إلى مكة فندب المسلمين قائلا: «هذه قريش، فاخرجوا إليها؛ لعل الله يكفيكموها.» وأراد بعض من لم يسلم أن ينضم طمعا بالغنيمة، فأبى محمد «أو يؤمنوا بالله ورسوله». واستنفر ضمضم قريشا إلى أموالهم فخرجت مكة كلها للدفاع عن تجارتها، وعدل أبو سفيان بالسير مساحلا، وفات المسلمين خبره فنجا، وكانت موقعة بدر في آذار السنة 624، وانتصر المؤمنون على المشركين.
ووصل رسول محمد إلى المدينة يبشر بالفوز وسر المسلمون، أما الذين بقوا على الشرك واليهود فقد كبتوا لهذا النبأ، فقالوا: إن محمدا قتل وإن أصحابه هزموا، ثم دخل محمد المدينة منتصرا، وازداد قوة ونفوذا، ولكنه ما كاد يعود من بدر حتى بدأت طوائف المدينة الأخرى تتغامز وتأتمر وتغري بالمسلمين وتحرض عليهم.
وقدمت امرأة من العرب إلى سوق اليهود من بني قينقاع ومعها حلية جلست إلى صائغ فهم بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فجاء يهودي من خلفها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ - وكان يهوديا - فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فوقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع، وطلب محمد إلى هؤلاء أن يكفوا وأن يحفظوا العهد، فاستخفوا به، فحاصرهم المسلمون في دورهم خمسة عشر يوما، فلما سلموا أخرجوا من المدينة، فساروا حتى بلغوا وادي القرى فأقاموا فيها زمنا، ثم ساروا صوب الشمال حتى بلغوا أذرعات على حدود الشام.
33
وعاهد محمد قبائل الشاطئ عبر طريق الشام، فنصح الأسود بن المطلب قريشا بأخذ طريق العراق، ودلهم على فرات بن حيان من بني بكر بن وائل يدلهم على الطريق، وقال فرات: طريق العراق ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد، فإنما هي أرض نجد وفياف، فعلم محمد بذلك فأنفذ مائة راكب اعترضوا تجارة قريش، فغنموا وعادوا إلى المدينة، فثار ثائر قريش وجهزوا للثأر، فكانت موقعة أحد في ربيع السنة 625، وظفر المسلمون، ثم دارت الدائرة عليهم فاستماتوا في الدفاع عن الرسول، وتحرج موقف محمد في المدينة وبين القبائل المحيطة بها، وقام بنو أسد يدعون إلى مهاجمة المدينة والسير إلى محمد فيها، فسير النبي مائة وخمسين راكبا فاجئوا بني أسد وعادوا غانمين، وتكررت هذه الحوادث بين المسلمين وبين القبائل المجاورة، فجاءت سجالا.
34
ووجد اليهود وغيرهم من أهل المدينة في ما أصاب المسلمين ما ذكرهم بأحد، فخشي النبي أمرهم، وشاء أن يستدرجهم ليستوضح نياتهم، فذهب إلى اليهود من بني النضير في محلتهم في ضواحي المدينة في عشرة من كبار المسلمين، بينهم أبو بكر وعمر وعلي، فرابه أمرهم وانسحب تاركا أصحابه عندهم، وقام هؤلاء في طلبه فوجدوه في المسجد، فذكر لهم ما رابه، ثم بعث إلى بني النضير من قال: «إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي، لقد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه.» وحاصر المسلمون بني النضير عشرين ليلة، فاستأمنوا، فصالحهم، فخرجوا ونزلوا خيبرا، وسار بعضهم إلى أذرعات في الشام.
35
وخرج نفر من بني النضير وقدم مكة، فسألهم أهلها عن قومهم فقالوا: تركناهم بين خيبر والمدينة ينتظرونكم لتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه، وسألوهم عن بني قريظة فقالوا: هم في يثرب متى أتيتم مالوا معكم، وقالت قريش لليهود: إنكم أهل الكتاب الأول، وتعرفون ما نختلف فيه ومحمد، فهل ديننا خير أم دينه؟ فقالت اليهود: بل دينكم خير من دينه. وخرج اليهود إلى عرب غطفان وبني مرة وبني فزارة وأشجع وسليم وسعد وأسد، فحرضوهم على الأخذ بالثأر، وخرجت هذه الأحزاب كلها متجهة نحو يثرب فبلغوها في أواخر آذار السنة 627، واتصل خبر هذا السير بمحمد وجماعته، فحفروا الخندق أمام المدينة بإرشاد سلمان الفارسي، فعرفت هذه الحرب بحرب الخندق. وأقبلت قريش وأحزابها ففاجأها الخندق، فحاصرت المدينة واكتفت بتبادل الترامي بالنبال، وتحركت في بني قريظة يهوديتهم، فنقضوا عهدهم مع محمد! وتراجعت قريش وتراجع أحزابها، فأمر محمد مؤذنا فأذن في الناس: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة!» فقتلت المقاتلة وقسمت الأموال وسبيت الذرية والنساء.
36
وقل متجر قريش، وخف دخلها ولم تأت الحرب بفائدة، وجعل محمد قبلته إلى المسجد الحرام فسئمت قريش الحرب وباتت أكثر استعدادا للتفاهم والمسالمة، وكان محمد على صلة مستمرة بعمه العباس وغيره، فعلم بهذا التطور النفساني، فأذن في الناس بالحج في شهر ذي القعدة الحرام من السنة السادسة للهجرة؛ أي في آذار السنة 628، وخرج إلى مكة بمن معه من المهاجرين والأنصار، وأحرم بالعمرة؛ ليعلم الناس أنه لا يريد قتالا، وفاوض محمد قريشا فتهادنا، فعرفت المهادنة بعهد الحديبية، وعاد المسلمون إلى المدينة وفي نفوسهم من أمر هذا الصلح شيء، فنزلت سورة الفتح وهم في الطريق، وتلاها محمد عليهم.
37
وفكر محمد في هذا الأمر مليا، فانتهى به تفكيره إلى ضرورة القضاء على شوكة اليهود، وإلى إرسال رسله إلى هرقل وكسرى، وغيرهما، ولم يقم في المدينة إلا شهرا واحدا، ثم جهز لغزو خيبر، وانطلق المسلمون في ألف وستمائة، وفاجئوا خيبرا وحاصروها، فاستقتل اليهود ثم دب اليأس إلى قلوبهم فصالحوا على نصف إنتاجهم، وذلك في حزيران السنة 628،
38
وجرى كل هذا مع يهود فدك ووادي القرى، وكانت جزية خيبر للمسلمين؛ لأنهم قاتلوا لاستخلاصها، وكانت جزية فدك للنبي؛ لأن المسلمين لم يجلبوا عليها، وقبل يهود تيماء الجزية بدون حرب، وأوصى النبي بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم ولم يكلف يهود البحرين دفع الجزية وإن ظلوا على دينهم، وصالح بني غازية وبني عريض بالذمة والجزية.
الرسائل إلى الملوك والأمراء
وجاءت رسالة محمد سمحاء فلم يكره أهل الكتاب من اليهود والنصارى على قبولها، ولكنه اعتبرها عالمية، فرغب في تعميمها قدر المستطاع، وخرج يوما على أصحابه فقال: «أيها الناس إن الله قد بعثني رحمة وكافة.» ثم ذكر لهم أنه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث الغساني والحارث الحميري والنجاشي؛ يدعوهم إلى الإسلام، فصنع له خاتما من فضة نقش عليه «محمد رسول الله». وبعث بكتبه إلى هؤلاء الملوك والأمراء في أيار السنة 628، وجاء في كتابه إلى هرقل:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.
وكتب مثل هذا إلى كسرى والنجاشي والمقوقس والحارث الغساني والحارث الحميري، وحمل رسالته إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبي، وإلى كسرى عبد الله بن حذاقة السهمي، وإلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، وإلى المقوقس حاطب بن أبي بلتعة، وإلى الحارث الغساني شجاع بن وهب الأسدي، وإلى الحارث الحميري المهاجر بن أمية المخزومي،
39
ويشك بعض علماء الفرنجة في صحة هذه الرسائل، ولكنهم يتطرفون.
40
وتتمة ما جاء في المصادر العربية أن دحية التقى بهرقل في حمص، وأن هرقل لم يغضب ولم تثر ثائرته، وأنه رد على الرسالة ردا حسنا، وجاء أيضا أن الحارث الغساني بعث إلى هرقل يخبره أن رسولا جاءه من محمد بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، وأن الحارث استأذن بأن يقوم على رأس جيش لمحاربة صاحب هذه الدعوة، وأن هرقل أجاب الحارث بأن يوافيه إلى المدينة المقدسة.
ومما جاء في المصادر العربية أيضا: أن شرحبيل بن عمرو الغساني صاحب بصرى في حوران قتل الحارث بن عمير الأزدي رسول النبي إلى صاحب بصرى في حوران، ومما تشتمل عليه المصادر أيضا أن المقوقس حاكم مصر بعث إلى النبي في الرد على رسالته يقول: إنه يعتقد أن نبيا سيظهر، ولكنه في الشام، وتضيف هذه المصادر أن المقوقس بعث إلى محمد جاريتين وبغلا وحمارا وكمية من المال وبعض خيرات مصر، وأن النبي قبل هذه الهدية، وتزوج من إحدى الجاريتين ماريا فولدت له إبراهيم، وأهدى شيرين الجارية الثانية إلى شاعره حسان بن ثابت، وأنه أسمى البغلة الفريدة في بياضها دلدل، والحمار عفيرا أو يعفورا.
قتال النصارى في مؤتة (629)
ومضى عام بعد الحديبية، وخرج النبي إلى عمرة القضاء وجلت قريش عن مكة، وصعدت في التلال المجاورة، وأم المسلمون البيت الحرام وطافوا بالكعبة، ثم نحر النبي الهدي عند المروة وحلق رأسه وأقام ثلاثة أيام ثم خرج إلى المدينة.
وأقام محمد بضعة أشهر في المدينة لم تقع في خلالها سوى بعض المناوشات والمناورات الصغيرة. وكان بين هذه إرسال خمسة عشر رجلا إلى ذات الطلح على حدود الشام يدعون إلى الإسلام، فقتلوا كما قتل الحارث بن عمير الأزدي ولم ينج منهم إلا زعيمهم، فجهز محمد ثلاثة آلاف من خيرة رجاله، وأمر عليهم زيد بن حارثة وأنفذهم إلى حدود الروم في خريف السنة 629.
وسار المسلمون حتى بلغوا معان، وسبقهم نبأهم، فجمع شرحبيل عامل هرقل جموعا من قبائل الحدود؛ من نصارى لخم وجذام والقين وبهراء وبلي. وبلغ المسلمين وهم في معان خبر هذه الجموع، فترددوا أولا، ثم قالوا مع عبد الله بن رواحة: «إنما هي إحدى الحسنيين فإما ظهور وإما شهادة.» ومضوا، فالتقوا بأعدائهم في مشارف عند تخوم البلقاء، فلما اقترب حلفاء الروم انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة ليتحصنوا بها، فدارت معركة أسفرت عن مقتل عدد من المسلمين بينهم زيد بن حارثة ربيب النبي نفسه وجعفر بن أبي طالب، فدافع خالد بن الوليد بالقوم وحاشى، ثم انحاز وتحيز حتى انصرف بالناس، وعاد المسلمون إلى المدينة فإذا بذويهم يصيحون في وجوههم: «يا فرار، فررتم في سبيل الله!» وإذا بقريش تعتبر تراجع المسلمين هزيمة قاضية.
41
سقوط مكة (630)
وقضى صلح الحديبية بحرية التحالف؛ أي أن يدخل في عهد محمد من شاء وأن يدخل في عقد قريش من شاء، ودخلت خزاعة في عهد محمد، ودخل بنو بكر في عهد قريش، وكانت بين هاتين القبيلتين ثارات قديمة، فلما انكسر المسلمون في مؤتة ظن بنو بكر أنه قضي عليهم، وخيل إلى بعضهم أن يأخذوا بثأر قديم ففاجئوا خزاعة وقتلوا منهم، فلجأ هؤلاء إلى حليفهم محمد، وكان البعض من قريش - وفي طليعتهم عكرمة - قد حرضوا بني بكر، فرأى محمد أن لا مفر من فتح مكة فتحا.
وبعثت القبائل من سليم ومزينة وغطفان وغيرها؛ من انضم إلى المسلمين من المهاجرين والأنصار، وسار النبي بهؤلاء جميعا فلقيه بالجحفة العباس عمه وجماعة من أهله، فأسلموا، وتابع محمد السير حتى ذي طوى ورأى أن مكة لا تقاوم فاستوقف الناس وانحنى يشكر الله، وعلى الرغم من هذا فإنه ظل متحذرا ففرق جيشه أربع فرق، ودخل مكة في الحادي عشر من كانون الثاني سنة 630، فلم يلق منها مقاومة إلا جيش خالد بن الوليد.
42
الأسقف ضغاطر
وعاد النبي إلى المدينة بعد فتح مكة وبعد انتصاره في حنين وبعد حصار الطائف والقضاء على مقاومة المشركين فيها، فعظم شأنه في الجزيرة وقبل دعوته عدد كبير من أبنائها، وظل النصارى في شمال الجزيرة على دينهم، ولا سيما وأن هرقل كان قد استعاد هيبة الروم وكرامتهم بعد انتصاره على الفرس.
فكتب النبي في هذه الآونة إلى أسقف من أساقفة البادية اسمه ضغاطر، يقول: «إلى ضغاطر الأسقف، سلام على من آمن، أما على أثر ذلك فإن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الزكية، وإني أؤمن بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، والسلام على من اتبع الهدى.»
43
لا ندري - بالضبط - ماذا كان أثر هذه الرسالة في نفس ضغاطر وبين قومه ورعيته، وليس لدينا ما ينبئ بقبولها وبدخول هؤلاء في الإسلام.
تبوك
وراقب الغساسنة محمدا ولعلهم دسوا في صفوفه فخشي أمرهم،
44
وذكر يوم مؤتة وما جره من هزء واستخفاف، فأمر بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في أواخر صيف السنة 630 «في زمن عسرة من الناس وشدة من الحر، وحين طابت الثمار - والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم - وكان قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له»، أما غزو تبوك فإنه بينه للناس؛ لبعد المسير، وليتأهبوا، فأمرهم بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم، فقال للجد بن قيس: «هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» أي الروم، فقال جد: ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله وقال: قد أذنت لك، وحض محمد أهل الغنى على النفقة، فاحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان وحده ألف دينار، وبلغ محمدا أن ناسا من «المنافقين» يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن غزوة تبوك؛ فأمر بإحراق البيت،
45
وسار الجيش حتى بلغ الحجر، وبها أطلال ثمود، ثم انطلق قاصدا تبوك، فبلغ الروم أمر هذا الجيش وقوته، فآثرت الانسحاب بجيشها.
فأقام محمد عند الحدود، ووجه رسالة إلى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة عند خليج العقبة أن يذعن أو يغزوه، فأقبل يوحنا وعلى صدره صليب من ذهب، وقدم الهدايا وصالح محمدا على جزية يدفعها في كل عام، فأمنه محمد بكتاب وجهه إليه،
46
وخشي محمد انتقاض أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني أمير دومة الجندل (الجوف) فأنفذ خالد بن الوليد إليه على رأس قوة، ففاجأه خالد وهو يطارد بقر الوحش وأخذه أسيرا وقدم به على محمد، فحقن له دمه وصالحه على الجزية.
47
الجزية على يد
وتبرم بعض من اشترك في الحملة على تبوك وتأففوا من أنهم تحملوا وعادوا ما تحملوه ولم يغنموا،
48
وكان بعض المسلمين قد تخلفوا عن مؤازرة النبي في الحملة على تبوك، فعاد النبي وتلا من سورة التوبة:
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم .
ثم خرج أبو بكر حاجا في ثلاثمائة مسلم، ولحق به علي بن أبي طالب فوقف في الناس وهم يؤدون مناسك الحج في منى، فتلا عليهم آيات من سورة التوبة:
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، ولما أتم تلاوتها صاح: «أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته.» ثم أجل الناس أربعة أشهر ليرجع كل إلى مأمنه وبلاده.
49
ثم أمر الرسول بجهاد أهل الشرك بعد الأربعة الأشهر فجاءت الآيات:
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول ، ثم ذكر قوم قريش لتنقطعن عنا الأسواق فتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق، فجاءت الآية:
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ؛ أي عوض ما تخوفتم من قطع الأسواق، ودلت الآيات التالية على أن الإشارة بالعبارة «الذين أوتوا الكتاب» هي إلى اليهود وإلى النصارى،
50
ومن هنا خروج القبائل العربية المسلمة إلى الشام والعراق.
الفصل الثاني
وصول الإسلام إلى أبرشيات أنطاكية
632-656
تعاليم الإسلام
هو الله لا إله إلا هو رب العالمين، خلق السماوات والأرض وما بينهما، وقد اختار أفرادا من خلقه واتصل بهم بالوحي، ومن هؤلاء إبراهيم وموسى وعيسى، ومحمد رسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وعلى المسلم أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وعليه أن يبتعد عن الفحشاء والمنكر، وعليه أن يعدل ويعفو عند المقدرة، وأن يفي بالوعد، ويصبر عند الشدائد، كما عليه أن يرد التحية بأحسن منها وأن يستأنس قبل الدخول إلى بيوت الغير وأن يسلم على أهلها. والمؤمنون إخوة، أكرمهم عند الله أتقاهم، وعليهم طاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر منهم، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
الإسلام والإنجيل
والإنجيل بموجب القرآن منزل تنزيلا، وعلى المؤمنين أن يؤمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله،
والكتاب الذي أنزل من قبل ،
1
وعليهم أيضا أن يروا في الإنجيل والتوراة تصديقا لما جاء في القرآن نفسه:
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم .
2
وعلى النصارى أن يحكموا بما جاء في الإنجيل:
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون .
3
توجيه الجيوش إلى الشام (633-634)
وجاء الإسلام يدعو إلى محو التعصب للقبيلة ومنع الثأر وفرض الدية وأوجب دفع الزكاة في أوانها، فتأثر به البعض وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، واستثقله آخرون وهم الأعراب، وعد هؤلاء دفع الزكاة ضريبة ومذلة واعتبروها إتاوة تدفع من قبيلة إلى أخرى تتسلط عليها، ومن هنا قول قرة بن هبيرة لعمرو بن العاص: «يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة، فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فتسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم.»
4
والواقع أن عددا من القبائل رفض دفع الزكاة بعد محمد، وكانت قريش لا تزال تتأفف من تكسير الأصنام وتخشى أن تخسر مغانم الحج، وكان المهاجرون من اليهود اليثربيين لا يزالون على حدود الروم يدسون ويفسدون، وكان الروم أنفسهم قد دخلوا في حرب مع النبي لم تأت نتائجها في صالح المسلمين.
5
فلما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردة رأى توجيه الجيوش إلى الشام، فكتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يدعوهم للجهاد ويرغبهم فيه، «فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع»، وأتوا المدينة من كل أوب، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال؛ خالد بن العاص بن سعيد بن أمية، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، واعترض عمر بن الخطاب على تعيين خالد بن سعيد؛ لأنه كان رجلا فخورا متعصبا، فعزله أبو بكر ودفع لواءه إلى يزيد بن أبي سفيان، فسار به ومعاوية أخوه يحمله بين يديه، وكان العقد لكل من هؤلاء في بادئ الأمر على ثلاثة آلاف مقاتل، فما زال أبو بكر يمدهم بالرجال حتى صار مع كل أمير سبعة آلاف وخمسمائة، وأمر الأمراء أن يعقدوا لكل قبيلة لواء، وأن يسلك عمرو بن العاص طريق أيلة (العقبة) عامدا لفلسطين، وأمر يزيد وشرحبيل أن يسلكا طريق تبوك.
6
وادي عربة
وفي أوائل السنة 634 وصلت جموع المسلمين العرب إلى شرق بحر الميت وغربه، فظن سرجيوس بطريق قيصرية فلسطين أنه أمام غزوة عادية من غزوات البدو، فقام بنفسه على رأس ما تيسر لديه من الرجال واتجه نحو الجنوب، فاشتد القتال في وادي عربة وتكاثر المسلمون فمني سرجيوس بالفشل، ثم كان قتال في قرية دائن بالقرب من غزة وكان انتصار للمسلمين، ولقي سرجيوس حتفه، فانفتحت أبواب فلسطين على مصراعيها أمام المسلمين، «وحدث شيوخ الشام فيما بعد أن الفاتحين لم يقاتلوا قبل عربة، ولم يمروا بشيء من الأرض مذ فصلوا من الحجاز إلا غلبوا عليه بغير حرب وصار في أيديهم.»
7
خالد بن الوليد
ولما صار عمرو بن العاص إلى أول فلسطين كتب إلى أبي بكر يعلمه بكثرة العدو وسعة أرضه، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق يأمره بالمسير إلى الشام، فأتى خالد عين التمر ففتحها عنوة، ثم صندوداء فقاتله أهلها فظفر بهم، ثم قاتل جمعا لبني تغلب بن وائل في المضيح والحصيد فهزمهم وسبى، ثم أغار على قراقر وهو ماء لكلب، ثم فوز منه إلى سوى، وهو ماء لكلب ومعهم فيه قوم بهرا فقاتلوه، ثم أتى أركة ففتحها صلحا ثم دومة الجندل ففتحها أيضا، ثم أتى تدمر فامتنع أهلها وتحصنوا ثم طلبوا الأمان، فأمنهم «على أن يرضخوا للمسلمين ويكونوا ذمة»،
8
ثم صمد أهل القريتين في وجهه وأهل حوارين فظفر وغنم وسبى، ثم وصل إلى مرج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم فسبى وقتل، وقدم خالد على المسلمين في حواران فحاصروا بصرى عاصمتها وحاربوا بطريقها فصالحهم أهلها، إما على طعام وزبيب وخل أو على جزية يؤدونها، ثم دخل خالد موآب صلحا.
9
أجنادين وفحل
ونشط هرقل وجيش «فسرب بعضا من جماعته وتجمع الباقي من النواحي»، وعقد اللواء لأخيه ثيودوروس القبقلار،
10
وصعب على ثيودوروس أن يستجلي خطة خصمه في الحرب، ولعل سبب ذلك أن هذه القبائل المغيرة لم تكن لها خطة عسكرية واضحة، وتقدم ثيودوروس ببطء فرابط في جلق
11
أولا ليحمي دمشق ويهدد القبائل الغازية، ثم اتجه جنوبا للدفاع عن المدينة المقدسة، فصمد في أجنادين بين القدس وغزة، فترفع خالد ولم يحفل بإمكانات السلب والنهب، بل أسرع إلى الجنوب عبر شرق الأردن وجمع الجموع في وادي عربة، ثم دفع بها إلى أجنادين، فنشبت معركة حامية في الثلاثين من تموز سنة 634 كتب النصر فيها للعرب، فجلا الروم عن الأرياف في جنوب فلسطين وهمدوا وراء مستنقعات بيسان
Scythopolis
فغلبوا فيها، فقاموا إلى فحل
، فقوتلوا أشد قتال وأبرحه، وقتل بطريقهم وتفرق الباقون في مدن الشام، وذلك في الخامس والعشرين من كانون الثاني سنة 635، وتحصن أهل فحل فحصرهم المسلمون حتى سألوا الأمان على أداء الجزية عن رءوسهم والخروج عن أرضهم، فأمنوا على أنفسهم وأموالهم ولم تهدم أسوارهم، ولم يبق للروم في فلسطين سوى مدنها المحصنة المنيعة.
12
تطور في الهدف والخطة
وحدث أبو حفص الدمشقي عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن «عدة»، منهم أبو بشر مؤذن مسجد دمشق، أن «المسلمين» لما قدموا الشام كان كل أمير منهم يقصد إلى ناحية ليغزوها ويبث غاراته فيها، فكان عمرو بن العاص يقصد لفلسطين وكان شرحبيل يقصد للأردن وكان يزيد بن أبي سفيان يقصد «لأرض» دمشق،
13
وتوفي أبو بكر في الثالث والعشرين من آب سنة 634، وتولى الخلافة بعده عمر بن الخطاب، وبان عيب الروم وضعفهم وعيب الفرس وانتهاء أمرهم، فتحول الغزو والسلب والسبي إلى فتح، وأصبح رائد المسلمين السيطرة على الشام والبقاء فيها،
14
واتخذوا من السامريين واليهود «عيونا وأدلاء لهم»،
15
وكان أمير الغزاة في عهد أبي بكر عمرو بن العاص، يقودهم عند الاقتضاء، ثم تزعم غاراتهم خالد بن الوليد، فلما تطور الهدف وجاء عمر «ولى أبا عبيدة بن الجراح أمر الشام كله، وأمره الأمراء في الحرب والسلم، ففتح شرحبيل بن حسنة طبرية صلحا على أن يؤمن أهلها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ومنازلهم، إلا ما جلوا عنه وخلوه. وفتح جميع مدن الأردن على هذا الصلح فتحا يسيرا، ففتح بيسان وسوسية وأفيق وجرش وبيت راسن وقدس والجولان وعكة وصورة وصفورية».
16
دمشق (635)
وتوجه المسلمون إلى دمشق، فالتقوا بالروم في مرج الصفر، فاقتتل الطرفان قتالا شديدا «جرت في أثنائه الدماء في الماء وطحنت بها الطاحونة»، وجرح من المسلمين أربعة آلاف، ثم ولى الكفرة منهزمين مغلولين لا يلوون على شيء حتى أتوا دمشق وبيت المقدس، وأقام المسلمون خمس عشرة ليلة، ثم زحفوا على دمشق فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوة، وتحصن أهل المدينة وأغلقوا أبوابها في أوائل آذار السنة 635،
17
وحاصر المسلمون دمشق ستة أشهر، وأهمل أمرها هرقل ولم يرسل النجدات، فوقف أسقفها على السور في أيلول، فدعي له خالد، فإذا أتى سلم عليه وحادثه فقال له: يا أبا سليمان إن أمركم مقبل، ولي عليك عدة فصالحني عن هذه المدينة، فدعا خالد بدواة وقرطاس فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.
ولما رأى الأسقف أن أبا عبيدة قد قارب دخول المدينة من باب الجابية؛ بدر إلى خالد فصالحه وفتح له الباب الشرقي، فدخل والأسقف معه ناشرا كتابه الذي كتبه له، فقال بعض المسلمين: والله ما خالد بأمير، فكيف يجوز صلحه؟ قال أبو عبيدة: إنه يجيز على المسلمين أدناهم، وأجاز صلحه وأمضاه، ولم يلتفت إلى ما فتح عنوة، فصارت دمشق صلحا كلها.
18 «وزعم الهيثم بن عدي أن أهل دمشق صولحوا على أنصاف منازلهم وكنائسهم، وقال محمد بن سعد: قال عبد الله الواقدي: قرأت كتاب خالد بن الوليد لأهل دمشق فلم أر فيه أنصاف المنازل والكنائس، ولا أدري من أين جاء به من رواه، ولكن دمشق لما فتحت لحق بشر كثير من أهلها بهرقل، وهو في أنطاكية، فكثرت فضول منازلها فنزلها المسلمون.»
19
وروي عن الأوزاعي أنه قال: كانت الجزية في الشام في بدء الأمر جريبا ودينارا على كل جمجمة، ثم وضعها عمر بن الخطاب على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما وجعلهم طبقات، وروي أن اليهود كانوا كالذمة للنصارى؛ يؤدون إليهم الخراج فدخلوا معهم في الصلح.
20
بعلبك وحمص
ولما فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق؛ سار إلى حمص فمر ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصلح فصالحهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وكتب لهم:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب أمان لأهل بعلبك رومها وفرسها «وعربها» على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم، داخل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلا، ولا ينزلوا قرية عامرة، فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدا.
21
ثم نهض أبو عبيدة إلى حمص، فنزل في باب الرستن، فصالحه أهل حمص على تأمين أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم، واستثنى عليهم من هذه ربع كنيسة يوحنا للمسجد، واشترط الخراج على من أقام منهم.
22
بيروت (636)
وأتى يزيد بن أبي سفيان بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، «وعلى مقدمته أخوه معاوية» ففتحها فتحا يسيرا وجلا كثيرا من أهلها، وتولى فتح عرقة معاوية نفسه،
23
أما طرابلس فإنها ظلت صامدة حتى أوائل ولاية معاوية (639).
حماة والمعرة واللاذقية (636)
ومضى أبو عبيدة بعد حمص إلى حماة فتلقاه أهلها مذعنين، فصالحهم على «الجزية في رءوسهم والخراج في أرضهم»، فمضى نحو شيزر «فخرجوا يكفرون ومعهم المقلسون» ورضوا بمثل ما رضي به أهل حماة، وبلغت خيل أبي عبيدة الزراعة والقسطل، ومر بمعرة حمص فخرجوا يقلسون بين يديه، ثم أتى فامية، ففعل أهلها مثل ذلك، وأذعنوا بالجزية والخراج، ووصل إلى اللاذقية فقاتله أهلها ودخل عبادة الحصن وعلا حائطه «فكبر عليه»، وهرب قوم من نصارى اللاذقية إلى اليسيد ثم طلبوا الأمان، فقوطعوا على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا، وتركت لهم كنيستهم، وبنى المسلمون مسجدا جامعا، ثم فتحوا بلدة على فرسخين من جبلة، ثم فتح عبادة أنطرطوس ومرقية وبلتياس.
24
يوم اليرموك (636)
وكان هرقل في أثناء هذا كله يسعى بنشاط بين أنطاكية والرها؛ لتجييش قوة كبيرة يتمكن بها من صد المسلمين وإنقاذ سورية الجنوبية وفلسطين والساحل، وبرغم خسارته الكبيرة في الرجال إبان الحرب الفارسية، وبرغم قلة المال في الخزينة؛ فإنه حشد في خريف السنة 635 من الروم والأرمن والعرب بين الثلاثين والخمسين ألفا، وأمر عليهم ثيودوروس تريثوريوس، وأنفذهم في ربيع السنة 636 إلى الجنوب، وكان خالد آنئذ في حمص، فلما علم بقدوم هذا الجيش الكبير جلا عن حمص ودمشق وسائر المدن المجاورة، وجمع ما لديه من الرجال خمسة وعشرين ألفا، وانتقى الجابية فصمد فيها فأدركه الروم وضربوه فدافع وانسحب إلى اليرموك، أحد روافد الأردن الشرقية.
ووصل الروم إلى اليرموك في تموز السنة 636، وتناوش الفريقان وتناول بعضهم بعضا في معارك صغيرة ردحا من الزمن، وفيما خالد ينتظر وصول المدد كان الروم يتخاصمون فيما بينهم بدافع الحسد وقلة الانضباط، فانهزم ثيودوروس في عدد من تلك المناوشات، فنادى الجند ببانس فسيلفسا، فأدى هذا الفساد إلى انسحاب القبائل العربية المسيحية من معسكر الروم وامتناعهم عن القتال، فجاءت هذه الفوضى وجاء هذا الانسحاب في صالح المسلمين، واغتنم خالد هذه الفرصة السانحة فقام بحركة التفاف حول الروم من الشرق، ثم احتل الجسر فوق وادي الرقاد فحرم خصمه إمكان التراجع غربا، وفي الثاني والعشرين من آب سنة 636 انقض عليهم بفرسانه المجربين فقتل من قتل وشرد من شرد.
25
أنطاكية وحلب (638)
وسار أبو عبيدة إلى حمص، ثم أتى قنسرين وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فقاتله أهلها، ثم لجئوا إلى حصنهم وطلبوا الصلح، فصالحهم أبو عبيدة على مثل صلح حمص، وكان حاضر قنسرين لتنوخ «منذ أول ما تنخوا بالشام»، فدعاهم أبو عبيدة إلى الإسلام، فأسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية، وبقي بنو سليح على النصرانية، وكان بالقرب من حلب حاضر يجمع أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية، ورحل إلى حلب وعلى مقدمته عياض الفهري، فوجد أهلها قد تحصنوا، فنزل عليها، فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم ومنازلهم والحصن الذي بها، ثم سار إلى أنطاكية وقد تحصن بها خلق من جند قنسرين، فلما وصل إلى مهروبة لقيه جمع للعدو ففضهم وألجأهم إلى المدينة وحاصر أهلها من جميع أبوابها، وكان معظم الجيش على باب فارس وباب البحر، ثم صالحوه على الجزية والجلاء، فجلا بعضهم وأقام بعضهم، وكانت أنطاكية عظيمة الذكر والأمر عند عمر وعثمان، فلما فتحت كتب عمر إلى أبي عبيدة أن رتب بأنطاكية جماعة من المسلمين «أهل نيات وحسبة»، واجعلهم بها مرابطة «ولا تحبس عنهم العطاء!»
26
وبلغ أبا عبيدة أن جمعا للروم بين معرة مصرين وحلب، فلقيهم، وقتل عدة بطارقة، وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب، وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة، وفتح أبو عبيدة جميع أرض قنسرين وأنطاكية، ثم سار يريد قروش فتلقاه راهب من رهبانها فصالحه فعقد لأهلها عهدا مثل الذي أعطى أهل أنطاكية. وأتى أبو عبيدة حلب المأجور ودلوك ومنبج، فصالحهم مثل صلح أنطاكية، وبعث جيشا عليه حبيب بن مسلمة إلى بالس وقاصرين، فصالحهم على الجزية والجلاء، فجلا أكثرهم إلى أرض الروم وأرض الجزيرة، وبلغ أبو عبيدة الفرات، ثم رجع إلى فلسطين.
27
الجراجمة (638)
وغزا حبيب بن مسلمة الجرجومة في جبل اللكام بين حلب والإسكندرية «عند معدن الزاج»، فلم يقاتله أهلها، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه «على أن لا يؤخذوا بالجزية، وأن ينفلوا أسلاب من يقتلون من أعداء المسلمين»، ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع، من الأنباط وغيرهم؛ في هذا الصلح.
28
المدينة المقدسة (638)
وكان لا يزال يعلو السدة البطريركية في أوروشليم الشيخ الورع التقي الأمين صفرونيوس، وقد سبق الكلام عنه في الفصل الأخير من المجلد الأول، فلما شعر بالخطر المداهم أبعد الصليب المقدس، وأثمن ما لديه من الأواني الكنسية إلى ساحل البحر، فالقسطنطينية.
29
وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين بعد فتح الشمال، «فأمر بتشديد الحصار على المدينة المقدسة فطلب أهلها الأمان على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر نفسه»، فكتب أبو عبيدة إلى عمر، فقدم فنزل الجابية، ثم سار إلى «إيلياء»، فاستقبله صفرونيوس على جبل الزيتون وفاوضه في صلح «على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام»، فقبل عمر وكتب بذلك، ثم نزل الكبيران إلى المدينة لزيارتها، فصلى الخليفة عند أطلال هيكل سليمان، عند الصخرة التي قام فوقها فيما بعد مسجد عبد الملك بن مروان، وجاء في رواية عربية ثانية أن الخليفة أعطى سكان بيت المقدس على ما أحاط به حصنهم «شيئا» يؤدونه ويكون للمسلمين ما كان خارجا.
30
قيصرية وطرابلس (640-644)
وتوفي أبو عبيدة، فولى الخليفة عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان الأردن وفلسطين، وأمره أن يغزو قيصرية فلسطين، فنهض إليها في سبعة عشر ألفا، فقاتله أهلها فحاصرهم، «وكان سبب فتحها أن يهوديا يقال له: يوسف، أتى المسلمين ليلا فدلهم على طريق في سرب لقاء تأمينه على أهله، فدخلها المسلمون في الليل وكبروا فيها، فأراد الروم أن يهربوا من السرب فوجدوا المسلمين عليه، وفتح المسلمون الباب فدخل معاوية، وكان قد تسلم القيادة بعد وفاة أخيه، فسبى أربعة آلاف وأرسلهم إلى عمر، وحوصرت قيصرية سبع سنين، وكان بها خلق من العرب.»
31
ولما استخلف عثمان وولى معاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى «أطرابلس» وهي ثلاث مدن مجتمعة، فبنى في مرج على أميال منها حصن سفيان، وقطع المادة عن أهلها من البحر وغيره وحاصرهم، فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم، أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها، فوجه إليهم مراكب كثيرة فركبوها ليلا وهربوا، فأسكنها معاوية جماعة كبيرة من اليهود.
32
يوم الجابية
وغزا المسلمون وغنموا، ثم غلبوا الروم في الميادين الطلقة، فحاصروا المدن المحصنة فصالحت، واتسعت رقعة الدولة ودخل فيها ألوف مؤلفة من النصارى والمشركين واليهود، وتدفقت الأموال على بيت المال وكثر طلابها واختلفوا في ما أصابهم منها، وكان لا بد من الدفاع عن هذه الدولة والنظر في أمور أهلها وسكانها، فقام عمر إلى الجابية عاصمة الغساسنة في الجولان يصحبه عدد من الصحابة، فاستدعى كبار القادة والوجهاء وشاور؛ فقرر اتخاذ بعض الإجراءات الحربية والمالية والإدارية، وكان ذلك في أثناء السنة 638.
قضية الجزية
وذكر المسلمون الآية:
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ففرضوا جزية على رءوس النصارى وخراجا على أملاكهم.
وقدر للمسلمين النصر على الروم في اليرموك، فأتى جبلة بن الأيهم ملك غسان عمر بن الخطاب - وهو على نصرانيته - فعرض عمر عليه الإسلام وأداء الصدقة، فأبى ذلك وقال: أقيم على ديني وأؤدي الصدقة، فقال عمر: إن أقمت على دينك فأد الجزية، فأنف منها، فقال عمر: ما عندنا لك إلا واحدة من ثلاث؛ إما الإسلام وإما أداء الجزية وإما الذهاب إلى حيث شئت، فدخل جبلة بلاد الروم في ثلاثين ألفا، فلما بلغ ذلك عمر ندم، وعاتبه عبادة بن الصامت فقال: لو قبلت منه الصدقة ثم تألفته لأسلم، فوجه عمر عمير بن سعد الأنصاري إلى بلاد الروم وأمره أن يتلطف لجبلة ويدعوه إلى الرجوع إلى بلاد الإسلام على أن يؤدي ما كان بذل من الصدقة ويقيم على دينه، فسار عمير حتى دخل بلاد الروم وعرض على جبلة ما أمره عمر بعرضه فأبى إلا المقام في بلاد الروم.
33
وكتب عمير بن سعد إلى عمر أنه أتى شق الفرات الشامي، وأراد من هناك من بني تغلب على الإسلام، فأبوا وهموا باللحاق بأرض الروم، فكتب إليه عمر يأمره أن يضعف عليهم «الصدقة» التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض.
34
وتقدم أبو عبيدة في شمال سورية ووصل إلى جبال اللكام، وغزا حبيب بن مسلمة الجرجومة فبدر أهلها في طلب الأمان «على أن لا يؤخذوا بالجزية، وأن ينفلوا أسلاب من يقتلون من عدو المسلمين»، فوافق حبيب ودخل الجراجمة في دولة الإسلام ولم يدفعوا الجزية.
35
وصالحت حلب على جزية تؤديها كسائر مدن الشام، ولكنها احتفظت بحصنها، وقد مر بنا كيف تنص رواية من الروايات على أن المسلمين صالحوا سكان بيت المقدس على «شيء» يؤدونه وأعطوهم ما أحاط به حصنهم على أن يكون للمسلمين ما كان خارجا، وقوطع أهل اللاذقية على «خراج» يؤدونه، قلوا أو كثروا!
ولما فتح عياض بن غنم الرها أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم «على أن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يظهروا ناقوسا ولا باعوثا ولا صليبا».
36
عهدة عمر
ونظر عمر بن الخطاب نظرة فاتح مؤسس فأمن وعدل وأنصف، واعتبر الدولة الفتية دولة إسلامية تحمي الإسلام والمسلمين أولا كما كانت دولة الروم دولة مسيحية تحمي المسيحية والمسيحيين أولا، ومن هنا قوله إلى عمرو بن العاص عندما حل القحط في المدينة: «أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها.»
37
وروى عبد الرحمن بن غنم الأشعري، الذي توفي سنة 78 للهجرة: كتبنا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين صالح نصارى أهل الشام:
هذا كتاب عبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا، أنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان مختطا منها في خطط المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا، ولا نكتم غشا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحدا، ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراد، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم، ولا نركب بالسروج ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رءوسنا ونلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا نتطلع إلى منازلهم.
وأتى الأشعري خليفة الخليفة وأطلعه على هذا النص، فزاد فيه:
ولا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وضمنا على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
38
الكنائس والأديار
واحترم المسلمون حق النصارى في استعمال الكنائس القائمة في أكثر المدن والقرى، وأخذوا بعضها عنوة ككنائس الغوطة وطبرية،
39
أما كاتدرائية دمشق فإن نصفها أصبح مسجدا منذ اللحظة الأولى، وأراد معاوية أن يزيد النصف الأخر في المسجد، «فأبى النصارى ذلك فأمسك»، وما فتئ بيدهم حتى عهد الوليد بن عبد الملك،
40
وأمن أبو عبيدة نصارى حمص على كنائسهم، ولكنه استثنى ربع كنيسة يوحنا للمسجد.
41
خروج النصارى
وجاء في المراجع العربية في كتاب فتوح البلدان للبلاذري ؛ أنه لما فتحت دمشق «لحق بشر كثير من أهلها بهرقل وهو في أنطاكية، فكثرت فضول منازلها». وجاء أيضا أن يزيد بن أبي سفيان وأخاه معاوية «أجليا كثيرا من أهالي صيدا وبيروت وجبيل وعرقة» لدى فتحها، وأن أهالي طرابلس «هربوا» بمراكب قبيل سقوط بلدتهم، وجاء أيضا أن جبلة بن الأيهم الغساني دخل بلاد الروم بعد اليرموك «في ثلاثين ألفا»، وأن أهل أنطاكية صالحوا على الجزية والجلاء «فجلا بعضهم وأقام بعضهم»، وأن أكثر أهالي بالس وقاصرين جلوا إلى بلاد الروم، وكذلك سكان الثغور الشامية بين الإسكندرونة وطرطوس، فإنهم «هربوا إلى بلاد الروم خوفا»، وقيل: إن هرقل أدخلهم معه عند انتقاله من أنطاكية، ووجه أبو عبيدة ميسرة بن مسروق إلى درب بفراس ليقطعها «فلقي جمعا للروم معهم مستعربة من غسان وتنوخ وأياد؛ يريدون اللحاق بهرقل».
42
ولم يرض هرقل عن هذا النزوح الكبير، فإنه أعلم المخلصين من النصارى في جميع أنحاء سورية وفلسطين أنه عائد لا محالة، وأوجب عليهم البقاء في أماكنهم؛ استعدادا لجولة ثانية في ميدان القتال.
43
اليعاقبة والمسلمون
ويرى عدد من المستشرقين المستعربين، ومن رجال الاختصاص في تاريخ الروم أن اختلاف النصارى في كنيسة أنطاكية حول الطبيعة الواحدة، وضغط الروم على من لم يشاركهم قولهم في الطبيعتين؛ حمل اليعاقبة على الترحيب بالدولة الإسلامية الجديدة. ويغيب عن بال هؤلاء أن معظم من وقف إلى جانب هرقل من قبائل النصارى العرب كان ممن قال بالطبيعة الواحدة، وأن من نزح من هؤلاء إلى بلاد الروم كان من المونوفيسيين أيضا، وأن هرقل كان قد ثبت (631) في رئاسة الكنيسة الأنطاكية بطريرك اليعاقبة أنفسهم أثناسيوس الجمال، وأن بابا رومة كان قد سكت عن القول بالمشيئة الواحدة أو قاله، وأن بطاركة القسطنطينية والإسكندرية وأرمينية كانوا قد اتفقوا على هذه العقيدة الجديدة وحدها، فلا يجوز بإزاء هذه الحقائق الناصعة وإزاء الأعمال الحربية التي قام بها اليعاقبة أنفسهم ضد المسلمين أن نقول مع أفتيخيوس: إن أبناء حمص رأوا في هرقل إمبراطورا مارونيا عدوا للدين القويم؛ لأنه قال بالمشيئة الواحدة،
44
وأما قول المستشرق المستعرب ده غويه: إن حروب الفتح استهدفت تحرير العرب في سورية من نير الروم؛ فإنه مجرد خيال لا تؤيده النصوص.
البطريرك مقدونيوس (628-640)
وكاد اليهود لأنسطاسيوس الثاني خليفة الرسولين وأمسكوه وعذبوه وجروه في شوارع أنطاكية جرا، فقضى نحبه شهيدا في السنة 609، ثم كان ما كان من أمر الفرس وزحفهم، فتولى السدة الرسولية الأنطاكية غريغوريوس الثاني، وكان آنئذ في القسطنطينية، فبات ينتظر نهاية الحرب الفارسية؛ لينهض إلى أنطاكية ويدير دفة الرئاسة بنفسه، وطالت الحرب فطال انتظاره، وتوفي في القسطنطينية بعيدا عن أنطاكية في السنة 620، وخلفه في الرئاسة أنسطاسيوس الثالث، وبقي في القسطنطينية حتى وفاته في السنة 628.
45
وكان سرجيوس البطريرك المسكوني قد بدأ يقول بالمشيئة الواحدة، ورغب في تعميم رأيه وتدعيمه، فسعى لمقدونيوس أحد أصدقائه برئاسة كنيسة أنطاكية، وتسلم مقدونيوس عكاز الرعاية في القسطنطينية، وبقي فيها،
46
وقضت ظروف التقارب وتوحيد الصفوف بالاعتراف ببطريرك اليعاقبة أثناسيوس الجمال بطريركا على أنطاكية؛ مقابل اعترافه بالطبيعتين والمشيئة الواحدة، فأصبح هو رئيس كنيسة أنطاكية المسئول، ثم توفي أثناسيوس بعد هذا بقليل (631) فعادت السلطة إلى يد مقدونيوس، ووافق مقدونيوس صديقه سرجيوس، فأعلن قوله بالمشيئة الواحدة، وسعى لتعميمه في أبرشيات أنطاكية، فقال هذا القول عدد كبير من الأساقفة والرهبان، وبين هؤلاء رهبان القديس مارون - كما سبق وأشرنا
47 - وظهر الإكثيسيس وقد سبق الكلام عنه، فأيده مقدونيوس وحث المؤمنين على قبوله.
البطريرك جاورجيوس الأول (640-655)
واستمر العداء بين الروم والمسلمين، وأنفذ الروم حملة على مصر وحملة غيرها على أنطاكية (646)، وركب المسلمون البحر وهجموا على قبرص (649) واحتلوا جزيرة أرواد (650) وانتصروا على أسطول الروم في «ذات الصواري» (655)، فلم يتمكن جاورجيوس الأول خلف مقدونيوس من الوصول إلى أنطاكية والإقامة فيها، فبقي في القسطنطينية حتى وفاته في السنة 655.
مجمع اللاتران (649)
وتوفي هرقل في السنة 641 وتولى العرش بعده في آن واحد كل من ولديه قسطنطين الثاني وهرقلون على أن يحكما بإشراف الفسيلسة مرتينة زوجة هرقل الثانية ووالدة هرقلون، وتوفي قسطنطين الثاني في السنة 641 مسموما، فاتهمت مرتينة بقتل ابن ضرتها، وتمرد الجند وأكرهوا مرتينة على إشراك قسطنطين الثالث ابن قسطنطين الثاني في الحكم، ثم قطع لسان مرتينة وجدع أنف ابنها ونفيا إلى رودوس، وتولى الحكم قسطنطين الثالث (641-668).
وكان هرقل قد أصدر في سنة 638 الإكثيسيس الذي أوجب به القول بالمشيئة الواحدة، وكان بيروس قد خلف سرجيوس على السدة المسكونية (638) واضطر أن يتنازل على أثر هياج الشعب في العاصمة ضد مرتينة ربيبته، فهاجر إلى إفريقية، وكان قد قام بينه وبين مكسيموس المعترف جدال علني (645) انتهى باقتناع بيروس ورجوعه عن بدعة القول بالمشيئة الواحدة.
فكتب بيروس إلى بولس الثاني خليفته على عرش كنيسة القسطنطينية يهدده بالقطع إن لم يرجع عن الهرطقة ويرفع الإكثيسيس عن أبواب الكنائس، ورحل بيروس ومكسيموس معا إلى رومة فأيدهما البابا ثيودوروس الأول (642-649)، فألغى قسطنطين الثالث الإكثيسيس وأصدر التيبوس
Typos
القانون (648) محظرا به كل تعليم بالمشيئة الواحدة أو المشيئتين.
48
وتوفي غريغوريوس برايفيكتوس إفريقية وصديق بيروس وحاميه، فخشي بيروس ألا يتمكن من العودة إلى عرش القسطنطينية، فالتجأ إلى أفلاطون إكسرخوس رابينه وعاد إلى القول بالمشيئة الواحدة، فغضب البابا ثيودوروس ودعا مجمعا محليا ثم زار قبر الرسول مستجيرا، وغمس «قلامسه
Calamus » قلمه في الدم المقدس ووقع حارما بيروس.
49
وانقضى أجل ثيودوروس الأول في الثالث عشر من أيار سنة 649 فخلفه على السدة الرومانية مرتينوس الأول (649-653)، وكان مرتينوس قد مثل السدة الرومانية في القسطنطينية مدة من الزمن وخبر رجالها، فلم ير فائدة في المفاوضة. فلما تسلم عكاز الرعاية دعا إلى اللاتران عددا كبيرا من الأساقفة للنظر في أمر البدعة الجديدة، ولبى هذه الدعوة مائة وخمسة أساقفة معظمهم من إيطالية وبعضهم من إفريقية، ووصل اسطفانوس أسقف دورة في فلسطين، فاشترك في أعمال هذا المجمع، وحضر الجلسات عدد من القساوسة والرهبان اليونانيين المقيمين في رومة آنئذ، وكان بين هؤلاء يوحنا رئيس دير القديس سابا الفلسطيني وجاورجيوس رئيس دير قيليقي في رومة.
وأجمع الأعضاء على شجب التعاليم الجديدة واعتبارها خروجا وهرطقة، فكانت جلسات خمس، استمع فيها الآباء إلى قراءة جميع ما صنف في المشيئة الواحدة، وإلى الأوامر الإمبراطورية الصادرة في صددها، فاعتبروها جميعها من صنع سرجيوس وبيروس وبولس بطاركة القسطنطينية وكيروس بطريرك الإسكندرية وثيودوروس أسقف فارانة، ثم نبذوها وقطعوا هؤلاء البطاركة، وكرروا الاعتراف بالإيمان النيقاوي واقترحوا إضافة بند ينص على القول بالمشيئتين.
50
مرتينوس وأنطاكية وأوروشليم
وساء الآباء المجتمعين انتشار القول بالمشيئة الواحدة في أبرشيات أنطاكية وأوروشليم، وعلموا بشغور الكرسي الأوروشليمي وبابتعاد بطاركة أنطاكية عن حقل عملهم وقولهم بالمشيئة الواحدة، فأقام مرتينوس أسقف فيلادلفية (عمان) وكيلا بطريركيا على أبرشيات الكنيستين الأنطاكية والأوروشليمية، وحضه على خلع كل أسقف يصر على القول بالمشيئة الواحدة،
51
ووجه مرتينوس رسالة رعائية إلى المؤمنين في أنطاكية وأوروشليم، كما كتب إلى بعض الشخصيات الكبيرة من الشعب والإكليروس، ومما جاء في هذه الرسائل أن مقدونيوس انتحل الأسقفية لنفسه، وأن الكنيسة الجامعة لا تعرفه أسقفا؛ لأنه يوافق الهراطقة.
52
ويلاحظ هنا أن هذه الرسائل التي صدرت في السنة 649 اعتبرت مقدونيوس مستمرا في رئاسة الكنيسة الأنطاكية، وهو أمر ذو بال يوجب بحثا دقيقا في تعيين السنوات التي ترأس فيها كل من مقدونيوس وجاورجيوس ومكاريوس كنيسة أنطاكية.
استشهاد مرتينوس ومكسيموس
واستعظم قسطنطين الثالث موقف مرتينوس ومكسيموس؛ فأمر بإلقاء القبض عليهما وبمحاكمتهما أمام المجلس الإكليريكي الأعلى في القسطنطينية، فجاء القديسان إلى العاصمة واتهما بالمؤامرة على سلامة الدولة وعذبا تعذيبا، ثم نفي مرتينوس إلى الخرسونة في ربيع السنة 655 فتوفي فيها، ثم نقل جثمانه إلى رومة في الثاني عشر من تشرين الثاني، فأحيت الكنيسة الجامعة بفرعيها اليوناني واللاتيني ذكر هذا الشهيد البار.
53
وما كاد المركب الذي أقل مكسيموس وتلميذيه أنسطاسيوس وأنسطاسيوس يرسو في ميناء العاصمة حتى هجم الجند على مكسيموس وعروه من ثيابه الرهبانية وجروه جرا في شوارع القسطنطينية، ثم ساقوه أمام ديوان الإمبراطور وحققوا معه في تهمة الخيانة والتآمر على سلامة الدولة، فلم يثبت عليه شيء منها فأعادوه إلى السجن وأرسلوا من يقنعه بالخضوع للإمبراطور والقول بالتيبوس، فقال: كيف أطيع الملك وأغضب الله! فنفوه مع تلميذيه، ثم حاولوا إقناعه مرة ثانية فلم يفلحوا، فلما أعيتهم الحيل رشقه المجلس الإكليريكي بالحرم، ثم صدرت الأوامر بقطع لسانه ويده اليمنى؛ ليمتنع عن الكلام والكتابة، وحل بتلميذيه مثلما حل به، ونفي مكسيموس ورفيقاه إلى لازقة، وتوفي القديس فيها في الرابعة والثمانين من عمره وفي الثالث عشر من آب سنة 662.
54
لنكرمن أيها المؤمنون بالتسابيح الواجبة محب الثالوث مكسيموس العظيم الذي علم بالإيمان علانية بأن يمجد المسيح بطبيعتين ومشيئتين وفعلين هاتفين السلام عليك يا كاروز الإيمان.
أورولوغيون، 21 كانون الثاني
تقارب ومهادنة
وسئم الطرفان الروماني والقسطنطيني هذا التنافر وهذه القساوة، وتزايد الضغط الإسلامي وتعاظم الخطر، وتوفي البابا أوجانيوس الأول (654-657)، وخلفه فيتاليانوس (657-672)، فأعلم هذا قسطنطين الثالث بارتقائه السدة الرومانية، وكتب إلى زميله في القسطنطينية الرسالة السلامية، فاعترف الإمبراطور بقانونية الانتخاب البابوي، وقدم الهدايا الملكية وبينها إنجيل مذهب مرصع،
55
ويستدل من أعمال المجمع السادس أن فيتاليانوس امتنع عن نبذ التيبوس، وأن الإمبراطور أكد تعلقه بالتعاليم الأرثوذكسية، فتمت مهادنة عاد على أثرها اسم البابا إلى ذيبتيخة الكنيسة القسطنطينية.
56
الفصل الثالث
المجمع المسكوني السادس
668-715
قسطنطين الرابع (668-685)
وأساء قسطنطين الثالث الظن بأخيه ثيودوسيوس، فألبسه ثوب الرهبنة ثم أمر به فقتل، فثار به ضميره، وأصبح أخوه يتراءى له حاملا كأسا من دمه، ويقول له: اشرب يا أخي! فكره قسطنطين الإقامة في المدينة التي ارتكب فيها إثمه ونزح عنها، وفي السنة 662 ذهب إلى رومة فاستقبله فيها البابا فيتاليانوس بالحفاوة والإكرام، أما الشعب في القسطنطينية فإنه لم يرض عن تغيب قسطنطين ومنع التحاق زوجته وأولاده به، ثم بعد ست سنوات دخل قسطنطين حماما في سرقوسة، فضربه خادم الحمام بصندوق من الصابون على رأسه فتوفي في السنة 668.
وفي أثناء غياب هذا الإمبراطور كان ابنه قسطنطين الرابع يسوس الملك، وهو بعد فتى، فلما علم بقتل والده ونشوب الثورة في صقلية نهض إليها فأخذ بالثأر ثم عاد والشعر قد نبت في وجهه فلقب بالألحى
.
التوسع الإسلامي
وكانت الاضطرابات الداخلية التي نجمت في الدولة الإسلامية عن مقتل عثمان بن عفان قد انتهت، فاستتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان (661-680)، ومعنى هذا - في رأينا - أن الأمر استتب لتجار قريش أولئك الذين قدروا عظمة التجارة التي كانت تربط حوض المتوسط بالشرق الأقصى، فكان - بالتالي - طبيعيا أن يدركوا مبلغ الخسارة التي حلت بأبناء الساحل اللبناني السوري المصري من جراء ما سبب لهم الفتح الإسلامي من انقطاع عن أسواقهم في آسية الصغرى والبلقان وإيطالية وأوروبة الغربية. وهكذا، فإنهم لم يروا بدا من متابعة الحرب ضد الروم ودفعها إلى نتيجة حاسمة.
1
وكان معاوية ومن حوله يعلمون علم يقين أن رغبة الروم في العودة إلى القتال لم تنته، وقد اغتنم قسطنطين الثالث فرصة انشغال معاوية بالمشاكل الداخلية، فدس إلى جبال العلويين في لبنان بضعة آلاف من المردة يغيرون منها على الحواضر والأرياف، فيهددون سيادة المسلمين في الشام، ويعيثون في البلاد فسادا، وكان معاوية قد صالح قسطنطين هذا على مال يؤديه له كل سنة شرط أن يقطع قسطنطين الإعانة عن المردة.
2
واغتيل قسطنطين الثالث في السنة 668، واعتلى أريكة الملك بعده فتى يافع هو قسطنطين الرابع، وتمرد الجند مطالبين بحق أخوي هذا الملك الفتى. وثار مزيزيوس في صقلية وسابوريوس في أرمينية، واستنجد سابوريوس بالعرب، فرأى معاوية أن الفرصة سانحة، وكان قد احتاط لأمر المردة فاستقدم عددا من الفرس وأسكنهم مدن الساحل اللبناني، وأتبعهم في السنة 669 غيرهم من أهل العراق،
3
ثم عني بترميم الحصون الساحلية، وفي السنة 669 قام بمناورة عسكرية بحرية وبرية في الغرب ليضلل خصمه، ولكنه في الوقت نفسه سبر غور الدفاع البيزنطي في آسية الصغرى فإذا بطلائع جيشه تصل إلى القسطنطينية، وكان زعيم هذه الحملة أبا أيوب الأنصاري، وقد توفي في أثنائها، فدفن خارج أسوار عاصمة الروم!
وفي ربيع السنة 673 وصلت عمارة إسلامية كبيرة إلى مياه القسطنطينية تحاصر عاصمة الروم، وتحاول إنزال الجنود فصدتها مراكب الروم، وفي الخريف عادت هذه العمارة إلى شبه جزيرة كيزيكوس؛ لتمضي فصل الشتاء، وتتلقى المؤن والذخائر من قواعدها في الساحل اللبناني السوري، وفي الربيع التالي استأنف المسلمون الحصار فارتدوا ثانية، فعادوا يصرفون الشتاء في كيزيكوس، وظلوا كذلك حتى المرة الرابعة، واستعمل الروم في هذا الحصار النار الإغريقية فنشروا الذعر في صفوف المسلمين، وجاءت السنة 677 فإذا بالمسلمين يعودون إلى الحصار، فانطلقت لصدهم مراكب النار البحرية ، فأحرقت عددا كبيرا من مراكب المسلمين، فاضطر ما بقي إلى العودة إلى قواعده في الشام، وهبت عاصفة هوجاء حطمت قسما آخر وطارد الروم البقية الباقية فغنموا معظمها،
4
وفي السنة 678 فاوض معاوية الروم في الصلح فأقروه عليه لثلاثين سنة، شرط أن يدفع في كل سنة ثلاثة آلاف قطعة من الذهب، وخمسين جوادا عربيا وخمسين عبدا.
5
وتوفي يزيد بن معاوية في السنة 683 فتولى الخلافة بعده معاوية الثاني، ورأى هذا أنه ليس بأهل للخلافة، فخلع منها نفسه ولم يعين له خليفة، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات عندما توفي معاوية الأول، وتبوأ العرش مروان بن الحكم، وكان رجلا طاعنا في السن، فاستغل قسطنطين الرابع مشاكل يزيد فأكرهه على الخروج من قبرص، وجاءت مشاكل معاوية الثاني ومروان، فزحفت جيوش قسطنطين عبر الحدود الجنوبية فدكت حصون ملاطية وأجلت المسلمين عن مرعش، وتوفي مروان فاضطر ابنه وخليفته عبد الملك أن يفاوض الروم، وأن يدفع مالا سنويا أكثر مما كان غيره يدفع من قبل، وتم الصلح على هذا الشرط في السابع من تموز سنة 685.
6
المجمع المسكوني السادس (680-681)
ولم يقو زوان سرجيوس وكيروس وأونوريوس على حنطة صفرونيوس ومكسيموس، وأثمر التقارب الذي تم بين الإمبراطور قسطنطين الرابع وبين البابا فيتاليانوس فرقي السدة القسطنطينية بطاركة ثلاثة عرفوا بالمحبة والمسالمة، وهم توما (667-669) ويوحنا (669-675) وقسطنطين (675-677)، ثم جاء ثيودوروس في صيف السنة 677، وكان ضعيف الرأي شديد الإصغاء إلى زميله مكاريوس بطريرك أنطاكية، فالتبس عليه وجه الصواب، وطالب بحذف اسم فيتاليانوس بابا رومة من الذيبتيخة، وكان قسطنطين الرابع قد نجح في صد المسلمين ورغب في إخماد الفتن الداخلية وتوحيد الصفوف، فلم يكتف برد طلب ثيودوروس، بل إنه عمد إلى عقد مؤتمر شرقي غربي تبحث فيه أهم نقاط الخلاف الديني،
7
فكتب في صيف هذه السنة نفسها إلى دونوس بابا رومة وطلب إليه أن يوفد اثني عشر أسقفا إيطاليا إلى مؤتمر ينظر في الخلاف القائم في العقيدة، وكتب الإمبراطور إلى إكسرخوس رابينة يأمر بتسهيل سفر هؤلاء الأساقفة وإبحارهم إلى القسطنطينية،
8
وكان دونوس قد توفي في نيسان السنة 679 فخلفه أغاثون، فاتصل البابا الجديد بأساقفة الغرب مستمزجا، فتأخر جوابه فانتهز ثيودوروس القسطنطيني هذه الفرصة فحذف اسم فيتاليانوس من الذيبتيخة، فرد عليه الإمبراطور بأن أمر به فخلع واستعيض عنه بجاورجيوس، وكان هذا أقل تمسكا بالمونوثيلية من سلفه.
9
وفي أوائل أيلول السنة 680 وصل الوفد الروماني إلى القسطنطينية، وكان مؤلفا من أساقفة ثلاثة وقسيسين وشماس وأيبوذياكون، وحمل هذا الوفد رسالة من أغاثون إلى قسطنطين تنبئ بتأليف الوفد وباستعداد أعضائه لتأييد قرارات المجامع المسكونية السابقة،
10
وحمل الوفد أيضا بيانا بالإيمان موقعا من البابا ومائة وخمسة وعشرين أسقفا غربيا، يؤكدون فيه نبذ التعليم بالمشيئة الواحدة،
11
ولدى وصول هذا الوفد طلب الإمبراطور إلى كل من جاورجيوس بطريرك القسطنطينية ومكاريوس بطريرك أنطاكية؛ أن يدعوا الأساقفة الخاضعين لسلطتهما إلى القسطنطينية للاجتماع بزملائهم الغربيين،
12
فلبى الدعوة - بادئ ذي بدء - ثلاثة وأربعون أسقفا، ثم تكاثروا حتى أصبح مجموع الموقعين مائة وأربعة وسبعين، ومثل كنيسة الإسكندرية القس بطرس، وكنيسة أوروشليم القس جاورجيوس، وبدأت أعمال المجمع في السابع من تشرين الثاني سنة 680، وانتهت في السادس عشر من أيلول سنة 681، وبلغ عدد الجلسات الرسمية ثماني عشرة جلسة.
وعقد المجمع جلساته في قاعة القبة «الأطرولوس»
In Trullo ، وجلس قسطنطين الرابع في حفلة الافتتاح في صدر المجلس، وعن جانبيه قضاة الدولة، ثم جلس عن يساره نواب البابا ونائب بطريرك أوروشليم، وجلس عن يمين الإمبراطور جاورجيوس بطريرك القسطنطينية، ثم مكاريوس بطريرك أنطاكية، ثم نائب بطريرك الإسكندرية فسائر الأساقفة بعضهم عن اليمين والبعض عن اليسار، وجعل الإنجيل المقدس في الوسط.
وطلب نواب البابا في الجلسة الأولى إلى إكليروس القسطنطينية أن يشرحوا القول بالفعل الواحد والمشيئة الواحدة، فطلب الإمبراطور إلى البطريركين جاورجيوس ومكاريوس أن يجيبا، فقال بطريرك أنطاكية: إنه موجود في مجامع أشهر الآباء وبطاركة القسطنطينية ومعتقدات كيروس الإسكندري وأونوريوس بابا رومة، فطلب القصر البينة على ذلك، فأحضرت أعمال المجامع وقرئت في الجلسات الأربع التالية، وتبين أن الرسالة التي نسبها سرجيوس بطريرك القسطنطينية إلى سلفه في الكرسي ميناس لم تتفق في الخط والترقيم وما قبلها وما بعدها من أعمال المجمع الخامس، ولدى التفتيش في محفوظات بطريركية القسطنطينية وجدت نسخة أخرى من أعمال هذا المجمع نفسه، وتبين أنها خالية من نص الرسالة موضوع البحث.
13
وفي الجلستين الخامسة والسادسة في السابع من كانون الأول سنة 680 والثاني عشر من شباط سنة 681 قدم مكاريوس البطريرك الأنطاكي ثلاثة مجلدات، ضمنها نصوصا ادعى أنها تؤيد القول بالمشيئة الواحدة، وفي الجلسة السابعة في الثالث عشر من شباط قدم الوفد الروماني مقتطفات من أقوال الآباء في تأييد القول بالمشيئتين.
وفي الجلسة الثامنة في السابع من آذار سنة 681 طلب الإمبراطور إلى البطريركين جاورجيوس ومكاريوس أن يبديا رأيهما في بيان البابا أغاثون، فعاد جاورجيوس إلى نصوص الآباء ودرسها على ضوء ما جاء في بيان زميله الروماني، فتبين له وجه الصواب وقال بالمشيئتين، ووافقه في ذلك جميع الأساقفة الخاضعين لسلطته، وطلب هذا البطريرك إعادة اسم البابا فيتاليانوس إلى الذيبتيخة فأعيد، ثم سئل مكاريوس والأساقفة الأنطاكيون عن رأيهم، فوافق هؤلاء الأساقفة على القول بالمشيئتين، ولكن مكاريوس أبى مدعيا أن القول بالمشيئتين يعرضهما إلى الاختلاف والتناقض، فأعاد الإمبراطور الطلب فأنكر البطريرك مفضلا الموت مقطعا على القول بالفعلين والمشيئتين.
وانصرف الآباء في الجلسة التاسعة إلى التدقيق في المجلدات الثلاثة التي وضعها مكاريوس لتأييد القول بالفعل الواحد والمشيئة الواحدة، وقابلوا بعض ما أخذه عن الآباء بالأصول؛ فظهر التبديل والتحريف، فاقترح الآباء قطع مكاريوس وتلميذه اسطفانوس، وخصصت الجلسة العاشرة للتدقيق في ما قدمه الوفد الروماني ومقابلته بالأصول.
واجتمع الآباء للمرة الحادية عشرة والثانية عشرة في العشرين والثاني والعشرين من آذار لدرس جميع ما صنف مكاريوس، فتليت جميعها، وسئل مكاريوس عنها فاعترف بصحة نسبتها إليه، فسأل القضاة المجمع ماذا يكون مصير مكاريوس بعد الندامة والتوبة، وهل يظل بطريركا على أنطاكية، فلم يرض الآباء الأعضاء، فخلع مكاريوس ونوه بثيوفانس خلفا له.
14
وفي الجلسة الثالثة عشرة حكم بالحرم على سرجيوس وبيروس وبطرس بطاركة القسطنطينية وعلى كيروس بطريرك الإسكندرية وعلى أونوريوس بابا رومة وثيوذوروس أسقف فارانة سيناء.
ودخل على الآباء في الجلسة الخامسة عشرة في السادس والعشرين من نيسان قس متوحد من أتباع مكاريوس، اسمه بوليخرونيوس، وادعى هذا القس أنه رأى في حلم ملائكة سماويين وفيهم رجل عظيم الجلال أوصاه أن يذهب إلى الإمبراطور وينذره ألا يقول إلا بمشيئة واحدة، وادعى القس أيضا أنه يستطيع إقامة الأموات تصديقا لرسالته، فخرج الأساقفة والرؤساء إلى ساحة الحمام، ووضعوا أمام القس ميتا على نعش وطلبوا إليه أن يقيمه، فوضع القس على صدر الميت اعترافه بالمشيئة الواحدة، وانحنى عليه يبتبت فلم يستطع أن يفعل شيئا، فقطعه المجمع وحرمه.
15
وفي الجلسة السابعة عشرة صدق المجمع جميع أعماله السابقة وحرم المعتقدين بالمشيئة الواحدة والفعل الواحد، وفي الثامنة عشرة في السادس عشر من أيلول سنة 681 تلي اعتراف المجمع هكذا: «بمسيح وابن ورب وحيد، هو نفسه بطبيعتين وأقنوم وشخص واحد وبمشيئتين طبيعيتين وفعلين طبيعيين بلا انقسام ولا تغير ولا تجزؤ ولا اختلاط ... وليست المشيئتان متضادتين، حاشى! بل المشيئة البشرية تتبع بلا مقاومة ولا مناكفة، وتخضع لمشيئته الإلهية القادرة على كل شيء.»
16
وجاء حرم البابا أونوريوس هكذا: «وإننا نحرم أونوريوس الذي قام بابا على رومة القديمة؛ لأننا وجدناه في تحاريره إلى سرجيوس تابعا في كل شيء لرأيه، وموافقا على عقائده الفكرية.» ووافق نواب البابا على هذا الحرم وأيده البابا لاوون الثاني؛ لأن أغاثون توفي في مطلع السنة 681.
واعتبر المجمع رسالة صفرونيوس إلى سرجيوس من أعمال المجمع، ودعا آباء المجمع للرؤساء، فقالوا: «إننا ندعو بالسنين الكثيرة لأغاثون بابا رومة وجاورجيوس وثيوفانس بطريركي القسطنطينية وأنطاكية وللمجمع والسينودوس.» ودعوا أيضا لقسطنطين الرابع «نصير الأرثوذكسية وعمود الكنيسة وحارس الإيمان»، ووافق الإمبراطور على جميع أعمال هذا المجمع، وأوجب القول والعمل بها بإرادتين إمبراطوريتين؛ الأولى بتاريخ السادس عشر من أيلول، والثانية بتاريخ الثالث والعشرين من كانون الأول سنة 681.
17
يوستنيانوس الثاني (685-695)
وتوفي قسطنطين الرابع في أول أيلول سنة 685، فتولى العرش بعده ابنه يوستنيانوس الأشرم
Rhinometos ، وكان لا يزال في السادسة عشرة من عمره، وكان طموحا مشبعا بحب العظمة والمجد، فأراد أن يحتذي مثال سميه يوستنيانوس الأول، ولكنه كان يشكو شيئا من قلة الاتزان، فتطور سوء ظنه بالناس وحبه للعنف إلى شراسة في الخلق ورغبة في سفك الدماء، أما في أمور العقيدة فإنه كان أرثوذكسيا مخلصا متمسكا بقرارات المجامع المسكونية.
18
المجمع الخامس السادس (692)
وأدت حروب القرن السابع وفتنه إلى إهمال القوانين الكنسية وقلة الاكتراث بها،
19
وحصر آباء المجمعين الخامس والسادس أبحاثهم في أمور العقيدة، ولم يعالجوا مشاكل الكنيسة الإدارية، فدعا يوستنيانوس الثاني إلى مجمع يكمل أعمال هذين المجمعين فيعنى بالإدارة والضبط، ومن هنا تسميته بالمجمع البنثيكتي
؛ أي الخامس والسادس، واسمه في الآداب الكنسية الغربية
Quinesextum .
واشترك في أعمال هذا المجمع مائتان وسبعة وعشرون أسقفا أو مائتان وأربعون، وأبرزهم بولس بطريرك القسطنطينية، وبطرس بطريرك الإسكندرية، وجاورجيوس بطريرك أنطاكية، وأنسطاسيوس بطريرك أوروشليم، وأسقف غورتيني وأسقف رابينة نائبا بابا رومة. واجتمع الأعضاء وعقدوا جلساتهم في القسطنطينية وفي قاعة القبة أيضا.
وسن المجمع البنثيكتي مائة قانون وقانونين، وأثبت الآباء في أول هذه القوانين تمسكهم بالعقيدة الأرثوذكسية كما جاءت في أعمال المجامع الستة، وكرروا شجب الهراطقة وحرم القائلين بها بما فيهم البابا أونوريوس،
20
وأكد الآباء في القانون الثاني تأييدهم للقوانين التي سنها سلفاؤهم أعضاء المجامع السابقة، وبحثوا في المائة الباقية علاقات الشمامسة بالقساوسة وزواج هؤلاء وأولئك، وعينوا السن التي يجب أن يبلغها الإكليريكي قبل سيامته، وحرموا الدين بالربا على رجال الدين، والرشوة للوصول إلى المناصب الكنائسية، وبحثوا الكتب المقدسة وكيفية استعمالها والمحافظة عليها والتعليم بها، كما بحثوا في أمور الرهبانية والأديار والجمعيات السرية وعتق الرقيق، والتصاوير البذيئة، والسحر والكهانة وأمر اليهود.
21
رومة تحتج
ودونت أعمال هذا المجمع في نسخ ست، واحدة لكل من الإمبراطور والبطاركة الخمسة وأرسلت جميعها إلى رومة ليوقعها البابا، وكان البابا كونون قد توفي في السنة 687 فخلفه سرجيوس الأنطاكي (687-701)، فأبى سرجيوس أن يوقع، محتجا ببعض محتوياتها كتحريم الصوم أيام السبت والإذن للكهنة بالزواج، فأراد يوستنيانوس أن يكرهه على ذلك، ولكن جيشه في إيطالية وقف إلى جانب البابا.
22
خلع يوستنيانوس وعودته
واستنزفت حروب يوستنيانوس كل ما في الخزينة، فجمع وزيراه الأموال عن طريق الاغتصاب فجرا عليه كراهية الشعب، وأراد هو في السنة 694 أن تهدم كنيسة في القسطنطينية ليقيم في مكانها بناء له، وكلف البطريرك المسكوني أن يصلي على الكنيسة قبل هدمها، فأجابه البطريرك: أما لأجل بناء كنيسة فعندنا أفشين، ولكن لأجل هدم كنيسة فليس لنا ما نقول! فأجبره يوستنيانوس أن يصلي للهدم، فوقف البطريرك ودموعه تسيل وصلى قائلا: المجد لله الطويل الأناة كل حين وكل أوان وإلى دهر الداهرين.
وطغى يوستنيانوس وتجبر فسار القائد لاونديوس إلى القصر وقبض على يوستنيانوس وجدع أنفه ونفاه إلى الخرسون، ثم أخفق لاونديوس في إفريقية فنادى الجند بطيباريوس إمبراطورا، ووفق طيباريوس هذا الثالث في حروبه ضد المسلمين، ولكن الشعب والجيش كانوا قد أصبحوا لا يخضعون لسيطرة أحد، فبات عرش طيباريوس متداعيا، وفر يوستنيانوس الثاني من منفاه ونزل في بلغاريا واستنصر تربيل ملك البلغار، فزحفا معا على القسطنطينية، وعاد يوستنيانوس إلى العرش (705)، وفي السنة 711 ثار فيليبيكوس البرداني فدخل العاصمة ثم قتل يوستنيانوس وابنه طيباريوس، فانتهى أمر الهرقليين بعد مائة سنة وسنة.
يوستنيانوس والبابا قسطنطين (711)
ورغب يوستنيانوس بعد عودته إلى الحكم في موافقة رومة على أعمال المجمع البنثيكتي، فدعا البابا قسطنطين إلى زيارة القسطنطينية، فأمها في السنة 711 واستقبل فيها بحفاوة وإكرام، واختلى يوستنيانوس بقسطنطين في نيقوميذية فخرجا متفقين، وأقام الباب قداسا حافلا في القسطنطينية وتناول يوستنيانوس من يد البابا، وعاد البابا إلى رومة مكرما، وبقي أمر هذا الاتفاق غامضا تنقصه التفاصيل.
23
ظهور الكنيسة المارونية
واستولى الفرس على أبرشيات أنطاكية فرحب اليعاقبة بقدومهم وتعاونوا معهم، وطالت الحرب الفارسية (609-628) فلمس هرقل أهمية ولاء اليعاقبة والأرمن لقربهم من حدود فارس ولكثرة عددهم، فرغب في تسوية الخلاف القائم بين هؤلاء وبين الكنيسة الجامعة، فأعد سرجيوس البطريرك المسكوني حلا للمشكلة فقال بطبيعتين مع الكنيسة الجامعة بفعل واحد لاسترضاء اليعاقبة والأرمن والأقباط، ووضعت الحرب أوزارها، فأخذ هرقل يطوف في الولايات الآسيوية ويحض النصارى على التفاهم وتوحيد الصفوف بالشكل الذي اقترحه سرجيوس بطريرك القسطنطينية، ووصل هرقل إلى الجزيرة في صيف السنة 631 وزاره فيها آزر كاثوليكوس الأرمن فقبل الحل الجديد، ثم اتصل هرقل بأخبار اليعاقبة في منبج فقالوا بالمشيئة الواحدة والطبيعتين، واعترف هرقل ببطريركهم أثناسيوس الجمال بطريركا قانونيا على كنيسة أنطاكية، ثم اتجه الإمبراطور شطر سورية الشمالية مقربا موحدا، فلقي ترحيبا كبيرا.
ووصل هرقل إلى حمص في هذه السنة عينها (631) فخف رهبان بيت مارون إلى استقباله فيها، ورحبوا به ترحيبا، «فأقطعهم أراضي واسعة»،
24
وأبقى في أيديهم ما كانوا قد أخذوه من الكنائس والأديار التي كانت لليعاقبة،
25
فازدادوا عزة ومناعة ونفوذا وتعاونوا معه.
26
وأطل المسلمون على سورية وانتشروا في سهولها واستولوا على مغانمها، وتراجع هرقل وأوصى أعوانه وأنصاره - وبين هؤلاء رهبان بيت مارون وأتباعهم - بالتيقظ والتربص مؤكدا عودته بعد حين، فاشتد ضغط المسلمين على هؤلاء الأعوان والأنصار، وأكد اليعاقبة للمسلمين أنهم ليسوا من أنصار الملك، فأطلق المسلمون يدهم فاضطهدوا رهبان بيت مارون وأتباعهم محاولين استرجاع ما خسروا من أديار وكنائس،
27
وكان اليعاقبة لا يزالون كثرا في أبامية ونواحيها، ولهم دير عظيم بالقرب منها على اسم مار باسوس بلغ عدد رهبانه ستة آلاف وثلاثمائة،
28
فطلب الموارنة لهم ملاجئ حصينة يعيشون فيها أحرارا طلقاء، ويمتنعون بها إلى أن يعيد الروم الكرة ويجولوا جولة ثانية في الحرب القائمة بين النصارى والمسلمين، واغتنم معاوية نشوب الثورات في أوائل عهد قسطنطين الرابع فأنفذ حملاته الشهيرة ووصل إلى أسوار القسطنطينية (673-677)، فأنفذ الروم المردة والجراجمة إلى جبال لبنان للقيام بغارات جريئة في بلاد الشام تعرقل أعمال تموين العدو وتهدد عاصمته، فاحتمى بهؤلاء كثيرون من أهل البلاد،
29
وضوى إليهم «جماعة كثيرة من الجراجمة والأنباط»،
30
وهؤلاء الأنباط هم في عرف رجال البحث والاختصاص العناصر الآرامية المعاصرة
31
ومنها الموارنة، ولم تأت هذه الهجرة دفعة واحدة، وإنما حدثت في أزمنة متتالية، فجاء الموارنة إلى لبنان على موجات صغيرة واستقروا - بطبيعة الحال - في أعالية الشمالية في منطقة الجبة القريبة من وادي العاصي، وفي بلاد العاقورة التي كانت لا تزال قليلة السكان كثيرة الغابات.
32
وسار موكب المشيئة الواحدة في البلدان التي لم تكن قد فتحها المسلمون سيرا موفقا، فقال بها بطاركة القسطنطينية وأرمينية ومصر، وأيدهم أونوريوس بابا رومة، فصدر الإكثيسيس بالمشيئة الواحدة في السنة 638، وتولى السدة القسطنطينية بعد سرجيوس من قال بالمشيئة الواحدة وبث الدعاية لها وناصر من ناصرها، وتعاقب على الكرسي الأنطاكي من قال هذا القول منذ السنة 631 حتى السنة 681، وأشهر هؤلاء مقدونيوس صديق سرجيوس وكاريوس صاحب المصنفات في المشيئة الواحدة، وكان القول بالمشيئة الواحدة على ما دعا إليه هرقل قد شاع في أبرشيات أنطاكية وأوروشليم، وتفشى بين طبقات الشعب والإكليروس من الملكيين الموارنة منهم وسواهم، ومن هنا اهتمام البابا مرتينوس وتفويضه إلى يوحنا أسقف عمان أمر رعاية من تبقى من المؤمنين الأرثوذكسيين وتخويله خلع الأساقفة في أبرشيات أنطاكية وأوروشليم الذين ضلوا فضللوا،
33
وقد نغالي كثيرا إذا اعتبرنا البطاركة الأنطاكيين المونوثيليين المقيمين في القسطنطينية آنئذ شرفيين
In Partibus Infidelium
بكل ما في هذا الاصطلاح من سلطة وهمية وفقر في النفوذ، فموقف الإمبراطور من مكاريوس قبيل انعقاد المجمع المسكوني السادس يدل على صلة بين البطريرك الأنطاكي وبين الأساقفة الخاضعين لسلطته.
34
وكان ما كان من أمر المجمع المسكوني السادس (681) وحرم القول بالمشيئة الواحدة، وأصر بطريرك أنطاكية مكاريوس على غيه وأمعن في تيهه، فوسم بطابع الهرطقة وحرم هو وأتباعه، وآثر مكاريوس الاتصال ببابا رومة على البقاء في القسطنطينية فأذن له بذلك، فأقلع إلى إيطالية مع أعضاء الوفد الروماني، ووصل إلى رومة والتبست عليه وجوه الرشد فغلا في هرطقته فدخل ديرا وأقام فيه، واعتبر اليعاقبة عمل المجمع المسكوني السادس غلوا في ما ذهب إليه المجمع الخلقيدوني، فاشمأزوا واتهموا قسطنطين الرابع بالخيانة، وادعوا أنه باع ضميره لقاء مائة وسبعين قنطارا من الذهب دفعها إليه البابا إغاثون!
35
وأصبح من نكب من الملكيين عن طاعة المجمع السادس بلا رأس، فاجتمع رهبان بيت مارون ورسموا على قول المؤرخ اليعقوبي بطريركا وأساقفة من ديرهم، وهكذا تأسست كنيسة مارونية مستقلة بين أواخر القرن السابع وأوائل الثامن.
يوحنا مارون (627-707)
وأثبت ما يستنتج من تقاليد الموارنة أن رهبان دير مارون وأتباعهم - أثناء شغور الكرسي الأنطاكي - نادوا بيوحنا أحد رهبانهم الأفاضل بطريركا على أنطاكية، وأنه هو أول بطاركتهم، ومما جاء في التقليد أنه رقد في جبل لبنان وتوالى بعده بطاركة الموارنة.
36
الموارنة والمشيئة الواحدة
ويذكر القديس جرمانوس البطريرك المسكوني (715-729) الموارنة في كتابه المجامع والهرطقات، فيقول: إنهم لم يعترفوا بالمجمعين الخامس والسادس،
37
ويعد القديس يوحنا الدمشقي رسالة في العقيدة الأرثوذكسية قبل السنة 726 ليتبناها إلياس أسقف يبرود أمام رئيسه بطرس متروبوليت دمشق، فيجيء في القسم في آخرها أن الأسقف لا يقول إلا بها، وأنه لا علاقة له بأي دستور إيمان آخر، ولا سيما دستور إيمان الموارنة،
38
ويوجه ثيودوروس أبو قرة أسقف حران (740-820) رسالة إلى صديق له كان يعقوبيا فاهتدى
39
فيقول بالعربية: «ولا نرى أن القوى التي كانت في التركيب الأنسي بطلت؛ لأن الكلمة هو كان المدبر والمحرك لها وإن كان قد يرى ذلك جند الموارنة.» ولعله ينسب للموارنة رأي غلاة المونوثيلية المتأخرين.
وقام سعيد ابن البطريق بطريرك الإسكندرية (933-940) يؤرخ منذ الخليقة حتى أيامه، فقال: إن مارون علم بالطبيعتين والمشيئة الواحدة والفعل الواحد والأقنوم الواحد، وإضافة أنه علم في عصر موريقيوس، وأن أكثر من تبعه تلاميذه أهل مدينة حماة وقنسرين والعواصم فسميوا المارونية،
40
وسيعد ابن البطريق هو أفتيخيوس المشار إليه آنفا، وهو يخلط بين القديس مارون ويوحنا مارون البطريرك الماروني الأول، فيضعف روايته.
41
ويتصدى للبحث في هذا الموضوع في القرن العاشر مؤرخ مسلم، هو أبو الحسن علي المسعودي، المتوفى في السنة 957 للميلاد، وقد اشتهر بحب الاستطلاع والبحث في المواضيع الإسلامية وغيرها، وصنف كتبا عديدة أشهرها مروج الذهب، وبحث في كتاب التنبيه والإشراف في الموارنة، فقال:
وظهر في أيام موريق رجل من أهل مدينة حماة، من أعمال حمص يعرف بمارون، وإليه تنسب المارونية إلى هذا الوقت المؤرخ به كتابنا، وأمرهم مشهور في الشام وغيرها، وأكثرهم بجبل لبنان وسنير وحمص وأعمالها كحماة وشيزر ومعرة النعمان. وكان لهم دير عظيم يعرف شرقي حماة وشيزر، ذو بنيان عظيم، حوله أكثر من ثلاث مئة صومعة فيها الرهبان، وكان فيه من آلات الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وجور السلطان ، وهو يقرب من نهر الأرنط نهر حمص وأنطاكية. وكان مارون قد أحدث آراء أبان بها عمن تقدمه من النصارى في المشيئة وغيرها وكثر متبعوه، وقد أتينا على شرح مذهبه وموافقته الملكية والنسطورية واليعاقبة في الثالوث، ومخالفته إياهم في ما يذهب إليه من أن المسيح جوهران أقنوم واحد مشيئة واحدة، وهذا القول متوسط بين قول النسطورية والملكية.
42
كتاب الهدى
وقد سطت محن الدهر وعوادي الزمن على آثار الموارنة الأولين، فلم يبق منها شيء يذكر، وأقدم ما عند الموارنة كتاب الهدى والمقالات العشر.
43
وكتاب الهدى، أو كتاب الناموس، أو كتاب الكمال الذي ينسب إلى المطران داود الماروني هو في الحقيقة مجهول المؤلف؛ لأن المطران داود لم يؤلفه، وإنما نقله من السريانية إلى العربية في نحو السنة 1058؛ وذلك إجابة لطلب راهب فاضل اسمه يوسف، والمطران داود مجهول أيضا، وكذلك صديقه الراهب يوسف، وليس في متن كتاب الهدى ما يدل على واضعه سوى العبارة «وقال الأب القديس». أو ما يشابهها. ولا نعلم من هو هذا الأب القديس، ولعله مار يوحنا مارون أو أحد خلفائه البطاركة الأولين أو غيرهم، وقد يكون هذا الكتاب من كتب الطائفة المارونية؛ بدليل ما جاء في الباب الثالث عشر منه عند ذكر آراء النصارى في أخذ القربان؛ فقد جاء ما نصه بالحرف: «فرأت الروم أن تقريبه في كل يوم واجب، ولكنها قالت: إن ترك أخذه في أكثر الأوقات أولى من أخذه دائما، أما الأرمن فإنهم لا يرون تقريبه بالجملة إلا في أوقات مخصوصة مثل الخميس الكبير والفصح، وما أشبه ذلك من الأعياد الكبار، فأما أكثر السريان، وهم أهل مذهبنا وأكثر اليعاقبة وسريان المشرق والنساطرة؛ فرأيهم في المواظبة على أخذه في أكثر الأوقات أولى من تركه.» ويتضح من هذا أن السريان أهل مذهبه هم غير الروم والأرمن واليعاقبة والنساطرة وسريان الشرق.
44
نقول: قد يكون هذا الكتاب من كتب الموارنة؛ بدليل ما اقتبسنا، وقد لا يكون. وقد يكون لبعض الموارنة لا لجميعهم.
والذي يهمنا من كتابه الهدى جاء في القانون الأول منه وفيه كلام صريح في أمر المشيئة الواحدة، وإليك نصه:
فنقول: إنه هكذا نعتقد، وهكذا نؤمن أن أحد الأقانيم الثلاثة الشريفة، وهو الابن الكلمة المولود من الآب ليس في الزمان والابتداء وليس كتوليد الأجسام بعضها من بعض، بل هو نور من نور إله حق من إله حق في آخر الزمان من أجل كثرة رحمته قد صنع خلاص الجنس الآدمي بمشيئة الآب، وروح القدس هبط من السماء من غير أن يفارق ذات الآب، ومن غير تغير ولا فساد، تجسد من روح القدس والطاهرة ابنة يواقيم وحنة، وأخذ منها جسدا موازيا لنا في طبيعتنا وموازيا لنا في جوهرنا الإنساني، جسما ذا نفس ناطقة عالمة، وشابهنا في كل شيء سوى الخطيئة، وولد منها ابنا واحدا وربا واحدا يسوع المسيح أقنوما واحدا وشخصا واحدا ذا جوهرين معقولين من جوهر الآب الأزلي بلاهوته، ومن جوهرانا بناسوته محسوس بالجسم الإنساني وغير محسوس باللاهوت، محدود بالجسم الزماني الإنساني وغير محدود باللاهوت الأزلي الأبدي.
وإذ قد اعتقدنا فيه هذا الاعتقاد الذي ذكرناه؛ فإننا لا نعتقد فيه أيضا اثنين ولا مسيحين ولا فعلين حاشا من ذلك، بل هو واحد، يسوع المسيح ابن الله، الذي من أجلنا تأنس أقنوم واحد وشخص واحد، وهو يعقل بجوهرين ومشيئة واحدة وفعل واحد إله أزلي ليس له ابتداء، وإنسان آدمي زماني ذو جسم نفساني حساس زماني، وهو إله تام باللاهوت وإنسان تام بالجسم الإنساني.
وبهذه الأوصاف قد آمنت البيعة المقدسة، وبها أقرت واعترفت هي وجميع أولادها، وعلى ذلك اتفق رأي النصارى المؤمنين، وآمنوا بالرب يسوع المسيح ابن الله الحي الأزلي الذي هذه أوصافه، وكانت أرواحهم متفقة في جميع ما قدمنا ذكره إلى هذا الذي انتهينا إليه من أوصاف الابن الأزلي يسوع المسيح، ثم اختلفوا فيه كيف كان بعد الاتحاد وافترقوا فرقا كثيرة.
فأول فرقة ظهرت من الفرق المشهورة الفرقة المنسوبة إلى آريوس، وهي التي تدعى الآريوسية، ثم النسطورية، وهي المنسوبة إلى نسطور. ثم اليعقوبية، وهي المنسوبة إلى يعقوب الذي كان من مدينة تدعى بردعاء؛ ولذلك يقال له: البرادعي. ثم الملكية، وهي المنسوبة إلى قسطنطين بن قسطنطين بن هرقل الملك. ثم المارونية، وهي المنسوبة إلى مارون يوحنا بطريرك أنطاكية العظمى.
45
وثبتت هذه الفرق الأربع على أن الفرقتين الملكية والمارونية اللتين ذكرناهما إنما هما فرقة واحدة، ورأيهما في الاتحاد والجوهر والأقنومية رأي واحد، وإنما اختلفتا في المشيئة، فقالت الملكية بمشيئتين، وقالت المارونية بمشيئة واحدة. واحتجت كل واحدة منهما بحجج، فقالت الملكية في المسيح: إنه ذو مشيئتين للجوهرين؛ مشيئة إلهية للجوهر الإلهي ومشيئة إنسانية للجوهر الإنساني، وقالت المارونية: بل هو ذو مشيئة واحدة للجوهرين الإلهي والإنساني. ومن بعض ما احتجت به الملكية أنه لما كان المسيح ذا جوهرين؛ جوهر إلهي وجوهر إنساني؛ وجب أن يكون ذا مشيئتين: مشيئة إلهية للجوهر الإلهي، ومشيئة إنسانية للجوهر الإنساني، إلا أن الجوهر الإلهي تختص به مشيئة التفضل والإنعام وإظهار المعجزات، مثل: شفاء المرضى وفتح أعين العمي وإنهاض الزمني وإحياء الموتى؛ وما أشبه ذلك، والجوهر الإنساني يختص به العالميات مثل الأكل والشرب، ولو كان المسيح ذا مشيئة واحدة؛ لوجب أن يكون جوهرا واحدا وعاد الأمر إلى ما قالت اليعقوبية، واستدلت على ذلك بقوله في الإنجيل: أما النفس فمختارة مستعدة، وأما الجسم فموجوع ضعيف، وبقوله: ما أتيت لأصنع مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني، وقالت طائفة المارونية: هاتان المشيئتان اللتان ادعيتموهما لا تخلوان من أن تكونا إما متساويتين أو متضادتين، فإن كانتا متساويتين في جميع حالهما عاد الأمر إلى مشيئة واحدة، وإن كانتا متضادتين جاء من ذلك أن يكون الجوهر الإلهي يشاء ما لا يشاء الجوهر الإنساني، وكذلك الجوهر الإنساني يشاء ما لا يشاء الجوهر الإلهي، وإذا حصل ذلك وقع التباين والقضاء وحصلا اثنين وبطل حكم الاتحاد وصار الثالوث رابعا، وآل الأمر إلى رأي نسطور وما ادعاه في المسيح.
46
المقالات العشر
وكتاب المقالات العشر في المشيئة الواحدة للأسقف توما الكفرطابي يقول مع كتاب الهدى بالطبيعتين والمشيئة الواحدة، ويستدل من مقدمة هذا الكتاب أن صاحبه توما كان أسقفا على موارنة كفر طاب وكورة حلب
47
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، وأنه كتب في المشيئة الواحدة ليرد على يوحنا السابع بطريرك أنطاكية الأرثوذكسي، وذلك في السنة 1089، ومن أهم ما جاء في هذه المقالات قوله:
ونحن وأنتم دمنا ثابتين على ذلك زمان كثير إلى زمان مكسيماس خاصتكم الذي من تحقيق ولد زنا؛ لأن أمه كانت مرأة عجمية زنت مع رجل يهودي من ملة السامرة، فلما ولد منها هذا المذكور ونشأ، ثم إنه تدرب بكل أمور منشقة عن العدل بكل مكر وأفعال ردية؛ لأنه تربى في طبرية، وانتقل من هناك إلى مدينة قسطنطينية، وعند ذلك الحين كان في مدينة قسطنطينية ملكين أخوة، مرقيان وأخيه تسلما مقاليد سياسة مملكة الروم. حينئذ تقدم إليهم مكسيما المذكور وطفق يشير عليهما بأن يوجب أننا نزيد مشية أخرى ويكونا مشيتين لذو الطبعين، وهذا الاعتقاد يلزم افتراق الطبيعتين من الاتحاد الشريف، ثم إن الملكين امتثلا قوله؛ لأنه قال كما أنتما ملكين يصير لكما شعب يسمى ملكيين باعتقاد مشيتين وطبعين وفعلين ومذبحين، ويصلب بأصبعين، فلما حسن ذلك عند الملكين كي يظهر لهم سمعة جديدة في العالم أمرهم مكسيماس يكتبوا مناشير إلى بلد الشام؛ كي أنهم يعتقدوا مقالة المشيتين التي قالها مكسيماس، فلما انتهت كتبهم إلى بلاد سورية الشام وبلد حلب ودمشق وجبل لبنان، حينئذ قالوا أهل الشام إننا نحن راجعين إلى حكم دير ماران سرياني، تفسيرها عربي: دير ربنا؛ لأن صفة هذا الدير كان على شط العاصي خارج مدينة حماة، وكانت جملة رهبانه ثمانمائة راهب كلهم قديسين.
ثم وصلت لهم كتب الملكين مرقيان وأخيه إلى دير ماران، فلما وقفوا على قراءتها وتأملوا مضمون إشارتها للحين؛ نفروا منها غاية الإنفار، ثم إن الرهبان ردوا جواب كتب الملكين قائلين لهم هكذا: أنتم تعلمون؛ لأن نحن بأيدينا أمانة الثلاثمائة وثمانية عشر أبا بمدينة نقية، وقامت عليها خمس مجامع وثبتتها لنا واحرموا لكل من يغيرها أو يميل عنها، وتأمرونا نقيم مذهب مكسيماس بيد غالبة وسيف، ومذهب حق لم يكن بقوة حرب، وهذا الشقاق اخترعه مكسيماس من تلقين قلبه بأغراض مفسدة مايلة عن عدل المجامع، فإن كان مكسيماس قوله حق يجي ويجتمع نحن وإياه بمدينة الله أنطاكية، فإن رأينا نعمة روح القدس حل عليه علمنا أن قوله عدل، وإذا لم يكون كذلك وإلا لم يكرهنا أحد على اتباع مقالته غصبا بغير شهادة برهان من كتب الكنيسة المقدسة الرسولية وتثبيت قوانين المجامع المقدسة المهذبة بنعمة الروح القدس.
ثم إن أولئك الرهبان القديسين كتبوا جواب مراسلة الملكين، وتسلم رسل الملوك وانصرفوا من عندهم، فلم يشعروا إلا وقد ظهرت جيوش الإسلام، وقطعت البلد، وتغلبوا على دمشق ومصر، وأيضا بيت المقدس وجميع الشام، فلما عادوا الملكين كاتبوا دير مارون، عند ذلك ثبتوا أهل الشام وجبل لبنان على تلك المقالة المقدسة المفوضة من الرسل والمجامع المقدم ذكرها، فلما عاد توفوا الملكين مرقيان وأخيه.
حينئذ تقلد سياسة مملكة الروم بعد هولاي هرقل الملك المنصور الذي رفع مجد دين النصرانية، وأباد أعاديها وأهلك أضدادها من الفرس وغيرهم، وأهلك بلدانهم وأخرب حضرانهم وأمحى ذكرهم ورفع منارة الصليب الكريم على جميع الأعالي، وكسر معبودات المجوس عباد الأوثان، وأقام بحق الملك نظير قسطنطين الكبير الملك القديس، الذي ثبت مقالة الثلاثمائة والثمانية عشر في مدينة نيقية.
وإن الملك هرقل القديس نكر على مقالة مكسيماس، ثم كتب عرف البان لاوون بطريرك رومية بفساد تلك المقالة الذي زادها مكسيماس بغير شهادة حق، فلما بلغ كتاب الملك هرقل إلى لاوون حينئذ تأمله وفهم مضمون صحة إيمانه، عند ذلك أرسل جوابه رسالة يبارك له بملكه ويدعي له بالنصر قائلا له: إن الذي ابتدع هذا الشقاق مستحق تأديب قطع لسانه ويده، فلما وصل كتاب البطريرك قبله هرقل قبل الوقوف عليه، حينئذ أشخص بين يديه مكسيما وأمر بعض غلمانه أحد اسمه قسطا قطع لسان مكسيما ويده وأنفاه إلى جزيرة تسمى الريكية، وهذا المقال مؤرخ عندنا وعندكم بكتاب سعيد بن بطريق، وهناك مات مكسيما منفيا وبطلت مقالة المشيئتين ومحا ذكرها في ملك هرقل وابنه قسطنطين، وابن قسطنطين كان اسمه قسطاس مقدار سبعين سنة.
وبعد هولاي تقدموا تلاميذ مكسيماس إلى أهل المراتب، وقدموا لهم البرطيل والرشوات الجزيلة، وردوا المقالة المنشقة كما كانت من مكسيما، وانشقوا أولئك إلى تلك المقالة، وثبتنا نحن أهل حلب وحماة وحمص في الشرق وجبل لبنان بمقالة الخمس مجامع، وثبتوا تلاميذ مكسيماس منشقين وحودهم لا يخالطهم أحدا، وأكثروا المقال والعيب واللعنات؛ بغضة منهم ورقاعة إلى جميع صفوف النصارى المؤمنين إخوتنا المسيحيين.
وأنتم تلاميذ مكسيماس أخذتم لكم لعنة تلعنوا بها جميع المسيحيين، ظلما وبغضة بغير شهادة عدل، وما سمعتم ما قال الإنجيل المقدس صلوا على من يلعنونكم ظلما، افرحوا وابتهجوا؛ لأن أجركم كثير في السماء، وباركوا على من لعنوكم ومن صخرك ميل مر معه ميلين، وأنتم أخذتم لكم لعنة تلعنوا بها النساطرة والإفرنج والأرمن، والقبط والحبش، واليعاقبة والموارنة.
ولا تعتبوا علينا ولا تلومونا؛ لأننا أوريناكم الصواب، ولكم بروسكم ولربنا المجد، ونحن سمينا موارنة من دير ماران - تفسيره دير ربنا - وأنتم انشقيتم وحودكم وسميتم ملكيين على اسم الملكين عابدين مشيتين وإرادتين وفعلين وغرضين ومذبحين وتصلبوا بأصبعين، وأفرقتم السيد المسيح مسيحين، عرفتك ذلك بعد إكرامك يا أبي القديس وصلي علي منشان الله، له السبح، آمين آمين.
48
موقف علماء الموارنة
وأحكم ما صنف في هذا الموضوع على يد الموارنة كتاب: لباب البراهين عن حقيقة أمر الطائفة المارونية، للمطران يوسف دريان، فإنه جاء - والحق يقال - غزير المادة جزيل المباحث واضح التعبير، وظهر بعده بثمانية عشر عاما كتاب آخر بالإفرنسية، لصديقنا سيادة الحبر العلامة المطران بطرس ديب، وقد أسماه: «الكنيسة المارونية حتى نهاية العصور الوسطى»،
49
وقد استوعب سيادته أصول هذا الموضوع، وأحاط به بالطريقة العلمية الحديثة، فجاء كتابه مرجعا لا يستغنى عنه، وتلخص نظرية المطران يوسف دريان والمطران بطرس ديب بما يلي:
أولا:
أن القول بالمشيئة الواحدة لم يصل إلى أبرشيات أنطاكية في عهد سرجيوس وأونوريوس وهرقل، وأن القول بالمشيئتين تسرب إلى هذه الأبرشيات بواسطة بعض الأسرى في أوائل القرن الثامن.
ثانيا:
أن الموارنة - ولو قالوا بالمشيئة الواحدة - لا يصح أن يقال بصواب أنهم مونوثيليون بحصر المعنى؛ لأن المشيئة الواحدة في عرفهم «واحدة معنويا؛ أي في مفعولها ونتيجتها لا في قوتها ومبدئها».
50
ثالثا:
أنه لا يجوز عد الموارنة الأولين هراطقة؛ لأنه لا يصح فيهم تحديد الهرطقة وشروطها، ولا سيما وأنه لم يكن في عملهم أي عناد أو جسارة، أو مكابرة أو عصيان على سلطة الكنيسة، كما برهنوا على ذلك عند أول اتصالهم بالكرسي الرسولي الروماني بعد تحديد المجمع المسكوني السادس.
ويرى صديقنا العلامة سيادة المطران مخائيل ضومط أن التعبير «مشيئتان طبيعيتان وفعلان طبيعيان» الذي أقره المجمع المسكوني لم يظهر في المناقشات الأولى التي رافقت قضية المشيئة الواحدة، وقد أخذها بعضهم بمعنى أدبي يقصد به «الأمر المراد»، وبالفعل «الأمر المفعول»، وفي عدم التمييز التباس أدى إلى جدال هو أشبه شيء بما قام حول تعبير الطبقية الواحدة الموروس عن كيرلس الإسكندري.
الفصل الرابع
يوحنا الدمشقي دفاق الذهب
655-749
شقاء «الملكيين»
واستغل اليعاقبة الحروب بين الروم والأمويين، وأكدوا لهؤلاء ولاء أبناء الكنيسة الجامعة لدين ملك الروم ودعوهم «ملكيين» واتهموهم بالتجسس للروم، فضيق الأمويون على هؤلاء «الملكيين» ومنعوا قيام بطاركة لهم في أنطاكية وأوروشليم والإسكندرية، وقد مر بنا أن البطاركة الأنطاكيين مقدونيوس وجاورجيوس الأول ومكاريوس ظلوا بعيدين عن أنطاكية مقيمين في القسطنطينية، وشمل هذا المنع ثيوفانس الأول (681-687) واسطفانوس الثالث (687-690)، ولعل جاورجيوس الثاني (690-695) وخلفه ألكسندروس الثاني (695-702) عادا إلى أنطاكية وأقاما فيها،
1
ولكن بطاركة اليعاقبة ظلوا هم أيضا بعيدين عن أنطاكية، مقيمين في جهات ديار بكر وملاطية، وعلى الرغم من أن أحدهم إلياس نال حظوة لدى الأمويين فمنح حق إنشاء كنيسة في أنطاكية؛ فإنه لم يسمح له بالإقامة في هذه المدينة.
2
الأمويون والنصارى
ورغب الأمويون في المال لاصطناع الأحزاب وللتمتع بأسباب الدنيا ولمتابعة الحرب، فزادوا الجزية والخراج وشددوا في تحصيلهما، وضيقوا على الناس حتى أخذوا الجزية في بعض الأحيان ممن دخل في الإسلام، ورأى بعض النصارى أن الإسلام لا ينجيهم من الجزية والعنف، فعمدوا إلى لبس الأسكيم، فأدرك عمال بني أمية غرضهم فوضعوا الجزية على الرهبان، وأراد بعضهم اقتضاءها من الأموات فجعلوا جزية الموتى على الأحياء.
3
ولا يجوز التعميم في شيء من هذا، فإن الأمويين عطفوا أيضا على بعض المسيحيين من أبناء الكنيسة الجامعة نفسها، وأشهر هؤلاء منصور بن سرجون والد دفاق الذهب، وعطف الأمويون على بعض الأطباء وعلى الأخطل أيضا، وكان هذا يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن وهو سكران وفي صدره صليب ولا يعترضه أحد، ولا يستنكفون من ذلك؛ لأنهم كانوا يستعينون به في هجو الأنصار،
4
وأجاد في مديح بني أمية في مناظرة جرت بينه وبين جرير فقال قوله المشهور:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فصاح عبد الملك الخليفة الذي جرت المناظرة في حضوره: «لا فض فوك! أنت محامينا وشاعرنا، اصعد على ظهر مناظرك.» فخلع الأخطل برده وشمر رداءه وقبض بيده على عنق جرير، فصرخ هذا يستنجد: «يا أمير المؤمنين إن مسيحيا لا يحق له أن يسوم مسلما هذه الإهانة.» فأيده الحاضرون، وقالوا: الحق في جانبه يا أمير المؤمنين! ولكن عبد الملك لم يبد أي اهتمام لهذا الكلام، حتى إذا وطئ النصراني بقدمه عنق غريمه قال عبد الملك: هذا حسبك.
5
ومما يروى عن عبد الملك أن طبيبه كان مسيحيا نسطوريا اسمه سرحون، وأنه عين أثناسيوس الرهاوي مربيا لأخيه عبد العزيز.
ويروى عن عبد الملك نفسه أيضا أنه كان يدعو المسيحيين للدخول في الإسلام، ولكن بدون ضغط أو إجبار،
6
ويروى عنه أيضا أنه نشأ في أوساط المدينة، ورغب في الدين فلما بلغه أن أباه أضحى أميرا للمؤمنين أغلق القرآن، وهو يقول: «ليس بعد بيننا من جامع.»
7
وينقل البلاذري بالإسناد أن عبد الملك طلب كاتدرائية دمشق «للزيادة في المسجد» وبذل للنصارى مالا لهذه الغاية فأبوا أن يسلموها إليه، فامتنع.
8
واحتاج عبد الملك إلى مقاومة جماعة من مناظريه على الخلافة، وفيهم عبد الله بن الزبير في مكة والمختار بن أبي العبيد في العراق وغيرهما، فوكل ذلك إلى الحجاج وأمثاله، فاستخدموا العنف وحصلوا الأموال بحق وبغير حق، ومما يحكى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يستأذنه في أخذ بقية من الأموال من أهل الذمة فأجابه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.»
9
ونقض يوستنيانوس الثاني معاهدة السنة 685، وكان عبد الملك مشغولا في توطيد دعائم ملكه، فاشترى الصلح مع الروم، وزاد المال السنوي الذي كان يدفعه معاوية (689)، ثم استتب له الأمر في الداخل فنشأت مشادة بين عبد الملك ويوستنيانوس حول ما كتب أو نقش على القراطيس والدنانير؛ فإن الروم كانوا لا يزالون يستوردون الورق من مصر، وكانت قد جرت عادة الأقباط على كتابة اسم المسيح وعبارة التثليث على أعلى الطوامير، فأمر عبد الملك باستبدال هذه العبارة:
قل هو الله أحد
وكتب في صدور كتبه إلى الروم:
قل هو الله أحد
وذكر النبي مع التاريخ، فكتب إليه يوستنيانوس: إنكم قد أحدثتم كذا وكذا، فاتركوه، وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون - وكانت العملة الرائجة في البلدان الإسلامية لا تزال دنانير رومية ودراهم فارسية - فغضب عبد الملك وخشي ما قد يحدثه هذا التهديد من أثر سيئ في نفوس المسلمين، فأشار خالد بن يزيد على عبد الملك بالتمسك بما أحدثه في القراطيس، وقال: يا أمير المؤمنين حرم دنانيرهم فلا يتعامل بها، واضرب للناس سككا ولا تعف هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير.
10
فسك عبد الملك دنانيره الأولى في السنة 692، وأرسل المبلغ السنوي المفروض عليه لملك الروم من هذه الدنانير الجديدة، فغضب يوستنيانوس لخلو هذه الدنانير من صور أباطرة الروم، ولحملها عبارات لم تخل من التحدي: «أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.» فرفض يوستنيانوس قبول هذه الدنانير، وتحرك بجيوشه إلى الحدود الإسلامية 693،
11
وأنزل عبد الملك الصلبان
12
واستشهد البطريرك الأنطاكي ألكسندروس الثاني وجماعة من المؤمنين، وترمل الكرسي الأنطاكي أربعين سنة.
13
وتوفي عبد الملك في خريف السنة 705 وتولى بعده ابنه الوليد (705-715)، «وكان جبارا عنيدا»
14
فأمر بجميع أسرى الروم فقتلوا، ثم ضغط على النصارى - ولا سيما التغالبة - للدخول في الإسلام .
15
طمع الوليد في كاتدرائية دمشق «فجمع النصارى وبذل لهم مالا عظيما على أن يعطوه إياها فأبوا، وأدخلها في المسجد».
16
وسار سليمان (715-717) أخو الوليد على هذه الخطة عينها.
أما عمر بن عبد العزيز (717-720) فإنه أوجب البر بالعهود وإعطاء كل ذي حق حقه، فأمر عامله في دمشق أن يرد إلى النصارى كنيستهم، فكره ذلك أهل دمشق وقالوا نهدم مسجدنا بعد أن أذنا وصلينا! ثم أقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أخذت عنوة على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا فرضوا بذلك،
17
ثم شدد عمر في تنفيذ عهدة عمر بن الخطاب جد أمه.
أسرة يوحنا الدمشقي
ولا نعلم شيئا عن أصل الأسرة التي تحدر منها دفاق الذهب، ولا نجد شيئا في المراجع الأولية يؤيد قول فون كريمر العلامة الألماني أن هذه الأسرة بزنطية الأصل،
18
وليس لنا أن نقول مع الأب إسحاق الأرملي إن هذه الأسرة كانت عربية أو آرامية جارت اليعاقبة وقالت قولهم، فالقديس الدمشقي ابتعد عن أديار اليعاقبة ونسك هو وأقاربه في دير أرثوذكسي في فلسطين هو دير القديس سابا، وشهادة ابن البطريق أفتيخيوس أن أبا يوحنا طلب إلى خالد أن يعطي الأمان «له ولأهله ولمن معه ولأهل دمشق سوى الروم» لا تعني أن منصورا كان سريانيا يعقوبيا،
19
فاللفظ «الروم» الوارد في هذه الشهادة قد يشير إلى العنصر لا المذهب،
20
والتلمحري، المتوفى في السنة 845 يرى في سرجيوس بن منصور الكاتب الدمشقي رجلا خلقيدونيا لا يعقوبيا.
21
وتوطنت أسرة منصور دمشق، ونعمت في أيام موريقيوس (582-602) بالنفوذ والاحترام، فمنصور في عرف أفتيخيوس شغل منصبا ماليا هاما، وكاد يكون عامل موريقيوس في ولاية فينيقية اللبنانية، ودمشق آنئذ كانت من أهم مدن هذه الولاية، وأبقى هرقل منصورا في منصبه بعد دخول الفرس إلى سورية،
22
ومنصور هذا هو الذي فاوض المسلمين باسم سكان دمشق بعد تخلي الروم عنها، وهو الذي حظي بعطف أولئك بعد دخولهم إليها وتسلمهم أزمة الحكم فيها، فبقي في المنصب الذي شغله في أيام الروم ولم يدخل سرجيوس بن المنصور في الإسلام كما زعم ابن عساكر وابن شاكر، فكلامهما في هذا الموضوع مصنوع وحديثهما محسن مزلف،
23
وثيوفانس الراهب الذي دون بين السنة 810 والسنة 814 يؤكد تعلق سرجيوس بالدين المسيحي، وينعته بما تعريبه: «كان مسيحيا كاملا.»
24
وتقوى معاوية بعد أن نودي بعثمان خليفة سنة 644، ونوى الاستئثار بالسلطة في سورية، ثم صار خليفة أمويا في دمشق، فاستعان بالنصارى في الحرب والسلم، وكلف ابن آثال بخراج حمص، وأبقى أفراد أسرة المنصور في مراكزهم في دمشق،
25
ولعل السبب في ذلك خدمات منصور أيام الفتح واحتياج الفاتحين إلى موظفين إداريين من ذوي الخبرة والأمانة، وأن معاوية كان يخشى طمع أشراف الفاتحين ولجوءهم إلى المساومة عند دفع الأموال.
26
وأخلص سرجيوس لمعاوية النصح، واجتهد له في المشورة فاتسعت صلاحياته وشملت ديوان المقاتلة بالإضافة إلى المالية، فكلفه معاوية - وهو على سرير الموت - أن يسير الأمور بعد موته حتى يعود ابنه يزيد من الحملة التي كان يقودها في آسيا الصغرى،
27
وأبقى يزيد سرجيوس على ما كان عليه، وهكذا فعل معاوية الثاني.
28
وأحب عبد الملك أن يستبدل اليونانية بالعربية في الدواوين المالية وما تبعها، وأن يغير بعض النظم في هذه الدواوين فلم يرض سرجيوس عن ذلك، فولى عبد الملك سليمان بن سعد وهو «أول مسلم ولي الدواوين»،
29
وتوفي سرجيوس بين السنة 703 والسنة 705.
وخلف سرجيوس ابنين أحدهما يوحنا دفاق الذهب، وهو منصور المؤرخين المسلمين، والآخر والد اسطفانوس السبئيتي ولا نعرف اسمه، وترهب اسطفانوس في دير القديس سابا أيضا، وتبعه ابن عم له اسمه غريغوريوس، وقد اشتهر بنظم الترانيم، وفي القرن التاسع اعتلى السدة البطريركية الأوروشليمية بطريركان من أفراد هذه الأسرة نفسها هما سرجيوس (842-858) وإيليا الثالث (879-907).
30
مولد القديس ونشأته
ولد قديسنا في دمشق وإليها نسب، ومن هنا القول: إنه يوحنا الدمشقي، ومن هنا أيضا لقبه الآخر دفاق الذهب، فالتعبير اليوناني
Chrysorroas «دفاق الذهب» أطلق أولا على نهر دمشق ومنعش غوطتها، وأول من أطلقه على يوحنا الدمشقي هو المؤرخ ثيوفانس الذي دون بين السنة 810 والسنة 814،
31
وهو يوحنا في المراجع اليونانية ويوحنا بن منصور في المراجع القبطية وقوريني بن منصور في تاريخ ابن العبري وابن سرجون في كتاب الأغاني،
32
أما سنة ولادته فإنها مجهولة، وقد حصرها أصحاب سير القديسين بين السنتين 670 و680، ويرى الأب نصر الله أن قديسنا ولد حوالي السنة 655، وقد جاء اجتهاده في محله.
33
ونشأ يوحنا في بيت غنى ووجاهة وعلم، ولا بد أن تكون دمشق قد نعمت بمدرسة عالية كغيرها من مدن ذلك العصر، فماري بن سليمان يقول: إن الأساقفة حذوا حذو فوطيون كاثوليكوس النساطرة، فأنشئوا المدارس في مراكز أبرشياتهم،
34
ولكن سرجيوس آثر التهذيب الخصوصي، ففتش عن مهذب لائق يعنى بتعليم ولده يوحنا وولده بالتبني قوزما وتهذيبهما، ووافق هذا وقوع راهب صقلي في يد القرصان المسلمين اسمه قوزما أيضا، فلما جاء القرصان بهذا الراهب وبغيره من ركاب السفينة المأسورة إلى دمشق؛ رأى سرجيوس هذا الراهب، ورأى البعض من رفاقه يجثون أمامه طالبين البركة، فرثى لحاله واقترب وتحدث إليه فلمس فيه ضالته المنشودة، فمثل أمام الخليفة واستوهبه الراهب فأعطاه إياه، فأخذه سرجيوس وأقامه على تربية ابنه يوحنا وابنه بالتبني قوزما، وكان هذا الراهب يدعى قوزما أيضا، وكان ماهرا في العلوم والآداب والفنون، فأخذ يلقن الولدين اللغة اليونانية وآدابها والعلوم والفلسفة والموسيقى، ثم لمس في الولدين ميلا إلى الإلهيات فلقنهما مبادئ علم اللاهوت، ولما أتم الولدان علومهما استأذن الراهب ولجأ إلى دير القديس سابا فدعي إلى الدرجة الأسقفية وسيم أسقفا على ميومة ميناء غزة،
35
وقد اعترض الأب جوجي الإفرنسي
36
على صحة هذه الرواية فجاء اعتراضه ضربا من الحذلقة الفارغة، ونحن نرى مع الأب نصر الله أنه ليس في هذه الروايات القديمة ما لا ينسجم وظروف القرن السابع والثامن وأخباره المدونة.
37
يوحنا والدولة الأموية
وعولت السلطات الإسلامية على تعريب الدواوين في دمشق العاصمة وفي الولايات كما سبق وأشرنا، ولكن الولاة ألحوا بوجوب الاحتفاظ بالكتبة والموظفين النصارى،
38
ومن هنا قول سليمان بن عبد الملك: «لم نستغن عنهم ساعة، ولم يحتاجوا إلينا ساعة واحدة في سياستهم.»
39
فخلف يوحنا آباءه في الإدارة «وصار كاتبا لأمير البلد متقدما عنده صاحب سره وجهره وأمره ونهيه».
40
أما قول البطريرك يوحنا إن قديسنا أصبح «مستشار الخليفة الأول» فإنه لا شك مبالغ فيه.
41
وقام يوحنا بأعباء منصبه أحسن قيام مسخرا لذلك مواهبه وعلمه ومبادئه المسيحية السامية، ثم خير هو بين البقاء في مركزه وبين المحافظة على إيمانه، فهجر العالم غير آسف.
42
ويقول الراهب ميخائيل في سيرة يوحنا الدمشقي: إنه لما رأى يوحنا ما صارت إليه الكنيسة من الاضطهاد والاضطراب في أثناء حرب الأيقونات هب يدافع عن الإيمان القويم، فألف في ذلك ودعم رأيه بالبراهين اللاهوتية والمنطقية، وذلك بلغة يونانية فصحى، فراع الإمبراطور ما رآه من هذا الخصم العنيد، ففكر في إهلاكه بالحيلة، فأمر بتزوير رسالة تنسب إلى يوحنا وتوجه إلى الإمبراطور، ويجيء فيها وصف ما يلاقيه النصارى على يد المسلمين من الذل والهوان، ويبين فيها مواقع الضعف في الدولة الأموية، ثم تظاهر الإمبراطور لاوون بصداقة الخليفة عمر بن عبد العزيز وكتب إليه يطلعه على خيانة يوحنا، فانخدع الخليفة واستشاط غضبا، فأمر بيوحنا فقطعت يده وطرد من الخدمة. ويضيف الراهب ميخائيل أن يوحنا عاد إلى بيته يجر أذيال العار والدم يقطر من يده البريئة الطاهرة، فانطرح أمام أيقونة العذراء وبكى كثيرا وصلى وتضرع ونام، فتراءت له البتول واقتربت إليه وأعادت له يده المقطوعة، وكان هو قد تسلم يده المقطوعة ليدفنها، فلما أفاق وشاهد يديه كاملتين ذهب إلى عمر وأراه يده كاملة، فدهش الخليفة وطلب إليه أن يعود إلى وظيفته، لكن يوحنا باع ما عنده ووزع ثمنه على الفقراء والأديار والكنائس، وقصد دير القديس سابا وتضرع إلى الآباء أن يقبلوه في عداد صغار المبتدئين،
43
ويلاحظ هنا أن أعمال المجمع السابع خالية من أية إشارة إلى قطع اليد والأعجوبة، وأن المؤرخين قدرينوس وأفراميوس وزوناراس ونيقيفورس؛ ساكتون عن هذا الخبر بكامله.
44
يوحنا الراهب
واعتزل يوحنا قومه وابتعد عن ضوضاء العالم وأكاذيبه، فانتقل من القصور والرياض إلى الصوامع والقفار، وكان اسمه قد ملأ الدنيا رغم حداثته، فخشي رهبان القديس سابا أن يكون شوقه للحياة الرهبانية ريحا عاصفة فيعود بعد مدة إلى بيته وسابق عهده، فامتحنوه فأقاموا عليه مرشدا طاعنا في السن شديدا على نفسه وعلى غيره، فأمره ألا يسير بموجب إرادته في أمر من الأمور، وألا يفتر في البكاء عن ذنوبه الماضية، وألا يستعلي بسبب ما عنده من العلوم، «وألا يعمل عملا دون رأيه ومشورته، ولا يكتب رسالة إلى أحد.»
45
فلبى يوحنا وخضع ولم يخالف لمرشده أمرا، فكان كبيرا في نسكه وتواضعه بقدر ما كان في مكانته الاجتماعية ومنصبه الحكومي، وعلم يوحنا أن أحد رفقائه الرهبان فقد والده، فرثى لحاله وحادثه معزيا، وذكر قول شاعر من شعراء اليونان فنقله إليه:
وهذه الأرض لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
فوبخه مرشده على إظهار معارفه الأدبية، وعاقبه بالسجن في غرفته، فأصغى للقول وقبله وأذعن.
46
ثم رغب الرؤساء في ترقية يوحنا، فلم يرض المرشد واستمهلهم إلى أن تثبت فضيلته، فأمر يوحنا أن يحمل كمية من السلال التي كان يحوكها الرهبان ويذهب بها إلى دمشق بلد يوحنا ليبيعها في أسواقها! وزاد المرشد ثمن السلال وأوصاه ألا يعود حتى يبيعها جميعا، فشد يوحنا على حمار الدير وحمله جبلا من السلال وساقه في طريق دمشق، ووصل إلى مسقط رأسه وتجول في عاصمة الأمويين عارضا سلالة، فلم يجد من يشتريها لارتفاع سعرها، وما لبث أن عرفه الناس.
فتألبوا حوله لينظروا ذلك الوجه الكبير الذي أمسى راهبا حقيرا بائع سلال، وأمطروه الأسئلة وتغامزوا واستنكروا أسعاره فسخروا منه، أما هو فحافظ على هدوئه ولم يقابل ما سمع إلا بالصمت والإطراق، ثم أطل عليه أحد خدمه القدماء فابتاع السلال كلها وأنهى عذابه ومحنته، وعاد يوحنا إلى الدير منتصرا على شيطان الكبرياء والظهور.
47 «لقد وقفت أمام أبواب هيكلك، ولم أقص الأفكار المنكرة، لكن أنت أيها المسيح الإله، يا من برر العشار ورحم الكنعانية وفتح للص أبواب الفردوس، افتح لي أحشاء محبتك للبشر، واقبلني وأنا أدنو إليك وألمسك كما قبلت الزانية ونازفة الدم» (متالوبسي ليوحنا الدمشقي).
يوحنا الكاهن والواعظ
وانقطع قديسنا إلى الدرس، وتعمق في اللاهوت على يد يوحنا الرابع البطريرك الأوروشليمي (706-734) وسيم كاهنا واعظا، فكان يصعد من الدير إلى المدينة المقدسة ليعلم ويعظ في كنيسة القيامة وغيرها ،
48
وتجلت مواهبه في هذه الفترة من حياته، فجاءت عظاته ومصنفاته بليغة العبارة لطيفة الكناية قوية الحجة.
وأمر يزيد الثاني الخليفة الأموي بتحطيم جميع الأيقونات في كنائس النصارى في السنة 723،
49
وتبعه في ذلك زميله ومعاصره لاوون الثالث، إمبراطور الروم - كما سنرى في حينه - فانبرى قديسنا للدفاع عن الدين القويم، فوعظ وصنف وهدد باللعنة والقطع (726-730)، ولدى تنازل جرمانوس عن الكرسي القسطنطيني (730) اشترك يوحنا في أعمال المجمع الأوروشليمي، وحض الأساقفة على المناداة بهرطقة الإمبراطور وقطعه،
50
وجاء في بعض المراجع أن يوحنا طاف في مدن فلسطين وسوريه وبلغ القسطنطينية نفسها مناقشا مدافعا،
51
ولكنه قول ضعيف لا يقبله رجال الاختصاص، والراجح عند هؤلاء أن يوحنا قضى هذا الدور من حياته بين دير القديس سابا والمدينة المقدسة،
52
وأنه لم يبرح هذه المنطقة إلا مرة واحدة في السنة 734 عندما زار دمشق ليعالج الضربة التي وجهها الخليفة هشام الأموي إلى أخيه والد اسطفانوس السبئيتي.
53
يوحنا دفاق الذهب
وتآليف يوحنا الدمشقي عديدة، بعضها لاهوتي فلسفي وبعضها جدلي وبعضها زهدي رهباني وبعضها تفسيري، والبعض الآخر تسبيحي طقسي، ولكن الدمشقي لاهوتي في الدرجة الأولى «فما نثر ولا نظم ولا ناظر ولا علم إلا إثباتا للحقيقة المنزلة، أو تمهيدا لها، أو دفاعا عنها، أو تبيانا لأسرارها».
54
وأشهر ما صنف في اللاهوت ينبوع المعرفة
55
والمقدمة في العقائد
56
والإيمان الحق
57
والثالوث الأقدس
58
وإيضاح الإيمان،
59
وأشهر هذه المصنفات وأكملها كتاب ينبوع المعرفة، وقد جاء في أجزاء ثلاثة الفصول الفلسفية، وكتاب الهراطقة وتفصيل الإيمان الأرثوذكسي، وقال الدمشقي في الطريقة التي اتبعها في عرض ينبوع المعرفة: سأبين أولا أحسن ما عند الحكماء؛ لأنه هبة من الله للبشر، وسأورد هذيان الهراطقة لنعرف ضلالهم فنزداد تعلقا بالحقيقة، ثم أشرح - بعون الله - الحقيقة التي تقوض الضلال وتطرد البهتان، وأضاف محددا علاقة الفلسفة بالإيمان فقال: «وبما أن الرسول يقول امتحنوا كل شيء وتمسكوا بما هو حسن، فسندرس تعاليم الحكماء الوثنيين؛ لعلنا نجد عندهم ما يحسن اتخاذه ونجني للنفس ثمرة تفيدنا.
هذا، وكل صانع يحتاج إلى أدوات لصناعته، ولا بد للملكة من خادمات، فلنجمع التعاليم التي تخدم الحقيقة بعد أن ننتزعها من طغيان الكفر، ولا نسيء استخدام الخير، ولا نستخدم فن الجدل لإغواء البسطاء، ولو كانت الحقيقة لا تحتاج إلى براهين مختلفة، فلنستخدم المنطق أيضا لدحض البهتان وتحطيم أعداء الإيمان.
أجل، يجب أن نكتفي بما أوحى الله إلينا بواسطة ابنه وأنبيائه ورسله، ويجب أن نثبت فيه غير ناقلين حدوده الأبدية ولا خارجين عنها.»
60
وأساس الإيمان عند دفاق الذهب هو الوحي الإلهي لا براعة العقل البشري، فالنفس بحاجة دائمة إلى معلم والمعلم المنزه عن الضلال هو المسيح، ولنسمع صوته في الكتاب المقدس؛ فإن النفس التي تقرع بنشاط وثبات باب روضة الكتاب المقدس الغناء؛ لكالشجر المغروس عند مجاري المياه،
61
والدمشقي شديد التمسك بالتقليد الرسولي؛ لأن الكتاب المقدس نفسه يوجب هذا التمسك.
62
وحاول الهراطقة الدفاع عن أضاليلهم بفلسفة أرسطو، فصرخ الدمشقي بهم: «أتجعلون أرسطو قديسا وثالث عشر الرسل! أم تعتبرون الوثني أكثر من الكتبة الملهمين.»
63
ثم انبرى يحارب هؤلاء بسلاحهم بفلسفة أرسطو، ولم يكن عمله هذا أمرا يسيرا؛ فموقف أرسطو من القوى فوق الطبيعة مناقض لعقائدنا المنزلة، ولا سيما: سر الثالوث الأقدس والتجسد الإلهي، ولكن الدمشقي وفق إلى إصلاح بعض نظريات أرسطو، ولا سيما فيما يتعلق باللاهوت الطبيعي وعلم الأخلاق وخلود النفس، وأخذ عن أرسطو كثيرا من التحديدات، ولكنه أضاف إليها أشياء وأشياء كالفرق بين الطبيعة والجوهر والأقنوم، واستعان بها على إنشاء تعابير خاصة بعلم اللاهوت مستقلة عن المذاهب الفلسفية العديدة، دقيقة، خالية من الالتباس الذي أدى فيما مضى إلى الجدل والخصام والشقاق. وهكذا، فإن قديسنا أدرك قوة فلسفة أرسطو فانتزعها من أيدي أعداء الإيمان وسخرها فنصرها ووضعها في خدمة رجال اللاهوت الذين أتوا بعده؛ كبطرس اللومباردي وتوما الأكويني، فأصبح - بحق - مؤسس اللاهوت السكولاستيكي.
64
ويعتبر الدمشقي في تاريخ الفكر المسيحي لاهوتي سر التجسد الإلهي؛ فقد عالج هذا السر العجيب في أكثر مؤلفاته اللاهوتية فوفق كل التوفيق إلى الاستخراج من عقيدة الاتحاد الأقنومي جميع ما نقول به في الإيمان واللاهوت، ودعم استنتاجاته المنطقية بنصوص الكتاب المقدس وشهادات الآباء، فلم يترك مجالا للشك في صحة ما ذهب إليه.
وصنف الدمشقي في الجدل، فجاءت رسائله متينة الحجة صحيحة الاستدلال فردت أهل البدع صاغرين قميئين، وأشهر ما كتب في الجدل رسائله الثلاث في الدفاع عن الأيقونات،
65
وقد سطرها - فيما يظهر - بين السنة 726 والسنة 730، فحوت وجه الصواب في إكرام القديسين، وحددت المسائل المتعلقة بهذا الموضوع، ولا نزال حتى يومنا هذا نعتمد كلام هذا القديس العظيم في موقفنا من الأيقونات.
ولم تبكم قرارات المجمع الخامس من قال بالطبيعة الواحدة، فجاء الدمشقي يكمل عمل أفلوغيوس الأنطاكي وتيموثاوس القسطنطيني وأنسطاسيوس الأنطاكي وأنسطاسيوس السينائي، فكتب رسالته الشهيرة في التريصاغيون ووجهها إلى الأرشمندريت جوردانس، فأيد فيها الموقف التقليدي من أن آغيوس المثلثة موجهة إلى الأقانيم الثلاثة لا إلى الابن فقط، وأنه - بالتالي - لا يجوز أن يضاف إليها قول بطرس القصار: «أنت الذي صلبت من أجلنا.»
66
وكتب الدمشقي رسالة ثانية باسم بطرس متروبوليت دمشق، إلى أسقف دارا اليعقوبي؛ مفندا موقف اليعاقبة، مثبتا رأيه بالمنطق وبأقوال الآباء،
67
وعاصر الدمشقي إيليا الأول بطريرك اليعاقبة (+723)، وكان هذا أرثوذكسيا، فلما طالع مؤلفات سويروس الأنطاكي جنح إلى القول بالطبيعة الواحدة فسقفه اليعاقبة على كرسي أوفيمية ثم رقوه بطريركا عليهم، فوجه إليه لاوون أسقف حران الأرثوذكسي رسالة في موضوع جنوحه عن العقيدة الأرثوذكسية، فأجابه البطريرك الجانح برسالة يحتج فيها عن نفسه، وأشار فيها إلى رسالتين وضعهما الدمشقي في موضوع الجدل لا نعرف لهما نصا.
68
ومن آثار قديسنا رسالتان في الرد على النساطرة يثبت فيهما ألوهية السيد المخلص ووحدة شخصيته،
69
ورد أيضا على من قال بالمشيئة الواحدة ناسجا على منوال القديسين صفرونيوس ومكسيموس.
70
وكانت المانوية قد عادت إلى الظهور في منتصف القرن السابع متخذة ثوبا جديدا فعرفت بالبولسية، واضطربت بها الألسنة وتفشت في أرمينية والجزيرة وسورية، وتدرع أصحابها بالآية: «حيث العابدون الحقيقيون يعبدون الآب بالروح والحق.» فرفعوا الأيقونات ومنعوا السجود للصليب المقدس، واستغنوا عن إكرام العذراء والقديسين،
71
فأمسك قديسنا يراعه وجال جولة موفقة في ميدان العقيدة، ولا سيما الخريستولوجية منها، وصنف رسالتين في الرد على المانويين البولسيين.
72
ثم أطل المسلمون حاملين القرآن حافظين الحديث، فاضطر الدمشقي أن يدافع عن الأسرار واحدا واحدا، فجاء الفصل المائة والواحد ردا صريحا على العقيدة الإسلامية،
73
وثبت تلاميذه في الإيمان بطريقة السؤال والجواب، فظهر حواره الأول والثاني مع المسلمين،
74
ولم يخل كتابه ينبوع المعرفة من الرد على المسلمين ففصوله في الواحد الأحد والثالوث الأقدس والتجسد الإلهي جميعها ردود على أهل الجدل من المسلمين.
75
وعني الدمشقي أيضا بالزهد والترهب، وأشهر ما صنف في هذا الموضوع كتاب التوازي
، وقد جاء هذا الكتاب في أبواب ثلاثة فبحث الأول منها في الثالوث والتوحيد وضم الثاني رأي الدمشقي في الإنسان ومشاغله، وجاء الثالث بحثا مستفيضا في الفضائل والرذائل، فقابل المؤلف كل رذيلة بفضيلة معينة، ومن هنا اللفظ التوازي في عنوان الكتاب كله.
وجاء في التقليد أن قديسنا وضع كتاب المعزي الأوكطوئخوس اليوناني
Octoichos ، ولعله نسقه ونظمه وأضاف إليه، وجاء أيضا أنه نظم عددا كبيرا من قوانين الخدمة، وأنه لعب دورا هاما في تنظيم تيبيكون القديس سابا، وأنه لحن معظم الأكطوئخوس كما لحن عددا كبيرا من القوانين والطروباريات، وأنه أدخل تحسينا ملموسا في الموسيقى البيزنطية الكنسية،
76
وجاء أيضا أنه هو أول من نظم السنكسار الرومي.
الدمشقي والآداب العربية
ولا نعلم ما إذا كان قديسنا كتب شيئا في لغتنا العربية، ولكنه خلف أثرا ملموسا في علم الكلام وفن الجدل الإسلاميين العربيين، فالخطة التي رسمها لتأليف كتابه ينبوع المعرفة هي الخطة عينها التي اتبعها علماء الكلام فيما بعد، فهم يبدءون مثله بمقدمة فلسفية، ثم ينتقلون مثله أيضا إلى بحث في الملل والنحل قبل الخوض في صلب الموضوع. ولا يقف الكلاميون عند هذا الحد في الأخذ عن يوحنا الدمشقي؛ فإنهم ينسجون على منواله في تنسيق الكلام عن العقيدة، فيعالجون موضوع الله وصفاته أولا، ثم ينتقلون مثل الدمشقي إلى الكلام في الله وأعماله، ثم يحلون البحث في النبوة محل البحث في المسيح.
77
الوفاة والتكريم
وتختلف المراجع في تعيين السنة التي توفي فيها يوحنا الدمشقي اختلافا كبيرا؛ فقد تكون السنة 750 وقد تكون السنة 780، ولكن الأب فايهي يرى العبارة الواردة في أعمال مجمع هييرية
Hieria
سنة 754 دليلا قاطعا على أن يوحنا الدمشقي توفي قبل هذا التاريخ، وهذه العبارة تنص على أن الثالوث الأقدس كان قد «أمات» الثلاثة جرمانوس القسطنطيني وجاورجيوس القبرصي ويوحنا الدمشقي، ثم يرى هذا الأب العالم في كلام لاونديوس الدمشقي عن استفانوس السبئيتي ما يعين على تعيين سنة وفاة يوحنا الدمشقي وجعلها السنة 749، فاسطفانوس التحق بعمه يوحنا في دير القديس سابا وهو في التاسعة من عمره، وبقي معه في الدير خمسة عشر عاما، وتوفي في التاسعة والستين من العمر في السنة 794، فلو طرحنا 69 من 794 عرفنا سنة ولادة اسطفانوس وجعلناها السنة 725. ثم لو أضفنا تسع سنوات إلى هذه السنة عرفنا السنة التي دخل فيها اسطفانوس الدير (734)، ولو أضفنا إلى هذه السنة (734) الخمسة عشرة عاما التي قضاها اسطفانوس في جوار عمه يوحنا بلغنا السنة 749، سنة وفاة قديسنا.
78
وفاضت روح قديسنا في السنة 749 في دير القديس سابا ودفن فيه، ثم نقلت عظامه في أواخر القرن الثاني عشر، أو أوائل القرن الثالث عشر إلى القسطنطينية، إلى كنيسة جميع القديسين في جوار كنيسة الرسل، ثم نهب الصليبيون هذين المقامين، وجاء الأتراك بعدهم فهدموهما لإنشاء جامع السلطان محمد الثاني.
79
وملأ يوحنا الدمشقي الكنيسة بعبير فضائله وعلمه، فأكرمه المؤمنون في حياته وبعد وفاته، وردد المجمع المسكوني السابع (787) صدى هذا الإكرام، فأعلن قداسة يوحنا الدمشقي في جلسته السابعة وهتف: «ليكن ذكره خالدا.» ثم نظم اسطفانوس المرتل مديحا ليوحنا في أواخر القرن الثامن، فأتحفنا بما لا نزال نردد ونرتل في الرابع من كانون الأول من كل عام:
ماذا ندعوك أيها القديس، أيوحنا المتكلم باللاهوت أم داود المترنم؟ أكنارة ملهمة من الله أم نايا رعائيا؛ فإنك تحلي السمع والعقل وتبهج محافل الكنيسة، وبأقوالك المفضية عسلا تزين الأقطار، فابتهل في خلاص نفوسنا.
الفصل الخامس
الأيقونات
717-787
لاوون الثالث الأسوري (717-740)
وأنجب الروم في إبان محنتهم لاوون الأسوري، فأنزل بالمسلمين هزيمة بالغة وردهم عن القسطنطينية، فكانت محاولتهم هذه الأخيرة من نوعها في تاريخ الخلفاء الأمويين.
وعني لاوون بالتشريع، فرأى أن القوانين والأنظمة التي ترجع إلى عهد يوستنيانوس الكبير قد أصبحت تفتقر إلى إعادة نظر وتعديل، رأى الناس يؤثرون العرف حتى على بعض شرائع يوستنيانوس، كما رأى بعد تقلص الإمبراطورية من جراء الحروب الإسلامية وتغلب الصقالبة والبلغار على جزء كبير من البلقان؛ أن اليونانية قد أصبحت اللغة الوحيدة التي يفهمها السكان، وبالتالي لا بد من تشريع باليونانية خلاف تشريع يوستنيانوس الموضوع باللاتينية، فانتقى في السنة 726 لجنة من كبار رجال القانون أسند إليها إعادة النظر، فظهرت الإكلوغة
Ecloga
ومعنى هذا اللفظ: المنتخبات، وتضمنت الإكلوغة في أقسامها الثمانية عشرة الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، ولم تبحث في الجزاء إلا قليلا، وجاءت الإكلوغة مسيحية أكثر من الديجستا.
وثمة ثلاثة قوانين أخرى تعود إلى عهد الأسوريين أيضا، وأشهرها قانون المزارعين، ويرى العالم الروسي بنشنكو أن هذا القانون مستمد من العرف الذي ساد الأوساط الريفية، والذي لم تشمله الإكلوغة، ونجد في بعض نسخ الإكلوغة الخطية ملاحق تتضمن قانونين آخرين، أحدهما بحري والآخر عسكري.
الأيقونات
والأيقونة لفظ يوناني، معناه الصورة أو الرسم، وهو يستعمل في المصطلحات الدينية للإشارة إلى صور القديسين، والأيقونات في عرف الكنيسة نوعان: منها العادي ومنها العجائبي، وحرب الأيقونات تنقسم إلى مدتين: الأولى من السنة 726 حتى السنة 780، وهي سنة انعقاد المجمع المسكوني السابع، والثانية تمتد من السنة 813 حتى السنة 843 وتنتهي بإرجاع الأرثوذكسية إلى حالتها الأولى.
وأسباب حرب الأيقونات لا تزال غير واضحة ولا ثابتة؛ لأن ما نعلمه عنها مأخوذ - في معظمه - من أقوال أحد الخصمين، فقد ضاعت مصنفات الذين حاربوا الأيقونات، وما بقي منها جاء في معرض الردود التي كتبها الخصوم، وهو - والحالة هذه - غير صالح للأخذ به؛ لما ينقصه من العدالة، وما يصح من هذا القول على المصنفات العامة يصح كذلك على قرارات المجمعين اللذين بحثا أمر إكرام الأيقونات، فمقررات مجمع السنة 754 قد وردت في قرارات المجمع المسكوني السابع.
والباحثون في أسباب هذا النزاع يختلفون في الرأي، فبعضهم يرى أسبابها دينية وغيرهم يراها سياسية، فالمؤرخ اليوناني الحديث بابا ريغوبولو يرى في كتابه تاريخ الحضارة اليونانية أن حرب الأيقونات كانت في أساسها حرب إصلاح سياسي اجتماعي، وأن لاوون الثالث ومن خلفه من أسرته أراد أن يحرر التعليم والتربية من سيطرة الإكليروس، وأن العناصر المستنيرة المتحررة في الدولة وبعض كبار رجال الدين والجيش؛ قد أيدوا هذه الحركة الإصلاحية، وأن إخفاق هؤلاء أجمعين إنما نتج عن تمسك العناصر الجاهلية من النساء والرهبان بكل قديم،
1
ويرى المؤرخ الإفرنسي لومبار في كتابه قسطنطين الخامس
2
أن حرب الأيقونات كانت حركة إصلاحية دينية، ترمي إلى تطهير النصرانية من أدران الوثنية، وأنها جاءت في الوقت نفسه الذي جرت فيه محاولات أخرى للإصلاح، ويرى لويس براهيه الإفرنسي أيضا أن محاربة الأيقونات ذات وجهين، فثمة مشادة حول إكرام الأيقونات، وثمة بحث دقيق إذا كان يصح الرمز إلى ما فوق الطبيعة بالرسم والتصوير،
3
ويرى أوسبنكي الروسي أن السبب الحقيقي الذي دفع بلاوون وخلفائه إلى خوض غمار هذه الحرب إنما كان خوفهم من ازدياد ثروة الرهبان وتزايد نفوذهم، فالمشادة كانت زمنية سياسية في مستهل أمرها فجعلها الرهبان دينية؛ ليوغروا صدور المؤمنين ويحضوهم على مقاومة سياسة الحكومة.
4
والواقع أن الاعتراض على الأيقونات لم يكن ابن ساعته؛ ففي بدء القرن الرابع حرم مجمع ألفيرة
Elvira
المحلي في إسبانيا إقامة الصور في الكنائس،
5
ورأى أفسابيوس مؤرخ الكنيسة أن إكرام صور السيد وبطرس وبولس كان من «عادات الأمم»،
6
وفي القرن الرابع نفسه أيضا مزق أبيفانيوس القبرصي ستارا في إحدى كنائس فلسطين؛ لأنه كان يحمل صورة السيد وأحد القديسين،
7
وفي القرن الخامس اعترض خينائياس أسقف منبج (488) على الأيقونات قبل سيامته،
8
وفي القرن السادس جاهد أغاثياس (+582) في حماية أيقونة مار ميخائيل ضد المعترضين،
9
وقبيل نهاية هذا القرن نفسه في السنة 599 حرم سيرينوس أسقف مرسيلية إقامة الأيقونات في الكنائس، فكتب إليه القديس غريغوريوس بابا رومة يثني على عدم التعبد لما هو من صنع البشر، ويذكر - في الوقت نفسه - بالمؤمنين الأميين الذين لا يقرءون ولا يكتبون وبضرورة إعانتهم على النظر إلى ما لا يمكنهم أن يقرءوه في الكتب،
10
ويجب ألا يغيب عن البال أن اليهود لم يرضوا قط عن شيء من هذا، وأن القرآن علم بأن الأنصاب رجس من عمل الشيطان «سورة المائدة»، وأن المانوية بثوبها البولسي استنكرت إكرام الأيقونات - كما سبق وأشرنا.
لاوون والأيقونات
وأخلص لاوون للدين والدولة، وتوخى مناهج الرشد، فأصلح القضاء والإدارة والمال، ولم يغفل حدوده الجنوبية طرفة عين، فراقب المسلمين واستقرى أحوالهم، وترصد البولسيين المنتشرين في ولاياته الجنوبية وفي الجزيرة وسورية الشمالية وقيليقية وذكر موقفهم من الصليب المقدس والسجود له،
11
ولم ينس اليهود وأحقادهم وما قالوه في الأيقونات، فرأى أن مصلحة الدولة تقضي بمعالجة هذه القضية معالجة جدية.
ويرى شارل ديل أن لاوون نشأ في جو عائلي آسيوي، يمقت الأيقونات ويرى في إكرامها خروجا على العقيدة القويمة، وأنه رغب في الإصلاح السياسي الاجتماعي الاقتصادي؛ فرأى أنه إذا حارب الأيقونات يضرب الرهبان ضربة مكينة فيصيب عصفورين بحجر واحد،
12
ويلمس كارل شينك في شخص لاوون الثالث ورعا وتصوفا شديدين، جعلاه يعتبر بما حل بالدولة من ويلات، فيعزي ذلك إلى إكرام الأيقونات،
13
ويقول كارل شفارتز لوزي بشيء من هذا، ويضيف أن لاوون كان جنديا خشنا لا يتذوق الفن، وأن تربيته العائلية واحتكاكه باليهود والمسلمين دفعاه إلى تحطيم الأيقونات، ولا سيما وأنه كان يعتبر نفسه رئيسا زمنيا وروحيا في آن واحد.
14
يزيد والأيقونات (723)
ويرى بعض رجال الاختصاص أن القرآن حرم الأصنام والأنصاب، ولكنه سكت عن الصور والرسوم، وأن تحريم هذه جاء في الحديث فقط، ويرون أيضا أن الأمويين زينوا بعض قصورهم بما مثل الكائنات الحية،
15
وأنهم لم يتورعوا عن التداول بالعملة البزنطية التي كانت تحمل رسوم الأباطرة، وأن محاربة رسوم الكائنات الحية بدأت في عهد عبد الملك بن مروان، وهم يرون أيضا في خلو فسيفساء الجامع الأموي من رسوم الأحياء دليلا على بدء محاربة الرسوم في أوائل القرن الثامن.
16
وشملت محاربة الأيقونات الكنائس والمعابد والبيوت فأمر عبد الملك بن مروان بتحطيم جميع الصلبان، ثم جاء يزيد الثاني (720-724) فقرب يهوديا من طبرية وأصغى إليه، فأشار عليه هذا بتحطيم جميع الصور والصلبان حيثما وجدت؛ وذلك ليطول عمر الخليفة وعهده، فأمر يزيد بذلك فتوفي في السنة التالية،
17
وجاء في كتاب الخطط للمقريزي (ج2، ص492-493) أنه لما تولى يزيد كان أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج على النصارى في مصر، فاشتد عليهم وأوقع بهم، «ثم هدمت الكنائس وكسرت الصلبان ومحيت التماثيل وكسرت الأصنام جميعها.» وجاء أيضا في تاريخ أبي فرج الملطي أن يزيد «أمر أن تنزع صورة كل حي من الهياكل والجدران والأخشاب والحجارة والكتب». وأن لاوون ماثله في ذلك.
18
أساقفة آسية الصغرى
وخاض الناس في خبر يزيد، وانتشر بريده في آسية الصغرى فتلقاه قسطنطين أسقف نقولية
Nocolia
برحب صدره، فأطلق لسانه في هذا الموضوع،
19
فاعترضه في ذلك رئيسه متروبوليت سينادة
Synnada
فقام قسطنطين إلى القسطنطينية يبحث موضوع الخلاف مع جرمانوس البطريرك المسكوني، مستندا في اعتراضه على الأيقونات بما جاء في الفصل العشرين من سفر الخروج: «لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي، لا تصنع لك منحوتا ولا صورة شيء مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من أسفل، ولا مما في المياه من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك إله غيور.» وكان المتروبوليت قد كتب إلى البطريرك في ذلك أيضا، فأسكت البطريرك الأسقف وكتب إلى المتروبوليت ودفع برده هذا إلى الأسقف طالبا إليه أن يوصله إلى رئيسه، فعاد الأسقف إلى نقولية واحتفظ برسالة البطريرك، فاغتاظ المتروبوليت وعلم البطريرك بذلك، فكتب إلى الأسقف يهدده بالقطع،
20
وجارى قسطنطين كل من توما أسقف كلوديابوليس وثيودوسيوس رئيس أساقفة أفسس، فكانت مشادة وكان انطلاق في سبيل تحطيم الأيقونات.
21
بسر السوري ولاوون (723)
وجاء في حوليات ثيوفانس أن لاوون أحب مارقا سوريا اسمه بسر، وأن بسرا هذا كان بطلا مغوارا فأحبه لاوون وعطف عليه، ووقع بسر أسيرا في يد العرب فدخل في الإسلام ونال حظوة عند يهودي طبري كان يزيد الخليفة الأموي قد قربه من شخصه، وجاء أيضا أن بسرا عاد إلى القسطنطينية في السنة 723 واتصل بلاوون، فجعله بطريقا فقتل في ثورة الأرتفزدة في السنة 740.
22
ويعلق بعض رجال البحث أهمية على اتصال بسر بلاوون، فيشيرون إلى أن لاوون أعلن موقفه من الأيقونات في السنة نفسها التي اتصل بها ببسر، وهو - في نظرنا - استنتاج ضعيف لا يركن إليه؛ فمجرد وقوع الحادثين في سنة واحدة لا يبرر الاستنتاج بأن أحد الحادثين سبب الآخر، ويعلق هؤلاء أهمية أيضا على اللقب «الشرقي» الذي ألصق بلاوون فيما بعد، فيربطون بين هذا اللقب وبين أثر المسلمين في سياسته الدينية،
23
ويسهو عن بال هؤلاء أن عدالة الرواة الذين ألصقوا هذا اللقب غير ثابتة!
بركان سنتورينة (726)
وثار بركان جزيرة سنتورينة في السنة 726، وغارت جزيرة صغيرة بالقرب منها، وظهرت جزيرة جديدة فوق سطح المياه، فرأى لاوون في هذا كله غضبا ربانيا؛ فدعا الناس في العاصمة وخطب فيهم منذرا موجبا التعبد لله وحده والتندم على ما فرط منهم في إكرام الأيقونات،
24
فدمدم الحضور وهمهموا، فأكد الإمبراطور أنه لا يقصد التهاون بالأيقونات ولا الاستهانة بها، وإنما يرغب في رفعها إلى محلات عالية في الكنائس؛ كي لا يؤدي لمسها وتقبيلها إلى إتلافها.
25
أيقونة خالكة (727)
ثم أطلق لاوون لنفسه عنان هواه، فأمر في مطلع السنة 727 بإنزال أيقونة السيد المخلص من مكانها فوق أحد مداخل قصر خالكة، فاضطرب سكان العاصمة وهجم بعضهم يمنع إنزال الأيقونة، فصدهم رجال الأمن، فاصطدم الفريقان ووقعت بعض الضحايا، فألقي القبض على المتظاهرين وجلد بعضهم وشوه البعض الآخر ونفي غيرهم.
26
ولم تلق دعاية لاوون آذانا صاغية بين أساتذة جامعة القسطنطينية، فغضب لكرامته وشوش عليهم، ولعله أقفل هذه المؤسسة، ولا صحة - فيما يظهر - لما جاء في بعض المراجع المتأخرة من أن لاوون أمر بإحراق مكتبة الجامعة.
27
واستوقدت دعاية لاوون في هذه السنة نفسها غضب الجند في ثيمة هيلاذيكي في بلاد اليونان نفسها، فركبوا البحر وأقلعوا إلى القسطنطينية، فوصلوا إلى مياهها في الثامن عشر من نيسان السنة 727، ولكنهم لم يقووا على النار الإغريقية فأخفقوا، فأمر الإمبراطور برؤسائهم فذبحوا ذبحا .
28
البطريرك والبابا
وكان لاوون يقظ الفؤاد، لا يغفل عن النظر فيما أهمه، فظل حتى السنة 730 يتحين الفرص ويفاوض، ففي السنة 728 فاوض جرمانس البطريرك المسكوني في أمر الأيقونات، وزعم أن جميع البطاركة والأباطرة ضلوا سواء السبيل بما قاموا به من إكرام واحترام للأيقونات، ثم هول وأفزع فصفحه جرمانوس وخيب أمله.
29
وكتب لاوون في هذه الأثناء إلى بابا رومة غريغوريوس الثاني واعدا وعدا كريما في حال الموافقة على تحريم الأيقونات، متوعدا بالخلع إن هو خالف الرغبة الملكية، فأنذر غريغوريوس المؤمنين بطغيان الإمبراطور وتيهه وحذرهم منه.
30
ويستدل مما تبقى من نصوص هذه الرسائل؛ أن لاوون تذرع بالتوراة لتحريم الأيقونات، فاستشهد الفصل الثامن عشر من سفر الملوك الرابع، فذكر «كيف أزال حزقيا المشارف، وحطم الأنصاب وسحق حية النحاس التي كان موسى صنعها؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يقترون لها وسموها نحوشتان». وادعى أنه إنما يقتفي أثر هذا الملك الصالح، ومما احتج به لاوون في هذه الرسالة أنه اعتبر نفسه كاهنا وإمبراطورا، أما غريغوريوس فإنه عاب على لاوون إقدامه على ما فعل بدون مشاورة السلطات المختصة، وأكد له أن ما ورد في التوراة إنما جاء ليردع اليهود عن التعبد للأوثان.
ويلاحظ هنا أن اعتراض الثقات على صحة هذه الرسائل وأصالتها
31
قد تلاشى بعد ظهور البحث الدقيق الذي قام به العلامة جورج أوستروغورسكي أستاذ تاريخ الروم في جامعة بلغراد.
32
وفي أواخر السنة 729 أعاد لاوون الكرة، فبحث موضوع الأيقونات مرة ثانية مع جرمانوس وتصنع له في المودة وتملقه، ولكن جرمانوس أصر على الإباء، فأصغى إليه الإمبراطور، ولكنه حال عن مودته وسئم ألفته.
33
تحريم الأيقونات (730)
وتوثق لاوون من أمره فدعا السيلنتيون
Silention
إلى جلسة قانونية في قصر دفنة في البهو ذي التسعة عشر سريرا في السابع عشر من كانون الثاني سنة 730. والسيلنتيون مجلس أعلى كان يضم أعضاء مجلس الشيوخ وكبار رجال الدولة والكنيسة،
34
وكان لاوون قد أمر بإعداد بيان رسمي بتحريم الأيقونات،
35
فلما اكتمل الحضور طلب الإمبراطور إلى البطريرك جرمانوس أن يوقع هذا البيان، فرفض البطريرك ورفع الأوموفوريون وقال إلى الإمبراطور: «أنا يونان اطرحوني في البحر، لا يمكنني أن أعترف إلا بالدستور الذي أقره المجمع المسكوني.» وخرج إلى بيت أبيه وأكمل أيامه فيه،
36
وجاء أنه طرد من البطريركية طردا، وأجبر على الإقامة في أحد الأديار، ولكنه قول ضعيف.
37
واعتبر لاوون الكرسي القسطنطيني شاغرا، فأوعز بارتقاء أنسطاسيوس السنكلوس، فانتخب هذا بطريركا مسكونيا في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، ودعا المجمع القسطنطيني إلى الانعقاد وحرم استعمال الأيقونات، وأرسل الرسائل السلامية ووجه إحداها إلى غريغوريوس الثاني بابا رومة وأعلمه بما فعل، فاعترض أسقف رومة وألح عليه بوجوب العودة إلى الأرثوذكسية.
38
وضيق الإمبراطور والبطريرك الجديد على من أيد الأيقونات، وعذبا عددا كبيرا من المؤمنين وشوها وأعدما، ولكن المراجع الأولية لا تمكننا من تعيين شهداء هذه الفترة، وجاء في سيرة اسطفانوس الأصغر أن سكان العاصمة فروا زرافات زرافات، وأن والدي اسطفانوس الأصغر أودعا ابنهما هذا ناسكا فنشأ راهبا.
39
موقف كنيسة أنطاكية
وكانت كنيسة أنطاكية لا تزال ميتمة، لا راعي لها - كما سبق وأشرنا - ولكن ابنها البار يوحنا الدمشقي هب للدفاع عن الدين القويم، فصنف رسائل ثلاثا رد بها على لاوون وأتباعه، فأتحف الكنيسة الجامعة بحجج لاهوتية منطقية دامغة أصبحت فيما بعد حجة الكنيسة الرئيسية،
40
ويعتبر بعض الثقات رسائله هذه أفضل ما صنف؛ لأنه أثبت فيها مقدرة في الاجتهاد فاق بها جميع أقرانه من علماء القرن الثامن،
41
ولم يكتف قديسنا بقول بولس الرسول: «تمسكوا بالتقاليد التي تعلمتموها، إما بكلامنا وإما برسالتنا.» بل ذهب إلى أبعد من هذا فاعتبر الأيقونة رمزا ووسيطا بالمعنى الأفلاطوني الجديد، ثم ربط تكريمها بسر التجسد الإلهي وسر الخلاص، مؤكدا أن من يحارب الأيقونات ينكر حرمة شكل الإله المنظور، ويهدد سر التجسد بالانهيار.
42
ويرى بعض رجال الاختصاص أن يوحنا الدمشقي تكلم في هذا الموضوع باسم يوحنا الخامس بطريرك أوروشليم وزعيم كنيستي أوروشليم وأنطاكية آنئذ، وأن هذا ما جعله يهدد لاوون باللعنة والقطع، ومما يذكر لهذه المناسبة أن قديسنا اعترض على تدخل لاوون في أمور العقيدة، واعتبر البحث فيها من خصائص الكنيسة الجامعة وحدها.
43
وأدى اهتمام لاوون بالدين إلى سلخ أبرشيات أسورية عن كنيسة أنطاكية وضمها إلى كنيسة القسطنطينية، فخسرت كنيستنا أربعة وعشرين أسقفا ومتروبوليتا، ولعل الظرف السياسي الحربي قضى بهذه التجزئة، فإن أسورية أصبحت بعد الفتح الإسلامي بعيدة عن أنطاكية، خاضعة لإمبراطور الروم.
44
البابا غريغوريوس الثالث (731-741)
ودعا غريغوريوس الثالث إلى مجمع محلي في رومة في أول تشرين الثاني من السنة 731، فحرم هذا المجمع كل من قاوم احترام الأيقونات وإكرامها،
45
فحرم لاوون بدوره أسقف رومة من دخل أوقافه في كلابرية وصقلية ورفع سلطته الروحية عن كنائس اليرية وكلابرية وسردينية وألحقها كلها بالبطريركية المسكونية،
46
فبذر بعمله هذا شقاقا في الكنيسة أدى فيما بعد إلى عواقب وخيمة.
قسطنطين الزبلي (740-775)
وتوفي لاوون في السنة 740 فتسلم قسطنطين الخامس أزمة الحكم في القسطنطينية، وهو الذي أطلق عليه لقب الزبلي
Kopronymos ؛ لأنه أفرز في جرن العماد حين المعمودية،
47
ويروى أيضا أنه لقب بالزبلي؛ لأنه كان يحب الخيل،
48
وما كاد يستوي على عرشه حتى انتزع الملك منه صهره آرنافزدوس زوج أخته حنة، فاضطر قسطنطين أن يحاصر العاصمة، واستولى عليها عنوة، وقلع عيني صهره وأعين ابنيه، ونفى الثلاثة معا.
وتبنى قسطنطين مقاومة الأيقونات، وقال قول رجال هذه المقاومة فأكد استحالة تمثيل الله بواسطة المادة؛ لأن المادة زائلة والله دائم، وقال إن ما يصح عن الله ينطبق على العذراء والقديسين؛ لأنهم أصبحوا عند الله، فإذا ما مثلوا بالمادة نزع عنهم شرف وجودهم أمام الله، وأضاف أن المسيح هو صورة الآب، فإذا ما مثلناه بالمادة نزعنا عنه طبيعته الإلهية وأصبحنا من النساطرة. ويقول البطريرك نيقوفوروس إن قسطنطين صنف رسالة في هذا الموضوع، أكد فيها استحالة تمثيل طبيعتي المسيح الإله، وأوجب اعتبار الأفخاريستية صورة السيد الوحيدة، وهام قسطنطين في ضلاله فاستبدل اللفظ «أيبوستاسيس» الذي أقره الآباء في المجامع باللفظ «بروسيتون»، فجارى بذلك من قال بالطبيعة الواحدة،
49
ومن هنا قول ميخائيل السرياني اليعقوبي: إن الخلقيدونيين نبذوا قسطنطين وأقواله؛ لأنه استصوب بملء إرادته التحديدات التي أقرها الأرثوذكسيون؛ أي اليعاقبة.
50
قسطنطين والصليب
ثم شرع الزبلي في اضطهاد الكنيسة فسخر بكل قديس وبالاحتفال به، ومنع الأعياد والأصوام، وحطم الأيقونات وطلى جدران الكنائس بما يطمس الصور والرسوم، ولكنه احترم الصليب فزين به كل حنية ورسمه مكبرا على سقوف الكنائس وحفره في المسكوكات والأختام.
51
وجاء صليب هؤلاء المحطمين عريض الأطراف، شبيها - إلى حد معين - بصليب فرسان مالطة، وظهر في بعض الأحيان في المسكوكات والأختام قائما فوق مدرج صغير، وبدا أحيانا أخرى في مجموع من الأغصان المورقة متأثرا بشكل صليب النصر القسطنطيني، ولعل علاقة الصليب بالنصر كانت هي الدافع لاستمساك المحطمين بالصليب وإبقائهم عليه.
52
هيرارخية أنطاكية
وأنكر الأرثوذكسيون الأنطاكيون على لاوون وابنه بدعتهما وقبحوا عملهما، وكتب يوحنا الدمشقي رسائله في نقض هذه البدعة وتحريمها، وأيده في ذلك البطريرك الأوروشليمي يوحنا الخامس - كما سبق وأشرنا - فكان خلاف ظاهر ملموس بين إمبراطور الروم وبين كبار رجال الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية في بطريركيات أنطاكية وأوروشليم والإسكندرية، فشفع هذا كله عند هشام بن عبد الملك وضعفت ريبته في رعيته من الأرثوذكسيين، فرخص لهم بالرجوع إلى حقوقهم القديمة بإقامة بطاركة لهم من أحبارهم البلديين، فانتخبوا راهبا أعزه هشام وأجله، فرقي السدة الأنطاكية في السنة 742 باسم اسطفانوس الرابع.
53
واشتد الجدل في هذه الآونة بين علماء المسلمين وبين الآباء المسيحيين، فتخاصموا وتغالبوا في المناظرة يريد كل واحد إفحام خصمه، وتدخل بطرس متروبوليت دمشق في هذا الجدل، وأيده اسطفانوس الرابع البطريرك الأنطاكي الجديد، فغضب الوليد الثاني خليفة هشام (743-744) لكرامة الإسلام والمسلمين، فأمر باسطفانوس فقطع لسانه وتوفي في السنة 744، ثم أمر ببطرس فقطع لسانه أيضا ونفي إلى «العربية السعيدة»،
54
ونجا ثيودوروس أبو قرة أسقف حران، ولعل السبب في ذلك أنه جادل النصارى من أصحاب المشيئة الواحدة والطبيعة الواحدة.
55
وفي السنة 745 رضي مروان الثاني عن الكاهن الأرثوذكسي ثيوفيلكتوس بن قنبرة الصائغ الرهاوي فأوعز بانتخابه بطريركا على أنطاكية، فانتخب وتسلم عكاز الرعاية، وحرر الرسائل السلامية، فوجهها إلى زملائه رؤساء الكنائس الخمس، واضطر أن يدافع عن سلامة العقيدة، فضيق على الباقين من رهبان بيت مارون في منبج وفي وادي العاصي.
56
وكان بطرس القصار قد أباح للكرجيين في النصف الثاني من القرن الخامس أن ينتخبوا كاثوليكوسا عليهم شرط أن تتم سيامته على يد البطريرك الأنطاكي ، فلما تم الفتح الإسلامي وانقطعت العلاقات بين الكرسي الأنطاكي وبلاد الكرج شغر الكرسي الكاثوليكوسي كما شغر الكرسي الأنطاكي، وفي السنة 745 جاء وفد كرجي يفاوض ثيوفيلكتوس البطريرك في أمر الرئاسة، فدعا البطريرك الأساقفة إلى مجمع محلي، وسمح للكرجيين أن ينتخبوا رئيسهم، وأن يرسموه مستقلين شرط أن يذكروا البطريرك الأنطاكي ويؤدوا له مالا سنويا، وبقي الحال على هذا المنوال حتى السنة الألف تقريبا حينما حل البطريرك الأوروشليمي محل البطريرك الأنطاكي في نظام الكنيسة الكرجية.
مجمع هييرية (754)
وطوى الزبلي فؤاده على عزيمة ماضية فراح في حوالي السنة 753 يستمزج الرعايا في أمر العقيدة التي كان قد عقد نيته عليها، فأمر الولاة والمطارنة بعقد الاجتماعات لهذه الغاية،
57
وبعد أن لاحت أشراط الفوز دعا الأساقفة إلى مجمع في قصر هييرية
Hieria
بالقرب من خلقيدونية في العاشر من شباط سنة 754،
58
فالتأم في هذا الموعد ثلاثمائة وثمانية وثلاثون أسقفا، ولم يظهر بينهم أي ممثل لكنائس رومة والإسكندرية وأوروشليم وأنطاكية، وتوفي أنسطاسيوس البطريرك القسطنطيني قبيل انعقاد هذا المجمع فتولى الرئاسة فيه ثيودوروس متروبوليت أفسس، وكان قد اشتهر بعدائه للأيقونات، وعاونه في تسيير أمور المجمع كل من سيسينيو أسقف برجة وباسيليوس أسقف أنطاكية بسيدية.
59
وبحث الآباء المجتمعون أمر الأيقونات فتبنوا قول لاوون وابنه وأوجبوا نزعها، وأكدوا أن تصوير المسيح بالمادة يعني واحدا من اثنين، إما القول مع نسطوريوس بإمكانية فصل الطبيعتين وتصوير واحدة منهما وهي البشرية أو مجاراة المونوفيسيين والقول معهم بطبيعة واحدة هي الإلهية،
60
وأبى الآباء أن يتقبلوا شيئا من آراء الزبلي الخصوصية، فإننا نراهم يؤكدون أن مريم هي والدة الإله، وأنها أسمى المخلوقات، تشفع مع سائر القديسين من أجل البشر،
61
ومنع الآباء كل تخريب في الكنائس وكل تحطيم بدون موافقة البطريرك والإمبراطور.
وفي منتصف شهر آب من السنة 754 قدم الزبلي البطريرك الجديد قسطنطين سيلايون إلى الآباء المجتمعين، ثم أعلنت في السابع والعشرين خلاصة أعمال هذا المجمع مشفوعة بإرادة إمبراطورية تقضي بالتنفيذ وتؤدي بقطع كل من جرمانوس القسطنطيني وجاورجيوس القبرصي ويوحنا الدمشقي،
62
وانتحل الآباء المجتمعون الصفة المسكونية لهذا المجمع فاعتبروه المجمع المسكوني السابع.
تضييق واضطهاد
وتقوى قسطنطين الخامس الزبلي بقرارات هذا المجمع، فاندفع في محاربة الأيقونات أكثر من ذي قبل، وصب غيظه وبلاءه على الرهبان، فكم عينا قلع وكم يدا وأذنا قطع فضلا عن قتلهم،
63
وأكره طائفة منهم على الزواج إكراها، واستعرض مرة فئة منهم في ميدان الهيبودروم موجبا على كل منهم أن يمسك بيد امرأة في أثناء العرض،
64
ويقول ثيوفانس إن حاكما من حكام آسية الصغرى (ميخائيل لاخانوذراكون) جمع رهبان ولايته وراهباتها، فأمرهم بأن يرتدوا الأبيض ويتزوجوا حالا، ومن لم يطع فتسمل عيناه ويقصى إلى قبرص، فهنأه الزبلي قائلا: لقد وجدت في شخصك رجلا يحب ما أحب وينفذ جميع رغباتي،
65
وصادر الزبلي أملاك الأديرة وضمها إلى أملاك الدولة، وهكذا فر عدد كبير من الرهبان إلى إيطالية وجنوب روسية وشاطئ لبنان وفلسطين، ويقدر الأستاذ أندريف الروسي عدد الذين فروا إلى إيطالية بخمسين ألفا،
66
وأشهر الشهداء في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة اسطفانوس الأصغر،
67
ومن هنا - في الأرجح - كان رأي الأستاذ أوسبنسكي الروسي أن المؤرخين ورجال اللاهوت قد حرفوا الحقائق وشوهوها عندما رأوا في هذه الحوادث حربا ضد الأيقونات
Iconomachia ؛ لأن الواقع أنها كانت حربا ضد الرهبان
Monachomachia .
68
موقف رومة
وكان من جراء العنف الذي لجأ إليه لاوون وابنه قسطنطين؛ أن نفرت رئاسة الكنيسة الغربية من حكومة الروم، فتقربت من ملوك الغرب؛ لتستعين بهم على دفع شر الاضطهاد، فأفتى البابا زخريا (741-752) في السنة 751 بخلع كليريك ملك فرنسة وتنصيب بيبينوس، وفي السنة 755 قدم بيبينوس بجيش إلى إيطالية يحارب اللومبارديين فجعل البابا اسطفانوس الثالث (752-757) سيدا على كل ولايات الروم في إيطالية، ولما طالب قسطنطين الزبلي بولاياته هذه أجابه بيبينوس أنه وهبها لكرسي رومة عن حب لبطرس الرسول كيما تغفر له خطاياه، من هذا التباعد بين الفسيلفس والبابا، وهذا التقارب بين البابا وبيبينوس زرعت بذور الانشقاق في الكنيسة البذور التي أدت فيما بعد إلى الانشقاق العظيم.
المجمع المسكوني السابع (786-787)
وفي السنة 775 توفي قسطنطين الخامس فخلفه ابنه لاوون الرابع، وكان لاوون هذا مثل والده يرفض الأيقونات، ولكنه كان لين الجانب، وبعد خمس سنين خلفه ابنه قسطنطين السادس وله من العمر عشر سنوات، وتولت أمه إيرينة زمام الحكم باسمه، وكانت من محبي الأيقونات،
69
ورأت إيرينة منذ بداية عهدها أن الجيش ما يزال معاديا للأيقونات، وأن الصقالبة في غليان مستمر، فأرجأت النظر في إعادة الأيقونات إلى وقت آخر، وكان البطريرك بولس الرابع القسطنطيني وغيره من كبار رجال الكنيسة قد أكرهوا إكراها على تقبل قرارات مجمع هييرية (754) فاستقال ونصح إلى الوصية أن تجمع مجمعا مسكونيا، وأن يرقى إلى الكرسي البطريركي طراسيوس كاتم أسرار الدولة
asecretis ، وكان طراسيوس عالما ورعا تقيا فلم يقبل الدرجة إلا بعد أن استوثق من الوصية بأنها تدافع عن الرأي القويم،
70
وما إن تسلم عكاز الرعاية حتى بادر إلى توجيه الرسالات السلامية إلى رومة والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، مبينا فيها استمساكه بقرارات المجامع المسكونية وإيمانه الوثيق بشفاعة العذراء والملائكة والقديسين واحترامه للأيقونات.
71
وفي السنة 784 كتب البطريرك طراسيوس وكتبت الوصية باسمها وباسم ابنها قسطنطين السادس إلى البابا أدريانوس الأول (771-795) وإلى البطاركة أبوليناريوس الإسكندري وثيودوروس الأنطاكي وإلياس الأوروشليمي من أجل مجمع مسكوني يعقد في القسطنطينية،
72
فأجاب أدريانوس مادحا مبتهجا، ولكنه اعترض على ارتقاء طراسيوس من العوام وعلى لقبه المسكوني، وطلب أن ترد له «أملاك بطرس الرسول» والسلطة على الأبرشيات «التي أضافها لاوون الثالث إلى الكرسي القسطنطيني».
73
وفي صيف السنة 786 اجتمع المجمع في القسطنطينية في كنيسة الرسل،
74
ولكن الجند اندفعوا إليها شاهرين السلاح فدفعوا بالآباء إلى الخارج،
75
فاستبدلت الوصية حامية العاصمة بغيرها، وعاد الآباء إلى الاجتماع في أيلول السنة 787 في مدينة نيقية، فتألف المجمع من 367 أبا، وكان رئيسه البطريرك طراسيوس وناب عن البابا أدريانوس القسان بطرس وبطرس، وعن البطاركة الشرقيين الثلاثة القسان توما ويوحنا؛ لأن الظروف السياسية في الدولة الإسلامية كانت شديدة على هؤلاء.
76
وعقد المجمع المسكوني السابع ثماني جلسات، واشترع اثنين وعشرين قانونا، وذلك في خلال شهر واحد، بين الرابع والعشرين من أيلول والثالث والعشرين من تشرين الأول سنة 787، وافتتح طراسيوس أعمال المجمع بخطبة وجيزة، ثم تلي كتاب الإمبراطور والوصية، وأهم ما جاء في هذا الكتاب ما معناه: «إننا قياما بالوصية الإنجيلية وصية المسيح رئيس الكهنة الأبدي قد عنينا بإرجاع السلام إلى الكنيسة، فبرضاه ومسرته قد جمعناكم أنتم كهنته الجزيل بركم الحافظين عهده بذبائح غير دموية؛ ليكون حكمكم حكم المجامع الأرثوذكسية.» وجاء في هذه الرسالة أيضا أن طراسيوس أغصب على قبول المنصب البطريركي، وأنه قال قبل أن يقبل الشرطونية: «إني أرى وأنظر كنيسة المسيح المؤسسة على الصخرة التي هي المسيح إلهنا مقسومة الآن ومنشقة، وإننا نحن كنا نقول قبلا بغير ما نقول الآن، ومسيحيو الشرق المماثلون لنا في الإيمان يقولون قولا آخر وافقهم عليه مسيحيو الغرب، ونحن أصبحنا غرباء عنهم جميعا، وكل يوم نحرم من الجميع، فأطلب عقد مجمع مسكوني يحضره نواب عن بابا رومة وعن رؤساء كهنة الشرق.»
77
وبعد ذلك وفي الجلسة الثالثة في الثامن والعشرين من أيلول دخل الأساقفة المبتدعون، واعترفوا بالخطأ الذي وقعوا فيه وقدموا الندامة، ورفعوا اعترافات إيمان مستقيم، وفي مقدمة هؤلاء باسيليوس أسقف أنقيرة، وقد قال في اعترافه: «فأنا باسيليوس أسقف مدينة أنقيرة قد اخترت أن أتحد بالكنيسة الجامعة أعني: أدريانوس بابا رومة القديمة الجزيل القداسة وطراسيوس البطريرك الجزيل الغبطة، والكراسي الرسولية الجزيلة القداسة، كراسي إسكندرية وأنطاكية والمدينة المقدسة، وسائر رؤساء الكهنة والكهنة الأرثوذكسيين، وقدمته إليكم أنتم الذين نلتم السلطان عن الأصل الرسولي.»
78
وقرئت رسالة البابا ورسائل البطاركة، وأعلن طاراسيوس موافقته على مضمون هذه الرسائل، واعترف الآباء في الجلسة الثالثة والرابعة بوجوب تكريم الأيقونات وقبولها وألغوا قرارات مجمع هييرية (754)،
79
وفي الجلسة السابعة كتبوا اعتراف الإيمان، وحددوا موقفهم من الأيقونات فقالوا «بإكرامها بالسجود احتراما للذين صورت عليهم لا عبادة لهم؛ لأن العبادة إنما تجب لله وحده دون غيره».
80
وأوجبت القوانين الاثنان والعشرون التعويض على الأديار والأوقاف عما لحق بها من خسارة وأضرار، وفرضت على الأساقفة القيام بواجبهم، كما بينت حقوقهم وصلاحياتهم وتطلبت من الكهنة والقساوسة والرهبان التقيد بالقوانين الكنسية.
81
إمبراطورية غربية
وكان من جراء هذا الاضطهاد الطويل الذي لحق بالكنيسة في الشرق والغرب، ومن جراء استمساك بطريرك القسطنطينية بلقب بطريرك المسكونة؛ أن حاول بابا رومة لاوون الثالث إعادة الحق إلى رومة القديمة العاصمة الأولى في انتخاب الإمبراطور، فإنه اعتبر - فيما يظهر - سلطة إيرينة غير قانونية؛ لأنها امرأة، ولأنه لم يسبق لرومة أن اعترفت بحق امرأة في الحكم، واعتبر عرش الإمبراطورية الرومانية شاغرا بعد خلع قسطنطين السادس وسمل عينيه، فتوج كارلوس الكبير ملك الإفرنج إمبراطورا في كنيسته الكاتدرائية، وفي يوم عيد الميلاد من السنة 800 واعتبره خلفا للاوون الرابع وهرقل ويوستنيانوس وثيودوسيوس وقسطنطين، واعتبرت حكومة القسطنطينية هذا العمل خروجا على السلطة، وتوقعت زحف كارلوس الكبير على الشرق كما فعل غيره من الأباطرة الذين قاموا قبله في الغرب فزحفوا ووحدوا،
82
وعلم كارلوس - حق العلم - أن حكومة القسطنطينية ستنتقي بعد إيرينة فسيلفسا جديدا، ففاوض إيرينة في الزواج، ولكنها خلعت في السنة 802،
83
ولم تعترف حكومة القسطنطينية بلقب كارلوس الجديد قبل السنة 812، ولكنها في مقابل هذا أضافت رسميا إلى اللقب الفسيلفس الكلمة «الروماني»! وبقيام إمبراطورية غربية تناظر الإمبراطورية الرومانية الشرعية اشتد النزاع بين بطريرك هذه وبابا تلك، ومهدت الطريق لانشقاق الكنيسة الجامعة انشقاقا كبيرا!
الفصل السادس
نظم الكنيسة وقوانينها وطقوسها في القرنين السابع
والثامن
ارتباك وانحطاط
وأدت حروب القرن السابع إلى الارتباك والبلبلة، وزادت هجمات البرابرة الطين بلة، فكثرت تنقلات العائلات والعشائر واختلط الحابل بالنابل، واستهال الأمر على الناس، وتخوفوا وتنازقوا وتسافهوا وتطايشوا، ولجأت الحكومة إلى القسوة، فسملت العيون وجدعت الأنوف، وصلمت الآذان وقطعت الألسن، فتباغض الناس وتقاطعوا وانغمسوا في الشر، وتهافتوا على المنكر، وسخف الرأي وانتشرت الخرافات.
ترفع وتصون
ولاحظ آباء القرن السابع هذه الأمور، فأيقظوا لها الرأي، وأسهروا لها القلوب، واشترعوا في المجمع الخامس السادس في السنة 692 مائة قانون وقانونين، وأوجبوا معاقبة كل كاهن أو علماني يتغيب عن الاشتراك في صلوات الآحاد ثلاث مرات متتالية، وأبعدوا الخمارات وحوانيت الطعام عن الكنائس، ومنعوا النساء عن الثرثرة والبقبقة في أثناء الاحتفالات الدينية ، وقبحوا إيواء الماشية في كنائس القرى والمزارع، ثم زجروا الرجال والنساء الذين استغلوا ظرف الصلاة للاتجار بأجسادهم، وحرموا سنة كاملة أولئك الذين أتلفوا الكتب المقدسة أو باعوها من تجار العطور؛ ليصنعوا منها أبواقا، ومنع المجمع منعا باتا إقامة حفلات الأغبة في الكنائس.
1
وهدد المجمع - بأشد العقوبات - جميع الذين يخالطون ويعاشرون الزهد الذين كرسوا أنفسهم لله، واعتبر الإجهاض نوعا من القتل، وحرم جميع الذين يصنعون ويتجرون ويروجون الرسوم المخلة بالآداب، وشجب المجمع كل تفنن في ترتيب شعر الرأس للفت النظر والإغواء.
2
وكان المؤمنون لا يزالون يمارسون بعض الطقوس الوثنية القديمة، فيحتفلون ببدء السنة الجديدة بالطقوس نفسها التي كان يمارسها الوثنيون لتكريم كرونوس
Kronos
إله الزمان، فيتنكرون بجلود الحيوانات ويصنعون وجوههم،
3
وكانوا لا يزالون يكرسون الأسابيع الثلاثة بين الرابع والعشرين من تشرين الثاني والسابع عشر من كانون الأول؛ لشرب الخمر وتغير الأزياء والرقص، وغير ذلك مما شاع في عهد الوثنيين احتفاء بعيد الإله باخوس،
4
فنهى الآباء المجتمعون عن هذا كله وعن الميومة أيضا، وهي احتفال الربيع، كما منعوا المؤمنين عن إبقاء النيران في أول الشهر القمري، وعن تبادل الألبسة بين النساء والرجال لمناسبة عيد القطاف، وحرموا على طلبة الحقوق التنكر بالألبسة لمناسبات معينة.
5
ولم يغفل الآباء أمر السحر والشعوذة وما تبعهما من خرافات وأحاديث كاذبة، وكان قد كثر عدد المشعوذين والساحرين والعرافين الذين ادعوا علم الغيب، وكان قد أصغى إليهم وعمل بإشاراتهم بعض كبار الرجال، فشجب الآباء هذا كله وفرضوا ندامة ست سنوات على المؤمنين الذين يلجئون إلى السحرة والمشعوذين والذين يعرضون الدببة وغيرها من الحيوانات ليبيعوا صوفها تعاويز وأحرازا.
6
قوانين الرسل
واعترف آباء المجمع الخامس والسادس بجميع قرارات المجامع المسكونية الستة، ثم اتخذوا من قوانين الرسل الخمسة والثمانين التي جمعها يوحنا سكولاستيكوس في كتابه النوموقانون أساسا لكل تشريع كنسي، وهي ليست رسولية بالمعنى الحرفي؛ أي أنها ليست من تصنيف الرسل أنفسهم، وإنما تضمنت التقليد الذي شاع وطبق في كثير من الكنائس منذ أيام الرسل كما تضمنت أيضا عددا من القوانين التي اشترعها الآباء في مجامعهم المحلية قبل المجمع المسكوني الأول.
واستمسك الآباء المجتمعون في المجمع الخامس السادس بجميع هذه القوانين، وحذا حذوهم فوطيوس فيما بعد، وكذلك بلسامون وزونوارس، وشك آباء الكنيسة اللاتينية الشقيقة بصحة بعض هذه القوانين، فلم يعتبروا ثابتا منها سوى الخمسين التي جمعها ديونيسيوس الصغير، فكان هذا الاختلاف حول هذه القوانين من عوامل الانشقاق.
7
وصايا الرسل
وامتنع آباء المجمع الخامس السادس عن الاعتراف بوصايا الرسل؛ لأنهم لمسوا فيها دسا غريبا لا يتفق والعبادة الحسنة، ورأوا من الصواب طرحها جانبا «كي لا يسري سم الهرتقة»، وبينوا - بوضوح - أسماء الآباء الذين يرجع إليهم في أمر النوماقانون، فذكروا في القانون الثاني ديونيسيوس وبطرس الإسكندريين وغريغوريوس قيصرية الجديدة وأثناسيوس الإسكندري، وباسيليوس قيصرية قبدوقية وغريغوريوس نيصيص وأمفيلوسيوس أيقونية وتيموثاوس الإسكندري، وثيوفيلوس وكيرللس الإسكندريين وجناديوس القسطنطيني وكبريانوس قرطاجة.
الكتب المقدسة
وعينت قوانين الرسل التي تبناها المجمع الخامس السادس الكتب المقدسة فجاءت هكذا: أسفار موسى الخمسة وسفر واحد للقضاة وسفر واحد لراعوث وأربعة أسفار للملوك وما بقي من أخبار الأيام سفران وسفران لعزرا وسفر واحد لأستير وسفر واحد لأيوب والمزامير سفر واحد، وثلاثة أسفار لسليمان وللأنبياء اثنا عشر سفرا وواحد لأشعيا وواحد لأرميا وواحد لحزقيال وواحد لدانيال وثلاثة أسفار للمكابيين، وجاء في هذه القوانين: «وعليكم أن تعلموا أحداثكم أيضا حكمة ابن سيراخ الجزيل المعرفة والأدب.» أما كتب العهد الجديد فهي البشائر الأربع ورسائل بولس الأربعة عشرة ورسالتا بطرس ورسائل يوحنا الثلاثة ورسالة ليعقوب ورسالة يهوذا، و«كتاب أعمالنا نحن الرسل».
ومما جاء في القانون الخامس والثمانين إشارة إلى رسالتي إقليمس ووصايا الرسل «التي أوصوا بها لكم أيها الأساقفة، وهي محررة بواسطتي أنا إقليمس في ثمانية كتب ينبغي عدم إشهارها تجاه الكل لأجل الأمور السرية التي تتضمنها». وردع الآباء المؤمنين عن مطالعة الأبوقريفة، ولا سيما أبو قريفة الشهداء وأمروا بإحراقها.
الأباطرة والكنيسة
وخاض الأباطرة في باطلهم، فتدخلوا في شئون الكنيسة تدخلا فعليا فسن هرقل الإكثيسيس، واشترع قسطنطين الرابع التيبوس، ودعا إلى المجمع المسكوني السادس، وحذا حذوه يوستنيانوس الثاني وأعد لاوون الثالث الإكلوغة وغيرها من القوانين، واعتبر نفسه كاهنا أعظم، فركب رأسه وقال ما قال في الأيقونات المقدسة، وبسط قسطنطين الخامس عنانه في الجهل، وتدخل هو أيضا في أمور الكنيسة. ويجوز القول إن عددا كبيرا من الأساقفة لم يستلموا عكاز الرعاية إلا برضى الإمبراطور وموافقته.
ولكن الكنيسة أنجبت في هذه الفترة نفسها من تاريخها أبناء قديسين غيورين، أخذوا على يد هؤلاء الأباطرة وقصروا خطاهم وحبسوا عنانهم فدافعوا عن حرية الكنيسة دفاع الأبطال، وهل ننسى أدوار مرتينوس الأول ومكسيموس المعترف وغريغوريوس الثاني ويوحنا الدمشقي!
ومما يجب ذكره أن هرقل لوى عنانه وأكد ليوحنا الرابع بابا رومة أن سرجيوس أعد الإكثيسيس، وأن قسطنطين الرابع أفاق من سكرته ورجع عن التيبوس، وأن يوستيانوس الثاني تساهل في تنفيذ قوانين المجمع الخامس السادس، ولم يكره البابا قسطنطين على العمل بموجبها.
ومما لا يجوز إغفاله أيضا أن لاوون الثالث استمزج وشاور، وحاول الإقناع قبل أن اتخذ القرارات بنزع الأيقونات، وأن ابنه حذا حذوه، وأن الآباء الذين اجتمعوا في هييرة لينفذوا برنامج قسطنطين الخامس قطعوا عليه وجهته في أمر العقيدة وخفضوا من غلوائه وأنه هو أمسك وارتدع!
البطريرك المسكوني
وكان المجمع الخلقيدوني (451) قد اعتبر أسقف رومة الجديدة مساويا لأسقف رومة القديمة، وكان أكاكيوس أسقف رومة الجديدة قد اتخذ لقب البطريرك المسكوني بعد ذلك بسنوات معدودة. ثم انتشر الإسلام في أبرشيات مصر وسورية ولبنان وفلسطين، وقامت دولة إسلامية فتية ثيوقراطية، فاستضعف بطاركة الشرق واستكانوا وتضاءل نفوذهم، ثم تيتمت كراسيهم وأمست شاغرة مدة من الزمن، فأصبح البطريرك المسكوني هو البطريرك الفعال الوحيد في الشرق.
وجاء المجمع الخامس السادس (692) فاعترف بالواقع وأيد بقانونه السادس والثلاثين قرار المجمع الخلقيدوني، فمنح البطريرك المسكوني الامتيازات نفسها التي تمتع بها زميله بابا رومة، وفي السنة 732 استحكم الشقاق بين لاوون الثالث وبين بابا رومة، فوسع لاوون سلطة البطريرك المسكوني على حساب زميله الروماني، فخضعت أليرية وصقلية وكلابرية لسلطة بطريرك القسطنطينية، وسلخ لاوون في هذه السنة نفسها أبرشيات أسورية عن كنيسة أنطاكية فأتبعها الكرسي القسطنطيني أيضا، وإذا ما قابلنا بين هيرارخية القسطنطينية كما أبانها أبيفانيوس القبرصي في السنة 650 وبين تكتيكون البطريرك نيقوفوروس في السنة 810 نجد عدد الأسقفيات التابعة للكرسي القسطنطيني يرتفع من 424 إلى 600.
8
وعظم قدر البطريرك المسكوني في عاصمة الدولة، وارتفعت منزلته ووقرت مهابته في الصدور، فأقسم الأباطرة أمامه يمين الولاء للدين القويم وتسلموا التاج من يده،
9
وتدخل هو تدخلا فعليا في الحكم، واشترك في أعمال مجلس الشيوخ والوزراء، وناب عن الإمبراطور في غيابه، وتولى الوصاية على الأباطرة القصر، فإن سرجيوس دار دفة الحكم في أثناء تغيب هرقل عن العاصمة وتولى بولس الوصاية على قسطنديوس القاصر، وجلس البطريرك المسكوني في المرتبة الأولى بعد الإمبراطور، ونالت حاشيته مرتبة مرموقة في سجل التشريفات.
10
النظام والانضباط
وكانت المجامع قد ربطت كل أسقف بأبرشيته ربطا وثيقا، فحرمت عليه ترشيح نفسه بعد سيامته لأي مركز أسقفي شاغر خارج أبرشيته، وكان هذا التحفظ الشديد قد صعب انتقاء الأكفاء لبعض المراكز العالية، ولا سيما كراسي البطاركة، وحدث مثل هذا في السنة 715 عندما توفي البطريرك المسكوني يوحنا السادس وشغر كرسيه؛ فإن أنظار الشعب والإكليروس والسلطات الزمنية اتجهت شطر جرمانوس أسقف كيزيكة لما تحلى به من ورع وتقوى وعلم ومقدرة، واضطرت هذه العناصر إلى توقيع العرائض لإظهار رغبتها وإجماعها قبل نقل هذا الحبر الجليل من أبرشية كيزيكة إلى أبرشية القسطنطينية.
11
ونظر الآباء المجتمعون في المجمع الخامس السادس في مشاكل الأسقفية، فحرموا الزواج على الأساقفة وسمحوا بوصول مرشح متزوج إلى الكرسي شرط انفصال زوجته عنه ودخولها ديرا من الأديار، وحض الآباء الأساقفة على الوعظ والإرشاد، ولا سيما في أيام الآحاد وعلى اقتطاف المعاني والأحكام من الكتاب الإلهي متبعين في ذلك التقليد الذي وضعه الآباء المتوشحون بالله، مستمسكين بالتفسير الذي أقره كواكب الكنيسة. وأوجب القانون الثامن الذي اشترعه المجمع المسكوني الخامس والسادس على المطارنة دعوة الأساقفة الخاضعين لهم إلى مجمع محلي مرتين في السنة، أو على الأقل مرة واحدة بين عيد الفصح المقدس وقبل انتهاء شهر تشرين الأول، ومنع هذا المجمع الخامس السادس استئثار المطارنة بتركات الأساقفة الخاضعين لهم؛ فقد جاء في القانون الخامس والثلاثين أنه إذا توفي أسقف تبقى تركته تحت مراقبة إكليروس الكنيسة التي كان متصدرا فيها إلى أن يتم انتداب أسقف آخر. وأجاز القانون السابع والثلاثون للأساقفة الذين أكرهتهم الظروف على الإقامة في القسطنطينية وعدم العودة إلى أبرشياتهم بالإكرام اللائق برتبهم، وأن يمنحوا الدرجات حسب عاداتهم.
ونص القانون الرابع عشر والخامس عشر على أنه لا يسام قسا من كان دون الثلاثين من العمر، وأن لا يسام شماسا من كان دون الخامسة والعشرين ولا أيبوذياكونا من كان دون العشرين، وأنه إذا كان المرشح مستحقا فلتؤجل شرطونيته إلى نهاية السنة المعينة؛ «لأن الرب يسوع اعتمد وابتدأ يعلم في سن الثلاثين»، وألغى القانون السادس عشر قرار مجمع قيصرية الجديدة فلم يحدد عدد الشمامسة. وجاء في القانون السابع أنه لما كان بعض الشمامسة يتواقحون فيجلسون فوق القساوسة فإن المجمع يأمر بأن يجلس الشماس تحت القس ولو كان متقلدا وظيفة من الوظائف، وأنه يستثنى من ذلك من كان نائبا عن بطريرك أو متروبوليت، وأتى إلى مدينة أخرى بمهمة معينة، «ومن يخالف هذا الحد متكبرا فليكن آخر جميع الذين من رتبته؛ لأن ربنا نهانا عن محبة المتكآت الأولى في المجالس.» وأبقى المجمع الخامس السادس على تشريع يوستنيانوس في أمر الزواج، فمنع الإكليريكيين من رتبة أيبوذياكون فما فوق عن الزواج، وإذا كان أصحاب هذه الدرجات قد اقترنوا قبل سيامتهم فليحافظوا على نسائهم وليعنوا بهن مبتعدين عنهن عندما يقومون بالخدمة المقدسة، «ومن تجاسر على عمل كهذا فليقطع، ومن أراد من المتقدمين في الإكليروس أن يقترن بامرأة حسب ناموس الزيجة فليفعل ذلك قبل شرطونيته أيبوذياكونا أو شماسا أو قسا.»
وعالج الآباء المجتمعون في السنة 692 سر الزواج، فاعتبروا الخطبة الرسمية الكنسية عقدا ساري المفعول، وحرموا في القانون الثامن والتسعين زواج الخطيبة من شخص ثالث غير الخطيب الأول، وقالوا في القانون الرابع والخمسين: «لا يجوز أن يقترن أحد بابنة عمه أو أم وبنتها بأخوين أو أخوان بأختين، ومن يفعل ذلك فليقف تحت قانون سبع وستين مع فصل الزيجة غير الشرعية.» ونص القانون السادس والعشرون أن القس الذي يزوج عن جهل زواجا غير شرعي له أن يتمتع بالكرامة الكهنوتية، وأما الأعمال الكهنوتية فيمنع منها، ومن يداوي جراحاته لا يحق له أن يبارك غيره، ولذلك فلا يبارك على انفراد ولا علنا ولا يوزع جسد الرب ولا يخدم خدمة أخرى، وليبتهل إلى الرب بدموع ليصفح له، ومثل هذه الزيجة غير الشرعية قد تنحل ولا يكون للرجل اشتراك مع تلك التي حرم عمل الكهنوت بسببها.
وجاء في القانون السابع والثمانين أن من تترك رجلها وتقترن بآخر فإنها زانية، وأنه إن ثبت أنها ذهبت من عند رجلها بدون داع موجب فالرجل يستحق العفو وأما هي فللعقوبة، ومن يترك امرأته التي ارتبط معها بموجب الناموس ويقترن بأخرى يقع تحت جريمة الزناء، ومثل هؤلاء يوضعون سنة كاملة في عداد الباكين وسنتين مع السامعين وثلاثا مع الساقطين، وفي الرابعة يقفون مع المؤمنين ويستحقون القرابين إذا تابوا بدموع! وجاء في القانون الثالث والتسعين أن الامرأة التي يغيب رجلها عنها وتنقطع أخباره إذا اقترنت بغيره قبل التثبت من موته تعتبر زانية، وجاء في القانون الثاني والسبعين أنه لا يجوز لرجل أرثوذكسي أن يقترن بامرأة هرطوقية ولا لامرأة أرثوذكسية أن تقترن برجل هرطوقي؛ لأنه ليس من الواجب أن يخلط ما لا يجب اختلاطه ولا لذئب أن يجتمع بالخروف، وإذا بادر أحد الزوجين الهرطوقيين إلى النور الحقيقي ولبث الآخر في الظلمة فلا يفك رباطهما؛ عملا بقول الرسول: إن الرجل غير المؤمن يقدس بامرأة مؤمنة والمرأة غير المؤمنة فلتتقدس بالرجل المؤمن، وقضى القانون الثاني والتسعون بأن الذين يخطفون النساء والذين يساعدونهم أو يشيرون عليهم فليقطعوا إن كانوا إكليريكيين وليفرزوا إن كانوا علمانيين.
وحرم المجمع بقانونه الرابع والثلاثين التآمر على الأساقفة وغيرهم من رجال الإكليروس، كما نهى عن العبث بالقوانين المدنية المرعية الإجراء، وأوجب قطع من يشرطنون بالمال ومن يتناولون مقابلا لمناولة القربان الطاهر؛ «لأن النعمة لا تباع؛ ولأننا لا نوزع تقديس الروح بالمال، بل ينبغي أن نعطي القربان لمستحقيه.» وجاء في القانون الحادي والعشرين أن الإكليريكيين الذين يذنبون ثم يتوبون ويبتعدون عن الخطيئة؛ يجوز قص شعرهم كسائر الإكليروس ، أما إذا لم يرغبوا في ذلك فليربوا شعورهم مثل العوام؛ لأنهم فضلوا العالم على الحياة السماوية.
ممارسة الأسرار
ونهى الآباء عن التعميد في المنازل، وأوجبوا ممارسة هذا السر في الكنائس، وأمروا بقطع الإكليريكي المخالف وفرز العلماني، وأصروا على وجوب تعلم دستور الإيمان وتلاوته في صباح الخميس الكبير أمام الأسقف أو الكاهن، وسمحوا بقبول التائبين من الآريوسيين والمقدونيين والنوفاتيين والأبوليناريين بدون إعادة معموديتهم، ولكنهم أوجبوا مسحهم بالميرون المقدس على الجبهة والعينين والأنف والفم والأذن.
وأما البولسيون والأقنوميون الذين يعمدون بغطة واحدة والمونتانيون والصقاليون الذي يعتقدون بأن الآب والابن أقنوم واحد؛ فهؤلاء نقبلهم كالأمم؛ أي أننا في اليوم الأول نعدهم مسيحيين، وفي الثاني موعوظين، وفي الثالث نستقسمهم نافخين في وجوههم وفي آذانهم ثلاثا، وعلى هذه الحالة نعظهم ونجعلهم أن يلبثوا مدة في الكنيسة ويسمعون الكتب وحينئذ نعظهم، ومثلهم المانويون والفالنتنيانيون والمركيانيون وغيرهم من أصحاب هذه الهرطقات، أما النساطرة فينبغي أن يعترفوا بالإيمان كتابة، وأن ينكروا هرطقتهم مع نسطوريوس وأوطيخا، وبما أن القرابة الروحية هي أهم من القرابة الجسدية، وبما أننا علمنا أن قوما يقبلون أولادا من المعمودية ويتزوجون أمهاتهم إذا ترملن؛ فإننا نحدد ألا يجري شيء من هذا.
ومنع آباء المجمع الخامس السادس المؤمنين عن التناول مباشرة، وأوجبوا تناول القربان باليدين الاثنين متقاطعتين اليمنى فوق اليسرى بشكل صليب والخمر من الكأس، وأجازوا استعمال الملعقة، وحرموا مناولة أجساد الموتى؛ لأنه كتب: «خذوا فكلوا.» وأما أجساد الموتى فإنها لا تأخذ ولا تأكل.
الصوم
وعلم الآباء أن النصارى في بلاد الأرمن وغيرها يأكلون بيضا وجبنا في الآحاد والسبوت من الصوم الأربعيني، فأمروا بترتيب واحد في كنيسة الله في المسكونة كلها، وأوجبوا إكمال الصوم؛ لأن الكنيسة تمنع كل مذبوح والبيض والجبن من أثمار المذبوحين.
وعلم الآباء أيضا أن أهل رومة يصومون في سبوت الصوم الأربعيني مخالفين الترتيب الكنسي، فأمروا بقطع كل إكليريكي يصوم الأحد أو السبت ما عدا السبت العظيم، وبفرز كل عامي يقدم على ذلك، وأثبتوا في القانون السابع والستين أن الكتاب الإلهي يحظر الدم والمخنوق، وأن ذوي البطون الشرهة يقعون تحت العقوبة.
الليتورجية
وتطورت طقوس العبادة تطورا ملموسا في القرن السابع، ففي السنة 615 أو ما يقاربها أدخل البطريرك سرجيوس القسطنطيني ليتورجية القدسات السابق تقديسها البرويجيازمينا، وكانت كنيسة أوروشليم قد سبقت غيرها إلى هذا،
12
ويرى بعض رجال البحث أن البرويجيازمينا التي شاع استعمالها في القرن السابع كانت تقام آنئذ في جميع أيام الصوم ما عدا السبوت والآحاد والخميس الكبير،
13
وجاء في القانون الثاني والخمسين الذي أقره المجمع الخامس السادس في السنة 692 أن قداس البرويجيازمينا يقام في كل أيام الصوم الأربعيني المقدس ما عدا يومي السبت والأحد ويوم عيد البشارة المقدس، وتسمى هذه الخدمة خدمة القدسات السابق تقديسها؛ لأن القرابين التي تقدم فيها لا تقبل استحالة، وإنما يتم عليها تذكار الخدمة لتقديس المؤمنين، وهذه القرابين يقدمها الكاهن مقدسة ومستحيلة من ذي قبل في خدمة سابقة ومؤلفة من جسد الرب ودمه ومحفوظة في بيت القربان
Skeuophylakion
إلى يوم التقديم.
أما خدمة القداس في أوائل القرن الثامن فإنها الخدمة التي تنسب إلى أبينا الجليل في القديسين يوحنا الذهبي الفم، وقد وصفها وصفا كاملا دقيقا أبونا الجليل في القديسين جرمانوس بطريرك القسطنطينية (715-730) في كتابه تاريخ الكنيسة، وهو أعظم ما ظهر من نوعه قبل كتاب سمعان الثسالونيكي.
واعتبر آباء القرن السابع تعميد الأطفال إجباريا فقل عدد الموعوظين، وتضاءل الحد الفاصل بين قداس الموعوظين وقداس المؤمنين، وبدأ القداس في هذه الفترة بقبول تقادم الشعب وبتهيئة القرابين
وتقدمتها على البروثيسيس
ثم بقراءة الذيبتيخة،
14
وكانت هذه تشمل ذكر الأحياء والأموات من الأساقفة وجميع الكهنة والشمامسة، ثم الأباطرة فالشعب،
15
ويلاحظ رجال الاختصاص أن الدخول بالإنجيل بعد الخروج به بدأ في طقوسنا في القرن السابع أيضا، ورأى القديس جرمانوس في هذا رمزا إلى خروج المسيح من أوروشليم وتعليمه الإنجيل الذي هو صوفيا أورثي؛ أي الحكمة المستقيمة الحقيقية، ورأى هذا القديس أن الشمعة التي تتقدم الإنجيل تشير إلى يوحنا السابق، وأن الترتيل بعد هذا «هلموا نسجد ونركع» إنما هو إشارة إلى فرح البشر بقبول الإنجيل وإيمانهم بالمخلص ، وأن التسبيح الملائكي «قدوس الله» إنما هو إشارة إلى البشر لما تعلموا سر الثالوث بتعليم الإنجيل مجدوا الله بنغمة واحدة مع الملائكة؛ إذ أصبحوا معهم رعية واحدة للراعي الواحد، وهنا يصعد الأسقف إلى السنثرونون
Synthronon
ويبارك الشعب، وبعد هذا تقرأ الرسائل إشارة إلى أن المسيح أرسل تلاميذه ليبشروا بالإنجيل، ثم يتلى الإنجيل ويقبل العطاء وينادي الشماس بخروج الموعوظين.
16
وعندئذ يفتح الكاهن الأنديمنسي؛ أي القائمة مقام المائدة ويصار إلى الأيصوذن الكبير المعروف بدورة القداس، وفيه تدخل القرابين وهي لا تزال غير مقدسة إلى المائدة، والأيصوذن الكبير في نظر القديس جرمانوس يرمز إلى نقل جسد يسوع من الجلجلة (المذبح) إلى القبر (المائدة)،
17
ويأخذ بعض رجال الاختصاص بما جاء في تاريخ كدرينوس، فيقولون: إن الشاروبيكون الذي يرتل لهذه المناسبة أدخل في الخدمة في عهد الإمبراطور يوستينوس الثاني (565-578)، وأنه كان قبل ذلك يرتل عند تقديم التقادم،
18
أما القديس جرمانوس فإنه رأى في المراوح أجنحة السيرافيم ترفرف لمناسبة دخول الملائكة والروح القدس والقديسين مع المسيح الملك، ومن هنا القول في هذا الشاروبيكون: «أيها الممثلو الشاروبين سريا والمرنمون التسبيح المثلث التقديس للثالوث المحيي لنطرح عنا الآن كل مهمة دنيوية؛ لأننا مزمعون أن نستقبل ملك الكل محفوفا بالمراتب الملائكية بحال غير منظور هللويا!»
أما باقي الخدمة فإنه ظل كما كان في القرن السادس: غسل الأيدي والطلبات «وترتيل» دستور الإيمان، وغلق أبواب الهيكل وصلاة الأنافورا وترتيل التريصاغيون، ولفظ الكلام الجوهري وقراءة الذيبتيخة وتلاوة الصلاة الربانية، ورفع القدسات وكسر الخبز والمناولة. ورأى البعض أن سكب الماء الساخن يعود إلى القرن السادس، وأن صلاة الشكر أدخلت في عهد البطريرك سرجيوس.
19
ولا نزال نرى حتى يومنا هذا مع القديس جرمانوس وغيره من الآباء أن الستر الكبير يشير إلى حجر القبر، والبخور إلى حنوط يوسف ونيقوذيموس، وطيوب النسوة وتسكير أبواب الهيكل إلى انحدار المسيح إلى الجحيم وتسكير ستر الباب إلى الحراس والتقبيل إلى المحبة، ونقول: «الأبواب الأبواب» إلى البوابين؛ كي لا يدعوا أحدا من غير المؤمنين أو الموعوظين يدخل، ونتلو دستور الإيمان؛ لارتباط المحبة بالإيمان، ونفتح ستر الباب الملوكي؛ لنشير إلى هرب الحراس، ونرفرف فوق القرابين بالستر الكبير؛ لنذكر بالزلزلة التي حدثت عند قيام المخلص. ويطوى الستر إذ يصل قارئ دستور الإيمان إلى العبارة «وقام في اليوم الثالث» للإشارة إلى دحرجة الحجر عند باب القبر، والمراوح تمنع وقوع شيء من هوام الهواء في الأواني وتشير إلى الأجنحة الستة، ورفع الخبز المقدس يتم به رسم قيامة المخلص.
وقول الكاهن: «القدسات للقديسين.» يعني أنه لا يجوز لغير الطاهرين، وقوله: «الذي يجزأ ولا يتقسم.» يعني أن الخبز المقدس هو جسد الرب كله، وكل جزء منه هو جسد الرب كله، فجسد الرب لا يتقسم في جوهره وإن تجزأ في أعراضه، وقوله: «لا يفرغ أبدا.» يعني أن المسيح يكون معنا إلى انقضاء الدهر بأسراره الإلهية وبعد ذلك في ملكوت السماوات، ووضع الخبز المقدس في الكأس يعني أن المسيح قام بكليته جسدا حيا، والماء الحار يقصد به أن يجعل الدم المقدس حارا - كما هو الدم الحي - ثم توضع في الكأس الأجزاء لتحصل على نعمة من ملامسة دم المخلص، وفتح الباب إشارة إلى ظهور المخلص للتلاميذ بعد القيامة، وعرض الكأس على الشعب هو الاشتراك في التناول، وقول الكاهن: «خلص يا الله شعبك.» إشارة إلى البركة التي أعطاها المسيح لتلاميذه على جبل الزيتون قبل الصعود، والقول: «ارتفع اللهم.» إشارة إلى صعود الرب وانحدار الروح القدس يوم الخمسين، وعرض الكأس ثانية يذكر بمجيء المسيح ثانية.
20
ومنع آباء المجمع الخامس السادس بالقانون الثامن والعشرين تقديم العنب مع التقدمة الغير الدموية، وأوجبوا تقديم القربان فقط وتوزيعه وحده على الشعب لأجل موهبة الحياة ومغفرة الخطايا، وأجازوا قبول العنب على انفراد ومباركته وتوزيعه على طالبيه شكرا لواهب الأثمار التي بها تنمو أجسادنا وتتغذى، وحرموا في السابع والخمسين تقديم العسل واللبن على المذابح.
ولا نجثو بركبنا
وأوضح الآباء المجتمعون في السنة 692 أنه بعد دخول الكهنة مساء السبوت إلى الهيكل لا يحني أحد ركبتيه حتى عشية الأحد التالية؛ لأننا نتخذ الليل الذي يلي السبت تقدمة لقيامة مخلصنا، ومنها نبتدئ بالنشائد الروحية مقيمين العيد من ظلام إلى نور، فنحتفل بالقيامة يوما كاملا ليلا نهارا، ونحافظ على التقليد الذي تسلمناه قانونيا من آبائنا المتوشحين بالله - القانون التسعون من أعمال المجمع الخامس السادس.
الترتيل والمرتلون
وكان رومانوس المرتل البيروتي قد اشتهر بنظم التراتيل والابتهالات في القرن السادس، فلما جاء القرن السابع لمع في هذا الحقل نفسه صفرونيوس البطريرك الأوروشليمي،
21 (605-639) ومكسيموس المعترف،
22
بيد أن أشهر المرتلين في هذا القرن هو أندراوس الأقريطشي، ولد في دمشق سنة 660 وترهب في أوروشليم وخدم في كنيسة القيامة، ثم أرسل مع وفد إلى القسطنطينية لمقابلة الإمبراطور قسطنطين الرابع في السنة 685، فبقي فيها وترأس الأورفانوتروفيون، وفي السنة 700 سيم متروبوليتا على غورتينة في جزيرة أقريطش، وفي السنة 712 جنح إلى المونوثيلية مع فيليبيكوس المغتصب، ثم تاب وتوفي السنة 740،
23
وقد سبقت الإشارة إلى نتاج يوحنا الدمشقي وصديقه قوزما أسقف ميومة فلسطين في هذا الحقل من العمل، فلتراجع في محلها، وكذلك قانون الأكاثيسطون الذي نظمه سرجيوس البطريرك القسطنطيني.
24
العلم والتعليم
ولم يهمل الآباء العلم والتعليم بعد يوستنيانوس، ولكن مراجعنا في ذلك قليلة مشوشة، وجل ما يجوز قوله هو أن المدارس المسيحية ظلت سائرة في عملها في الشرق، وأنها زينت أكثر المدن العظمى، فصفرونيوس البطريرك الأوروشليمي علم الأدب في دمشق مدة الزمن قبل وصوله إلى الكرسي الأوروشليمي وحاز لقب «الحكيم»،
25
ومحى زلزال السنة 551 معالم مدرسة بيروت، فاتجهت أنظار طلاب العلوم العالية إلى القسطنطينية وجامعتها، ولعبوا في العاصمة دورا مرموقا، ومن هنا اهتمام آباء المجمع الخامس السادس بهؤلاء الطلاب كما جاء عند الإشارة إلى القانون الحادي والسبعين.
26
وحمل مكسيموس المعترف لواء الدفاع عن الإيمان القويم، فأفحم وأسكت بعلم وافر ومنطق سديد ونطق فصيح، واشتهر في حقل اللاهوت بكتابه الأجوبة على الأسئلة وبحاشيته على هامش مصنفات غريغوريوس النزيزي وديونيسيوس الأريوباغوسي، وكتب تحت تأثير هذين كتابه في الزهد ورسالته في التصوف
Mystagogia
وفصوله في المحبة،
27
وجاء بعد مكسيموس يوحنا الدمشقي، وقد سبق الكلام عنه في فصل خصوصي فليراجع في محله.
ومن آثار هذه الفترة من تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية حياة القديس يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية (611-619)، وقد دبجها لاونديوس أسقف نيابوليس قبرص مستعينا في ذلك بما وضعه صفرونيوس البطريرك الأوروشليمي ويوحنا موسكوس،
28
وكان يوحنا هذا قد كرس شطرا وافرا من حياته في أوائل القرن السابع لجمع أخبار الرهبان القديسين في مصر وفلسطين وسورية، فوضع كتابه الشهير الليموناريون الذي عرف أيضا بالعنوان «الفردوس الجديد».
29
ومن أغرب ما دون في هذا العصر قصة برلام ويواصف، وهي في أساسها سيرة بوذا غوماطة بقالب مسيحي، وقد نسبت خطأ إلى يوحنا الدمشقي، ولعل ناقلها راهب آخر باسم يوحنا لا قديسنا الشهير، ونصها اليوناني كما نعرفه اليوم يعود - في الأرجح - إلى القرن الحادي عشر.
30
الفصل السابع
العباسيون والكنيسة
750-969
الثورة العباسية
ونشأت أحزاب سياسية في الدولة الأموية كالزبيريين والخوارج والشيعة، ففتت في ساعد الأمويين وأضعفتهم، فطمع فيهم الخصوم وقاموا يكيدون، ودان للأمويين شعوب كثيرة، ولكن الأمويين لم يحسنوا السياسة فأثقلوا الجزية والخراج واستاقوا الأسرى واستعبدوا وأذلوا، فلم تنم هذه الشعوب على الضيم، وانصرف الأمويون إلى اللهو والخمر والمجون ولمس عمالهم غفلة وإهمالا، فأصبح لا هم لهم سوى ابتزاز الأموال وحشدها، وقيل لبعض الأمويين: «ما كان سبب زوال ملككم؟» فقال: «اختلاف فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا!»
وكانت الشيعة قد قابلت نزول الحسن عن الخلافة بالسخط، وبايعت الحسين، فكان يوم كربلاء، فاستفظعت مقتل ابن بنت الرسول وازدادت حماسا وتعصبا، ثم تقسمت فرقا فناصر بعضهم محمد بن الحنفية وعبد الله أبا هاشم بعده فمحمد بن عباس، وعباس عم الرسول وإليه انتسب العباسيون، وناصر آخرون وكانوا كثرا عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي، فتخوف العباسيون منه فعقدوا مؤتمرا هاشميا يضم العلويين والعباسيين في مكة، فتشبث العلويون فسايرهم العباسيون ريثما تتهيأ لهم الأسباب، ووافقوهم على مبايعة «النفس الزكية».
وفي حوالي السنة 718 ألف محمد بن عباس جماعات سرية، وأرسل معظمهم إلى خراسان؛ لأنها كانت في نظره أصلح من غيرها لنشر الدعوة، ففرسها كانوا شيعيين ويكرهون العرب والأمويين ولا يطمعون في الخلافة، وتوفي محمد بن عباس وتزعم الحركة العباسية بعده ابنه إبراهيم الإمام، فأرسل هذا أبا مسلم الخراساني في السنة 746 إلى خراسان، فأقام في مرو وبدأ يدعو الناس إلى مبايعة آل محمد بدون تعيين، فتبعه أناس كثيرون واشتدت شوكته فهرب عامل خراسان، فألقى الخليفة مروان القبض على الإمام إبراهيم في مركزه في الحميمة في شرق الأردن، فأوصى هذا بالخلافة إلى أخيه أبي العباس السفاح، ومات إبراهيم الإمام فدعا أبو مسلم أهل خراسان إلى مبايعة السفاح، وكانت ثورة وكانت معركة حاسمة عند الزاب الأعلى في الثامن والعشرين من تشرين الثاني سنة 749، وتعقب السفاح مروان فأدركه في مصر وحز رأسه، فزالت دولة الأمويين واستتب الأمر للعباسيين في الشرق كله.
1
السياسة العباسية
وكان العباسيون في عصرهم الأول أصحاب قوة وعزم وتدبير، ولكنهم لم يحجموا عن الفتك بكل من يخشى شره؛ وتعليل ذلك أنهم كانوا حريصين على الملك يستحلون كل شيء في سبيل تأييده، فقد تجدهم أعدل خلق الله وأعظمهم تسامحا، وقد تجدهم شديدين مشددين، فالحرية عندهم كانت مكفولة ما دامت بعيدة عن سياسة الأحزاب، والتساهل كان مباحا ما دام لا يؤثر في الملك.
2
العباسيون والنصارى
وهكذا، فإننا نرى الموالي الفرس الذين نظموا حكومة العباسيين ورتبوا دواوينها يقربون أهل الذمة في العراق والشام، فيطمعونهم بالرواتب والجوائز ويكرمونهم، فجهابذة العباسيين أكثرهم من اليهود، والكتاب من النصارى، وتقلد هؤلاء ديوان الجيش أيضا وتسابق أكابر رجال الدولة من المسلمين أنفسهم إلى تقبيل أيديهم. وممن تقلد هذا الديوان ملك بن الوليد، قلده إياه المعتضد بالله (892-902)، «وكان المعتضد شهما عاقلا فاضلا، وكان شديدا على أهل الفساد»، وقلد المتقي بالله (940-944) أبا العلاء صاعد بن ثابت خلافة الوزارة وكان نصرانيا،
3
واستخدم العباسيون الأطباء من أهل الذمة والحكماء والتراجمة والكتاب، فأكرموهم وراعوا جانبهم وقدموهم. وقد حفظ لنا ابن أبي أصيبعة في كتابه طبقات الأطباء الشيء الكثير من هذه المحاسنة، ولعل أفضل ما ينقل عنه كلامه عن علاقة الخليفة المنصور بجورجيس بن بختيشوع ، وكان جورجيس آنئذ رئيس أطباء مارستان جنديسابور، فلما انقطعت شهوة المنصور من الداء الذي أصابه في معدته استقدم جورجيس فدرس علته ووصف الدواء، فاشتفى الخليفة وطابت نفسه ومنع جورجيس من الرجوع إلى بلده، وكان المنصور قد علم أن جورجيس خلف امرأته في جنديسابور فأرسل إليه ثلاث جوار روميات وثلاثة آلاف دينار، فقبل جورجيس الدنانير ورد الجواري، فلما عاتبه المنصور أجابه: «إننا معشر النصارى لا نتزوج إلا بامرأة واحدة، وما دامت حية لا نأخذ غيرها.»
4
وبذل المأمون وغيره جهدهم في نقل الكتب من اليونانية والسريانية إلى العربية وأنفقوا بسخاء، فكان السوريون المسيحيون ساعدهم الأقوى، وفيهم الحمصي والبعلبكي والدمشقي والحيري والحراني.
5
وأكرم بعض الخلفاء الأساقفة، وجالسوهم، فالهادي كان يستدعي إليه الأسقف تيموثاوس في أكثر الأيام ويحاوره في الدين، ويبحث معه ويناظره، ويطرح عليه كثيرا من القضايا، وله معه مباحث طويلة ضمنها كتابا ألفه الأسقف المذكور في هذا الموضوع، وكان هارون الرشيد يفعل مثل هذا أيضا، وغض بعض الخلفاء النظر عن إذلال بعض النصارى فسهلوا لهم الاختلاط بهم، وأظهروا احترام مذهبهم، حتى أصبح هؤلاء النصارى يهدون الخلفاء أيقونات القديسين فيقبلونها منهم، وكثيرا ما كان الأساقفة يطلبون من الخلفاء تثبيتهم في مناصبهم؛ للاعتزاز بذلك على أخصامهم أو منازعيهم.
6
ولكن بعض هؤلاء الخلفاء والوزراء العادلين المتسامحين كانوا في بعض الظروف أشد الناس تعنتا، فالمهدي (775-785) «قوض الكنائس التي ابتناها النصارى في عهد العرب وأخرب كنيسة الخلقيدونيين (الروم) في حلب».
7
وأمر أن لا يقتني النصارى عبيدا،
8
وفي السنة 779 أقبل المهدي على حلب فخرج إلى لقائه التنوخيون ممتطين خيولا مطهمة رافلين بالحلل، فقيل له: هؤلاء هم نصارى «فاحتدم المهدي سخطا واضطرهم أن يسلموا، فأسلم زهاء خمسة آلاف رجل ولم تسلم النساء، واستشهد منهم رجل جليل اسمه ليث».
9
وفي السنة 797 مر هارون الرشيد بالرها، فواجهه المسلمون وشكوا النصارى مدعين أن ملك الروم يزورهم كل سنة سرا ويصلي في كنائسهم، «فبحث الخليفة فاستبان له افتراؤهم فأوسعهم ضربا، وفي هذا الزمان كان رجل قرشي مسلم اسمه رويح، وكان بيته مجاورا للكنيسة ، وكان يضايق الكاهن ويزعجه وقت الصلاة ويطرح عليه من الكوة كرات من طين، ولما كان يحدق فيه يوما وقت ذبيحة القداس شاهد في الطبق على مائدة الحياة حملا مذبوحا، فانحدر إلى الكنيسة وشاهد أمام الكاهن خبزا مكسورا، فعاد إلى الكوة وحدق ثانية فشاهد الحمل، فجاهر حالا بالنصرانية وترك بيته وقصد أحد الأديار واصطبغ بالمعمودية، ولما بلغ هارون الرشيد خبره استحضره ولاطفه ليعود إلى الإسلام فأبى، فأوثقه وألقاه في السجن، وظل سنتين كاملتين راسخا في عقيدته.»
10
وفي السنة 807 أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.
11
وفي السنة 812 في عهد الأمين (809-813) اتفق ناصر وعمر الخارجيان، وعبرا الجزيرة وجعل أصحابهما الخوارج يقتلون دون شفقة ويسبون ويغزون ويفحشون، وفيما كانا يحاصران حران كتب إليهما الرهاويون يقولون: إن أرسلتما من يدمر كنيسة النصارى فإنهم يضحون بأموالهم كلها حرصا عليها، فهلع الرهاويون وأوصوا بالصوم واعتكفوا على السهر والصلاة، فسمع الرب طلباتهم وألهم شيخا من العرب يقال له: يحيى بن سعيد، فخرج يريد مواجهة ناصر وعمر الخارجين، وأشار عليهما أن يعدلا عن قصدهما، فلبيا مشورة الشيخ وأدى لهما الرهاويون خمسمائة ألف درهم.
12
وفي عهد المأمون (813-834) تداعت قبة القيامة في أوروشليم، فأرسل بكام المصري إلى توما البطريرك الأوروشليمي بمال كثير يستعين به على إصلاح القبة، فأصلحها البطريرك.
13
تحاسد النصارى
ولو دققنا في ما كان يلحق بالنصارى من الأذى؛ لرأينا سببه في بعض الأحيان وشايات بعضهم على بعض، فإن عيسى بن شهلا لما تولى الطبابة في دار الخلافة اغتنم تلك الفرصة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه، وكتب مرة إلى مطران نصيبين يلتمس أشياء عظيمة المقدار من أواني الكنيسة، وهدد قائلا: ألست تعلم أن أمر الملك بيدي إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته، فبعث المطران بالكتاب إلى الخليفة فانتقم منه.
وحسد بختيشوع بن جبرائيل الطبيب حنين بن إسحاق المترجم الشهير لما رأى من منزلته عند المتوكل فعمل على الكيد به من طريق الدين، فاصطنع أيقونة للسيدة العذراء وفي حجرها السيد المخلص، وأوعز إلى بعض خاصته أن يحملها هدية إلى الخليفة، وكان هو المستقبل للأيقونة من يد حاملها، فاستحسنها المتوكل وجعل بختيشوع يقبلها، فقال له الخليفة المتوكل: لم تقبلها؟ فقال له: يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة العالمين فمن أقبل؟ فقال المتوكل: وكل النصارى يفعلون ذلك؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين وأفضل مني، ولكني أعرف رجلا في خدمتك يتهاون بها ويبصق عليها، وهو زنديق ملحد، لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة، يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل. فقال المتوكل: من هذا الذي هذه صفته؟ فقال له: حنين المترجم.
فأمر المتوكل بإحضار حنين فاستمهله بختيشوع ساعة، ثم خرج توا إلى حنين وقال له: أهديت إلى الخليفة أيقونة وقد استحسنها، وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه احتقرنا، وقال لنا هذا ربكم وأمه مصوران، وقد سألني عن رأيي فيها فقلت مثلها يكون في الحمامات والكنائس، فطلب إلي أن أبصق عليها فبصقت، فإذا دعا بك فافعل، فصدقه حنين ولما دعاه الخليفة فعل كما قال له بختيشوع، فحالما بصق على الأيقونة أمر الخليفة بحبسه.
ووجه إلى ثيودوسيوس الجاثليق فأحضره، فلما رأى الأيقونة وقع عليها وقبلها ولم يزل يقبلها ويبكي طويلا، ثم أخذها بيده وقام قائما فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه، فدعاه إلى الجلوس ثم سأله عما يستحق الذي يبصق عليها، فقال: «إذا كان مسيحيا عارفا فإني أحرمه دخول الكنيسة ومن القربان، وأمنع النصارى من ملامسته وكلامه وأضيق عليه.» فأعطى الخليفة الأيقونة للجاثليق مع جائزة وأمر بحنين فجلد بالسياط والحبال وأمر بنقض منازله وحبسه، ولم ينج من ذلك حتى اعتل المتوكل واحتاج إلى مشورته فأفرج عنه.
14
الشرع والنصارى
وأظهر العباسيون في دعوتهم أنهم يريدون إحياء السنة وتقويم ما اعوج من سبل الدين في عهد الأمويين، فلما استتب لهم الأمر قربوا الفقهاء والعلماء والزهاد وأكرموهم، وكانوا إذا لقوا فقيها أو زاهدا طلبوا إليه أن يعظهم فإذا وعظهم بكوا، وأشهر المتعظين منهم المنصور والرشيد والمعتصم والواثق، ولا غرو فالمسلمون انقادوا إلى فقهائهم فاستعان الخلفاء بهؤلاء على إخضاع العامة وامتلاك قلوبهم، واكتسب الفقهاء بتقربهم مالا وجاها فرسخ احترامهم في قلوب العامة، وتمسكوا بهم وعظموهم باسم الدين.
ويستدل مما تبقى من آداب العصر العباسي أن الفقهاء والعلماء جعلوا «عهد عمر» أساسا لاجتهادهم في معاملة أهل الذمة، وقد سبق لنا القول إن نص هذا «العهد» اتصل بالفقهاء بطريق الإسناد إلى عبد الرحمن بن غنم الأشعري الراوي القديم الذي توفي في السنة 78 للهجرة، ونضيف هنا أن أكثر مواد هذا العهد واردة في كتب الفقه والإدارة في العصر العباسي، ويكاد لا يخلو منها أو من بعضها مصنف.
15
واختلف الأئمة في قيمة حياة الذمي، فإنها كانت عند أبي حنيفة (696-767) وابن حنبل (780-855) تكافي حياة المسلم، وديته دية المسلم، أما عند مالك (715-795) فدية اليهودي أو النصراني نصف دية المسلم، وعند الشافعي (767-820) ثلثها، أما المجوسي فديته جزء من خمسة عشر جزءا من دية المسلم، واستحق التأديب عند هؤلاء وغيرهم من قال للمسلم: يا يهودي أو يا نصراني،
16
وذهب بعض فقهاء هذا العصر إلى أنه لا تقبل شهادة الذمي على أهل دينه، فحز هذا في صدور النصارى حزا عميقا، وذهب البعض مذهبا آخر، وكان على قضاة النصارى أن يقبلوا شهادة المسلم على النصراني فزاد هذا الموقف في كرههم وحقدهم.
17
واجتهد الفقهاء في هذا العصر اجتهادا شاقا في أمر تسلط أهل الذمة على المسلمين؛ ففي السنة 849 أمر المتوكل ألا يستعان بأهل الذمة في الدواوين وأعمال السلطان التي تجري أحكامهم فيها على المسلمين،
18
ولكنه بعد ذلك بعشر سنين أنشأ قصره الجعفري وأجرى إليه نهرا، وجعل النفقة عليه إلى دليل ابن يعقوب النصراني،
19
وفي السنة 909 علا أمر النصارى وغلبوا على الكتاب فأمر المقتدر بما أمر به المتوكل، وأضاف ألا يستخدم أحد من اليهود والنصارى إلا في الطب والجهبذة،
20
ولكن هذه الأوامر كانت ضعيفة الأثر؛ فإن وزيره أبا الحسن علي بن الفرات كان يدعو أربعة من النصارى إلى طعامه كل يوم، وكانوا في جملة الكتاب التسعة الذين اختص بهم،
21
ولما أراد المقتدر أن يستوزر الحسين بن القاسم في السنة 931؛ أشار عليه بأن يجتهد في إصلاح أعدائه، فابتدأ ببني رائق فكان يمضي إلى كاتبهم النصراني ويضمن لهم الضمانات، ثم فعل ذلك باصطفن بن يعقوب كاتب مؤنس وقال له: «إن تقلدت الوزارة فأنت قلدتنيها.»
22
وكان الحسين هذا يتقرب إلى النصارى الكتاب بأن يقول لهم: «إن أهلي منك وأجدادي من كباركم، وإن صليبا سقط من يد عبيد الله بن سليمان جدي، فلما رآه الناس قال: هذا شيء تتبرك به عجائزنا فتجعله في ثيابنا من حيث لا نعلم.»
23
ومثل هذا كثير فليراجع في محله،
24
وعالج الفقهاء هذه القضية فاختلفوا، وأفتى بعضهم بأنه يجوز بأن يكون وزير التنفيذ - لا وزير التفويض - من أهل الذمة، ووزير التنفيذ لا يباشر الحكم ولا يقلد العمال ولا يدبر الجيش، أما وزير التفويض فهو الذي يفوض السلطان إليه تدبير الدولة برأيه.
25
ومنع الفقهاء في العصر العباسي تغيير الدين إلا إذا كان دخولا في الإسلام، فانفصلت الطوائف بعضها عن بعض، وعوقب المرتد عن الإسلام بالقتل، وقل التزاوج بين المسلمين وغير المسلمين، أما زواج المسيحي من مسلمة فإنه كان مستحيلا،
26
ومنع الفقهاء أيضا أهل الذمة من تعلية بيوتهم على أبنية المسلمين، فإن ملكوا بيوتا عالية أقروا عليها ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين.
27
ولم يغلق الفقهاء دون أهل الذمة أي باب من أبواب الرزق، فكانوا مزارعين وتجارا وصناعا وصيارفة وأطباء،
28
وكان معظم الصيارفة والجهابذة يهودا، وأكثر الأطباء والكتبة نصارى،
29
وكان رئيس النصارى في بغداد طبيب الخليفة.
30
القضاء بين النصارى
ولم يفصل الإسلام بين السلطتين القضائية والتنفيذية؛ فالنبي كان رئيس الدولة الإسلامية وقاضيها في آن واحد، وكان أيضا «مبلغا لشريعتها»، وكذلك كان خلفاؤه من بعده، وكان محمد يعهد بالقضاء إلى بعض الولاة ضمن توليتهم أمور الولاية، فاقتفى خلفاؤه أثره واتبعوا الخطة نفسها، فقضى ولاتهم بين الناس بالنيابة عنهم، ثم كثرت الأعمال فاضطر الولاة إلى تعيين القضاة،
31
ولم يحدد الوالي اختصاص القاضي، فاحتفظ لنفسه بما كان «يعجز عنه القاضي»،
32
ثم خرج القاضي من سلطان الوالي فخضع للخليفة مباشرة، وكان أبو جعفر المنصور أول خليفة ولى قضاة الأمصار من قبله.
33
وكان هذا القاضي قاضي المسلمين «يحضر مجلسه المسلمون دون أهل الذمة»،
34
ولا غرابة في ذلك؛ فالمسلمون الفاتحون كانوا قد أقروا الناس على ما كانوا عليه من قبل، فلم يتعرضوا لهم في شيء من معاملاتهم أو أحكامهم، ومن هنا اهتمام النصارى بعد دخولهم في دار الإسلام بالقوانين البيزنطية، ونقلها إلى السريانية والعربية، ومن هذه كتاب الهدى، وقد سبقت الإشارة إليه،
35
وأجاز بعض الفقهاء تقليد الذمي القضاء بين أهل دينه، واعتبروا هذا التقليد تقليد زعامة ورئاسة لا حكم وقضاء، ولكنهم رأوا أنه إذا امتنع أهل الذمة عن التحاكم أمام قضاتهم لا يجبروا على ذلك، فإذا رجعوا إلى قاضي الإسلام قضى بينهم بحكم الإسلام؛ «لأنه يكون عليهم أنفذ ولهم ألزم.»
36
والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم النصرانية أنها كانت محاكم كنسية، يقوم فيها الرؤساء الروحيون مقام كبار القضاة، ولم تقتصر الأحكام فيها على مسائل الزواج، بل كانت تشمل مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي قامت بين المسيحيين وحدهم، ولم ينظر الرؤساء بعين الرضا إلى من لجأ من النصارى إلى المحاكم الإسلامية؛ ولذلك صنف الجاتليق النسطوري ثيموثاوس في السنة 800 كتابا في الأحكام القضائية المسيحية؛ «لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجئون إلى المحاكم غير النصرانية بدعوى النقص في القوانين المسيحية.»
37
ولخص ابن العبري القوانين الكنسية والمدنية في كتابه الهدايات وأبدع في أبواب الشرع المدني،
38
وجعل الآباء القضاة العقوبات دينية منها التكدير والتوبيخ، ومنها القطع والندامة، ومنها البذل والغرامة.
39
الخلفاء والبطاركة
وبعد انتقال مركز الحكم من دمشق إلى بغداد أصبح «الجاثليق» النسطوري ذا مهابة ونفوذ نظرا لكثرة أتباعه في العراق وفارس وما وراءهما إلى الشرق، وكانت تنتخبه كنيسته فيصدق الخليفة على انتخابه ويكتب له عهدا كما كان يكتب لكبار العمال، ولم يبق من نصوص هذه العهود سوى نص واحد صدر عن الخليفة المستنجد في السنة 1139،
40
وكذلك كان يكتب لبطريرك اليعاقبة وبطريرك الروم، وكان للنصارى النوبيين دون سائر النصارى مكانة ممتازة في الدولة الإسلامية، فكانوا يدفعون الضرائب لملكهم، وكان للضرائب عامل من قبله في بلاد الإسلام.
41
وكان لليهود رئيس في بغداد يدعى «رأس الجالوت»، ورئيس آخر في القاهرة بعد قيام الدولة الفاطمية يلقب «سر هساريم»؛ أي أمير الأمراء، وكان هذا يعين أحبار اليهود في مصر والشام،
42
فاحتج أحد بطاركة اليعاقبة، فقال في مجلس له مع الخليفة: إن رؤساء المجوس واليهود حكام دنيويون، وإنه هو رئيس روحي لا يستطيع إلا فرض العقوبة الروحية كأن يحكم بخلع أسقف أو قطع كاهن أو منع علماني من حضور الاحتفالات الكنسية.
43
وظل انتساب بطاركتنا إلى الكنيسة الجامعة واستمساكهم باللغة اليونانية وتعلقهم بآدابها الكنسية؛ سببا لاتهامهم بالميل إلى الروم والتجسس لهم ومطالعتهم بأخبار المسلمين، وظلوا هم بعيدين عن زميلهم الكبير بطريرك القسطنطينية لا يتصلون به ولا يجرءون على ذكره في الذبتيخة؛ فقد جاء في تاريخ أفتيخيوس تحت أخبار السنة (937-938) أن الروم والمسلمين تهادنوا وتبادلوا الأسرى، فوجه ثيوفيلاكتوس بطريرك القسطنطينية رسولا إلى أفتيخيوس نفسه بطريرك الإسكندرية وإلى ثيودوسيوس بطريرك أنطاكية، وإلى خريستوذوللس بطريرك أوروشليم، يسألهم «أن يذكروا اسمه في صلواتهم وقداساتهم، فأجابوه إلى ما سأل، وهذا كان قد انقطع عن وقت خلافة بني أمية».
44
فثيودوروس (774-797) خالف كنيسة القسطنطينية وإمبراطورها وواظب على احترام الأيقونات وقطع قوزما متروبوليت حماة؛ لأنه ماشى القسطنطينية في أمر الأيقونات، ولكنه على الرغم من هذا الموقف المعادي للقسطنطينية اضطر أن يتحمل عذاب النفي والاضطهاد عندما غزا قسطنطين الخامس حدود الخلافة فأبعد إلى موآب.
45
وكان أيوب الأول البطريرك الأنطاكي (813-844) قد طوى فؤاده على التعاون مع الخلفاء لإسقاط التهم ورفع الشبهات فتوج توما الصقلي الثائر في وجه الإمبراطور ميخائيل الثاني إرضاء للمأمون،
46
ورافق المعتصم إلى حصار أنقرة فكلم حاميتها «بالرومية وقال أطيعوا السلطان وأدوا الجزية»، فقوبل بالشتم والحجارة،
47
ورأى خريستوفوروس البطريرك الأنطاكي (960-967) أن يبعد عن أنطاكية في أثناء الحرب بين سيف الدولة والروم، فسار إلى دير سمعان وأقام فيه، وعندما عاد الروم إلى بلادهم قصد خريستوفوروس سيف الدولة في حلب، فأحسن قبوله وشكره على ما فعل، وعاد البطريرك إلى أنطاكية، ثم توفي سيف الدولة فتألبت العامة على خريستوفوروس، واتهمه صديقه ابن مانك بمكاتبة الروم واستنهاضهم، «فحلف البطريرك أنه ما كاتب الروم قط، فوثب عليه قوم من الخراسانيين وأقامه واحد منهم وضربه آخر بالخنجر فأنفذه في بطنه، فسقط، فقطع رأسه وطرح في أتون حمام، وحملت جثته وطرحت في النهر، وأنفذ ابن مانك قبل الصبح قوما إلى كنيسة القسيان وقبضوا على ما وجدوه في منزل البطريرك وفي خزانة الكنيسة، وأخذوا كرسي مار بطرس وهو من خشب النخل مصفح بالفضة وحفظوه في دار شيخ يعرف بابن عمر، وما زال في داره إلى أن ملك الروم المدينة، وبعد ثمانية أيام ظهرت جثة البطريرك على جزيرة في النهر، فخرج قوم من النصارى وأخذوها سرا ودفنوها في الدير المعروف بأرسانة خارج المدينة.»
48
هيرارخية أنطاكية
وتختلف المراجع في تتابع البطاركة وتعاقبهم على السدة الرسولية، وتتباين آراؤهم في تعيين مدة الرئاسة لكل منهم، وإليك ما جاء في لائحة البطريرك قسطنديوس القسطنطيني وما دونه أفتيخيوس البطريرك الإسكندري وما دونه بعده يحيى بن سعيد الملحق لتاريخ أفتيخيوس.
بطاركة أنطاكية.
لائحة قسطنديوس
لائحة أفتيخيوس (1) 748-810
ثيوفيلاكتوس
748-762
ثيوفيلاكتوس
754-762
ثيودوروس
767-787
ثيودوروس
774-797
يوحنا الرابع
797-810
يوحنا
798-811 (2) 810-902
أيوب الأول
810-826
أيوب الأول
813-844
نقولاووس
826-834
نقولاووس
848-871
سمعان
834-840
اسطفانوس
871-871
إلياس
840-852 -
ثيودوسيوس
852-860
ثيودوسيوس
871-892
نقولاووس الثاني
860-872 -
ميخائيل
879-890 -
زكريا
890-902
سمعان
892-904 (3) 902-966
جاورجيوس الثالث
902-917
إلياس
905-930
أيوب الثاني
917-939
ثيودوسيوس
934-943
أفستراتيوس
939-959
ثيوخريستوس
944-948
خريستوفوروس
960-966
خريستوفوروس
960-967
ويستدل من التنقيح الذي أدخل في القرن العاشر على لائحة أنسطاسيوس البطريرك الأنطاكي
49
أن المؤمنين الأرثوذكسيين آثروا آنئذ التكتل في السواحل على الانتشار في الداخل، وأن أهم أبرشيات الكرسي الأنطاكي الساحلية أمست في القرن العاشر كما يلي:
50 (1)
أبوالثمانين إلى باسيليوسرشية عكة من نهر الكرمل حتى نهر الزيب بما في ذلك دير القديس جاورجيوس اللبناني. (2)
أبرشية صور من نهر الزيب حتى نهر الليطاني. (3)
أبرشية صيدا من الليطاني حتى الدامور. (4)
أبرشية بيروت من نهر الدامور حتى نهر إبراهيم، ويضاف إليها برج الهري
Trieris
وبرج المسيحة
Gigarta .
51 (5)
أبرشية جبيل من نهر إبراهيم حتى سيل قانونيت
Kanonit . (6)
أبرشية البترون من هذا السيل الشتوي حتى وجه الحجر
Lithoprosopon . (7)
أبرشية طرابلس من رأس وجه الحجر (الشقعة) إلى سيل ستروثيون
Strouthion . (8)
أبرشية عرطوز
Orthosias
من سيل الستروثيون حتى خريسوبوتاموس
Chrysopotamos . (9)
أبرشية عرقة من الخريسوبوتاموس حتى نهر السوسية
Sousié (الحصن).
52 (10)
أبرشية طرطوس من نهر السوسية حتى نهر المرقية، وكانت تدعى أبرشية هنتارغوس
Hentargos . (11)
أبرشية بانياس من نهر المرقية حتى نهر بانياس، وهي خاضعة لمتروبوليت أبامية. (12)
أبرشية البلدة
من نهر بانياس حتى النهر الكبير، وهي مستقلة. (13)
أبرشية جبلة من النهر الكبير حتى نهر صهيون. (14)
أبرشية اللاذقية من جسر نهر صهيون حتى نهر تراسكية
Thrascaia . (15)
أبرشية أبامية من نهر تراسكية حتى النهر الكبير (العاصي). (16)
أبرشية سلفكية من النهر الكبير حتى الكيروبوتاموس بما في ذلك دير القديس سمعان. (17)
أبرشية موبسوستة من الكيروبوتاموس حتى نهر الفيسي الكبير
. (18)
أبرشية أدنه من هذا النهر الكبير حتى نهر أدنة. (19)
أبرشية طرطوس من نهر أدنة حتى نهر الروسوس
Rhosos ، وهو الحد الفاصل بين الكرسيين الأنطاكي والقسطنطيني.
وتشير هذه اللائحة المنقحة نفسها إلى كاثوليكوسين تابعين للكرسي الأنطاكي أحدهما كاثوليكوس روماغيريس
Romagyris
والآخر كاثوليكوس إيرينوبوليس
Irenoupolis ، وقد أبان الأب فاهي
Vailhé
أن روماغيريس هو حي الروم في نيسابور، وأن إيرينوبوليس هي مدينة السلام؛ أي بغداد، وكان الداعي لسيامة الكاثوليكوس الأول كثرة التجار اليونانيين في نيسابور، أما بغداد فإنها كانت عاصمة العباسيين وكانت تضم عددا لا يستهان به من أبناء الكنيسة الجامعة، وجاء في تاريخ ابن العبري أن البطريرك الأنطاكي إلياس سام أول كاثوليكوس أرثوذكسي في بغداد في السنة 910.
53
الفصل الثامن
فوطيوس العظيم
858-867 و877-886
لاوون الخامس والأيقونات
وسيطر نقفور وزير المال على بلاط إيرينية، وقبض عليها، وحبسها في أحد الأديرة، فانتهى عهد هذه الفسيلسة في السنة 802. وكان نقفور سامي الأصل ولم يقل قول إيرينة فلم ينفذ مقررات المجمع المسكوني السابع، ولكنه لم يضطهد من قال بإكرام الأيقونات ولا هو شجعهم، وسقط نقفور في حرب البلغار في السنة 811، وقطع البلغاريون رأسه واتخذوا جمجمته كأسا، وجرح ابنه وولي عهده وتوفي فتولى العرش ميخائيل الأول صهره (811-813).
وكان ميخائيل لطيف المعشر معجبا بالرهبان فأبعد عن الوظائف جميع أعداد الأيقونات، فأثار غضبهم ودفع بهم إلى التآمر، ومما زاد في الطين بلة أن البطريرك نيقوفوروس تقسى في معاملة المهاجرين الذين نقلوا إلى العاصمة وتراقية من الولايات النائية الجنوبية الشرقية؛ لتمسكهم بمذاهب لم تقرها المجامع المسكونية، فعادت المشادة الدينية إلى ما كانت عليه من قبل، وكانت الحرب البلغارية لا تزال ناشبة، فأعد ميخائيل جيشا وزحف إلى الجبهة في ربيع السنة 813، فدارت الدائرة عليه، فنادى الجند بلاوون الأرمني أحد كبار القادة فسيلفسا، فتنازل ميخائيل وترهب.
وأول ما فعله هذا الفسيلفس الأرمني لاوون الخامس (813-820) أنه أقسم يمين الولاء للكنيسة، وقطع وعدا بأن يحافظ على عقائدها ومصالحها، ولكنه كان وصوليا، وكان يعتمد على جنود آسيويين لا يحترمون الأيقونات ولا يرغبون في تكريمها، فما أن استتب له الأمر وتخلص من خطر البلغار حتى نكث يمينه ونبذ عهد الولاء للكنيسة.
وكان مراوغا مداورا فبث بادئ ذي بدء في الأوساط الرسمية وغير الرسمية أن ما حل بالدولة من ضعف وما أحدق بها من خطر إنما نشأ عن العودة إلى تكريم الأيقونات وتقديسها، وبعد أن تمكن من جمع قرارات مجمع هييرية (754) عقد مجلسا في القصر ضم بعض وجهاء الطرفين المتخاصمين ممن قال بالأيقونات وممن حرمها، ودعا البطريرك نيقوفوروس إلى هذا المجلس في خريف السنة 814 وثيودوروس رئيس دير الاستوديون، وطلب إلى المجمعين أن يبحثوا في أمر الأيقونات، فأجابه ثيودوروس بصراحة وشدة أن البحث في الأمور الدينية منوط برجال الدين، وأن الواجب على الفسيلفس أن يطيع هؤلاء في أمور الدين لا أن يغتصب دورهم اغتصابا، وأن للفسيلفس أن يعنى بما سوى ذلك،
1
فأجاب لاوون بأنه لا يرغب في حمل الناس على الاستشهاد، وفي عيد الميلاد من هذه السنة استمع القداس الإلهي في كنيسة الحكمة الإلهية مظهرا الخشوع مكرما الأيقونات، ولكنه في ربيع السنة 815 قبض على البطريرك نيقيفوروس ونفاه إلى خريسوبوليس وأقام في موضعه علمانيا يدعى ثيودوتوس، ثم عقد مجمعا محليا في نيسان سنة 815 في كنيسة الحكمة الإلهية ثبت فيه مقررات مجمع السنة 754 وحرم تكريم الأيقونات،
2
على أن لاوون الخامس كان أقل إسراعا ممن سبقه إلى محاربة الأيقونات مع أن مقاومة من كرم الأيقونات كانت أشد وأقوى من ذي قبل ، فاكتفى لاوون بنفي الأساقفة والرهبان وبحبسهم، وأشهر المنفيين بعد نيقوفوروس البطريرك ثيودوروس الاستودي الذي كتب من منفاه في أزمير في السنة 819 يشدد عزائم الرهبان، كما أنه استغاث ببابا رومة وبطاركة الشرق الثلاثة،
3
وكان بين المنفيين ثيوفانس المؤرخ، فإنه أبعد إلى سموتراقية فتوفي في السنة 817.
4
ميخائيل الثاني والأيقونات (820-829)
وأشرك لاوون الخامس ابنه في الحكم، وظن أنه بذلك يؤسس أسرة حاكمة، ولكن رفاقه في السلاح الذين عاونوه في الوصول إلى الحكم وفي طليعتهم ميخائيل العموري لم يرضوا عن مسلكه فتآمروا عليه، واكتشف لاوون هذه المؤامرة وقذف بميخائيل إلى السجن، ولكنه أجل عقابه وترك شركاءه في المؤامرة أحرارا، فضرب هؤلاء ضربتهم قبل أن ينكشف أمرهم وذبحوا لاوون في كنيسته الخاصة، وأخرجوا ميخائيل من سجنه وتوجوه فسيلفسا قبل أن تكسر قيوده الحديدية.
وكان ميخائيل الثاني ريفيا غير مثقف جنديا عتيقا في طباعه وعاداته، ولكنه كان قديرا حكيما، وعلى الرغم من قلة إيمانه بالأيقونات
5
فإنه اتخذ موقفا معتدلا؛ فمنع كل مشادة حول الأيقونات، واستدعى من المنفى جميع المبعدين بسبب ذلك، واستقبل ثيودوروس الراهب في قصره وأكد له حرية العبادة، وقال نيقيفوروس البطريرك: ليس لي أن أبتدع في الإيمان والعقيدة ولا أن أجادل في التقاليد الموروثة أو أن أنقضها، ولكنه لم يعترف بقرارات المجمع المسكوني السابع.
6
ثيوفيلوس الأول (829-842)
ويختلف المؤرخون في موقف ثيوفيلوس من الأيقونات، فبعض يرى فيه عدوا لدودا للأيقونات وأنصارها، وبعض يراه معتدلا في موقفه، مقتصرا في إجراءاته على العاصمة وضواحيها،
7
والواقع أنه رغم تعلقه بالعذراء والقديسين فإنه اتخذ له مستشارا عدوا للأيقونات؛ وهو العالم الشهير يوحنا الكاتب، وجعل من صديقه هذا بطريركا مسكونيا، ولم يكترث بقرارات البطاركة باسيليوس الأوروشليمي وخريستوفوروس الإسكندري وأيوب الأنطاكي التي وجهت إليه موجبة المحافظة على التقاليد واحترام الأيقونات،
8
وكوى كفي الراهب العازار بالحديد الحامي، وجلد ثيوفانس وأخاه ثيودوروس الراهبين الفلسطينيين، ووسم جبينيهما بأبيات من الشعر نظمها هو نفسه.
9
يوم استقامة الرأي
وتوفي ثيوفيلوس في السنة 842، وخلف خمس بنات وابنا ذكرا هو ميخائيل الثالث، وإذ كان ميخائيل هذا لا يزال في السادسة من عمره فإن الفسيلفس الراحل جعل زوجته ثيودورة وصية على ميخائيل القاصر، وعاونها في الوصاية مجلس تألف من كبار رجال الدولة، بينهم أخواها برداس وبتروناس والماييستر سرجيوس وثيوكتيستوس عزيز ثيودورة المفضل على غيره.
10
وتحدرت ثيودورة من أصل أرمني بفلاغوني شرقي، ولكنها على الرغم من هذا أحبت الأيقونات وأكرمتها، ووافقها على ذلك مجلس الوصاية، فدعت الآباء الأرثوذكسيين إلى مجمع ليحلوا ثيوفيلوس زوجها من خطيئته في اضطهاد من كرم الأيقونات، وطلبت إلى البطريرك يوحنا الكاتب أن يشترك في أعمال هذا المجمع فأبى، وادعى أن مؤامرة كانت تحاك لاغتياله فأخرجه برداس من المقر البطريركي وأودعه بيته، ثم انتخب مثوذيوس المعترف بطريركا على القسطنطينية، وذلك في الرابع من آذار سنة 843، ووافق مجمع الآباء على خلع يوحنا، واعترف برئاسة مثوذيوس، وجدد الاعتراف بقرارات المجامع المسكونية، واعتبر تكريم الأيقونات عملا مشروعا ولعن من حرمها،
11
وفي الأحد الأول من الصوم الكبير في الحادي عشر من آذار سنة 843 خرجت ثيودورة في موكب عظيم إلى كنيسة الحكمة الإلهية يواكبها كبار الرجال؛ لاستماع القداس الإلهي ولتقبيل الأيقونات ولطلب المغفرة لزوجها الراحل، ولا نزال حتى يومنا هذا نعتبر الأحد الأول من الصوم الكبير يوم استقامة الرأي.
12
لصورتك الطاهرة نسجد أيها الصالح، طالبين مغفرة الذنوب أيها المسيح الإله، إن أسرارك كلها يا والدة الإله تفوق كل إدراك وتعلو كل مجد.
التريودي الأحد الأول من الصوم
الأحزاب والكنيسة
وكانت رومة الجديدة قد ورثت عن رومة القديمة أحزابها الأربعة؛ الزرق والخضر والبيض والحمر، ثم انضم البيض إلى الخضر والحمر إلى الزرق، فانقسم سكان عاصمة الروم وأمهات مدنهم إلى حزبين رئيسين إلى زرق وخضر، وكانت الكنيسة الأرثوذكسية (ولا تزال) يونانية في فكرها ونظمها، فقالت بالديموقراطية وأشركت الشعب في جميع نواحي حياتها، فلعبت الحزبية الشعبية دورا هاما في أعمال هذه الكنيسة وأقوالها.
وشمل الزرق في ميدان السياسة الدينية الطبقتين الغنية والمتوسطة والرهبان المتطرفين، ولا سيما الاستوديين، وانضوى إلى الخضر جمهور الشعب والرعاة والكهنة ورهبان آخرون، وحارب الزرق العلوم الكلاسيكية القديمة فماشى العلماء الخضر في غالب الأحيان، فانقسمت الكنيسة إلى زرق محافظين متطرفين
Acribeia
وإلى خضر طلقاء معتدلين
Oeconomia .
واصطبغ الانقلاب الذي دبره الإمبراطور نيقيفوروس وأعوانه في السنة 802 باللون الأخضر، فأيده جمهور الشعب والأساقفة والكهنة، وقاومه الأغنياء والأشراف والرهبان، وتوفي طراسيوس البطريرك في السنة 806، فرشح الزرق المتطرفون ثيودوروس الاستودي، ولكن نيقيفوروس الإمبراطور آثر الاتزان والاعتدال، فأيد نيقيفوروس وزير المال وجعل منه بطريركا مسكونيا (806-815)، فاعترض الزرق المتطرفون على شرطونية البطريرك الجديد وقاوموه مقاومة عنيفة،
13
وتآمروا على حياة الإمبراطور،
14
وكان ما كان من أمر نيقيفوروس في حرب البلغار وسقوطه في ميدان القتال، فتألب الزرق المتطرفون على ابنه وولي عهده، وأقاموا ميخائيل الأول إمبراطورا محله، وعلا شأن الاستوديين في عهد هذا الفسيلفس، ولكن قلة خبرتهم وتطرفهم في الرأي والعمل أديا إلى الاندحار في الحرب، وإلى وصول لاوون الخامس إلى الحكم، وإلى تأجيل تكريم الأيقونات ثلاثين سنة أخرى.
وخلف نيقيفوروس على السدة المسكونية ثيودوروس كسيتراس (815-821) وأنطونيوس كاسيماتاس (821-847) فيوحنا الكاتب (837-843)، وقالوا جميعهم برفع الأيقونات من الكنائس وعدم تكريمها، وجاءت الفسيلسفة ثيودورة تكرم الأيقونات في السنة 843، فأنزلت يوحنا الكاتب عن الكرسي وراحت تفتش عن خلف له، وكانت متطرفة في عاطفتها الدينية وقالت قول الاستوديين، ولكنها آثرت وصول بطريرك معتدل إلى الكرسي المسكوني تحوطا،
15
وأوعزت بانتخاب مثوذيوس الصقلي العالم الكبير والتقي الورع وصديق زوجها المتوفى،
16
ورغب مثوذيوس رغبة أكيدة في المحافظة على السلم والوئام في الكنيسة، فابتعد في انتقاء الأساقفة الجدد عن الأوساط المتطرفة، فأثار بذلك غضب الاستوديين وأعوانهم، فهاجوا وماجوا وعابوا الأموات قبل الأحياء، فعادوا إلى الطعن في طراسيوس ونيقيفوروس، واضطر مثوذيوس أن يقطعهم من الشركة.
17
وتوفي مثوذيوس في حزيران السنة 847، ولحظ ثيوكتيستوس مستشار ثيودورة وعزيزها تكتلا في الأوساط العلمية العالية حول برداس مناظره، ففتش هذه المرة عن خلف لمثوذيوس في الأوساط المتطرفة، وقدم أغناطيوس ابن الفسيلفس ميخائيل الأول، ولم يكترث لما أبداه المعتدلون من تعلق بغريغوريوس اسبستوس صديق مثوذيوس ورئيس أساقفة سرقوسة، وكان أغناطيوس قد اشتهر بورعه وغيرته على الدين والكنيسة، ولكنه كان سريع الغضب معجبا بنفسه مستبدا برأيه.
18
أغناطيوس وبرداس (847-857)
وظلت ثيودورة تدير دفة الحكم أربع عشرة سنة (842-856)، وفي خلال هذه المدة نشبت مشادة بين ثيوكتيستوس وبرداس أخي ثيودورة، أهم أسبابها حب السلطة وشهوة الحكم، فنشأ انقسام داخلي في مجلس الوصاية أدى إلى استقالة عمانوئيل عم الفسيلفس وإلى سجن ثيوكتيستوس وقتله سنة 854، وكان السبب المباشر وشاية رفعها برداس إلى الفسيلفس الشاب أن ثيوكتيستوس عقد النية على التزوج من ثيودورة أو إحدى بناتها للوصول إلى العرش، فنشأت مشادة عنيفة بين ثيودورة وأخيها برداس حول السلطة أدت في السنة 856 إلى خروج ثيودورة وبناتها من القصر، وأصبح برداس صاحب الصول والطول.
وتوفي أحد أبناء برداس فأقامت امرأته أفذوكية في بيت عمها برداس، ولم تكن الحماة والكنة على مشرب واحد فاندلعت الشرور في البيت، وأظهر برداس عطفا على كنته فاتهمته زوجته بكنته، فطرد امرأته من البيت فالتجأت إلى أخته ثيودورة، فوبخ أغناطيوس برداس ونهاه عن المحرم، ونصح له أن يقبل امرأته في بيته فأبى برداس، وفي عيد الظهور الإلهي سنة 857 تقدم برداس مع ميخائيل الثالث ليتناول الأسرار الإلهية، فأبى البطريرك مناولته وطرده خارج الكنيسة، وحنق برداس على البطريرك أغناطيوس وطفق يسعى للانتقام منه.
واتفق أن راهبا ادعى أنه ابن ثيودورة من رجل كان لها في السابق، فأخذ الشعب ينظر إليه كأنه هو الملك المزمع بعد تنحيها، فقبض عليه برداس وزجه في السجن واستنطقه فلم يعترف، فأمر بقلع عينيه وقطع أوصاله، وكان البطريرك أغناطيوس يعطف على هذا الراهب ويدافع عنه ناسبا عمله إلى الجنون، فاغتنم برداس الفرصة واتهم البطريرك بالتآمر على الفسيلفس؛ ليرجع ثيودورة وبناتها إلى إدارة المملكة، فصدق الفسيلفس كلام برداس وأمر أغناطيوس أن يجعل ثيودورة وبناتها راهبات في إحدى الأديرة، فسألهن أغناطيوس هل يردن الدخول في سلك الرهبنة فأنكرن، فامتنع عن إجابة طلب الفسيلفس، فصدق ميخائيل أن البطريرك عدو له، فأكره والدته وأخواته على الترهب، كما أوعز إلى أغناطيوس أن ينزل عن كرسيه، فلمس أغناطيوس تعقد الأمور لمس اليد، وأدرك أن لا فائدة للكنيسة من بقائه في منصب الرئاسة، فاستعفى عن رضى واختيار، وأشار على الأساقفة أن ينتخبوا غيره «من أبناء الكنيسة»،
19
وليس من العلم بشيء أن نصر على الغي فنقول مع مرتينوس جوجي وإميل أمان : إن أغناطيوس خلع خلعا.
20
فوطيوس رئيس الكنيسة (858)
وشاورت الحكومة وفاوضت الأساقفة فاتضح لها أن الأساقفة - أصدقاء أغناطيوس - رغبوا في تطبيق القانون؛ أي في دعوة المجمع القسطنطيني إلى الانعقاد ليبحث القضية ويرفع إلى الفسيلفس أسماء ثلاثة أساقفة يرى فيهم اللياقة والكفاءة لينتقي الفسيلفس أفضلهم، فوافقت الحكومة على دعوة المجمع، وتوافد الآباء الأعضاء، ولكنهم كانوا قد تخالفوا فيما بينهم وتشاقوا في عهد أغناطيوس، فانقسموا إلى متطرفين يؤيدون أغناطيوس ومعتدلين يعارضونه كل المعارضة، ولدى اجتماعهم للبحث عن راع صالح يخلف أغناطيوس تفرقت كلمتهم واضطرب حبلهم، ثم توافقوا على أن يكون الخلف من كبار رجال الدولة أصحاب الرأي والورع والتقوى، ولم يروا في عملهم هذا خروجا كبيرا على القوانين والتقاليد، فطراسيوس ونيقيفوروس لم يكونا إكليريكيين قبل إجماع الكلمة على انتخابهما، وهكذا فإن المجمع رفع إلى الفسيلفس أسماء ثلاثة، أحدهم أغناطيوسي متطرف، والآخر معتدل معارض، والثالث حيادي - وهو فوطيوس - رئيس مجلس الوزراء
protoaskretis .
وأيد معظم الأساقفة من أتباع أغناطيوس المرشح الجديد؛ لأسباب، أهمها أنه كان أرثوذكسيا لا غش فيه، وأنه تحمل العذاب في سبيل الدفاع عن الدين القويم في أثناء حرب الأيقونات، وأنه كان أعلم أهل عصره، وأنه لم يتظاهر بالعداوة لأغناطيوس، وأنه كان يمت بصلة النسب إلى ثيودورة الفسيلسة وإلى برداس في آن واحد.
21
وكان فوطيوس كريم الأصل، يرجع في نسبه إلى أسرة يونانية قديمة تتصل بالأسرة المقدونية، وكان أبوه سرجيوس ابن أخي البطريرك طراسيوس، وكان سيافا في القصر، وكانت أم فوطيوس إيرينة شقيقة لعديل الفسيلفس ثيوفيلوس، واشتهر والداه بمناصرة الرأي الأرثوذكسي واستشهدا لهذه الغاية، ونشأ فوطيوس في القسطنطينية وتلقى علومه فيها، ثم تبحر واستبحر فأصبح واسع الاطلاع غزير المواد متقنا لعلوم اللسان اليوناني مطلعا على آدابه بصيرا بمذاهبه الفلسفية، وأحاط بسائر علوم زمانه كالفقه والطب والفلك. وكان جزيل الورع فاضلا لطيفا وديعا محبا للسلام، ولدى وصوله إلى السدة البطريركية تضلع من علم اللاهوت وخاض عباب علم التفسير واستجلى غوامضه.
وأشهر آثاره الفكرية مجموعة الميريوبيبلون
Myriobiblon «ألوف الكتب»، وفيها منتخبات من مئات المؤلفات القديمة وتعليقات هامة عليها، وكتاب الليكسيكون
Lexicon
في علوم اللغة وكتاب الأمفيلوخية
Amphilochia
وفيه الأسئلة والأجوبة في مواضيع مختلفة، وله مقالات ورسائل تحفظ رأيه في بعض المشاكل التي أثيرت في عهده،
22
ولا يختلف اثنان - فيما نعلم - في عبقرية فوطيوس وعظمته وسمو مطلبه وطهارة سيرته واستقامة عقيدته،
23
واستوظف فوطيوس فتسنم أعلى المراتب فأصبح بروتوسباتاريوس «السياف الأول؛ أي رئيس رجال المعية»، وبروتوسيكيرتيس؛ أي السكرتير الأول، ومستشارا، وأول عضو في المجلس الأعلى، وانتدب سفيرا إلى شرقنا. وعلم فوطيوس في جامعة القسطنطينية، وأصبح بيته دارا للعلم والأدب والحكمة يؤمه الأدباء والعلماء في كل يوم.
وعلا فوطيوس درجات الكهنوت بسرعة، فسيم في اليوم الأول متوحدا وفي اليوم الثاني أناغنوسطسا، وفي الثالث أيبوذياكونا وفي الرابع شماسا وفي الخامس قسا، وفي السادس أسقفا فبطريركا، ولم ير الروم آنئذ في هذه الترقية الشذوذ الذي نراه اليوم، فبولس الثالث سيم بطريركا على القسطنطينية في السنة 687 بهذه الطريقة نفسها، وكذلك طراسيوس في السنة 784، ونيقيفوروس في السنة 806. ومما يجدر قوله هنا أن رومة لم تمتنع عن الاعتراف بهؤلاء كما امتنعت عن الاعتراف بفوطيوس، وكان المتقدم في شرطونية فوطيوس رئيس أساقفة سرقوسة غريغوريوس خصم أغناطيوس، ولكنه لم ينفرد بالشرطنة - كما يزعم الأب جوجي،
24
بل عاونه فيها أسقفان أغناطيوسيان آخران.
25
وأدى «تقدم» غريغوريوس في شرطونية البطريرك الجديد إلى نفور أغناطيوس وخمسة أساقفة معه، ورغبت الحكومة في السلم والوئام، فأشارت على فوطيوس بالتسوية، فاشترط الأساقفة الخمسة على فوطيوس أن يجل زعيمهم أغناطيوس فيحسبه بطريركا بريئا من التهم الموجهة إليه، وأن يمتنع من التفوه بشيء ضده، وأن يمنع غيره عن ذلك أيضا،
26
ويرى الأب جوجي أن فوطيوس وعد ألا يقبل في الشركة من يطعن بأغناطيوس،
27
وهذا توسع في تفسير النصوص لا تجيزه قواعد المصطلح.
28
وهكذا فإن روح التضحية الشخصية وإنكار الذات، التي تجلت بتنازل أغناطيوس عن الكرسي، وبقبول فوطيوس بالشروط المفروضة؛ أنقذت الكنيسة القسطنطينية من الشقاق، فكتب فوطيوس إلى زميله بطريرك أنطاكية يبشره بحلول السلام والوئام،
29
ودون نيقيناس خبر انتهاء المشادة والمشاحنة.
30
ولكن الأحقاد ظلت توغر الصدور في الأوساط السياسية وتستوقد الغيظ، فثيودورة وأعوانها كانوا لا يزالون يبطنون العداوة لمخائيل وبرداس وينصبون لهما الحبائل الخفية، وكان أغناطيوس لا يزال يعطف على ثيودورة وكذلك بعض الاستوديين فإنهم ظلوا حاقدين متنمرين مضمرين الحزازة والضغينة، ورأى فوطيوس أن يمنع الإكليروس عن مكاشفة الحكومة بالعداوة، فاتهمه الأغناطيوسيون بالخيانة ونكث العهود، واجتمعوا في كنيسة القديسة إيرينة ونادوا بأغناطيوس بطريركا شرعيا وحرموا فوطيوس، فدعا فوطيوس المجمع القسطنطيني إلى كنيسة الرسل لبحث المشكلة الجديدة، فاعتبر الآباء عمل أغناطيوس وأعوانه غير قانوني، وأكدوا اللجوء إلى خلعه إن هو قبل الرئاسة مرة ثانية، أو عاد إلى التجاوز والتطرف الذي كان قد أدى إلى الشغب والفوضى في الكنيسة،
31
واشترك الأغناطيوسيون في أعمال هذا المجمع، ولكنهم لجئوا إلى التشويش، فقمعت الحكومة هذه المقاومة بالقوة، ونفت أغناطيوس ونقولاوس رئيس دير الاستوديون وغيرهما (859).
32
رسائل الجلوس (860)
وقضى العرف بتوجيه رسائل الجلوس إلى سائر البطاركة لتنبئ بالانتخاب الجديد وتتضمن اعترافا بالإيمان المقدس،
33
وكان الإمبراطور نيقيفوروس قد منع البطريرك نيقيفوروس عن توجيه رسالة بالجلوس إلى بابا رومة؛ نظرا لإقدام حبر رومة على شق الإمبراطورية والاعتراف بإمبراطور غربي، ولم يرض الأباطرة محاربو الأيقونات عن إرسال هذه الرسائل إلى رومة؛ نظرا للاختلاف في موقف الكنيستين الرومانية والقسطنطينية من الأيقونات، وذهبت ثيودورة التقية وبطريركها مثوذيوس إلى أبعد من هذا، فامتنعا عن تبادل الرأي مع رومة قبل العودة إلى إكرام الأيقونات المقدسة،
34
واصطدم فوطيوس بامتناع الأغناطيوسيين عن الاعتراف بسلطته، فرأى من الحكمة أن يوجه رسائل الجلوس إلى كل من بابا رومة وبابا الإسكندرية وبطريرك أنطاكية وبطريرك أوروشليم؛ راجيا أن يعينه اعتراف زملائه برسائلهم السلامية في تخفيف الأزمة في القسطنطينية، فكتب في ربيع السنة 860 إلى حبر رومة نقولاووس الأول وإلى حبر الإسكندرية ميخائيل الأول وإلى حبر أوروشليم ثيودوسيوس وإلى أيكونوموس كنيسة أنطاكية، وكان يتنازع الكرسي البطريركي في كنيستنا نقولاووس الأول البطريرك الشرعي وأفستاثيوس متروبوليت صور، ولعل هذا هو السبب الذي حدا بفوطيوس أن يرسل كتاب الجلوس باسم إيكونوموس الكنيسة الأنطاكية لا باسم البطريرك.
وجاء في رسالة الجلوس التي أرسلها فوطيوس إلى بطاركة الشرق - بعد الشكر لله على إحساناته وعلى نعمة الكهنوت ما معناه: «إني عندما أتأمل في سمو الرتبة الأسقفية وأنظر إلى الضعف البشري، ولا سيما حقارتي؛ يأخذني العجب وأحار في أمر أولئك الذي يقدمون على إثقال كاهلهم بهذا الحمل المرهق، أما أنا فيعجز لساني عن وصف الحزن الذي شملني لدى قبولي ذلك العبء الثقيل، إني لم أرتق السدة البطريركية إلا بعدما تنحى عنها سلفي، ولأني لم أجد سبيلا للتخلص من تلك المسئولية الكبرى التي اضطرني إلى تحملها الكهنة والأساقفة، ولا سيما الفسيلفس.»
35
فأبطأ الآباء البطاركة ريثما ينجلي الموقف، ثم تلقوا رسالة من زميلهم الأكبر بابا رومة (861) أعلمهم فيها أنه لم يشترك في رسامة فوطيوس أو تنزيل أغناطيوس،
36
فازدادوا تريثا وباتوا ينتظرون تطور الموقف، ثم عاد فوطيوس فكتب إلى توما متروبوليت صور يسأله ما إذا كانت الكنيسة الأنطاكية تعترف به فأجابه بالنفي،
37
بيد أن أفستاثيوس منافس نقولاووس الأول عمد بعد حين إلى الاعتراف بفوطيوس؛ لعله يستعين بهذا الاعتراف على خصمه نقولاووس، فشكر فوطيوس وطلب إليه أن يقوم إلى القسطنطينية.
38
البابا نقولاووس الأول (858-867)
وكان نقولاووس بابا رومة يهوى السياسة ويحب مزاولتها، وكانت مواهبه غير عادية ففاق سلفاءه القريبين من عهده علما وعزما وحزما،
39
وعزز رئاسته في الغرب تعزيزا فنفذت كلمته في فرنسة وألمانية، وأخضع يوحنا رئيس أساقفة رابينة بعد مشادة عنيفة.
40
وأراد نقولاووس أن يبلغ في الشرق إلى حيث لم تبلغ آمال أسلافه، فكتب إلى فوطيوس يأسف أنه ليس بإمكانه أن يعترف به فورا، وأن اعترافه سيتوقف على التحقيق الذي سيجرى من قبله في القضية.
41
المجمع الأول الثاني (861)
وفي أثناء هذا كله استؤنفت محاربة الأيقونات وذر قرن الشقاق بين الأرثوذكسيين وأصحاب الطبيعة الواحدة، وهب البولسيون والمانويون يشاغبون، فرأى الفسيلفس ومجلسه الأعلى والبطريرك الجديد أن يجمعوا مجمعا مسكونيا، وكانت الدعوة إلى هذه المجامع من حق الأباطرة، وقد مارسوها منذ عهد قسطنطين الكبير،
42
فضمن الفسيلفس رسالته إلى نقولاووس دعوة إلى مجمع مسكوني يعقد في القسطنطينية للنظر في مشاكل كثيرة،
43
فقبل نقولاووس الدعوة واعترض على أعمال مجمع كنيسة الرسل، ثم اقترح إعادة النظر في قضية أغناطيوس أمام المجمع المسكوني، وبحضور ممثليه الأسقفين رادولدو وزخريا؛ ليتسنى له الاطلاع على الحقيقة والعمل بموجب القوانين المرعية الإجراء، وأشار - بعد هذا - إلى تعدي لاوون الأسوري على حقوق البطريركية الرومانية وطلب إعادة ما سلخ عنها، وشمل هذا الطلب أبرشيات كلابرية وصقلية وأليرية ومقدونية وتسالية وآخية وداقية وميسية وبريفاليتانية،
44
ويرى الأب إميل أمان أن اللوم في هذا التوسع في الطلب يجب أن يقع على أنسطاسيوس سكرتير البابا لا على نقولاووس نفسه.
45
والتأم المجمع في ربيع السنة 861 فأعلن بولس متروبوليت قيصرية قبدوقية في الجلسة الأولى أنه لا حاجة لإعادة النظر في قضية أغناطيوس؛ لأنه خلع لذنوب اقترفها، وأن كنيسة القسطنطينية تعتبر مشكلة أغناطيوس قضية مفروغا منها، ولكن إكراما للقديس بطرس وللأب المسكوني الأقدس نقولاووس لا مانع من النظر في هذه ثانية،
46
ومثل أغناطيوس أمام المجمع وحقق معه في كيفية ارتقائه إلى الكرسي، وما إذا كان قد انتخب انتخابا أو عين تعيينا، فأجاب أن امرأة رفعت طراسيوس قبله إلى الكرسي نفسه، فاعترض الفسيلفس وقال: «بل قل إنه عين في عهد امرأة.» ثم امتنع أغناطيوس عن الحضور في الجلسة الثانية، وفي الجلسة الثالثة أكره على الحضور بأمر الفسيلفس، ولما مثل أمام الآباء اعترض على صلاحية ممثلي البابا وسأل: «من هم القضاة الذين ينظرون في قضيتي؟» فأجابه الأسقفان الرومانيان: «هم نحن والمجمع المقدس.» فأجاب: إنه لا يرضى، وأنه سيطلب تدخل البابا، وفي الجلسة الرابعة استجوب المجمع - بناء على طلب ممثلي رومة - اثنين وسبعين شاهدا عن كيفية وصول أغناطيوس إلى الكرسي البطريركي، ثم اتخذ الآباء قرارا بخلع أغناطيوس والاعتراف بفوطيوس ووافقهم على ذلك ممثلا رومة.
47
وبحث المجمع مسألة الأيقونات فأوجب تكريمها، وقاوم فرق الهراطقة بأقوال الروح فاجتذب أكثرها إلى حظيرة المخلص، ووضع قوانين تتعلق بالأديرة والرهبان فحرم تحويل المساكن إلى أديرة بدون موافقة الأساقفة ، وأوجب على الملاكين أن يتنازلوا عن حقوقهم في ملكية هذه المساكن، ومنع المجمع شرطنة الرهبان الذين لا يرغبون في الخضوع إلى رئيس معين، وأوجب الإقامة في الأديرة والابتعاد عن السكنى في المنازل الخصوصية، وفرض على كل راغب في الزهد والتقوى أن يتخلص من ممتلكاته قبل دخوله في الرهبنة، ومن أعمال هذا المجمع أن الآباء أقروا ألا يقوم بعد ذلك بطريرك من طبقة العوام أو الرهبان ما لم يتمرس في درجات الكهنوت درجة درجة ويتمم المدة القانونية فيها.
48
وقد سمي هذا المجمع الأول الثاني؛ لأنه عندما بحث أمر الأيقونات هجم محاربوها من الخارج وعطلوا جلساته بالقوة، ثم عاد إلى الانعقاد ثانية فسمي المجمع الأول الثاني.
نقولاووس وفوطيوس (861-867)
وأرسل ميخائيل الثالث أعمال هذا المجمع الأول والثاني إلى البابا نقولاووس مع أحد كتابه لاوون ومع ممثلي البابا، وزودهم بهدايا كنسية ورسالة منه إلى البابا، وكتب فوطيوس أيضا رسالة مملوءة محبة ولطفا، وبشر الممثلان سيدهما بما أحرزاه من نجاح في إعادة النظر في قضية أغناطيوس، وبما سجلاه من نصر لرومة في التدخل في شئون كنيسة القسطنطينية، فارتاح نقولاووس لذلك ووافق على الدور الذي لعبه ممثلاه في المجمع الأول الثاني، ووكل إلى الأسقف رانولدو القيام بمهمة جديدة في بلاط الإفرنج في خريف السنة 862، واستمر الأسقف زخريا في متابعة أعماله في رومة.
49
ولكنه ساء نقولاووس أن ممثليه في المجمع الأول الثاني لم يسجلا أي تقدم في أمر الأبرشيات المسلوخة التي طالب بإعادتها إلى البطريركية الرومانية. وكان فوطيوس قد أشار في رسالته إلى نقولاووس إلى استعداده للاعتراف بحق رومة في هذه الأبرشيات، ولكنه أوضح أن الفسيلفس عارض في ذلك، فاستأنس البابا بهذه الإشارات، ورأى أن يؤجل الاعتراف ببطريركية فوطيوس إلى أن ينال ما تمنى من السلطة على هذه الأبرشيات، وكتب إلى كل من ميخائيل وفوطيوس (8 آذار سنة 862) معلقا اعترافه وموافقته إلى أن يتثبت من بعض الأمور، وكتب بالمعنى نفسه إلى زملائه بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم،
50
ويشك الأب دفورنك ما إذا كانت هذه الرسائل وصلت إلى هؤلاء البطاركة في حينها؛ لأن البابا أرسلها بطريق القسطنطينية.
51
ورأى ميخائيل وفوطيوس أن الثمن الذي حدده نقولاووس كان عاليا، فصمتا صمتا طويلا، وباتا ينتظران تطور الظروف، واضطرب البابا وضاق صدره، وفيما هو ينتظر ورود الجواب أطل عليه وفد الأغناطيوسيين المتطرفين برئاسة ثيوغنوستوس
Theognostos ، وادعى هذا الوفد أنه يمثل أغناطيوس ويطالب بحقوقه وأغناطيوس براء من هذا كله،
52
فأصغى البابا إلى أقوال الوفد وظل ينتظر رد فوطيوس وميخائيل، ثم يئس فدعا أساقفته إلى مجمع في رومة في صيف السنة 863، فاستمع الآباء إلى تقرير الأسقف زخريا عن أعمال المجمع الأول الثاني، وعن الدور الذي قام به في أثناء انعقاد هذا المجمع، فاعترف زخريا بأنه تجاوز صلاحياته فقطعه المجمع وامتنع عن الاعتراف برسامة فوطيوس. ثم قطع غريغوريوس، وأعلن أغناطيوس بطريركا شرعيا على القسطنطينية.
53
وأغرب ما في أخبار نقولاووس أنه عين زخريا بعد قطعه رئيسا على دير القديس غريغوريوس، وهذا الدير كان آنئذ من أغنى أديار رومة وأهمها! ثم أعاده إلى سابق عهده في رئاسة الكهنوت وفي العمل الإداري الذي كان يقوم به قبل القطع،
54
أما رانولد فإنه رفض أن يمثل أمام الآباء في المجمع وأيد فوطيوس فوقع تحت الحرم.
55
ومضى برداس وفوطيوس في العمل معا لصالح الإمبراطورية والكنيسة، فقضيا على مقاومة الأغناطيوسيين ووطدا الأمن في الداخل، ثم أحسنا السياسة في الخارج فحالفا رستيسلاف أمير مورافية الكبرى، وهزما جيشا بلغاريا كان في طريقه إلى الحدود المورافية، وراب رستيسلاف أمر المرسلين الألمان الذين كانوا يخلطون بين الدين والسياسة في بلاده، فطلب مبشرين أرثوذكسيين يعلمون شعبه الدين القويم، فاحتار فوطيوس الأخوين قسطنطين ومثوذيوس لهذه الغاية، فقاما إلى مورافية في السنة 864 وصنفا كتبا دينية في اللغة الصقلبية ونقلا الإنجيل إليها وبشرا.
وجاء بوغوريس ملك البلغار بعد انهزامه أمام الروم سنة 864 إلى القسطنطينية، فاعتمد على يد البطريرك فوطيوس، وسمي ميخائيل في المعمودية باسم أشبينه ميخائيل الفسيلفس، وعين فوطيوس رئيس أساقفة لبلغارية وقسيسين ومعلمين، وكان نقولاووس قد طالب بمعظم الأراضي البلقانية مدعيا أن خدمة شعوبها الروحية منوطة بأسقف رومة - كما سبق وأشرنا - فجاء عمل فوطيوس مخالفا لرغبته، فاشتدت الأزمة الرومانية البيزنطية تعقدا.
وبعد أن سجلت القسطنطينية هذا النصر المبين في مورافية وبلغارية؛ رأى صاحبها ميخائيل الثالث أن يرد على نقولاووس، فكتب إليه في صيف السنة 865 كتابا مرا جعل البابا أن يقول عنه إن كاتبه قد غمس قلمه في حلق ثعبان! فلام الفسيلفس البابا بادئ ذي بدء على قلة تقديره للتضحية التي قدمتها كنيسة القسطنطينية في سبيل السلم والوئام، فأبان له أن مشكلة أغناطيوس مسألة داخلية إدارية لا تمت إلى أمور العقيدة بصلة، وبالتالي فإنه لا يحق لرومة أن تتدخل فيها. وأضاف الفسيلفس: أنه على الرغم من هذا فإن كنيسة القسطنطينية نزلت عند رغبة البابا، وسمحت بإعادة النظر في قضية أغناطيوس أمام ممثليه في المجمع، وأكد الفسيلفس أن الموجب لدعوة هذين الممثلين إلى المجمع إنما كان للنظر في أمر الأيقونات، ثم اتهم الفسيلفس ثيوغنوسطوس بالتحريض والمشاغبة، وأمر البابا أن يرسل ثيوغنوسطوس وأعوانه إلى القسطنطينية للتحقيق، وهدد بإحضارهم بالقوة إذا اقتضى الأمر،
56
فغضب البابا لكرامته - وكان سريع الغضب - وكتب في الخامس والعشرين من أيلول سنة 865 رسالة أصبحت فيما بعد موضوع اهتمام عند علماء الجدل،
57
وأهم ما جاء فيها: أن السيد له المجد هو الذي خص بطرس بهذه الصلاحيات الواسعة، وأن بطرس منحها خلفاءه من بعده، وأن رومة وحدها تفخر بإقامة بطرس وبولس فيها ووفاتهما ضمن أسوارها، وأن بعد رومة تأتي الإسكندرية وأنطاكية، أما القسطنطينية فإنها اضطرت أن تستورد رفات أندراوس ولوقا وتيموثاوس، وأضاف البابا أن هذه الامتيازات التي تمتعت بها رومة تمنحها حق الإشراف على كنيسة القسطنطينية،
58
وذهب نقولاووس إلى أبعد من هذا فحصر في نفسه حق الدعوة إلى المجامع، فاصطدم بالعرف والتقليد الشرقيين اللذين جعلا الدعوة لانعقاد المجامع من صلاحيات الإمبراطور وحده.
انبثاق الروح القدس
وفي السنة 866 هجم لويس الألماني على بوغوريس البلغاري وغلبه، فطلب البابا نقولاووس إلى لويس أن يدفع بوغوريس إلى طلب معلمين روحيين من البابا، فبادر البابا إلى إرسال قسيسين إلى بلغارية، فطعن القسيسون الباباويون بفوطيوس وأعادوا معمودية من سبق أن اعتمدوا على يد قساوسة الروم، وقالوا بصوم السبوت وفصلوا الأسبوع الأول من الصوم الكبير، وسمحوا بتناول الألبان وأكل الجبن فيه، وكرهوا البلغاريين بالقسوس المتزوجين زيجة شرعية، وعلموا أن الروح القدس منبثق من الآب والابن.
59
ولا يخفى أن كنيسة إسبانيا كانت قد بدأت تقول بانبثاق الروح القدس من الآب والابن منذ أواخر القرن السابع، وأن هذا القول كان قد شاع في بعض كنائس الغرب في النصف الثاني من القرن الثامن، ولكن كنيسة رومة كانت قد واظبت على القول بانبثاق الروح القدس من الآب فقط كما جاء في دستور نيقية، ولم تقبل إضافة العبارة «والابن»
Filioque
قبل القرن الحادي عشر، ولنا دليل واضح على هذا في موافقة البابا نقولاووس نفسه على الاعتراف بالإيمان الذي أورده فوطيوس في السنة 860 في رسالة الجلوس؛ ففوطيوس قال في هذه الرسالة: «وبالروح القدس المنبثق من الآب.»
60
ونقولاووس أكد في الثامن من آذار سنة 862 أن اعتراف فوطيوس كان مستقيما كل الاستقامة.
61
دعوة إلى مجمع مسكوني (867)
ورأى الفسيلفس في وصول اللاتين إلى بلغارية خطرا على سلامة الدولة، ورأى فوطيوس في التعاليم خروجا يجب بحثه في مجمع مسكوني، ورأى أيضا في الرسائل التي وردت عليه من بعض الأوساط الإكليريكية الغربية تذمرا من سلوك نقولاووس وسياسته ما يوجب دعوة الآباء إلى مجمع مسكوني، فوجه فوطيوس في السنة 868 منشورا إلى بطاركة الشرق وأساقفته جاء فيه: «إن إبليس لا يشبع من الشر، وإن رجالا كانوا قد نبغوا في ظلام الغرب نزلوا في الآونة الأخيرة في بلغارية نزول الصاعقة، وقفزوا قفز الوحوش ودخلوا كرم الرب المغروس جديدا، فرعوه وأبادوه بأرجلهم وأسنانهم، واحتالوا على البلغاريين فنقلوهم إلى صوم السبوت، وفصلوا الأسبوع الأول من الصوم الكبير عن جسم الصوم وجذبوهم إلى شرب الألبان وأكل الجبن فيه والشراهة. وجعلوهم يمقتوا القسوس الأفاضل المتزوجين الزيجة الشرعية - كهنة الله الحقيقيين - ولم يخشوا أن يعيدوا ميرون الميرنين من القسوس، داعين أنفسهم أساقفة مدعين أن المسحة التي يتممها القسوس باطلة لا نفع لها، فإنهم يقولون: لا يجوز للكهنة أن يقدسوا المكملين بميرون ؛ لأن هذه الشريعة خصت برؤساء الكهنة، ولم يقفوا عند هذا الحد من مخالفة الشريعة، فإنهم شرعوا بوقاحة زائدة في نغل الدستور الشريف المقدس فعلموا بأن الروح القدس ينبثق لا من الآب فقط، بل من الآب والابن، فمن ترى سمع من الكفرة أنفسهم قولا مثل هذا، من من المسيحيين يطيق أن يدخل في الثالوث الأقدس علتين فيقول إن الآب علة الابن والروح ثم إن الابن علة الروح فيحل الرئاسة الواحدة الإلهية إلى اثنين، ويمزق تعليم المسيحيين في الله، فمن أين سمعت هذا ومن أي إنجيلي جاءك هذا الصوت؟ فربنا وإلهنا قال: الروح الذي من الآب ينبثق.»
62
ثم يوضح فوطيوس أن القول بأن الآب علة الابن والآب والابن معا علة الروح؛ يوجب أن يكون الآب والابن والروح علة لأقنوم رابع، والأربعة لخامس إلى ما لا نهاية له، وأيضا أن الانبثاق من الآب كامل ولا حاجة إلى القول بأكثر منه؛ فإن كل ما يقال في الثالوث المتساوي في الطبيعة والجوهر إما أن يكون عاما للثلاثة أو خاصا بواحد منهم، فإن كان صدور الروح لا عاما لهم ولا خاصا بواحد منهم ينتج أنه ليس انبثاق للروح في الثالوث رئيس الحياة الكلي الكمال.
63
واجتمع الآباء الشرقيون في القسطنطينية سنة 867 واشتركوا في أعمال المجمع المنشود، وحكموا على البابا نقولاووس وقطعوه ونادوا بلويس الثاني إمبراطورا،
64
وهذا جل ما يجوز قوله عن هذا المجمع، فأعماله ضائعة ومعظم ما يقال عنه في بعض المراجع الغربية مأخوذ عن أعداء فوطيوس ومناظريه،
65
وهو بالتالي ناقص في العدالة لا يصلح وحده لإثبات الحقائق التاريخية، ولا يجوز - والحالة هذه - القول مع من قال: إن بطاركة الشرق لم يرسلوا نوابا عنهم، وإن فوطيوس نفسه «عين ثلاثة رهبان من أتباعه من الرعاع الأردياء الموافقين لرأيه الفاسد لينوبوا عن البطاركة».
66
ولعل الأفضل أن نقول مع الأب إميل أمان: إن الأبوكريساريوسة الثلاثة الموجودين في القسطنطينية آنئذ لتمثيل البطاركة الشرقيين نابوا عن رؤسائهم في هذا المجمع.
67
رد نقولاووس
وخشي نقولاووس المناداة بلويس الثاني إمبراطورا في المجمع، ولمس خطرا مداهما يهدد نفوذ الكنيسة الرومانية، وساءت حالته الصحية في صيف السنة 867؛ فأمر بتوحيد الجهود للرد على فوطيوس، وطلب - بصورة خصوصية - إلى عالم الكنيسة الغربية هنكمار
Hincmar
رئيس أساقفة ريمس أن يسخر علومه التاريخية لهذه الغاية، وظهرت ردود أهمها في تاريخ الكنيسة مصنف راترامنه
Ratramne
في الانبثاق،
68
وتوفي نقولاووس في الثالث عشر من تشرين الثاني سنة 867 دون أن يعلم النتيجة.
انقلاب في القصر (867)
وكان ميخائيل قد عطف على فارس مغوار استرعى نظره حينما ذلل مهرا جامحا، فأحبه وجعله أمير أخورة وهو باسيليوس مؤسس الأسرة المقدونية، وكان باسيليوس ذكيا نشيطا قديرا، ولكنه كان طموحا ملاقا، فما أن أصبح عالما بأحوال البلاط حتى أيد برداس ضد أخته ثيودورة، ثم أيد فوطيوس ليبعد عن الفسيلفس كاتم أسرار عاقلا فاضلا، ثم نصب لبرداس المكايد وغدر به، وفي الرابع والعشرين من أيلول سنة 867 هجم على ميخائيل نفسه وقتله في قصره.
ولم يرض جمهور الشعب عن ميخائيل ولم يفرح بالانقلاب سوى الزرق المتطرفين، فاضطر باسيليوس أن يداري هؤلاء ويداورهم، فأوعز إلى فوطيوس خصمهم أن يستعفي ففعل في اليوم الأول بعد الانقلاب، وفي الثالث من تشرين الثاني عاد أغناطيوس إلى الكرسي البطريركي،
69
وكان باسيليوس قد اشترك في أعمال المجمع الذي قطع نقولاووس فرأى من الحكمة أن يسرع في إعلام رومة بما تم في بطريركية القسطنطينية.
وكانت السيادة في البحر المتوسط قد استقرت في يد المسلمين، وكان هؤلاء قد استقروا في صقلية وباري وترنتوم، وكانوا يغيرون من هذه القواعد على سواحل الأدرياتيك الشرقية وسواحل إيطالية الجنوبية فيرعبون سكانها ويعرقلون تجارتها، فأدى اندفاع باسيليوس في درء الخطر الإسلامي إلى تقرب من البابا وتعاون مع الإمبراطور الغربي لويس الثاني.
المجمع القسطنطيني التاسع (869-870)
ورغب الفسيلفس الجديد في تسوية تعيد الوحدة إلى الصفوف في عاصمته، وعلمت رومة بهذه الرغبة، ولكنها توجست خوفا مما جرى في مجمع السنة 868 من تذامر الآباء الشرقيين في محاكمة بابا رومة وقطعه، وكان الآباء الغربيون قد عظموا الرئاسة ووقروها، فجعلوها فوق حكم البشر،
70
فتبنى أدريانوس الثاني (867-872) وجهة نظر نقولاووس، ودعا الأساقفة إلى مجمع في كنيسة القديس بطرس في العاشر من حزيران سنة 869،
71
فرفض الآباء قرارات المجمعين القسطنطينيين اللذين عقدا في السنة 853 والسنة 861 وحرموا فوطيوس وغضوا النظر عن هفوات الآباء الذين اشتركوا في أعمال مجمع السنة 867، ولكنهم أوجبوا إبعادهم عن مراكزهم الإكليريكية، ووافقوا على اقتراح باسيليوس الذي قضى بعقد مجمع مسكوني في القسطنطينية، ولكنهم أوجبوا على هذا المجمع قبول قراراتهم هذه دون إعادة نظر.
وافتتح المجمع أعماله في الخامس من تشرين الأول برئاسة بانس أحد كبار رجال البلاط،
72
وبحضور الوفد الروماني وممثلي البطاركة الشرقيين الثلاثة توما متروبوليت صور وإيليا كاتم سر البطريرك الأوروشليمي والأرشدياكون يوسف نائب البطريرك الإسكندري،
73
واثني عشر أسقفا قسطنطينيا، فلمس الرومانيون لمس اليد مبالغة ثيوغنوسطوس في أهمية الحزب الذي كان يؤيد أغناطيوس، ثم تكاثر عدد الأساقفة بنسبة تعاظم الضغط من القصر حتى بلغوا المائة في الجلسات الأخيرة، وعلى الرغم من توصيات المجمع الروماني بوجوب الاكتفاء بتصديق قراراته والابتعاد عن كل بحث في مواضيعها، فإن بانس أصر على استدعاء فوطيوس وأعوانه الإكليريكيين وعلى استماع ما يقولون في الدفاع عن أنفسهم، فاحتج الوفد الروماني على هذا الاستماع ثم وافق، فطلب فوطيوس للمثول ففعل، ثم طلب إليه أن يجيب عما وجه إليه من انتقاد فرفض بعزة وأنفة، فقطع هو وجميع أتباعه وكسرت قرارات بطريركيته، وفرضت رومة طاعتها فرضا، فجاء في القانون الثالث عشر أنه: «إن جسر أحد أن يتمثل بفوطيوس وديوسقوروس ويكتب كتابة، أو يقول قولا يحط من كرامة كرسي بطرس هامة الرسل فليكن محروما مثلهما.»
74
ولكن هذا الانتصار لم يدم إلا قليلا، ففي غد اليوم نفسه الذي انتهت فيه أعمال هذا المجمع (28 شباط سنة 870) تقدم بوغوريس ملك البلغار بطلب إلى المجمع يرجو فيه البت فيما إذا كانت الكنيسة البلغارية تابعة لرومة أو للقسطنطينية، فعقد أعضاء المجمع اجتماعا خاصا لهذه الغاية، ووجد رسل رومة أن باسيليوس وأغناطيوس لم يكونا أقل تمسكا بالكنيسة البلغارية، وبوجوب دوام خضوعها لكرسي القسطنطينية من برداس وفوطيوس. وعلى الرغم من احتجاج رسل البابا فإن باسيليوس وممثلي بطاركة الشرق أقروا خضوع الكنيسة البلغارية لسلطة البطريرك المسكوني، وأسرع أغناطيوس فسام عليها رئيس أساقفة يونانيا يعاونه عشرة أساقفة يونانيين، واضطر الكهنة الرومانيون ورؤساؤهم أن يغادروا بلغارية.
ويتضح مما تقدم أن موقف البطريركيات الشرقية في معضلة فوطيوس هذه كان مرتبطا بموقف الفسيلفس، فالبطاركة قاوموا فوطيوس إرضاء لباسيليوس الفسيلفس لا اعترافا «بسلطة» نقولاووس وأدريانوس أو امتثالا لأوامرهما؛ فالكنيسة الشرقية كانت - ولا تزال - تعتبر المجمع المسكوني صاحب السلطة الأولى في الكنيسة، ورئيس الكهنة فيها لا يعلو عليه رئيس من حيث درجة كهنوته، سوى المجمع (قانون الرسل). ولو كان الدافع لمقاومة فوطيوس انصياع هؤلاء البطاركة لأوامر رومة لما خالفوها في قضية بلغارية في غد اليوم نفسه الذي وقعوا فيه قرارات مجمع القسطنطينية.
اضطهاد فوطيوس والإفراج عنه (870-873)
وأمر باسيليوس بنفي فوطيوس فأبعد إلى دير سكابي في البوسفور، ووضع تحت رقابة فرقة من الجند، واعتراه مرض ثقيل فلم يسمحوا بطبيب يعالجه أو صديق يعزيه، وعروه من الكتب والأوراق، ولم يسمحوا له بالكتابة إلا نادرا. وظل فوطيوس على هذه الحال ثلاث سنوات ونيف، ثم كتب رسالته المائتين والإحدى والثمانين إلى باسيليوس فقال:
لا أذكرك بالصداقة القديمة، ولا بالأقسام الرهيبة، ولا بمسحك وسيامتك قيصرا، ولا بالرباط الذي ربطنا به تبني ابنك الصالح؛ بل إني أذكر بحقوق البشر؛ فملوك الأعاجم واليونان كانوا إذا حكموا بالموت نفذوا ولم يتركوا من حكموا عليهم أن يموتوا جوعا وخنقا بالعذاب. أما نحن فإننا نعيش عيشة أمر من الموت؛ فإننا قد حرمنا الأقارب والخدام والمعارف، ثم الكتب، وهذا - لعمري - أمر جديد، وقصاص غريب! وهل ترغبون أن لا نسمع كلام الرب؟ لا سمح الله أن تتم في عهدك اللعنة القائلة: «ويكون في تلك الأيام جوع خبز وجوع لاستماع كلمة الرب» ... فلا نطلب منك كرسيا ولا مجدا ولا سعادة ولا رفاهة، بل ما يسمح للمسجونين ... فلا تسمح بأن يضاف في ترجمة حياتك أن ملكا موصوفا بالحلم والرأفة أسلم إلى المنفى والجوع رئيس كهنة كان صديقا له وشريكا، وأنه فيما كان رئيس الكهنة يصلي من أجله دفعه إلى الموت.
المجمع القسطنطيني العاشر (879-880)
وحافظ الأساقفة والكهنة أصدقاء فوطيوس على عهودهم له ووفوا، فاضطر أغناطيوس أن يرسم غيرهم للقيام بالخدمات الروحية، فلم يلاق العدد الكافي من أصحاب اللاياقة، فكتب باسيليوس إلى أدريانوس في ذلك ورجاه أن يعدل موقفه ممن رسم على يد فوطيوس فأبى،
75
وحذا حذو أدريانوس خلفه يوحنا الثامن (872-882)،
76
وأصبحت كنيسة القسطنطينية كنيستين أغناطيوسية وفوطيوسية،
77
وكان الجيش لا يزال يذكر انتصاراته على يد برداس وميخائيل ويعتز بها، فاضطر باسيليوس أن يتقرب من فوطيوس وأعوانه ومؤيديه، وأن يشركهم في الحكم.
78
فدعا الفسيلفس البطريرك من منفاه في السنة 873 وأكرمه إكراما عظيما، وطلب إليه أن يشرف على تهذيب أولاده قسطنطين وإسكندر ولاوون،
79
ولا نعلم ما إذا كان هذا العفو شمل الأساقفة المنفيين، ولعله لم يشملهم، ولما عاد فوطيوس إلى العاصمة انصرف إلى مولاة أغناطيوس ضنا بمصلحة الكنيسة، ولعله استسمحه ونال منه الصفح في السنة 876، فإنه في كتابه عن الروح القدس يدعوه قديسا، وفي المجمع المسكوني الثامن صرح أنهما تعانقا متسالمين،
80
ويرى العلماء الباحثون أن أغناطيوس لم يعترض على شرطونية مناظره من الناحية الكنسية، وأنه اعتبره بطريركا بعد المسالمة، وأن فوطيوس مارس السلطة البطريركية في الأشهر القليلة التي سبقت وفاة أغناطيوس، وأن هذا وافق على عودة فوطيوس إلى الكرسي بعده.
81
وتوفي أغناطيوس عن ثمانين عاما في الثالث والعشرين من تشرين الأول سنة 877، فاستلم فوطيوس عكاز الرئاسة في السادس والعشرين من الشهر نفسه.
وكتب فوطيوس في أواخر السنة 877 إلى بطاركة الشرق رسائل الجلوس، ودعاهم إلى مجمع مسكوني يعيد النظر في قرارات مجمع السنة 869-870، وينظر في أمر الانبثاق، وبات ينتظر رسائل السلام، فكتب ميخائيل الثاني الإسكندري يعرب عن فرحه وارتياحه، ويشكر الله على النعمة بارتقاء فوطيوس، وأكد أن سلفه لم ينبذ شركته قط، وكتب ثيودوسيوس الأوروشليمي ينعي ما حل بالمدينة المقدسة من خراب ويستنجد بفوطيوس وباسيليوس ثم يقول: «ومن لا يعترف بفوطيوس بطريركا على المدينة الملكية فليكن محروما ولينزل من منصبه.» وأظهر ثيودوسيوس الأول الأنطاكي غمه وأسفه على الحكم بمجمع السنة 869 الذي وقعه توما باسم كنيسة أنطاكية، وطلب الصفح لنائبه وختم رسالته قائلا: «ومن لا يعترف بفوطيوس بطريركا يكون ملعونا من الآب والابن والروح القدس.» وأوفد البطاركة قوزما وباسيليوس وإيليا لينوبوا عنهم في المجمع المسكوني،
82
ويلاحظ هنا أن البطاركة لم ينتظروا تعليمات رومة وإرشاداتها قبل الإقدام على الاعتراف ببطريركية فوطيوس، وأنهم لعنوا من لا يعترف بها!
ثم كتب باسيليوس إلى يوحنا الثامن بابا رومة يعلمه بارتقاء فوطيوس ويرجو الاعتراف به والاشتراك في مجمع مسكوني للتعاون في جعل الوضع في القسطنطينية قانونيا، وكتب فوطيوس كتابا لطيفا وأردفه برسائل السلام التي كانت قد وردت من البطاركة الشرقيين.
83
وكان التيار الإسلامي يهدد إيطالية ورومة، وكانت آمال يوحنا الثامن في مساعدة فرنسية أو ألمانية قد خابت، فأكرم هذا البابا الوفد البيزنطي الذي حمل رسائل الجلوس، وأظهر ارتياحا لما تم في القسطنطينية، ووافق على رجوع فوطيوس إلى منصبه، وألغى المجامع السابقة التي عقدت ضده، وطلب لقاء ذلك أن لا يتدخل فوطيوس في أبرشية البلغار، وألا يرتقي علماني بعد ذلك عرشا أسقفيا، وأن يعتذر فوطيوس نفسه عما مضى أمام المجمع، وعين البابا الكردينال بطرس نائبا عنه وحمله رسائل إلى باسيليوس وفوطيوس، وبطاركة الشرق وأساقفة الكرسي القسطنطيني وإلى الأغناطيوسيين وإلى النائبين الرسولين الأسقفين أوجانس وبولس اللذين كانا قد أرسلا إلى القسطنطينية قبل ارتقاء فوطيوس للبت في القضية البلغارية، والقضاء على البطريرك أغناطيوس إذا لم يرفع ولايته عن بلغارية، وأردف هذه كلها بكتاب التعليمات
Commonitorium .
84
ووصل الكردينال بطرس إلى القسطنطينية، فاشترك في المفاوضات التمهيدية التي كانت قد بدأت بين زميليه الأسقفين أوجانس وبولس وبين البطريرك فوطيوس، واتفق الطرفان في جميع الأمور التمهيدية، ولم يختلفا إلا في أمر اعتراف فوطيوس بخطئه أمام المجمع، فالبابا كان قد جعل هذا الاعتذار شرطا أساسيا للاعتراف ببطريركية فوطيوس، وفوطيوس رأى أن ما قاله في مجمع السنة 867 ضد نقولاووس جاء ردا على تدخل هذا الحبر في شئون كنيسة القسطنطينية الداخلية، وأنه إذا كان قد تجاوز حدود الدفاع عن النفس في ما قاله في هذا المجمع فإن ممثلي رومة تجاوزوا حدود القانون في الحكم عليه قبل التحقيق والتدقيق، وأضاف فوطيوس أنه اعتذر لأغناطيوس نفسه وتسالم معه، ورأى الوفد الروماني في تنازل فوطيوس وباسيليوس عن أبرشية البلغار، وفي استعداد الفسيلفس للتعاون في صد المسلمين عن إيطالية ورومة ما يبرر التراجع عن أمر الاعتذار موضوع البحث، فوافقوا على ذلك وتحملوا مسئولية هذا العمل تجاه الحبر الروماني.
85
والتأم المجمع في أوائل تشرين الثاني سنة 879 في كنيسة الحكمة الإلهية مؤلفا من ثلاثمائة وثلاثة وثمانين أسقفا خاضعين لفوطيوس ما عدا نواب رومة والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، وتغيب الفسيلفس عن الحضور بداعي الحزن على ابنه قسطنطين فترأس الجلسات فوطيوس نفسه،
86
وبعد تبادل السلام بين فوطيوس ونواب الكنائس الشقيقة ألقى خطبة الافتتاح زخريا متروبوليت خلقيدونية، فأوضح أسباب الاضطراب وذكر المصائب التي حلت بفوطيوس، ثم وجه كلامه إلى نواب رومة فقال: «لقد عقد هذا المجمع لأجلكم ولأجل كنيسة رومة المقدسة كي لا يقول المشاقون إنكم رؤساء القلاقل والاضطرابات، لقد حسم الخلاف بنعمة الله، وبسعي إمبراطورنا محب المسيح، وبصلوات بطريركنا اللائق للقداسة، وبالتفاهم الذي تم بين البطاركة الشرقيين الثلاثة، وبصلوات البابا يوحنا اللائق بالقداسة وتضرعاته.»
87
فأمن المجمع لكلامه، وقال الكردينال بطرس: «والبابا يوحنا يشارك فوطيوس في الرأي؛ ولهذا السبب أرسل له بدلة رئاسة الكهنوت.» ثم ختمت الجلسة بالدعاء لجميع البطاركة.
وفي الجلسة الثانية في الثالث عشر من تشرين الثاني قرئت رسائل البابا إلى الفسيلفس وإلى فوطيوس، وقد اختلف العلماء مدة طويلة من الزمن في صحة نصها، فقال الأرثوذكسيون منهم بصحة النص اليوناني كما ورد في أعمال المجمع، وقال الغربيون بتشويه النص الأصلي واتهموا فوطيوس نفسه بهذا التشويه واعتمدوا النصوص اللاتينية الباقية، ثم قضت العناية بأن ينبري لبحث هذه الرسائل وتدقيقها عدد من جلة علماء الكنيسة اللاتينية الشقيقة، نخص بالذكر منهم الأب إميل أمان مدير موسوعة اللاهوت الكاثوليكية، والأب فرنسيس دفورنيك أستاذ التاريخ الكنسي في جامعة براغ، والأبوين غرومل ولوران، ونظر هؤلاء العلماء في التفاوت بين النصين اليوناني واللاتيني فلم يثبت القول بالدس على فن النقد الحديث، وارتأى الأب أمان أن يكون الوفد البيزنطي قد اطلع على نصوص الرسائل الباباوية بعد إدراج أصلها في السجل، فلما لم يجدها موافقة للتفاهم والاتحاد عرض أن تعدل فعدلت فحملها الكردينال بطرس معدلة إلى القسطنطينية فقرئت معدلة وضمت إلى أعمال المجمع بنصوصها المعدلة،
88
وعني سيادة متروبوليت بيروت وجبيل كيريوس فيليبوس في السنة 1937 بنقل خلاصة ما كان قد تم من هذه الأبحاث إلى العربية، فدبج بيراع المحبة المسيحية سلسلة مقالات عنوانها: «هل زور فوطيوس رسائل البابا يوحنا الثامن»، ونشرها في أعداد مجلة المسرة لتلك السنة فأجاد وأفاد.
وبعد قراءة هذه الرسائل سأل الكردينال بطرس: هل يقبل المجمع فحواها؟ فأجاب المجمع أنه يقبل كل ما جاء فيها عن السلام وعن البطريرك، أما ما يتعلق منها بإرادة الفسيلفس فالأمر فيها له، فقال الكردينال: لقد ورد في كتاب التعليمات الذي أحمل ألا يرسل الشرق بعد الآن أموفوريونا إلى بلاد البلغار، فذكر فوطيوس ما كتبه إلى البابا نقولاووس وأكد أنه لم يشرطن لكنيسة البلغار أحدا بعد عودته إلى الكرسي، ثم قال بروكوبيوس قيصرية: إننا نؤمل - برحمة الله ودعاء سيدنا ورئيس كهنتنا - أن تخضع الأمم كلها لملوكنا المقامين من الله، وحينئذ يعينون لكل أبرشية بإلهام من الله، فأمن المجمع لكلامه، وقالوا: إن هذه المسألة ليست روحية بل مدنية، وإنهم لم يجتمعوا ليوزعوا أبرشيات، ثم طرح نواب رومة مسألة أخرى، فقالوا: وكيف رقي فوطيوس إلى الكرسي قبل وصولهم؟ فأجاب الأساقفة إنه تم باتفاق الأساقفة واعتراف البطاركة كلهم، ثم سرد فوطيوس تاريخ بطريركيته مستهلا بالقول: «إني لم أشته هذا الكرسي مطلقا.» ثم ذكر انتخاب الأساقفة والكهنة وإلحاح الحكام عليه ثم عزله وشكره لله، وأكد أنه عاد إلى البلاط بدون وساطة، وأن أغناطيوس نفسه أقامه نائبا بطريركيا، وأنه لم يقبل عكاز الرعاية ثانية إلا بعد وفاة سلفه وضغط الفسيلفس وإلحاح الكنيسة، فقال الأساقفة: «نعم كل هذا جرى تماما.» وقرئت رسائل البطاركة وسمع الأعضاء نص الحرم الذي وضعه البطريرك الإسكندري على من مثله في المجمع السابق، وعلموا أن توما متروبوليت صور ندم وطلب الصفح.
وفي الجلسة الثالثة في التاسع عشر من تشرين الثاني قرئت رسالة البابا يوحنا إلى بطاركة الشرق، وحقق في أمر نواب هؤلاء البطاركة الذين اشتركوا في مجمع السنة 869، فتبين أنهم إنما مثلوا أمير العرب لا رؤساءهم.
وفي الجلسة الرابعة في الرابع والعشرين من كانون الأول تليت رسائل جديدة من بطريركي أنطاكية وأوروشليم، حملها باسيليوس متروبوليت مرتيروبوليس، فتبين منها أن اعتراف البطاركة لم يكن ضروريا لوصول فوطيوس إلى كرسي الرئاسة،
89
وتلي كتاب البابا إلى الفسيلفس ونص الكومونيتوريوم فترك البت في قضية بلغارية إلى الفسيلفس، ولا سيما وأن يوحنا وفوطيوس أصبحا أخوين متفقين متحابين، وأعيد البحث في شرطونية العوام، فقاوم الأساقفة اقتراح رومة مقاومة أشد من الأولى، وألغيت قرارات مجمع أدريانوس ومجمع السنة 869، وقرر المجمع اشتراك جميع الأساقفة في خدمة القداس في اليوم التالي يوم عيد الميلاد.
90
وعاد المجمع إلى العمل في السادس والعشرين من كانون الثاني، سنة 880، فأقر في جلسته هذه الخامسة أن يعتبر المجمع النيقاوي الثاني مجمعا مسكونيا، وأن يعرف بالمجمع المسكوني السابع، وأوفد المجمع ثلاثة من أعضائه إلى متروفانس متروبوليت أزمير لينقلوا إليه رغبة المجمع في اعترافه برئاسة فوطيوس، فاعتذر متروفانس بداعي المرض، فقرر المجمع قطعه من الشركة إلى أن يعترف بسلطة البطريرك، ثم سن المجمع قوانين ثلاثة بناء على اقتراح الوفد الروماني، وقضى الأول أن يحرم فوطيوس من يحرمه يوحنا من رجال إكليروسه أو أبناء رعيته المقيمين في أوروبة وآسية وإفريقية، وأن يقابل يوحنا فوطيوس بالمثل، وأن التقدم الذي للكنيسة الرومانية يبقى على حاله بلا إحداث ولا تغيير إن في الحاضر والمستقبل،
91
ومنع القانون الثاني الأساقفة - الذين لجئوا إلى الأديار رهبانا - عن العودة إلى وظائفهم السابقة، ولعن المجمع في القانون الثالث كل علماني يجرأ على ضرب أسقف.
ووقع بولس أسقف أنكونة أولا، ثم أوجانس، فبطرس، ثم ممثلو البطاركة الشرقيين، ثم سائر أعضاء المجمع، وكان الفسيلفس لا يزال قابعا في قصره، محزون الصدر لهيف القلب على فقد قسطنطين، وكان لا بد من موافقته على قرارات المجمع؛ لتصبح نافذة سارية المفعول، فأم الأعضاء القصر في الثالث من آذار وخلا الفسيلفس بالوفود وبثمانية عشر متروبوليتا وبالبطريرك، وقضى العرف بأن يعلن الآباء إيمانهم، فاقترح باسيليوس إضافة نص الدستور النيقاوي القسطنطيني إلى أعمال المجمع فوافق الرؤساء، فوقف بطرس رئيس الكتبة، وقال: إننا نحافظ على تعليم المسيح وأوامر الرسل وشرائع المجامع السبعة المسكونية وتعاليمها كما تسلمناها، ونرفض ما رفضوه ونقبل ما قبلوه، وعليه: فإننا نقبل بالقلب واللسان دستور الإيمان الواصل إلينا منهم منذ القديم، ونقرأه في كل مكان علنا ولا نحذف منه ولا نزيد عليه ولا نبدل فيه ولا نزيفه؛ لأن هذه كلها من أعمال المحال الخبيث، فالمجمع المقدس المسكوني الحالي يعانق بالشوق الإلهي وباستقامة الذهن دستور الإيمان القديم ويوقره، وعليه يؤسس ويبني حقيقة الخلاص ويهتف للجميع أن يرتئوا ويعلموا هكذا:
أؤمن بإله واحد آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ... إلخ، وبالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب المسجود له والممجد مع الآب والابن الناطق بالأنبياء ... إلخ.
فهكذا نعتقد وعلى هذا الاعتراف تعمدنا وبه طحنت كل هرطقة، وأما الذين يغيرونه أو يبدلونه أو يمسونه بكلمات غريبة أو بزيادة أو بنقص فبحسب حكم المجامع السابقة المسكونية، إن كانوا من الإكليروس فليقطعوا قطعا نهائيا، وإن كانوا من العوام فليحرموا بالأناثيمة.
92
فقال الأساقفة: جميعنا هكذا نعتقد، وعلى هذا الاعتراف تعمدنا، وعليه أهلنا لدرجة الكهنوت، فالذين يعتقدون غير هذا الاعتقاد هم أعداء الله والحقيقة.
وفي الثالث عشر من آذار اجتمع الأعضاء في كنيسة الحكمة الإلهية فتلي اعتراف الإيمان عليهم، فصدقوا عليه وعلى أعمال الجلسة السادسة، ونادى الجميع أن كل من لا يعترف برئاسة كهنوت فوطيوس لا ينظر مجد الله.
وأدت مشاحنات الانشقاق فيما بعد إلى التطرف في الجدل، فشاع في الأوساط اللاتينية الغربية أن أعمال الجلستين السادسة والسابعة مزورة، وأن فوطيوس نفسه زورها،
93
ثم قام الكردينال هرغنروتر
Hergenrother
وصارح زملاءه في الغرب بأنه ليس في محتويات هذه الأعمال ما لا يتفق وعرف الآباء، وأضاف أن تقاليد القصر في ذلك العهد قضت ببقاء الفسيلفس في قصره في حالة الحزن ستة أشهر كاملة،
94
والواقع أن الآباء كانوا قد ذيلوا أعمال كل مجمع مسكوني باعتراف بالإيمان سموه هوروسا
horos ،
95
وأنهم اضطروا اضطرارا في هذه المرة أن يجتمع رؤساؤهم بالفسيلفس في قصره أولا ليقروا الهوروس وينالوا التصديق، وأن يجتمعوا جميعا لتلاوة الهوروس والاعتراف به،
96
وليس في هذا الهوروس ما لا يتفق وتقليد الكنيسة الرومانية آنئذ؛ فإنها كانت لا تزال تقول بالانبثاق من الآب مخالفة بذلك كنائس إسبانيا وغالية.
97
يوحنا الثامن والمجمع
ورضي يوحنا الثامن عن فوطيوس واعتبره بطريركا شرعيا على كنيسة القسطنطينية وابتهج لحلول السلام والوئام في هذه الكنيسة، وحرر إلى باسيليوس وفوطيوس بهذا المعنى،
98
وظل راضيا حتى وفاته، ولم يقطع فوطيوس من الشركة مرة ثانية، ولم يقع أي انشقاق آخر بين الكنيستين في أيامه،
99
وقد ضل بارونيوس وهرغنروتر وهفله وغيرهم من علماء الغرب عندما رأوا أن يوحنا الثامن لم يعترف بفوطيوس نهائيا، ولم يؤيد حكم هذا المجمع، وأنه أرسل الكردينال مارينس إلى القسطنطينية للتثبت مما جرى، فلما أبلغه هذا أن فوطيوس زور رسائله عاد فحرمه حرما عظيما،
100
والسبب في هذا التساقط في الضلال أن هؤلاء العلماء اعتمدوا مراجع مغرضة، أهمها ملحق مجمع السنة 869 الذي نشره لأول مرة الأب رادر اليسوعي سنة 1604، ثم أدرج فيما بعد في مجموعة هاردوين ومانسي،
101
وواضع هذا الملحق عدو لفوطيوس، لا تقبل شهادته بدون تجريح، وقد انفرد في الحرم الثاني، ولم يشر إليه أحد غيره. ولنا في أقوال الثناء التي فاه بها فوطيوس مادحا يوحنا بعد المجمع؛ ما يؤيد دوام المحبة والوفاق بين هذين الحبرين، فقد دعا فوطيوس يوحنا الثامن «قديسا» في رسالة وجهها إلى رئيس أساقفة أكيلا في السنة 884، وجاء في كتاب فوطيوس عن الروح القدس ما معناه: «أما يوحنا فإنه خاصتي، ويحق لي أن أدعوه هكذا لأسباب كثيرة أهمها أنه انتصر لي أكثر من غيره، وهو قوي بعقله وتقواه وبغضه للظلم والكفر، وهو خليق بأن يدير الشرائع المقدسة والشرائع السياسية، وأن يرد كل شيء إلى النظام، وهو الذي ثبت بواسطة نوابه قرارات المجمع فيما هو من قانون الإيمان.»
102
ولم يحد خلفاء يوحنا عن خطته هذه، ولم يقطع أحدهم فوطيوس عن الشركة، وهو قول يؤيده رجال الاختصاص ويجمعون عليه، والشقاق الثاني وهم قضى عليه العلم النزيه ونبذه التاريخ الصحيح.
سنو فوطيوس الأخيرة (886-897)
وتوفي باسيليوس الفسيلفس في السنة 886، فخلفه ابنه لاوون السادس الملقب بالحكيم، (886-912)، ولدى ارتقائه دس أعداء فوطيوس الوساوس وأقنعوا الفسيلفس الجديد أن الواشي به لأبيه كان ثيودوروس الساحر، وأشركوا مع هذا بالتهمة فوطيوس نفسه، فعزل لاوون فوطيوس؛ إما لأنه صدق الوشاية، أو لأنه أحب أن يجلس أخاه اسطفانوس بطريركا، أو للأمرين معا. ونفى لاوون فوطيوس إلى دير الأرموريين، فقضى البطريرك العظيم سني حياته الأخيرة في المنفى بعيدا عن أصدقائه معتزلا، وتوفي بعد ذلك بنحو عشر سنوات، ولا نعلم شيئا عن هذه السنوات الأخيرة التي قضاها فوطيوس في الوحدة.
تطويبه
ولا نعلم بالضبط متى طوب فوطيوس، أو من طوبه، وليس في هذا النقص في المعلومات ما يدعو إلى التحذر والتيقظ، فالتطويب في الكنيستين اليونانية واللاتينية كان لا يزال عملا فرديا - في غالب الأحيان - ولم يكن منوطا برئيس الكنيسة وحده، بل كان مباحا لأي أسقف من الأساقفة أن يطوب من يراه لائقا بالتطويب،
103
وحصر تطويب فوطيوس بين السنتين 966 و998 وجعله في عهد البطريرك سيسينيون؛ هو اجتهاد - في حد ذاته - قام به الأب مرتينوس جوجي،
104
وجل ما يجوز قوله هو أن اسم فوطيوس يرد مطوبا تطويبا كنسيا كاملا لأول مرة في سينكساريون في دير الصليب الأقدس في القدس يعود إلى القرن العاشر أو الحادي عشر،
105
وأنه بدأ يظهر في هذا الوقت نفسه أيضا في سنكساريات القسطنطينية،
106
ويرى الأب دفورنك أن بعض أتباع فوطيوس بدءوا بتطويبه بعد انتقاله بفترة وجيزة.
107
وبينما نرى سرجيوس والد فوطيوس مطوبا معترفا
homologetes
تحت اليوم الثالث عشر من آذار؛ نجد فوطيوس نفسه مطوبا تحت السادس من شباط قديسا عجائبيا
thaumatargos ، وذلك في سينكساريون باريز رقم 1294، والعجيبة التي جرت على يده هي اندحار الروس أمام القسطنطينية في السنة 860.
لنمدح الآن بأزهار النشائد قيثار الروح القدس اللاهج بالله، كوكب الكنيسة الباهر الضياء، المرشد الإلهي للمستقيمين للرأي، المقاوم للبدع، الكلي الثبات. ولنصرخ نحوه هاتفين: السلام عليك أيها القديس فوطيوس الكلي الإكرام.
أورولوغيون
الفصل التاسع
عصر الروم الذهبي
843-1025
ضعف الدولة العباسية
واشتد نفوذ الأتراك في بغداد، وعلت أصوات الجواري أمهات الأمراء، وثار العلويون مطالبين بالعرش، ونفر العرب من بني العباس، فتصرف طاهر بن الحسين وخلفاؤه في النفوس لمصلحتهم في خراسان، واستقل حسن بن زيد الديلم في طبرستان وجرجان، وتغلب الصفاريون في سجستان وغيرها، وأرادوا مهاجمة بغداد (874)، واستطاع أفاق أن يصبح سيد البصرة، وأن يمد سلطانه إلى أبواب بغداد. وسلخ أحمد بن طولون التركي مصر والشام وأخذ يجمع الضرائب لحساب نفسه (877)، واكتفت بغداد بتحريض بعض أمراء الشام عليه، ثم اعترفت دمشق بسلطة خمارويه بن أحمد بن طولون، فقضى على الأحزاب المعادية (889) واتخذ دمشق قاعدة لملكه.
فتوحات باسيليوس الأول
واستغل باسيليوس الأول هذا الظرف لصالحه وصالح الروم فقام يحارب على طول الجبهة الإسلامية من شاطئ قيليقية حتى أرمينية وطرابزون، ونجح في دفع المسلمين إلى الوراء في حروب متتالية بين السنة 871 والسنة 882، فاحتل الممرات الرئيسية عبر طوروس وقاتل البولسيين ودخل عاصمتهم تفريقية في السنة 872 وذبح خريسوخيروس صاحبها وعرض رأسه في موكب النصر في القسطنطينية، وفي السنة التالية احتل زبطرة وسميساط، وعند السنة 877 كان قد احتل لؤلؤة وجميع ما وقع بين قيصرية ومرعش وأصبح سيد جبال طوروس بسلسلتها وممراتها. وسره أن الخليفة المعتمد اعترف في السنة 885 بدولة أرمينية مستقلة بزعامة أشوت، فأسرع يعترف هو بدوره بالملك الجديد مؤكدا أن أرمينية ستظل أعز حليفات الإمبراطورية.
وأدرك باسيليوس خطورة الموقف في البحر المتوسط، فإن المسلمين كانوا قد استقروا في صقلية وجنوب إيطالية، وكان قد تبين جليا أن الأمراء اللومبارديين لا يقوون على الصمود في وجه المسلمين، وأن الإمبراطور الغربي لويس الثاني كان قد أصبح ضعيفا، وكان قد أم القسطنطينية وفدان؛ أحدهما يمثل لويس الثاني والآخر يمثل البابا، ليحثا الفسيلفس على صيانة النصرانية، فهب باسيليوس في السنة 868 وأنفذ أسطولا قويا بقيادة نيقيطاس ، وقدر النجاح لهذا القائد فأعاد النظام والأمن إلى بحر الأدرياتيك، وعادت مدن دلماتية إلى حوزة الفسيلفس، واعترفت دويلات الصرب والكروات بسيادة القسطنطينية. وضرب نصر السوري بوارج المسلمين ضربات أليمة في مياه إيطالية الغربية، وأحرز نصرا كبيرا بالقرب من جزر ليباري، فدخلت كابوا وسالرنو ونابولي وغيرها في حماية الروم، ودخل البابا يوحنا الثامن في حلف مع الروم، وجاءت السنة 885 فأحرز القائد نيقيفوروس فوقاس انتصارات برية عديدة، تمكن بها من استعادة مقاطعات إيطالية الجنوبية من يد المسلمين، فأنشأ في السنة 886 ثيمة لانغوبردية وثيمة كلابرية، وقوت الكنيسة الأرثوذكسية أبرشياتها في هذه المنطقة عينها.
لاوون السادس (886-912)
ولم يكن لاوون السادس «الحكيم» رجل حرب كوالده فلزم القصر واهتم بشئون السلم والعلم والدين، وسنعود إلى أثره في نظم الكنيسة فيما بعد، وكانت أقريطش قد أصبحت مأوى قرصان المسلمين وملجأهم، وقام لاوون الطرابلسي في السنة 904 بهجوم جريء على القسطنطينية، ثم انثنى من تلقاء نفسه على ثسالونيكية، وقدر له أن تكون خالية من الحامية فدخلها عنوة، وقتل ونهب، ثم سبى اثنين وعشرين ألفا من الشبان والشابات، فباعهم في أسواق الرقيق في الخندق في أقريطش وفي طرابلس، فهب هيماريوس في السنة 906 فانتصر على المسلمين انتصارا كبيرا، وتشجع وتقوى، فقاد في السنة 910 حملة بحرية على أقريطش نفسها، فأخفق إخفاقا كبيرا، وفي السنة 901 سيطر المسلمون على مضيق مسينة، وفي السنة التالية تم استيلاؤهم على صقلية، فأعلن أمير القيروان أنه «سوف يخرب مدينة الشيخ الهرم بطرس نفسها».
قسطنطين السابع ورومانوس الأول (912-959)
وتوفي لاوون السادس في السنة 912، وكان قد جعل للدولة أباطرة ثلاثة: هو نفسه وأخاه ألسكندروس وقسطنطين السابع الأرجواني المولد، وكان قسطنطين لا يزال في السادسة من عمره، فتسلم مقاليد الوصاية عمه ألكسندروس، ثم توفي هذا في السنة 913 بعد أن أقام مجلس وصاية برئاسة البطريرك، وفي السنة 919 احتل القائد رومانوس ليكابينوس البلاط، واستحوذ على شخص الفسيلفس الصغير وأزوجه من ابنته، وأعلن نفسه أبا الملك، ثم قيصرا، ثم فسيلفسا.
وكان الخلفاء العباسيون لا يزالون مغلوبين على أمرهم؛ لقلة طاعة الجند ولشدة نفوذ الخدم ، ولدسائس أمهات الأمراء ووشاياتهن ومؤامراتهن، ولشغب الجند على القادة وتنازع هؤلاء السيادة، وكان أن شعر الولاة بضعف الخلفاء فانصرفوا إلى جمع المال، فعمد الخلفاء إلى اغتيال الولاة فكثر العصيان واضطربت الأحوال.
وقبيل انتهاء الحرب البلغارية حطم الروم عمارة لاوون الطرابلسي في مياه لمنوس (924) ونجا لاوون نفسه بأعجوبة! وما إن وضعت الحرب البلغارية أوزارها في السنة 927 حتى بادر الروم إلى الهجوم وهب قائدهم غرغون
Courcouas
إلى القتال في آسية الصغرى، فأحرز انتصارات متتالية، وتمكن من جعل دجلة والفرات الحد الفاصل بين الروم والعرب بدلا من الهاليس، وعاون غرغون في هذه الحروب عدد من كبار الضباط قدر لهم فيما بعد أن ينتصروا هم أيضا كما انتصر غرغون نفسه، وأشهر هؤلاء ثيوفيلوس بن غرغون وبرداس فوقاس وابناه نيقيفوروس ولاوون، ففي السنة 928 احتل الروم أرضروم وأخرجوا المسلمين من أرمينية، وفي السنة 934 استولوا على ملاطية، ثم ناوأهم سيف الدولة صاحب الموصل، وتمكن من إيقاف تقدمهم، ولكنهم عادوا إلى الهجوم بين السنة 941 والسنة 942، فاحتلوا دارا ونصيبين وميافارقين وقاربوا حلب، وفي السنة 944 توج غرغون انتصاراته بأن نقل بموكب فخم «منديل السيد» الذي كان قد احتفظ به أبجر ملك الرها من هذه البلدة إلى القسطنطينية.
دولة الحمدانيين (942-1003)
ولم يقع أي تمزيق جديد في جسم الدولة العباسية في أيام المعتضد (892-902) والمكتفي (902-908)، ولكن في عهد المقتدر (908-932) عادت الدولة إلى ما كانت عليه من التفكك، ثم أضاع القاهر (932-934) والراضي (934-940) والمتقي (940-944) والمستكفي (944-946) آخر ولاياتهم، فاضمحلت بذلك سلطة الخليفة الزمنية بكاملها.
وكان بين الطامعين في الملك والسلطان في أثناء هذا الانحلال بعض القبائل البدوية العربية، ولعل أشهر هؤلاء بنو تغلب؛ فإن كبيرهم الأمير عبد الله بن حمدان تمكن في السنة 905 في عهد المكتفي من الاستئثار بالسلطة في الموصل ونواحيها، وتمكن ولداه حسن وعلي في السنة 942 من انتزاع اللقبين ناصر الدولة الأول وسيف الدولة الثاني، وتوغل سيف الدولة في الجزيرة في السنة 937، وفي السنة 944 دخل حلب وأسس فيها دولة دامت حتى السنة 1003، وبقي ناصر الدولة في الموصل يسكن الفتن في بغداد، بينما هب سيف الدولة يمتشق حسام الإسلام في وجه الروم، وما فتئ كذلك حتى أدركته المنية في السنة 967.
ولما استقر سيف الدولة في حلب وجعلها عاصمة لملكه وقاعدة لأعماله الحربية تحول القتال الرئيسي بين الروم والمسلمين من جبهة أرمينية إلى خط جديد امتد من قليقية حتى ديار بكر، وانتقلت المبادرة في هذه الحروب إلى الروم. ويرى رجال الاختصاص أن انتصار الروم على المسلمين في القرن العاشر لم يكن نتيجة ضعف العباسيين فحسب، بل إنه تأتى عن تجديد عند الروم وتيقظ وتنشط، وأن هؤلاء - وإن اختلفوا في العنصر - فقد اتحدوا في الأرثوذكسية وفي المفاخرة بأمجاد ماضية، وشعروا بوجوب إعادة النظر في أنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبوجوب إتقان الجيش وتكميله؛ ليتأتى بالفائدة المطلوبة، فالروم في القرن العاشر في نظر هؤلاء كانوا في يقظة ونشاط لا في غفلة وانقسام.
1
وأثقل الحمدانيون كاهل العشائر الضاربة في الجزيرة بالضرائب، وبين هؤلاء بنو حبيب، وكان بنو حبيب تغالبة أيضا، فشق عليهم الأمر، فانقبضوا ثم خرجوا للقتال، فجرد عليهم ناصر الدولة في السنة 935 فقهرهم، فعولوا على الرحيل فقاموا عشرة آلاف فارس بنسائهم وأولادهم وعبيدهم وقطعوا الحدود والتجئوا إلى الروم وعادوا إلى النصرانية دين الجدود، وحذا حذوهم غيرهم من عشائر الجزيرة.
2
وفي السنة 938 سجل سيف الدولة انتصاره الأول على الروم أمام حصن زياد فدخله عنوة، ثم خرج منه يقاتل فأدركه الروم بين حصن زياد وحصن سلام، فدارت الدائرة على الروم - فيما يظهر - وتغنى أبو فراس بالنصر، وفي السنة 939 أنفذ الروم حملة إلى القوقاس لتأديب الكرج؛ لأنهم امتنعوا عن غزو المسلمين على الرغم من كونهم أرثوذكسيين يدينون بدين الفسيلفس، فاستنجد الكرج الحمدانيين، فهب سيف الدولة لمعونتهم وأجلى الروم عن بلادهم، وفي الربيع التالي توغل سيف الدولة في بلاد الروم فأصبح زعيم الجهاد الأكبر وعدو النصرانية عند الروم.
وشغلت سيف الدولة ما بين السنة 940 والسنة 944 مشاغل في عاصمة الخلافة كان محورها السلطة العليا، فانقض الروم على قيليقية في خريف السنة 940 ووصلوا إلى منطقة كفر توتة، ثم شغلوا في أوروبة فتراجعوا. وعادوا في مطلع السنة 942 فانطلقوا في سهول قيليقية حتى حدود سورية، ثم انقض غرغون في خريف هذه السنة نفسها على مقاطعة ديار بكر، فاستولى على ميافارقين - كما سبق وأشرنا - وكان ما كان من أمر المنديل.
وفي السنة 944 دخل سيف الدولة حلب وحمص وانتزعها من يد الإخشيديين، فانطلق الروم في منطقة مرعش ومنطقة بغراس حتى مداخل أنطاكية، فرد سيف الدولة بإغارة في منطقة عرابسوس، وجاءت السنة 946 فتبادل الخصمان الأسرى عند لامس سلفكية. وفي ربيع السنة 948 خرج الروم من ملاطية وسميساط واتجهوا نحو الجزيرة؛ ليستولوا على ممر الحدث مرعش، فصمد سيف الدولة في معركة جلباط الوارد ذكرها في إحدى قصائد أبي فراس، وفي الربيع التالي 949 ظهر لاوون بن فوقاس أمام الحدث محاصرا، فدخلها عنوة ودك حصونها، واستولى الروم أيضا على مرعش وقاتلوا عند أسوار طرسوس، وحملوا على جزيرة أقريطش، ولكن دون جدوى، وفي ربيع السنة 950 قام سيف الدولة إلى الجزيرة يتفقد شئونها، فانقض لاوون بن قوقاس على شمال سورية حتى مداخل أنطاكية، وحاصر بوقة في سهل العمق، فهب محمد بن ناصر الدولة لقتاله، ولكنه فشل فشلا ذريعا.
خرشنة والمصيبة (950)
وعاد سيف الدولة إلى حلب يستعد للقتال، فجمع ثلاثين ألفا، واصطحب ثلاثة من الشعراء؛ المتنبي وأبا فراس وأبا زهير المهلهل، ونهض إلى مرعش فملاطية، فاحتل صارخة وقتل وسبى وأحرق، وأراد العودة إلى حلب، ثم علم أن لاوون بن فوقاس قد حشد في منطقة خرشنة
Charsianon
فعاد إليه وأنزل به خسارة كبيرة، ثم اتجه نحو الجنوب، فصمد له الروم في درب الجوزات بين الألبستان والحدث، ومرت طلائع سيف الدولة ولم يحرك الروم ساكنا، ثم أقبل سيف الدولة فوجد الممر مقطوعا، فأمطره الروم حجارة وصخورا وسهاما، ثم لحق به الروم مرة ثانية وثالثة وأرهقوه، فتفرق عنه رجاله ففر هاربا نحو حلب، فعرفت هذه الحرب بغزوة المصيبة.
يوحنا جيمسكي
وفي السنة 958 بدت علامات الضعف في مقاومة سيف الدولة، وتسلم قيادة الروم يوحنا جيمسكي
Jean Tzimisces «يوحنا شمشيق»، فأحرز انتصارات متتالية في الجزيرة العليا، واحتل أكثر مدنها، ثم حاصر سميساط على الفرات الأعلى وأنزل بسيف الدولة سلسلة من الهزائم، وبعد السنة 960 أضاف الروم إلى ملكهم كل ما وقع شرقي الفرات، جاعلين من هذه المناطق ثيمة الجزيرة.
3
احتلال أقريطش (960-961)
وكان لقسطنطين السابع ولد اسمه رومانوس تزوج وهو ابن سبع عشرة سنة بابنة اسمها ثيوفانو، وكانت ثيوفانوا تكره العيشة بين حماتها وبنات حميها، فأوعزت إلى زوجها رومانوس فدس السم لوالده قسطنطين، وشرب منه جرعة فلم يعش قسطنطين إلا سنة واحدة. وكان رومانوس الثاني منصبا على الشهوات والملاهي، فاتكل على زوجته في إدارة الأمور وعلى رجل اسمه يوسف أبرينكاس
Bringas ، ولمس أبرينكاس ضعف العرب ورأى الظرف ملائما لإرجاع أقريطش إلى حوزة الروم، فأعد نيقيفوروس فوقاس أسطولا عظيما وجيشا كبيرا واقتحم الخندق، فدخلها عنوة في ربيع السنة 961، ثم استولى على الجزيرة بأسرها، ونقل إليها جاليات يونانية وأرمنية، واستدعى نيقن مطانويتا القديس المبشر ليكرز فيها باسم المسيح وينصر سكانها المسلمين.
مغارة الكحل (960)
وأحب سيف الدولة أن يغتنم هذه الفرصة السانحة فجهز ثلاثين ألفا وقام بهم إلى خرشنة، فأسرع لاوون فوقاس إلى تلال طوروس يسد عليه طريق العودة، وكمن له عند ممر «مغارة الكحل» فهزمه فيه، وعظمت غنائم لاوون فأسر عددا كبيرا من المسلمين، وأطلق سراح جميع من كان قد وقع في الأسر من الروم.
4
عين زربا وحلب (962)
ورأى نيقيفوروس أن يستغل الكارثة التي حلت بسيف الدولة فيفتتح قيليقية أكبر المعاقل البحرية الإسلامية بعد أقريطش وأقرب الطرق إلى سورية، فجال جولة موفقة في مطلع السنة 962، واستولى في اثنين وعشرين يوما على خمسين بلدة أو حصنا، وعاد في أول الصوم الكبير إلى قبدوقية، وأعاد الكرة في الخريف فافتتح عين زربة، ولم يقو سيف الدولة على الصمود في وجهه عند ممرات الأمانوس فتدفقت جيوش نيقوفوروس إلى سهول سورية حتى منبج على الفرات، ثم حاصر نيقوفوروس حلب أحد عشر يوما (20-31 كانون الأول 962) فاقتحم سورها، ولكنه لم يقو على القلعة، وعاد إلى القسطنطينية بغنائم عظيمة، وعلم بوفاة رومانوس الثاني وهو في طريقه إلى العاصمة.
نيقيفوروس فوقاس (962-969)
وتوفي رومانوس الثاني إما مسموما أو مسقوما، فتسلمت زوجته ثيوفانو زمام الحكم بالوصاية على ولديها القاصرين باسيليوس وقسطنطين، وكانت تكره أبرينكاس وتحب نيقيفوروس فاستدعت نيقيفوروس من حلب، وسمح هذا لجنوده أن ينادوا به فسيلفسا وهو في طريقه إلى العاصمة، فلما نهض إليها من قيصرية قامت ثورة ضد أبرينكاس ودخل نيقيفوروس العاصمة وتقبل التاج من يد البطريرك مشتركا في الحكم مع القاصرين، وبعد شهر واحد تزوج من ثيوفانو الوصية الأرملة، ولما جاء إلى الكنيسة وطلب الدخول من الباب الملوكي اعترضه البطريرك بوليفكتوس بسبب زواجه من الثانية في حياة الأولى؛ خلافا للناموس.
فتوحات الروم في سورية (963-969)
وكان نيقيفوروس جنديا مدهشا وتكتيكيا قديرا وقائدا محنكا، فأحبه الجنود وتعلقوا به، وكان زاهدا قنوعا قاسيا متصلبا، ولكنه كان - في الوقت نفسه - محبا عطوفا، فأصبح رجل الساعة بقوة إرادته وتمسكه بالسلطة، وحبه للدولة وإخلاصه لها.
وأوقف الانقلاب في القسطنطينية الأعمال الحربية في قيليقية وسورية، فعاد سيف الدولة إلى حلب واستعاد عين زربا وغيرها في قيليقية، وحاصر ابن شمشيق مصيصة في صيف السنة 963 ولم يستول عليها، وقام إلى أدنة فتحداه حاكم طرسوس فهزمه ابن شمشيق، ولكنه اضطر أن يغادر قيليقية؛ لما حل بها من قحط وجوع وأوبئة.
وفي ربيع السنة 964 تولى نيقيفوروس الفسيلفس نفسه قيادة جيوشه، فأنشأ قاعدة هامة للتموين في قيصرية قبدوقية، وزحف برجاله فاقتحم عين زربا وأدنة واستولى على أسوس عند مدخل سورية، وعاد إلى قبدوقية لتمضية فصل الشتاء. وفي السنة التالية عادت قيليقية بأسرها إلى الروم بعد أن كانت زهاء ثلاثة قرون قاعدة برية بحرية، تنقض منها جيوش الإسلام وأساطيله على الإمبراطورية. وفي شتاء هذه السنة عينها احتل الروم قبرص أيضا، وفي شتاء السنة 966 أغار نيقيفوروس على الجزيرة فدخل دارا ونصيبين واستولى على الآجرة المقدسة «القرميدة»
Karmidion
التي كانت تحمل صورة السيد العجائبية، ثم انقض على أنطاكية في حملة إرهابية.
وفي خريف السنة 968 عاد الفسيلفس إلى الفتح، فحاصر ابن سيف الدولة في حلب، وقام بجيشه إلى حمص، فدخلها ثم انحدر منها إلى عرقة فطرطوس فجبلة، وأبقى فيها حاميات من الروم، ثم ظهر أمام أنطاكية يشدد الحصار عليها بإمرة ميخائيل بورجس البطريق ويرمم قلعة بغراس في طريق أنطاكية الإسكندرونة، وأقام ابن أخيه بطرس فوقاس قائدا عاما، وأوصاه بوجوب انتظاره وعدم اقتحام أنطاكية قبل عودته، وقام هو إلى القسطنطينية فدخلها بموكب نصر عظيم في مطلع السنة 969.
وفي أثناء غيابه اتصل نصارى أنطاكية بقيادة الروم مؤكدين وقوع الفوضى في صفوف المسلمين، فاندفع البطريق وقام ببعض رجاله فتسلق الأسوار ودخل بعض الأبراج، وكاد يموت موتا لولا وصول لاوون وإسعافه، وسقطت أنطاكية بيد الروم في الثامن والعشرين من تشرين الأول بعد أن بقيت إسلامية ثلاثة قرون ونيفا.
واشتد حماس الجند وألحوا بوجوب اقتحام حلب، وفعلوا، فسقطت في يدهم في كانون الأول من السنة نفسها، ووقع صاحبها قرغويه معاهدة مع الروم، اعترف فيها بسيادتهم وحمايتهم، واعترف الروم بولايته على حلب وولاية بكجور بعده على أن يعينوا أميرا عليها من يرونه لائقا من أبناء حلب بعدهما، ومن شروط هذه المعاهدة أن يقيم في حلب ممثل رسمي للفسيلفس، وأن يدفع الحلبيون دينارا عن كل ذكر في كل سنة، وأن يمتنعوا عن جباية الجزية من النصارى، وأن يؤمنوا طرق التجارة، وأن تشرف لجنة من الروم والحلبيين على جباية الكمارك.
5
وعاد بطرس فوقاس إلى أنطاكية، وحقق في مقتل البطريرك خريسطوفوروس - الذي أشرنا إليه سابقا - فحبس ابن مانك أياما، ثم أخرجه إلى جسر باب البحر حيث طرحت جثة البطريرك، وأمر به فقطع بالسيف عضوا عضوا ورمي بكل ناحية قطعة، وأما ابن محمود وابن دعامة شريكاه في الجرم فإنهما كانا قد حملا إلى سجن طرسوس وبقيا فيه مدة طويلة، ومات ابن محمود في الحبس وبقي ابن دعامة إلى أن جاء ميخائيل البورجي، فأحضره إلى أنطاكية وثقله بالحجارة وطرحه في النهر.
6
يوحنا جيمسكي (969-979)
ولم ترض ثيوفانو الفسيلسة عن حياتها الزوجية مع نيقيفوروس، وكان ابن أخته يوحنا جيمسكي جميل الصورة، لا يزال في الخامسة والأربعين من عمره فأحبته ثيوفانو، فأبعده نيقيفوروس، فأقنعت ثيوفانو زوجها فأرجعه إلى البلاط، وكانت مؤامرة بين ثيوفانو ويوحنا فذبح نيقيفوروس ذبحا في أواخر السنة 969 ونودي بيوحنا فسيلفسا بالاشتراك مع باسيليوس وقسطنطين القاصرين.
وكان يوحنا جيمسكي أو ابن شمشيق - كما عرفه العرب - شجاعا باسلا متزنا صبورا لطيفا كريما ، وكان قد اشترك في معظم حروب نيقيفوروس فعرفه الجنود وأحبوه وتعلقوا به، فأعاد باسيليوس ليكابينوس إلى الإدارة المركزية وانصرف هو إلى السياسة والحرب.
ثيودوروس بطريرك أنطاكية (970-976)
وكان الموقف السياسي في سورية لا يزال حرجا، فطلب الفسيلفس الجديد إلى البطريرك المسكوني بوليفكتوس ومجمعه المحلي أن ينتخبوا بطريركا على أنطاكية وسائر المشرق؛ لأن هذا الكرسي الرسولي كان لا يزال شاغرا منذ قتل خريسطوفوروس، واقترح الفسيلفس انتخاب الراهب ثيودوروس فتم انتخابه في الثامن والعشرين من كانون الثاني سنة 970، ولما وصل ثيودوروس الثاني إلى مركز رئاسته في أنطاكية خرج إلى كنيسة «أرشايا» وحمل جسد سلفه خريسطوفوروس إلى القسيان.
7
دمشق تعترف بسيادة الروم (975)
وأنهى ابن شمشيق مشكلة الروس والبلغار، فعزم على إزالة خلافة بغداد، والاستيلاء على بيت المقدس، ولكن كان عليه قبل هذا وذاك أن يجابه دولة فتية جديدة كانت قد قامت في مصر، فإن المعز لدين الله الخليفة الفاطمي الرابع كان قد سير جوهرا الرومي إلى مصر في السنة 968، فافتتحها وأزال الشعار الأسود العباسي وألبس الخطباء الأبيض، وفتح دمشق وأنفذ جيشا إلى أنطاكية فحاصرها خمسة أشهر خلال السنة 970-971، وكان الفسيلفس قد اكتفى بأن عين ميخائيل بورجس دوقا على أنطاكية وجعلها صالحة للدفاع، وكان قد أنفذ في السنة 973 الدومستيقوس الأرمني مليه
Mleh
إلى الجزيرة غازيا، فاستولى هذا القائد على ملاطية، ولكنه ارتد أمام آمد، فاعتقل وأرسل إلى بغداد فتوفي فيها.
وفي السنة 974 قام الفسيلفس بنفسه قاصدا بغداد، فدخل أرمينية وحالف ملكها أشوت، ثم استولى على آمد وأحرق ميافارقين، ودخل نصيبين وأدخل أمير الموصل الحمداني في طاعته، وتعسر عليه تموين جيشه، فعاد إلى القسطنطينية.
وفي ربيع السنة 975 انطلق ابن شمشيق من أنطاكية قاصدا أوروشليم، وما إن أطل على دمشق حتى فاوضه حاكمها، فاعترف بسيادة الفسيلفس وتقبل حامية مسيحية، ودفع جزية ستين ألف دينار في كل عام، وكتب بذلك كتابا وأخذ فيه خطوط الإشراف وقدم جماعة منهم رهينة، ولما كانت قوات الفاطميين قد التجأت إلى مدن الساحل قام الفسيلفس ابن شمشيق إلى الساحل قبل التوغل في الجنوب، فاحتل جبيل وبيروت وأسر أمير هذه المدينة نصر الخادم وحمله إلى بلاد الروم، ونزل على طرابلس فلم يتم له شيء فيها، ثم استولى على بانياس وجبلة وسلم كليب النصراني كاتب رقطاس حصن صهيون فصيره الفسيلفس بطريقا ثم «باسليقا» على أنطاكية.
8
أوروشليم
وقام إلى طبرية فدخلها ثم قام إلى الناصرة فعف عنها احتراما وإجلالا وتسلق جبل الطور يمنا وتضرعا، وتقبل هناك دخول أوروشليم والرملة وعكة في الطاعة، وأرسل إليها عسكريين يقيمون فيها.
9
باسيليوس الثاني (976-1025)
وتوفي ابن شمشيق مسموما، وكان باسيليوس وأخوه قسطنطين قد بلغا سن الرد أو ما يقرب منها، وكانا يهابان الخصي باسيليوس؛ لأنه كان قد تولى تربيتهما، وحدثته نفسه بالملك فأرجع أم الفسيلفسين ثيوفانو وعزل القائد الأعلى برداس اسكليروس وعينه في وظيفة ثانوية في قيادة جيش الجزيرة، فذهب برداس واتحد مع أعداء باسيليوس الخصي، فكانت بينه وبين جيوش العاصمة مواقع هائلة وحروب شديدة دامت أربع سنوات، ولجأ برداس إلى بغداد وطلب معونة الخليفة العباسي الطائع (974-991).
أغابيوس بطريرك أنطاكية (977-996)
وكان باسيليوس الفسيلفس قد استدعى ثيودوروس الثاني البطريرك الأنطاكي في بدء ثورة برداس، وأرسل إليه «شلندي» يقله إلى القسطنطينية بحرا، فسار البطريرك ولما بلغ طرسوس توفي فيها، فبعث أهل أنطاكية «يلتمسون بطريركا يكون عليهم ويتولى تدبيرهم»، فاستقر الأمر على أن يكتبوا إلى الفسيلفس بمن يقع اختيارهم عليهم، فاختاروا جماعة وكتبوا إلى الفسيلفس بهم، وطلبوا إلى أغابيوس أسقف حلب أن يحمل رسالتهم إلى الفسيلفس، فسألهم أغابيوس أن يضيفوا اسمه إلى جملة الأسماء فأجابوه إلى ذلك، فشخص بالكتاب إلى حضرة الفسيلفس وأنهى إليه حال أنطاكية وتمسك أهلها بطاعته، «وأعلمه أن الصواب يقضي بأن يكون لها بطريرك يدبرها ويثبت أهلها على طاعته»، فكتب الفسيلفس إلى الماجيسطرس في أنطاكية يستميله ويعده بالإحسان إليه، ويضمن له ولاية أنطاكية مدة حياته، وأنه إذا تم ما استقر بينهما يكون أغابيوس بطريركا على أنطاكية.
وعاد أغابيوس إلى أنطاكية متنكرا بزي راهب، ولما وصل إليها اجتمع بالماجيسطروس وقدم له كتاب الفسيلفس، فقبله، ودعا، وقطع اسم فوقاس الثائر، واعترف بأغابيوس بطريركا على أنطاكية.
ولما استقر أمر أغابيوس كتب رسائل الجلوس، وبعث بواحدة منها إلى إيليا البطريرك الإسكندري، وقرن بها «أمانته» ليعلم منها أنه يقول بما اتفق عليه أصحاب المجامع المسكونية السبعة، وطلب إليه أن يذكر اسمه في الذبتيخة، فأنكر إيليا الإسكندري عليه فعله؛ لأنه ترك أبرشيته في حلب ليصير بطريركا على أنطاكية فأصبح حاله «حال من تزوج ابنة ثم تركها وأخذ والدتها أو كمن طلق زوجته وتزوج بغيرها»، وأكد إيليا أن درجات الكهنوت مرتبة على مثال طغمات الملائكة والنجوم والكواكب التي تلزم نظامها ومواضعها، وطلب محضرا من أهل أنطاكية وكهنتها وشيوخها يذكرون فيه واقع الحال، فرد أغابيوس ردا طويلا، وفق فيه بين التقليد الرسولي وبين كيفية وصوله إلى كرسي الرسولين في أنطاكية، وإليك نصه بالحرف - كما حفظه يحيى بن سعيد الأنطاكي في تاريخه:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتابي أيها الأب الروحاني الطاهر المشارك في الخدمة المساوي في الرتب، المتحد في الروحانية من الكرسي السليحي بمدينة الله الفائزة بفخر اسمه، المحفوظة بتلميذه وأول رسله يوم السبت السابع من كانون الأول عن سلامة بيع الله المقدسة وأولادها قبلي وسلامتي من بعدهم، والحمد لله على ما من وأولى، وهو المسئول أن يتم إسبال ستره على هذا الشعب وإكمال نعمته على هذه الأمة قبلي وقبلك، وقبل كل راع استرعاه في كل موضع ارتضاه بمنه وكرمه.
وقد وصل كتابك أيها الأب الروحاني الطاهر على يد أنبا يوحنا الراهب المنفذ من مسكنتنا إلى قدسك، وأحطت علما بمشتمله وسررت بأخبار سلامتك، وما استدللت عليه من الاستقامة قبلك، ثم طار بعد ذلك فكري وتعسف ذهني وذهل عقلي وتقطعت خواطري متأملا ما كتبته ومتبحرا ما أجبته، ولا أدري ما السبب الذي حملك على دفع غير مدفوع وإنكار غير منكر، والاحتجاج بما لا يسلغ، وفعل ما لا يليق، وقد كان ينبغي إذ عرفت موضع ابتدائي وإيثاري للتبارك بمشاركتك وإنفاذي رسولي إليك في وقت كان يكاد أن يتعذر فيه عبور الطيور من جهتنا إلى جهتكم، فضلا عن الرسل والكتب إلا كنت تكتب بما كتبت به دون أن تتحقق أنك فيه على حق لا ينحل وحجة لا تبطل وصواب لا ينكر، وقاعدة لا ينسب أهلها إلى هوى ولا غي ولا قصد ولا حال من الأحوال التي قدسك متبرئ منها ومرتفع عنها.
وأما أن تذكر - أيها الأب الروحاني - غمك بما صار إليه حالي وقلقك بما جرى عليه أمري، وإيثارك الموت دون السماع بمثله، فهذا ما كان يليق؛ إذ كان لم يجر بحمد الله ها هنا أرايسيس ولا فساد مقالة ولا نقص سنة ولا حالة غير معروفة، والذي جرى هو أمر صغر حالي عنه وبعد موضعي منه؛ لارتفاعه عني وقلة قيامي به وتفاوت نقص استحقاقي له، إلا أنه لم يكن مني ولا أتى بسعيي إلا ما اختاره أصحابي ورضي به شعبي وأمضاه رؤساء الدولة وعرفه علماء الملة في المدينة العظمى التي عليها يعول ومنها يقتبس.
وكيف يجوز أن ينكر واحد ما تجتمع عليه هذه الطبقة وترضى به هذه الأمة، وهو أمر مشهور عندنا مستعمل بيننا على قديم الزمان إلى حيث انتهينا.
والذي ذكرته أيها الأب الروحاني في هذا الباب أنا أعلم أنك لم تذكره إلا لبعد العهد بهذا الحال ببلدك، ولعدم الكتب التي تنبئ بمثله في ناحيتك، ولقلة من يستعملها ويقتبسها في موضعك للأحوال التي دفع إليها أهل تلك الديار، مما نسأل الله المعونة عليه، وإذا أنت رجعت إلى الفحص عن ذلك وجدته أمرا لم يبدأ منا ولا يتناهى فينا، وذلك أنك تجد القديس أفسطاثيوس بطريرك مدينتي هذه وقد نقله السينودس المقدس بنيقية من حلب إلى أنطاكية، ووجدت القديس ملاتيوس منقولا من لاريصة إلى حلب ومن حلب إلى أنطاكية، وقد حضر السينودس الثانية في القسطنطينية ونقل القديس غريغوريوس الثاولوغس من نازينزو وكرسه على كرسيها، ووجدت أوذوكسيوس قد نقل من مرعش إلى أنطاكية ومنها إلى القسطنطينية، ووجدت أوسابيوس قد نقل من بيروت إلى نيقوميذية ومنها إلى القسطنطينية، ووجدت جماعة آخرين منقولين إلى مواضع عدة.
هذا بعد مار بطرس السليح الذي هو أساس البيعة ورأس الشريعة، ومقامه اثنتي عشرة سنة بأنطاكية وانتقاله بعد ذلك إلى رومية، وكفاك به من شاهد وتناهى بمن ذكرناه قليلا من كثير قدوة يقتدى بها وأصلا يرجع إليه، وإذا كان ذلك كذلك فقد عرفت منا أيها الأب الروحاني ما طلبته ووجدت ما ابتغيته؛ إذ كان التماسك في كتابك أن يوجد في هذا الباب أصل يرجع إليه وطريق تفسح لك في قبول الكسس ورفع الاسم، لا سيما مع علمك بأن هذا ليس هو ما تدعو إليه حاجة ضرورية، وإنما يراد به اتحاد البيعة المقدسة بالروحانية، ومن طلب أن يتحد مع قدسك ويشارك خدمتك فليس يجوز أن تنفرد عنه بالحجج التي احتججت بها ويتضح حلها ويقوم البرهان بصحة غيرها.
من ذلك تشبيه هذا الأمر بمن تزوج ابنة ثم تركها وأخذ والدتها، وقد ارتفع الكهنوت الإلهي عن التشبيه بالتزويج البشري، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان إذا توفي أسقف وكان له أخ يستحق رئاسته لا يجوز له أن يرجع موضعه، كما لا يجوز للأخ أن يأخذ زوجة أخيه بعد وفاته، والتشبيه بمن طلق امرأة وأخذ غيرها يبعد أيضا عما نحن فيه ولا يليق أن يشبه به، وإلا لم يكن بالجائز للمدينة أن يصير عليها غير أسقفين، كما لا يجوز للامرأة أن تتزوج أكثر من زوجين. فأما قول السيد المسيح بأنه من طلق امرأته فقد جعلها أن تفجر، ومن تزوج مطلقة فإنه يفجر فلم يكن مقولا عن الكهنوت، وإنما كان كلامه على اليهود لما حضروه مجربين له، فأراهم بعد طباعهم عما يوجبه ناموس الطبع اللطيف والعقل الحصيف من المحافظة على الزوجة البشرية والتمسك بحبها لأجل أن الاثنين قد صارا جسدا واحدا - كما قال الكتاب - حتى أظهر عيوبهم وأحوجهم إلى أن قالوا: لقد كان أخيرا للرجل أن لا يتزوج بالكلية. وإن كان كذلك فأية مناسبة بين هذا المعنى وبين الكهنوت الإلهي التي هي درجات تتراقى من الدون إلى التي فوقها. فأما تشبيه هذه الدرجات بطغمات الملائكة التي تحفظ كل طغمة منها موضعها ولا تتعداه إلى غيرها فهذا أيضا مما لا يشبه في حال النقلة، وإلا لم يكن بالجائز للانغنسط أن يصير أيبوذياكون ولا للأيبوذياكون أن يصير تاما، ولا للتام أن يصير قسيسا، ولا للقسيس أن ينتقل إلى ما فوق، فأما تشبيهها بالنجوم فإن الكواكب لازمة نظامها ومواضعها، لا ينتقل أحدها إلى موضوع غيره، فهذا أيضا لا يليق؛ لأن الكواكب أجرام غير ناطقة رتب الباري كل واحد منها في موضوعه وجعل طبيعته لا تتغير عن حالته، فأما الإنسان فإنه جعله حيوانا ناطقا متحركا من حال إلى حال ومن أمر إلى أمر، والخليق به أن يكون انتقاله إلى ما هو أشرف وحركته إلى ما هو أعلى، فمن هذا جاز أن ينتقل من ذكرنا نقله، وقد قامت الشواهد بهذا الحال.
فأما ما التمسته أيها الأب الروحاني من إحضار محضر المدينة الشريفة يذكر فيه كيف جرت هذه الحالة والرضى به فلم يجر بذلك رسم، ولا فعل هذا من تقدمني فأفعله أنا بعده، ولولا تعذر الطريق في هذا الوقت إلى ما هناك لقد كان ذلك سهلا، فأما إنفاذ خطوط كهنة الكرسي وشيوخه بالرضى فهذا نريد أن يكون لو لم يتم الأمر، وحينئذ تكون الشبهة لاحقة في مثل هذا، فأما بعد تمامه ومضي سنة عليه فأنت تعلم أنه لو لم يحصل في الأول خطوط ويقع إجماع ورضى قبل التوجه إلى المدينة المتملكة لما كان تم.
وكان بعد تمامه اضطراب ولم يقع بعده سكون، ونحن كنيستنا - بحمد الله - واحدة، والمشاركة فيها من كل جهة واقعة، والمحبة بين أولادها تامة وكاملة، وليس ها هنا خلف ولا انفراد ولا انشقاق ولا حال فيها شبهة تحتاج إلى إنفاذ ما التمسته، وطلبة مثل هذه في غير موضعها تجري مجرى المعاياة، والإجابة إلى مثل ذلك نقص وإيقاع شبهة، فأما الحق بالمودة الإلهية والأليق بالأحوال الروحانية أن تدع التماس ما لم تجر العادة بالتماسه، والاحتجاج بما قد بطل وبمثله الرجوع إلى الواجب في توكيد المودة وإتمام اتحاد الخدمة والمشاركة؛ حتى يزول الشك، ويرتفع سبب الفساد، ولا يقع في البيعة انشقاق.
وأنت أيها الأب الروحاني تأتي في ذلك الواجب، وقد أردت إنفاذ البركة على ما جرى به الرسم والعادة، ولم تتأخر إلا لبعد الطريق وصعوبة الوقت، وأنا أرصد الفرصة لإنفاذها وأراقب نفوذ من يصلح لحملها وأنفذها وأتبارك بإصدارها، وإني في ذلك على الرسم الذي أنا قلق لتأخره، وأنت أيها الأب الروحاني تأتي في قبولها عند وصولها ما جرت فيه العادة التي تتبع الروحانيات ولا ينقصها تأخرها ولا يزيد فيها تقدمها، مع إبهاجي بكتابك عاجلا متضمنا من أخبارك واستقامة أحوال من قبلك ما أسر به، ومن حاجاتك ومهماتك ما أقوم فيه بواجب المودة والأخوة الروحانية والمشاركة - إن شاء الله.
سلام ربنا وإلهنا يسوع المسيح يكون معك، وعندك حافظا ومواقيا وكافيا ومشددا من الآن وإلى كل أوان، وإلى دهر الداهرين، آمين.
10
ووصل هذا الكتاب إلى إيليا البطريرك الإسكندري، ووافق على مضمونه، وقبل أغابيوس في الشركة واعترف ببطريركيته، ويلاحظ هنا أن البطريرك الأنطاكي رأى في اعتراف زميله واجبا روحيا «لتوكيد المودة وإتمام اتحاد الخدمة والمشاركة؛ حتى يرتفع سبب الفساد، ولكي لا يقع في الكنيسة انشقاق»، ورأى هذا البطريرك أيضا أن إرسال المحاضر بخطوط الكهنة والشيوخ أمر لم يفعله من تقدمه من البطاركة، واكتفى بأن يكون إيمانه إيمان أصحاب المجامع المقدسة السبعة، وأن يكون شعبه راضيا، وأن يكون رؤساء الدولة قد وافقوا على اختياره، ويلاحظ أيضا أن لا إشارة البتة في هذا الجدل حول الاعتراف بالبطريركية إلى موافقة رومة وحبرها، وأن البطريرك الأنطاكي الجديد اعتز بموافقة رؤساء الدولة في القسطنطينية «المدينة العظمى» وبعلم «علماء الملة» فيها.
حروب باسيليوس الثاني
وقدر لباسيليوس أن يصبح أعظم قوة وأطول باعا في الحرب من أسلافه، فإنه تمكن بجده وسعيه ومقدرته في الإدارة والحرب من تجييش عدد من الرجال أكبر بكثير من أي عدد جنده أسلافه، وحارب في وقت واحد في جبهات أربع في بلغارية وإيطالية وسورية والقوقاس.
وكان سعد الدولة الحمداني قد دخل حلب واستولى عليها، فحاول مرارا أن يتملص من الإتاوة التي كان بقجور قد قبل بدفعها إلى الروم، فأدى هذا إلى إنفاذ حملات ثلاث على حلب في السنوات 981 و983 و986، واضطر سعد الدولة أن يستنجد العزيز الفاطمي، فنشب خصام بين الروم والفاطميين، ولما كان باسيليوس منهمكا في القضاء على ثورة البرداسين؛ اضطر بدوره - في أواخر السنة 987 - إلى أن يصالح العزيز الفاطمي بمعاهدة كان من شروطها أن يذكر اسم العزيز في خطبة الجامع في القسطنطينية، وكان قد قام في القسطنطينية مسجد منذ القرن الثامن.
وتوفي سعد الدولة الحمداني في السنة 991، فطمع العزيز بحلب، وحاصرها في السنة 992، فاستجار لؤلؤ الوصي على ابن سعد الدولة باسيليوس الثاني، فأمر باسيليوس دوق أنطاكية ميخائيل بورجس أن يقدم المعونة اللازمة، فظفر الفاطميون بجيشه في موقعة العاصي في الخامس عشر من أيلول سنة 994، فرأى الفسيلفس أن يشرف بنفسه، فجمع جيشا خاصا وجعل لكل مقاتل بغلين وهب بسرعة فائقة فقطع آسية الصغرى في ستة عشر يوما، وفاجأ الفاطميين عند حلب، فتراجعوا عنها حتى أبواب دمشق.
يوحنا الخامس بطريرك أنطاكية (996-1022)
وسخط باسيليوس على ميخائيل بورجس، وألزمه بيته، وولى على أنطاكية الدوق دميانوس دلاسانوس، وطلب إلى أغابيوس البطريرك أن «يكتب خطه بالزهد في رئاسة أنطاكية واعتزاله عنها» فامتنع البطريرك، فجعل الفسيلفس للبطريرك ديرا في القسطنطينية يعرف بالأفرنذيو، وأمر أن يحمل إليه في كل سنة من دخل كنيسة أنطاكية أربعة وعشرين رطلا من الدنانير «برسم نفقة مائدته»، فقبل البطريرك واستقال وتوفي بعد ذلك بسنة.
11 «وصير» باسيليوس - عوضا عن أغابيوس - بطريركا من أهل القسطنطينية اسمه يوحنا، وهو الخامس في المراجع الأرثوذكسية والثالث في المراجع الغربية، وكان خرتوفيلاكسا في كنيسة الحكمة الإلهية، وأمر الفسيلفس أن «ترتب» كنيسة القسيان في أنطاكية على مثال كنيسة الحكمة الإلهية.
12
باسيليوس والحاكم
وتوفي العزيز الفاطمي، وتولى الحكم بعده الحاكم «بأمره» (996-1021) فأنزل بدوق أنطاكية داميانوس دلاسانوس في تموز السنة 998 هزيمة كبيرة وخر داميانوس مقاتلا، فاضطر باسيليوس أن يعود إلى سورية لينقذ الموقف، فدخل أنطاكية في العشرين من أيلول سنة 999 واستولى على حمص في تشرين الأول من السنة نفسها، ثم قام إلى طرابلس وحاصرها وسير سرية إلى بيروت وجبيل فظفرت بالأسرى والغنائم، وعاد الفسيلفس إلى طرسوس لتمضية فصل الشتاء، وبينما هو يعد العدة في طرسوس لمتابعة الحرب ضد الفاطميين علم بوفاة داود ملك الكرج، وكان داود هذا قد أوصى بملكه إلى الفسيلفس، فقام الفسيلفس بجيشه إلى ملاطية، ثم عبر الفرات ودجلة فقدم أمراء الكرج خضوعهم وضم الفسيلفس دولة داود إلى الإمبراطورية وعاد إلى القسطنطينية، وترك هذا كله أثرا في نفس الحاكم الفاطمي فأسرع يفاوض في السلم وخص أورستيوس بطريرك أوروشليم بالمفاوضة، فقام هذا البطريرك إلى أنطاكية ومنها إلى القسطنطينية، فكان صلح بين الدولتين لعشر سنوات.
13
ومما يروى أن يوحنا البطريرك الأنطاكي فاوض زميله أورستيوس في أثناء مروره في أنطاكية في أمر كنيسة الكرج، فتنازل له عن المال السنوي الذي كان يتناوله من كنيسة الكرج لصنع الميرون، واحتفظ بحقه في أن يذكر هو وحده في الذبتيخة، وفي أن يوفد إلى الكرج أكسرخوسا يتفقد أحوال الكنيسة فيها ويجمع دخل أوقاف الكرسي الأنطاكي منها.
14
المسيح هو الملك
وتنصرت الحكومة وفاخرت بنصرانيتها واعتزت، وأصبح السيد المخلص في نظر الحكومة والشعب هو الملك، وأصبح الإنجيل دستور الدولة، فكنت إذا قصدت القصر الملكي تقرأ على جدران بعض البنايات العبارة: «المسيح الفسيلفس» أو المسيح الإمبراطور، وقد تسمع وأنت في طريقك إلى القصر؛ جماعات يرتلون، فإذا ما اقتربوا منك وجدتهم جنودا حاملين الصليب عاليا هاتفين: «المسيح المنتصر»، وإذا ما وصلت إلى مداخل القصر وجدت فوق العتبات أيقونات مقدسة تمثل المسيح مرتديا لباس الملك متوجا، وإذا دخلت ظننت أنك في كنيسة لا في قصر ملكي، فمن أيقونة للعذراء والدة الإله حامية العاصمة إلى ذخيرة تضم عود الصليب إلى أيقونة عجائبية تمثل السيد مصلوبا، كان قد ظفر بها ابن شمشيق (يوحنا جيمسكي) في أثناء مروره في بيروت إلى زاوية مكرمة تحفظ حذاء السيد الذي وجده ابن شمشيق في جبيل إلى المنديل الذي كان لا يزال يحمل رسم وجه السيد، وقد احتفظت به الرها أكثر من تسعة قرون. وقد تقف قليلا متأملا مصليا فيدخل القاعة رئيس أساقفة تتبعه حاشيته وقد جاء خصيصا لتكريم هذه الآثار وتجديد التكريس.
وقد تكون أحد أعضاء الوفود الإسلامية المفاوضة، فيتاح لك الدخول إلى قاعة العرش، فتجد العرش عرشين أحدهما عليه الإنجيل الطاهر وهو عرش المسيح الملك، والثاني لنائبه على الأرض الفسيلفس، فإذا قابلت العرش الأول أو مررت من أمامه رسمت شارة الصليب بالأصابع الثلاثة وانحنيت إكراما وإجلالا، وقد تكون أحد القضاة الزائرين فيدفعك اهتمامك بالقضاء إلى الوقوف في دار العدل لاستماع المرافعة وصدور الأحكام، فتذكر هناك أيضا بأن الملك للسيد له المجد، فالقوانين والأحكام تستهل «باسم سيدنا يسوع المسيح»، وقد تكون تاجرا تضطرك الظروف إلى زيارة أحد المصارف لتقبض تحويلا ماليا معينا فتنقد الدراهم والدنانير، فتجد رسم السيد المسيح على أحد الوجهين.
15
وقد تكون عدوا محاربا في الجزيرة أو في سورية، فتعد جيش الروم بعدد معين من الصلبان، وقد تمتنع في قلعة شيزر كما فعل ابن كراديس في السنة 999، ثم تلتمس الأمان من ملك الروم وتشترط شروطا فيجيبك إلى ذلك وينفذ إليك صليبه،
16
وقد تقع الهدن بين الروم والمسلمين، فينفذ ملك الروم صليبا من ذهب مرصعا «أمانا لعدوه ووفاء بالشرط».
17
الفسيلفس نائب المسيح
ولما كان الملك الحقيقي روحا غير منظور أصبح الملك الملموس رمز الملك السيد ونائبه على الأرض؛ ثوبه ثوب الأيقونات، وتاجه وصولجانه مشرفان بالصليب المقدس، ولما كانت ثيابه هذه هبة ربانية حملها الملائكة إلى قسطنطين الكبير أصبح المحل الوحيد اللائق بحفظها هو الكنيسة، وأمسى قصر الفسيلفس من حيث التخطيط وهندسة البناء وتزيين الزوايا والقبب والجدران؛ أشبه بالكنيسة من أي بناء آخر، وأمست أبواب قاعة العرش تفتح وتغلق في أوقات معينة كأبواب الأيقونسطاس في الكنيسة، وقام العرش في حنية كعرش الأسقف في الكنيسة، وقضت هذه الصلة بين الفسيلفس وبين السيد الروح غير المنظور أن يظهر الفسيلفس ظهورا على عرشه في الاستقبالات الرمية دون أي كلام أو تبادل أفكار، وتغرد الطيور الذهبية ، وتزأر الأسود المصطنعة، ويسجد الحاضرون ثلاث سجدات، وما هي إلا لحظة حتى يرتفع الفسيلفس بعرشه نحو السماء فيختفي، وإذا قضت الظروف أن يستقبل الفسيلفس في باسيليقة المنيورة جلس على عرشه الذهبي صامتا مسبل الجفنين، فإذا ما رغب في شيء رفع جفنيه ونظر إلى رئيس الخصيان، فتصدر إشارة عن هذا فيتم تنفيذ الأمر الصادر دون كلام، وتنتهي المقابلة عندما يرسم الفسيلفس شارة الصليب فيخرج الزائرون متراجعين خاشعين، وقضت نيابة المسيح على الفسيلفس بأن يشترك مع البطريرك في ممارسة بعض الطقوس الدينية، فيخرج الاثنان إلى الشوارع بسحابة من البخور وموكب كبير، ويركب البطريرك حمارا أبيض ويمتطي الفسيلفس جوادا عربيا فيزوران في كل يوم جمعة كنيسة السيدة حامية العاصمة، وفي يوم الخميس الكبير يتفقدان العجزة في المآوي، فيغسل الفسيلفس أرجل هؤلاء ويقبلها مذكرا بما فعل السيد له المجد.
وجاء في كتاب الأعلاق النفيسة لابن رستة (903) أنه إذا خرج الفسيلفس إلى كنيسة الحكمة الإلهية مشى أمامه اثنا عشر بطريقا وحمل هو بيده حقا من ذهب فيه تراب، فإذا مشي خطوتين وقف ونظر إلى التراب وقبله وبكى، وما يزال يسير كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة، فيقدم رجل شيخ طشتا وأبريقا من ذهب، فيغسل الفسيلفس يده ويقول لوزيره: إني بريء من دماء الناس كلهم، ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره ويأخذ دواة بيلاطس ويجعلها في رقبة الوزير ويقول له: دن بالحق كما دان بيلاطس.
18
وإذا دخل الفسيلفس الكنيسة ليصلي استوى على عرش خاص واعتبر ممسوحا من الله لينوب عن المسيح في الأرض، واستحق التناول بيده من المائدة المقدسة، ولكنه لم يرأس الكنيسة كما توهم البعض.
وكان على الفسيلفس أن يراعي هذا التقليد في حياته الخصوصية، فكان كلما انتهى من الطعام كسر الخبز وشرب الخمر، وإذا ما جلس إلى المائدة جلس حواليه اثنا عشر شخصا، وعند كثرة الضيوف كانت تقام اثنتا عشرة مائدة، وفي ليلة عيد الميلاد كان عليه أن يدعو أفقر الفقراء؛ لتناول الطعام معه، فالكل إخوان في المسيح. وكان يضيء غرفة نومه صليب وعدد من الكواكب، وكان يطل عليه من فسيفساء الجدران باسيليوس الأول المقدوني وعائلته وفي أيديهم الأناجيل!
ولما كان الفسيلفس نائب المسيح على الأرض كانت إرادته مطلقة ، وكان هو مصدر السلطة، فكان هو يسن الشرائع ويلغيها، ويعين القضاة والوزراء ويعزلهم، ويوافق على انتخاب البطريرك، وكانت سلطته مسكونية تشمل العالم بأسره فلا تقف عند حد جغرافي أو سياسي، ولا يحق لمعترض أن يعترض عليها، وأصبح البطريرك الجالس إلى يمينه بطريركا مسكونيا أيضا له حق التقدم على سائر البطاركة بعد بطريرك رومة.
وضاقت - لا بل تضاءلت - صلاحيات مجلس الشيوخ مصدر السلطة في رومة القديمة، فأضحى في هذين القرنين متفرجا يشاهد الحوادث الجسام دون أن يكون له رأي فيها، وبات الزرق والخضر في جملة المتفرجين لا مجالس لهم ولا صلاحيات، واستبدلوا أهازيج القتال بتراتيل الصلاة، يأتمرون بإشارة البروتوبسالطي بدلا من سيف القائد المغوار.
الفسيلفس والكنيسة
والدولة والكنيسة عند الروم شخص واحد؛ فالفسيلفس يتسلط على الجسم والبطريرك على الروح، ولا دولة بدون كنيسة ولا كنيسة بدون دولة،
19
فالآباء رأوا في شخص قسطنطين الكبير حاميا داعيا، فمنحوه لقب «المساوي للرسل»
Isapostolos ، ولم يتنازل أحد من خلفائه عن هذه المنحة، ونادى أعضاء المجامع المسكونية مرارا بالفسيلفس حبرا أعظم
، ومن هنا نشأت - في الأرجح - هذه الامتيازات الروحية التي تمتع بها ملوك الروم في داخل الكنيسة كمنح ولي العهد إكليل الإكليروس، والسماح للفسيلفس بالدفاع في أثناء مسحه فسيلفسا كأنه شماس، ودخوله إلى الهيكل من الباب الملوكي، وتناوله الذبيحة بيده على المائدة المقدسة،
20
واضطر الفسيلفس في بعض الأحيان أن يتخذ موقفا معينا من بعض المشاكل العقائدية والإدارية الكنسية، فكان يلجأ في مثل هذه الظروف إلى دعوة المجامع المحلية أو المسكونية، فيرعاها بعنايته وينفذ قراراتها، وتطرف بعضهم ففرض الحل فرضا كما فعل هرقل عندما تبنى القول بالمشيئة الواحدة، والفسالسة محاربي الأيقونات.
21
وتدخل بعض الفسالسة للمحافظة على النظام وتنفيذ قرارات المجامع، فقضى أحد قوانين يوستنيانوس الكبير (535) بأن يحافظ هو على شرف الكهنوت فيقول كلمته في انتقاء الكهنة والأساقفة،
22
وتدخل بعضهم أيضا فقرر بعض الأعياد الكنسية، فيوستينوس الأول (518-527) هو الذي عمم الاحتفال بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الأول، ويوستنيانوس الكبير هو الذي ثبت عيد دخول المسيح إلى الهيكل في الثامن من شباط،
23
وموريقيوس هو الذي حدد الخامس عشر من آب عيدا لانتقال السيدة العذراء،
24
ويعود الفضل في الاحتفاء بعيد النبي إلياس في العشرين من تموز إلى باسيليوس الأول (867-886) فإنه كان شديد التعلق به والتوسل إليه،
25
وفي السنة 1166 جعل عمانوئيل كومنينوس الأعياد نوعين؛ منها ما تجب البطالة فيه طوال النهار، ومنها ما تنتهي البطالة فيه عند الانتهاء من خدمة القداس.
26
ولم تنفرد كنائسنا بهذا التدخل في شئونها؛ فقد تعرضت كنيسة رومة أيضا إلى مثل هذا التدخل من فسالسة الشرق وأباطرة الغرب، وهو أمر معروف يجمع عليه جميع المؤرخين، وكما ناضلت كنيسة رومة في سبيل استقلالها كذلك فعلت كنائسنا، أولم ينصح البطريرك نيقولاووس إلى الفسيلفس لاوون السادس ألا يكون عثرة في سبيل الكنيسة، وأن يتصرف بما يشرف مركزه العالي، ثم لما أصر الفسيلفس على موقفه ألم يمنعه البطريرك من الدخول إلى الكنيسة، والبطريرك بوليفكتوس ألم يعترض نيقيفوروس فوقاس عندما حاول الدخول من الباب الملوكي؛ لأنه تزوج من الثانية في حياة الأولى خلافا للناموس، ثم ألم يمنع هذا البطريرك نفسه يوحنا جيمسكي من الدخول إلى الكنيسة إلا بعد أن يقوم بشروط معينة، وباسيليوس البطريرك ألم يرفض المثول أمام مجلس القضاء الأعلى مصرا على المحاكمة أمام مجمع مسكوني، وهل ننسى ما جاء في الأبناغونة بفضل فوطيوس العظيم، فالفسيلفس - بموجب هذه المجموعة - مسئول عن الجسم فقط، أما الروح فإنها برعاية البطريرك صورة المسيح على الأرض، وهذا البطريرك لا تمس كرامته، ولا يعتدى عليه، ولا يغيب عن البال أنه كان على الفسيلفس أن يتسلم تاجه من يد هذا البطريرك، وأن يعلن موقفه من بعض الشئون الهامة إلى البطريرك قبل التتويج، وكان لهذا البطريرك سلطة روحية على الفسيلفس؛ لأنه راعي النفوس، ومنها نفس الفسيلفس، ولأنه كان عراب الأمراء، وكان هو الذي يعلن شرعية ولادتهم.
27
وليس من العلم بشيء أن نماشي الأب مرتينوس جوجي فنلوم الكنيسة الأرثوذكسية لخضوعها إلى الفسيلفس جاعلين من هذا الخضوع نظاما قضى بأن يكون الفسيلفس هو البطريرك
Césaropapisme ،
28
وأن نضرب - في الوقت نفسه - عرض الحائط برأي كبار رجال الاختصاص أمثال أوستروغورسكي وفزيلييف وغريغوار وديل، وغيرهم.
29
الإنجيل دستور الدولة
وقضت هذه الفلسفة الدينية السياسية بأن يعترف عند الروم بقدسية الإنجيل الطاهر ووجوب تطبيق أحكامه، فأصبحت دولتهم ديموقراطية في تساوي أبنائها مطلقة مستبدة في تنفيذ مبادئ الإنجيل الشريف، ولم يبق فيها أي تفوق نظري لطبقة على سواها، وأصبح بإمكان أوضع الرجال أن يتسنم أعلى المراتب، أولم يكن لاوون الأول لحاما ويوستينوس الأول راعيا للخنازير وفوقاس قائد مائة ولاوون الثالث شحاذا متسولا وباسيليوس الأول فلاحا ورومانوس ليكابينوس أفاقا؟ أولم ينعت قسطنطين الخامس بالزبلي وميخائيل الثالث بالسكير وميخائيل الخامس بالقلفاط؛ أي نقال البضائع؟ والفسيليسات ألم تكن إحداهن خزرية وأخرى مغنية وغيرها مروضة للدببة؟ أولم يكن عدد كبير منهن بنات موظفين عاديين؟!
وعملا بتعاليم الإنجيل المقدس ترفع الفسيلفس عن الشموخ والتكبر فدعا إلى مائدته البؤساء والمتشردين، وفتح بابه لجميع الرعايا من عباد الله يلجونه أنى شاءوا، واشتدت عنايته وعناية البطريرك أيضا بالمرضى والمصابين والعجز، فكثرت المآوي والمياتم ولا سيما المستشفيات، وأشهر هذه المؤسسات دير الإله القوي
الذي أنشأه يوحنا كومنينوس (1118-1143) في عاصمة ملكه، وفيه مستشفى للرجال وآخر للنساء وثالث للأمراض المعدية، وكان يؤمه طبيب أستاذ وعقاقيري ورهط من الطلبة، وكان يفاخر الأستاذ الطبيب بطريقته الخصوصية في تنظيف أدوات الجراحة وتطهيرها.
30
وساوى الروم بين الرجل والمرأة، فكان للنساء شأن كبير في الحياة الاجتماعية، وشاطرن أزواجهن السلطة في كثير من الأحيان، وشاركت الفسيلسة زوجها حق السيادة وسبقته إلى تقبل طاعة الشعب وولائه، وكان الشعب لدى خروجها من الكنيسة يهتف لها: «أهلا بالأوغسطة المحمية من الله، أهلا بلابسة الأرجوان، أهلا بمحبوبة الكل.»
ولم تكن هذه الديموقراطية وليدة نضج سياسي أو فلسفي، ولكنها تأتت بطبيعة الحال عن تقبل الإنجيل وتقبيله واتخاذه دستورا للدولة، فالدافع نفسه الذي جعل من الفسيلفس نائبا للمسيح على الأرض أدى إلى السعي لجعل المجتمع الأرضي مماثلا قدر المستطاع للمجتمع الرباني، ومن هنا هذه القسوة في العقوبات عند الروم: في قطع يدي المزور وحرق المرتشي، فالقانون إلهي والخروج عليه خطيئة تستوجب نار جهنم!
البطريرك
وجارت الكنيسة الدولة في نظمها، فكانت الكنيسة واحدة كما كانت الإمبراطورية واحدة جامعة، وكما جاز للإمبراطورية أن يكون لها إمبراطوران أو أكثر في آن واحد، كذلك جاز للكنيسة أن تخضع لأكثر من رأس واحد،
31
وتقبل المجمع المسكوني الثاني (381) هذه النظرية، فأوجب في قانونه الثاني على الأساقفة ألا يتعدى أحدهم على الكنائس التي تقع خارج حدود أبرشيته، وأقر في قانونه الثالث أن يكون التقدم «في الكرامة» لأسقف القسطنطينية بعد أسقف رومة «لكونها رومة الجديدة»،
32
ثم أقر المجمع المسكوني الرابع في قانونه الثامن والعشرين هذا التقدم في الكرامة لأسقف القسطنطينية بعد أسقف رومة،
33
ثم جاء يوستنيانوس الكبير يشترع فتعرف إلى بطاركة خمسة: بطاركة رومة والقسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، واعتبرهم أساس النظام والسلطة في الكنيسة الواحدة الجامعة.
34
الشرطنة
وهو لفظ يوناني
Cherotonia
ومعناها الانتخاب، وكان البطريرك ينتخب انتخابا، فقد قضى قانون يوستنيانوس بأن ينتخب الإكليروس ووجهاء العاصمة ثلاثة فينتقي الأسقف المشرطن؛ أي أسقف هرقلية أفضل هؤلاء للسدة البطريركية،
35
ثم حرم المجمعان النيقاوي (787) في قانونه الثالث والقسطنطيني (870) في قانونه الثاني عشر سيامة بطريرك ينفرد أمير بانتقائه، كما حرما تدخل الشعب في الانتخاب، وأصبح انتخاب البطريرك بعد هذا محصورا في مطارنة الكرسي، وتوجب على جميع المطارنة أن يشتركوا في هذا الانتخاب، ثم جاء في كتاب التشريفات لقسطنطين السابع (912-959) أن المطارنة ينتخبون ثلاثة ينتقي الفسيلفس أحدهم، وأنه إذا لم يرض عن الثلاثة جاز له أن ينتقي رابعا يقبل به المطارنة،
36
وبقي الحال على هذا المنوال حتى آخر أيام الإمبراطورية: المجمع ينتخب والفسيلفس يرقي.
37
التنصيب والتولية
وكان التنصيب يتم على درجتين: إعلان اسم المنتخب
Menouma
وحفلة التنصيب
، وكان الفسيلفس يدعو أعضاء مجلس الشيوخ والمطارنة وعددا كبيرا من سائر رجال الإكليروس إلى القصر ليقول: «إن النعمة الإلهية وقدرتنا المستمدة منها تعلنان ترقية فلان إلى رتبة بطريرك القسطنطينية.»
38
وعندئذ يظهر البطريرك المنتخب ليتقبل تهاني الشيوخ والمطارنة، ثم يصار إلى تنصيبه بطريركا في الأحد التالي في كنيسة الحكمة الإلهية، فيترأس حفلة التنصيب متروبوليت هرقلية، ويقدم له الفسيلفس العكاز والمنذية والصليب،
39
ويدعى بعد هذا صاحب القداسة ويخاطبه المطارنة بالعبارة: «أيها السيد الفائق القداسة»، ويوقع هكذا: «بنعمة الله أسقف القسطنطينية رومة الجديدة والبطريرك المسكوني.»
40
الانتقاء
وحرمت مجامع نيقية (326) وأنطاكية (341) وسرديكة (347) تنقل الأساقفة من كرسي إلى كرسي، فتعذر على أساقفة الكرسي القسطنطيني أن يتبوءوا السدة البطريركية. والواقع أنه لم يرق هذه السدة من أساقفة الكرسي القسطنطيني سوى ستة بين القرن السادس والقرن الثاني عشر، وسوى أحد عشر بين السنة 1169 والسنة 1440. وهكذا فإن انتقاء البطاركة كان يتم - في غالب الأحيان - من بين الكهنة والرهبان، وآثر الأساقفة المنتخبون أعضاء السنودوس كهنة كنيسة الحكمة الإلهية على سواهم، فرقوا في القرون الأربعة بين السنة 379 والسنة 705 ثمانية عشر كاهنا من كهنة هذه الكنيسة إلى السدة البطريركية وسبعة من كنائس القسطنطينية الأخرى وثلاثة عشر كاهنا من كنائس آسية الصغرى وأنطاكية وأسقفا واحدا وعلمانيين اثنين وثلاثة رهبان. وتخرج معظم هؤلاء من مدارس القسطنطينية أو أثينة أو الإسكندرية أو أنطاكية، فتحلوا بالعلم العالي وبسعة الاطلاع، وما بين السنة 705 والسنة 1204 رقي السدة القسطنطينية خمسة وأربعون راهبا وخمسة عشر كاهن رعية، وسبعة علمانيين وستة أساقفة.
41
صلاحيات البطريرك
والبطريرك بموجب الأبناغوغة (884-886) معلم الكنيسة الأكبر ومفسر عقيدتها الأوحد، وهو صاحب السلطة الإكليريكية العليا، ينظر في ما يستأنف إليه من القرارات فيبرمها أو يلغيها، وتمتع بموجب نص الأبناغوغة بحق الستافروبيغية؛ أي بالسلطة المباشرة على كل ما يغرز فيه صليبه في جميع الأبرشيات الخاضعة لسلطته الروحية، فزاد هذا الامتياز نفوذه ودخله في آن واحد،
42
وكانت قراراته
thespismata
نافذة مرعية الإجراء في جميع أنحاء الإمبراطورية، وكانت تصدر في ظاهرها عنه وحده، ولكنه قلما أقدم عليها بدون موافقة لجنة السنودوس. وكان البطريرك يدعو السنودوس بكامله إلى الانعقاد للنظر في المسائل الهامة كإعداد اعتراف بالإيمان أو النظر في قضية عقائدية أو اتخاذ إجراء إداري هام،
43
فلما عظم أمره وكثرت مشاغله وتنوعت؛ نشأ حوله - في أواخر القرن الخامس أو أوائل السادس - سنودوس دائم، شمل مطارنة الأبرشيات القريبة من القسطنطينية، وعرف بالسنودوس الإنذموسى
Endemousa ، وظل السنودوس الأكبر الذي شمل جميع المطارنة هو المرجع الأخير في المشاكل الهامة، وعند تأزم الأمور كان البطريرك يدعو إلى الاشتراك في أعمال المجمع الأكبر وجهاء الشعب وأعضاء مجلس الشيوخ، فيتحول السنودوس إلى «مجمع عام» يمثل أكبر كبراء الكنيسة القسطنطينية من إكليريكيين وعلمانيين.
44
وظل البطريرك صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في أمور الليتورجية، فكان هو وحده يقر الأعياد الجديدة، ويعدل التقويم الكنسي، ويشرف على ممارسة الأسرار؛ بيد أن واجبه الأكبر قضى بالسهر على انضباط الإكليريكيين وتقديهم بالأنظمة المرعية الإجراء، فكان عليه أن يقمع الفساد ويؤدب العصاة والمعاندين، وكان يستند في تنفيذ أحكامه إلى تعاون وثيق مع السلطات الزمنية، وإلى امتيازات خصه بها العرف والقانون، وأهم هذه أنه كان له حق الإشراف على انتخاب الأساقفة وحق الامتناع عن الاعتراف بقانونية الانتخاب، فكان الأسقف المنتخب يظل أسقفا منتخبا إلى أن ينال من يد البطريرك الأوموفوريون
Omophorion
رمز السلطة الروحية.
45
وكان التشريع في الأحوال الشخصية لا يزال محصورا كغيره من أنواع التشريع في يد الإمبراطور، وكان شغل لاوون السادس (886-912) الشاغل أن يكون له ولد ذكر يخلفه على العرش، وماتت زوجته فتزوج ثانية، ثم ثالثة، ثم رابعة، غير مكترث بنصوص القانون الذي سنه هو نفسه، فكانت مشادة بينه وبين البطريرك أدت إلى نزول هذا عن كرسيه، ولكنها لم تنته عند هذا الحد، فالكنيسة أصرت على شجب الفسيلفس وتوصلت في السنة 920 إلى إصدار قرار أسمته كتاب الاتحاد
Tomos Enouseous
منعت فيه الزيجة الرابعة منعا قطعيا، وحرمت على المتجاسر عليها الدخول إلى الكنيسة، ونعتت الزيجة الثالثة بالدناسة ومنعتها على الذين لهم أولاد، والذين يزيد عمرهم على الأربعين، ووضعت المتزوجين الزيجة الثالثة تحت قصاص الابتعاد عن المناولة خمس سنوات،
46
فانتصرت بذلك انتصارا باهرا، وبدأت تنتزع حق التشريع في أمور الزواج والأحوال الشخصية من يد الفسيلفس والسلطات الزمنية، ثم جاء البطريرك أليكسيوس الأستودي (1038) فلم يسمح بالزواج في درجة القربى السابعة إلا بعد الندامة والتوبة ،
47
وتبعه البطريرك ميخائيل كيرولاريوس (1043-1059) فحرم هذه الزيجة تحريما،
48
وأصبح التشريع في أمور الزواج بعد هذا حقا من حقوق الكنيسة.
49
البطريركية
وقام القصر البطريركي
إلى جانب كاتدرائية العاصمة كنيسة الحكمة الإلهية، وأطل بواجهته الجميلة على الفوروم الأوغسطي، وحوى في طابقه السفلي مكتبة البطريركية وقاعتي المحاكمة السكريتون العظمى والصغرى وقاعة السندوس، وكان يربط هذا القصر بكنيسة الحكمة الإلهية من جهته الخلفية ممر يؤدي إلى منابر الوعظ والإرشاد.
ولم تختلف الإدارة البطريركية في أوائل عهدها عن إدارات المطرانيات، فتألفت من إكليريكيين يعاونون الأسقف في القيام بواجباته الطقسية وفي قضاء حاجات الشعب الخاضع لسلطته، ثم تطورت ظروف أسقف القسطنطينية، فأصبح بطريركا ثم بطريركا مسكونيا، فتنوعت الواجبات وتعددت، وكثر عدد الموظفين وتفاوتوا في الأهمية، فأصبحوا طبقات. ويقدر العلماء عدد الإكريكيين في البطريركية القسطنطينية في هذا العهد الذي نحن بصدده بحوالي خمسمائة، كما يرجحون أن عدد كبار الموظفين لم يتجاوز الخمسة والأربعين موظفا، ويرون أن أهم هؤلاء كانوا خمسة: السنكلوس والإيكونوموس والسكيلاريوس والسكيفوفيلاكس والخرتوفيلاكس.
أما السنكلوس
Sugkellos
فإنه كان في البدء أمين سر البطريرك، وموضع ثقته فيه ومعاونه الأول في الإدارة، وعظم أمره فاعتبر - في غالب الأحيان - وريث البطريرك وخليفته، فرقي السدة البطريركية بين عهد يوحنا القبدوقي (518) وعهد ميخائيل كيرولاريوس (1043) ثلاثة عشر سنكلوسا،
50
وتدخل الإمبراطور بانتقاء السنكلوس، وتمت ترقيته إلى منصبه في قصر الإمبراطور،
51
ومنح مرتبة خصوصية في التشريفات الإمبراطورية، وتقدم على المطارنة
52
وعهد إليه بمهمات سياسية،
53
فأصبح رجل الإمبراطور في البطريركية، ثم تطورت الظروف، فمنح الإمبراطور هذا اللقب المطارنة المقربين، فنشأت مشادة بينهم وبين زملائهم الذين لم يحملوا هذا اللقب؛ انتهت بشغب يوم عيد العنصرة في كنيسة الحكمة الإلهية في السنة 1029، فظهر عندئذ لقب البروتوسنكلوس.
54
وعني الأيكونوموس
Oikonomos
بتدبير مصالح البطريركية المادية، وكان عليه أن يفتش الأوقاف ويجبي دخلها، وكانت هذه الأوقاف كثيرة متنوعة، منها الأراضي الزراعية والقرى والأديرة، وتوجب على الأيكونوموس أن يتسلم المعونات السنوية من صندوق الدولة، وأن يشرف على إنفاقها.
55
وسكيلاريوس الإمبراطور هو حارس السكليون
Sakellion
أي أمين الصندوق، أما سكيلاريوس البطريرك فإنه كان ناظر الأديرة وحافظ النظام فيها.
56
وحفظ السكيفوفيلاكس
Skeuophylax
الأواني المقدسة والبدلات الحبرية وكتب الخدمة المقدسة، وأعد كل ما لزم لخدمة القداس، ومن هنا اهتمامه بالقمح والخمر والزيت والشمع وما نتج عن ذلك من مشاكل، ولا يخفى ما وصلت إليه الأواني المقدسة من ترصيع وتزيين وتجميل وما حوته البدلات الحبرية من جواهر.
57
ويستدل من أعمال المجامع أن الخرتوفيلاكس
Chartophylax
كان في القرنين السادس والسابع مدير محفوظات البطريركية وأمين مكتبتها،
58
ثم أصبح في القرن التاسع أكبر كبراء البطريركية وأقرب المقربين إلى البطريرك، يحل محله عند الحاجة وينفذ القانون باسمه،
59
ونراه في القرن الحادي عشر مسيطرا على جميع أعمال البطريركية مقدما على المطارنة في التشريفات الملكية؛ «لأنه فم البطريرك ويمينه»،
60
وشملت المحفوظات التي تولى حفظها القوانين الملكية والأحكام البطريركية واعترافات الأساقفة بالإيمان وأعمال المجامع المسكونية والمحلية ولوائح الأساقفة. وكانت هذه الأوراق جميعها تختم بخاتم البطريرك وتوقع بتوقيع الخرتوفيلاكس. وقضى الواجب أن يعنى الخرتوفيلاكس بجميع الكتب الكنسية والمحافظة على سلامتها، ومنع كل دس فيها ومقابلتها عند الاقتضاء بغيرها وترجمتها،
61
وتنوعت أعماله الإدارية واتسعت صلاحياته، فكان عليه أن يحقق في كل ترقية إكليريكية قبل السماح بها، وكان عليه أيضا أن يشرف على انتخابات الأساقفة، وأن يراقب جميع كهنة القسطنطينية ورهبانها، وكان يجلس للنظر في سلوك الإكليريكيين فارضا الندامة والتوبة ومهددا بالقطع إذا قضت الظروف بذلك، وكان يفصل في دعاوى الزواج والطلاق. وكان عليه - بالإضافة إلى هذا كله - أن يفض جميع الرسائل الموجهة إلى البطريرك المسكوني، وأن يقترح أجوبتها، ولم يستثن من هذه سوى رسائل البابا والبطاركة.
62
وشملت الحاشية البطريركية موظفين آخرين أبرزهم آمر السكليون؛ أي السجن البطريركي، وله حق الإشراف على كنائس القسطنطينية والرفرنداريوس
Referendarius
ناقل رسائل البطريرك إلى القصر الملكي والمنذاتون
Mondaton
معلن الطقوس اليومية، والأيبوميمنسكون
Hypomimneskon
معادل الميستيكوس في القصر والأيرومنمون
Hieromnemon
المشرف على فرز الأصوات في الانتخابات الواقف وراء البطريرك يوم التتويج، وأساتذة المدرسة البطريركية وأمين الإنجيل والواعظ ومفسر الأسفار المقدسة، ومن هؤلاء الموظفين الكاتاستاسيوس المراقب العام في الخدمة الإلهية والبروتوباباس معاون البطريرك في الهيكل، والبروتوبسالتيس المرتل الأول والنوميكوس مدير الموسيقى.
الأساقفة
وبينهم المطارنة في مراكز ولايات الدولة ورؤساء الأساقفة في مناطقهم المستقلة والأساقفة في المدن وأمهات القرى، وكان البرديوت «الإكليريكي الزائر» قد حل محل الخوراسقف.
وقضت قوانين يوستنيانوس بأن ينتخب الأسقف انتخابا، وبأن يشترك في هذا الانتخاب إكليروس الأبرشية ووجهاء المركز، فيتفقون على ثلاثة ينتقي الأسقف المشرطن أليقهم، وكان هذا الأسقف المشرطن إما متروبوليت الولاية أو البطريرك أو ممثله. وقضت هذه القوانين أيضا بأن يكون المرشح قد أكمل الخامسة والثلاثين من العمر، وأن لا يكون قد تزوج مرتين، وألا تكون زوجته قد ترملت من قبل،
63
وجاز انتخاب العلمانيين لهذه الدرجة شرط التدرج في مدة من الزمن لا تقل عن ثلاثة أشهر،
64
وتوجب على المرشح أن يكون عالما مطلعا، وأن يتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي يوجهها إليه الأسقف المشرطن.
65
وأوجب الآباء في مجمع نيقية الثاني على المرشح لدرجة الأسقفية أن يعيد المزامير عن ظهر القلب،
66
وحرمت السيمونية تحريما واعتبر العاطي والآخذ مشتركين في الجرم.
67
وظل هذا التشريع نافذا طوال قرون متتالية، فقد ورد بتمامه في بروخيرون باسيليوس الأول (878)،
68
وجل ما أضيف إليه أن آباء مجمع نيقية الثاني أوجبوا خلع الأسقف الذي يصل إلى كرسيه بتدخل علماني،
69
وأن آباء المجمع الخامس السادس حرموا العيشة الزوجية، وأوجبوا على كل إكليريكي متزوج يصل إلى رتبة الأسقفية أن يبتعد عن زوجته فيدخلها ديرا بعيدا عن مركز عمله.
70
وألغى لاوون السادس القانون الذي منع انتخاب أسقف أبي ولد شرعي وسمح للأساقفة بإعالة ذويهم المعوزين،
71
وحرم وصول عبد آبق إلى الكرسي وأوجب إعادته إلى سيده.
72
وحاول الأباطرة التدخل في الانتخابات، وتدخلوا، ولكن الكنيسة قاومتهم مقاومة عنيفة، فالبطريرك تراسيوس حارب تدخل الفسيلفس في السنة 790 في انتخاب أسقف أماستريس ولم يعترف إلا بمرشح الشعب والإكليروس،
73
وكان نيقيفوروس فوقاس قد أصدر قانونا قضى بوجوب موافقة الفسيلفس على ترشيح الأسقف، فهب بوليفاكتوس البطريرك يحاول إلغاء هذا القانون، فاستغل ظروف يوحنا جيمسكي وأكرهه على الإلغاء،
74
وفي السنة 1071 ألغى السنودوس انتخاب أسقف برناسوس بعد أن ثبت تدخل الفسيلفس.
75
ولم يحصر القانون حق الترشيح، بل أباحه لجميع الإكليريكيين على السواء،
76
ولكن ظروف الإكليريكيين المقربين من البطريرك والمطارنة عاونتهم على الوصول إلى الكرسي الأسقفي أكثر من غيرهم ، وكاد التشريح ينحصر بعد أوائل القرن الثامن برؤساء الأديار وكبار الرهبان، ثم قدمت السلطات الروحية شمامسة الكرسي البطريركي ومتخرجي المدرسة البطريركية وأساتذتها على غيرهم، فتميز رهط من الأساقفة بعلمهم وثقافتهم أمثال يوحنا مفروبوس أسقف أفخايتة وثيوفيلاكتوس أسقف أوخريدة وأفستاثيوس أسقف ثسالونيكية، ولم يقتصر في الترشيح على الرهبان إلا بعد القرن الرابع عشر.
77
واجبات الأساقفة وامتيازاتهم
وقضى القانون والعرف والتقليد على الأسقف بأن يكون نبيل النفس حر الخلال محمود الشمائل، وقورا محترما، وأن يخضع لرئيسه متروبوليت الولاية، وأن يبقى في أبرشيته فلا يبرحها إلا لضرورة، وأن يكرس وقته للوعظ والإرشاد، وألا يطمع في المال ويجمعه لنفسه. وكان مطلق السلطة في المسائل الإكليريكية،
78
معفى من معظم الضرائب غير خاضع لسلطة الوالدين،
79
لا يطلب للشهادة أمام المحاكم إلا بإذن الفسيلفس،
80
وكان حر التصرف بأمواله الشخصية التي توفرت لديه قبل السيامة، أما دخله بعد السيامة فإنه اعتبر مالا كنسيا لا يجوز إنفاقه بصورة شخصية،
81
وحرم على الأسقف تعاطي الأعمال المدنية كجباية الضرائب وتصفية الثروات وقبول الوصاية،
82
ولكنه توجب عليه الإشراف على اقتصاديات الأسقفية والمؤسسات الخيرية الخاضعة له.
83
الكهنة
وظل هؤلاء متزوجين - كما جرت العادة من قبل - وحرمت القوانين انفصالهم عن زوجاتهم، وأجيز لهم في أواخر القرن التاسع الزواج حتى نهاية السنة الثانية بعد الرسامة، ثم جاء لاوون السادس فأبطل هذا التوسع.
84
واحتفظت كنيستنا بالشماسات قرونا طوالا، وفرضت عليهن شروط بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: «لا تكتتب في عداد الأرامل إلا التي لها ستون سنة على الأقل، ولم تتزوج إلا مرة واحدة، ويشهد لها بالأعمال الصالحة بأن تكون قد أحسنت تربية أولادها وأضافت الغرباء وغسلت أقدام القديسين وأمدت المتضايقين وسعت في كل عمل صالح.» (5 : 9-10)، ولكنهن بقين غير إكليريكيات لا يحق لهن الوعظ أو ممارسة الأعمال الكهنوتية، واكتفين بمعاونة الكهنة فكن يرأسن تعميد النساء ويعلمن الموعوظات ويراقبن النساء المؤمنات في الغونايكيون
gunaikeion (مد النساء) في أثناء القداس الإلهي، وكن أيضا يتفقدن المرضى والمصابين، وكان قانون يوستنيانوس قد قضى بعد قبولهن بهذه الدرجة قبل الخمسين، وبوجوب محافظتهن على الآداب والوقار، فإذا ما أجحفن بالنذر فحدن عن السيرة الحسنة أو تزوجن عوقبن بالموت،
85
ثم لطف هذا القانون في عهد باسيليوس الأول وقبلن شماسات في الأربعين من العمر،
86
وما فتئن يعملن في حقل الرب حتى القرن الثالث عشر، وزالت الحاجة إلى تعميد النسوة، وأصبحن كلهن معمدات في الصغر، فزال السبب الرئيسي لوجود الشماسات وانقطعت أخبارهن.
87
وكانت القوانين المدنية والكنسية قد ميزت الكهنة بما يزيدهم وقارا واحتراما؛ باللحية واللباس الخصوصي وشارة الصليب على القلنسوة لكبرائهم في ثسالونيكية، وبصيانتهم وعدم الاعتداء عليهم وبإعفائهم من بعض الضرائب، ومن السخرة والخدمة العسكرية، وبحصر النظر في دعاويهم أمام محاكم الأساقفة. وكان قد أبيح لهم العمل لتأمين الرزق، فمنعهم لاوون السادس من معاطاة المحاماة وغيرها من الأعمال المدنية، وحرم عليهم العمل بالأجور كإدارة الأملاك.
88
الرهبان
ولعب الرهبان دورا هاما في الكنيسة والدولة، ولم ينتموا - بادئ ذي بدء - إلى طغمة الإكليروس، وإنما اعتبروا علمانيين مربوطين بنذر وجب القيام به على أكمل وجه بإشراف الأساقفة، ثم تدرج بعضهم في سلم الكهنوت وبقي معظمهم علمانيين، فعرف الإكليريكيون منهم بالرهبان المقدسين
hieromoines . ثم تكاثر هؤلاء المقدسون فعظم شأنهم، وما فتئوا يتقدمون حتى احتكروا الكرسي الأسقفية.
وعرف الروم نوعين من الترهب: الشرقي والباسيلي، وتميز الترهب الشرقي بالتأمل والانفراد، فكان الراهب منفردا منعزلا
monos monomakos
يعيش في صومعة مقفلة
egkleistoi
أو على عمود
stulites
أو على شجرة
dendrites ، وجاء القديس باخوميوس في القرن الرابع فجمع هؤلاء الزهد حول دير معين يعيشون فيه مجتمعين، وتكتل النساك في فلسطين، فعاشوا في صوامع قريبة، واشتركوا في مائدة واحدة وصلاة واحدة مرة في الأسبوع،
89
أما الطريقة الباسيلية فإنها تميزت بالعيشة المشتركة والعمل المشترك والطاعة، ووافقت هذه الطريقة ظروف المناطق اليونانية في آسية وأوروبة فانتشرت انتشارا واسعا، وقامت الصوامع والأديار في كل مكان، وأشهرها أديرة جبل القديس أوكسنديوس وجبل أوليمبوس في بيثينية وجبل آثوس في شبه جزيرة خلقيذية وجبل الميتيورة في ثسالية.
وحدد القديس باسيليوس ساعات الصلاة والدرس والعمل والأكل والنوم وعين نوع اللباس وتفاصيله، واكتفى بعدد محدود من الرهبان في الدير الواحد ونهى عن الكثرة، وصعب الخروج من الدير والدخول إليه، وأوجب الطاعة الكاملة للرئيس.
وأقبل الناس على الترهب جماعات واندفعوا في سبيل الرهبنة وانفردوا في تأسيس الأديار فأحدثوا بلبلة وتشويشا، فاتخذ المجمع المسكوني الخلقيدوني (451) قرارات منعت تأسيس الأديار قبل موافقة الأسقف صاحب العلاقة، وأوجبت إقامة الرهبان في الأديار وعدم خروجهم منها بدون إذن الأسقف، كما أوضحت أن واجب الرهبان الأول هو الصوم والصلاة في الأديرة، وحرمت على العبد تقديم النذر بدون موافقة سيده، كما منعت الزواج بعد تقديم النذر.
وجاء يوستنيانوس (527-565) فاشترع قوانين اعترف بها بقدسية الحياة الرهبانية، ثم اتخذ من مبادئ القديس باسيليوس الكبير وقرارات المجامع أساسا للتنظيم، فمنع إنشاء الأديرة في أية أبرشية قبل موافقة أسقف هذه الأبرشية وبركته،
90
وأوجب إحاطة الدير بسور ومراقبة بابه،
91
وحرم بعد ذلك انطلاق الرهبان «التائهين» الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر مستعطين خبزهم اليومي، وأبعد أديرة الراهبات عن أديرة الرهبان وفرق بين الأسكيتيرية
asketeria
أديرة التائبات وأديرة الرهبان،
92
وجعل على كل دير رئيسا بلقب أيغومينس
hegoumenos ، ومعناه المدير أو أرشمندريت
archimandrites
ومعناه حارس الحظيرة،
93
ومنح الراهبات حق انتخاب هذا الرئيس، وأوجب خضوعهم للتفتيش، فكان على البطريرك أن يوفد أكسرخوسا لهذه الغاية مسلحا بالتعليمات البطريركية ال
Entalma .
94
ولم يتعرض يوستنيانوس لنظم الرهبان الداخلية، فكان على المؤسس أن يذكر أهمها في تيبيكيون
Typikon
التأسيس، وكان للرئيس والأسقف حق الإضافة والتعديل، وواظب الرهبان منذ عهد القديس باسيليوس الكبير على صلوات الساعات السبع بما فيها من صلوات الميسونوكتيكون
Mesonuktikon
وصلوات الأورثروس
Orthros ، وكان من حسن حظ كنيستنا أن أوجب القديس سابا بالتيبيكون تقدم اللغة اليونانية على السريانية والعربية، فأكره الرهبان السريان والعرب أن يشتركوا في ليتورجية الكنيسة الكبرى بعد إقامة الصلاة بلغتهم في الكنائس الصغرى، فظلت كنيستنا - بفضل هذا التدبير - على صلة وثيقة بكنائس اليونان واللاتين، وتسنى لها متابعة الفكر الكنسي الجامعي والاشتراك فيه، وقضى هذا التيبيكون أيضا بأن يكون الأيغومينس يونانيا، أو في الأرجح متهلنا يجيد اللغة اليونانية.
95
ودافع الرهبان دفاع الأبطال عن الأيقونات، فذاقوا الأمرين في عهد قسطنطين الخامس (740-775)، ثم انتصروا فعادوا إلى سابق عزهم وسطوتهم، فحاول البطريرك القسطنطيني نيقيفوروس الأول (806-815) أن يحد من غلوائهم، ثم جاء الفسيلفس نيقيفوروس فوقاس (963-969)، فمنع إنشاء الأديرة الجديدة وتوسيع القديمة، ولكن الفسيلفس باسيليوس الثاني (976-1025) ألغى هذه الأحكام، فعاد الرهبان إلى سابق عهدهم.
القديس ثيودوروس الأستودي (759-826)
وأدى هذا التضييق الشديد على الرهبان إلى تفكير جدي في الرهبنة والترهب، وقام في الجبل المقدس نفسه في جبل أوليمبوس من دعا إلى الإصلاح والتجدد، فظهر - بادئ ذي بدء - القديس يوانيكيوس الكبير الذي اشتهر بالفضيلة والتقوى، وأسس في أوليمبوس ثلاثة أديار كانت حياته المثلية فيها أكبر رادع عن الشر وأشد دافع للخير، وهو الذي علمنا أن نقول: «الآب رجائي والابن ملجائي والروح القدس وقائي، أيها الثالوث القدوس المجد لك.»
96
وظهر أيضا ثيودوروس المعترف الأستودي، أبصر النور في القسطنطينية في السنة 759، ونال حظا وافرا من التربية الصالحة والعلوم الفلسفية، ثم عافت نفسه الدنيا وما فيها في الثانية والعشرين من عمره، فلجأ وجماعة من رفاقه إلى عقار له في السكوذيون في جبل أوليمبوس، ووضع نفسه ورفاقه تحت تصرف خاله القديس أفلاطون الذي كان قد سبقه إلى العزلة والتأمل في دير السكوذيون، ونذر ثيودوروس نفسه فبهر أقرانه بالتقوى والصلاح والمحافظة على التقليد الرهباني، فرقاه البطريرك تراسيوس في السنة 784 إلى رتبة الكهنوت. وألم بخاله مرض عضال، فأوصى بانتخابه رئيسا على دير السكوذيون، فأصبح هيغومينا في السنة 794.
97
وقام ثيودوروس بأعباء الرئاسة بجد ونشاط وغيرة وتفان، فقدس نفسه قبل تقديس غيره واحترم القوانين ليحترمها غيره، فسطعت الحياة الرهبانية في السكوذيون بكل سناها، وكان خطير النفس رفيع الأهواء فصبا إلى إصلاح كامل يشمل الحياة الاجتماعية بأسرها، فطالب بتطبيق المبادئ المسيحية في جميع النواحي، وقال باستقلال الكنيسة وحريتها في انتخاب أساقفتها، وأوجب مكافحة السيمونية، وخلع من رشا للوصول إلى الكرسي، ومحاربة من لم يحترم الأيقونات ومن غالط في العقيدة وأنب كل تهتك دنس.
98
واتخذ ثيودوروس موقفا حازما من الفسيلفس قسطنطين السادس؛ لتشبثه في تطليق امرأته الشرعية ثيوذورة، فنفي إلى تسالونيكية هو ورهبانه في السنة 795، ثم أعادته إيرنية في السنة 797، ثم أقلق المسلمون البلاد وظهرت طلائع جيوشهم في بيثينية، فرحل ثيودوروس وجماعته في السنة 799، واستقروا في دير الستوذيوس
Stoudios
في القسطنطينية،
99
فأم الرهبان هذا الدير من كل حدب وصوب حتى فاق عددهم الألف،
100
ولم ينعم ثيوذوروس براحة البال طويلا؛ فإن لاوون الخامس الأرمني (813-820) أثار على الكنيسة والرهبان حربا أليمة سبقت الإشارة إليها، واضطهد هذا الفسيلفس ثيوذوروس ورهبانه بأنواع منوعة من الإهانة والسجن والنفي، ومات لاوون فقضى ثيوذوروس البقية الباقية من حياته في ديره مطمئنا متفرغا للإرشاد والإصلاح، ورقد بيسوع شيخا طاعنا سنة 826.
وقسم ثيوذوروس العمل الرهباني إلى دوائر معينة، وأقام على رأس كل دائرة قيما جعله مسئولا عن عمله فيها، وحدد ثيوذوروس الواجبات في هذه الدوائر المختلفة ونظمها نظما؛ ليسهل على الرهبان حفظها. ثم اشترع قانون عقوبات لمن خالف هذه القوانين، ودعا الرهبان إلى اجتماع عام ثلاث مرات في الأسبوع ليعظهم في التقوى والطاعة وضبط النفس والاندفاع في سبيل العمل المشترك، ودونت هذه الإصلاحات في مصنفاته، ولا سيما الكاتيكيسيس
Katekesis
الصغير بعظاته المائة والأربع والثلاثين،
101
والكاتيكيسيس الكبير بأقسامه الثلاثة وعظاته السبع والسبعين،
102
وقد خلد شخصيته في رسالته إلى تلميذه نقولاووس، فلتراجع قبل غيرها،
103
وأما التيبيكون الذي يعزى إلى القديس ثيودوروس فإنه في الحقيقة تطبيق معدل الأنظمة الأستودية في أديرة مختلفة.
104
وتتجلى مبادئ ثيوذوروس في تيبيكون دير الإفرجيتيس
Evergestis
الذي أنشئ في القسطنطينية في أوائل القرن الحادي عشر، فقد حدد هذا التيبيكون كيفية الترتيل والتكريس والتطهير، وبين ساعات الصلاة في الليل والنهار وأوجب إقامة القداس الإلهي يوميا. وأجاز المناولة ثلاث مرات في الأسبوع للرهبان المقدمين ومرة واحدة في الأسبوع لسائر الرهبان. وأوجب الاعتراف قبل المناولة وحصر حق استماع الاعتراف برئيس الدير وحده، وقضى عليه بوجوب الإصغاء مرتين في النهار: في الصباح وبعد العشاء. وسلطة الرئيس بموجب هذا التيبيكون واسعة مطلقة، وعلى الرهبان أن يحترموا هذا الرئيس ويطيعوه طاعة تامة، وهو يعين رؤساء الدوائر دونه، وأهم هؤلاء الأيكونوموس
Oeconomos
وهو القهرمان ويمين الرئيس وقد يخلفه في الرئاسة، وهنالك السكيفوفيلاكس
Skeuophylax
وهو أمين الكنيسة والذوخياريوس
Dochiarios
وهو أمين الصندوق وضابط اللوازم والإبيستيمونارخوس
Epistemonarchos
وهو الناظر المحافظ على النظام والترابيزاريوس
Trapezarios
وهو مدير المائدة ورئيس الطهاة والخبازين، وعلى الرهبنة أن تحتفل بعيد تأسيسها وبذكرى المحسنين إليها، وعليها أيضا أن تؤوي المسافرين والمرضى، فتنزلهم عندها وتعنى بهم.
105
الفصل العاشر
الفاطميون والكنيسة
969-1054
الشيعة
وكانت شيعة علي لا تزال تتطلب الخلافة له ولنسله، وترى أنهم أحق بها، وكان الخلفاء العباسيون يحذرونهم ويراقبونهم وينكلون بهم فلا يرجع الشيعة عن مطلبهم ولا يغير الخلفاء سياستهم. وكان العباسيون أقدر على تتبع الشيعة من الأمويين؛ لأنهم كانوا أعرف بالعلويين وأساليبهم؛ فقد خالطوهم وحالفوهم للعمل ضد الأمويين، وكان كلما قام خليفة عباسي قام داع علوي يدعو إلى نفسه ثم يقاتل فيقتل، وقد يكشف أمره قبل الخروج فيحبس أن يسم. ولم يجد عطف المأمون على الشيعة ولم يدم نفعه؛ فالمتوكل تحامل عليهم فأعاد الاضطهاد سنة 850، وهدم قبر علي في النجف وحرث قبر الحسين في كربلاء.
وأدى هذا الاضطهاد المستمر إلى التكتم فاتخذت الشيعة مبدأ التقية بحيث أخفت ميولها اتقاء للضرر، وحصرت الشيعة الخلافة في علي وابنه الحسن ثم الحسين (680) ثم علي زين العابدين (712) فمحمد الباقر (731) فجعفر الصادق (765)، فموسى الكاظم (799) فعلي الرضا (818) فمحمد الجواد (835) فعلي الهادي (868) فالحسن العسكري (874) فمحمد المنتظر. وهو في حالة غيبة موقتة حي لا يموت، وقد تغيب في كهف في جامع سامرا سنة 878، هو المهدي الذي سيظهر فيحكم العالم قاطبة، ويكون ظهوره فاتحة عصر يسبق نهاية العالم، وهو الإمام المدبر «قائم الزمان».
1
الإسماعيلية
وكان جعفر الصادق قد عين ابنه إسماعيل خلفا له، ولكنه عاد فعين ابنه الثاني موسى الكاظم، ووافقت أكثرية الشيعة على هذا التغيير، ولكن بعضهم ظلوا تابعين لإسماعيل، فلما مات في السنة 760 أصبح عندهم الإمام المهدي المستور، ولما كان إسماعيل هو الإمام السابع عرف هؤلاء بالسبعية أيضا.
ثم راجت النظريات الفلسفية اليونانية، واشتد الاحتكاك بالمانوية والمجوسية، فأخذ الإسماعيليون عن فيثاغوروس وأفلوطين وغيرهما، واعتبروا العدد سبعة مقدسا وجعلوا التجليات سبعة: الله والعقل والنفس، والمادة الأصلية والفضاء والزمن، وعالم الأرضين والبشر. وقالوا بسبعة أنبياء مشترعين «ناطقين »: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ثم محمد التام ابن إسماعيل. وقالوا أيضا بسبعة أبناء صامتين بين كل نبيين ناطقين، وأول هؤلاء الأساس ومنهم إسماعيل وهارون وبطرس وعلي، وجاء بعد هؤلاء زعماء الدعاية وأحدهم «حجة» فالمبشرون «الدعاة»، وقالوا أيضا بتأويل القرآن فرأوا المعنى الحقيقي مستورا بالمعنى الظاهري، ومن تعاليمهم تناسخ الأرواح وحلول الإلهية في إسماعيل وانتظار «رجعته» مهديا. وجعلوا المريدين المتدرجين سبعة طبقات أيضا؛ ناسجين على منوال اليونان والمانويين.
وأشهر رجالهم في القرن التاسع عبد الله بن ميمون القداح، وهو الذي أكمل نظامهم الديني السياسي، جعل البصرة أولا مقره ثم انتقل إلى سلمية في شرق حماة، ومنها أنفذ الدعاة إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ليبثوا روح الشك في العقائد الرائجة ويوجهوا الانتباه إلى المهدي المنتظر.
القرامطة والألفة
وقبل وفاة عبد الله بن ميمون في السنة 874 للميلاد لمع بين أتباعه حمدان قرمط، وكان من غلاة الدعاة، فابتنى لنفسه مقرا «دار الهجرة» في جوار الكوفة في السنة 890، واستغل العداوة المزمنة بين الفلاحين وأبناء البادية، وجعل لمنظمته أرزاقا جارية «مشتركة» مستمدة من تبرعات المريدين. وأباح حمدان الاشتراكية «الألفة» في الأموال، وشدد على المساواة وجعل للعمال والصناع مراسيم تقربهم من نقابات العصر الحديث. وفي الرسالة الثامنة من رسائل إخوان الصفا وصف لهذه النقابات الإسلامية القديمة فليراجع في محله. ويرى العلامة المستشرق الإفرنسي ماسينيون صلة بين حركة حمدان قرمط وبين الماسونية وغيرها من الجمعيات السرية التي بدأت تظهر في الغرب بعد ذلك بقليل.
وساهم القرامطة في ثورة الزنج في البصرة (868-883)، وأسسوا دولة لهم في الأحساء (899)، واحتلوا مكة (930) وحملوا الحجر الأسود منها إلى هجر، ولجأ بعضهم إلى سلمية مقر إخوانهم الإسماعيليين في شمال سورية، وشنوا منها الغارات على من جاورهم من أهل هذه البلاد، وبلغوا بفتنهم وقلاقلهم خراسان واليمن.
2
الفاطميون
ولمع بين دعاة الإسماعيليين في أواخر القرن التاسع رجل من أهل صنعاء اليمن، اسمه أبو عبد الله الحسين، فرحل إلى شمال إفريقية وبث دعوته في صفوف البربر ولا سيما في مرابض بني كتامة، وكانت آنئذ خاضعة لدولة الأغالبة، ولاقى أبو عبد الله نجاحا، فغادر سعيد بن حسين زعيم الإسماعيليين سلمية متخفيا إلى شمال إفريقية، وقال سعيد: إنه من ذرية فاطمة من نسل الحسين وإسماعيل،
3
وسجن سعيد في سجلماسة بأمر زيادة الأغلبي (903-909) فأنقذه أبو عبد الله الحسين بثورة قضت على دولة الأغالبة، ونودي بسعيد أميرا فعرف بالإمام عبيد الله المهدي حفيد فاطمة من نسل الحسين وإسماعيل.
وحكم المهدي (909-934) من الرقادة وقتل أبا عبد الله الحسين وبسط سلطانه حتى حدود مصر، ثم احتل الإسكندرية في السنة 914، وأنشأ لنفسه عاصمة جديدة على الساحل التونسي إلى الجنوب الشرقي من القيروان وأطلق عليها اسمه فعرفت بالمهدية. ثم خلفه القائم (934-945) فالمنصور (945-952) فالمعز (952-975)، وفي عهد هذا الأخير عظم شأن الأسطول الفاطمي، فغزا سواحل إسبانيا في السنة 955، وبعد ذلك بثلاث سنوات تقدم الجيش غربا حتى بلغ المحيط الأطلسي. وفي السنة 969 استولى الفاطميون على مصر وقضوا على سلطة الإخشيديين، وكان بطل هذه الفتوحات جوهرا الصقلي الرومي، وكان هذا نصرانيا ولد في صقلية وجاء منها إلى القيروان رقيقا.
ولم يكتف جوهر بفتح مصر، بل عمل على مد نفوذ الفاطميين إلى بلاد الشام فأنفذ قائده جعفر بن فلاح لمقاتلة الإخشيديين في فلسطين وسورية، فالتقى الخصمان في الرملة في أيلول السنة 969، وكان الحسن الإخشيدي على رأس جيوش المقاومة فوقع أسيرا، وتتابعت انتصارات الفاطميين ففتحوا طبرية، وضرب جعفر عقيل وفزارة ومرة وغيرها من قبائل البدو بعضها ببعض وقصد دمشق فثار أهلها على الإخشيديين فانهزموا عنها، وذلك بعد شهر واحد من معركة الرملة، فاتخذ الفاطميون دمشق قاعدة لهم، وانطلقوا شمالا وغربا فاستولوا على الساحل حتى طرابلس، ولكنهم انهزموا أمام الروم في أنطاكية. وأقيمت الخطبة للمعز لدين الله الفاطمي في دمشق، في أول جمعة من شهر محرم سنة 359 للهجرة؛ أي في التاسع عشر من تشرين الثاني سنة 969، وحذف اسم الخليفة العباسي المطيع.
وتولى القرامطة بعد خروج عبيد الله المهدي من سلمية زعامة جميع طوائف الإسماعيلية فيها وحواليها، فلما أصبح عبيد الله أمام الفاطميين تدخل في شئون سلمية فأيده بعض القرامطة فيها وقاومه غيرهم، ورأى الموالون - وعلى رأسهم أبناء أبي طاهر - أن تنضوي طائفتهم تحت لواء الفاطميين، ورأى المعسكر الثاني - وفي طليعتهم أحمد بن أبي سعيد وإخوته - أن يوجهوا السياسة توجيها يعود بالنفع على القرامطة أنفسهم، وتوفي صديق الفاطميين في السنة 944، ولم يترك من الأبناء من يصلح للحكم والزعامة، فتولى الاستقلاليون دفة السياسة وما فتئوا حتى وصول الفاطميين إلى سورية.
وتوفي المعز في أواخر السنة 975، وخلفه ابنه «العزيز بالله» أبو منصور نزار، ولبث في الخلافة إحدى وعشرين سنة، ومال إلى اصطناع الموالي، ولم يعتمد على المغاربة إلا قليلا، وانتقى مواليه من الأتراك والصقالبة، فولى بنجوتكين التركي القيادة وولاية دمشق، وولى وفيا الصقلي على عكة، «وبشارة» الإخشيدي على طبرية وجهاتها. ومن هنا القول «بلاد بشارة» حتى يومنا هذا، فأدى هذا الانتقاء إلى كثير من الحسد والنزاع بين الأتراك والمغاربة.
العزيز والنصارى (975-996)
ولم يحصر العزيز الحكم بالمسلمين دون سواهم، فولى عيسى بن نسطوريوس النصراني الوزارة، وجعل أبا الفتح منصور النصراني طبيبه وأنزله منزلة سامية في الدولة،
4
وكثر عدد الذميين - من النصارى واليهود - في الدواوين ومناصب الحكم واستأثروا بشيء كثير من السلطة والنفوذ، وجاء لأبي صالح الأرمني أن الخلفاء الفاطميين كانوا يشجعون إقامة الكنائس والأديار، بل ربما تولوا إقامتها بأنفسهم.
5
وكانت زوجة العزيز وأم ست الملك جارية رومية أرثوذكسية، وكان لها في أيام زوجها نفوذ عظيم في الدولة، كانت ابنتها ست الملك حازمة عاقلة بصيرة في الأمور، فأحبها العزيز وأصغى إليها واستمع إلى نصحها، فكان لها أثر ظاهر في توجيه سياسته نحو النصارى. وكان لست الملك خالان رفعهما العزيز بتدخله في شئون الكنيسة إلى الذروة، فجعل أحدهما أورسطيوس بطريركا على أوروشليم (984-1005) والآخر أرسانيوس متروبوليتا على القاهرة ثم بطريركا على الإسكندرية.
6
السياسة الفاطمية الدينية
وقامت دولة الفاطميين على الدعوة الشيعية، فكان خلفاؤها أئمة أحفادا لعلي وفاطمة، وتحدرت إمامتهم من إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وحرصوا كل الحرص على هذه الصفة. ولما استقروا بمصر والشام اعتمدوا الدعاية السرية لتأييد دعوتهم؛ لأنهم لم يجدوا في هذين القطرين ما وجدوه في المغرب مهدا خصبا لدعوتهم.
واتخذت دعوتهم المذهبية صبغة رسمية، فانتظمت في القصر نفسه وفي الجامع الأزهر، وتولى بثها بنو النعمان بقراءة علوم آل البيت والتفقه فيها، وكان عظماء الدولة يشاركونهم في بعض الأحيان فيقرءون هذه العلوم ويشرحونها. وكانت هنالك دعاية أخرى تحاط بالتحفظ والتكتم ويشرف عليها زعيم كبير يدعى داعي الدعاة. وكانت هذه الدعوة تجري في تسع مراتب، يعرضها الدعاة بالتعاقب وفقا لاستعداد المريد وأهليته، فلا يصل إلى درجتها العليا إلا من كان موضع الثقة، فالدين في المرتبة الأولى أمر مكتوم وانصراف الناس عن الأئمة هو أصل الشر والخلاف في الإسلام. وليس دين محمد ما تعرفه الكافة، وإنما هو سر الله المكتوم لا يطيق حمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن اصطفاه الله.
وإذا آنس الداعي قبولا انتقل بالمريد إلى المرتبة الثانية، فأكد أن الله لم يرض في إقامة حقه إلا أن يؤخذ عن أئمة معينين، ويقول الداعي في المرتبة الثالثة: إن هؤلاء الأئمة سبعة؛ علي والحسن والحسين وزين العابدين ومحمد وجعفر وإسماعيل، وهو القائم صاحب الزمان، وابنه محمد صاحب العلم المستور ودعاته هم الوارثون لعلمه. وكان يقال في المرتبة الرابعة إن الأنبياء الناطقين بالأمور الناسخين للشرائع سبعة أيضا، وإنه لا بد لكل منهم من صاحب يأخذ عنه دعوته ويحفظها على أمته، ويكون لهذا ظهير في حياته يخلفه بعد وفاته، ويسير كل مستخلف على هذا المنوال إلى أن يأتي منهم سبعة، ويقال لهؤلاء: «السبعة الصامتون»، فإذا انقضى هؤلاء السبعة يبدأ دور ثان من الأئمة يفتتحه بني ناطق ينسخ شريعة من مضى، وأول النطقاء آدم وظهيره أو سوسه شيت، وثاني النطقاء نوح وظهيره سام، وثالثهم إبراهيم الخليل وظهيره ابنه إسماعيل، ورابعهم موسى وظهيره هارون، وخامسهم عيسى وظهيره شمعون الصفا، وسادسهم محمد وظهيره علي وهو أول السبعة الصمت، وجاء بعده ستة صمتوا على الشريعة الإسلامية.
وسابع النطقاء هو قائم الزمان محمد بن إسماعيل بن جعفر، وكان يلقي على المريد في المرتبة الخامسة أنه لا بد مع كل إمام قائم من حجج اثني عشر متفرقين في الأرض، ويدعو الداعي في المرتبة السادسة إلى أن الشرائع رموز لها معان مستترة، تختلف عن نصوصها الظاهرة، وأن منطق العقل هو المعول عليه في هذه الأمور، فيتعرف المريد إلى أفلاطون وأرسطو وفيثاغوروس وغيرهم.
وجاء في المرتبة السابعة أن صاحب الشريعة لا يستغني من نفسه، ولا بد له من صاحب يعبر عنه؛ ليكون أحدهما الأصل والآخر يصدر عنه.
وجاء في الثامنة أن مدبر الوجود والصادر عنه إنما هو تقدم السابق على اللاحق تقدم العلة على المعلول، وأن الأعيان كلها ناشئة وكائنة عن الصدر الثاني، فالسابق لا اسم له ولا صفة ولا يعبر عنه ولا يحدد، فلا يقال هو موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز. والتالي يلحق بمنزلة السابق، ومعجزات الأنبياء تكون تارة رموزا يعقلها العالمون، وتارة تكون بإفصاح يعرفه كل الناس، والقرآن والقيامة والثواب والعقاب معناها غير ما يفهمه الكافة، وهي حدوث أدوار تقع عند انقضاء أدوار من أدوار الكواكب وعوالم اجتماعاتها، وفي الدعوة التاسعة الأخيرة كان المدعو ينتقل إلى الفلسفة وما رواء الطبيعة فيعلم أن ما ذكر من الحدوث والأصول إنما هي رموز إلى معاني المبادئ وتقلب الجواهر، وأن الوحي إنما هو صفاء النفس ويعبر عنه بكلام الله، وأنه ليس على العارف المستنير أن يعمل به، وأن الأنبياء أصحاب الشرائع إنما وجدوا لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء الخاصة.
7
الحاكم بأمره (996-1021) «وجد» في الرابع عشر من آب سنة 985، وتولى الخلافة بعد العزيز وهو لا يزال في الحادية عشرة من عمره، وطوى مرحلة الحداثة في الخامسة عشرة، وما أن بلغ أشده حتى أصبح «مبسوط الجسم مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان تمازجهما زرقة، ونظرات حادة مروعة كنظرات الأسد لا يستطيع الإنسان صبرا عليها، وله صوت قوي مرعب يحمل الروع إلى سامعيه»،
8
وكان منذ حداثته يؤثر العمل المضني على مجال اللهو واللعب، وظل طوال حياته عفيفا زاهدا «لم يمد يده قط إلى الأخذ من مال أحد، بل كان له وجود عظيم وعطايا جزيلة».
9
وكان إذا أمر بأحد من الوجهاء الأغنياء وهب تركته، أو ضمها إلى صندوق الدولة، وكان زاهدا متقشفا يحتقر الرسوم والألقاب الفخمة، يرتدي ثيابا بسيطة من الصوف الأبيض، ويتعمم بفوطة، ويحتذي حذاء ساذجا ويركب فرسا بلا زينة أو حمارا، ولا يصحبه من الحشم سوى بضعة من الركابية، ولم ينقطع عن الاتصال بالشعب وقضاء ما استطاع من حوائجهم، وربما حمل إليهم بنفسه السجلات والمراسيم المطلوبة.
10
وجاء في كتاب عمدة العارفين للشيخ محمد شرف الدين الأشرفاني «أن سيرة الحاكم كانت من أعجب السير وأغربها يأمر بشيء ثم ينهى عنه، وكانت أموره متضادة؛ لأن كان عنده شجاعة وإقدام وجبن وإحجام، يبخل بالقليل ويعطي الجزيل، وذلك لحكمة في ذاته». وعني بالدعاية للمذهب، فحارب الفسق والدعارة والخمر والخمارين، وحرم دخول الحمام بلا مئزر، وحرم على النساء التزين والتبرج وكشف الوجه في الطريق وعاقب كثيرين،
11
ولم ير الحاكم في النصارى مادة للمذهب الذي دعا إليه، فشجعهم على النزوح إلى أراضي الروم في أنطاكية وشمال سورية، وهدمت كنيسة القيامة في عهده في أيلول السنة 1009، وهدمت الكنيسة المريمية في دمشق.
12
حمزة بن علي
وظهر في القاهرة - في الثلاثين من أيار سنة 1017 - حمزة بن علي بن أحمد الزوزني، وكان فارسيا أبصر النور في زوزن، ثم هاجر إلى مصر وانضاف إلى المقامات الربانية، «واشتهر بخدمة الحاكم قبل التجريد وبعد التجريد، فأضيفت النذر ودعاتهم إليه، واستمر في مصر حتى حلت الثامنة وأربعمائة فكشف التوحيد في أول يوم من المحرم (30 أيار سنة 1017)، ودعا الخلائق إلى التوحيد، وكانت دعوته تخييرا لا تكليفا.»
13
فصدر سجل بإبطال السجلات التي صدرت من قبل في حق النصارى واليهود ورفع الفروض التي ضربت عليهم، وأطلق الحرية لهم في إعادة الكنائس وعودة من أسلم منهم إلى النصرانية، وقد حفظ لنا يحيى بن سعيد الأنطاكي نص سجلين بهذا المعنى أحدهما موجه إلى رئيس دير طور سينا الأنبا سليمان، والآخر إلى نيقيفوروس بطريرك أوروشليم وخلف ثيوفيلوس، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر أمير المؤمنين بكتابة هذا المنشور لينقيفور بطريرك بيت المقدس، بما رآه من إجابة رغبته وإطلاق بغيته من صيانته وحياطته، والذي عنه وعن أهل الذمة من نحلته وتمكينهم من صلواتهم على رسومهم في افتراقهم واجتماعهم، وترك الاعتراض لمن يصلي منهم في عرصة الكنيسة المعروفة بالقيامة وخربتها على اختلاف رأيه ومذهبه ومفارقته في دينه وعقيدته، وإقامة ما يلزمه في حدود ديانته وحفظ المواضع الباقية في قبضته داخل البلد وخارجه، والديارات وبيت لحم ولد وما يرسم هذه المواضع من الدور المنضوية إليها، والمنع من نقض المصلبات بها والاعتراض لأحباسها المطلقة لها ومن هدم جداراتها وسائر أبنيتها، إحسانا من أمير المؤمنين إليهم ودفع الأذى عنهم وعن كافتهم وحفظا لذمة الإسلام فيهم، فمن قرأه أو قرئ من الأولياء والولاة ومتولي هذه النواحي وكافة الجهات وسائر المتصرفين في الأعمال والمستخدمين على سائر منازلهم وتفاوت درجاتهم، واستمرار خدمتهم أو تعاقب نظرهم في هذا الوقت وما يليه؛ فليعلم ذلك من أمير المؤمنين ورسمه ويعمل عليه وبحسبه، وليحذر من تعدي حده ومخالفته حكمه ويتجنب مباينة نصه ومجانبة شرحه، وليقر هذا المنشور في يده حجة لمودعه يستعين بها على نيل طلبته وإدراك بغيته - إن شاء الله تعالى.
14
الدروز في أبرشيات أنطاكية
وانتشرت هذه الدعوة في الأوساط الإسلامية في أبرشيات أنطاكية، ولا سيما في ربوع لبنان الشرقي فالغربي، ثم اضطهد أتباعها في كل مكان فنزحوا إلى سورية ولبنان وآثروا السكنى مع المسيحيين، وتعاونوا معهم في المحافظة على الراحة والأمن والطمأنينة، وعلى حرية المعتقد والعبادة.
اسم الكنيسة ولقبها
وعاب اليعاقبة المصريون تيموثاوس البطريرك الإسكندري (460-482) بقوله قول الملك في المجمع الخلقيدوني (451)، فأطلقوا عليه لقب البطريرك الملكي، وسموا أتباعه ملكيين تعييرا وتقبيحا، ويقول المؤرخ إيفاغريوس - وهو من أعيان القرن السادس: إن هذا التعيير جاء أولا باليونانية مشتقا من اللفظ فسيلفس؛ أي الملك،
15
وظلت اللغة اليونانية حتى القرن السادس لغة جميع النصارى الشرقيين، ثم أحل الأقباط القبطية محلها في مصر، واليعاقبة السريانية في سورية والجزيرة، فنقل هؤلاء التعيير اليوناني «فاسيليكوس» إلى السريانية باللفظ «ملكايا» نسبة إلى ملكا، وعربت هذه التسمية فأصبحت ملكائية.
16
وتناصر الناس وتكتلوا حول العقيدة الدينية، وانتظمت الحكومات على هذا الأساس نفسه، فظن الخلفاء الأمويون والعباسيون بأبناء الكنيسة الجامعة، فاتهموهم بالتجسس للروم والتعاون معهم. وقربوا الأقباط في مصر واليعاقبة والنساطرة في سورية والجزيرة وما بين النهرين، فعيروا أبناء الكنيسة الجامعة باللفظ نفسه الذي أطلقه عليهم هؤلاء المونوفيسيون، وأصبح التعيير لقبا رسميا في جميع الأوساط الحكومية الرسمية
17
فحمله المؤمنون وتناقلوه.
ولكن أبناء الكنيسة الجامعة لم يتناسوا ولم يتنازلوا عن اللفظين أرثوذكسي وكاثوليكي للتعبير عن صحة العقيدة وجامعية الكنيسة، فالإيمان الذي أقره المجمع المسكوني السادس هو في نظر البطريرك أفتيخيوس المؤرخ «الأمانة المستقيمة الأرثوذكسية النقية التي بلا عيب»،
18
وكنيسة أبي جبلة في مصر هي «كنيسة أهل الملة الجامعة»،
19
والمريمية التي أمر الحاكم بهدمها في دمشق هي «كنيسة السيدة الكاثوليكي»،
20
وهذه المصادر التي نعتمد أولى بثقتنا من حيث العدالة والضبط في الموضوع الذي نبحث من أقوال الأقباط واليعاقبة والمسلمين التي استشفع بها حبيب الزيات في كتابه «الروم الملكيون»، وكنيستنا كانت وظلت ولا تزال وستبقى الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية، وهي كانت وظلت ولا تزال وستبقى أرثوذكسية في عقيدتها كاثوليكية في جامعيتها، وليس من العلم بشيء أن نقول مع الزيات إننا اخترنا اللقب «أرثوذكس» عند انفصال إخواننا الروم الكاثوليك عنا سنة 1724.
أنطاكية والقسطنطينية ورومة
وكان نزاع حول احترام الأيقونات المقدسة - كما سبق وأشرنا - وناضلت كنيسة أنطاكية في سبيل إكرام الأيقونات واحترامها، فخالفت بذلك الموقف الرسمي في القسطنطينية، فشفع موقفها عند هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، وضعفت ريبته فيها فرخص لها بالرجوع إلى حقوقها، وسمح بإقامة بطاركتها في أنطاكية مدينة الله، ولكنه لم يسمح - فيما يظهر - بذكر بطاركة القسطنطينية في الذبتيخة الأنطاكية، وبقي الحال على هذا المنوال حتى قلت هيبة الخلافة وعظم شأن الإمبراطورية الشرقية، ففي السنة 937-938 تهادن الروم والمسلمون فوجه ثيوفيلاكتوس بطريرك القسطنطينية رسولا إلى أفتيخيوس بطريرك الإسكندرية وإلى ثيودوسيوس بطريرك أنطاكية وخريستوذوللس بطريرك أوروشليم؛ يسألهم أن يذكروا اسمه في صلواتهم وقداستهم، فأجابوه إلى ما سأل «وهذا كان قد انقطع من وقت خلافة بني أمية».
21
ولم يمنع الخلفاء الأمويون والعباسيون ذكر بطريرك رومة في الذبتيخات الأنطاكية والأوروشليمية والإسكندرية، ولكن صلة هذه الكنائس بكنيسة رومة تضاءلت ثم انقطعت، فقد جاء ليحيى بن سعيد الأنطاكي أن البطريرك الإسكندري أفتيخيوس ذكر في تاريخه أسماء بطاركة رومة، «من بطرس رأس الحواريين إلى أغابيوس البطريرك الذي عاصر المجمع السادس في القسطنطينية.» ولعله يشير إلى أغاتون الذي تولى السدة الرومانية من السنة 678 إلى السنة 682، وقال أفتيخيوس: إنه «لم يقع له» بعد هذا التاريخ أسماء بطاركة رومة «ولا شيء من أخبارهم». ثم يفيد يحيى بن سعيد أنه «لم يزل أغائون هذا يذكر في الذبتيخات الشرقية منذ اجتمع المجمع السادس (681) إلى بعد وفاة سعيد بن بطريق بطريرك الإسكندرية (933-940) بمدة طويلة لا يعرف مقدارها، وأنه ذكر بعده اسم بطريرك على رومة يدعى بنديكتوس»، ولعله بنديكتوس الثالث (855-858)، ويضيف يحيى بن سعيد: «ولم يزل اسم بنديكتوس مذكورا في الذبتيخية إلى سنة نيف وتسعين وثلاثمائة للهجرة (999-1000)، وقد كان صير بعد بناديكطس هذا بطاركة عدة إلا لم يرفع لأحد منهم في بلاد مصر والشام اسم ولا ذكر، واقتصروا على اسم بناذكطس المتوفى، وفي زماننا هذا صيروا عليها بطريركا يسمى يوحنا (يوحنا العشرون 1024-1033) ورفعوا اسمه وأسقطوا اسم بناذكطس، فهذا هو السبب المانع من تدوين أسمائهم والعذر في الاضطراب عن ذكرهم.»
22
وفي هذا كله ما يكفي للقول بتضاؤل الصلة وانقطاعها - في الأرجح - بين كنيسة رومة وشقيقاتها كنائس الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، منذ أواخر القرن السابع حتى أوائل القرن الحادي عشر، فإذا جهل بطاركة هذه الكنائس طوال قرون ثلاثة أسماء بطاركة رومة، ولم يذكروا في ذيبتيخاتهم سوى أغاثون الثاني وبنذيكتوس الثالث؛ فأي شيء علموه عن رومة وكنيستها!
لغة كنيسة أنطاكية
وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في جميع الكنائس شرقا وغربا حتى القرن الثالث بعد الميلاد، ثم انفردت رومة باللاتينية، وخرج النساطرة واليعاقبة والأقباط في القرن الخامس فبدأت القبطية تحل محل اليونانية في مصر والسريانية في سورية والجزيرة في الكنائس التي انفصلت عن الكنيسة الجامعة، وظلت اليونانية تحتل مرتبة مرموقة في الكنيسة القبطية في مصر حتى القرن الثاني عشر للميلاد، فقد جاء في سير البطاركة أنه «لما أقيم البطريرك أبا مقارة في السنة 1103 وقدس في الكنيسة المعلقة بالسيدة في مصر قرى تقليده على الأنبل يونانيا وقبطيا وعربيا».
23
وجاء لابن العسال في مقدمة كتابه تصحيح الإنجيل «أن القبط لما زال ملكهم وملكت عليهم الروم تكلموا بالرومي أيضا». ودليله أن قداساتهم إلى اليوم (1253) يوجد فيها الكثير من الألفاظ الرومية، فلما غلبت اللغة العربية على القبط لم يبق منهم من يعرف القبطية أو الرومية إلا القليل.
24
وكانت كنيسة أنطاكية قد نشأت يونانية في لغتها هلينية في ثقافتها، أممية في اتجاهها ورسالتها، وكان كبار آبائها قد كتبوا باليونانية فجعلوا تراث كنيستهم يونانيا أيضا، وكانت سلطة هذه الكنيسة قد اتسعت فشملت بلدانا يونانية اللغة - كما سبق وأشرنا - فظلت اللغة اليونانية لغة هذه الكنيسة الرسمية، وظل أساقفتها وبطاركتها يجيدون هذه اللغة طوال القرون الإسلامية العربية وحتى هذا العصر الذي نحن بصدده، وقد مر بنا كيف استعان الخليفة المعتصم (833-842) بالبطريرك أيوب بطريرك أنطاكية فحمله معه إلى حصار أنقرة، وكيف أن هذا البطريرك «كان يخاطب الروم بالرومية».
25
الطقس البيزنطي
وكتبت معظم الأناجيل وجميع الرسائل باليونانية ودون أقدس الآباء وأعلمهم بهذه اللغة عينها، فأصبحت اليونانية لغة المسيحيين المقدسة - ولا تزال - وصلى الأنطاكيون بها منذ تأسيس كنيستهم، ولكنهم لم يمنعوا استعمال اللغات المحلية في القرى والمزارع التي لم تفهم اليونانية، وسمحوا بقراءة الأسفار مترجمة في أثناء الاحتفالات الدينية من اليونانية إلى اللغات المحلية، فكانت هذه الترجمة من جملة الأعمال التي قام بها الأناغنوسطوس،
26
وتبلورت - مع مرور الزمن - خدمة روحية دينية، نسبت إلى يعقوب أخي الرب، وترجمت إلى السريانية؛
27
لتسهيل العبادة على من كان يجهل اللغة اليونانية، ولا مجال للقول مع غبطة البطريرك أغناطيوس يعقوب السرياني: إن الليتورجية المنسوبة إلى القديس يعقوب دونت أولا بالسريانية، ثم تناقلتهما كنائس اليونان والرومان؛
28
لأننا لا نعلم «بالضبط» الطقس الذي اتبعه يعقوب وسائر الرسل والتلاميذ، ولعله كان آنئذ أقرب بكثير إلى طقوس اليهود من هذا الذي ننسبه إلى أخي الرب.
29
انفصل اليعاقبة في منتصف القرن الخامس، ونشط آباؤهم وعلماؤهم لنقل الأدب الكنسي من اليونانية إلى السريانية، واستمر آباؤنا وعلماؤنا في كنيستنا الأنطاكية الجامعة يصلون باليونانية والسريانية بموجب ما نسميه خدمة يعقوب أخي الرب، ولا نعلم بالضبط مدى انتشار هاتين اللغتين في كنائسنا المحلية، ولا يجوز القول مع من يريد التفرقة بيننا وبين شقيقاتنا الكنائس اليونانية أن لغة كنيستنا في طقوسها كانت سريانية لمجرد العثور على عدد من كتب الخدمة باللغة السريانية، فهؤلاء الذين يريدون التفرقة أحصوا الباقي من هذه الكتب المخطوطة بالسريانية «وأهملوا» إحصاء ما تبقى منها باليونانية، وهو أمر لا يجيزه العلم ولا تقره «المحبة المسيحية».
وقال آباؤنا بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، فلم يفرقوا في تنظيم الطقوس بين سرياني ويوناني أو بين أنطاكي وإسكندري وقسطنطيني، بل إنهم استحسنوا الأحسن واستظرفوا الأظرف، فلعب أبناء الكنائس الشرقية الثلاث دورا هاما في تطور الطقس القسطنطيني، أولم يكن رومانوس المرتل حمصيا بيروتيا قبل أن يغرد في كنائس القسطنطينية؟ وقانون الفصح المجيد الذي يعد من أجمل صلوات الخدمة القسطنطينية هو من نظم يوحنا الدمشقي وتلحينه، والأوكتيوخوس بكامله - كما تبنته كنيسة القسطنطينية - يحمل هو أيضا طابع هذا القديس الأنطاكي الدمشقي «دفاق الذهب»، والقديس أندراوس الذي نلمس أثره في عدد لا يستهان به من قوانين الخدمة البيزنطية هو فلسطيني، وصفرونيوس العظيم واضع خدمة الأبيفانية كان دمشقي المولد أنطاكي الكنيسة قبل أن يتبوأ السدة البطريركية الأوروشليمية،
30
والقديس كيرللس الذي خلد اسمه بصلوات جمعة الآلام كان مصريا قبل أن يصبح بطريرك الإسكندرية، وهكذا، فإن الطقس البيزنطي الذي وصفنا تطوره في فصل سابق كان نتيجة عمل تعاوني لم تنفرد به كنيسة القسطنطينية دون سواها.
ويرى العلماء الباحثون أن هذا التعاون في «الإخراج» بين أنطاكية والقسطنطينية؛ أدى إلى تسرب الطقس البيزنطي في أبرشيات أنطاكية منذ أن تم تبلوره في القرن السابع، وأنه شاع واكتسح الموقف فيها مع عودة الروم إلى الحكم في شمال سورية في القرنين العاشر والحادي عشر، وأنه لم يصبح إجباريا قبل القرن الثالث عشر - كما سيجيء في حينه.
31
البطاركة
وهنالك تفاوت كبير في عدد البطاركة الذين تولوا رئاسة كنيستنا في هذا العصر بين لائحة البطريرك قسطنديوس القسطنطيني وبين نصوص يحيى بن سعيد الأنطاكي المؤرخ المعاصر، وهنالك أيضا فرق ظاهر في عدد سني الرئاسة في ترقيم البطاركة، ولعله من الضروري أن نثبت هذه الفروقات وفي الجدولين التاليين:
لائحة قسطنديوس
لائحة يحيى بن سعيد
يوحنا الخامس
995-1000
يوحنا
993-1022
نقولاووس الثالث
1000-1002
نقولاووس
1025-1031
إلياس الثاني
1003-1010
إيليا
1032-1033
ثيودوروس الثاني
1010-1015
ثيودوروس الثاني (جرجس)
مكاريوس الفاضل
1015-1022
سينوذيكون
1034-1042
الفثيريوس التقي
1023-1028
باسيليوس الثاني
بطرس الثالث
1028-1051
بطرس الثالث
1052-1056؟
ولا بد من تقديم رواية يحيى بن سعيد الأنطاكي على رواية البطريرك قسطنديوس؛ لأن الأول راو معاصر انتقل من الإسكندرية إلى أنطاكية وأقام فيها، والثاني مؤرخ متأخر من أعيان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكن ليس هذا كل ما في الأمر؛ فالبطريرك قسطنديوس اعتمد وثائق بطريركية القسطنطينية ونقل عنها، فلا بد - والحالة هذه - من إثبات روايته إلى أن يقوم من أبناء كنيستنا من يدقق هذا الأمر ويثبت الحقيقة. ويوحنا الخامس - عندنا - هو يوحنا الثالث؛ بموجب ترتيب لوكيان والمؤرخين الغربيين، ونقولاووس الثالث هو الثاني عندهم، أما ثيودوروس فإنه كان يعرف بجرجس لاسكارس قبل وصوله إلى السدة البطريركية، ومن هنا ورود اسمه أحيانا البطريرك جرجس، وجاء في سينوذيكون «أحد الإيمان القويم»، بعد ثيودورس الثاني باسيليوس الثاني فبطرس الثالث.
يوحنا الخامس (993-1022)
وتدخل أغابيوس في السياسة - كما سبق وأشرنا - فأغضب الفسيلفس، واضطر أن يتنازل عن السدة الأنطاكية، فخلفه في السنة 993 خرتوفيلاكس الكنيسة الكبرى كنيسة الحكمة الإلهية يوحنا الخامس. ويفيد يحيى بن سعيد الأنطاكي أن باسيليوس الفسيلفس حض البطريرك الجديد على إصلاح كنيسة القسيان في أنطاكية على طراز كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية، ثم يضيف أن أغابيوس توفي في أيلول السنة 994، ولا يذكر شيئا عن عودته عن التنازل قبل وفاته وعن تنازل خلفه عن أي امتياز تمتعت به كنيسة أنطاكية لقاء بقائه على السدة البطريركية،
32
والإشارة هنا إلى ما أورده نيقون الراهب من أن يوحنا تنازل عن استقلال مطارنة الكرسي الأنطاكي في انتخاب بطريركهم، وأنه وضع أمر انتقاء البطريرك الأنطاكي في يد البطريرك المسكوني، والراهب نيقون تنسك مدة من الزمن في النصف الثاني من القرن الحادي عشر في دير القديس سمعان العمودي.
33
وقدر ليوحنا الخامس أن يعاصر الحاكم بأمره الفاطمي، وأن يتلقى ضرباته المؤلمة في الأبرشيات الأنطاكية الجنوبية، وقد سبقت الإشارة إليها في القسم الأول من هذا الفصل، ولكن قدر له أيضا أن يرى تراجع الحاكم عن تضييقه بعد ظهور حمزة بن علي وقيامه بالدعوة الدرزية.
وماشى يوحنا الخامس ملوك الروم في عصرهم الذهبي، فسعى معهم لإعادة المجد التالد، ففاوض أورستيوس البطريرك الأوروشليمي في أثناء مروره في أنطاكية في السنة 1000 في ما كان قد تنازل عنه ثيوفيلاكتوس بن قنبرة البطريرك الأنطاكي إلى زميله الأوروشليمي في القرن الثامن من حقوق الأنطاكية على كنيسة الكرج، فاتفق الطرفان على إعادة ذكر البطريرك الأنطاكي في الذبتيخة الكرجية، وعلى حق هذا البطريرك في إرسال إكسرخوس إلى الكرج يتفقد شئونهم الروحية، ويتولى جباية الأموال من الأوقاف الأنطاكية في بلاد الكرج.
34
وفي السنة 1004 اختلف النصارى في مصر في حساب عيد الفصح لاختلاف اليهود في حسابهم، فجعل البعض فصح اليهود يوم السبت في الخامس من نيسان، وقال آخرون: إنه يوافق يوم الأحد في السادس من الشهر نفسه، فكتب أرسانيوس بطريرك الإسكندرية إلى أهل أوروشليم بما صح عنده جاعلا فصح النصارى يوم الأحد في السادس من نيسان، «فكتب أهل الشام إلى مصر يتعارفون منهم ما اتفقوا عليه، فلما وصلت كتب أرسانيوس عيد جميع النصارى في يوم الأحد في السادس من نيسان إلا قوما من اليعاقبة من أهل صعيد مصر؛ فإنهم فصحوا يوم الأحد الذي يليه.»
35
الحاكم وسر الأفخارستية
وجدد الحاكم في رمضان السنة 401؛ أي في أيار السنة 1011 منع الناس عن صنع النبيذ وشربه سرا وجهرا، وكسر ما عند الناس منه من الجرار والدنان ، وحذر على النصارى تقديمه «في سائر مملكته» ومنعه في قرابينهم، فقربوا عوضا عنه ماء نقع فيه زبيب أو عود الكرم!
36
الاعتراف ببطريركية نيقيفوروس
وفي السنة 1021 انتهى حكم الحاكم، ونودي بابنه الظاهر، فعادت السيدة ست الملك إلى سابق عزها، فأوفدت نيقيفوروس بطريرك أوروشليم إلى القسطنطينية ليعلم باسيليوس «بعودة الكنائس وتجديد كنيسة القيامة المقدسة وسائر البيع في جميع بلاد مصر والشام، ورجوع أوقافها إليها واستقامة أمور النصارى»، ويرجوه السماح بالاتجار بين البلدين، والشروع في «المسالمة والموادعة»، فاستكشف أفستاثيوس البطريرك المسكوني من نيقيفوروس «أمانته»، فأوضحها فألفاها البطريرك المسكوني أرثوذكسية، فأطلع الفسيلفس برفع اسم نيقيفوروس في القسطنطينية وأنطاكية على ما كان عليه قبل وصوله، وتوفيت ست الملك فعاد نيقيفوروس إلى أنطاكية ومنها إلى طرابلس في أيار السنة 1024.
37
نقولاووس الثالث (1025-1031)
وتوفي يوحنا الخامس البطريرك الأنطاكي في السنة 1022 فخلا كرسيه ثلاث سنين ونصف السنة، ثم انتخب نقولاووس رئيس دير الأستوديون بطريركا على أنطاكية وصلي عليه في القسطنطينية يوم الأحد سابع عشر كانون الآخر سنة 1025، فأقام في الرئاسة خمس سنين وثمانية أشهر وواحدا وعشرين يوما.
38
ورقي إلى رومانوس أرعيروس الثالث (1028-1034) أن لليعقوبيين بطريكا يسمى يوحنا يقيم في بلد مرعش يسمى ببطريرك أنطاكية ويسيم مطارنة وأساقفة للمدن، فأنفذ أشخصه وأشخص معه ستة من مطارنته وأساقفته، وتقدم إلى ألكسيوس بطريرك القسطنطينية في أن يحضرهم بمشهد ممن اتفق عنده من المطارنة والأساقفة الأرثوذكسيين، ويخاطبه في الرجوع عن اعتقاده والاعتراف بالسبعة المجامع المقدسة وقبول من قبلته ودفع من دفعته، واستدعى نقولاووس بطريرك أنطاكية للحضور معه ومشاركته في الخطاب له؛ لأنه كان يومئذ بالقسطنطينية، فأبى ذلك الأرطوقي وجرى بين ألكسيوس البطريرك وبين من اجتمع معه من أصحابه خطاب في هذه المعاني. ولم يذعن يوحنا بطريرك اليعاقبة للانثناء عن رأيه، واجتمع خلق من العوام وهموا بالإيقاع به فدفعوا عنه، ولما أيس الملك من عودته عن اعتقاده نفاه إلى كفربا بالمغرب، واعترف من الستة الأساقفة والمطارنة المشخصين معه ثلاثة، وثبت ثلاثة على ما هم عليه فحبسوا في الحبس، ومات يوحنا هذا بعد ثلاث سنين من نفيه وأقام اليعاقبة لهم بعد موته بطريركا غيره، فلما عرف رومانوس الملك حاله أنفذ من يحضره، فهرب إلى ديار بكر من بلاد الإسلام.
39
أبجر والمسيح
وفي تشرين الأول من السنة 1031 استولى الروم على الرها، فسار صاحبها سليمان بن الكرجي إلى حضرة رومانوس في القسطنطينية، وحمل معه كتاب أبجر إلى السيد المسيح وجواب السيد له، «وكان كل واحد منهما في ورقة طومار مكتوبين بالسرياني»، وخرج الملك وألكسيوس البطريرك وجميع أهل المملكة لاستقبالهما، وتسلمهما الملك بخشوع وخضوع تعظيما لكتاب السيد المسيح، وأضافهما إلى الآثار المقدسة التي في بلاط الملك، وعني رومانوس الملك بترجمتهما إلى اليوناني، وترجمهما إلى العربي الناقل الذي تولى نقلهما إلى اليوناني على هيئتهما ونصهما.
وهذه هي نسخة رسالة أبجر ملك مدينة الرها إلى ربنا وإلهنا يسوع المسيح:
من أبجر الأسود إلى يسوع المسيح الطبيب الصالح الظاهر في أرض أوروشليم، سيدي سلام عليك، سمعت عنك وعن الأشفية التي تصنع أنك تبرئ بغير أدوية ولا عقاقير، بل بالقول فقط تبصر العميان وتشفي الزمنى وتسمع الخرس والصم وتطهر البرص وتخرج الشياطين والأرواح النجسة بكلمتك وتقيم الموتى. فلما سمعت عنك يا سيدي ذلك تعجبت بالمعجزات الباهرة التي تصنع وقررت في نفسي، وحملت أمرك على إحدى الحالتين أنك إما تكون الله الذي ينزل من السموات فتفعل هذه أو ابن الله؛ ولذلك أكاتبك لتصير إلي لأسجد لقدسك، ولكي تشفي لي مرضا ما كما آمنت، وبلغني أيضا أن اليهود يتبرمون بك ويضطهدونك ويطلبون هلاكك والهزؤ بك، ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جدا، وهي تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معا، فالأمر أمر منك يا سيدي، والسلام عليك.
نسخة رسالة السيد المسيح إلى أبجر ملك الرها:
امض فقل لصاحبك الذي أنفذك: طوباك يا أبجر إذ آمنت بي ولم ترني؛ لأنه مكتوب من جهتي أن الذين يروني لا يؤمنون بي والذين لم يروني سوف يؤمنون بي، وكتبت إلي أن أصير إليك فالأمر الذي بسببه أرسلت من لدن الآب إلى ههنا من الآن قد حضر وأصعد إلى الآب الذي أرسلني ، فإذا صعدت أنفذت إليك واحدا من تلاميذي والمرض الذي بك هو يشفي ولسائر من لك يرد إلى الحياة الأبدية، وبلدك فليكن مباركا أبدا، والعدو أيضا فلا يتسلط عليك ولا عليه إلى الدهر، والسلام عليك.
40
إلياس الثاني (1032-1033)
وفي يوم السبت الكبير، في أول نيسان سنة 1032 «صلى على إلياس الراهب النيقوميذي بطريركا على أنطاكية»، فأقام سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام وتنيح.
41
وصدرت أوامر الظاهر الفاطمي بترك الفساد وحفظ مجاورة الروم، ووافق الروم على المهادنة، واتفق الطرفان على أن ينفذ الظاهر رسولا يجتمع برسول رومانوس في ناحية أنطرطوس «آخر حد الروم وأول بلد المسلمين»، واشترط رومانوس على الظاهر ثلاث شرائط:
إحداها: «أن يعمر الملك كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله ويصير بطريركا على بيت المقدس، وأن تعمر النصارى جميع الكنائس الخراب التي في بلاد الظاهر.»
والشريطة الثانية:
ألا يتعرض الظاهر لحلب.
والشريطة الثالثة:
ألا يساعد صاحب صقلية.
وأرسل نصر بن صالح بن مرداش صاحب حلب مال الهدنة إلى رومانوس وشعر القديس يوحنا المعمدان، وكان هذا الشعر في سالف الزمان في كنيسة حمص فنقل منها إلى كنيسة القلعة في حلب «إشفاقا عليه من أخذ الروم له عند ترددهم إلى حمص»، وبقي هناك إلى أن خرج منصور بن لؤلؤ من حلب، فاستعاده نصر بن صالح وتقرب به إلى رومانوس، فأضافه إلى الأثارات المقدسة التي في بلاط الملك.
42
ثيودوروس الثاني (1034-1042)
وفي يوم الأحد الأول من الصيام الكبير صير جرجس لاسكارس بطريركا على أنطاكية، وصلي عليه في القسطنطينية، وسمي ثيودوروس، فأقام في الرئاسة ثماني سنين وستة أشهر وواحدا وعشرين يوما وتنيح،
43
ونفذ ثيودوروس الاتفاق الذي تم في عهد يوحنا الخامس حول كنيسة الكرج، فأرسل بموجب شهادة نيقون الراهب إكسرخوسا إلى بلاد الكرج ليعاقب ويصلح.
44
باسيليوس الثاني
ولا نعلم شيئا عن باسيليوس الثاني، ونجهل أخبار مكاريوس الفاضل والفثيريوس الصالح.
بطرس الثالث (1052-1056)
أبصر النور في أنطاكية ونشأ وترعرع فيها، ثم طلب العلم في القسطنطينية فأحاط به «كله»، والتحق بالبلاط الملكي فأصبح سكرتير رومانوس الثالث، ثم قدم النذر والتحق بكنيسة الحكمة الإلهية فأسندت إليه وظائف أهمها وظيفة سكيفوفيلاكس الكنيسة، فكان من الطبيعي أن يقدم على غيره وأن يرقى إلى رتبة البطريركية.
وكان بطرس الثالث ورعا تقيا واثقا بالله معتمدا عليه، وكانت أمه قد نقلت إليه خبر النور البهي الذي أحاط بها يوم ولادته، وما طن في أذنها من أصوات سماوية تنبئ بالمستقبل الباهر، فنشأ بطرس متوكلا على الله مستلهما روحه عاملا بمشيئته على الأرض كما في السماء، ومما زاده حماسا وغيرة أن السيدة العذراء والدة الإله تراءت لقسطنطين التاسع (1042-1054) وأومأت له بترقية بطرس إلى السدة البطريركية ففعل.
وتسلم بطرس عكاز الرعاية وانطلق يعمل في حقل الرب، فوجه رسالة الجلوس إلى كل من زميليه بطريرك الإسكندرية وبطريرك أوروشليم، معلنا تبوأه العرش البطريركي، مبينا إيمانه القويم راجيا ذكره في الذبتيخة،
45
وأسف على انقطاع الصلة بين كنيسته وكنيسة رومة مدة طويلة - كما سبق وأشرنا - فكتب إلى لاوون التاسع متلهفا على هذا الانقطاع متسائلا عن سبب ابتعاد خليفة بطرس العظيم عن جسم الكنائس وانقطاع صوته من مجامعها، وامتناعه عن المساهمة في حل مشاكلها الإكليريكية، مبينا الفائدة التي تنجم عن مثل هذا التعاون من حيث التوجيه الأخوي الرسولي. ورجا بطرس زميله الروماني أن يصرح بإيمانه؛ ليتمكن من ذكر اسمه في الذبتيخة؛ إذ لا يجوز الاعتماد على ماضي رومة القويم والافتراض قبل إعمال النظر بأن إيمانه خال من الخطأ. ثم ذكر البطريرك الأنطاكي إيمانه بوضوح، ولكنه تحاشى البحث في قضية الانبثاق، وعاقت الأقدار هذه الرسالة فلم تصل إلى رومة إلا بعد مرور سنتين على صدورها، فكتب بطرس رسالة ثانية أقصر من الأولى، فحذف معظم ما جاء في مقدمة رسالته الأولى، وأكد تعلقه بدستور نيقية وقرارات المجامع المسكونية السبعة، ولعن من لعن من الهراطقة.
46
وأجاب كل من بطريركي الإسكندرية وأوروشليم برسالة سلام، ورد لاوون التاسع على رسالة بطرس الأول برسالة سلام أيضا، ولكنه أكد بوضوح تقدم رومة وعصمة السدة البطرسية، وأوضح أن كنيسة رومة أم الكنائس وأن محكمتها أعلى المحاكم، ثم نبه زميله الأنطاكي على تلبد غيوم الهم والشقاق في الشرق، وحثه على الدفاع عن حقوق الكرسي الأنطاكي،
47
وتسلم بطرس هذا الرد، ولكنه لم يتمكن من قراءته؛ لأنه كتب باللاتينية فطلب إلى الرسول الإفرنجي الذي حمله إليه أن يستنسخه له، ففعل فأرسل بطرس النسخة إلى ميخائيل كيرولاريوس بطريرك القسطنطينية ليأمر بترجمتها إلى اليونانية،
48
وذكر بطرس زميله الروماني في ذبتيخة أنطاكية وحذا حذوه بطريرك أوروشليم وبطريرك الإسكندرية.
الشماس عبد الله بن الفضل الأنطاكي
ولمع في أفق الكنيسة في القرن الحادي عشر الشماس عبد الله بن الفضل الأنطاكي، فخدم بالتأليف والتعريب، واشتهر بصورة خصوصية بحسن تعبيره في تفسير الكتب الدينية، وبسلامة ذوقه في اختيار المؤلفات اليونانية وتعريبها، وتنافس أبناء الكنيسة باستنساخ مؤلفاته ومعرباته، وكان بارعا بالعربية واليونانية والسريانية وعرب عن الاثنتين وألف بالعربية واليونانية.
49
وأهم مصنفاته كتاب المصابيح، وهو يشتمل على كلام الحكماء والأنبياء والرسل القديسين بوبه تبويبا لطيفا، وأكثر من الأمثلة الكتابية وأقوال الفلاسفة، وله أيضا كتاب المنفعة وهو مختصر ومطول، ويبحث في العقائد في الخالق وجوهره ووحدة طبيعته وتثليث أقانيمه في المنطق والفلسفة والجدل والفقه، وله كذلك كتاب الروضة في الفضائل، وهو منتخبات من أقوال الكتب المقدسة والقديسين ورجال اللاهوت. وكتاب تفسير ستة أيام الخليقة للذهبي الفم عربه عن اليونانية، وتفسير إنجيل متى ويوحنا للذهبي الفم أيضا. وعرب عن السريانية كتابا للآباء الأبرار أنطونيوس وأرسينيوس ويوحنا أقليمس وإسحاق وفيلوكسينس، وعرب عن اليونانية كتاب البرهان في تثبيت الإيمان للقديس صفرونيوس الأوروشليمي، وعرب له أيضا أحاديث الآباء القديسين والرهبان، ومن آثار هذا العلامة كتاب مجموع الأمان في إبانة غلط اليعاقبة والنساطرة وميامر غريغوريوس النزيانزي، وميديح القديسين نقولاووس وأندراوس الأقريطشي.
50
أنطاكية والبندقية
وفي أواخر السنة 1053 تلقى بطرس الثالث رسالة من دومينكوس رئيس أساقفة أكويلية جاء فيها أن القساوسة البنادقة في الشرق يشكون الصعوبات التي يلقونها عند ممارستهم سر الأفخارستية بالفطير، وأن هؤلاء القساوسة خاضعون لرئيس أساقفة يستمد البركة من القديس مرقس ويتمتع بقلب بطريرك،
51
فأجابه بطرس الثالث جوابا لطيفا، ولكنه لم يسكت عن اللقب الذي ادعى به دومينيكوس فقال : «لقد نشأت بين الكتب ودرست العلوم المقدسة منذ الطفولية وإلى سن الشيخوخة، ولا أزال مواظبا على مطالعتها، ومع ذلك ما تعلمت ولا سمعت أن رئيس أكويلية يسمى بطريركا؛ لأن النعمة الإلهية دبرت أن يكون في كل العالم خمسة بطاركة وهم الروماني والقسطنطيني والإسكندري والأنطاكي والأوروشليمي، ومن هؤلاء الخمسة البطريرك الذي يسمى بطريركا على وجه الحقيقة هو البطريرك الأنطاكي، فالروماني والإسكندري يتمتعان بلقب بابا والقسطنطيني والأوروشليمي رئيسا أساقفة، وكيف نستطيع أن نقيم بطريركا سادسا ما دام الجسد ليست فيه حاسة سادسة، وما دامت هنالك أبرشيات أعظم من أينوريتك يديرها مطارنة ورؤساء أساقفة كبلاد البلغار وخراسان وسائر الشرق، ولم يدع أحد منهم بلقب بطريرك؟»
ثم يشير بطرس الثالث إلى رسالة الجلوس التي وجهها إلى البابا الروماني مع الحجاج، ويقول: إنه لم يتلق جوابا عنها، وإنه مرسل صورة عنها ليقدمها دومينيكوس إلى البابا، حتى إذا رضي البابا بفحواها «اتحد الجميع بنفس واحدة ليقدموا لله جميعا ضحية واحدة»، ويعرض بطرس بعد هذا إلى مسألة الفطير فيقول: إن شكوى الغربيين من أن بطريرك القسطنطينية يشيع عنهم إشاعات رديئة ويقطعهم من شركة الكنيسة؛ هي باطلة؛ لأنه يعرف - حق المعرفة - أنكم أرثوذكسيون، تؤمنون مثلنا بالثالوث القدوس وبسر التجسد، ولكنه يأسف أنكم تخالفون البطاركة الأربعة في تقديم الذبيحة الغير الدموية.
52
أنطاكية والقسطنطينية
ولم يرض بطرس الثالث من تدخل بطريرك القسطنطينية في شئون بطريركية أنطاكية، فاحتج بشدة على ترقية شماس أنطاكي في القسطنطينية بدون موافقة رئيسه الأنطاكي،
53
وعلى توسيع النفوذ القسطنطيني في الولايات الأرمنية، مبينا أن هذه الولايات كانت لسلطة أنطاكية الروحية لا القسطنطينية، ورأى في إلحاح البطريرك ميخائيل القسطنطيني على توحيد الطقوس سياسة غير مجدية لانتشار السريانية والعربية في بعض أبرشيات أنطاكية، ولخضوع هذه الأبرشيات عينها للسلطات الإسلامية.
54
الفصل الحادي عشر
بدء الانشقاق العظيم
1054
نفوذ الألمان في رومة
وعني أوثون الأول الملك الألماني (936-973) بشئون دولته فأدار دفة الحكم بحذق ومهارة، وأخضع رجال الإقطاع فيها، وكبح جماح الصقالبة، وصد هجمات المجر، وقام في السنة 962 على رأس جيش ألماني إلى إيطالية، فدخل رومة وأكره أسقفها يوحنا الثاني عشر على تتويجه إمبراطورا، فأسس الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي دامت حتى السنة 1806.
وأدى تدخل أوثون في شئون رومة إلى تطاحن في داخلها دام أربعين سنة بين عمال الألمان وبين أسرة كرسنتيوس صديقة الروم ومن شد أزرها من الأشراف الرومان،
1
وشغل الشرق الروم عن إيطالية وشئونها فتوطد نفوذ الألمان في رومة، وتسربت إليها آراؤهم في الإصلاح والعقيدة.
تدعيم سلطة البابا
وطالب المؤمنون في الغرب بإصلاح الكنيسة، وعلا صوتهم في مقاطعة لورين، فأوجبوا انضباط الإكليروس وترفعهم عن السيمونية وعن الزواج، واستعانوا بالسلطات المدنية الألمانية، فرحبت بطلبهم ورأت في إصلاح الإكليروس أداة فعالة لتوسيع سلطانها وفرض احترامها، فصممت هذه السلطات على الاحتفاظ برومة وتدعيم سلطة أسقفها للوصول إلى الانضباط المنشود، وطالب رهبان كلوني في فرنسة برفع مستوى الرهبان والرهبانية فلم يلقوا من السلطات المحلية إلا التثبيط والإحباط، فلجئوا إلى أسقف رومة ووضعوا مقدرات رهبانيتهم بين يديه، فأجمع المصلحون على تدعيم سلطة البابا والمطالبة بحقوقه وصلاحياته التاريخية.
2
مشكلة الانبثاق
وكانت كنيسة رومة قد قالت بانبثاق الروح القدس من الآب كما علم الآباء الأطهار في نيقية والقسطنطينية، فلما سيطر الألمان على رومة نقلوا إليها القول بالانبثاق من الآب والابن، فأثاروا بذلك مشكلة الفيليوكوي
Filioque ، وهو لفظ لاتيني معناه: «ومن الابن»، وتفصيل ذلك أن النزاع بين الإسبانيين الكاثوليكيين والقوط الغربيين الآريوسيين جعل الكاثوليكيين في إسبانيا يصرون على القول بالانبثاق من الآب والابن، وعلى إدخال ذلك في دستور الإيمان الأثناسيوسي الذي أقر في إسبانيا في السنة 633، فلما تقبلوا الدستور النيقاوي بعد ذلك بقليل استمسكوا بالعبارة «ومن الابن» وأضافوها إلى هذا الدستور. ويقول بعض العلماء: إنهم أدخلوا هذه العبارة في مجمع طوليدو الأول سنة 400، ولكنه قول ضعيف،
3
ثم تسرب هذا القول من إسبانيا إلى بلاط كارلوس الكبير، فلقي في شخص هذا الزعيم مدافعا مخلصا عنه، ومن هنا - في الأرجح - قبوله في مجمع فرانكفورت سنة 794 وانتقاد البطريرك تراسيوس القسطنطيني لقوله «بواسطة الابن»
،
4
وحاول كارلوس إقناع رومة بالقول «ومن الابن» ولكنه لم يفلح، وفي السنة 808 كتب توما الأول بطريرك أوروشليم إلى لاوون الثالث بابا رومة يلفت نظره إلى المشادة التي نشأت بين رهبان القديس سابا والرهبان الإفرنج على جبل الزيتون حول القول بالانبثاق من الآب والابن، فكتب لاوون بدوره إلى كارلوس الكبير ممول رهبان الإفرنج على جبل الزيتون؛ يقترح نبذ العبارة «ومن الابن»؛ لأن القول بها يشكل - في حد ذاته - خروجا على الدستور الذي يقول به جمهور المؤمنين،
5
وأمر لاوون الثالث بنقش دستور الإيمان على لوحات الفضة؛ لتعليقها في كنيسة القديس بطرس، فإذا به يتفق - كل الاتفاق - ودستور نيقية، ويخلو من العبارة: «ومن الابن»،
6
ثم شاع القول بالفيليوكوي في القرن التاسع في جميع كنائس ألمانية ولورين ومعظم كنائس فرنسة، أما كنيسة باريز فإنها ثابرت على القول النيقاوي قرنين آخرين،
7
ونقل بعض الإكليريكيين الألمان القول بالفيليوكوي إلى رومة، فقبله البابا فورموسوس (891-896)، وأمر به في بلغارية فلفت بذلك نظر فوطيوس العظيم وأدى إلى احتجاجه - كما سبق وأوضحنا - وجاء التدخل الألماني في رومة في النصف الثاني من القرن العاشر، فجر وراءه قولا جريئا واضحا بالفيليوكوي.
والكلام في الانبثاق عقيدة تنطوي عليها النصوص المسيحية المقدسة؛ فقد جاء في بشارة يوحنا الحبيب في الفصل الخامس عشر والآية السادسة والعشرين: «ومتى جاء المعزي الذي أرسله إليكم من لدن الآب روح الحق الذي من الآب ينبثق.» وجاء أيضا في الفصل السادس عشر من هذه البشارة نفسها وفي الآية الرابعة عشرة عن روح الحق: «إنه سيمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي.» وجاء لبولس في رسالته إلى أهل غلاطية في الفصل الرابع والعدد السادس: «والدليل على أنكم أبناء كون الله أرسل في قلوبنا روح ابنه.»
وظهرت بدعة آريوس فأكد الآباء المجتمعون في نيقية في المجمع المسكوني الأول (325) أن المسيح ابن الله الوحيد مولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساو للآب في الجوهر الذي به كان كل شيء، وقال مقدونيوس بخلق الروح القدس فاجتمع الآباء في القسطنطينية في السنة 381 وقالوا: «وبالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجد.» ليؤكدوا لاهوت الروح القدس ومساواته بالابن ووحدة المصدر، وانتشرت الآريوسية في أوروبة الشمالية الغربية بانتشار البرابرة، فقال الآباء في إسبانيا بانبثاق الروح القدس من الآب والابن ليؤكدوا مساواة الابن بالآب.
وبحث دفاق الذهب الدمشقي الأنطاكي هذا الموضوع في النصف الأول من القرن الثامن، فأكد أن الروح القدس هو روح الآب وروح الابن أيضا،
8
وكرر آباؤنا المجتمعون في نيقية في المجمع المسكوني السابع (787) القول بالدستور النيقاوي القسطنطيني، وأثبتوه في أعمال المجمع، معترفين بالانبثاق من الآب، ووجهوا الرسائل إلى البطاركة الشرقيين، وبحثوا هذا الموضوع، وفسروا فقالوا بالانبثاق من الآب «بالابن»
.
9
وعلى الرغم من هذا كله فإننا لا نزال - شرقيين وغربيين - متفقين على إثبات وحدانية الثالوث الأقدس إثباتا تاما كاملا صريحا، وعلى تأكيد شخصية كل من الأقانيم وعلى التساوي بينهم وعلى وحدة الجوهر.
اتصال واحتكاك
واختلف المؤمنون في أمر الانبثاق وتعارضت آراؤهم، ولكنهم ظلوا أبناء كنيسة واحدة جامعة مقدسة، ولم تتفرق وحدتهم ولم تنتقض عقدتهم، ثم استولى الروم على جزيرة كريت في السنة 961 وعلى قبرص في السنة 965، وعادوا إلى أنطاكية في السنة 969، ودخلت فلسطين في حوزة العزيز المتساهل المتسامح، ولم يطل عهد الحاكم فخلت مياه المتوسط الشرقي من قرصنة المسلمين وتسهلت سبل الاتصال بالشرق، فتوافد التجار الإيطاليون إلى الجزر والسواحل وأقاموا فيها، وبسط الفسالسة نفوذهم على البلقان، وعظم أمرهم فهابهم الصقالبة والبلغاريون، وتفتحت أمام الحجاج طرق برية قليلة النفقة، خالية من عراقيل الحدود، فتدفقوا زرافات زرافات، وزاروا القسطنطينية؛ للتبرك بذخائرها والاستراحة فيها قبل متابعة السفر إلى الأراضي المقدسة،
10
وأنشأ الفسالسة في هذا العصر حرسهم الإفرنجي، فازداد عدد الغربيين المقيمين في القسطنطينية ومرافئ الإمبراطورية وجزرها، وكثر عدد المتجولين في أراضيها من الدانوب في أقصى الشمال حتى مداخل طرابلس وحمص ودمشق، ولم تخل إيطالية نفسها من تجار الروم ورهبانهم وعمالهم، ولا سيما جنوبها. وأشهر رهبان الروم فيها في هذا العصر القديس نيولوس ويوحنا فيلاغاثوس.
11
البطريرك أفستاثيوس والبابا يوحنا التاسع عشر
ورافق هذا التطور في العلاقات بين فرعي الكنيسة الجامعة اهتمام شديد في الحج والحجاج في الأوساط الرهبانية في الغرب، ولا سيما رهبانية كلوني، وكان الاهتمام في توطيد سلطة أسقف رومة من أبرز النقاط في برنامج هذه الرهبانية، وهب أفرادها للتبشير به والدعاية له في كل مكان وزمان، فأقضوا بذلك مضجع البطريرك المسكوني، ولا سيما في الأبرشيات الخمس الإيطالية الخاضعة له.
فبحث البطريرك المسكوني هذه القضية مع الفسيلفس باسيليوس الثاني، واتفق الكبيران على الكتابة إلى يوحنا التاسع عشر في هذا الموضوع، فعرض أفستاثيوس في السنة 1024 حلا على زميله الروماني قضى بالاعتراف بتقدم رومة في الكرامة والاحترام وبعدم تدخلها في شئون القسطنطينية الداخلية وسائر الأبرشيات الشرقية الداخلة في حوزة الإمبراطورية، والمقصود هنا - بنوع خصوصي - شئون الأبرشيات الإيطالية الخمس. ولا يجوز القول في هذا العرض أكثر مما تقدم؛ لأن النص اليوناني مفقود، ولأنه لم يبق عنه سوى الترجمة اللاتينية كما رواها رادولف غلابير،
12
فوافق يوحنا التاسع عشر،
13
ولكن رئيس دير القديس بنينوس في ديجون اعترض باسم رهبانيته على تمزيق سلطة هامة الرسل، وكتب بذلك كتابا شديد اللهجة إلى يوحنا التاسع عشر، فتراجع هذا البابا عما اعترف به، فلم يذكر اسمه في ذبتيخة القسطنطينية ولم يرد في سينوذيكون السنة 1025،
14
ومن هنا قول المؤرخ الألماني المعاصر: «إنه في السنة 1028 خرجت الكنيسة الشرقية عن طاعة البابا.»
15
وهو كلام مضلل، ينقصه شيء كثير من الضبط والتدقيق، ويكذبه سير الحوادث بعد السنة 1024، وجل ما حدث أن الإكليريكيين الكبيرين عادا إلى ما كانا عليه من المقاطعة في الذبتيخة، أما كنائس اللاتين فإنها ظلت مفتوحة في القسطنطينية وسواها من مدن الشرق، وظل اللاتينيون أيضا يتعبدون في كنائس الروم وكذلك تابع الدير اللاتيني أعماله في جبل آثوس،
16
بيد أن ظروف الحال أصبحت قابلة الاشتعال سهلة الالتهاب، فجاءتها شرارة قوية من عالم السياسة.
أزمة سياسية في إيطالية
وكان جنوب إيطالية لا يزال في قبضة الروم، وكان هذا الجنوب يشمل إمارتين لومبارديتين: إمارة ساليرنون وإمارة كابوة وبنيفنتوم، وكان يدخل في هذا الجنوب أيضا ثلاث مدن حرة هي غايتة وأمالفي ونابولي وولاية كالابرية اليونانية وولاية أبولية أو لانغوباردية، وكانت هذه يونانية في مدنها لومباردية لاتينية في ريفها، ولم تحاول كنيسة القسطنطينية التدخل في شئون الكنائس الرومانية القائمة في الإمارتين وفي المدن الحرة، ولكنها لم ترض عن تطلع اللاتين في أبولية إلى ما وراء الحدود إلى رومة القريبة.
17
وفي السنة 1020 ثار ميلو
Melo
على الروم في أبولية، واستعان بعدد من الفرسان النورمنديين المرتزقة، وقضى الروم على هذه الثورة المحلية، ولكنهم تركوا النورمنديين يستقرون في أبولية ويستدعون إليها عددا كبيرا من أصدقائهم وذويهم من شمال فرنسة، وفي السنة 1040 طمع النورمنديون في الحكم فأخذوا يدوخون جنوب إيطالية بزعامة أسرة هوتفيل
Hautevilles
الشهيرة، وتدخلت ألمانية في شئون رومة مرة أخرى في شخص إمبراطورها هنريكوس الثالث، فزار هذا الإمبراطور رومة في السنة 1046 وخلع باباواتها الثلاثة دفعة واحدة، وأجلس على سدتها إقليمس الثاني ثم دماسوس، وفي السنة 1048 - وبعد وفاة هذين الحبرين - جاء بأسقف تول برونو اللوريني، فأجلسه على العرش البطرسي باسم لاوون التاسع (1049-1054)، وشغلت هنريكوس مشاغل في ألمانية، فعاد إليها تاركا أمور إيطالية إلى لاوون، يديرها ويدبرها بحكمته.
رومة تتحدى القسطنطينية
وزار الإمبراطور الألماني في أثناء وجوده في رومة جنوب إيطالية، فقوى النورمنديين؛ بأن اعترف بحقهم الشرعي في الأماكن التي كانوا قد سطوا عليها، وارتاح لاوون - بادئ ذي بدء - إلى نشاط النورمنديين في جنوب إيطالية؛ لأن نشاطهم عزز سلطته الروحية، وأفسح له المجال للصمود في وجه التوسع اليوناني، ولا سيما في أبرشية أوترانتو التي كان قد أنشأها نيقيفوروس فوقاس في النصف الثاني من القرن العاشر، ولكنه لم يقدم على إلغاء الطقس البيزنطي،
18
ثم اضطرب لاوون عندما بدأ النورمنديون يدوخون المقاطعات اللومباردية ويقتربون من حدود رومة، وكان هنريكوس لا يزال منهمكا في أمور ألمانية فتقرب لاوون من الروم للقضاء على نفوذ النورمنديين، ولكنه أراد أن يظل محتفظا بما جناه من توسع النفوذ النورمندي، فحاول الجمع بين نقيضين وأمسى تقربه من الروم استفزازا لسلطاتهم الروحية، فأخفق في ميدان السياسة، ووقع في يد النورمنديين أسيرا (1053) ونفر زميله القسطنطيني فجر الكنيسة الجامعة إلى شقاق أليم.
موقف القسطنطينية
وكان قسطنطين التاسع مونوماخوس (1042-1055) فسيلفسا طائشا خاملا مستهترا مسرفا مبددا، إلى أن حل به فالج أقعده عن كل حركة، ولكنه كان صافي القلب بشوشا بعيدا عن الحقد والتكبر يجذب القلوب بلطفه وخفة روحه،
19
وكان رومانوس إسكليروس أخو خليلة هذا الفسيلفس يكره القائد الكبير جورج منياكيس، فاستدعى قسطنطين هذا القائد من إيطالية وأبعده، فثار القائد ونادى به جنوده فسيلفسا. وشملت حركته جنوب إيطالية فقاومه فيها أرجيروس بن ميلو اللومباردي الكبير، وعند انتهاء أمر منياكيس استدعى الفسيلفس هذا اللومباردي الصديق، وشمله بعطفه وأولاه ثقته، وفي السنة 1051 عينه مجيستروسا ودوقا على إيطالية الجنوبية، فأثار بذلك سخط الأوساط المحافظة في القسطنطينية؛ لأن أرجيروس كان لومباردي العنصر لاتيني المذهب، وكان كيرولاريوس البطريرك في طليعة هؤلاء المحافظين الساخطين،
20
ووافق أرجيروس المجيستروس لاوون التاسع على سياسته في جنوب إيطالية، ودخل معه في حلف نجهل شروطه، فزاد في وجس المحافظين في العاصمة وأقض مضجعهم.
البطريرك ميخائيل الأول (1043-1058)
وتحدر هذا البطريرك المسكوني كيرولاريوس من أسرة شريفة مثلت مرارا في مجلس الشيوخ، والتحق بسلك الإدارة المدنية وتدخل في السياسة، ولعله تزعم حركة الانقلاب في السنة 1040 التي استهدفت إنزال ميخائيل الرابع عن عرشه، ولعله طمع في هذا العرش آنئذ - كما جاء في بعض المراجع الأولية -
21
ويروى أيضا أنه لدى إخفاقه في هذه الحركة؛ طلب العزلة ثم قدم النذر عن إخلاص وتقوى ولبس الإسكيم،
22
ولدى وصول قسطنطين التاسع إلى العرش عاد كيرولاريوس إلى الاهتمام بالبلاط وشئونه، فاستمال الفسيلفس وكسب ثقته، وأصبح أشد الناس أثرا في نفسه، ثم عينه البطريرك أليكسيوس الأستودي بروتوسينكيلوسا فأصبح هو البطريرك المنتظر، وتوفي البطريرك أليكسيوس في العشرين من شهر شباط سنة 1043، فخلفه في السدة بعد شهر من الزمن كيرولاريوس باسم ميخائيل الأول.
وكان ميخائيل الأول إداريا قديرا صارما قاسيا ينقصه دهاء فوطيوس وتوقد ذهنه، وكان عزيز الجانب لا يناله طالب ولا يطمع فيه طامع، ولم يكن ذاك العالم اللاهوتي المؤرخ الذي وجدته القسطنطينية في شخص فوطيوس، ولكنه شابه فوطيوس في اعتزازه باليونان وتعلقه بطقوسهم، وكان رفيع الأهواء بعيد الهمة، فتبنى برنامج سلفه أفستاثيوس وحاول - قدر المستطاع - تحقيقه، فكان هو المقدم على بطاركة الشرق وزعيم الكنيسة الشرقية ، فأوجب توحيد الطقوس والقوانين وتدخل في شئون الكنائس الشرقية غير الأرثوذكسية؛ محاولا إنقاذها من الضلال وإرجاعها إلى حظيرة الكنيسة الجامعة. وخص الكنيسة الأرمنية بعنايته، وكانت هذه الكنيسة قد انفصلت عن الكنيسة الجامعة بعد المجمع الخلقيدوني فقالت مع اليعاقبة بطبيعة واحدة وخالفت الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، فأكلت الدم وصامت السبت وبدأت الصوم في الأحد السبعيني الثالث قبل الصوم الكبير، واستعملت الفطير في سر الأفخارستية، فبحث ميخائيل هذا الأمر مع الفسيلفس واستدعى كبير الكنيسة الأرمنية آنئذ الكاثوليكوس بطرس إلى القسطنطينية للتفاهم والاتحاد، فجاء بطرس في السنة 1049، ولقي حفاوة كبيرة وإكراما من السلطات الزمنية والروحية.
23
الكنائس اللاتينية في القسطنطينية (1052)
وبينما كان البطريرك المسكوني وحاشيته وأصدقاؤه وأعوانه يضطرمون بهذا الروح الوثاب، وهذه الخلال الأرثوذكسية النقية؛ كان بريد إيطالية يحمل إلى العاصمة الشرقية بين آونة وأخرى أنباء التوسع اللاتيني في الأبرشيات الإيطالية الأرثوذكسية، وضغط النورمنديين على الكنائس الأرثوذكسية التي كانت قد دخلت في حوزتهم. ومما زاد في الطين بلة أن أرجيروس ممثل الروم في إيطالية كان يجادل البطريرك المسكوني في أمر الفطير، ويدافع عن وجهة نظر اللاتين، فلما قاربت السنة 1052 نهايتها أوجب البطريرك المسكوني على جميع الكنائس اللاتينية في القسطنطينية ممارسة الأسرار والطقوس بموجب التقليد اليوناني الأرثوذكسي، فامتنعت هذه الكنائس، فأمر البطريرك بإغلاقها،
24
وليس من العلم أن نقول مع بعض المؤرخين إن نيقيفوروس أحد رهبان البطريركية المسكونية أخذ القربان المحفوظ في كنيسة لاتينية ورمى به إلى الأرض وداسه؛ زاعما أنه غير مقدس، فهو قول ينفرد به هومبرتو وينقصه الشيء الكثير من العدالة والضبط.
رسالة لاوون أخريدة
وفي ربيع السنة التالية 1053 كتب لاوون متروبوليت أخريدة ورئيس أساقفة بلغارية إلى السينكلوس يوحنا أسقف تراني في جنوب إيطالية، ونائب البطريرك المسكوني فيها، يوجب تجنب البدع الغربية؛ كاستعمال الفطير وصوم السبت وأكل الدم، والمخنوق، وغير ذلك، ويوضح وجوه الخطأ فيها، ثم يرجو إطلاع أساقفة الإفرنج على مضمون رسالته، ويود لو أن البابا الجزيل الاحترام يحيط علما بها أيضا،
25
وجاءت لهجة لاوون قاسية عنيفة كقوله: «من يصوم السبت ويقدس على الفطير ليس يهوديا ولا وثنيا ولا مسيحيا، وإنما هو شبيه بجلد النمر المرقط.» فأثارت الكره والحقد والشقاق.
ووصلت رسالة لاوون في أتعس الأوقات؛ فالنورمنديون كانوا قد قضوا على مقاومة أرجيروس في شباط السنة 1053، وكانوا قد أسروا البابا لاوون التاسع في حزيران السنة نفسها وأجبروه على الإقامة في بنيفنتوم، وشاء سكرتير هذا الباب هومبرتو مورموتييه
Humbert de Mourmoutiers
كاردينال سيلفة كانديدة
Silva Candida
أن يتصل بسيده، فأذن له النورمنديون بذلك، فرأى أن يذهب أولا إلى أبولية؛ ليتصل بأرجيروس فمر بمدينة تراني، واتصل بأسقفها، فأطلعه هذا على الرسالة التي وجهها إليه لاوون أخريدة، فقرأها ونقلها إلى اللاتينية، وتوجه إلى بنيفنتوم فأطلع سيده عليها، ويرى رجال الاختصاص أن هومبرتو أساء الترجمة، وأنه كان يكره اليونانيين وكنيستهم، فأهمل ودس فجاءت ترجمته أشد عنفا وأسوأ أثرا من الأصل اليوناني. ومن دسائسه أنه أضاف اسم البطريرك المسكوني إلى الرسالة، فجعلها تصدر عنه وعن رئيس أساقفة بلغاريا، ومن هنا قول البطريرك المسكوني إلى بطريرك أنطاكية إنه لم يخاطب البابا، ولم يكتب إلى أي أسقف في الغرب في موضوع الفطير، وأن اللاتينيين «فضوليون قليلو التبصر يحبون الكذب».
26
وكان لاوون التاسع لا يزال يجهل اليونانية، فاعتمد ترجمة هومبرتو واستشاط غيظا، وأمر بالرد عليها.
رد لاوون التاسع
وأمر البابا بالرد على رسالة لاوون أخريدة برسالتين توجه إحداهما إلى «الأسقفين» ميخائيل القسطنطينية ولاوون أخريدة، وتترك الثانية بدون عنوان وترد التهم الموجهة إلى الكنيسة اللاتينية.
27
وأعد هومبرتو هاتين الرسالتين
28
فاستهل الأولى بالرغبة في السلام، ولكنه ملأها بعبارات الصلف والترفع والاستمساك بالرئاسة، وهدد بامتيازات رومة، واعتبر «الأسقفين ميخائيل ولاوون» أحمقين؛ لأنهما تجاسرا فحكما على السدة الرسولية التي لا يستطيع أحد من المائتين أن يحاكمها. ولكي يؤيد هذه السلطة ذكر منحة قسطنطين إلى سيليفستروس، ورأى فيها أمرا إلهيا مصدقا من المجمع المسكوني الأول، ونصح إلى هذين «الأسقفين» أن يندم كل منهما على ما فعل، وأن يرجع عن الطريق التي مشى فيها؛ لئلا يصبح في الآخرة من جملة المسحوبين بذنب التنين الذي جر ثلث كواكب السماء. وضم هومبرتو إلى هذه الرسالة نسخة عن منحة قسطنطين «لكي لا يرتاب أحد في أن سيادة رومة على الأرض لم تؤسس على الخرافات والخزعبلات، وإنما صدرت عن قسطنطين نفسه الذي رأى أن خضوع صاحب السلطات السماوية للسلطات الأرضية غير لائق»!
والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن منحة قسطنطين هذه التي احتج هومبرتو ولاوون بها هي وثيقة مزورة صنفت في القرن الثامن لتدعيم سلطة رومة، وهو أمر يجمع عليه رجال الاختصاص من كاثوليكيين غربيين وبروتستانتيين وأرثوذكسيين.
29
توسط السنكلوس
ولمس الستراتيجوس أرجيروس درجة الإساءة التي شعر بها البابا لاوون لدى اطلاعه على رسالة لاوون أخريدة، فاتصل بالسنكلوس يوحنا أسقف تراني وبحث تطورات الموقف معه، فرأى الاثنان معا أن المصلحتين السياسية والدينية تقضيان بتلافي الأمر وتدارك الخطر قبل وقوعه، فقام يوحنا إلى القسطنطينية وأكد للبطريرك المسكوني أن البابا رجل نجيب فاضل عاقل، وأن التعاون معه ضروري لمصلحة الروم في إيطالية. وكان البطريرك شديد الثقة بالسنكلوس، لا يشك في ولائه، فكتب إلى زميله الروماني كتابا رقيقا أوضح فيه رغبته في الوئام والاتفاق، ورجاه أن يذكر اسمه في ذبتيخة رومة مقابل ذكر البابا في ذبتيخة القسطنطينية، ولكنه حيا زميله الروماني أخا لا أبا ووقع بصفته بطريركا مسكونيا.
وكتب الفسيلفس أيضا كلاما لطيفا دعا به الحبر الروماني إلى التعاون المخلص في الحقل السياسي، وقد ضاع نص هاتين الرسالتين، ولم يبق منهما سوى ما جاء عنهما في رد البابا، وما أشار إليه البطريرك المسكوني في رسائله إلى بطرس الثالث بطريرك أنطاكية. وعاد هومبرتو - فيما يظهر - إلى الدس والإفساد؛ فإنه جعل البطريرك المسكوني يقول بأنه يقابل ذكر اسمه في ذبتيخة رومة بذكر اسم البابا في جميع كنائس العالم
in toto orbe terrarum . ولعل البطريرك استعمل اللفظ اليوناني «المسكوني» بمعناه البيزنطي؛ أي في جميع كنائس الإمبراطورية، فهال البابا هذا الكلام بلفظه اللاتيني وأضرم غيظه، وكان قد أضعفه المرض فوكل أمر الرد إلى هومبرتو، وليته لم يفعل!
الكردينال هومبرتو
وكان الكاردينال هومبرتو يمين البابا ورئيس أركانه على شيء من العلم والثقافة، وبعض الشيء من التقوى، ولكنه كان ضيق الخلق جافي الطبع، شديد التصلب صفيق الوجه، لا يندى له جبين. وكان يكره اليونانيين، فجاء وفي رأسه خطة وعزم على الذهاب بنفسه إلى القسطنطينية حاملا رد البابا، فأعد باسم سيده رسالة إلى الفسيلفس شكا فيها البطريرك وأخبر بسوء فعله وأنذر بالمقابلة بالمثل وخوف من العواقب، وأعلم بقيام وفد باباوي إلى القسطنطينية وطلب تسهيل مهمته، وكتب رسالة أخرى إلى البطريرك المسكوني أكد فيها أولوية رومة وسيادتها، ولام البطريرك على التلقب بالمسكوني، وشك في قانونية انتخابه، وأنكر عليه تطاوله على حقوق كنائس الإسكندرية وأنطاكية، وأنبه على تطفله وانتقاده الطقس اللاتيني، ولا سيما التقديس على الفطير، ورجا الله أن يجده ممثلو البابا الذاهبون إلى القسطنطينية في التوبة والندامة!
30
الوفد البابوي المفاوض
وتألف الوفد المفاوض من الكردينال الأسقف هومبرتو والشماس فريدريكوس اللوريني حافظ الختم وبطرس رئيس أساقفة أمالفيس، وسهل النورمنديون المفاوضة، فدعا لاوون التاسع إلى مجمع محلي في باري في صيف السنة 1053، فتشاور الآباء اللاتينيون في أمر الانبثاق من الآب والابن، وزودوا الوفد بما يجادلون به،
31
وفي مطلع السنة 1054 قام الوفد إلى أبولية للاتصال بأرجيروس المجيستروس والإصغاء إلى إرشاداته، فنصح إليهم أرجيروس أن يتصلوا بأخصام البطريرك المسكوني في القسطنطينية، وأن يتعاونوا معهم في السعي لدى الفسيلفس لإحباط مشاريع البطريرك المسكوني وإبطالها، فجاء رأيه سخيفا فاسدا؛ لأن البطريرك ميخائيل الأول كان قد غبر في وجوه أخصامه في القسطنطينية وأصبح لا يباري ولا يمادي في سياسة العاصمة، والتبس على هومبرتو وجه الصواب، فأخذ بهذا الرأي الطائش، وقاطع من رغب في مفاوضته قبل الاتصال به.
32
هومبرتو في القسطنطينية (1054)
ووصل الوفد المفاوض إلى عاصمة الروم في أواخر آذار، أو أوائل نيسان سنة 1054، وعملا برأي أرجيروس العاثر أهمل الوفد البطريرك، واتصل بالفسيلفس أولا، فخالف العرف الكنسي، ثم عرج على البطريركية، فاستقبله البطريرك في قاعة التسجيل يحيط به رهط من المطارنة وكبار الموظفين الإكليريكيين، وقضى العرف المسيحي بأن يدخل الكردينال الأسقف على البطريرك المسكوني متواضع النفس خافض الجناح متنحيا عن مقاعد الكبر، ولكن هومبرتو أقبل شامخ الأنف رافع الرأس سمودا. وقضى البروتوكول البطريركي بأن يجلس الأسقف بعد المطارنة، فجاوز هومبرتو قدره وتعدى حده وامتنع عن الجلوس، ثم نصب صدره ومط حاجبيه ودفع برسالة لاوون التاسع دفعا وسما بنفسه، ثم خرج أزهى من الغراب، فاعتبر البطريرك هذا العمل وقاحة وخرقا لحجاب الحشمة.
33
ثم قرأ البطريرك رسالة البابا ودقق في ختمها، فرابه أمرها واعتبرها من وحي أرجيروس خصمه، فامتنع عن الاعتراف بصلاحية الوفد المفاوض، وأبى أن يشترك مع أعضائه، وتوفي لاوون التاسع في الثالث عشر من نيسان سنة 1054، وشغر الكرسي الروماني سنة كاملة ولم يرق فيكتوريوس الثاني السدة قبل الثالث من نيسان سنة 1055، وعلم البطريرك هذا كله
34
فنام عن أمر هومبرتو وتركه رهن الطوارق.
ولكن هومبرتو أسهر قلبه واستوقد غضبه وراح يتحرق ويتلهب، فعكف على ملفه وقلب أوراقه فوجد فيه الردين الأولين على رسالة لاوون أخريدة، وعثر أيضا على رسالة كانت قد وردت على رومة من أوروشليم وفيها ما يؤيد رومة في بعض طقوسها، فأعاد النظر في نصوص هذه الرسائل «وهذبها» ونقلها إلى اليونانية وأتحف الروم برد على لاوون أخريدة أفرغ فيه ذنوبا وذنوبا،
35
فهب الراهب نيكيتا ستيثاتوس الأستودي فصنف رسالة في حق اللاتين،
36
وطعن في حالة العزوبة المفروضة على الكهنة عندهم، وفي ممارسة القداس العادي في أثناء الصوم على الرغم من تحريمه في القانون الثاني والخمسين من قوانين مجمع تروللي، ولكنه لم ير في هذا كله هرطقة، بل انحرافا عن التعليم الرسولي، وسمى كنيسة رومة «عين المسكونة كلها».
37
فعاد الكردينال إلى طيشه وخلع جلباب الحياء، فأوسع نيكيتا شتما وسبابا وجعله سافلا وحمارا وزانيا ورئيس الهراتقة،
38
واحتج لدى الفسيلفس، وأصر على الاعتذار متخذا لنفسه صفة القاضي الروماني الذي جاء ليصدر حكما مبرما لا المفاوض بالسلام والمحبة، «فاعتبر الكرسي القسطنطيني العظيم أسقفية متمردة خاضعة لبطريركية رومة، وعامل صاحبها معاملة مرءوس مذنب، يجب عليه التماس الصفح من رئيسه الكريم، وظن أن ميل الفسيلفس نحوه لأسباب سياسية يكفي لقهر البطريرك والشعب.»
39
وسال لعابه من فمه فأثار مشكلة الانبثاق، وادعى أن اليونانيين حذفوا من دستور الإيمان النيقاوي القسطنطيني العبارة «ومن الابن»! فأساء التصرف وكشف جهله، واضطر الفسيلفس أن يطلب إليه أن شرح ذلك كتابة، ففعل وقدم مذكرة خطية بهذا المعنى قبل الرابع والعشرين من حزيران سنة 1054، وقد عثر على نسخة قديمة عنها العلامة الألماني ميشال، ونشرها في مؤلفه عن هومبرتو وكيرولاريوس،
40
وحاول الفسيلفس جهده للتقريب بين الطرفين، ولكن البطريرك أصر على مجانبة هومبرتو، وأوجب دعوة مجمع مسكوني للبت في أمر الانبثاق، فازور الكردينال وانقبض ولجأ إلى الحرمان والتحريم.
حرم هومبرتو
وفي السادس عشر من تموز سنة 1054 دخل الوفد البابوي إلى كنيسة الحكمة الإلهية والقداس قائم فيها، واتجهوا نحو الهيكل، فالمائدة، ورفعوا الإنجيل الطاهر ووضعوا حرما تحته بحضور الإكليروس والبطريرك، ثم نفضوا غبار أرجلهم وخرجوا قائلين: «الرب يحكم في ما بيننا وبينكم.»
41
ومكثوا يومين في القسطنطينية ثم غادروها حاملين الهدايا - حسب العادة! «فجاء عملهم أقرب إلى التمثيل المسرحي منه إلى عمل كنسي.»
42
والأمر الذي يؤسف له هو نص الحرم ولهجته؛ فقد نسب الكردينال إلى البطريرك المسكوني سلسلة من التهم والهرطقات الخيالية؛ فقد جاء في هذا الحرم عن البطريرك ميخائيل الأول أنه ذاك الذي يزعم أنه بطريرك. وجاء عن المؤمنين أنهم تبعوا جنون هذا الذي يزعم أنه بطريرك، وأنهم كالغيلاسيين يرقون الخصيان إلى درجة الكهنوت الأسقفية وكالآريوسيين يجددون عماد اللاتين، وكالدوناطيين ينكرون وجود كنيسة المسيح خارجا عنهم، وكالنيقولاويين يزوجون الكهنة بعد رسامتهم، وكالسافاريين يلعنون شريعة موسى، وكأعداء الروح القدس حذفوا من قانون الإيمان العبارة والابن، وكالمانيين يقولون بأن الخمير حي ذو نفس، كالناصريين لا يعمدون ولو في خطر الموت من كان في حالة من الأحوال التي تسمى نجاسة في شريعة موسى، وأنهم يرفضون تقديم القربان لمن يحلق لحيته، إلى ما هنالك من الافتراءات التي لا أساس لها.
وجاء في الحرم أخيرا أن ميخائيل الأول أغلق كنائس اللاتين واضطهدهم، ومنع المندوبين من إقامة القداس، وأنه بإنزاله الحرم ببعض اللاتين تجرأ على حرم الكرسي الرسولي نفسه، وانتهى الحرم هكذا: «ميخائيل الحديث في الإكليروس الذي يحمل - بلا حق - لقب بطريرك الذي اتخذ اللباس الرهباني بعامل الخوف البشري فقط، ومعه لاوون الذي يزعم أنه أسقف أخريدة ونيقيفوروس كاتب ميخائيل الذي انتهك حرمة القدسيات، فداس برجليه ذبيحة اللاتين، وكل الذين يتبعونهم في ضلالاتهم المذكورة وتجاسراتهم المتغطرسة، كل هؤلاء فليسقطوا تحت اللعنة «ما ران أنا» مع السيمونيين والفالاسيين والآريوسيين والدوناطيين، والنيقولاويين والسافاريين وأعداء الروح القدس والمانيين والناصريين، وجميع الهراطقة، لا بل مع الشيطان وملائكته ما لم يتوبوا، آمين آمين آمين!»
43
وخرج هومبرتو من كنيسة الحكمة الإلهية، وخرج شريكاه أيضا، فلحق بهم شماس أرثوذكسي حاملا الحرم بيده راجيا استرجاعه، فأبوا فرمى بالحرم إلى أرض الشارع، ثم التقط الحرم ورفع إلى البطريرك فأمر بترجمته، فنقله إلى اليونانية كل من البروتوسبثاريوس كوزما وبيروس الروماني والراهب يوحنا الإسباني.
البطريرك والفسيلفس
ووقف البطريرك على الترجمة اليونانية، فاتصل بالفسيلفس وأطلعه عليها، وكان قسطنطين قد ودع ضيوفه بقبلة السلام والمحبة، فلما اطلع على مضمون الحرم اشتعل غضبا وكاد يخرج من ثيابه، ثم رجعت أناته وخشي أن يكون البطريرك قد بالغ في الأمر فأرسل من لحق بالوفد الروماني، وطلب نسخة عن الأصل اللاتيني، ولدى اطلاعه على هذا الأصل وضح الأمر وبان الذنب؛ فأرسل الفسيلفس يأمر الوفد بالعودة إلى القسطنطينية والمثول أمام السنودوس المقدس، فأبوا وتابعوا السير.
ولم يلبث خبر الحرم أن ظهر وشاع في العاصمة، فاضطربت به الألسنة وسار على الأفواه، ففار فائر الشعب وثار ثائره وبات يرعد من الغضب، فخشي قسطنطين سوء العاقبة، فأمر بمعاقبة الوسطاء بين الوفد وبين الأوساط الرسمية، وألقى القبض على أقرباء أرجيروس وزجهم في السجن، ثم أمر بإحراق الحرم علنا، وكتب بهذا كله إلى البطريرك المسكوني، هكذا:
أيها السيد الجزيل القداسة
إن دولتي قد دققت في الأمر الذي حصل، فوجدت أصل الشر ناشئا عن المترجم وعن أرجيروس، أما غرباء الجنس فإنهم مرسلون من آخرين، ولا نستطيع أن نعمل معهم شيئا ، وأما المسببون فقد ضربوا، ثم إنا أرسلناهم إلى قداستك ليؤدب بهم آخرون، أما «الورقة» فمن بعد حرمها وحرم الذين أشاروا بها والذين أصدروها والذين كتبوها والذين لهم أقل علم بها، فلتحرق أمام الجميع. وقد أمرت دولتي بسجن الفيستارشيس صهر أرجيروس وابنه الفيستياريوس؛ ليقيما فيه تحت الشدة بحسب استحقاقهما.
44
السيميومة
ودعا البطريرك المجمع المقدس إلى النظر في قضية هومبرتو، فالتأم المجمع في العشرين من تموز بحضور رسل الفسيلفس الثلاثة الذين حملوا رسالته إلى البطريرك، فلعن المجمع الحرم وواضعيه وكل من عاون في إعداده، وأبى البطريرك إحراق الحرم؛ لأنه رغب في «أن يبقى شهادة على العار الأبدي والذنب الدائم اللذين لحقا بأولئك الذين جدفوا على إلهنا مثل هذا التجديف».
45
وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه عاد المجمع إلى الانعقاد، فجلس في كنيسة الحكمة الإلهية في المكان المعين للموعوظين، واتخذ قرارا رسميا في قضية هومبرتو عرف بالسيميومة
Semeiouma
أي الحاشية وقرئ على المؤمنين في الوقت نفسه الذي أفسح لتلاوة قرارات المجمع المسكوني الخامس، وكانت العادة قد جرت بقراءة هذه القرارات في مثل ذلك اليوم (24 تموز) من كل عام.
لقد جاء الآن رجال أردياء الإيمان وكرهون، رجال نبغوا من الظلام؛ لأنهم أولاد المغرب ودخلوا هذه المدينة الحسنة الإيمان المحفوظة من الله، التي تتدفق منها ينابيع الرأي القويم، فتجري إلى أقاصي المسكونة لتسقي النفوس بالعقيدة الحسنة، وقفز هؤلاء الرجال وشرعوا يفسدون التعليم الصحيح، وتمادوا فوضعوا صكا على المائدة السرية مائدة كنيسة الله العظمى، وبه وضعونا وكنيسة الله الأرثوذكسية وسائر الأرثوذكسية تحت الحرم؛ لأننا نريد أن نواظب على الإيمان الحسن ونعيش على استقامة الرأي، وقد طعنوا فينا ببعض المطاعن، وبأننا لا نطيق أن نحلق لحانا فنحول صورة الإنسان الطبيعية إلى صورة غير طبيعية مثلهم، وبأننا لا نرتاب في أمر تناول الأسرار من قساوسة متزوجين، وبأننا لم نرغب في الدس في الدستور الشريف المقدس وفي تزويره بآراء نغيلة وأقوال دخيلة، فلم نقل مثلهم: إن الروح القدس ينبثق من الآب والابن بل من الآب.
وقد تظاهروا بأنهم جاءوا من رومة وأوفدوا من البابا، والصحيح أنهم جاءوا من تلقاء أنفسهم وبإرشادات أرجيروس الغشاشة، ولفقوا تحارير وادعوا أنها صادرة عن البابا، وقد كشفنا هذا التزوير بتدقيق الأختام وأمور أخرى، وجاء الصك بأحرف إيطالية ووضعه هؤلاء الأردياء أولا على مائدة كنيسة الله العظمى بحضور سبعة أيبوذياكونة القسم الثاني، فرفضه الأيبوذياكونة ورموه عن المائدة الإلهية وقالوا لواضعيه أن يأخذوه فامتنعوا، ثم تناقلته الأيادي فأخذته حشمتنا وحفظته؛ كي لا تنشر التجاديف التي فيه، ثم إننا دعونا من يجيد الترجمة وسمحنا بنقل الصك إلى اليونانية، فتبين منه أن كل من يقاوم إيمان السدة الرومانية وذبيحتها فليكن أناثيما وليدع خميريا وضدا جديدا للمسيح، فأعلنت حشمتنا هذا الأمر لملكنا صاحب القدرة والقداسة، فأرسل يستدعيهم إلى المدينة العظمى؛ لأنهم كانوا قد سافروا قبل ذلك بيوم واحد، فعادوا ولكنهم لم يريدوا أن يحضروا أمامنا، ولا أن يواجهوا المجمع العظيم المقدس ويجيبوا عما فاضت به بطونهم من الكفر، ولم يرض ملكنا العظيم أن يجبرهم على ذلك؛ لأنهم يتقلدون رتبة السفارة - بحسب الظاهر - ولكن بما أنه لا يليق أيضا ولا يحق أن تبقى هذه السفاهة بلا قصاص فقد دبر الملك علاجا ناجعا، وأرسل إلى حقارتنا كتابا شريفا محترما، وهذه صورته بالحرف الواحد.
46
البطريرك المسكوني وسائر البطاركة
وسارع ميخائيل إلى الاتصال بزملائه البطاركة الشرقيين لإطلاعهم على واقع الحال، وحثهم على اتخاذ موقف مماثل لموقفه، فحرر رسالتين إلى بطرس الثالث بطريرك أنطاكية، وكتب الأولى فور انتهائه من إصدار السيميومة فذكر أعمال هومبرتو باختصار وبين موقفه منها، ولا سيما من قضية الفيليوكوي ووعد بإرسال نسخة عن حرم هومبرتو، ورجا زميله الأنطاكي أن يتصل بزميله الأوروشليمي والإسكندري، ويحضهما على الدفاع عن الأرثوذكسية،
47
ثم عاد إلى الكتابة فأسهب وتكلم في موقف الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية من الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية، ومما قاله ما معناه: «ولما علمت ما كان يتحلى به البابا الذي توفي من فضائل؛ كتبت إليه كتابة مسهبة بوجوب الاتفاق على نقاط الاختلاف في الإيمان، وكنت أرجو أن أستميل البابا للتعاون مع الإفرنج ضد النورمنديين في إيطالية .
ودفعت بهذه الرسالة ورسالة من القيصر إلى البستياريوس ليسلمها أمينة وينقل الجواب عنها. فلما وصل هذا الرسول إلى إيطالية اتصل بأرجيروس فخدعه وأخذ الرسائل منه ؛ مدعيا أنه بإمكانه أن يقدمها للبابا بسرعة أكثر منه، وأخذ أرجيروس الدراهم الملوكية المرسلة إلى البابا وتصرف بها لمنفعته الشخصية، ودعا إليه تابعيه وبينهم واحد كان أسقفا على مدينة أملفينا فطرد من كنيستها لأسباب شرعية، وبينهم أيضا الكردينال هومبرت له اسم رئيس أساقفة فقط ولم تكن أبرشيته معروفة، أما الثالث فإن أرجيروس لقبه كانكيلاريوس الكنيسة الرومانية ليجعله برجا حصينا لمقاصده.
ثم فتح أرجيروس رسالتي وكتب إلي جوابا متسترا تحت اسم البابا، ثم جعل هؤلاء الثلاثة يحملون هذا الجواب إلى القسطنطينية، ولما وصلوا إلى هنا حضروا أولا أمام القيصر بعنفوان غريب، ثم زاد هذا العنفوان حين جاءوا إلي، فإنهم لم يقولوا لي كلمة واحدة، ولم يحنوا رأسهم، ولم يسلموا السلام العادي، ولم يرضوا بالجلوس بعد المطارنة، وما لي وللقول عن نفسي فإنهم دخلوا على القيصر حاملين بأيديهم الصلبان والعكاكيز، واكتفوا بأن سلموني الرسالة المختومة وابتعدوا.
ولاحظت الرسالة قبل فضها فرأيت ختمها مزورا، أما فحواها فإنه كان مملوءا ممالقة وخبثا؛ لأنه شمل جميع المواضيع التي كان أرجيروس قد ذاكرني بها يوم كان في القسطنطينية ولا سيما موضوع الفطير، وكنت قد اضطررت إلى حرمه أربع مرات، وإني مرسل إليك نسخة عن رسالتي إلى البابا، وترجمة يونانية لجوابه الذي حمله إلي أولئك الكفرة لكي تعلم الحقيقة حق علمها.
ثم إن خبثهم ظهر بجلاء بعد حضور رئيس أساقفة تراني فإنه كشف لنا كل شيء، فإذا به يتفق وما كنت قد سردته للقيصر.»
ولام ميخائيل زميله الأنطاكي فراجعه بذكر اسم لاوون التاسع في الذيبتيخة مؤكدا أن أسماء الباباوات حذفت من ذيبتيخات الكنائس بعد البابا فيجيليوس، وطعن في استعمال الفطير في كنائس اللاتين وفي أمور أخرى انحرفوا بها عن التسليم الأبوي القديم، وخالفوا القوانين المسنونة، ولا سيما أكل المخنوق والدم وحفظ صوم السبت بدلا من الأربعاء. ومنع زواج الكهنة، والسماح بالزيجة بين الأقرباء، والتعميد بغطسة واحدة، والزيادة على دستور الإيمان، والقول بالانبثاق من الآب والابن والخاتم الذي يلبسه أساقفتهم وخروجهم في الحروب كالعسكر وهرق الدم لهلاك النفوس ، وأضاف ميخائيل أن الذين يرسلون من الغرب يسعون لبث تعاليمهم المنحرفة ويكرهون الناس على قبولها.
48
أنطاكية تذكر بالمحبة
وقال بطرس الثالث بطريرك أنطاكية قول سلفائه بطاركة أنطاكية بالبنتارخية؛ أي برئاسة البطريركيات الخمس على الكنيسة، وصارح رومة بذلك في رسالة الجلوس التي وجهها إلى لاوون التاسع حين تسلم عكاز الرعاية، وكرر هذا القول في رده على دومينيكوس رئيس أساقفة أكويلية. وقد سبقت الإشارة إلى هاتين الرسالتين في بحث سابق، واعتبر بطرس زميله الروماني مقدما على البطاركة عملا بقرارات المجامع المسكونية، وأوضح لميخائيل البطريرك المسكوني أن موقفه من ذكر البابا في الذبتيخة لا يتفق والواقع، فأكد أنه يذكر أن اسم البابا كان مكتوبا في ذيبتيخة أنطاكية في عهد بطريركها يوحنا، وأنه عندما زار القسطنطينية قبل أربعين سنة سمع اسم البابا يوحنا يذكر مع أسماء سائر البطاركة.
ورأى بطرس الثالث أن أضاليل رومة التي ذكرها ميخائيل ثلاثة: منها ما يجب تجنبه، ومنها ما يجب إصلاحه، ومنها ما يجب السكوت عنه؛ «لأنه ماذا يهمنا إذا كان الأساقفة اللاتينيون يحلقون لحاهم ويلبسون الخواتم، ألا نقص نحن شيئا من شعر قمة الرأس إكراما لبطرس ونلبس ألبسة مذهبة، ولا حرج فيما يتعلق بالأطعمة واللحوم غير الطاهرة؛ لأن رهباننا يفعلون ذلك، ولا يجب أن يكره الإنسان شيئا مما خلقه الله، بل يجب أن يقبل كل شيء بالشكر.»
أما «الشر العظيم الذي استحق الأناثيما» في نظر البطريرك الأنطاكي فإنه كان تلك الإضافة إلى نص الدستور المقدس؛ أي القول بالفيليوكوي، ولكنه رأى أنه من الواجب «أن ننظر بانتباه إلى الطوية الصالحة، فإن لم يكن الإيمان على خطر فعلينا - حينئذ - أن نرجع السلام والمحبة على غيرهما؛ لأن الغربيين إخوتنا وإن كانوا يخطئون أحيانا كثيرة بسبب توحشهم وجهالتهم. ولا يجوز أن نطلب من البربر الكمال الذي عندنا نحن الذين منذ نعومة الأظفار ننشأ في مطالعة الكتب المقدسة ، ويكفي أن يحفظ الغربيون التعليم القديم في الثالوث القدوس وسر التجسد».
ولم يستحسن بطرس الثالث منع القسوس المتزوجين عن مسك القدسات، ولم يرض أيضا عن عدم حفظ الأصوام كما حفظها هو، وأسهب في الكلام عن الفطير، ومما قاله في هذا الموضوع ما يلي: «إن من يقدم الفطير يقدم جسدا ميتا لا حيا، وإن من يأكل الفطير لا يستفيد من المسيح.»
وأنهى بطرس رده على ميخائيل قائلا: «فإن كنت تكتفي بالتشبث في موضوعي دستور الإيمان وزواج الكهنة فقط فحسنا تفعل، وأما ما بقي فيمكنك غض النظر عنه، وعلينا أن لا نكون سريعين في تصديق الوشايات، وأنت ستكتب حسب الواجب إلى البابا الجديد بعد انتخابه، وربما يجيبك بأن المطاعن كاذبة، ومن يستطيع أن يصدق أنهم لا يكرمون الذخائر وهم يفتخرون بأن عندهم جسدي بطرس وبولس، وكيف لا يحترمون الأيقونات ما دام البابا وقع على قرارات المجمع السابع المسكوني ولعن محاربي الأيقونات.» «وبناء عليه أترامى على أقدامك وأتضرع إليك أن تتساهل أكثر مما فعلت؛ لكي لا تكون وأنت راغب في إقامة الساقط قد جعلت سقوطه أكثر ثقلا، وأنا أظن أن هؤلاء إذا أصلحوا زيادتهم في دستور الإيمان فلا يبقى لنا شيء نطلبه، بل يمكننا أن نغض النظر عن مسألة الفطير، فأتضرع إليك ألا نطلب كل شيء لكي لا نخسر كل شيء.»
49
أهمية الحرم والسيميومة
ولم يشتمل الحرم الكنيسة الأرثوذكسية بأسرها، وإنما أطلق ضد بطريرك واحد من بطاركتها، وعدد معين من رجال إكليروسها، وأعلن بعد وفاة لاوون التاسع وقبل وصول خلفه فيكتوريوس الثاني إلى السدة الرومانية، ولا يجوز القول إن لاوون وافق مسبقا على القرارات الخطيرة التي تتضمنها هذا الحرم، ولم يصدق أحد من الباباوات التابعين محتوياته،
50
ولم تشمل السميومة الكنيسة اللاتينية ولم تذكر أحدا من رؤسائها، وإنما نظمت في حق هومبرتو ورفيقيه «لتسجل خجلا أبديا للذين تجرءوا فجدفوا على الله».
ولا أساس - فيما يظهر - لما جاء في تاريخ العقيدة لجاورجيوس الميتوخيتي، من أن ميخائيل الأول أذاع - بعد أن تسلم جواب بطرس الثالث - منشورا بطريركيا عاما، أعلن فيه اضمحلال تفوق رومة ووصوله المقام الأول بين البطاركة،
51
ولا يخفى أن جاورجيوس هذا من أعيان القرن الرابع عشر، وأنه بالتالي بعيد جدا عن الحادث الذي يروى، وقل الأمر نفسه عما جاء في مصنفات ميخائيل بلاستارس وجاورجيوس فرانجيس اللذين ادعيا بأن ميخائيل الأول ترأس مجمعا عاما في السنة 1057، وأن هذا المجمع «حرم اللاتين وبطريركهم.» فالتفتيش الذي جرى بأمر الفسيلفس أليكسيوس في السنة 1089 في سجلات البطريركية المسكونية وأوراقها لم يظهر للوجود أي قرار اتخذته كنيسة القسطنطينية لإقصاء عن كنيسة رومة.
52
والحرم والسيميومة في نظرنا عرض من أعراض علة مزمنة كانت ولا تزال تنتاب الكنيسة الجامعة بفرعيها اليوناني واللاتيني حتى يومنا هذا؛ فكنيسة رومة ما فتئت منذ القرون الأولى تطالب بالسلطة العليا على جميع الكنائس في الغرب وفي الشرق، وكنائس الشرق ما فتئت منذ القرون الأولى أيضا ترد هذا الطلب مؤكدة تساوي الرسل والأساقفة والبطاركة مبينة أن السلطات العليا في الكنيسة الجامعة هي في يد المجمع المسكوني، وأن المجامع المسكونية أجمعت على هذا الأمر، وأن شرائع الإمبراطورية الرومانية، ولا سيما قوانين يوستنيانوس أثبتت هذا التساوي بشكل لا يحتمل الشك.
وليس من العلم أو الإنصاف بشيء أن نقول مع إخواننا الغربيين إن ميخائيل الأول أراد الانشقاق ومهد له السبيل ودبر التدابير للوصول إليه، ودفع لاوون البلغاري وغيره إلى العمل والظهور واختبأ هو وراء هؤلاء؛ ليوجد منفذا عند اللزوم يستطيع الخروج منه عند تأزم الحال. نقول: ليس من العلم أو الإنصاف أن نقول هذا القول وننسى مطلب رومة التاريخي وإقدامها على تزوير منحة قسطنطين واستعمال هذا المزور في السنة 1054، واندفاع لورين وكلوني في سبيل تدعيم سلطة أسقف رومة، وانتشار الرهبان اللاتين في أبرشيات إيطالية الجنوبية الأرثوذكسية الخمس؛ للدعاية لكنيسة رومة وطقوسها. فالمبادرة في سير الحوادث التي أدت إلى أزمة السنة 1054 جاءت من الغرب لا من الشرق، وموقف ميخائيل الأول - على مآخذه - كان موقفا دفاعيا لا هجوميا.
وليس من المسيح بشيء أن نفتش مع الأب مرتينوس جوجي الصعودي والأب إيف كونغار الدومينيكاني وغيرهما من الآباء الغربيين العلماء
53
عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الانفصال في الكنيسة الجامعة، فنجدها عرقية وثقافية وحكومية وسياسية، وننسى أن جميع هذه الأسباب توفرت في القرون الأولى ولم ينتج عنها مثل هذا الانشقاق. ونحن نرى أن الذين مهدوا لهذا الانشقاق في الشرق وفي الغرب معا لم يفسحوا المجال لعمل الروح القدس، فخلت قلوبهم من المحبة المسيحية التي تتأنى وترفق، ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ ولا تأتي قباحة ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق وتتغاضى عن كل شيء وتصدق كل شيء وتصبر على كل شيء، وإنهم لم يصلوا بحرارة وانكسار قلب وانسحاق نفس «من أجل ثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الكل»!
أنر بصيرتي وافتح فمي لأهذ بأقوالك وأفهم وصاياك وأعمل بمشيئتك، وأرنم لك باعتراف القلب وأشيد لاسمك القدوس، أي الآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين، آمين.
الفصل الثاني عشر
صدى الانشقاق
1054-1098
في أنطاكية
وتولى السدة الأنطاكية بعد بطرس الثالث البطاركة يوحنا السادس فاميليانوس فثيودوسيوس الثاني فنقيفوروس فيوحنا السابع،
1
وجاء في السينوذيكون بعد بطرس كل من ثيودوسيوس فنيقيفوروس فيوحنا، وجاء في مجموعة لوكيان تحت الرقم المتسلسل 96 ثيودوسيوس الثالث ثم باسيليوس الثاني 97، ثم بطرس الثالث 98 فثيودسيوس الثالث 99 فاميليانوس 100 فنيقيفوروس 101 فيوحنا الرابع 102.
وتختلف هذه المراجع في تعيين سني الرئاسة، ولكنها تتقارب في تحديد بداية عهد يوحنا السابع (الرابع في المراجع الغربية)، ويرى رجال الاختصاص أن رئاسة يوحنا السادس امتدت من السنة 1056 حتى السنة 1057، وأن ثيودوسيوس الثاني تولى من السنة 1057 حتى السنة 1059، وأن رئاسة أميليانوس انتهت في السنة 1079، وأن نيقيفوروس جاء بين أميليانوس وبين يوحنا السابع، وأن هذا رقي العرش البطريركي في حوالي السنة 1088.
2
وقضى التقليد الكنسي بالقول بتساوي البطاركة الخمسة في السلطة وبعدم تدخل أحدهم في شئون غيره المحلية،
3
وأعلن بطرس الثالث هذا الموقف قبل حوادث السنة 1054 وبعدها، وكان ثيودوسيوس الثاني خريزوفرجيس صديق ميخائيل الأول كيرولاريوس، فلا عجب إذا امتنع هو وخلفاؤه في هذه الفترة عن توجيه رسائل الجلوس إلى رومة وعن ذكر أحبارها في الذيبتيخة الأنطاكية، ولكنهم لم يذهبوا إلى أبعد من هذا ولم يتخذوا فيما يظهر أي قرار مجمعي بشأن مشكلة هومبرتو وحرمه، وهو ما يجمع عليه كبار الثقات في تاريخ الروم،
4
وجاء في سيرة القديس جاورجيوس الأثونيتي أن ثيودوسيوس الثاني البطريرك الأنطاكي هدد ملك الكرج في نزاع نشب بينهما حول حقوق الكرسي الأنطاكي بأخبار البطاركة «الأربعة» بسوء فعله.
5
في أوروشليم
واتخذ بطاركة الكرسي الأوروشليمي الموقف نفسه الذي وقفه بطاركة الكرسي الأنطاكي، وتأثروا بالعوامل نفسها التي دفعت زملاءهم، فقالوا بتساوي البطاركة الخمسة في السلطة، ووقفوا إلى جانب بطريرك القسطنطينية، فامتنعوا عن إرسال رسائل الجلوس إلى رومة، وعن ذكر أحبارها في الذبتيخية، وكتب سمعان الثاني بطريرك أوروشليم رسالة في هذه الفترة عينها في موضوع الخلاف بين رومة والكنائس الشرقية، أبان فيها بوضوح عدم موافقته على زيارة الفيليوكوي واعتراضه على استعمال الفطير،
6
وقد أوضح العلامة الألماني ميشال أمر هذه الرسالة، فأزاح عنها حجاب الريب الذي أسدله زميله لايب، وأكد أن هذه الرسالة هي من قلم البطريرك سمعان وتعود إلى القرن الحادي عشر.
7
وقد سبقت الإشارة إلى الاضطهاد الذي أنزله الحاكم بأمره الفاطمي بالمسيحيين ومعابدهم في الربع الأول من القرن الحادي عشر، ولم يكن من ينجد كنيسة أوروشليم ويقيلها من عثرتها سوى ملوك الروم؛ فقسطنطين التاسع هو نفسه جدد كنيسة القيامة بعد تدميرها.
ونرى بطاركة أوروشليم يكتفون بما اكتفى به زملاؤهم في أنطاكية؛ ففي السنة 1064 توجه عدد من أساقفة الغرب يتقدمهم سيغفريد رئيس أساقفة ماينز وعدد من الأشراف وغيرهم؛ إلى زيارة الأماكن المقدسة، ومروا بالقسطنطينية فأكرمهم قسطنطين العاشر وزاروا كنيسة الحكمة الإلهية، ولدى وصولهم إلى المدينة المقدسة خرج صفرونيوس البطريرك الأوروشليمي بنفسه لملاقاتهم ومعه الإكليروس والشعب بالمباخر والشموع وأدخلهم باحتفاء عظيم كنيسة القبر المقدس،
8
وهو أمر ذو بال في موقف رجال الدين في الغرب والشرق معا من حرم هوميرتو وسيميومة المجمع القسطنطيني.
في الإسكندرية
ونكاد لا نعلم شيئا عن كنيسة الإسكندرية في هذه الفترة، ولا نعلم اسم البطريرك الذي جلس على كرسي مرقس سنة 1054، ولا يجوز التكهن عند سكوت المصادر الأولية، وأن لا أدري لمن العلم!
يوحنا متروبوليت كييف
ودخلت كنيسة رومة في نزاع داخلي حول الخلافة، فادعى إقليمس الثالث حق تولي السدة ثلاثين عاما (1070-1100)، فخاصم كلا من غيريغوريوس السابع وفيكتوريوس الثاني وأوربانوس الثاني، وحوالي السنة 1080. وفي عهد غريغوريوس السابع كتب إقليمس الثالث رسالة إلى يوحنا الثاني متروبوليت كيف؛ راجيا تدخله في القسطنطينية للاعتراف به بطريركا وبابا على رومة، وكانت كنيسة روسية لا تزال خاضعة لرئاسة البطريرك المسكوني، وكان يوحنا الثاني رئيسها متروبوليت كيف يونانيا يمت بصلة إلى الشاعر البيزنطي ثيودوروس بروذوموس، فكتب يوحنا الثاني إلى إقليمس الثالث يأسف لانحراف رومة عن قرارات المجامع المسكونية السبعة في أمر الفطير والصوم والمعمودية والفيليوكوي، ونصح إلى أقليمس أن يرسل من يمثله إلى القسطنطينية؛ ليعلن انسجامه مع التقليد القويم،
9
وبعد ذلك بقليل كتب إلى يوحنا أحد أبنائه الروحيين؛ راجيا تبيان موقف المؤمن الروسي من الوثنيين واليهود واللاتين، فأجابه المتروبوليت يوحنا بأنه لا يجوز التناول مع من يقدس على الفطير، أو مع أولئك الذين لا يطبقون قرارات المجامع المسكونية في الصوم، ولكنه أجاز الاشتراك مع هؤلاء في الأعياد إذا أدى عدم الاشتراك إلى العداوة والحقد، لم يشجع التزاوج مع اللاتين.
10
ثيوفيلاكتوس متروبوليت أخريدة
وفي السنة 1090 كتب الشماس نيقولاووس القسطنطيني إلى ثيوفيلاكتوس متروبوليت أخريدة يسأل رأيه في أخطاء اللاتين، وكان ثيوفيلاكتوس أعلم علماء زمانه درس على بسلوس في جامعة القسطنطينية، وعني في تهذيب ميخائيل السابع ابن قسطنطين، ثم اضطر أن يقبل التسقف على كنيسة أخريدة، تنفيذا لرغبة صديقه البطريرك المسكوني نيقيفوروس الثالث، وقياما بواجب أرثوذكسي كبير؛ نظرا للمشادة حول تبعية كنيسة بلغارية، وساءه تطرف الشماس نيقولاووس، فكتب إليه يوجب الاعتدال والمحبة. وأكد أن الاختلاف في الصوم وفي الزواج وفي المعمودية لا يشكل خطأ مهما، وقال: إنه من المضحك أن نقاطع اللاتين؛ لأن إكليروسهم يحلق اللحى ويلبس الخواتم ويرتدي الأثواب الحريرية الملونة، ولم ير في عدم زواج الكهنة خطيئة مميتة، كما أنه لم يجد في الأسفار المقدسة وقرارات المجامع السبعة ما يمنع التقديس على الفطير، وآلمه جدا أن يستمر الروم في التفتيش عن أخطاء غيرهم وألا يعترفوا بإمكانية وقوعهم في مثل هذه الأخطاء.
ولكن ثيوفيلاكتوس خشي أن يؤدي ادعاء رومة بالسلطة على جميع الكنائس واستمساكها بهذا الادعاء وخروجها عن قرارات المجامع المسكونية بإضافة الفيليوكوي إلى الدستور المقدس؛ نقول: خشي ثيوفيلاكتوس أن يؤدي هذا كله إلى انشقاق أليم، وعزى هذا العلامة قول اللاتين بالانبثاق من الآب والابن إلى فقر في الاصطلاحات اللاهوتية اللاتينية، وأبان أن اللفظ اللاتيني للتعبير عن الانبثاق يشمل أربعة معان يعبر عنها اليونان بأربعة ألفاظ مختلفة، فإذا شاء اللاتين أن يحتفظوا بالفيليوكوي لأغراض تفسيرية داخلية فلا مانع، شرط أن يذكروا دائما أن هذا اللفظ لم يرد في الدستور المقدس الذي يقول به جمهور المؤمنين.
11
ورأى ثيوفيلاكتوس لمناسبة أخرى أن ادعاء رومة بصحة قول ما لمجرد صدور هذا القول عن أسقفها في ظرف رسمي؛ ادعاء مردود «ولو تكلم البابا بصوت بطرس وهز مفاتيح السماء في وجوهنا». وأضاف أنه من الهزء ببطرس أن نستند إلى السلطة المستمدة منه لنعلن عقيدة لم تقرها مجامع الكنيسة.
12
ويتضح مما تقدم أن ثيوفيلاكتوس لم ير الكنيسة الجامعة منشقة في السنة 1090، ولكنه خشي ادعاء رومة بالسلطة وقولها بالفيليوكوي، ورجا ألا تتدخل الكنائس في شئون بعضها الداخلية.
نهاية ميخائيل الأول
وتوفي قسطنطين التاسع بعد صدور السيميومة بخمسة أشهر؛ أي في الحادي عشر من كانون الثاني سنة 1055 فنودي بالعقب الوحيد الباقي من الأسرة المقدونية بثيودورة ابنة قسطنطين الثامن الصغرى، وكانت قد مضت معظم حياتها في الدير، فنشأت تقية فظة بقدر ما كانت أختها زوية متيمة بالحب، ورأى البطريرك ميخائيل أن تتزوج؛ فتشرك معها في الحكم من كان أهلا لذلك، ولا سيما وأنها كانت قد ناهزت السبعين، ورأى الخصيان حولها غير ذلك، فحكمت ثيودورة وحدها. وفي صيف السنة 1057 أشرفت الفسيلسة على الموت فاتخذت ميخائيل استراتيوتيكوس خليفة لها وتبنته قبل وفاتها، ودام حكم ميخائيل السادس سنة وعشرة أيام، واشتد في أثنائه النزاع بين العسكريين والخصيان، وتفجر الخصام يوم عيد الفصح في الثلاثين من آذار سنة 1058، وكانت مؤامرة وتدخل البطريرك ميخائيل، فأرسل وفدا من المطارنة يشيرون على ميخائيل السادس بالتنازل ، فسأل الفسيلفس المطارنة ماذا تعطونني بدل المملكة؟ فقالوا: ملكوت السماوات، فرمى شعار الملك والتجأ إلى الدير وتوفي بعد ذلك بقليل، فوصل إلى عرش رومة الجديدة زعيم العسكريين إسحاق كومنينوس.
وكافأ إسحاق البطريرك، فمنحه حق انتقاء أيكونوموس كنيسة الحكمة الإلهية وسكيفوفيلاكسها، وكان ميخائيل الأول قد طلب ذلك من ثيودورة وميخائيل فلم يفلح، وظن البطريرك أنه سيتمكن من إرشاد الفسيلفس الجديد وتوجيهه، ولكن إسحاق استثقل هذا الإرشاد فنشأ شيء من الكره بين الاثنين ما لبث أن تحول إلى عداء، فهدد البطريرك الفسيلفس واحتذى الحذاء الأرجواني؛ مدعيا أن الاحتذاء بالأرجواني حق من حقوق السدة البطريركية، وكان الإقدام على الاحتذاء بالأرجواني في عرف الروم آنئذ أول دليل على الطمع في السلطة العليا.
وفي الثامن من تشرين الثاني سنة 1058 حين كان البطريرك متوجها ليخدم القداس في دير الملائكة ألقى الفسيلفس القبض عليه ونفاه مع أولاد أخيه إلى جزيرة إيمبروس، فهاج الشعب فاستحضر الفسيلفس البطريرك وجمع مجمعا وطلب محاكمته؛ لأنه عطف على راهبين كانا يتعاطيان الشعوذة، ولأنه كان يقرأ أشعار الشعراء وقت الخدمة، ولأنه أيضا ثار على الفسيلفس السابق، والتزم البطريرك الصمت وقام في النهاية وسامح الفسيلفس والقضاة، ودعا للشعب ولأعدائه وسقط ميتا وهو يقول: السلام لجميعكم مشيرا بيده اليمنى إشارة البركة، فأمر الفسيلفس بدفنه بحفاوة فائقة، واشترك بنفسه في تشييع الجثمان، ورقي الكرسي المسكوني بعده قسطنطين الثالث ليخوذي (1059-1063).
رومة تدعو إلى الوئام (1057-1061)
وأدى إقصاء ميخائيل الأول عن العمل في حقل السياسة إلى تقريب أرجيروس والإصغاء إليه، ففتحت كنائس اللاتين في القسطنطينية بعد إغلاقها، وأرسل وفد إلى ألمانية؛ ليفاوض هنريكوس الثالث في أمر التعاون في إيطالية الجنوبية، ووضع حد لمطامع النورمنديين فيها،
13
وكتب البابا فيكتوريوس الثاني (1055-1057) إلى الفسيلسة ثيودورة بألطف العبارات وأرقها، راجيا تخفيض الضرائب عن الحجاج الغربيين الساعين إلى أوروشليم بالتوبة وانسحاق النفس،
14
وما كاد البابا اسطفانوس التاسع (1057-1058) يعلم بخلع ميخائيل الأول حتى بادر يتعاون مع الروم في السياسة ويوفد إلى القسطنطينية ديسيديريوس؛ ليعالج الوضع الكنسي، وقام هذا الوفد من رومة قاصدا القسطنطينية، ولدى وصوله إلى باري علم بوفاة البابا (كانون الثاني، سنة 1058) فعاد إلى رومة.
15
ونهج البابا نيقولاووس الثاني (1059-1061) نهجا معاديا، فصالح النورمنديين في أمالفيس سنة 1059، واعترف بسلطة زعيمهم غيسكار على أبولية وكلابرية والإمارات اللومباردية، شرط أن يعترف هذا بدوره بسيادة الحبر الروماني على هذه المقاطعات جميعها،
16
فأثار عمله هذا حنق الروم وأضرم غيظهم، فتعاون قسطنطين العاشر الفسيلفس مع الإمبراطورة الوصية الغربية، فدفعا كاذلوس أسقف بارمة للمطالبة بالسدة الرومانية، وخشي البابا الجديد ألكسندروس الثاني (1061-1073) هذا التعاون بين البلاطين الشرقي والغربي، فانتهز فرصة وصول الفسيلفس ميخائيل السابع إلى العرش (1071-1078)، فأرسل وفدا إلى القسطنطينية في السنة 1072 برئاسة بطرس أسقف أناغني للتهنئة والتبريك ولمعالجة التباعد بين الكنيستين،
17
وكان الرأي الغريغوري في سلطة أسقف رومة قد بدأ يفعم الجو في رومة فلم ير البطريرك المسكوني يوحنا الثامن (أكسيفيلينوس) مجالا للتفاهم على هذا الأساس، ورأى ميخائيل بسلوس كبير البلاط رأي البطريرك، فماطل الاثنان، وسوفا، وأجلا البحث في موضوع الاتحاد إلى أمد غير معين.
18
البابا غريغوريوس السابع (1073-1085)
وتوفي طغرل بك زعيم الأتراك السلاجقة في السنة 1062، فخلفه السلطان ألب أرسلان، واستولى على آني الأرمنية في السنة 1064 وذبح ونفى، ثم قام إلى الرها فصده عنها دوق أنطاكية في السنة 1065، وفي ربيع السنة 1067 هاجم ألب أرسلان الروم من الشرق والجنوب في آن واحد، فدخل جيشه البونط وقيليقية، ووصلت طلائعه إلى قيصرية قبدوقية فخربتها، واستولى رومانوس الرابع على عرش الروم (1068-1071)، وقاد إلى الميدان كل رجل استطاع أن يجنده في أوروبة وآسية، وانتصر على السلاجقة في سورية الشمالية عند منبج (1069) وحرر غلاطية. ثم عاد السلاجقة إلى الهجوم فقام رومانوس إلى الجبهة، ولدى وصوله إلى منزيكرت (ملاذكرد) على الفرات الأعلى وجد نفسه وجها لوجه أمام جيوش من السلاجقة، فكانت موقعة ملاذكرد الشهيرة في آب السنة 1071، وجرح رومانوس وسقط عن حصانه ووقع أسيرا.
وتولى ميخائيل السابع عرش القسطنطينية (1071-1078) وترامى إليه أن النورمنديين يعدون العدة للتوسع في البلقان، فكتب إلى غريغوريوس السابع بابا رومة يطلب المعونة في ردع هؤلاء واعدا بالسعي لإعادة العلاقات بين الكنيستين إلى ما كانت عليه قبل الانشقاق، وأرسل وفدا إلى رومة للمفاوضة على هذا الأساس، فوافق البابا وأقنع غيسكار زعيم النورمنديين بوجوب التعاون مع الروم، وذهب إلى أبعد من هذا فأزوج هيلانة بنت غيسكار من قسطنطين بن ميخائيل وولي عهده، وأعلن أنه مستعد للقيام بنفسه إلى القسطنطينية على رأس خمسين ألفا لصد الأتراك السلاجقة وجمع مجمع يحل جميع المشاكل الدينية، فخشي الروم حل هذه القضايا في جو عسكري، وماطلوا وسوفوا طوال السنة 1074، ونشبت مشاكل في إيطالية، شغلت غريغوريوس، أهمها مطامع غيسكار النورمندي نفسه.
19
وفي السنة 1076 شهر غريغوريوس رأيه في الباباوية والكنيسة بقرار رسمي عرف بالديكتاتوس
Dictatus Papae ، واستقل بهذا الرأي وانفرد به دون إخوانه البطاركة الأربعة ودون عرضه على مجمع مسكوني فباعد بين الكنائس وانحرف عنها فزاد الشقاق اتساعا، وتألف الديكتاتوس من سبعة وعشرين بندا: (1)
أن الكنيسة الرومانية وحدها مقامة من الله. (2)
أن الحبر الروماني وحده يستحق لقب المسكوني. (3)
وهو وحده يستطيع عزل الأساقفة وحلهم. (4)
يتقدم نائبه سائر الأساقفة في المجمع، ولو كان دونهم رتبة، وهو وحده يصدر أحكام العزل. (5)
يستطيع البابا عزل الغائبين. (6)
ولا تجوز السكنى تحت سقف واحد مع من يحرمه البابا. (7)
وهو وحده يسن شرائع جديدة، مراعيا في ذلك الظروف. وهو وحده يضم الرعايا الجدد ويحول جماعة من الرهبان إلى رهبنة، ويقسم الأبرشيات الغنية ويضم الأبرشيات الفقيرة. (8)
وهو وحده يلبس شارات الملك. (9)
وهو الرجل الوحيد الذي يقبل الأمراء رجله. (10)
وهو الوحيد الذي يجب ذكر اسمه في جميع الكنائس. (11)
واسمه فريد في العالم. (12)
وهو وحده يعزل الأباطرة. (13)
ويجوز له - عند الضرورة - أن ينقل أسقفا من كرسي إلى آخر. (14)
ويجوز له - عندما يشاء - أن يشرطن أي إكليريكي من أية كنيسة. (15)
ومن يشرطنه البابا يحق له أن يدير شئون كنيسة أخرى، ولكن لا يجوز له أن يسام من أسقف آخر إلى رتبة أعلى. (16)
ولا يصبح مجمعا من المجامع عاما بدون أمره . (17)
ليس هناك أي نص قانوني خارج سلطته. (18)
حكمه لا يرفض، وهو وحده يقدر أن يرفض أحكام الجميع. (19)
لا يجوز لأحد أن يحاكمه. (20)
لا يجوز لأحد أن ينكر حكم الكرسي الرسولي. (21)
يجب رفع كل الاختلافات الهامة في كل كنيسة إليه. (22)
أن الكنيسة الرومانية لم تغلط أبدا، وهي بموجب شهادة الأسفار المقدسة لن تغلط البتة. (23)
أن الحبر الروماني متى كانت شرطونيته قانونية؛ يصبح قديسا باستحقاقات القديس بطرس، كما قال القديس أينوذيوس أسقف بافية وآباء آخرون، وكما جاء في قرارات البابا سيماخوس السعيد ذكره. (24)
يستطيع الرعايا أن يشكوا ساداتهم بإذنه وأمره. (25)
يستطيع قطع الأساقفة والصفح عنهم بدون دعوة مجمع. (26)
من لا يوافق الكنيسة الرومانية لا يكون ابن الكنيسة الجامعة. (27)
يستطيع البابا أن يحرر رعايا الأشرار من يمين الولاء لهم.
20
وبينما كان السلاجقة يزدادون قوة وتقدما في أراضي الروم كان كل قائد من قادة الروم العسكريين ينادي بنفسه فسيلفسا، وكان أهم هؤلاء القادة الطامعين نيقيفوروس بوتانياتس، وقبل هذا في صفوفه عددا كبيرا من الأتراك السلاجقة، وكان ميخائيل السابع خوارا مترددا بعيدا عن الجيش لا يرغب في الحرب والقتال، فتدخل الشعب في العاصمة لوضع حد لهذه الفوضى، واهتم رجال الدين للأمر نفسه، فنادى إميليانوس بطريرك أنطاكية - الذي كان آنئذ في العاصمة - بنيقيفوروس فسيلفسا،
21
ونزل ميخائيل السابع عن العرش ولبس ثوب الرهبنة وتوفي. وأكره نيقيفوروس الكنة النورمندية هيلانة على الإقامة في دير (1078)، فغضب لميخائيل السابع ولهيلانة كل من غيسكار النورمندي والبابا غريغوريوس السابع، وجعل غيسكار من أحد اليونانيين الموجودين في رومة آنئذ ميخائيل سابعا، ووافق غريغوريوس السابع على هذا الدجل والاحتيال، وسوغ لغيسكار الدفاع عن حقوق الفسيلفس الدجال وحرم نيقيفوروس الثالث، وشغلت الروم مشاغل داخلية هامة فلم يعبئوا بهذا الحرم، ثم استقرت أمورهم وتولى الأريكة أليكسيوس كومنينوس (1081)، فتسرع البابا وعاد فرشق أليكسيوس نفسه بحرم ثقيل وشاطر النورمنديين المسئولية في هجوم على البلقان بدأ في السنة 1081،
22
فغضب أليكسيوس لكرامته وكرامة الكنيسة وكان تقيا غيورا فأمر بإقفال كنائس اللاتين مستثنيا كنائس حلفائه البنادقة، وتعاون مع إمبراطور الغرب هنريكوس الرابع عدو غريغوريوس، ولكنه لم يؤيد مرشح هنريكوس للكرسي الباباوي أقليمس الثالث، واستمرت المشادة بين القسطنطينية ورومة حتى وفاة غريغوريوس السابع في السنة 1085، وتولى السدة الرومانية فيكتوريوس الثالث (1086-1087) فلم يخفض من غلواء غريغوريوس ولم ينته عما كان فيه.
أوربانوس وأليكسيوس
وفي السنة 1088 رقي كرسي رومة الرسولي أوربانوس الثاني (1088-1099)، وكان سديد الرأي حسن التدبير تقيا محبا غيورا، فلوى العنان ورد الجماح وواصل وأحسن الصلة، وكان أليكسيوس مهذبا مثقفا متضلعا من الفلسفة واللاهوت شديد التمسك «بالعبادة الحسنة الأرثوذكسية»، ولكنه كان دمث الأخلاق سلسا يؤثر السياسة على العنف، وكان قد نجح في صد النورمنديين عن مطامعهم في البلقان، وأنزل في الثوار الماناويين والبقشناغ الهزيمة تلو الهزيمة. وكان البطريرك المسكوني نيقولاووس الثالث النحوي (1084-1111) عالما كبيرا وراهبا بارا وديعا تقيا، فأوفد أوربانوس لدى وصوله إلى السدة الرومانية الكردينال الشماس روجه والأب نيقولاووس إلى القسطنطينية حاملين رسالة إلى الفسيلفس ملؤها المحبة والرجاء بأن يصار إلى فتح ما غلق من كنائس اللاتين، والسماح لهؤلاء بالتقديس على الفطير، فرضي الفسيلفس وأصدر خريسوبولونا دعا فيه أوربانوس إلى القسطنطينية للاشتراك في مجمع يبحث قضية الفطير ويحلها، ووافق البابا وأجاب بالقبول وبدأ يعد العدة للقيام إلى القسطنطينية لحل المشاكل الراهنة.
واشتدت معارضة إقليمس الثالث وتفاقم شرها، فاضطر أوربانوس أن يبقى في إيطالية ليرقب تطور الحوادث عن كثب، ولكنه أرسل وفدا ثانيا إلى القسطنطينية في السنة 1089 ليمثله في المجمع المقترح، ولدى وصول هذا الوفد أعلن رئيسه رفع الحرم عن أليكسيوس، فقابل الفسيلفس هذه البادرة الطيبة بالطلب إلى البطريرك نيقولاووس الثالث ومجمعه الدائم أن يذكروا اسم أوربانوس في ذبتيخة كنيسة الحكمة الإلهية، فأمسك البطريرك مشيرا إلى بعض الاختلافات القانونية القائمة بين الكنيستين، ولكن أليكسيوس أوجب الرضوخ ولا سيما بعد أن تبين له أن محفوظات البطريركية كانت خالية من أي قرار رسمي يفصل الكنيستين الشقيقتين، فوافق البطريرك ومجمعه على اقتراح الفسيلفس وطلبوا إلى أوربانوس أن يحضر بنفسه جلسات المجمع المنتظر، أو أن يرسل من ينوب عنه لهذه الغاية، وأن يبين اعترافه بالإيمان حسب العادة .
وكتب نيقولاووس الثالث إلى أوربانوس الثاني كتابا نفى فيه أن يكون قد منع اللاتين في القسطنطينية عن ممارسة طقوسهم بحرية، وأكد أن هذا الخبر مجرد افتراء، ثم أشار بلطف ولباقة إلى تأخر أوربانوس عن إعلامه بانتخابه وعن إرسال الاعتراف بالإيمان، وخالف فوطيوس في أنه دعا أوربانوس أخا لا أبا كما فعل فوطيوس، وأكد المساواة بين البطاركة وأوجب العمل بمقررات مجمع ترولي المسكوني.
23
وكان أوربانوس سهل الأخلاق سلس الطباع ظريفا كيسا لبقا، فتغاضى عن بعض ما جاء في كتاب نيقولاووس، ولا سيما اعتباره أخا لا أبا، ولم يرسل اعترافا بالإيمان كي لا يثير قضية الفيليوكوي، ولم يذكر اسمه في ذيبتيخة الحكمة الإلهية، ولكن المياه عادت إلى مجاريها إلى ما كانت عليه قبل السنة 1054، وحل الوفاق والوئام محل التراشق والتخاصم.
24
الفصل الثالث عشر
الحروب الصليبية
1098-1204
الخطر التركي
وانطلق الأتراك السلاجقة من فدافد آسية الوسطى، ثم قدر لزعيمهم طغرل بك (الأمير الصقر) أن يفرض نفسه في السنة 1055 على الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وأن يبطن الخلافة العباسية بالسلطة السلجوقية، ثم أن يستبدل الإمبراطورية العربية بإمبراطورية تركية، ثم أن يأخذ على عاتقه الصمود في وجه الروم والحرب ضدهم، وكان العرب قد كفوا عن هذه الحرب منذ زمن بعيد.
ولقيت طبيعة الأتراك المحاربة مجالا فسيحا للفتح، فسقطت أرمينية في يد الأتراك في السنة 1064، واكتسح ألب أرسلان (الأسد المظفر) الموقف في موقعة ملاذكرد في السنة 1071 وأسر الفسيلفس رومانوس وشتت جيشه.
وكان هذا الاندحار من أسوأ الكوارث؛ لأن البلقان كانت قد أصبحت صقلبية واليونان كانت قد خلت من السكان وافتقرت، ولأن آسية الصغرى وحدها كانت معقل الروح الهلينية؛ فمنها كان الفسيلفس يجمع جيوشه، وفيها كان يجد أكبر قواده وأنشط ضباطه.
واحتل الأتراك ما بين السنة 1078 والسنة 1081 مدنا داخلية كأيقونية، وثغورا متطرفة كأزمير وسبحوا خيولهم في مرمرا وارتقبوا الفرص للعبور إلى تراقية وأوروبة، وأسوأ ما كان في الأمر أن هذا الفتح الجديد لم يقتصر على السياسة والسلطة، بل تعداهما إلى استملاك الأرض فحل القروي التركي محل القروي اليوناني فأضاعت الهلينية قواعدها ومكانتها.
1
وتوفي ألب أرسلان بطعنة خنجر في السنة 1072 وخلفه ابنه ملكشاه، واستمر ازدهار الدولة الفتية بفضل الخوجه حسن نظام الملك، ثم خر نظام الملك صريعا في السنة 1091 على يد الحشاشين، ولحق به ملكشاه، فاضمحلت عظمة الدولة السلجوقية وتفككت أواصرها، ولكن سيل السلاجقة ظل يتدفق على آسية الصغرى، وظل خطرهم يحدق بدولة الروم ويهددها بالانهيار.
2
مجمع بياتشنزا (1095)
وكان إقليمس الثالث لا يزال يطالب بالسدة الرومانية، وكان الإمبراطور هنريكوس الرابع لا يزال يدعمه، فرأى البابا أوربانوس الثاني أن يجمع مجمعا للنظر في هذا الشقاق، فدعا الأساقفة إلى الاجتماع في بياتشنزا
في آذار السنة 1095 لمعالجة الانشقاق
contra schismaticos .
وكان أوربانوس لا يزال يولي الكنيسة الجامعة اهتمامه فيرعاها بعناية، وكانت اتصالاته بالقسطنطينية قد لطفت الجو وقربت القلوب، وكان أليكسيوس الفسيلفس يوالي اتصالاته بهذا الحبر الصالح، وينقل إليه مخاوفه من تفاقم الشر في آسية الصغرى وتزايد عدد الأتراك فيها وانتشارهم في سهولها ووديانها.
وبعد وفاة ملكشاه تنازع أولاده محمود وبركياروق ومحمد وسنجر السلطة، فعمت الفوضى العراق وسورية وفلسطين، وانطلق رعاع التركمان وأمثالهم يقتلون وينهبون، وكانوا يدخلون الكنائس في أثناء الصلوات ويضجون، وقد يجلسون على الموائد المقدسة ويهينون الكهنة ويرتكبون كل ما اقتضاه طبعهم! وقد يخربون بعض الكنائس وقد يحولون بعضها إلى مساجد،
3
وشاهد الحجاج الغربيون هذه الأعمال وخبروها بأنفسهم، واضطروا في بعض الأحيان أن يقاتلوا للوصول إلى القبر المقدس،
4
وكان ملكشاه قد أمر أخاه تتش أن يطرد الفاطميين من أوروشليم وسائر فلسطين ففعل، فثار أهلها على السلاجقة فكانت مذبحة قبة الصخرة (1076)، فعاد الفاطميون إلى النزاع، فأصبحت أوروشليم هدفا لنزاع مستمر بين الأتراك السلاجقة وبين الفاطميين، وأقطع تتش أوروشليم ليمينه أرتق بن أكساب، فلما توفي أرتق (1091) تنازع السلطة ابناه سقمان وغازي فحل ضيق شديد بالنصارى، فاضطر البطريرك سمعان الأوروشليمي أن يفر إلى قبرص مع كبار رجال الإكليروس،
5
وعاد الحجاج إلى بلدانهم وشكوا، وأصغى رهبان كلوني إلى هذه الشكاوي فرفعوها بدورهم إلى المقامات العالية إلى رومة نفسها.
ووافق اجتماع الأساقفة في بياتشنزا وصول لجنة عسكرية بيزنطية إلى إيطالية لتشويق المسيحيين وحضهم على الدخول في خدمة الفسيلفس للذود عن الكنيسة والصمود في وجه الأتراك السلاجقة، وعلم أوربانوس بقدومهم، فدعاهم إلى بياتشنزا ليخطبوا في الآباء المجتمعين ويبينوا لهم الخطر الذي يهدد الكنيسة في الشرق، ووصلت اللجنة إلى بياتشنزا وارتقى أعضاؤها منبر المجمع، فنقلوا إلى الأساقفة ما كان يعانيه النصارى من ضيق واضطهاد، وما كان يحدق بالنصرانية من خطر، فأعارهم الأساقفة آذانا صاغية ووعوا كلامهم فخشعت أبصارهم وخفقت قلوبهم خشية ورقة.
6
وكان القديس أوغوسطينوس قد أجاز الجهاد في سبيل الله،
7
فتبعه البابا لاوون الرابع (847-855) فأكد الثواب لمن يسقط مدافعا عن الكنيسة،
8
وجاء يوحنا الثامن (872-882) فاعتبر المجاهدين شهداء،
9
وأباح البابا نيقولاووس الأول (858-867) حمل السلاح في وجه الكفرة لكل من أخطأ ووقع تحت الحرم،
10
ولم يعبأ الآباء الغربيون باجتهاد باسيليوس الكبير وامتناعه عن مناولة المحاربين ثلاث سنوات متتالية،
11
فحضوا المؤمنين على حمل السلاح في وجه المسلمين، ومنح البابا ألكسندروس الثاني الغفران (1061-1073) لجميع المجاهدين في إسبانيا،
12
وشجع غريغوريوس السابع في السنة 1080 حملة غوي جوفروا على إسبانيا، وحذا حذوه أوربانوس الثاني فحض حجاج القبر المقدس على استبدال الحج بالعمل المثمر لتحرير إسبانيا من المسلمين وإعادة بنائها.
13
وهكذا فإنه عندما دعا الوفد البيزنطي الآباء إلى التعاون في سبيل الدفاع عن الكنيسة الجامعة في الشرق كانت فكرة الحرب المقدسة قد ظهرت إلى حيز الوجود في الغرب، وكانت الكنيسة الغربية قد باركتها ونشطتها، فوقع نداء الشرق في نفس أوربانوس الكبيرة موقعا جليلا، وأطرق يفكر فمرت مواقف أسلافه أمام عينيه مرور البرق، فصمم أن يقدم للمسيحية في الشرق أكثر بكثير مما طلب وفد أليكسيوس الفسيلفس.
14
مجمع كليرمون (1095)
كان من المقرر عقد مجمع في كليرمون
Clermont
الفرنسية للنظر في شئون كنيسة فرنسة وغير ذلك من الأمور الروحية، فقام أوربانوس الثاني إلى فرنسة بلاده الأم في آخر صيف السنة 1095، فاستقبله مواطنوه بمنتهى الحفاوة والإجلال، وزار جنوب فرنسة منظما مصلحا موبخا ومادحا، وأصغى إلى ما قاله رهبان كلوني عن شئون الحج والحجاج، ولعله اتصل بريمون كونت تولوز. ثم قام إلى كليرمون فوصلها في تشرين الثاني وعقد فيها مجمعا بين الثامن عشر والثامن والعشرين من هذا الشهر نفسه، فحرم الملك فيليب لعلة الزنى وقطع أسقف كامبري لعلة السيمونية وأعاد النظر في حدود أبرشية ليون. ثم خصص جلسة السابع والعشرين لبيان هام وأباح الحضور للجمهور، فأقبل المؤمنون زرافات زرافات، وأقيم للبابا منصة خارج الكاتدرائية، وكان أوربانوس جليلا وقورا وخطيبا مفوها، فذكر الأتراك السلاجقة وما ارتكبوه من الفظائع في الشرق، وأظهر قدسية أوروشليم وأوجب المحافظة عليها وتأمين وصول الحجاج إليها، وحض الأغنياء والفقراء على الجهاد في سبيل الله، وأكد الغفران للشهداء المجاهدين،
15
فلاق كلامه آذانا مصغية وقلوبا دامية فهتف الناس
Deus le volt ، ومعناه هذا ما يريده الله، وأعلن أوربانوس حماية الكنيسة لعائلات المجاهدين وأملاكهم، وأوجب حمل شارة الصليب بقماش أحمر على كتف المجاهد أو صدره، وجعل القسطنطينية ملتقى المجاهدين وحدد موعد الانطلاق من الغرب فجعله يوم عيد انتقال العذراء، الخامس عشر من آب سنة 1096.
16
وكان الأسقف أديمار
Adhemar
راعي أبرشية لوبوي
Lepuy
أول الصليبيين؛ فإنه ما كاد أوربانوس ينتهي من ندائه في كليرمون حتى تقدم الأسقف منه فجثى أمامه ونذر نفسه للخدمة المقدسة، وتبعه في ذلك مئات المؤمنين، ثم تلا الجميع صلاة الاعتراف.
17
وأراد أوربانوس العظيم أن يجعل الحملة كنسية، فعين أديمار قائدا أعلى وزعيما أوحد وخوله البت في جميع الاختلافات التي قد تنشأ بين الصليبيين، وكان أديمار شريفا من أشراف فرنسة يجيد الخطابة ويحسن السياسة، هادئا لطيفا، واسع الأفق بعيد النظر،
18
وكان قد حج قبل عشر سنوات فأضاف إلى مؤهلاته العامة خبرة في أمور الشرق ومعرفة لسكانه، وأعلن أوربانوس في كليرمون أيضا موقفه من كنائس الشرق، فأوجب إعادة جميع أوقافها إليها واحترام جميع حقوقها،
19
ويرى بعض رجال الاختصاص أن البابا اعتبر منذ اللحظة الأولى جميع ما قد يتم من فتوحات في الأراضي المقدسة فتحا باباويا.
20
جيوش خمسة
وجاب بطرس الناسك الفرنسي البلاد، وخطب في الناس وحضهم على الحرب المقدسة، وكان حاد الذكاء قوي الإرادة طلق اللسان ضئيل الجسم طويل اللحية براق العينين، وكان يرتدي الصوف الخشن ويركب حمارا حقيرا كاشف الرأس حافي القدمين، فقوبل بحماس شديد، والتف حوله ألوف من المحاربين،
21
وجاء موسم السنة 1096 جيدا، فتفاءل الناس خيرا واعتبروه رضا ربانيا، وتساقطت النيازك بكثرة فاعتبرها أسقف ليزيو
Leiseux
إشارة سماوية تنبئ بزحف الجماهير على الأراضي المقدسة.
22
وكان كبار الملوك آنئذ على خلاف مع البابا فلم يشترك أحد منهم في الحملة الصليبية الأولى، وشاء فيليب ملك فرنسة ألا يحرم من شرف الانتماء إلى هذا العمل المقدس، فأوعز إلى أخيه أمير فرمندوا
Hugues de Vermandois
أن يحمل شارة الصليب، ففعل، وتألف جيش من أهل اللورين ورينانية وشمال فرنسة بقيادة غودفروا ده بويون
Godefroy de Bouillon
وأخويه أوستاش الثالث كونت بولونية
Eustace de Bologne ، وبودوان (بردويل)
Baudouin ، وتزعم روبير أمير الفلمنك
Robert de Flandre
وروبير دوق نورمندية واسطفانوس كونت بلوا؛ جيشا آخر، وقاد ريمون الرابع كونت تولوز وسان جيل
Toulouse et Saint-Gilles
جيشا رابعا، والتف حول بوهيموند بن غيسكار النورمندي فرسان نورمنديون وإيطاليون، وعاون بوهيموند ابن عمته تنكريد.
23
موقف الروم
وقضت المحبة الجامعة التي كانت تتقد في فؤاد أوربانوس بجمع الشمل في القسطنطينية والانطلاق منها لتحرير الكنائس الشرقية، وتأمين الحج والمحافظة على حرمة القبر المقدس وسائر الآثار والعشائر النصرانية.
وفي تموز السنة 1096 وصلت إلى البلقان طلائع بطرس الناسك ناهبة مقتلة مخربة، ثم تكاثرت الجموع فتقدموا نحو القسطنطينية، فرحب بهم الفسيلفس أليكسيوس وأكرمهم، واستقبل بطرس الناسك وأوضح له وجوب الانضباط واحترام حقوق السكان، وكانت جموع بطرس قد أقامت خارج أسوار المدينة فعاثوا في الضواحي فسادا وخرقوا حرمة الكنائس، فرأى أليكسيوس أن يجابههم بجيرانه الأتراك عبر البوسفور لعلهم يفقهون، وما أن حطت رحالهم في آسية حتى هاجموا الأتراك فبدد هؤلاء شملهم، فارعووا وكفوا عن القبيح ورضوا أن يعودوا إلى ضواحي القسطنطينية عزلا.
وقذف البحر إلى شاطئ أبيروس في صيف هذه السنة نفسها أخا ملك فرنسة هوغ ده فرمندوا، فوقع في أيدي الروم ونقل إلى القسطنطينية، فأحاطه أليكسيوس بشيء كثير من الإكرام والاحترام، ورأى فيه خير وسيط بينه وبين زعماء الصليبيين، وزاد في إكرامه فتعلق الأمير الإفرنسي بالفسيلفس وبايعه على الطاعة والولاء.
ثم جاء في كانون الأول غودفروا ده بويون ، وكان أليكسيوس قد سمع بشجاعته وثرائه فأكرمه، ولكن غودفروا امتنع عن مبايعة الفسيلفس، فتوترت العلاقات بين الاثنين، ثم قلت المئونة لدى جموع غودفروا خارج أسوار العاصمة فلجئوا إلى العنف وأرادوا اقتحام أحد مداخل القسطنطينية، فصدهم الروم بالقوة وتغلبوا عليهم فأخلدوا إلى السكينة، ودعا أليكسيوس الزعيم الصليبي الممتنع إلى مأدبة أقيمت في القصر على شرفه، فبايع غودفروا الفسيلفس على الطاعة والولاء ومضى في نيسان السنة 1097 بجموعه إلى آسية.
وأطل بوهيموند النورمندي الإيطالي في ربيع السنة 1097 فأعلن فور وصوله استعداده لمبايعة الفسيلفس، وأكد رغبته في التعاون مع الروم إلى أقصى الحدود. وكان بوهيموند قد حارب أليكسيوس في ألبانية وفي اليونان فاعتور علاقاته مع الروم في بادئ الأمر شيء من الحذر والبرودة، ولكن شخصيته الجذابة ومواهبه الكبيرة ونجاحه في التظاهر بالصدق والإخلاص؛ عاونت على إزالة هذا الحذر وذلك الفتور. وزال الشك وتفاهم الكبيران، فاغتبط بوهيموند وطلب أن يدخل في خدمة الفسيلفس ويتولى قيادة جيوشه، فأجابه أليكسيوس أن كل آت قريب، وأنه بانتظار ذلك سيقطعه أراضي فسيحة في منطقة أنطاكية.
24
وجاء روبير ده فلاندر فدخل في طاعة الفسيلفس، أما ريمون دوسان جيل فإنه وصل مستاء مكدرا غير مستعد للدخول في طاعة الروم، فأقنعه بوهيموند، ففعل، وأصبح من أخلص أصدقاء أليكسيوس وأشدهم وفاء له، وأعجب أليكسيوس بحكمة هذا القومس واتزانه وصدقه واستقامته، أما تنكريد الصقلي فإنه لم يرض أن يمر بالقسطنطينية أو أن يقسم يمين الولاء لسيدها، وأعلن أن هذا القسم لا يفرض عليه إلا نحو سيده بوهيموند.
25
وتمكن أليكسيوس - بصبره ودهائه ولطفه وكرمه - من التوصل إلى تفاهم تام مع زعماء الصليبيين، ويرى بعض رجال الاختصاص أن الطرفين وقعا معاهدة في منتصف أيار سنة 1097 قضت بأن يرفع الفسيلفس علم الصليب، وأن يضع تحت تصرف الزعماء الصليبيين فرقة محاربة، وأن يحمي طريقهم في أثناء مرورهم مقابل دخول هؤلاء في طاعته وإعادة جميع الأراضي البيزنطية إليه التي وقعت بين نيقية وأنطاكية.
26
وقام الصليبيون من القسطنطينية وحاصروا نيقية، فسقطت في يدهم فأعادوها إلى أليكسيوس الفسيلفس، ثم اتجهوا جنوبا مذللين الصعاب في قلب دولة السلاجقة، متعاونين في ذلك مع فرقة بيزنطية بقيادة تتيكيوس
Tatikios ، وجهز أليكسيوس حملة برية بحرية بقيادة يوحنا دوقاس، فاستولى على أفسس وساردس وأزمير وأضالية، وقام الفسيلفس بنفسه فأخضع جميع بيثينية، وغلب قلج أرسلان وتقوض ملكه واستعاد أليكسيوس قلب آسية الصغرى وشواطئها الغربية،
27
ونفذ كل من الطرفين ما نص عليه الاتفاق وساد الحب والوئام، وقام أليكسيوس على رأس جيش قوي ليلتحق بالصليبيين، ولكن بودوان استأثر بالرها وجهاتها ولم يعدها إلى الفسيلفس.
أنطاكية
وبينما كان بودوان يوطد فتحه في الرها وما جاورها كانت الحملة الرئيسة تتجه نحو أنطاكية أمنع مدن سورية الشمالية وأعرقها شرفا بالنصرانية، وكان سليمان بن قطلمش قد استولى عليها خلسة في أوائل السنة 1085، فلما انتحر في السنة 1086 استولى عليها ملكشاه وأقطعها أحد أمرائه ياغي سيان، وتهافت المسلمون إلى سكناها، ولكنهم ظلوا أقلية ضئيلة بالنسبة إلى اليونان والأرمن والعرب المسيحيين،
28
ولما شاعت أخبار الصليبيين وتواردت أنباء انتصاراتهم في آسية الصغرى؛ تحصن ياغي سيان، واذخر كثيرا من المئونة والسلاح، ودخل المدينة كثيرون من القرى المجاورة.
وانطلق الصليبيون من مرعش في السادس عشر من تشرين الأول سنة 1097 فاستولوا على عزاز ومعراتا وأرتاح، وفي العشرين من الشهر نفسه وصلوا إلى جسر الجديد فوجدوه محصنا مشحونا بالرجال فاستولوا على برجيه عنوة بقيادة الأسقف أديمار نفسه، وغنموا «خيلا وجمالا وبغالا وحميرا محملة حنطة»،
29
وكانت قد أرسلت من حلب لتموين ياغي سيان في أنطاكية.
وفي الحادي والعشرين من تشرين الأول دنا الصليبيون من أنطاكية ونصبوا خيامهم أمام الأسوار، وتشاور الأمراء والقادة فأوجبوا المحاصرة؛ نظرا لمناعة الأسوار وتعدد الأبراج ونقص العتاد، فتفرق القواد بجيوشهم حول الأسوار ولا سيما المداخل وأخذوا بالأهبة للقتال، أما ياغي فإنه لم يبد حركة ولم يظهر من رجاله ولا مقاتل فوق الأسوار، وخشي أن يخونه النصارى وكانوا قد عاونوا الصليبيين في معرتا وأرتاح وغيرهما، «فأخرج المسلمين من أهل أنطاكية ليس معهم غيرهم وأمرهم بحفر الخندق، ثم أخرج من الغد النصارى ليس معهم مسلم فعملوا في الخندق إلى العصر، فلما أرادوا دخول البلد منعهم وقال لهم: أنطاكية لكم تهبوها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج، فقالوا له: من يحفظ أبناءنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم، فأمسكوا وأقاموا في عسكر الفرنج.»
30
وجاء في بعض المراجع الغربية أن الأرمن والسوريين تظاهروا بالفرار من وجه ياغي وأبقوا نساءهم وأولادهم في المدينة ثم واصلوا ياغي بأخبار المحاصرين،
31
وكان ياغي قد أمر بالبطريرك الأنطاكي يوحنا السابع فسجنه سجنا، وكان قد حول كتدرائيته إلى إسطبل لخيله، فلما بدأ الحصار أمر ياغي بوضع البطريرك الجليل في قفص من حديد، وبعرضه على المحاصرين من الأسوار،
32
وحل الشتاء وقلت المئونة واشتد الحال جدا ففترت همة بعض الصليبيين وأدبروا، ومن غريب الأمور أن بطرس الناسك نفسه ولى مدبرا، فأدركه تنكريد الصقلي فعاد فأقسم بدوام مرافقة الذين قادهم للحرب،
33
ونهض بوهيموند وروبير على رأس عشرين ألف مقاتل للتفتيش عن القوت الضروري في قرى وادي العاصي، فاتجها جنوبا، ولدى وصولهما إلى حماة التقيا بتقاق وطغتكين وشمس بن ياغي آتين لنجدة أنطاكية، فكانت موقعة عند قرية البارة أسفرت عن هزيمة المدد الإسلامي،
34
وعلم ياغي بخروج بوهيموند وروبير ورجالهما فانقض على ريمون عند الجسر، ولكنه عاد منكسرا مذعورا.
35
وغنم بوهيموند وروبير برءوس أعدائهما، ولكنهما عادا فارغي اليدين دون الزاد المطلوب، واشتد الجوع في صفوف الصليبيين وفتك بهم، وقدم رهبان الأمانوس والنصارى في القرى المجاورة جميع ما لديهم، ولكنه لم يكف، فكتب أديمار الأسقف إلى بطريرك أوروشليم - وكان لا يزال في قبرص - فأمده بالقوت والخمر، ولكن الجزيرة لم تتمكن من إشباع ألوف المحاربين. وتعاون الأسقف اللاتيني أديمار ممثل البابا في الشرق والبطريرك الأوروشليمي سمعان تعاونا وثيقا فحررا رسالتين إلى الغرب يحضان فيهما المؤمنين على القيام بالواجب، وتكلم سمعان في إحداهما بصفته زعيم أساقفة الشرق اليونانيين واللاتينيين، وهدد كل من يتوانى عن تنفيذ النذر الصليبي بالحرم.
36
وبينما كان أديمار يؤلف القلوب ويجمع الكلمة باسم سيده الكبير أوربانوس كان بوهيموند يبث نمائمه ويزرع الأحقاد بين الروم واللاتين، ففي شباط السنة 1098 اتصل بتتيكيوس ممثل أليكسيوس في معسكر الصليبيين، ونم على رفاقه في السلاح وادعى أنهم يضمرون السوء لتتيكيوس؛ لأنهم يعتقدون أن أليكسيوس يشجع الأتراك على محاربتهم، ونصح بوهيموند إلى تتيكيوس أن ينجو بحياته، فقبل تتيكيوس النصيحة ونزل إلى مرفأ السويدية وأبحر إلى قبرص، وما إن توارى تتيكيوس عن الأنظار حتى دبت عقارب بوهيموند مرة ثانية، فقال رجاله وعماله: إن تتيكيوس فر خائنا، وكان بوهيموند يطمع في إمارة أنطاكية، فرأى من المصلحة أن يتجنى على أليكسيوس ويتقول على ممثله ليفجر في يمين الطاعة والولاء ويتحرر من العقد الذي قضى بإعادة أنطاكية إلى سيدها الشرعي أليكسيوس،
37
ثم عاد فلجأ إلى المراوغة والمداورة، فادعى أمام رفاقه في السلاح أن ابتعاده عن ممتلكاته في إيطالية سيفلتها من يده، وأن مصلحته تقضي بالعودة إلى إيطالية، فإذا كان لا بد من بقائه في صفوف المحاربين المجاهدين فعلى هؤلاء أن يعوضوه أنطاكية، فتشاغل أقرانه عن سماعه، ولكن الجنود مالوا ليه بالسمع ورأوا في ذلك رأيه.
38
واستجار ياغي جاره رضوان صاحب حلب من الصليبيين واعترف بسلطته، فأغاثه رضوان وجاءه على رأس قوة كبيرة يعاونه فيها صاحب ديار بكر وأمير حماة، وقطع الفرسان الصليبيون العاصي وكمنوا للخصم عند جسر الجديد، وفي التاسع من شباط سنة 1098 ناوش الصليبيون المسلمين عند الجسر ثم استدرجوهم إلى ميدان ضيق بين العاصي وبحيرة أنطاكية، فانقضوا عليهم وشتتوا شملهم، وكان ياغي قد خرج إلى القتال في الوقت نفسه وكاد ينتصر، فلما أبصر الفرسان عائدين منتصرين تراجع فدخل المدينة مدبرا.
39
وفي الرابع من آذار وصل أسطول إنكليزي حاملا حجاجا إيطاليين وعتادا روميا من القسطنطينية، فأنشأ الصليبيون أبراجا عند مداخل أنطاكية وضيقوا الحصار، وكان أليكسيوس قد أوصى الزعماء الصليبيين بوجوب التفاهم مع الفاطميين أعداء الأتراك، فلما بدأت أسهم الصليبيين ترتفع بعث المستعلي بالله العلوي وفدا من مصر يعرض الصلح والمسالمة، وأنه يرجع إليهم الكنائس ويحامي عنهم ويفتح أبواب أوروشليم للزوار، على أن يدخلوها بلا سلاح، وألا يقيم الواحد فيها أكثر من شهر، فرحب الصليبيون بالوفد العلوي وقدموا الهدايا، ولكنهم لي يبتوا في شيء .
40
وطال أمد الحصار وترامى للصليبيين أن كربوغا صاحب الموصل جيش جيوشا ونهض بها لإغاثة ياغي سيان، فاندفع بوهيموند يعجل الاستيلاء على أنطاكية تعجيلا، ففاوض فيروز الزراد أحد أمراء الأبراج في أنطاكية وبذل له مالا وإقطاعا، وكان فيروز أرمنيا فأسلم وتقرب من ياغي فأصبح أميرا على ثلاثة من الأبراج الكبيرة، وكان على جانب عظيم من التقلب وحب الرفعة والمال، فعقد مع بوهيموند شروط التسليم بالخيانة. ثم تواترت الأخبار بقدوم صاحب الموصل بألوف من الرجال لنجدة المدينة، فخاف الصليبيون فخطب بوهيموند بوجوب الخيانة لامتلاك المدينة، فأذعن الرفاق فاجتمع بوهيموند بفيروز واتفقا على وقت وظرف. وفي اليوم الثاني جمع الإفرنج خيامهم وأغراضهم وانسحبوا عن ساحتهم وأعلنوا السير نحو أوروشليم، وما زالوا سائرين نحو أوروشليم حتى تواروا عن العيون.
ثم انعطفوا راجعين في الليل، وقبيل الفجر أنفذ قوة صغيرة إلى برج الأختين الذي كان يحرسه فيروز، وصعدوا على السلالم إلى هذا البرج وانطلقوا منه إلى غيره، وقتلوا الحراس وهيجوا النصارى وكسروا الأبواب، وامتلكوا المدينة في الثالث من حزيران سنة 1098 وفتكوا بالأهلين فتكا ذريعا، وفر ياغي سيان فقتله الأرمن وجاءوا برأسه إلى أنطاكية، أما القلعة فإنها بقيت بيد شمس الدولة بن ياغي.
41
وفي السابع من حزيران وصل كربوغا صاحب الموصل بجنود كثيرة من الترك والعرب، فاضطرب الإفرنج وأخذ الضيق منهم كل مأخذ، ولم يعد عندهم زاد كاف، ولم يكن لهم يد لاستجلاب المدد؛ لأن القرى المجاورة كانت قد أمست مدمرة أو مهجورة، واتصل شمس الدولة بكربوغا ورجاه الاحتفاظ بقيادة القلعة إلى أن يتم النصر فأبى كربوغا وأرسل أحمد بن مروان فاحتلها باسمه.
وفي العاشر من حزيران طوق كربوغا أنطاكية، وشدد الحصار، وتضايق الصليبيون ونفد قوتهم وخارت قواهم وضعفت، وفر بعضهم طلبا للنجاة، وفي العاشر من هذا الشهر نفسه أيضا دخل فلاح إفرنسي اسمه بطرس برتلماوس إلى خيمة بوهيموند وطلب مقابلة الأسقف أديمار ممثل البابا وزعيم الحملة الأكبر، وأذن له بذلك فقال: إن القديس أندراوس ظهر له ثلاث مرات وبين له المكان الذي دفنت فيه الحربة التي طعن بها السيد وقت الصلب، فلم يكترث الأسقف لسببين؛ أولهما أن بطرس هذا لم يكن من ذوي السيرة الحسنة، والثاني أن الأسقف نفسه كان قد شاهد الحربة في القصر المقدس في القسطنطينية في أثناء وجوده فيها.
وبعد هذا بقليل دخل قس اسمه اسطفانوس على الأمراء القادة، وقال: إن السيد والعذراء ظهرا له في أثناء الليل في كنيسة السيدة، وإن السيد - له المجد - أمره أن يقول للأسقف أديمار: إن جموع المحاربين المجاهدين وقعوا في الخطيئة، وإنهم إن تابوا أرسل لهم في ظرف خمسة أيام المعونة الكافية لحمايتهم، فاتعظ أديمار وطلب إلى الأمراء أن يقسموا بأنهم لن يتخلوا عن أنطاكية إلا بإجماع الرأي ففعلوا.
وفي الرابع عشر من حزيران شاهد الصليبيون نيزكا يتساقط على معسكر الأتراك، فهبوا في الغد يفتشون عن الحربة في كنيسة القديس بطرس ومعهم الفلاح بطرس برتلماوس، «وحفروا عليها في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر الفلاح، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فقويت عزيمتهم، وخرجوا في اليوم التالي من باب المدينة متفرقين من خمسة وستة، فقال المسلمون لكربوغا: ينبغي أن تقف على الباب فتقتل كل من خرج، فقال: لا تفعلوا لكن أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم، فلما تكاملوا ضربوا مصافا عظيما فولى المسلمون منهزمين.»
42
وغنم الصليبيون غنائم لا تحصى وجمعوا مالا غزيرا وعادوا إلى أنطاكية بثروة عظيمة، وكان ذلك في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من حزيران سنة 1098.
وشاهد أحمد بن مروان هذا النصر من أبراج القلعة فأرسل من يعلن استعداده للتسليم، ودخل رسوله خيمة ريموند، فأرسل هذا الأمير من يرفع أعلامه على القلعة، فلما علم أحمد أن الأعلام ليست أعلام بوهيموند امتنع عن رفعها، ولم يفتح الأبواب قبل وصول بوهيموند نفسه، ودخل بوهيموند القلعة واستولى عليها وأذن بخروج الحامية سالمة، فدخل بعض زعمائها في النصرانية وعلى رأسهم أحمد بن مروان،
43
وتوفي الأسقف أديمار ودفن في كنيسة القديس بطرس، فخلا الجو لبوهيموند، فحنث في يمين الطاعة والولاء للفسيلفس، ولم يبر في ما وعد، فنشأت مشادة بينه وبين الروم كان لها أسوأ الأثر في علاقة كنيسة أنطاكية بكنيسة رومة.
44
القبر المقدس
وفي أواخر تشرين الثاني سنة 1098 قام الصليبيون من أنطاكية وما جاورها، وساروا إلى كفر طاب، فراسلهم منقذ صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وسهل عبورهم بين شيزر وحماة ووصولهم إلى مصياف، وسالمهم صاحب مصياف فتقدموا إلى رفنية وانحدروا منها إلى البقيعة.
وفي الثامن والعشرين من كانون الثاني سنة 1099 هجموا على حصن الأكراد واستولوا عليه، فراسلهم صاحب حماة، ورجاهم صاحب طرابلس جلال الملك أبو الحسن بن عمار أن يرسلوا وفدا للمفاوضة، وأكد استعداده لرفع علم ريمون التولوزي، ففعلوا وعاد أعضاء الوفد المفاوض وأشادوا بثروة أبي الحسن ووفرة الغلال في إمارته وأشاروا بالحرب طمعا، فقام الجمع إلى عرقة في السادس عشر من شباط وضربوا الحصار عليها، وقام بعضهم إلى طرطوس ففر صاحبها فدخلوها بدون قتال، وراسلهم صاحب المرقب وبانياس ودخل في طاعتهم.
وطال أمد حصار عرقة وألح جمهور المحاربين على رفع الحصار والتقدم نحو أوروشليم، وتلقى ريموند رسالة من ألكسيوس الفسيلفس؛ يفيد فيها أنه سيلحق بهم في الصيف على رأس جيش قوي، وأن المصلحة تقضي بانتظاره قبل الهجوم على فلسطين، ولكن معظم الأمراء وأغلبية المحاربين آثروا التقدم وعدم الانتظار. وصالحهم أبو الحسن بن عمار على مبلغ كبير من المال، وقدم لهم الدواب لحمل الأثقال والعلف للجيش كله، ووعد بتقبل النصرانية لدى انتصارهم على الفاطميين، ثم سهل خروجهم من طرابلس وبعث أمامهم من أوصلهم إلى نهر الكلب، الحد الفاصل بين إمارته وبين دولة الفاطميين.
وواصلوا السير فبلغوا بيروت في العشرين من أيار، وكان يأمر فيها أحد الأمراء التنوخيين، فطلب إلى زعماء الصليبيين أن يكفوا عن أذى المدينة وأهلها ولا يعبثوا بغلات بساتينها، فرضوا بذلك شرط أن يقدم للجنود حاجتهم من القوت والذخيرة، ففعل، ثم سار الإفرنج إلى صيدا، فنازلهم صاحبها فقاتلوا وخربوا، وتابعوا السير إلى صور ومنها إلى عكة، فبلغوها في الرابع والعشرين من أيار، وما فتئوا يتقدمون في ساحل البحر حتى أرسوف، ثم تحولوا نحو الرملة فوجدوها خاوية خالية فأخذوا يتسلقوا التلال حتى البيت المقدس في اليوم السابع من حزيران.
وكانت أوروشليم قد أصبحت بيد الفاطميين منذ أمد وجيز، وكان يمثلهم فيها الفضل بن بدر الجمالي، وكانت حاميتها عربية سودانية ، فحاصرها الإفرنج نيفا وأربعين يوما، ونصبوا عليها برجين، ثم اقتحموها من الجانب الشمالي واستباحوها أسبوعا كاملا، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود فاعتصموا به، فبذل لهم الإفرنج الأمان فسلموه إليهم وخرجوا إلى عسقلان آمنين، وقتل الإفرنج بالمسجد الأقصى عددا كبيرا، منهم جماعة من أئمة المسلمين وعلمائهم وزهادهم، ووافق دخول الصليبيين أوروشليم في منتصف تموز من السنة 1099.
45
الصليبيون وكنيسة أنطاكية
وأحب أوربانوس المسيح فأحب الكنيسة، وأرادها واحدة؛ لأن المسيح واحد، ولان لأخيه بيسوع بطريرك القسطنطينية نيقولاووس الثالث وخطب وده، ثم هاله تقدم الأتراك السلاجقة في الشرق وراعه ضعف الروم، فخف لنجدة النصرانية، وأعلن الجهاد المقدس، وحض المؤمنين على القتال، وأوجب - بقرار مجمعي - احترام حقوق الكنائس الشرقية وإعادة أوقافها إليها،
46
وانتقى أسقفا صالحا تقيا واسع الصدر لين العريكة بعيد النظر أديمار ليمثله في الحملة ويسهر على تنفيذ الخطة المرسومة.
وكان البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع تقيا صالحا جليلا وقورا، وكان قد أبصر النور في جزيرة أوكسية وقدم النذر في القسطنطينية، فلما رقي العرش الأنطاكي خف للعمل المثمر فسعى لإصلاح الرهبان والرهبانيات، وراسل توما الكفرطابي أسقف الموارنة على كفرطاب وكورة حلب وجادله في المشيئة الواحدة محاولا صرفه عن القول بها،
47
ومن آثاره رسالة في الحياة الرهبانية احتج بها على تدخل السلطات في شئون الرهبان وتلزيم الأديار للعلمانيين،
48
وله أيضا رسالة في التقديس على الفطير، اتخذ فيها موقف المدافع عن التقليد الأرثوذكسي.
49
ولدى استيلاء الصليبيين على أنطاكية أسرع زعماؤهم إلى الإفراج عن هذا الأب الجليل وإعادته إلى سابق حريته وكرامته، ثم أمروا بتنظيف كاتدرائية أنطاكية وكنيسة السيدة فيها مما لحق بهما من الأقذار في عهد الأتراك السلاجقة، ثم ترأس يوحنا السابع حفلة التطهير والتكريس، وعاونه في الخدمة عدد من الكهنة والأساقفة اللاتينيين، وأعجب الصليبيون بهذا الرجل البار فأشاروا إليه في كتاباتهم بالعبارة
Virum Christianissimum ،
50
ومعناه المسيحي المسيحي، واعتبر أديمار ممثل البابا في الشرق البطريرك الأوروشليمي سمعان بطريركا رسوليا، وحينما سمح الظرف برفع تقرير عن سير الأعمال في الشرق وضع أديمار هذا التقرير باسم سمعان بطريرك أوروشليم وباسمه ،
51
ثم قضت الظروف بطلب النجدة من الغرب فكتب أديمار باسم سمعان الأوروشليمي أيضا، وظهر سمعان في هذه الرسالة بطريركا رسوليا وتكلم باسم جميع الأساقفة في الشرق لاتينيين ويونانيين، وهدد بالحرم كل من حنث بالنذر الصليبي.
52
وتوفي أديمار الصديق في اليوم الأول من آب سنة 1098، فخسرت الكنيسة الجامعة بوفاته أبا بارا صالحا محبا حكيما، ولم توفق الكنيسة اللاتينية إلى خلف مصاف مسالم يتابع العمل الصالح الذي سعى إليه أوربانوس وأديمار.
وفي الحادي عشر من أيلول من السنة نفسها حرر الأمراء الصليبيون المجتمعون في أنطاكية رسالة إلى البابا أوربانوس الثاني، وذكروا خبر وفاة أديمار ورجوا الأب الأقدس أن يجيء إلى أنطاكية ليرعى أبرشية بطرس الأولى. والغريب في هذه الرسالة أن الأمراء تناسوا وجود يوحنا السابع بطريرك أنطاكية الشرعي، ولم يذكروه لمناسبة هذا الطلب، ولكنهم أشاروا إلى الصعوبات التي لاقوها على يد النصارى الهراطقة يونانيين وأرمن وسوريين ويعاقبة، واليونانيون الهراتقة في هذه الرسالة هم جماعات من اليونانيين البولسيين الذين كانوا لا يزالون يمارسون نصرانيتهم على طريقتهم الخصوصية في جوار أنطاكية.
53
وفي الشهر التالي؛ أي في تشرين الأول سنة 1098 انطلق ريموند أمير تولوز من ريحا على رأس رجاله في طلب المئونة والعلف، فاستولى على البارة عنة وقتل وسبى، ورأى أن يجعلها مدينة مسيحية فحض المسيحيين على سكناها وحول مسجدها إلى كنيسة، وأقام عليها أسقفا بطرس النربوني، وكان لا بد من سيامة بطرس سيامة مسيحية، فطلب ريموند إلى البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع أن يرأس حفلة السيامة، ففعل هذا البطريرك الأرثوذكسي اليوناني وسام أسقفا لاتينيا ليخدم على الطريقة اللاتينية.
54
وكان بوهيموند منهوما بالسلطة مسهبا بطبيعته، فاشتد حرصه على إمارة أنطاكية واستمات واستهلك إليها، فلجأ إلى بطرس برثلماوس، فزعم هذا أن أندراوس ظهر له وقال إن أديمار قضى وقتا في الجحيم، وإنه لم يفلت لولا صلوات زملائه وصلاة بوهيموند من أجله، وزعم بطرس أيضا أن أندراوس أمره أن يقول إلى ريموند بأن أنطاكية لبوهيموند ما دام تقيا صالحا، وأنه لا بد من مقاطعة الروم والكنائس الأرثوذكسية المحلية وانتخاب بطريرك لاتيني على كنيسة أنطاكية.
55
ثم كاشف بوهيموند الروم بالعداوة، فحاول - في حزيران السنة 1099 - أن يخرجهم من اللاذقية، وتوفي أوربانوس الثاني في التاسع والعشرين من تموز التالي، فتمادى بوهيموند في ضلاله وبسط عنانه في الجهل، فهجم في السنة 1100 على مرعش وكانت هذه قد أعيدت إلى الروم بموجب شروط المعاهدة بينهم وبين الصليبيين، واستولى تنكريد نسيب بوهيموند على طرسوس وأدنة، ووقع بوهيموند أسيرا في يد الأتراك في تموز السنة 1100 فتجنى على البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع، ورماه بالتواطؤ مع الأتراك وأكرهه على الخروج من أنطاكية، ثم جعل من برناردوس والنسية أسقف أرتاح بطريركا لاتينيا على أنطاكية، ولا صحة في القول بأن يوحنا السابع استقال فشغر كرسيه فنصب برناردوس،
56
ولا في القول بأن استعفاء يوحنا تم في أثناء الأسر الذي وقع فيه بوهيموند،
57
فيوحنا السابع لم يستقل قبل وصوله إلى القسطنطينية، واستقالته هذه ارتبطت منذ لحظتها الأولى بانتخاب خلف أرثوذكسي له، يوحنا الثامن، وذلك بالطريقة القانونية المرعية الإجراء آنئذ.
58
الصليبيون وكنيسة أوروشليم
وكان سمعان الثاني بطريرك المدينة المقدسة الشرعي قد فر منها؛ لأن الأتراك السلاجقة كانوا قد جحدوا الذمام لأهل العهد من النصارى، وغدروا وختروا وانتهكوا حرمة الكنائس، وكان هذا البطريرك العالم الصالح وقد رحب بالصليبيين وقدم لهم الزاد والمئونة في إبان محنتهم أمام أسوار أنطاكية، وكان أيضا قد اشترك مع أديمار الصالح في كل ما يئول للخير، فكان له مع الصليبيين أخوة وأسباب ترعى، ولكنه توفي قبيل استيلاء الصليبيين على أوروشليم (1099)، ولا عبرة لما جاء في تاريخ ميخائيل السرياني من أن سمعان شهد الاستيلاء على أوروشليم، وأنه اشترك بنفسه في أعمال القتل، فشهادته هذه ينقصها الشيء الكثير من العدالة والضبط،
59
وكانت المدينة قد خلت من الأساقفة لفرار هؤلاء مع بطريركهم إلى قبرص، فأقام بعض الأمراء الصليبيين والكهنة اللاتينيون أرنولفوس روهيز بطريركا على أوروشليم، وكان أرنولفوس واعظا وأديبا، ولكنه لم يكن زاهدا تقيا، ولم يحظ بأصغر درجات الكهنوت، فاعترض ريمون أمير تولوز وعدد من الكهنة الإفرنسيين الجنوبيين على ارتقائه السدة البطريركية، وامتنعوا عن التعاون معه.
60
وماشى البطريرك الجديد بوهيموند في السياسة الكنسية، فأبعد الكهنة الأرثوذكسيين والأرمن واليعاقبة والأقباط عن كنيسة القبر المقدس، وعين عشرين كاهنا لاتينيا للخدمة في هذه الكنيسة، ثم قبض على الكهنة الأرثوذكسيين مطالبا بعود الصليب وأمر بتعذيبهم فقبلوا مكرهين وقدموا الأثر المقدس له،
61
فأثار هذا البطريرك اللاتيني باستبداده واستفزازه غضب الشعب الأرثوذكسي وكهنته، وشاع خبر تعصبه وتصلفه واضطربت به الألسنة فوصل إلى القسطنطينية، وزاد في النفور والتباعد.
62
المملكة اللاتينية والإمارات الصليبية
وفي ربيع السنة 1100 تجددت الأعمال الحربية، فاستولى الصليبيون على ساحل فلسطين من عسقلان حتى عكة، وقضت الضرورة العسكرية بتأمين الاتصال بين الصليبيين في فلسطين وبين إخوانهم في أنطاكية والرها، وكان ريموند أمير تولوز طامعا في إمارة له فانطلق من اللاذقية في مطلع السنة 1102 واحتل طرطوس، ثم تقدم منها نحو طرابلس على رأس ثلاثمائة فارس. وكان فخر الملك محمد بن عمار قد طلب معونة الأمير ياخز خليفة جناح الدولة على حمص ومعونة تقاق أو دقاق بن تتش أمير دمشق فأعاناه، واجتمع هؤلاء في السهل عند مدخل طرابلس، فجرت معركة حامية تغلب فيها ريموند، فوقع الصلح على مال حمله أهل طرابلس إليه.
وفي السنة 1103 عاد ريموند إلى القتال وقد وصله مدد من البحر، فحاصر طرابلس برا وبحرا فلم يجد فيها مطمعا، فعاد عنها إلى جبيل وتسلمها بالأمان، واستولى ريموند على جبلة، وتقدم في السنة 1105 نحو طرابلس، وأقام على حصارها، وبنى حصنا يطل عليها (حصن صنجيل)، وبنى تحته ربضا فخرج ابن عمار وأحرق الربض، ووقف ريموند على بعض سقوفه فانخسف به فمرض ومات وحمل إلى المدينة المقدسة ودفن فيها.
وانتخب الضباط غيليوم يوردانوس قائدا وتابعوا الحصار، وقلت الأقوات في طرابلس فتوجه فخر الملك إلى بغداد مستنفرا، واجتمع بالسلطان محمد وبالخليفة المستظهر فلم يحصل منها على غرض، فعاد إلى دمشق وأقام عند طغتكين وأقطعه الزبداني، وأما أهل طرابلس فإنهم دخلوا في طاعة خليفة مصر راجين الفرج.
وفي السنة 1108 أطل برتران ابن ريموند غير الشرعي على رأس أربعة آلاف فارس قادما من جنوب فرنسة، فامتنع يوردانوس عن التنازل له عن القيادة، ولا سيما وأنه كان قد انتصر منذ برهة على جموع دمشق وحمص عند عرقة، وأن عرقة كانت قد سقطت بيده، فاجتمع كبار الصليبيين من أنطاكية وأوروشليم وغيرهما في قلعة صنجيل الصليبية التي تطل على طرابلس للتوفيق بين الأميرين المتنافرين، وترأس الاجتماع بودوان الأول ملك أوروشليم وذلك في صيف السنة 1109، فاتفق الطرفان على أن يتولى يوردانوس طرطوس وعرقة مقسما الولاء لأمير أنطاكية، وأن يستحوذ برتران على طرابلس وجبيل مقسما الولاء والطاعة لبودوان الأول ملك أوروشليم، وعلى أن يرث أحدهما الآخر عند وفاته، ونزلوا جميعا على طرابلس وألصقوا أبراجهم بسورها، وتأخر المدد من مصر فاقتحمها الإفرنج عنوة ودخلوا إليها في الثاني عشر من تموز سنة 1109، وأصبح برتران قومس طرابلس متسلما سلطته بالإقطاع من ملك أوروشليم، واحتل الجنويون حيا من أحياء طرابلس وقلعة الكونستابل على بعد خمسة عشر كيلو مترا إلى الجنوب وثلثي مدينة جبيل، ثم تنازل هؤلاء عن حقهم في جبيل إلى الأميرال هوغ إمبرياكو
Hugue Embriaco ، فجعل من جبيل إقطاعا وراثيا له ولذريته من بعده، وأصيب يوردانوس بسهم طائش وتوفي، فأصبح برتران بن ريمون قومس إمارة امتدت من طرطوس إلى نهر الكلب، ومن البحر حتى مداخل حمص وشملت رفنية والبقيعة وما جاورهما.
63
وكانت بيروت وصيدا وصور قد تعاونت مع جيوش دمشق وحمص لصد بودوان الأول عن الوصول إلى أوروشليم، فرابطت في منتصف تشرين الأول من السنة 1101 عند نهر الكلب مستعينة بضيق الطريق ووعورة المسلك، فتظاهر بودوان بالتراجع واتجه نحو جونية، فلحق به العدو، وما زال حتى وصل بودوان ورجاله إلى مضايق المعاملتين، فصمد بودوان بدوره مستعينا بطبيعة الأرض ثم انقض على الدمشقيين والحمصيين وأتباعهم من سكان بيروت وصيدا وصور، فتراجعوا مذعورين ثم تشتتوا، فتابع بودوان سيره إلى أوروشليم ليستوي على عرشها خلفا لغودفروا.
64
ولمس بودوان - لمس اليد - ضرورة الاستيلاء على بيروت وصيدا وصور لتأمين المواصلات بين الشمال والجنوب، فعاد إلى بيروت في ربيع السنة 1110 مستعينا ببرتران وبأربعين مركبا جنويا وبيزيا، واشتد القتال فقتل مقدم الأسطول الفاطمي وخلق كثير من المسلمين، وهجم الصليبيون على البلد فملكوه بالسيف قهرا،
65
وأقطع بودوان بيروت لأحد أشراف دولته فولك ده غين
Foulques de Guines
وخلفه عليها سادة من ذريته حتى السنة 1187.
ونهض بودوان من بيروت إلى عكة، فوافق مروره فيها وصول أسطول نروجي بقيادة سيغورد
Sigord
أخي ملك نروج، وكان سيغورد أول متوج يزور المملكة اللاتينية فاستقبله بودوان بحفاوة فائقة وواكبه حتى المدينة المقدسة، فارتاح سيغورد وقال: إن رجاله راغبون في الاشتراك في الجهاد لمناسبة وجودهم في الأراضي المقدسة، فشكر بودوان لضيفه الملكي هذه البادرة الطيبة، وقال: إن الظروف العسكرية تقضي باحتلال صيدا، وفي أوائل تشرين الأول من السنة 1110 ظهر الأسطول النروجي أمام صيدا وأحاط جيش بودوان بها من البر، واشتد القتال وأقبلت عمارة فاطمية مصرية من صور، فكادت تقضي على المراكب النروجية لولا وصول نجدة بندقية بحرية بقيادة الدوج نفسه أورديلافو فاليري
Ordelafo Faliere ، ودبر الصيداويون خطة لاغتيال بودوان بواسطة شاب مسلم كان قد دخل في النصرانية والتحق بخدمة الملك الصليبي، فعلم نصارى صيدا بذلك فأطلقوا سهما حاملا الخبر إلى مقر القيادة الصليبية، فأمر بودوان بهذا الشاب فقتل عند أسوار المدينة، وفي الرابع من كانون الأول سنة 1110 سلمت صيدا فرحل عنها أعيانها إلى دمشق، فجعلت بارونية وأقطعت إلى البارون أوستاش غارنيه
Eustace Garnier ، ووهب بودوان البنادقة كنيسة وأراضي في عكة.
66
وحاول بودوان في السنة 1111 أن يستولي على صور، ولكنه لم يفلح بضعفه في البحر، فعاد عنها وانشغل بمشاغل أخرى، فظلت صور في يد المسلمين فترة من الزمن، وحاول أعيانها التوفيق بين الولاء للفاطميين للاستعانة بأسطولهم وبين الولاء لأمراء دمشق للاستعانة بجيشهم عند الحاجة، فقبلوا أميرا دمشقيا اسمه مسعود حكم باسم طغتكين، وداوموا على الدعاء في الخطبة للخليفة الفاطمي، وفي السنة 1122 وصل أسطول فاطمي إلى مياه صور فاستقبل فيها أحسن استقبال، فدعا قائد الأسطول الأمير حاكم البلد لزيارة الأسطول، ففعل فقبض عليه ونقل إلى القاهرة ثم أطلق سراحه، فاعترف طغتكين الدمشقي بالحكم الفاطمي في صور.
وفي منتصف شباط سنة 1124 وصل الصليبيون برا وبحرا إلى صور وضربوا الحصار عليها باسم الملك الأوروشليمي بودوان الثاني وبقيادة البطريرك غورموندو
Gormand ، فقطعوا مياه رأس العين عنها وتناولوها بالمجانيق، فرد الصوريون المجانيق بمثلها ورموا المحاصرين بالنار الإغريقية، ولكنهم كانوا قليلين فلم يجرءوا على الهجوم، واستغاثوا بالقاهرة ودمشق فلم يلب الخليفة الآمر النداء لعدم توفر المراكب، وأنفذ طغتكين جيشا كبيرا إلى بانياس وبات ينتظر قدوم المراكب الفاطمية، ثم أطل الصليبيون من معسكر صور فعاد إلى دمشق بدون قتال، وطال الحصار وقل الزاد والماء فصالح طغتكين وسلم صور على شروط، أهمها: أن يسمح لأهلها بمغادرتها، وأن يؤمن الباقون فيها على حياتهم، وفي السابع من تموز سنة 1124 فتحت صور أبوابها للصليبيين، فاستولوا عليها باسم بودوان الثاني.
67
واقتصر الحكم الصليبي - في الغالب - على السواحل والجبال الغربية حتى مقلب المياه، وظل الداخل - كحلب وحماة وحمص وبعلبك ودمشق - بيد الأمراء المسلمين السلاجقة، ونشأ في البلاد ثلاث إمارات صليبية ومملكة؛ إمارة الرها وإمارة أنطاكية وإمارة طرابلس والمملكة اللاتينية، وكان نظام الحكم فيها إقطاعيا على الطريقة الأوروبية، وجاء الملك الأوروشليمي صاحب التاج المقدس على قمة هذا النظام في المملكة اللاتينية وفي الإمارات الثلاث، فكان عليه أن ينجد الأمير المقطع إذا اعتدي عليه أو هدد بثورة داخلية، وأن يكون وصيا على الأمير إذا كان قاصرا، وأن يكون الحكم بين الأمراء. وكان على الأمراء أن يقسموا يمين الطاعة والولاء، ويهبوا لمعونة الملك بعدد معين من المحاربين.
وأقطع كل أمير من الأمراء غيره أراضي في إمارته بالشروط نفسها، وشمل هذا الإقطاع الأساقفة والرهبان أيضا، فكان على هؤلاء أن يقسموا يمين الطاعة والولاء للأمير الكبير، وأن يلبوا نداءه في الملمات، فينجدوه بعدد معين من رجال الحرب أو مبلغ محدد من المال أو الاثنين معا.
الرهبان الفرسان
وكان بعض الأغنياء الأتقياء من سكان أمالفي قد رقوا للحجاج الفقراء، فأنشئوا في السنة 1070 نزلا لهؤلاء في أوروشليم، ووقفوه على اسم القديس يوحنا الرحوم البطريرك الإسكندري، ورثى لهؤلاء الفقراء آخرون من أبناء أمالفي، فوقفوا حياتهم لخدمتهم رهبانا لا يستكبرون، وخضع هؤلاء الرهبان ورئيسهم للسلطات البنذكتية في الأرض المقدسة، فلما خشي الأتراك السلاجقة قدوم الصليبيين في السنة 1098 طردوا هؤلاء الرهبان من الدير والنزل ومن المدينة المقدسة أيضا، وكان ما كان من أمر الحملة الصليبية الأولى. فلما سقطت أوروشليم في يد الصليبيين أشفق الأمراء على الحجاج والرهبان الأملقيين وحبسوا عليهم الأملاك، وعظم شأن هؤلاء الرهبان وكثر عددهم فاستقلوا عن البنذكتيين، واعترف البابا بهم رهبنة مستقلة باسم الرهبان المضيفين
Hospitaliers ، فسماهم المؤرخون المسلمون «الاسبتالية» أو «الاسبتارية»، وفي السنة 1118 تولى رئاسة هذه الرهبنة راهب إفرنسي واسع الصدر بعيد النظر اسمه ريمون ده بوي
Raymond du Puy ، فلم يكتف بإيواء الحجاج ومواكبتهم والعناية بهم، بل تطلع إلى ما كان أهم من ذلك، إلى حماية الحجاج والمحافظة على سلامة وصولهم، فبدل شفاعة يوحنا الرحوم بشفاعة يوحنا الحبيب، وأوجب التدريب على القتال واستعمال السلاح ورسم صليب أبيض على الجبب.
وفي السنة 1118 أيضا تقدم الفارس هوغ ده بان
Hugues de Payns
ورفاقه السبع من بطريرك أوروشليم اللاتيني ناذرين العفة والطاعة، واضعين أنفسهم تحت تصرف البطريرك لحماية الحجاج من اللصوص وقطاع الطرق، فوافق البطريرك وأنزلهم الملك جناحا من أجنحة قصره في هيكل سليمان (المسجد الأقصى)، فعرفوا بالرهبان الهيكليين
Templiers
وهم «الداوية» في مصنفات العرب المعاصرين، ونظر مجمع تروا
Troyes
في نظامهم في السنة 1128 فأقره باسم «جنود المسيح»، وانتظم جنود المسيح طبقات ثلاثا: طبقة الفرسان من الأشراف، وطبقة الرقباء من أبناء التجار وأصحاب المهن الحرة، وطبقة الكهنة من خدام الكنائس. وارتدى الفرسان الأشراف الأبيض وعليه صليب أحمر، ولبس الرقباء الأسود وعليه صليب أحمر، وقضى واجبهم الأول بأن تبقى طريق الحجاج حرة آمنة من الساحل حتى المدينة المقدسة، ثم اندفعوا في سبيل الصليب فاشتركوا في معظم الحروب.
وأيد بودوان الأول وغيره من خلفائه هؤلاء الرهبان الفرسان؛ لأنهم وجدوا فيهم أداة عسكرية فعالة مستعدة دائما للنضال في سبيل الجهاد، فحبسوا عليهم الأملاك لتأمين الدخل ثم أقطعوهم الأراضي ووكلوا إليهم حماية الأبراج والقلاع عند الحدود، ففي السنة 1137 تولى الاسبتاليون حماية قلعة بيت جبرين وتولى الهيكليون الدفاع عن غزة، وفي السنة 1142 أقطع أمير طرابلس ريمون الثاني الاسبتاليين حصن الأكراد وكل ما وقع بين هذا الحصن وبين رفنية وبعرين، وأقطع الهيكليين طرطوس وصافيتا وعرقة، وحذا أمراء أنطاكية حذو أمراء طرابلس وملوك فلسطين، فتولى الهيكليون الدفاع عن حدود الإمارة الشمالية الشرقية واحتل الاسبتاليون حدودها الجنوبية.
68
الهيرارخية اللاتينية
وهدف الصليبيون إلى القبر المقدس فغدت أوروشليم أهم مدن الشرق عندهم، وأصبح بطريركها مقدما على بطريرك أنطاكية، وذكر الصليبيون فضل أوربانوس الثاني واندفاعه وتنشيطه وتشجيعه، فحفظوا حق الكنيسة واعتبروها صاحبة السلطة في الأراضي المقدسة، فلما توفي أديمار في أنطاكية عين أوربانوس دميرتوس
Daimbert
رئيس أساقفة بيزا خلفا لأديمار وممثلا لسلطة رومة في الأراضي المقدسة،
69
ووصل دمبرتوس إلى أوروشليم في الحادي والعشرين من كانون الأول سنة 1099، فاعتبر أرنول أورنولفوس قائمقاما بطريركيا
Locum Tenens ، وفاوض الزعماء في وصوله إلى العرش البطريركي، واغدودقت الهدايا الثمينة، فخلع أرنول خلعا وانتخب دمبرتوس بطريركا على أوروشليم، وخضع غودفروا «وكيل القبر المقدس» وبوهيموند أمير أنطاكية للبطريرك، وأقسما يمين الطاعة والولاء له، فأصبح البطريرك الأوروشليمي سيد أنطاكية وأوروشليم وحقق في الأراضي حلم غريغوريوس السابع، أما بودوان أمير الرها فإنه امتنع عن الخضوع؛ لأنه لم يثق بشخص البطريرك الجديد.
70
وجلس بين السنة 1099 والسنة 1199 أحد عشر بطريركا لاتينيا على السدة الأوروشليمية، وإليك أسماءهم وتواريخهم:
1128-1130
Etienne de Chartres
1099
Arnoul Malecorne
1130-1146
Guillaume de Messines
1099-1101
Daimbert
1146-1157
Foucher d’Angoulème
1101-1108
Ebremard
1158-1180
Amaury de Nesles
1108-1112
Gibelin de Sabran
1180-1190
Heraclius
1112-1118
Arnoul Malecorne
1118-1128
Gormond de Picquigny
ويجمع الثقات على انصراف معظم هؤلاء البطاركة إلى حب المجد الفارغ، واهتمامهم بجمع المال وإنفاقه في سبيل أهوائهم وأغراضهم الشخصية، وعلى أن السيمونية لعبت دورا هاما في سياسة كنيسة أوروشليم طوال قرن كامل من الزمن.
71
وجلس على السدة البطريركية بين السنة 1100 والسنة 1208 أربعة بطاركة، وهم: برناردوس (1101-1135) ورءول (1135-1142) وإيماري
Aymeri (1142-1196) وبطرس (1196-1208)، ولم يكن هؤلاء أسعد حظا من زملائهم في أوروشليم، فاشتهر برناردوس بتدخله في السياسة والحرب في عهدي تنكريد وروجه،
72
وتميز رءول برجاله الأشداء واستئثاره بالسلطة البطريركية واستخفافه بأوامر رومة وبخلعه وموته مسموما،
73
وفضل إيماري في نظر غليلموس الصوري أنه أنقذ أنطاكية في السنة 1149 من السقوط في يد نور الدين، وفي نظر غيره أنه عظم شأن اليعاقبة والأرمن؛ نكاية بالروم الأرثوذكسيين.
74
وقضت ظروف المملكة اللاتينية بأن تنحصر سلطة بطريرك أوروشليم ضمن حدود هذه المملكة، وأن يعاد النظر في تقسيم الأبرشيات، فنشأت تدريجيا أبرشيات خمس كبرى يرأس كل منها رئيس أساقفة، وهي أبرشيات صور وقيصرية وبيسان وبصرى وعمان، وخضع لرئيس أساقفة صور كل من أسقف بيروت وأسقف صيدا وأسقف بانياس وأسقف عكة، وخضع لرئيس أساقفة قيصرية أسقف سبسطية، ولرئيس أساقفة بيسان أسقفا طبرية وجبل الطور.
وشملت بطريركية أنطاكية ست عشرة أبرشية، وهي أبرشيات مصيصة والبارة وأبامية ومنبج والرها وبانياس وجبلة وطرابلس واللاذقية وحارم أو (أرتاح)، ومرعش وقيسون وقوروش ورفنية وطرطوس وجبيل،
75
ولم ترض هذه البطريركية عن سلخ أبرشيات صور وسائر فينيقية الساحلية وضمها إلى بطريركية أوروشليم وطالبت بإعادتها إلى كنيستها الأم، فنشأت مشادة عنيفة بين البطريركيتين دامت أعواما طوالا، فقالت بطريركية أوروشليم بوجوب الملاءمة بين الحدود السياسية والحدود الكنيسة مستندة في ذلك إلى التعليمات الصادرة عن أوربانوس الثاني، واستمسكت بطريركية أنطاكية بقرارات المجامع المسكونية ووجوب إبقاء القديم على قدمه.
واتخذت هذه المشادة شكلا فعليا لأول مرة في السنة 1110 عند سقوط بيروت في يد بودوان ملك أوروشليم، فاستسمح هذا الملك البابا باسكال الثاني في ضم بيروت إلى كنيسة أوروشليم فوافق باسكال، فاحتج برناردوس بطريرك أنطاكية فاعتذر باسكال وقال قولا مبهما، فطلب برناردوس إلى مجمع بنفنتوم (1112) أن ينظر في هذا الأمر، فارتأى المجمع أن يكون الحد الفاصل بين طرطوس وطرابلس، فلم يرض باسكال الثاني.
ولدى دخول صور في حوزة ملك أوروشليم سنة 1128 قام رئيس أساقفتها اللاتيني إلى رومة لتسلم درع التثبيت من البابا أونوريوس الثاني، فأمر هذا البابا بضم طرابلس وطرطوس وجبيل إلى بطريركية أوروشليم، فلم يذعن برناردوس بطريرك أنطاكية وظل محتفظا بطرطوس وطرابلس وجبيل، وفي السنة 1138 طلب البابا أنوشنتوش الثاني إلى بطريرك أنطاكية رءول أن يلحق طرطوس وطرابلس وجبيل بأبرشية صور، فأجاب رءول أنه فاعل حالما تعود صور نفسها إلى كنيستها الأم أنطاكية، وظلت المشادة قائمة ونظر فيها كل من أنوشنتوش الثالث وأنوريوس الثالث وغريغوريوس التاسع ولكن دون جدوى، وظل الحد الفاصل بين البطريركيتين الحد السياسي بين المملكة اللاتينية وقومسية طرابلس.
76
الهيرارخية اليونانية الأرثوذكسية
ولم يعترف الأحبار الأرثوذكسيون بالبطريركيتين اللاتينيتين، واعتبروا الإقدام على تنظيمهما عملا مخالفا لنصوص المجامع المسكونية؛ إذ لا يجوز أن يكون للأبرشية الواحدة أكثر من رئيس واحد، ورأوا في تدعيم السلطات لهذا العمل الشاذ اغتصابا لا مبرر له.
واجتمع الأحبار الأوروشليميون بعد وفاة سمعان الثاني، وانتخبوا أغابيوس الأول خلفا له، ثم انتقلوا من قبرص إلى القسطنطينية وثابروا على الاحتفاظ بالسلطة الروحية في أوروشليم وسائر فلسطين، فانتخبوا سابا بعد أغابيوس، ثم أفخيريوس الأول، فمكاريوس الثالث، فيعقوب الثاني، فأرسانيوس الثاني، فيوحنا السابع، فنيقيفوروس الثاني، فأثناسيوس الثاني،
77
ولا مجال للظن في صحة هذه الرواية؛ فذبتيخة دير القديسة كاترينة في طور سينا المؤرخة في السنة 1166 تذكر اسمي يوحنا ونيقيفوروس بطريركي أوروشليم،
78
وأعمال المجمع القسطنطيني في السنة 1157 تثبت اشتراك يوحنا بطريرك أوروشليم في جلساته، كما تبين أعمال مجمع السنة 1166 أن نيقيفوروس مثل كنيسة أوروشليم، وصنف يوحنا رسالة في السنة 1160 بحثت في الطقوس اللاتينية،
79
وعند خروج اللاتينيين من أوروشليم في السنة 1187 كان هنالك بطريرك أرثوذكسي مستعد لتسلم السلطات الروحية هو أثناسيوس الثاني.
80
ولجأ يوحنا السابع البطريرك الأنطاكي إلى القسطنطينية - كما سبق وأشرنا - ثم استقال فأوعز الفسيلفس إلى الأساقفة الأنطاكيين الذين فروا مع بطريركهم أن ينتخبوا خلفا له، فأجمعوا على تسليم عكاز الرعاية إلى يوحنا الثامن (1106-1137) فلوقا (1137-1155)، ولا بد أن يكونوا قد حذوا حذو زملائهم الأوروشليميين، فتابعوا انتخاب البطاركة في الغربة؛ فقد جاء في لائحة قسطنديوس القسطنطيني أن يوحنا التاسع تسلم عكاز الرعاية في القسطنطينية في السنة 1155، وأن أفتيميوس خلفه في الكرسي الرسولي في السنة 1159، وأن مكاريوس الثاني تولى السدة الأنطاكية في السنة 1164، فتبعه في الرئاسة أثناسيوس الثاني سنة 1166 فثيودوسيوس الثالث سنة 1180، فإلياس الثالث سنة 1182، فخريستوفوروس الثاني سنة 1184، فثيودوروس الرابع (بلسامون) سنة 1185، فيواكيم سنة 1199، فدوروثيوس في السنة 1219، فسمعان الثاني سنة 1245، فأفيتميوس الثاني سنة 1260، وفي عهده أخرج المماليك الصليبيين من أنطاكية.
81
والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن الروايات في هذا الموضوع متضاربة متخالفة، وأن أحدا من العلماء الباحثين لم يعالج هذه الروايات معالجة علمية فنية، ولكن الثابت الراهن هو أن الإكليروس الأرثوذكسي لم يعترف بسلطة اللاتين على كنيسة أنطاكية، وأنه أقام بطاركة أرثوذكسيين يونانيين في الفترة التي تولى الصليبيون فيها أنطاكية وتوابعها، ولكن هذه الروايات تتدامج وتتآلف حول رئاسة أثناسيوس الثاني وثيودوروس الرابع وسمعان الثاني، وتتفق - إلى حد بعيد - في تعيين ظروفها.
أثناسيوس الثاني (1165-1170)
وظلت أنطاكية وجهة آمال الروم وحديث أحلامهم، وظلوا يرقبون تطور الظروف ويترصدون سوانح الفرص للظفر بها. وتوفي بوهيموند الأول في إيطالية في السنة 1111، وقتل تنكريد الصقلي في الميدان في السنة 1112، وخر بوهيموند الثاني صريعا في قيليقية سنة 1130 وتولى الوصاية على ابنته قسطندية روجه الساليرني، فارتأى الفسيلفس يوحنا الثاني أن يزوج ابنه عمانوئيل من قسطندية، ووافقت والدتها، ولكن فولك دانجو ملك أوروشليم أزوج قسطندية من ريمون قومس بواتييه، فغضب يوحنا الثاني الفسيلفس لكرامته وانتهز فرصة الحرب القائمة بين عماد الدين زنكي والإفرنج، فظهر أمام أسوار أنطاكية فسقطت في يده في آب السنة 1137، فأقسم ريمون أميرها ولاء الطاعة للفسيلفس، ثم اضطر الفسيلفس أن يحاصر أنطاكية في السنة 1142، وأصيب بسهم مسموم في أثناء الصيد في قيليقية فولى ابنه عمانوئيل وقام إلى القسطنطينية وتوفي فيها سنة 1143، واتسعت آفاق عمانوئيل (1142-1180) وطمع في إيطالية وصقلية وفي إمارات الشرق اللاتينية، وتعدى ريمون أمير أنطاكية وأغار على قيليقية فأنفذ عمانوئيل حملة وأكره ريمون على الذهاب إلى القسطنطينية في السنة 1145 ليطلب العفو.
وقتل ريمون في حرب ضد المسلمين في السنة 1149 فشمل عمانوئيل أرملته قسطندية بعطفه وحمايته، وعلى الرغم من عدم انصياعها له في أمر زواجها من رينو دي شاتيون فإنه ظل يعتبر نفسه سيد أنطاكية وتوابعها، وفي السنة 1152 ثار طوروس بن لاوون الأرمني على عمانوئيل واعتصم بتلال قيليقية، فاستعان عمانوئيل برينو ووعده بمكافأة مالية جزيلة، فجرد رينو حملة على طوروس ثم قلب ظهر المجن وانضم إلى طوروس وتعاون معه في إغارة كبيرة على قبرص سنة 1156، فاستشاط الفسيلفس غيظا وقام بنفسه إلى قيليقية، فأم رينو مصيصة مقر عمانوئيل أعزل عاري القدمين حاسر الرأس ممسكا بسيفه من طرف نصلته وارتمى عند قدمي الفسيلفس، وما فتئ حتى أمره عمانوئيل بالنهوض، فاعترف بسيادة الفسيلفس ورضي بتسليم قلعة أنطاكية وبإقامة بطريرك أرثوذكسي في المدينة،
82
وفي السنة 1162 بلغ بوهيموند الثالث أشده فانتهت وصاية رينو، وفي السنة 1164 وقع بوهيموند الثالث أسيرا في يد نور الدين ثم أطلق سراحه لقاء مبلغ كبير من المال، وكان عمانوئيل قد تزوج من مريم أخت بوهيموند، فقام هذا إلى القسطنطينية يرجو صهره الفسيلفس إمداده بالمال اللازم، فصدقه الفسيلفس السعي ولبى مبتغاه، فعاد بوهيموند إلى أنطاكية يرافقه بطريرك أرثوذكسي يوناني هو أثناسيوس الثاني.
83
واعتبر بوهيموند البطريرك اليوناني الأرثوذكسي مساويا لبطريرك اللاتين بالحقوق والكرامة، فامتعض إيماري بطريرك اللاتين واحتج، ثم لعن المدينة وخرج منها وأقام في برج القصير (قلعة الضو) بين كنوزه وأمواله، وكانت السلطات الأرثوذكسية العليا لا تزال تسعى لرد اليعاقبة والأرمن عن القول بالطبيعة الواحدة والعودة بهم إلى حضن الكنيسة الجامعة، فلما أطلت السنة 1166 وانتخب اليعاقبة ميخائيل السرياني بطريركا عليهم انتهز أثناسيوس الثاني فرصة قدوم البطريرك الجديد إلى أنطاكية، وبحث معه أمر توحيد الكلمة وجمع الصفوف، ودخل اللاهوتي اليوناني ثوريانوس الأرثوذكسي في جدل لاهوتي مع ميخائيل، وأطلع البطريرك أثناسيوس الفسيلفس على ما جرى، فاستدعى عاهل الروم البطريرك السرياني إلى القسطنطينية للنظر في صلب الموضوع، ولكن إيماري بطريرك اللاتين كان قد أظهر استعداده للتعاون مع السريان دون قيد أو شرط، فامتنع ميخائيل عن الذهاب إلى القسطنطينية، ولم تسفر محاولات أثناسيوس عن أية نتيجة إيجابية، وظل إيماري ممتنعا في برج القصير وواظب كهنته على مقاطعة الروم الأرثوذكس وعلى التودد إلى اليعاقبة والأرمن. وعاد الطرفان السرياني والأرثوذكسي إلى البحث في السنة 1178 واجتمعا في روم قلعة، وترأس الوفد السرياني الأسقف باروهبون وتزعم الوفد الأرثوذكسي كل من الفيلسوف ثيوريانوس وزميله خريستوفوروس، ولكن دون جدوى، وانتفخ باروهبون واستكبر من جراء هذه المحادثات، فخرج على رئيسه البطريرك ميخائيل وشطر الكنيسة السريانية شطرين ببطريركين متخاصمين متراشقين.
84
وفي التاسع والعشرين من حزيران سنة 1170 زلزلت الأرض واشتد المصاب، فتهدمت الدور والمباني في حلب وحماة وحمص واللاذقية وطرابلس وجبيل وغيرها، ولم تنج أنطاكية من هذه الكارثة، فأرجفت الكاتدرائية وتناثرت حجارتها فأصابت أثناسيوس الثاني وحاشيته في أثناء قيامهم بالخدمة الإلهية، فادعى إيماري وجماعته أن الغضب حل على المدينة لخروج إيماري منها ودخول أثناسيوس إليها، فأمر بوهيموند بإخراج البطريرك الأرثوذكسي من المدينة، فأخرج وهو في حضرة الوفاة.
85
بلسامون ثيوذوروس (1185-1199)
وأشهر بطاركة كنيسة مدينة الله في هذه الحقبة بلسامون القانوني الكبير، وهو ثيودوروس الرابع بموجب اللوائح الكنسية، أبصر النور في القسطنطينية ونذر نفسه صغيرا، وألحق بكنيسة الحكمة الإلهية والبطريركية المسكونية، فكان مثال الورع والتقوى والنشاط والغيرة، وتدرج في المراتب فشغل وظيفة نوموفيلاكس فخرتوفيلاكس فبروتوسنكلوس، وانتخب بطريركا على أنطاكية في السنة 1185، ولكنه لم يوفق إلى الإقامة فيها فبقي في القسطنطينية حتى أدركته الوفاة في السنة 1199، وليس هنالك أي دليل يؤيد أودوان في قوله: إن بلسامون انتقل إلى رحمة ربه في السنة 1215.
86
وأحبت أسرة كومنينوس الكنيسة فنفذت كلمة الأحبار واتسعت صلاحياتهم القضائية، فعكف بلسمون خارتوفيلاكس كنيسة القسطنطينية على درس القوانين المدنية والكنسية فهاله تكاثرها وتناقضها، فاتخذ أساسا لتدقيقه مجموعة عرفت بالسينتاغمه
Syntagma
ونسبت إلى فوطيوس العظيم، ثم جمع كل ما عثر عليه من القوانين المدنية والكنسية منذ عهد باسيليقة لاوون السادس (886-912) فنسقها وفرق بين مهملاتها وما كان لا يزال ساري المفعول منها، ثم محص هذه تمحيصا محاولا التوفيق بين قوانين الكنسية وقوانين الدولة، فأخرج كتابا أسماه الدليل إلى القانون
Exegesis Canonum
لا يزال حتى يومنا هذا منهلا عذبا يرده أحبارنا المتبحرون.
87
ولبلسامون مصنفات أخرى، أهمها تأملاته
88
وأجوبته عن المسائل الأربع والستين التي طرحها مرقس بطريرك الإسكندرية،
89
ومؤانساته الإحدى عشرة.
90
جمهور المؤمنين
واعتبرت السلطات الصليبية الروحية والمدنية جمهور المؤمنين الأرثوذكسيين أبناء كنيسة واحدة جامعة، ففرضوا عليهم العشر وأوجبوا خضوعهم لأساقفة لاتينيين واحتلوا الكاتدرائيات والأديار والمباني الكنسية، ومن خضع رتع ومن امتنع امتقع، وسمحوا بعد هذا بممارسة الطقوس البيزنطية في الكنائس العادية كما أبقوا على بعض الرهبان في بعض الأديار، وظل فسيلفس الروم يطالب أمراء أنطاكية الصليبيين بالطاعة والولاء. واشتد الاحتكاك بين الطبقات الأرثوذكسية اليونانية العالية في أنطاكية واللاذقية وبين الأسر الصليبية المماثلة، فتيقظ الصليبيون وتحذروا فنشأ عن هذا كله نفور في قلوب الأرثوذكسيين الأنطاكيين، زاد الشقاق الذي كان قد بدأ سنة 1054 اتساعا وعمقا.
91
اللاتين والأرمن
وحاولت السلطات الروحية اللاتينية في بادئ الأمر فرض سلطتها على الإكليروس الأرمني، فامتعضوا ونفروا وأيدهم في ذلك شعبهم، وتعاونوا مع المسلمين،
92
ثم استتب الأمر للصليبيين في الميدان السياسي، ورأى هؤلاء أن لا بد من الاستعانة بالأرمن للصمود في وجه الروم والمسلمين، فخفت غلواء الرؤساء اللاتينيين وواصلوا الإكليروس الأرمني وأحسنوا صلتهم، فأطلقوا يدهم في الروحيات والأحوال الشخصية وتركوا لهم كنائسهم وأديارهم، فحفظ الأرمن العهد وبروا في القول،
93
ثم تمكنت الألفة فاصطحب الطرفان على العلات، وجاءت السنة 1139 فأم أنطاكية الكردينال ألبريكوس، فعقد مجمعا محليا للنظر في قضية رءول بطريرك أنطاكية، ودعا بطريرك الأرمن غريغوريوس الثالث وأخاه نرسيس لحضور المجمع ففعلا. وفي السنة 1140 قام الكردينال والبطريرك إلى أوروشليم، فاحتفلا بعيد الفصح فيها واشتركا في أعمال مجمعها اللاتيني. ويرى علماء اللاتين أن ممثل الكنيسة الأرمنية اعترف بالطبيعتين في هذا المجمع، ولكن علماء الأرمن يصرون على أنه قال قولا غامضا، خلاصته أن الكنيستين لم تختلفا في الأمور الجوهرية.
94
وجاء بعد غريغوريوس الثالث نرسيس الرابع 1166-1173 المعروف بالشرنورهالي، فحاول التوفيق بين مواقف الكنائس اللاتينية واليونانية والأرمنية، ولبى دعوة الفسيلفس عمانوئيل كومنينوس فجالس اللاهوتي الفيلسوف ثيوريانوس وبحث معه الاختلاف الناشئ عن مقررات المجمع الخلقيدوني، وجاء غريغوريوس الرابع 1173-1193 فدعا إلى مجمع في روم قلعة اشترك في أعماله ثلاثة وثلاثون حبرا من مختلف الطوائف، فقال الأرمن فيه بالطبيعتين. ولكن إصرار الأرثوذكسيين اليونانيين على تطبيق الطقوس اليونانية اضطر الأرمن إلى الاتجاه نحو رومة، فاتصل غريغوريوس الرابع البطريرك الأرمني بلوقيوس الثالث بابا رومة، فأرسل له هذا درعا وخاتما وعكازا،
95
وجاءت السنة 1188 فحض إقليمس الثالث بابا رومة الأرمن على التعاون مع الصليبيين،
96
واعترض غريغوريوس الخامس على هذا التفاهم (1193-1194)، ولكن تدخل الأمير الأرمني لاوون الثاني أدى إلى انعقاد مجمع في طرسوس سنة 1196 برئاسة غريغوريوس السادس أجمع رؤساء الأرمن فيه على القول بالطبيعتين والتعاون مع رومة، وفي السنة 1199 تقبل لاوون الثاني تاج الملك من يد كونراد الموفد الرسولي الروماني.
97
اللاتين واليعاقبة
ولم يرض اليعاقبة عن هذا التآلف والتعاون بين السلطات اللاتينية المدنية والدينية وبين الأرمن، فاضطربوا ومالوا أكثر من مرة إلى الأتراك السلاجقة، وبلغ أمراء الرها ذلك فحقدوا، وفي السنة 1148 تنمر جوسلان الثاني أمير الرها فكاشفهم بالعداوة ونهب دير مار برصوم ووزع آنيته المقدسة على الأرمن، وشتت رهبانه وأحل محلهم جنودا من الأرمن،
98
وجرى مثل هذا في إمارة أنطاكية؛ فقد جاء لمخائيل السرياني أن جماعته مالوا نحو الأتراك بعد موقعة أبامية في تموز السنة 1149،
99
وتمرد باسيليوس بارصابوني رئيس أساقفة الرها على رئيسه البطريرك أثناسيوس السادس، فتدخل برناردوس بطريرك أنطاكية اللاتيني في النزاع، فغضب اليعاقبة لكرامتهم ونقلوا مركز بطريركتهم إلى آمد خارج حدود اللاتين،
100
ثم تطورت الظروف السياسية فسعى الأمراء الصليبيون إلى استرضاء اليعاقبة وشجعت رومة الملاينة شرط الاعتراف بسلطتها، وجاءت السنة 1156 فاشترك الأمراء والأشراف اللاتينيون في تدشين كنيسة مار برصوم وعاد إلى أنطاكية في السنة 1166 أثناسيوس الثاني بطريركها السرياني الشرعي، وغضب بطريرك اللاتين فوقف اليعاقبة إلى جانب اللاتين وزار بطريركهم ميخائيل بطريرك اللاتين مواسيا، ثم امتنع عن تلبية دعوة الفسيلفس عمانوئيل لتوحيد الصفوف - كما سبق وأشرنا - وفي السنة 1180 غمط ابن وهبون إحسان بطريركه ميخائيل واستسلم إلى أربعة أساقفة مشاقين فساموه بطريركا باسم يوحنا، فاستعان ميخائيل بالسلطات اللاتينية المدنية لتأييده ففعلوا، ومن هنا إطراؤه بتسامح اللاتين.
اللاتين والموارنة
ورحب الموارنة بالصليبيين لدى وصولهم إلى أبرشيات أنطاكية ترحيب الأرمن واليعاقبة والروم أيضا، ورأوا في قدومهم وسيلة فعالة للخلاص من مظالم السلاجقة وغيرهم، وكانوا في تلك الآونة أربعين ألفا منتشرين في تلال طرابلس والبترون وجبيل والجبة، فلما «خيم الإفرنج فوق مدينة طرابلس هبط إليهم جماعة من المؤمنين السريان الذي يسكنون جبل لبان فوق جبيل والبترون وطرابلس مما يلي الشرق؛ لأجل تهنئتهم وعرض خدماتهم عليهم، فرحبوا بهم وتلقوهم بعواطف الحب الأخوي، واتخذوا منهم هداة ليرشدوهم إلى أأمن الطرق وأيسرها في تلك الجبال الهائلة».
101
ولم ينفرد الموارنة في هذا الترحيب الأخوي الأولي، فالروم والأرمن واليعاقبة سبقوا الموارنة إلى هذا الترحيب، وقدموا الخدمات في حينها وتحملوا الاضطهاد لأجل الصليبيين، وقد سبقت الإشارة إلى موقف البطريرك سمعان الأوروشليمي من الصليبيين وإرساله الزاد والمئونة من قبرص، وإلى سجن البطريرك يوحنا في أنطاكية وحجزه في قفص من حديد وعرضه على أبراجها؛ لأنه كان بطريركا في الكنيسة الجامعة. وقد ذكرنا تعاون الأرمن واليعاقبة مع الصليبيين في فتوحاتهم الأولى في قيليقية وشمال سورية.
واختلفت ظروف الموارنة عن ظروف سائر الطوائف غير اللاتينية؛ فإنهم لم يتمتعوا بحماية الفسيلفس تمتع الأرثوذكسيين ليقرفوا بالخيانة، ولم يسكنوا كبريات المدن ليحتك أساقفتهم بأساقفة اللاتين وزعمائهم ويناوصوا الجرة ويسالموها، ولم يكونوا طائفة كبيرة غنية تناظر غيرها من الطوائف، وهكذا فإنه لم يقارب القرن الثاني عشر نهايته حتى توثقت العرى بين الموارنة والصليبيين، فاجتمعوا على النعماء والبأساء فنضج الود، «فرجعوا إلى رشدهم بإلهام إلهي وهبوا من خمولهم، فجاءوا إلى إيماري وهو الثالث من بطاركة اللاتين، وبعد أن رفضوا الضلالة التي استمروا عليها بكل خطر مدة طويلة؛ رجعوا إلى وحدة الكنيسة الكاثوليكية قابلين الإيمان الأرثوذكسي مستعدين أن يتمسكوا بتقاليد الكنيسة الرومانية، وأن يحفظوها بكل احترام.» هذا ما رواه غليلموس الصوري تحت أخبار السنة 1182،
102
وتاريخ غليلموس هذا هو من أفضل المراجع اللاتينية لتاريخ الصليبيين بين السنة 1095 والسنة 1184، ولد مؤلفه في الشرق قبل السنة 1130 فتكلم العربية واليونانية بالإضافة إلى اللاتينية، ثم رحل إلى فرنسة في طلب العلم وعاد إلى فلسطين حوالي السنة 1160، وفي السنة 1174 تولى إدارة المحفوظات الملكية في أوروشليم وتدبير سياسة المملكة الخارجية،
103
ثم أصبح في السنة 1175 رئيس أساقفة صور، وفي السنة 1183 رشح نفسه لبطريركية أوروشليم فلم يفلح فاعتزل الرئاسة الروحية، وأقام في رومة، فتوفي فيها في السنة 1187، وبدأ غليلموس تدوين تاريخه في السنة 1169، فاعتمد غيره من المؤرخين لتاريخ الحملة الأولى، واستقى أخبار السنوات 1127 حتى عودته إلى الشرق من المحفوظات الملكية اللاتينية في أوروشليم، أما ما تبقى من الحوادث؛ أي ما جرى بين السنة 1160 والسنة 1184، وبينها رجوع الموارنة عن القول بالمشيئة الواحدة واتحادهم مع كنيسة الغرب؛ فإنها من مرويات عصره عن حوادث جرت في الساحل نفسه الذي أقام فيه.
104
وتتوفر لهذه الرواية في شخص راويها غليلموس الصوري معظم شروط العدالة والضبط؛ فقد كان الراوي رئيس أساقفة صور عند وقوع ما يروي ودون في وقت قريب من زمن وقوع الحادث الذي يروي، وكان من أدرى الناس في موضوع روايته، وقد اشتهر باتزانه وعدم التطرف في الحكم والقول.
وروايته هذه ليست فريدة في بابها، فبولة البابا أنوشنتيوس الثالث التي صدرت في السنة 1215 ووجهت إلى بطريرك الموارنة وأساقفتهم وجمهور أكليروسهم تذكر الموارنة بوجوب التيقظ «وتدارك الخطأ»، والقول «بدون تردد» بانبثاق الروح القدس من الآب والابن، وبالاكتفاء بتسمية الثالوث مرة واحدة في المعمودية وبحصر سر التثبيت بالأساقفة، وبالامتناع عن إدخال أية مادة أخرى غير الزيت والطيب في إعداد الميرون، وبوجوب الاعتراف بالخطايا والتناول ووجوب القول «بمشيئتين في المسيح مشيئة إلهية ومشيئة بشرية»، والامتناع عن استعمال الأواني الزجاجية والخشبية والبرونزية في الذبيحة والاستعاضة عنها بالأواني الفضية أو الذهبية، واستعمال الأجراس لإعلان المواقيت ودعوة الشعب إلى الكنيسة،
105
وفي هذا القول الرسمي الصادر عن أسقف رومة ما يكفي لتأييد غليلموس الصوري في روايته التي نبحث، ولا يجوز الإنقاص من أهمية هذا النص واعتباره مجرد محاولة لليتنة الطقوس والقوانين المارونية،
106
فأنوشنتيوس أوجب التيقظ والقول بدون تردد بالانبثاق من الآب والابن وبالمشيئتين، ويلاحظ هنا أن البابا لم يوجب القول بالطبيعتين في هذه البولة؛ لأن الموارنة كانوا قد قالوا بالطبيعتين منذ بداية عهدهم، ولكنه اهتم بأمر المشيئتين.
ويرى علماء الموارنة أن غليلموس أسقف صور نقل رأيه في عقيدة الموارنة عن سعيد بن البطريق البطريرك الإسكندري، وأن هذا لم يكن على بينة من أمره، وأن ما ورد في بولة أنوشنتيوس الثالث عن أمر المشيئتين والمشيئة الواحدة جاء مقتضبا جدا، فلو كان هذا البابا يعلم أن الموارنة كانوا في الواقع ممن لا يزال يقول بالمشيئة الواحدة؛ لجاء كلامه في هذا الموضوع أشد وأقوى وأكثر تفصيلا، ويرون أيضا أن الظرف الذي ظهرت فيه هذه البولة كان ظرف المجمع اللاتراني الرابع ظرف إصلاح وتثبيت لا ظرف نبذ تعاليم معينة، ولو كان هنالك نبذ للقول بالمشيئة الواحدة لظهر أثره في أعمال هذا المجمع. ويضيفون أن ما تم في طرابلس في السنة 1182 إنما كان تأييد الموارنة لبابا شرعي ضد مناظر دخيل، والإشارة هنا إلى النزاع بين البابا ألكسندروس الثالث والبابا فيكتوريوس الرابع الذي انتهى في السنة 1180، فيكون الاجتماع في طرابلس الذي يشير إليه غليلموس الصوري من نوع ما جرى في السنة 1131. ومما يقوله علماء الموارنة في هذا الصدد: إن الموارنة ناصروا الصليبيين اللاتينيين منذ وصولهم إلى لبنان ومازجوهم في عز صولتهم وانتصاراتهم، فهل ظلوا مخالفين حتى إذا غلب الصليبيون على أمرهم وضايقهم خصمهم صلاح الدين الأيوبي باتوا أشد استعدادا إلى الاتحاد بكنيسة الغرب.
107
والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن مراجعنا الأولية قليلة، وأن أنوشنتيوس لا يقول بصراحة في البولة التي أصدرها أن الموارنة كانوا يقولون حتى يومه بالمشيئة الواحدة، والواقع أيضا أن المراجع المارونية متأخرة، لا يجوز الأخذ بها لإثبات ما جرى في طرابلس في السنة 1182 أو قبلها، فأقدم رواتهم ابن القلاعي وهو من أعيان القرن الخامس عشر، ولا يجوز كذلك اعتماد البولات البابوية كما أثبتها الأب العنيسي؛ لأنه تلاعب في نصوصها،
108
ولعل المستقبل يظهر من المراجع ما يعين المؤرخ على البت في هذا الموضوع الدقيق.
دير البلمند
وليس لنا أن نبحث في آثار الصليبيين الفنية الكنسية في هذا التاريخ العام، ولا أن نصف جميع الكنائس الصليبية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في بعض أبرشيات أنطاكية؛ لأن وصفها يتطلب استعدادا فنيا خصوصيا لسنا من أهله، وجل ما نريده هو أن نذكر أهم الكنائس الصليبية القائمة، وأن نخص دير البلمند بكلمة مفصلة؛ نظرا للمكانة التي يحتلها في قلب كل أرثوذكسي أنطاكي.
وأهم الكنائس الصليبية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في أبرشيات أنطاكية كاتدرائية طرطوس وكاتدرائية جبيل وكاتدرائية بيروت. وبدأ الصليبيون بإنشاء كاتدرائيتهم في طرطوس بعد السنة 1123، فأقاموها فوق مزار السيدة والدة الإله الذي فاخرت به طرطوس منذ أوائل النصرانية وادعت أنه أول كنيسة أنشئت باسم السيدة. وأنشئوا في جبيل في السنة 1115 كنيسة باسم يوحنا المعمداني، ولا يزال نصفها الشرقي الشمالي قائما حتى يومنا، أما نصفها الغربي فإنه انهدم فأعيد بناؤه في العصور الحديثة، وبابها الشمالي حديث العهد أما الجنوبي فإنه من آثار القرن الثاني عشر.
وقبة المعمودية صليبية أيضا، وتعود - في الأرجح - إلى حوالي السنة 1200، وأمر بودوان ملك أوروشليم ببناء كنيسة كبيرة في بيروت على طراز الكنائس اللاتينية، فبدأ إنشاؤها في السنة 1113 وانتهى في السنة 1150، وشيدت على اسم القديس يوحنا المعمداني على شكل مصلب ذي ثلاثة أسواق، «ولما قدر الله بنزع بيروت من يد الإفرنج استقرت كنيستهم جامعا، وكانت تعرف عندهم بكنيسة مار يوحنا، وكان بها صور فطلاها المسلمون بالطين، وبقي الطين إلى أيام الجد فبيضه وأزال آثار تلك الصور، وكان المسلمون يجتمعون لصلاة الجمعة، فلم يكملوا في بعض الأوقات أربعين شخصا.»
109
والإشارة في هذا كله إلى الجامع العمري الكبير، وقد بقي عند بابه الشرقي بقرب المدخل كوة مكتوب فيها باليونانية: «إن صوت الرب على المياه.»
110
وفي الثلاثين من أيار من السنة 1157 تولى رهبان القديس برناردوس المعروفون بالكيستركيين بناء دير على التلة المشرفة على البحر بين أنفة والقلمون، وجعلوه على اسم البتول الطاهرة سيدة بلمونت
Abbatia Belimontis ،
111
وهو لفظ لاتيني منحوت من كلمتين، معناهما الجبل الجميل، وتم البناء - فيما يظهر - في السنة نفسها التي استولى فيها الصليبيون على قيصرية فيليبوس (بانياس)؛ أي في السنة 1169،
112
وخص أساقفة رومة هذا الدير بعنايتهم، فأصدروا باسمه عددا من البولات الرسمية، منها بولة غريغوريوس التاسع في السنة 1238 وبولة أنوشنتيوس الرابع في السنة 1250 وبولة أوربانوس الرابع في السنة 1262. ويظهر من هذه البولات أن دير البلمند كان أكبر أديار الإفرنج في إمارة طرابلس، وأنه في منتصف القرن الثالث عشر كان خاضعا لأسقفية بيروت، ومن رؤسائه الأولين بطرس الألماني، وهنالك إشارات إلى الأخ اسطفانوس وإلى الأخ سمعان الطرابلسي، وخرج الرهبان اللاتين منه في السنة 1289، ولعلهم ذبحوا ذبحا.
113
ويرى الأثري الكبير الاختصاصي في الفن الصليبي كميل أنلار أن بناء الدير الصليبي قام - في الأرجح - على آثار بيزنطية أقدم منه، ويستدل على ذلك بدليلين أولهما تخطيط كنيسته ووجود تاج عمود بيزنطي في البناء، والثاني خروج رهبان برناردوس عن المألوف عندهم، وتشييد بنائهم هذا على ارتفاع مائتي متر عن سطح البحر، وكنيسة سيدة البلمند تتجه نحو الشرق الشمالي وتتضمن حنية كبيرة وسوقا واحدا ومذبحا واحدا، والاكتفاء بمذبح واحد خروج على تقاليد هؤلاء الرهبان الرجال.
114
ويلاحظ أن اعتماد العلامة أنلار رواية الأب ملاتيوس وقوله: إن الدير أعيد إنشاؤه منذ أربعمائة سنة جاء ضعيفا، فقد رأى صديقنا المرحوم جرجي يني في دير البلمند كراسا قديما بخطوط كثيرة تدل على افتتاح الدير مجددا في السنة 7111 لآدم، وهي تعادل السنة 1603 بعد الميلاد،
115
ومن هنا في الأرجح قول مكاتب المنار: إن الدير بقي خرابا حتى السنة 1603 وإن يواكيم بن الخوري جرجس متروبوليت طرابلس جدد بناءه،
116
ويلاحظ أيضا أن لا قيمة لقول البطريرك الدويهي: إن اللفظ بلمند مشتق من اسم الأمير بوهيموند صاحب طرابلس الذي أنشأ هذا البناء منتزها له في السنة 1287، فبوهيموند هذا قضى السنوات الأخيرة من عهده منحصرا في طرابلس لا يستطيع الخروج منها؛ لما كان يلاقيه من مضايقة على يد قلاوون. وبوهيموند توفي منكمشا في طرابلس في التاسع عشر من تشرين الأول سنة 1287.
117
ويلاحظ هنا أن بعض ما يرى من نقوش وتيجان أيونية وكورنثية ومعظم الرخام المفروشة به أرض كنيسة القديس جرجس وقفه المشايخ آل زخريا حامات في حوالي السنة 1840، ونقلوه بحرا إلى البلمند من آثار كنيسة قديمة كانت لا تزال باقية في قرية حنوش بالقرب من حامات وعند ساحل البحر، ولعل هذه الآثار هي من بقايا مدينة كوشار البيزنطية، ولا يزال اسم كوشار يطلق على مضيق صغير يؤدي إلى قرية حنوش.
الفصل الرابع عشر
رومة والقسطنطينية في أثناء الحروب الصليبية
رومة تجهل الوضع الراهن
وأخطأت رومة في فهم الوضع الراهن في القسطنطينية، فوهمت أن الحل والربط في أمور الكنيسة منوطان بإرادة الفسيلفس، وأراد كل من ألكسيوس وابنه يوحنا وحفيده عمانوئيل التعاون مع رومة؛ لرغبة أكيدة في توطيد السلام بين المسيحيين ولحاجة ديبلوماسية ماسة، ولكنهم أخفقوا لأسباب أهمها أن الرأي العام في القسطنطينية كان قد نفر عن رومة، وأن الإكليروس الأرثوذكسي كان قد أصبح أقوى من البلاط في تكييف هذا الرأي العام، ورأى هذا الإكليروس أن كنيسة العاصمة كانت أولى الكنائس علما وعظمة ومجدا، فصعب عليه أن يحني رأسه لمن كان أقل علما وأخف وزنا.
1
خوف الروم وحذرهم
وأطل الصليبيون بغلاظتهم ووعورة أخلاقهم وقلة انضباطهم واستباحتهم، فعانى الروم في مجيئهم برحا بارحا، وتحملوا منهم رهقا شديدا، واعتبر ثيوفيلاكتوس المتروبوليت العالم الفاضل الصالح موجة الصليبيين التي مرت في أبرشيات بلغارية إغارة بربرية جديدة، وهال سكان القسطنطينية النهب والسلب والتخريب الذي صدر عن ضيوفهم الغربيين، وازداد عدد التجار الإيطاليين في عاصمة الشرق، واشتد نشاطهم واتسعت أعمالهم، فتوجس زملاؤهم الروم منهم خوفا فنبض نابضهم وغلى جوفهم، أما ثيوفيلاكتوس وغيره من طبقته وجمهور المؤمنين الأتقياء؛ فإنهم تغاضوا واغتفروا حبا بالمسيح وتعاونا في سبيل هدف صالح مقدس، ولكنهم لاموا زعماء الصليبيين وأنكروا عليهم استهتارهم وقلة مبالاتهم، ثم جاء رئيس أساقفة بيزا لنجدة الصليبيين، ولم يكن بعيدا عن البابا، غزا المسيحيين في كورفو وليفقاس وزنتة،
2
وتبين أيضا أن رهبان الصليبيين وكهنتهم وأساقفتهم كانوا يحملون السلاح ويخوضون المعارك ويسفكون الدماء، فرأى المؤمنون الأرثوذكسيون - في هذا كله - تخديشا لوجه المسيح وأمرا لا يحط عاره، ونسوا قداسة أوربانوس الثاني ومحبته المسيحية، ولم يذكروا سوى تعاون غريغوريوس السابع مع أعدائهم النورمنديين وإصغاء باسكال الثاني لأقاويل بوهيموند ووشاياته. وتعاونت رومة مع أمراء أنطاكية وملوك أوروشليم، وأقامت هيرارخية لاتينية في البطريركيتين الشرقيتين، وأوجبت خضوع الكهنة الأرثوذكسيين فيهما لأساقفة لاتينيين، فزادت الطين بلة، وجعلت من بطاركة أوروشليم وأنطاكية الشرعيين المقيمين في القسطنطينية أداة دعاية دائمة ضد رومة وأساقفتها وإكليروسها.
داء الضرائر
ونظر التجار الإيطاليون إلى زملائهم الروم بعين مريضة وطرف سقيم؛ لان هؤلاء كانوا قد بلغوا من التقدم الفني وجمع الثروة رتبة تقاصرت عنها الأقران، وشأوا تقطعت دونه أعناق الإيطاليين، فزرع التجار الإيطاليون الأحقاد ودرجوا بالنميمة، فأصبحوا من سماسرة الشقاق وتجار الفساد وزراع العداوات.
وطمع بوهيموند وتنكريد وغيرهما من رجالات الصليبيين واضطرم صدرهم حسدا وانتشر بينهم داء الأثرة فنصبوا للروم الحبائل، ووقفوا لهم بالمرصاد، والحاسد مغتاظ على من لا ذنب له.
واستصغر الصليبي العادي الرومي واستهان به، فرآه مخنثا ضعيفا حقيرا،
3
وتأخر أليكسيوس عن مساندة الصليبيين لأسباب قاهرة، أهمها الخطر التركي، فأصبح ومن حوله مخادعا مراوغا، ونشأ كره لأليكسيوس وخلفائه دام في الغرب قرونا طوالا، وعلى الرغم مما قام به علماء أوروبة من بحث وتدقيق وإجلاء وتوضيح، فإن هذا الكره وما يتبعه من حق؛ لا يزالان يحزان في صدور بعض المؤرخين الغربيين حتى يومنا هذا.
4
أليكسيوس وباسكال (1099-1118)
ورغب أليكسيوس رغبة أكيدة في إجلاء الأتراك عن آسية الصغرى، فسعى سعيا حثيثا للسلم والمسالمة في ساحل الأدرياتيك، ولم يكتف بمواصلة أساقفة رومة، بل حاول اجتذاب بعض الشخصيات الكبيرة في الأوساط الإكليريكية الإيطالية كأوديريسيوس
Oderisius
رئيس دير جبل كسينو، فإنه كتب إلى هذا الرجل البار وأكد رغبته في مساندة الصليبيين، ولكنه أوضح أن مثل هذه المساندة لا تكون دائما ممكنة،
5
وقدر رهبان كسينو أليكسيوس قدره فاعتبروه صديقا مخلصا وحاميا أمينا، وتابعوا تبادل الرأي والمحبة معه بعد وفاة أوديريسيوس،
6
ثم طمع بوهيمند بأنطاكية وحنث في يمين الولاء والطاعة لأليكسيوس ولم يبر فيها، وقام إلى إيطالية ودب عقاربه بين باسكال وبين الفسيلفس وطاف أوروبة يزرع الأحقاد ويضرب ويحرش، فامتنع ألكسينيون عن مواصلة الفسيلفس، ولكن أليكسيوس ظل يألف الكنيسة اللاتينية ويمازجها ويؤانسها؛ فإنه أنشأ في هذه الفترة عينها مأوى كيفيتوت
Civetot
واستودعه رهبان كلوتي.
7
وتوفي بوهيمند وغيره من زعماء النورمنديين في جنوب إيطالية وتولت الحكم فيها أرامل ثلاث بريئات غير مقلقات أدلة في نابولي وقسطنسة في ترنتو وأدليدة في بالرمو، وفي السنة 1111 هجم هنريكوس الخامس على رومة وسجن أسقفها باسكال الثاني وأكرهه على تتويجه إمبراطورا، وعلى الاعتراف بتدخل الإمبراطور في أمور الكنيسة، فحرر أليكسيوس كتابا إلى جيراردوس رئيس رهبان كسينو، أظهر فيه أسفه الشديد لما حل بالبابا،
8
ثم كتب إلى السلطات في مدينة رومة، يشكر لهم ثباتهم في تأييد البابا، ويومئ إلى استعداده لقبول التاج الغربي، فأرسل الرومان وفدا إلى القسطنطينية فوعد أليكسيوس بالقيام بنفسه إلى رومة في صيف السنة 1112، ثم ألم به مرض أقعده عن الذهاب إلى رومة فأرسل من ناب عنه في هذه المهمة.
9
وفي أواخر السنة 1112 كتب باسكال إلى أليكسيوس يوجب تسوية الناحية الكنسية من علاقاتهما أولا، ويشير إلى امتناع بطريرك القسطنطينية عن تقبل رسله ورسائله، فيطلب اعتراف «أخيه» هذا بتقدم رومة واحترامه لها قبل الشروع في الدعوة إلى مجمع مسكوني ينظر في حل المشاكل المعلقة،
10
ويلاحظ هنا أن باسكال طالب بالعودة إلى ظروف القرنين السادس والسابع حينما كان الفسيلفس يفرض على بطريرك عاصمته الحلول فرضا، وأنه جهل التطور الذي كان قد تم في علاقات السلطتين الزمنية والروحية في عاصمة الشرق وتبلور الرأي العام فيها وكره الأوساط الإكليريكية والمثقفة لرومة وسياستها، والواقع أن أليكسيوس رد على الوفد البابوي الذي حمل رسالة باسكال هذه ردا مبهما غامضا.
11
بطرس غروسولانوس (1114)
وفي أواخر السنة 1113 أو أوائل السنة 1114 وفد على القسطنطينية بطرس غروسولانوس
Grosolano
رئيس أساقفة ميلان، فأحب أليكسيوس أن يقرب وجهتي النظر في أمر الانبثاق واستعمال الفطير، فدعا إلى طاولة مستديرة غروسولانوس وبعض كبار رجال اللاهوت في العاصمة، فقدم غروسولانوس وجهة نظر رومة،
12
فأثار بذلك عاصفة من الرد شديدة سجل فيها أفستراتيوس متروبوليت نيقية ونقيطاس قونية، والرهبان يوحنا فورنس ويوحنا زونراس والشاعر ثيودوروس بروذروموس، والفيلسوف ثيودوروس أزمير أدلتهم على صحة موقف الكنيسة اليونانية،
13
وأظهر غروسولانوس وضوحا في التفكير والتعبير فيما تعلق بأمر الانبثاق، ولكن حجج زملائه اليونانيين كانت أدق وأكثر اتزانا، واستشهد هؤلاء بأقوال الآباء في استعمال الخمير، ولكنهم لم ينجحوا في إقناع زميلهم اللاتيني، وانفرط العقد دون الوصول إلى نتيجة مفيدة.
14
أفتيميوس زيغابينوس
وأدرك أليكسيوس أنه ابتسر حاجته قبل أوانها، فأوعز إلى لاهوتيه أفتيميوس زيغابينوس
Zigabenos
أن يتحاشى في كتابه البانوبلية
15
البحث في الانبثاق، وأن يقصر خطاه في جولته في الفطير والخمير، ويذكر ذلك في أثناء الكلام عن سوء تصرف الأرمن، ويرى بعض رجال الاختصاص أن ما جاء في البانوبلية عن الانبثاق هو لفوطيوس، وقد دس دسا على مصنف زيغابينوس.
16
حنة كومنينوس
ولا تمثل حنة كومنينوس الكنيسة الأرثوذكسية في تهجمها على أحبار رومة، كما أنها تعتنف الأمور اعتنافا عندما تقول: إن المجمع الخلقيدوني رفع أسقف القسطنطينية إلى أعلى الدرجات وأخضع له جميع أسقفيات المسكونة.
17
بطرس المحترم
وتوفي أليكسيوس وباسكال في السنة 1118، وتبنى الفسيلفس يوحنا الثاني سياسة والده أليكسيوس، فلاطف الغرب ولاينه، وأظهر استعدادا حقيقيا للتعاون مع حبر رومة وإمبراطور الغرب، وحاول ربط أسرته بالأسرات المالكة في الغرب بالتزاوج، وتودد في أوائل عهده إلى أحبار رومة وتمنى التفاهم بين الكنيستين، ولكنه لم يطلق لنفسه العنان في ذلك ولم يربط إكليروسه بشيء.
وبادل بعض كبار الإكليروس في الغرب إخوانهم في الشرق هذا اللطف وهذه الملاينة، ولم يتعرفوا - فيما يظهر - إلى شيء من الانشقاق عنيف عميق، فبطرس المحترم رئيس رهبان كلوتي كتب في السنة 1120 كتابا إلى الفسيلفس يوحنا الثاني راجيا متابعة العطاء لدير كيفيتوت، وحرر - في الوقت نفسه - إلى بطريرك القسطنطينية مؤكدا رغبته في زيارة القسطنطينية «المدينة التي أسسها المسيح وقسطنطين» ليزور كنائسها ويتبرك بذخائرها، ثم يضيف فيقول: «وعندئذ أرى وجهك فأحترم في شخصك جميع أحبار مدينتك المباركين، ونتعاقد برضاك تعاقدا لا ينفك، ونقسم يمين المحبة المتبادلة، وأرجو عندئذ وجها لوجه ما أطلبه الآن عن بعد أن تذكرونا نحن قطيع كلوتي بالمحبة في صلواتكم وصلوات شعبكم، فنبادلك المحبة والصلاة.»
18
أنسلموس ونيقيطاس (1136)
ووفد على القسطنطينية في السنة 1136 أنسلموس أسقف هافلبرج؛ ليفاوض يوحنا الثاني باسم لوثار الثالث إمبراطور الغرب في أمر التعاون ضد روجه الثاني الصقلي، فاستقبل هذا الأسقف الغربي استقبالا حارا وأجيب سؤله السياسي، ثم أفسح له المجال للبحث في الخلاف بين الكنيستين مع نيقيطاس متروبوليت نيقوميذية وبحضور الفسيلفس، وتم الجدال في جو هادئ لطيف، وقام بعمل الترجمة موسى برغامو الإيطالي، فنقل الكلام بدقة ووعي وإخلاص، فسر أنسلموس ثم رفع تقريرا بما جرى إلى البابا أوجينيوس الثالث ضمنه دفاعه عن موقف رومة، وأبان فيه وجهة نظر القسطنطينية.
19
وبحث الأسقفان أمر الانبثاق واستعمال الفطير، فأظهر نيقطاس استعداد القسطنطينية للقول بالانبثاق من الآب «بالابن » لا «والابن»، وأكد في الوقت نفسه وجوب اعتبار ذلك تفسيرا للدستور لا إضافة عليه، وأظهر نيقيطاس تناقضا في موقف بابوات رومة من الفطير، فاستعان بمقاطع من كلام البابوين ميلخيادس وسيريكيوس، مستدلا بذلك على استعمال الخمير في رومة في القرن الرابع،
20
وخلص إلى القول: «نحن لا ننكر تقدم كنيسة رومة بين البطريركيات الأخوات الخمس، ونعترف بوجوب إعطائها مقعد الشرف في المجمع المسكوني، ولكنها فصلت نفسها عنا بأعمالها، فإنها أعطت نفسها بدافع الكبرياء ملكا لا يتفق ووظيفتها. وكيف يمكننا أن نقبل منها أوامر صادرة عنها بدون استشارتنا وبدون علمنا، وإذا كان الحبر الروماني يريد أن يرشقنا بأوامره من عرشه المجيد العالي، ويريد أن يقضي بيننا ويحكمنا تحكما واستبدادا فأي أخوية تصبح كنيستنا وأي أبوية تتصرف بشئوننا؟ وإذا كان هذا هو حالنا فإننا نصبح عبيد الكنيسة لا أبناءها، وتصبح كنيسة رومة سيدة قاسية متجبرة متصلفة على جماعة من الأرقاء لا أما تقية لأولاد لها.»
21
وأجاب أنسلموس بأنه يحق لرومة أن تكون المرجع القضائي الأعلى؛ لأن أحكامها كانت دائما صحيحة، ولأنها لم تقع مرة واحدة في الهرطقة، ثم أردف مبينا حقها في التقدم والسلطة؛ لأنها وريثة بطرس الرسول، ولكن نيقيطاس أكد أن الروح القدس حل على جميع الرسل، وأنه كان لهم جميعا أن يربطوا وأن يحلوا على السواء، ولم ير في الاختلافات الناشئة ما لا يمكن حله في مجمع مسكوني، ولكنه رفض أن يتلقى أوامر من رومة؛ «لأن الحبر الروماني لم يكن أميرا على كهنة أو كاهنا أعظم، وإنما كان أسقف الأبرشية المتقدمة.»
22
وذهب الخرتوفيلاكس نيقيطاس مارونية إلى أبعد من هذا، فلم ير ما يمنع القول بالانبثاق من الآب والابن، ولكنه أنكر على رومة حريتها في التصرف وإضافة عبارة الفيليوكوي إلى الدستور، ولم يرض عن مطالبها الإدارية،
23
ونيقيطاس هذا أصبح فيما بعد متروبوليت تسالونيكية.
الفسيلفس عمانوئيل (1143-1180)
ورأى عمانوئيل الأول رأي والده وجده، فسعى للتفاهم مع رومة في الحقل السياسي، وأحب الغربيين وفروسيتهم، وعلى الرغم من تفاقم البغض بين الروم والشعوب اللاتينية من جراء تصرفات الصليبيين فإنه ظل يواصل الغرب ويفاوضه، وشجع تبادل الرأي في موضع الخلاف بين الكنيستين اليونانية واللاتينية.
أنسلموس وباسيليوس
وفي السنة 1154 وفد الأسقف أنسلموس مرة ثانية على القسطنطينية، وعرج على ثسالونيكية في طريقه إلى الغرب، فباحث متروبوليتها باسيليوس في أمر الانبثاق والفطير، فتبين مرة أخرى أن سبب التباعد الأساسي كان إصرار رومة على السلطة المطلقة والطاعة العمياء،
24
وفي السنة التالية كتب البابا أدريانوس الرابع إلى باسيليوس نفسه بوصية برسله الذاهبين إلى القسطنطينية في مهمة سياسية، وقدم لهذه التوصية بعبارات ملؤها الادعاء بالسلطة كما عرفها غريغوريوس السابع والتنديد بضلال افترضته رومة افتراضا،
25
فأجاب باسيليوس مؤكدا وجوب إلصاق تهمة الضلال باليونانيين عند التثبت من إقدامهم على «تحوير دستور الإيمان واستعمال الفطير!» ثم أضاف أن الاختلاف بين الكنيستين صغير جدا، وأن تلافيه ممكن، بصدق الطوية وجميل النية وبتعاون الأساقفة غربيين وشرقيين، فانجلى الإشكال الذي كان قد رافق التفاوض مدة طويلة، وتبين أن سبب الخلاف إنما كان مطالبة رومة بالسلطة والطاعة وإلحاح القسطنطينية على المساواة والمشاورة،
26
وأن العودة إلى الاتحاد استوجبت تعديلا هاما في موقف كل من الكنيستين.
عمانوئيل وألكسندروس
وظل البابا ألكسندروس الثالث بحاجة إلى من يرفع عنه كابوس إمبراطور الغرب، ومن يدفع عنه شر الخطر النورمندي، وظل الفسيلفس عمانوئيل يحلم بالسلطة على إيطالية والقضاء على فكرة الإمبراطورية الغربية، فجمعت بينهما أواصر المصلحة فتواصلا وتجاملا وتبادلا رسائل المودة،
27
وفي السنة 1166 كتب عمانوئيل إلى البابا ألكسندروس الثالث يعرض اتحاد الكنيستين مقابل اتحاد الإمبراطوريتين، وفي السنة 1169 كتب ثانية يقترح المناداة به إمبراطورا على الغرب لدى دخول جيوشه إلى رومة والمناداة بألكسندروس الثالث نفسه بطريركا على القسطنطينية، وذلك لمناسبة وفاة البطريرك لوقا وشغور الكرسي القسطنطيني، فأجاب ألكسندروس بأن وصوله إلى عرش القسطنطينية ليس ضروريا، وأنه يكتفي بالاعتراف بتقدمه، وبوجوب الترافع أمامه وبذكر اسمه في ذيبتيخة القسطنطينية،
28
وكان بمقدور عمانوئيل أن يحقق اثنين من هذه المطالب: تقدم رومة، وذكر حبرها في ذيبتيخة القسطنطينية، ولكن أمر الترافع أمام البابا كان قد أصبح مستحيلا.
ولم يتمكن عمانوئيل من تأجيل الانتخاب البطريركي إلى أمد غير محدود، فتبوأ السدة القسطنطينية ميخائيل الثالث (1169-1177) «مقدام الفلاسفة»، واطلع هذا البطريرك على رسالة ألكسندروس الثالث فأعد ردا شديدا على محتوياتها، وحصر البحث في حجة رومة التاريخية؛ أي تقدم بطرس على غيره من الرسل ووجوب تقدم خلفائه على خلفاء غيره، فأشار إلى علاقة بطرس بكنيسة أنطاكية وأسبقية هذه الكنيسة التاريخية. وذكر تقدم كنيسة أوروشليم على أخواتها في أنها تشرفت بعناية السيد بها، وأنها شهدت عجائبه وتلقت تعاليمه. وأكد أن تقدم كنيسة رومة على سائر الكنائس نتج عن وجودها في أهم مدن الإمبراطورية الرومانية، وأضاف أن القسطنطينية أصبحت مركز العالم المسيحي بأسره، وأنها تفوق رومة في الأهمية، وخلص إلى القول: إن ظروف الحاضر تقضي بأن تكون القسطنطينية مركز إدارة الكنيسة الجامعة لا رومة، ومما جاء في رده هذا قوله: «ليكن المسلم لا اللاتيني مدبر أموري المادية، فالأول لا يكرهني على الدخول في دينه، وأما الثاني فإنه يبعدني عن الله.»
29
أما القول: «إني أؤثر عمة السلطان على قبعة الكردينال.» فإنه متأخر يعزى إلى الغراندوق لوقا نوتاراس.
اغبرار الجو وانفصام العرى
وتوفي عمانوئيل في السنة 1180، ففقد اللاتين بوفاته مناصرا حكيما، وفقد الصليبيون بوفاته مساندا كريما بذل بسخاء في سبيل زعمائهم مرارا وتكرارا، وكان عمانوئيل قد أعجب بفروسية الإفرنج فقبلهم في جيشه وأسند إليهم عددا كبيرا من المناصب العالية، فأثار بذلك حسد زملائهم الروم، وعطف على التجار الإيطاليين فكثر عددهم في العاصمة، واستولوا على مرافقها فأثارت كبرياءهم غضب التجار الروم.
30
ولم يكن لعمانوئيل من امرأته الألمانية الأولى سوى بنت واحدة، سماها حنة وأزوجها في السنة 1178 من الأمير الإيطالي رينه مونتي فرات
Rainier de Monteferrat ، وكان له ابن من زوجته الثانية مريم الأنطاكية اللاتينية اسمه أليكسيوس، وكان هذا لا يزال قاصرا في الثانية عشرة من عمره، فلما توفي عمانوئيل نفذت مريم الأنطاكية وصية زوجها، فتردت بثوب الرهبنة وتولت الوصاية على ابنها القاصر، وطلبت إلى أليكسيوس ابن أخي زوجها المتوفى أن يساعدها في الحكم، ولم يرض جمهور من الأشراف ورجال القصر عن سياسة أليكسيوس المساعد؛ لعطفه على اللاتين وتعاونه معهم، واتهموا الفسيلسة الجميلة بأشياء وأشياء منها عطفها على بني جنسها اللاتين، فتآمروا جميعا واندلعت ثورة في أيار السنة 1181 وتدخل البطريرك ثيودوسيوس وصالح الحزبين.
وكان لعمانوئيل ابن عم اسمه أندرونيكوس، وكان قد تآمر على سلامة ابن عمه الفسيلفس، فاضطر أن يفر من وجهه. وإذ رأى أندرونيكوس الأمور على ما كانت عليه في القسطنطينية؛ أعلن العصيان، فالتف حوله جيش من المحاربين القدماء وقام بهم إلى العاصمة، فطلب طرد مريم أنطاكية وعشيقها، وبقاء الملك في يد ابنها أليكسيوس الصغير، فساعده الشعب على ذلك، فأيد الإفرنج الساكنون في العاصمة مريم فأعلنها أندرونيكوس حربا دينية قومية باسم الروم والأرثوذكسية، فكانت مجزرة في العاصمة سقط في أثنائها معظم الإفرنج من سكانها.
31
وجاش صدر اللاتين بالغل وباتوا يخاتلون، وقطع البابا علاقاته مع القسطنطينية ودفع ملك المجر بجيوشه إلى ضفة الدانوب، وشجع فريدريكوس بارباروسة إعداد حملة تقتص من الروم في عقر دارهم، وقام غليلموس الثاني الصقلي على رأس جيش إلى البلقان وحاصر ثسالونيكية (1185) فدخلها وقتل ونهب وأحرق، ودخل رجاله الكنائس بسيوفهم يشوشون ويطئون حيث لا يجوز، ويكسرون ويسلبون. وفي أواسط أيلول زحفوا إلى القسطنطينية، وكان أندرونيكوس في جزائر الأمراء يتنعم ويتلذذ، فقام إسحاق أنجيلوس وضم الشعب إليه واستولى على القصر المقدس وهب يسعى في قتال النورمنديين فضربهم ضربة قاضية عند ديمترتزة
Dimitritza
فأخلوا وتراجعوا ووقعوا الصلح.
32
إسحاق وصلاح الدين
وعاد إسحاق إلى مواصلة الغرب فحالف البنادقة وعوض على الجنويين والبيزيين،
33
وخطب ود رومة وفاتحها الكلام في الائتلاف وجمع الشمل،
34
ولكن تطور الموقف في الشرق وعودة الأتراك السلاجقة إلى التوسع والنهب والسلب؛ اضطراه اضطرارا إلى التحالف مع صلاح الدين عدو الصليبيين الألد. ولما سقطت أوروشليم في يد صلاح الدين سنة 1187 عاد إليها بطريرك أرثوذكسي هو أثناسيوس الثاني، فعرض اللاتين لإسحاق بالنكير وقبحوا فعله واعتبروه خائنا لا يرعى ميثاقا.
موقف البطريرك الأنطاكي (1185-1199)
وتسنم السدة البطريركية الأنطاكية في هذه الفترة بلسمون الشهير (ثيودوروس الرابع)، واضطر هذا الحبر أن يبقى في القسطنطينية؛ لأن السلطات اللاتينية الروحية والزمنية كانت قد اغتصبت عرش أنطاكية اغتصابا، وكان بلسمون عالما فاضلا وقانونيا كبيرا فساءه هذا الاغتصاب وأغضبته مطالب رومة، وصنف في النوموقانون - كما سبق وأشرنا - واجتهد في علاقة السلطات الزمنية بالروحية، فقال بوجوب تعاونها لخير الشعب والدولة، ولكنه ميز الفسيلفس فاعتبره مسئولا عن الدنيا والدين، وجعله فوق الشرائع والقوانين، لا يخضع إلا للعقيدة المقدسة - كما أقرتها المجامع المسكونية السبعة.
والفسيلفس في نظر بلسمون أعلى من البابا، ولا يجوز له إكراه الكنيسة اليونانية على الخضوع إلى كنيسة رومة؛ لأنه بعمله هذا يسخر بقرارات المجامع السبعة ويهينها، وهذه المجامع أقامت سلطة بطريركية مخمسة، وأقرت دستورا للإيمان عبثت به رومة، فأضافت إليه.
35
وكتب مرقس بطريرك الإسكندرية إلى بلسمون؛ يستشيره ما إذا كان يجوز له ولكهنته أن ينالوا اللاتين، فأجابه بلسمون «بأن الكنيسة الغربية فصلت نفسها عن البطريركيات الأربع فأصبحت غريبة عن الأرثوذكسية وسقط اسم رئيسها من الذيبتيخات، وهكذا فإنه لا يجوز أن يناول اللاتيني إلا بعد امتناعه عما يفصله عنا واعترافه بالخضوع لقوانين الكنيسة متحدا مع الأرثوذكسيين». ولم يطلب بلسمون إعادة معمودية اللاتين، ولم يعتبرهم هراطقة كاليعاقبة والنساطرة، ولكنه حكم عليهم بالانشقاق.
36
واشتهر بلسمون بعلمه وفضله، فشاع رأيه، وقال قوله عدد كبير من معاصريه، فاعتبر الروم اللاتين منشقين منفصلين عنهم، ولكنهم لم يجمعوا على ذلك، فإن عددا من رجال ذلك العصر خالفوا بلسمون في اجتهاده وأعلنوا مخالفتهم، وأشهر هؤلاء ذيمتريو خوماتيانوس
Chomateanos ، فقد عارض هذا الباحث البطريرك الأنطاكي ولم يرض عن مقاطعة اللاتين قبل النظر في أمرهم في مجمع مسكوني.
37
ويروى عن بلسمون أنه سمح باستعمال السريانية في جميع كنائس أنطاكية؛ ليسهل بذلك عودة اليعاقبة إلى حضن الكنيسة الأم، وكان قد كثر رجوعهم في القرنين الحادي عشر والثاني عشر وأكثرهم يجهل العربية واليونانية. وفعل البطريرك ذلك؛ عملا بوصية الرسول القاضية بجعل الصلاة بلغة يفهمها الشعب، واستمر دخول اليعاقبة في الأرثوذكسية فيما بعد . ومن هنا هذه المخطوطات الكنسية الأرثوذكسية بالسريانية وحدها، أو بالسريانية واليونانية، أو بالسريانية واليونانية والعربية، وقد رأينا واحدة من النوع الثالث في طرابلس، تعود إلى السنة 7188؛ أي 1680.
وقد يفيد من يدعي أن اللغة السريانية كانت لغة كنسية أنطاكية الغالبة بدليل وجود مثل هذه المخطوطات أن يعلم أن الكتب الكنسية باللغة الكرجية كثيرة نسبيا في دير المصلبة ودير القديس سابا بفلسطين، فهل هذا يعني بأن الكرجية كانت اللغة الغالبة في كنيسة أوروشليم، وهل وجود المخطوطات السريانية في دير القديسة كاترينة في سينا يعني أن اللغة السريانية كانت لغة هذا الدير؟
الصليبيون وكنيسة قبرص
وكان إسحاق دوقاس كومنينوس قد استأثر بالسلطة في جزيرة قبرص، ثم أعلن نفسه فسيلفسا مستقلا وحالف الصقليين والأرمن وصلاح الدين، وكانت الأنواء قد هبت شديدة فقذفت بمراكب ريكاردوس قلب الأسد إلى جزيرة كريت فجزيرة رودوس، وجنحت سفينتان عند سواحل قبرص فيهما خطيبة ريكاردوس وأخته (1191)، ولم يحسن إسحاق السياسة، فأسرع ريكاردوس غاضبا إلى قبرص وخرج إليها بعساكره وحبس فسيلفسها واقترن بخطيبته فيها، وصادر نصف أملاك الجزيرة وأقطعه إلى رجال حملته،
38
واشترى غي ده لوزينيان جزيرة قبرص من ريكاردوس قبل رحيله لبلاده، وأنشأ ملكا له فيها وأدخل قوانين وعادات إقطاعية ظلت قائمة في الجزيرة حتى ملكها الأتراك العثمانيون.
وأدى احتلال قبرص إلى إخضاع إكليروسها أساقفة وكهنة إلى السلطات اللاتينية الروحية، وتقاسى هؤلاء وتصلفوا ولجئوا إلى العنف أحيانا وإلى إعدام الكهنة الأرثوذكسيين أحيانا أخرى!
39
وشاعت أخبار القساوة والعنف والقتل في جميع الأوساط الأرثوذكسيين، فأوغرت الصدور واستوقدت الغيظ وزادت الانشقاق اتساعا.
أليكسيوس الثالث وأنوشنتيوس الثالث: واعتبر اللاتين الروم منشقين أيضا، وامتنعوا عن اعتبار القسطنطينية مدينة مقدسة كما فعلوا في بدء الحروب الصليبية، وسنسمعهم يتغنون بعد الاستيلاء على القسطنطينية (1204) بالمقطع:
Constantinopolitana
Civita diu profana.
القسطنطينية
المدينة الشريرة.
40
وعلى الرغم من هذا ظل البابا والفسيلفس متواصلين، تربطهما مصلحة الصمود في وجه العدو الألماني الإمبراطوري المشترك، فأليكسيوس الثالث الذي رقي العرش احتجاجا على سياسة العطف على اللاتين فاوض البابا كيليستينوس الثالث وتوصل إلى تفاهم متبادل معه،
41
وتوفي هنريكوس السادس الإمبراطور الألماني في السنة 1197، فخلفه أخوه فيليبوس السوابي فتشوف إلى المطامع نفسها التي كان يطمح إليها أخوه، وكان قد تزوج من بنت إسحاق أنجلوس الفسيلفس المخلوع فأضاف إلى مطامع أسرته التقليدية حق الدفاع عن حق مسلوب، فلما تبوأ أنوشنتيوس الثالث السدة الرومانية في السنة 1198 كتب أليكسيوس الفسيلفس إليه مهنئا مقترحا عقد تحالف سياسي،
42
فرحب البابا باقتراح الفسيلفس، ولكنه استصعب التحالف مع أمير لا تعترف كنيسته بسلطة رومة، ثم أشار الوفد الروماني على الفسيلفس بإرجاع ابنة الكنيسة إلى حضن الكنيسة الأم، وبالتعاون في حرب صليبية جديدة،
43
فأكد أليكسيوس استعداده للتعاون في حملة صليبية جديدة، ولكنه أسف لأعمال اللاتين في قبرص، ثم أضاف «أن اتحاد الكنائس يسهل عندما ترضخ المشيئة البشرية لمشيئة الله؛ أي عندما يلتئم مجمع مسكوني ليعمل بإلهام الروح القدس».
44
البطريرك يوحنا العاشر (1199-1206)
وأعد البطريرك القسطنطيني يوحنا العاشر
Kamateros
رسالة وجهها إلى البابا أنوشنتيوس الثالث، ومما جاء في هذه الرسالة أن الكنيسة الأم هي كنيسة أوروشليم لا كنيسة رومة، وأنه إذا كان أحد قد جرؤ على تمزيق قميص السيد المخلص فإنما هو رومة نفسها، فهي التي غيرت دستور الإيمان بعد أن وقعته وقالت به زمنا طويلا.
45
ورد أنوشنتيوس على هذا الخطاب ردا لطيفا، فأبان أن كنيسة رومة هي أم الكنائس احتراما لا عمرا، وأكد للفسيلفس استعداده للاشتراك في مجمع مسكوني بعد اعتراف كنيسة القسطنطينية بسلطة رومة،
46
فأبعد بقوله هذا كل إمكانية للاتحاد.
الحملة الصليبية الرابعة (1203-1204)
واطلع أنوشنتيوس الثالث على شروط معاهدة الرملة (1192)، فأسف كل الأسف وهب يستنهض الهمم لتأليف حملة صليبية رابعة، وكان أنوشنتيوس عالما ذكيا حازما قويا، ورأى أن من الواجب على كل نصراني أن يخف لنصرة الصليب فبث رسله في جميع أنحاء أوروبة لترويج دعوته، ولكن أحدا من كبار الملوك لم يلب النداء؛ ففيليب الثاني ملك فرنسة كان لا يزال تحت الحرم لهجره زوجته الثانية وتزوجه من ثالثة، وكان يوحنا الثاني ملك إنكلترة لا يزال في خصام شديد مع أشراف بلاده وأعيانها، وكانت قد نشأت مشادة عنيفة في ألمانيا لتسنم العرش الإمبراطوري بين فيليبوس السوابي وأوثون الرابع، بيد أن هذا كله لم يمنع الفرسان الغربيين عن تقبل الدعوة.
وألمع من حمل الصليب لهذه المناسبة شيخ البندقية هنريكوس دوندولو
Dandolo
الأعمى، وكان قد عرف القسطنطينية حق المعرفة وفقد بصره فيها عندما حول بعض الروم نور الشمس إلى عينيه بمرآة مقعرة، فغضب وحقد وأضمر السوء. وكان سياسيا محنكا ومفاوضا حاذقا، فلبى نداء البابا؛ ليقضي على دولة الروم ويستأثر بتجارتها،
47
وكان بين اللامعين بونيفاتيوس مونتي فرات الذي تسلم قيادة الحملة في حزيران السنة 1201، وطمع بونيفاتيوس في عرش القسطنطينية؛ لانتسابه إلى الأسرة المالكية بالمصاهرة، ولشدة إعجابه بنفسه، وهو الذي تظاهر بالدعوة لتحويل الحملة على القسطنطينية يوم كان الرجال الصليبيون لا يزالون في كورفو،
48
وممن رشح نفسه لعرش القسطنطينية قبل قيام الحملة الرابعة فيليبوس السوابي؛ فإنه أظهر رغبته في تحقيق حلم أسرته منذ السنة 1202.
49
وقد اختلف رجال الاختصاص في أسباب تحول الصليبيين عن الأراضي المقدسة إلى القسطنطينية، فقام في السنة 1861 ماسلاتري الإفرنسي يتهم البندقية بالوصول إلى تفاهم سري سابق مع سلطان مصر لتحويل هذه الحملة عن أراضيه وممتلكاته،
50
وأيد قوله كارل هوبف الألماني فحدد تاريخ هذه المعاهدة السرية، وجعله في الثالث عشر من أيار سنة 1202،
51
وفي السنة 1875 قام الكونت دي ريان الإفرنسي يلقي المسئولية في هذا التحول على عاتق فيليبوس السوابي، فيجعل التحول مظهرا من مظاهر النزاع بين الإمبراطور الغربي والبابا،
52
والواقع أن كلا من هؤلاء كان له مطمعه، وأن أنوشنتيوس الثالث أرادها حربا صليبية حقيقية، ولكن ظروفا نشأت في آخر ساعة شجعت الطامع على الجهر بمطمعه، فالحملة تجمعت في البندقية في شهري تموز وآب من السنة 1202، والصليبيون عجزوا عن دفع نفقات السفر، فانتهز دندولو الفرصة واقترح تدويخ زارة عبرة الأدرياتيك لحساب دويلته، فقام الصليبيون إلى زارة، وعبثا حاول أهلها إظهار شعائر النصرانية على الأسوار،
53
والواقع أيضا أنه في أثناء السنة 1202 أفلت أليكسيوس أنجلوس ابن إسحاق الثاني من السجن الذي كان قد أودع فيه، وجاء صقلية ثم رومة يستعطف السلطات الزمنية والروحية على قضيته، ثم اتجه شطر ألمانية يستعين بشقيقته إيرينة زوجة فيليب السوابي، فأوفد فيليب وفدا إلى زارة يوصي البنادقة والصليبيين بأليكسيوس، فتفتحت أمام دندول وبونيفاتيوس آفاق جديدة وهب كل منهما يقنع الصليبيين بالقبول، ووعد أليكسيوس بدفع مبلغ كبير من المال مقابل معونته، وأظهر استعداده لإدخال كنيسة الروم في طاعة البابا واشتراكه اشتراكا فعليا في الحرب المقدسة.
54
وأقلع الصليبيون إلى القسطنطينية أولا فظهر أسطولهم أمام أسوارها في 24 حزيران سنة 1203، وقطعوا السلاسل الحديدية التي حمت مدخل القرن الذهبي، فدخلت مراكب البنادقة وأحرقت مراكب الروم، ثم اقتحم الفرسان الصليبيون أسوار العاصمة فاستولوا على المدينة في تموز من السنة نفسها، وفر أليكسيوس الثالث بخزينة الدولة وجواهرها، وأطلق سراح إسحاق الثاني وأعلن ابنه أليكسيوس الرابع شريكا له في الحكم، وطالب الصليبيون بتنفيذ المعاهدة؛ أي بدفع المال المتفق عليه، وبإعداد قوة تقوم معهم إلى الأراضي المقدسة، فاستمهلهم أليكسيوس ورجاهم أن يقيموا خارج أسوار العاصمة، وامتعض الروم من اللاتين الفاتحين واتهموا إسحاق وابنه بالخيانة، وهب صهر أليكسيوس الثالث، وهو أليكسيوس دوقاس، إلى السلاح، فكانت ثورة أدت إلى وفاة إسحاق وخنق ابنه أليكسيوس الرابع، ونودي بأليكسيوس دوقاس فسيلفسا، فعرف باسم أليكسيوس الخامس.
وفي آذار السنة 1204 وقع الصليبيون والبنادقة اتفاقا فيما بينهم لاقتسام الإمبراطورية الشرقية بعد احتلال العاصمة، وقضت شروط هذا الاتفاق بأن تقام في العاصمة حكومة لاتينية، وأن تقسم الغنائم فيما بين الطرفين، وأن تتولى لجنة مؤلفة من ستة بنادقة وستة صليبيين أمر انتخاب إمبراطور «يحكم لمجد الله ومجد الكنيسة ومجد الإمبراطورية»، واتفق الطرفان على أن يحكم هذا الإمبراطور ربع العاصمة وربع الدولة التابعة لها وعلى تقسيم ما بقي من العاصمة وأراضي الدولة مناصفة بين البنادقة وبين الصليبيين.
55
ثم حاصر الصليبيون القسطنطينية، وفر أليكسيوس الخامس، فتدفقوا إليها في الثالث عشر من نيسان سنة 1204 مقتلين فاتكين ناهبين، واشترك في القتل والنهب الرهبان والأساقفة! ورموا الأيقونات رميا مهينا ونثروا عظام القديسين المجاهدين، ودلقوا جسد الرب ودمه على الأرض وأخذوا الآنية المقدسة ليشربوا منها خمرهم. وفي كنيسة الحكمة الإلهية كسروا المائدة المقدسة وحطموا الأيقونوستاس والمنبر ليأخذوا الفضة التي كانت تغطيهما، وأدخلوا بغالهم إلى حد أقداس الهيكل، وأجلسوا امرأة فاحشة على الكثيدرة، واعتبر الأب مرتينوس رئيس دير باريس
نفسه مترفعا ؛ لأنه لم ينهب سوى الكنائس! وأحرقوا عددا كبيرا من المخطوطات اليونانية والكتب المقدسة!
56
وخاضوا في الباطل، وتتابعوا في الضلال فارفض صبر الإكليروس اليوناني، فكتب هؤلاء إلى أنوشنتيوس نفسه يصفون ما حل بالكنائس ويرجون رد الجماح والقبص على المنكر.
57
أنوشتنيوس وكنيسة القسطنطينية
والتأمت لجنة الانتخاب فأقامت بلدوين قومس فلاندر إمبراطورا على القسطنطينية، وتسلم إكليروس البندقية كنيسة الحكمة الإلهية، وأقاموا توما موروسيني بطريركا على القسطنطينية وتوابعها، وفر البطريرك الشرعي يوحنا العاشر إلى مدينة ذيذيموتيخوس وأقام فيها، ثم استعفى وتوفي في السنة 1206.
ولم يرض أنوشنتيوس عن حصار زارة وعن اقتحام القسطنطينية؛ لأن الحملة أعدت للعمل في الأراضي المقدسة،
58
ولم يرض أيضا عن انتخاب توما موروسيني بدون موافقته،
59
ولكنه سر بوصول بلدوين إلى عرش القسطنطينية، وبدخول الإمبراطورية الشرقية وكنيستها في حوزة رومة، واعتبر ذلك أعجوبة بهية
Magnifica Miracula ،
60
ثم تواردت أخبار الفظائع وتفاصيلها، فكتب يشجب ويستنكر،
61
ولكن الروم - إكليروسا وشعبا - لم ينسوا ابتهاجه وأعجوبته البهية، واتهموه بالتصنع والمداهنة، واعتبروه مسئولا عن كل ما جرى.
62
وعلم أنوشنتيوس أن ليتنة شعب بكامله غير ممكنة، فأوصى بملاطفة الأساقفة اليونانيين، وبعدم التسرع في سيامة أساقفة لاتينيين، ولكنه أوجب على الأساقفة اليونانيين أن يقسموا بما يلي:
أقسم بالطاعة والولاء لبطرس الرسول، وللكنيسة الرومانية المقدسة، وللكرسي الرسولي، ولسيدي أنوشنتيوس وخلفائه الكاثوليكيين، وأدافع قدر المستطاع عن ممتلكات بابا رومة وشرفه وحرمته، وإلى الدعوة إلى المجامع عندما يطلب ذلك مني، وأزور البلاط البابوي
ad limina
إما بشخصي وإما بمن ينوب عني، وأستقبل باحترام القاصد البابوي، وأعاونه في كل شيء.
63
وكتب أنوشنتيوس إلى بطريركه الجديد موروسيني، يوصيه بالاعتراف بالسيامات الأرثوذكسية القديمة، ولكنه يوجب سيامة المستجدين بالطريقة اللاتينية، ويؤكد وجوب ذكر اسمه واسم البطريرك اللاتيني في جميع الذيبتيخات.
64
وتجاهل أنوشنتيوس أمورا، أهمها: أن الصليبيين لم يتمكنوا من احتلال جميع الإمبراطورية الشرقية، وأنه قام على أنقاضها دويلات ثلاث مستقلة كل الاستقلال، وأنه كان بإمكان الأساقفة اليونانيين أن يلجئوا إلى هذا الدويلات - ولا سيما دولة نيقية - وأن معظم الأمراء الصليبيين كانوا بعيدين عن المسيح، رعناء، لا يرون إلا قضاء حاجاتهم المادية.
والواقع أن عددا كبيرا من الأساقفة الأرثوذكسيين تركوا أبرشياتهم والتحقوا بالسلطات اليونانية المستقلة. وفي السادس من شباط سنة 1206 اجتمع في نيقية كبار رجال الدين وأعيان الأمة، ودعوا يوحنا العاشر البطريرك المسكوني للاجتماع معهم، فلما أرسل هذا استعفاءه انتخب الأساقفة المجتمعون ميخائيل الرابع (بافتوريانوس) بطريركا مسكونيا ونصبوه في العشرين من آذار، ثم أقاموا بعد وفاته (1212) ثيودوروس الثاني (أرينيكوس)، ثم مكسيموس الثاني في السنة 1215، ثم عمانوئيل الأول (1215)، فجرمانوس الثاني (1222).
وكان من بقي من رجال الإكليروس في داخل الدويلة اللاتينية الجديدة قد رأى أن تبقى رومة على تقاليدهم وطقوسهم مقابل الاعتراف بسلطتها، فحرروا في السنة 1206 رسالة إلى أنوشنتيوس أظهروا فيها استعدادهم للاعتراف به بابا وثالث عشر الرسل، ولكنهم رجوه أن يكون لهم بطريرك من أبناء جنسهم، يتكلم لغتهم ويعرف تقاليدهم وطبائعهم، فامتنع أنوشنتيوس فاضطروا أن يؤيدوا المتطرفين منهم، وأن ينزحوا إلى نيقية وغيرها، وأن يشتركوا في انتخاب بافتوريانوس،
65
ولم ينعم أنوشنتيوس بموهلة المحبة ولم يفسح المجال لعمل الروح القدس، فكتب إلى الفسيلفس الجديد موبخا مكدرا، فأضاع بقلة محبته فرصة سانحة لتوحيد الصفوف.
66
سمعان الثاني البطريرك الأنطاكي (1206-1240)
وتوفي ولي العهد في أنطاكية ريموند بن بوهيموند الثالث في السنة 1197، فاختلفت كلمة الأنطاكيين في ولاية العهد وتعارضت أهواؤهم واضطرب حبلهم، فابن ريموند من زوجته الأرمنية كان لا يزال طفلا، وكان بوهيموند الثالث الأمير الحاكم قد ناهز الستين، فخشي ألا يطول أجله، وأن يتولى الأرمن الوصاية على الوريث الطفل، فأرسل كنته أليس الأرمنية وابنها الطفل إلى أرمينية وراح يدرس قضية الخلافة، وكان لبوهيموند الثالث أمير أنطاكية ابن آخر اسمه بوهيموند أيضا، وكان أميرا على طرابلس، فلما علم بوفاة أخيه ولي العهد في أنطاكية طمع في أنطاكية ورغب في حكمها، وكان كثير المراغب واسع المطامع متضلعا في القانون يجيد الدفاع عن نفسه والإفتاء بما يشاء، وكان قد طمع في أوقاف كنيسة طرابلس ، ودخل في نزاع حول ذلك مع أسقفها بطرس، وكان بطرس هذا قد أصبح بطريركا على أنطاكية
(1196-1908)، فلما شعر بما قد يئول إليه عرش الإمارة الأنطاكية ثار ثائره وهب يعاكس بوهيموند أمير طرابلس، وكان أنوشنتيوس الثالث يتطلع إلى ليتنة الشرقة بكامله، وكان قسم من الأرمن قد خضع لرومة - كما سبق وأشرنا - فشمل البابا أنوشنتيوس الأمير الطفل وأمه أليس الأرمنية بعطفه، ودافع عن حقوقهما في الحكم، فاستحكم الشقاق بين أنوشنتيوس البابا وبطرس البطريرك وبين بوهيموند الطرابلسي وأمسوا لا تجمعهم جامعة، وكره اللاتين الأنطاكيون الأرمن، ومالوا إلى الروم في أنطاكية ليستعينوا بهم.
وفي نيسان السنة 1201 توفي بوهيموند الثالث أمير أنطاكية، فجاء ابنه بوهيموند الرابع واستولى على زمام الأمور، وصادق الظاهر ملك حلب ليستعين به على لاوون الأرمني خصمه الجديد، وتدخل البابا أنوشنتيوس الثالث في النزاع الأنطاكي، وأرسل الرسل للنظر في هذا النزاع وحله، فقبل الأرمن وامتنع بوهيموند؛ مدعيا أن لا علاقة للكنيسة بنزاع إقطاعي صرف، وفي السنة 1203 طلب لاوون الأرمني إلى البابا أن يتولى شئون الكنيسة الأرمنية مباشرة.
وكان من حسن حظ بوهيموند الرابع أن تعارضت أهواء البطريرك بطرس في السنة 1205 بآراء القاصد الرسولي، وذلك حول سيامة أرشيدياكون أنطاكية، فاستغل بوهيموند هذا النزاع وخلع بطرس خلعا في السنة 1206 ودعا سمعان الثاني البطريرك الأرثوذكسي لإدارة شئون الكنيسة، فرأب أنوشنتيوس بين البطريرك والقاصد، وأوجب مقاومة سمعان البطريرك الأنطاكي وصديقه بوهيموند، فحرم بطرس البطريرك اللاتيني بوهيموند ومن شد أزره، فغصت كنائس الروم باللاتين، فلجأ بطرس إلى الدس والمؤامرة ودبت عقاربه بين القوم، ثم لجأ إلى العنف فأدخل بعض الفرسان الموالين له وحاول قلب الحكم، فأمر بوهيموند به فحوكم وسجن وتوفي في السنة 1208.
67
وراع أنوشنتيوس عودة الروم إلى كرسي الرسولين فأوعز إلى بطريرك أوروشليم اللاتيني أن يحرم بوهيموند ففعل في السنة 1208، وفي أوائل السنة 1209 عين البابا بطرس أسقف إيغري بطريركا على أنطاكية، وأعلم بوهيموند بذلك وأوجب الاعتراف بالبطريرك الجديد بطرس الثاني وهدد بالحرم، فأبى بوهيموند الخضوع لبطريرك اللاتين وحرض الإكليروس اليوناني عليه، ثم رأى أنوشنتيوس أن تعرض قضية الخلافة في أنطاكية على محكمته العليا في رومة، فأجاب بوهيموند أن حق النظر في هذه القضية يعود إلى البلاط البيزنطي،
68
وظل سمعان الثاني البطريرك الشرعي يدير دفة الأمور الكنسية في أنطاكية حتى السنة 1213، وأطلق أنوشنتيوس لنفسه عنان هواه فكتب إلى الملك الظاهر في حلب يرجو الحماية لبطريرك اللاتين في أنطاكية!
69
وتبدلت الأوضاع السياسية وأصبح بطريرك أوروشليم ألبرتوس صديق الهيكليين أصدقاء بوهيموند، فاعترف بوهيموند بالبطريرك اللاتيني الأنطاكي الجديد، فابتعد مناظره الأرمني لاوون عن رومة ففاوض فسيلفس نيقية ورحب بسمعان الثاني ودعاه للإقامة في ربوعه في قيليقية، وأعاد إلى الكنيسة الأنطاكية الأراضي التي كانت قد سلخت عنها ووضعت تحت تصرف اللاتين.
70
الهيرارخية الأنطاكية
ولا يجوز البت في تسلسل السلطة البطريركية الأنطاكية في هذه الحقبة، فالمراجع لا تزال متضاربة في نصوصها، ولم يقم أحد بعد لجمعها والنظر فيها بالطريقة العلمية الحديثة، فقسطنديوس القسطنطيني الذي اعتمد محفوظات البطريركية المسكونية يذكر يواكيم بعد ثيودوروس الرابع (بلسمون)، ويجعل مدة رئاسته تمتد من السنة 1199 حتى السنة 1219، ثم يذكر دوروثايوس (1219-1245) فسمعان الثاني (1245-1260) فأفتيميوس الثاني (1260-1268)، فثيودوسيوس الرابع (1269-1276) فأرسانيوس (1285)،
71
واعتمد لوكيان الغربي نيقيفوروس كاليستوس فذكر داود بعد سمعان (الثالث) فأفتيميوس فثيودوسيوس الخامس فأرسانيوس.
مجمع نمفية (1234)
وانطلق من الأسر في قونية في السنة 1232 خمسة رهبان فرنسيسكانيين، فجاءوا نيقية وفاتحوا البطريرك المسكوني جرمانوس الثاني في اتحاد الكنيستين، فسر البطريرك بهم واطلع الفسيلفس يوحنا الثالث باطاجي
Vatatzes
على ما اقترحوه فوافق الفسيلفس، فكتب جرمانوس إلى البابا غريغوريوس التاسع، فجاء نيقية في السنة 1234 وفد بابوي لهذه الغاية، مؤلف من راهبين فرنسيسكانيين وراهبين دومينيكانيين، وكان بين المفاوضين الأرثوذكسيين بالإضافة إلى جرمانوس نيقيفوروس البلميذي، ولعل أفتيميوس الأنطاكي اشترك أيضا في أعمال هذا المجمع. وأظهرت رومة استعدادها للاعتراف بجرمانوس، واقترح الفسيلفس التسامح في أمر الفطير شرط التمسك بنص دستور الإيمان وحذف العبارة «والابن» عند الكلام عن الانبثاق. وارتأى نيقيفوروس البلميذي أن «يفسر» الدستور بالقول بالانبثاق من الآب بالابن، فرفض الوفد الروماني كل هذا وأصروا على الخضوع لرومة، فبدا من الطرفين ما دعا إلى التحذر، واكفهر الجو فانسحب الرهبان الغربيون غاضبين ساخطين، فنعتهم الأساقفة الشرقيون بالهرطقة فردوا بمثل ما نعتوا به،
72
فكتب عندئذ جرمانوس مصنفه الشهير في انبثاق الروح القدس.
73
البطريرك الأنطاكي داود (1240-1247)
وتفيد المراجع الغربية أنه لدى وفاة سمعان الثاني رقي السدة الرسولية الأنطاكية داود، وأن داود هذا قبل اقتراح الموفد الروماني لورنزو أورطة بأن يستقل الروم بإدارة شئونهم الكنسية، وأن يتمتعوا بامتيازات اللاتين، شرط اعترافهم بسلطة رومة. وتضيف هذه المصادر أن هذا الترتيب الجديد لاقى نجاحا كبيرا في أنطاكية، وأن بطريرك الروم أصبح هو البطريرك النافذ المطاع، وأن زميله اللاتيني آثر الإقامة في أوروبة تاركا وراءه في أنطاكية نائبا بطريركيا.
74
مشروع أنوشنتيوس الرابع (1253)
ورغب أنوشنتيوس الرابع (1242-1254) في فصم التحالف بين الروم والألمان، وأحب أن يتم اتحاد الكنيستين على يده ولمس ضعف اللاتين في القسطنطينية واحتضار دولتهم فيها، فعدل موقف سلفائه ونهج نهجا جديدا، وفاوض الروم على أساس الاعتراف برئاسته والقبول بكل ما يقره ما دام لا يخالف بذلك قرارات المجامع المسكونية ورفع القضايا التي تتعلق بكبار رجال الإكليروس إليه، وإلغاء إمبراطورية اللاتين وعودة بطريرك الروم إلى القسطنطينية، وتلاوة قانون الإيمان في الشرق بدون إضافة «والابن» إليه، وكاد التفاهم يتم بين الطرفين، وأم رومة وفد يوناني مفاوض مطلق الصلاحية، ولكن البابا والفسيلفس توفيا في السنة 1254.
75
نيقية تفاوض رومة
وفي السنة 1256 أرسل ثيودوروس الثاني لأسكاريس نبيلين من نبلاء الروم إلى رومة ليعلما حبرها ألكسندروس الرابع باستعداد سيدهما للمفاوضة في سبيل اتحاد الكنيستين، فأوفد ألكسندروس أسقفا اسمه قسطنطين إلى نيقية لهذه الغاية، وخوله حق الدعوة إلى مجمع مسكوني واتخاذ الإجراءات التي يراها مناسبة، ويرى رجال الاختصاص أن الطرفين اتفقا على أن تتم المفاوضات على الأسس نفسها التي كان قد اقترحها يوحنا باطاجي في مجمع نيمفة سنة 1234،
76
ثم قام ثيودوروس على رأس جيش نيقاوي إلى بلغارية وأحرز فيها انتصارات هامة، فلمس ضعف اللاتين وقرب أجلهم، وعلم في أثناء ذلك بوصول الأسقف قسطنطين إلى مقدونية فامتنع عن مقابلته وأمر بخروجه من أراضي الروم.
77
وتوفي ثيودوروس الثاني في السنة 1258، واغتصب العرش ميخائيل الثامن (باليولوغوس)، وكتب هذا إلى البابا في أثناء محنته في السنة 1259 في موضوع الاتحاد، ولكن ألكسندروس الرابع لم يستغل ظرف ميخائيل في الوقت المناسب، وتغيرت الظروف باستيلاء الروم على القسطنطينية.
78
مجمع ليون (1274)
وسالم ميخائيل الثامن المغول في آسية؛ ليتسنى له فرض سلطته على ممتلكات الروم في البلقان، وبذل جهده لتدارك حملة صليبية جديدة على القسطنطينية، فتودد لحبر رومة، وسعى لإرضائه بتوحيد الكنيستين.
ووصل أوربانوس الرابع إلى السدة البابوية في السنة 1261 وسعى لتنظيم حملة جديدة على القسطنطينية، ففاوضه ميخائيل في أمر الاتحاد، فعدل أوربانوس عن مشروع الحملة، وكاد الاتفاق يتم لولا وفاة البابا (1264)، وخلف أوربانوس الرابع إقليمس الرابع فغدا أشد اندفاعا من سلفيه في إعادة الإمبراطورية اللاتينية في الشرق، وصارح إقليمس ميخائيل مهددا بأنه لا يضمن له شيئا قبل خضوعه هو وكنيسته لسلطة رومة،
79
وشجع هذا البابا كارلوس أنجو ملك صقلية على العمل الحربي في الشرق، وتنازل بلدوين الثاني عن حقوقه في عرش القسطنطينية اللاتيني إلى كارلوس أمام البابا في فيتيربو
Viterbo ، فخشي ميخائيل الثامن سوء العاقبة ففاوض في عقد الاتحاد، وازداد إقليمس تصلفا ولم يرض بشروط سلفه، ولكنه توفي في خريف السنة 1268، وانقسم الكرادلة على بعضهم فغدت السدة البابوية شاغرة سنتين وتسعة أشهر، فلجأ ميخائيل إلى لويس التاسع ملك فرنسة؛ راجيا وضع حد لمطامع أخيه كارلوس أنجو في ممتلكات الروم،
80
وتوفي لويس التاسع في السنة 1270، وعاد أخوه كارلوس من تونس إلى صقلية، وعادت مطامعه في الشرق.
واتفق الكرادلة فأجلسوا على الكرسي الروماني غريغوريوس العاشر (1271-1276)، وكان غريغوريوس آنئذ في فلسطين فراعه الخطر السياسي الدولي الذي هدد الإمارات اللاتينية بالانهيار، ففاوض التتر في محاربة المسلمين وحض الأمير إدوارد الإنكليزي على تنظيم حملة صليبية جديدة، ومر بالقسطنطينية لدى عودته إلى أوروبة، فلاطف ميخائيل الثامن وأظهر استعداده للعمل الجدي في سبيل اتحاد الكنيستين، ولم يرض عن مطامع كارلوس أنجو،
81
وأرسل بعثة إلى القسطنطينية لتؤكد حماية البابا في حال وقوع الاتحاد.
82
وعمل ميخائيل للاتحاد بكل قواه، ودعا الأساقفة والأشراف والوجهاء إلى اجتماع عام، وأبان الخطر الذي أحدق بالدولة وضرورة الاستعانة بالغرب، ولكن هذه الدعاية قوبلت بمقاومة شديدة ومكابرة لا تقبل النقص،
83
ولا سيما من البطريرك والأساقفة وبعض أعضاء الأسرة المالكة، وجل ما توصل إليه ميخائيل أنه استمال أحد علماء اللاهوت يوحنا فقس
Veccos
وعددا قليلا من الأساقفة.
ودعا غريغوريوس العاشر إلى مجمع في ليون في أيار السنة 1274 لمساعدة فلسطين واتحاد الكنائس وإصلاح الكنيسة، فلبى الدعوة خمسمائة أسقف وسبعون رئيس دير وحوالي ألف إكليريكي آخرين، وترأس الجلسات غريغوريوس نفسه، وتألف الوفد الرومي الشرقي من البطريرك جرمانوس المستقيل واللوغوثيتوس المؤرخ جاورجيوس أكروبوليتة وثيوفانس متروبوليت نيقية، وكان على الفيلسوف توما الأكويني أن يتولى الدفاع بنفسه عن موقف الكنسية اللاتينية، لكنه توفي وهو في طريقه إلى ليون، فحل محله الكردينال بونافنتورة
Bonaventura ، ووصل وفد الروم في الرابع والعشرين من حزيران فاستقبل استقبالا حافلا، وتم تبادل قبلة السلام مع البابا والكرادلة، وتليت رسالة الفسيلفس ورسالة ولي عهده أندرونيكوس وبيان إكليريكي مذيل بإمضاءات إكليريكية كثيرة، وقال الوفد بالانبثاق من الآب والابن، ووافق على استعمال الفطير وخضع لسلطة رومة العليا، وأكد الفسيلفس استعداده للاشتراك في حملة صليبية جديدة.
84
واستقال يوسف الأول البطريرك المسكوني احتجاجا على ما جرى، فتولى الرئاسة بعده يوحنا فقس، وقرعت أفلوجية أخاها ميخائيل الثامن وضج الأمراء والتأم مجمع أرثوذكسي في ثسالية لتوبيخ الفسيلفس ولقطع فقس،
85
ولكن ميخائيل واظب على الاتحاد حتى وفاته، فأنكر الآباء الأرثوذكسيون عليه فعله وفلوا رأيه وفندوا قوله.
86
رومة تفصم العرى (1281)
ووفد على القسطنطينية بين السنة 1274 والسنة 1280 خمسة وفود رومانية لتثبيت الاتحاد،
87
وفي السنة 1280 توفي البابا نقولاووس الثالث، فأوصل كارلوس أنجو إلى السدة البابوية رجلا يثق في إخلاصه ومحافظته على مصالحه الشخصية، هو الكردينال سمعان دي بري الذي أصبح يدعى مرتينوس الرابع (1281-1285)، وما كاد هذا الحبر يستوي على عرش الرسول حتى افترى على ميخائيل فاتهمه بالغش والخداع، ثم وضعه تحت الحرم،
88
وقام بعدئذ يدبر خلفا جديدا لإخضاع الروم وإيصال صديقه كارلوس إلى مطمعه!
وتوفي ميخائيل الثامن في السنة 1282، وتبوأ العرش بعده ابنه أندرونيكوس (1282-1328)، فقامت عمته أفلوجية تحرضه على فسخ الاتفاق والاتحاد، وحذا حذوها مستشاره الجديد ثيودوروس موزالن، وكان هذا قد ذاق آلام الفلق في عهد ميخائيل لاعتراضه على الاتحاد، وزال خطر كارلوس أنجو فلبى أندرونيكوس رغبات معظم الإكليروس والشعب وأمر بدفن والده خارج العاصمة دون أن يصلي على نفسه في الأديار وأبعد البطريرك فقس وأعاد البطريرك يوسف.
89
الفصل الخامس عشر
هولاغو والكنيسة
الإمبراطورية المغولية
وغمرت سلطة المغول آسية، وسيطر الخان الأعظم على آسية العليا والوسطى ونصف الصين وفارس، وانتشرت النصرانية بلونها النسطوري في آسية العليا، ووطدت الأسر النبيلة النسطورية علاقاتها مع جنكيزخان وأولاده، ورغب الأمراء المغول في النصرانيات فتزوجوا منهم وبالغوا في احترامهن وإكرامهن، وكثر عدد النساطرة في حاشية الخان وجيشه.
الأرمن والمغول
وقضى المغول في السنة 1243 على جيش سلجوقي قضاء كاملا، فتوقع الأرمن توسعا مغوليا في العراق وآسية الصغرى، فخطر ببال هاتون ملك الأرمن أن يقصد الخان ويستجديه في سبيل الأرمن والنصرانية، فأرسل في السنة 1247 أخاه سمباد إلى قرقوروم يقدم الخضوع وينتجع ويستمطر، فرحب المغول به وأجابوا سؤله وأدخلوا الأرمن في حمايتهم.
1
اللاتين والمغول
ولمع في سماء الإسلام نور الدين وصلاح الدين، وتقلص ظل اللاتين، وتقاعست أوروبة وقل اندفاعها فأوفد أنوشنتيوس الرابع بابا رومة بلان كاربان
إلى الخان الأعظم غويوك في السنة 1245 ليدعوه إلى الدخول في النصرانية.
2
وفي السنة 1251 وصل إلى عرش المغول مونغكة
Mongka
حفيد جنكيزخان، واستتب الأمر له فولى أخاه كوبيلاي الشرق الأقصى وأخاه هولاغو فارس وما تبعها، وكانت أمهم نصرانية نسطورية، فأوفد لويس التاسع راهبا فرنسيسكانيا اسمه غليلموس روبروك
Guillaume Rubrouck
إلى قرقوروم ليفاوض في تحالف وتعاون بين فرنسة والمغول، ووصل روبروك إلى عاصمة المغول في ربيع السنة 1254 فوجد فيها الرومي والعباسي والسلجوقي والهندي وغيرهم يفاوضون مثله، ومثل هو أمام الخان الأعظم ونقل رجاء سيده، فأجابه الخان مونغكة: «لا إله إلا إله السموات ولا سيد على الأرض إلا ابنه جنكيزخان، وباسم مونغكة ممثله على الأرض قل لملك فرنسة: أن اخضع!»
3
هاتون يفوز بالمعونة
وعلم هاتون ملك الأرمن بارتقاء مونغكة عرش المغول، فقام بنفسه إلى قرقوروم في السنة 1254 «وخضع وتوسل»، فسر مونغكة به وجعله مستشاره في أمور غرب آسية والنصرانية، وضمن سلامة حدوده وأمر برفع الضرائب عن الكنائس والأديار، واعتزم «تحطيم خلافة بغداد» على حد قوله وعقد نيته على تحرير أوروشليم، وأعلم أخاه هولاغو بما وطن النفس عليه وأمره أن يتجهز لذلك بالجهاز الكافي، وعاد هاتون مغتبطا مسرورا، وقصد هولاغو مؤتمرا ممتثلا، فعني هولاغو بأمره واهتم بشأنه.
4
ووصل هاتون إلى مقره في أرمينية الصغرى (قيليقية) في تموز السنة 1255 فأخذ يهيئ للتحالف أسبابه، وكانت رابطة الزواج قد جمعت بين الأسرة الأرمنية المالكة في قيليقية وبين أسرة أنطاكية وطرابلس اللاتينية، وكانت العائلة المالكة في أوروشليم فرنجية أرمنية أيضا، وكان نظام الفرسان الفرنسي قد دخل البلاط الأرمني، وكانت اللغة الفرنسية قد أصبحت لغة قومية ثانية عند سادة الأرمن، وكانت الكنيسة الأرمنية قي قيليقية قد اعترفت برئاسة رومة - كما سبق وأشرنا.
سقوط بغداد (1258)
وقضى هولاغو في أثناء السنة 1256-1257 على الحشاشين في فارس وأذربيجان، وأمر بهم في كل مكان فذبحوا ذبحا، ونظر عطا الملك في مكتبتهم في ألموت فأبقى على مصاحفها ومصنفاتها التاريخية والعلمية وأحرق الباقي.
5
وفي الثامن عشر من كانون الثاني سنة 1258 وصلت طلائع المغول إلى بغداد، فأحاطوا بها من كل جانب، ثم قصفوها بالمجانق فتهدمت أسوارها، وفي العاشر من شباط تسربوا إليها فقتلوا ثمانين ألفا من سكانها واستولوا على كنوزها، وعفوا عن النصارى ثم أشركوهم في النصر، فاستولى جاثليقهم على قصر الدوادار ورممت كنائسهم،
6
ويؤكد الراهب ورطان الأرمني المعاصر أن الفضل في هذا كله يعود إلى الأميرة دوقوز خاتون النصرانية، فإنها لم تكتف بعطفها الوراثي على النصرانية، بل أحبت أن تزيد الدين المسيحي مجدا على مجد.
7
حلب والجزيرة
وكان الكامل محمد صاحب ميافارقين قد أبى أن يدخل في طاعة المغول، فصلب الكاهن اليعقوبي الذي حمل إليه أوامر هولاغو، فزحف المغول على أمارته وحاصروا ميافارقين، ثم أخذوها عنوة في أوائل السنة 1260، وأكرهوا الكامل على أكل لحم جسمه بيده،
8
وانضم الكرج المسيحيون والأرمن إلى صفوف هولاغو في سبيل رفع راية الصليب وتحرير الكنيسة، واستشهد منهم في حصار ميافارقين سواته الخاتشاني الأمير الأرمني، فرأى في ذلك الراهب ورطان إهراق الدم لأجل السيد المخلص.
9
وكانت السيادة في سورية قد آلت إلى الملك الناصر يوسف بن العزيز بن الظاهر بن صلاح الدين، وكان الملك الناصر قد أوفد ابنه العزيز إلى معسكر هولاغو ليؤكد خضوعه بعد سقوط بغداد، ولكن هولاغو واجه العزيز باللوم الشديد؛ لأن والده لم يمثل بنفسه ليعفر رأسه أمامه، فاضطر الملك الناصر أن يتودد إلى مماليك مصر ويرجو معونتهم.
وتقدم هولاغو يعاونه كل من القادة كت بوغا النسطوري النصراني وبيجو وصنقر، وكانت دوقوز خاتون المسيحية ترافق زوجها هولاغو وتشترك في الرأي، فاحتل هولاغو نصيبين وحران والرها، ثم استولى على سروج ومنبج وزحف على حلب، وكان الناصر قد آثر الصمود في دمشق فشاءت حامية حلب أن تقابل المغول في السهول الشرقية قبل وصولهم إلى المدينة ففتكوا بها فتكا ذريعا، ووصل المغول إلى عزاز، فخرج ابن العبري أسقف حلب اليعقوبي إلى لقائهم ليقدم احترامه إلى هولاغو، وأرسل هولاغو إلى تورانشاه نائب السلطنة في حلب يطلب التسليم، فأجابه النائب ليس لكم عندنا إلا السيف، فقصف هولاغو المدينة بالمجانيق وبذل السيف في مسلميها، واشترك في قتال حلب كل من هاتون الأرمني وبوهيموند السادس أمير أنطاكية، وأبى أهل حارم التسليم، فأمر هولاغو بهم فقتلوا عن بكرة أبيهم.
أفتيميوس البطريرك الأنطاكي (1260-1268)
واحترم المغول سلطة بوهيموند السادس في إمارة أنطاكية فلم يخترقوا حدودها، ولكنهم طلبوا إلى بوهيموند أن يسمح لأفتيميوس البطريرك الأنطاكي أن يقيم في أنطاكية ويمارس سلطته فيها بين أبناء كنيسته الأرثوذكسية، فدخلها وأقام فيها حتى السنة 1265،
10
ولعل السبب في ذلك أنه تودد إليهم ورحب بقدومهم وسهل زواج مارية ابنة ميخائيل الثامن من أباغا بن هولاغو،
11
والواقع أن المغول كانوا أرحب صدرا من غيرهم في السياسة الدينية، فاحترموا جميع الأديان.
12
دمشق
وخاف أهل حماة وحمص فاستسلموا إلى المغول في حلب وفر الملك الناصر، وبعض أنسبائه من دمشق واتجهوا شطر فلسطين، فحدود مصر، فأوفد أعيان دمشق من قدم خضوعهم إلى هولاغو في حلب، ورضي الخان عنهم وأنفذ كت بوغا وهاتون وبوهيموند على رأس جيش إلى دمشق للتثبت من خضوعها، وعين عليها حاكما مغوليا وقاضيا، ووصل المغول إليها في أول آذار سنة 1260 فاستسلمت المدينة وامتنعت حاميتها، فقصف كت بوغا القلعة والأبراج بالمجانق فسقطت في السادس من نيسان، فأمر كت بوغا بدك القلعة فهدمت تهديما.
وسير كت بوغا قشلق خان على رأس قوة إلى فلسطين، فامتنعت حامية نابلس، فغلبت على أمرها ثم استسلمت فذبحت بحد السيف كلها، وسار قشلق خان من نابلس إلى غزة فلم يلق معارضا، وكان الملك الناصر قد خشي غدر المماليك به فقام من حدود مصر إلى ما وراء الأردن، وكان كت بوغا قد قام إلى عجلون ليخضعها، فلما وصل الناصر إلى البلقاء خانه حرسه الكردي وسلموه إلى طلائع جيش كت بوغا، فأرسله هذا إلى سيده هولاغو، فأكرمه هولاغو ووعده خيرا بعد الاستيلاء على مصر، ثم استسلمت حاميات بعلبك وبانياس والصبيبة.
وشاع بين النصارى في دمشق أن كت بوغا نصراني مثلهم، وأن عددا كبيرا من ضباطه وجنوده نصارى أيضا، فهرعوا إلى الشوارع تتقدمهم الصلبان وساروا متظاهرين موجبين احترام الصليب حيثما وصلوا، وقرعوا الأجراس وشربوا الخمر وأقاموا الصلاة المسيحية في بعض المساجد، وحولوا مسجدا واحدا إلى كنيسة، وشكى المسلمون أمرهم إلى كت بوغا فلم يصغ ولم ينصف،
13 «وشمخ النصارى بسبب دولة التاتار، وتردد إيلسبان وغيره من كبارهم إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى الملك هولاغو وجاء من عنده بفرمان لهم اعتناء بهم وتوصية في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بارتفاع دينهم واتضاع دين الإسلام، ويرشون الخمر على الناس وبأبواب المساجد، فركب المسلمين من ذلك هم عظيم.»
14
ما لم يكن بالحسبان
ومات مونغكة الخان الأعظم في الحادي عشر من آب سنة 1259، فتخالف الأمراء المغول وتشاقوا، فاضطر هولاغو أن يعود إلى فارس (1260)، وأن يبقى عند حدودها الشرقية مستعدا متهيئا للتدخل في النزاع عند الحاجة، ووكل الحكم في سورية والدفاع عنها إلى قائده كت بوغا، وأبقى تحت تصرفه قوة من الجند لم تتجاوز العشرين أو الثلاثين ألفا.
عين جالوت (1260)
وأرسل هولاغو قبل قيامه إلى فارس رسولا إلى قطز سلطان مصر يدعوه إلى الطاعة، فأبى قطز وأمر بالرسول فقتل ثم تجهز وتحزم، وفي السادس والعشرين من تموز دخل قائده بيبرس فلسطين على رأس قوة كبيرة من المماليك والخوارزميين، وانضم إلى هؤلاء من بقي من قوات الأيوبيين في كرك الشوبك، وأيد الأمراء اللاتينيون في فلسطين قطز وقائده بيبرس.
وبلغ كت بوغا قدوم المصريين وهو في بعلبك، فجمع من كان في سورية من جنود المغول وانضم إليه فريق من أمراء اللاتين والأرمن، ولكنه اضطر أن يقوم إلى دمشق أولا ليؤمن النصارى فيها؛ فالمسلمون من أبناء دمشق كانوا قد خربوا الكنائس فيها وأحرقوا مساكن النصارى، «فلما هرب التاتار من دمشق أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها، وفي الغد كانت الكسرة وأخرب المسلمون من كنيسة اليعاقبة وأحرقوا كنيسة مريم حتى بقيت كوما والحيطان حولها تعمل النار في أخشابها، وقتل منهم جماعة واختفى الباقون، وجرى عليهم أمر عظيم، فاشتفى - بعض الاشتفاء - صدور المسلمين.»
15
وتقدم المصريون في ساحل فلسطين فبلغوا عكة في أواخر آب واستراحوا في ضواحيها، ودخل بعضهم إليها زائرا متفرجا، وكان بين هؤلاء بيبرس نفسه، ثم علم المصريون أن كت بوغا عبر الأردن عند بيسان، فقاموا من عكة إلى عين جالوت في جنوب بيسان ووصلوا إليها في الثاني من أيلول، وفي اليوم التالي هجم كت بوغا على مقر المصريين ولم يدر بكثرتهم، فتراجعوا ثم أحاطوا به، فحطموا جيشه تحطيما، وأسروه وجاءوا به إلى قطز، فتوعد وتهدد، فأمر به قطز فضرب عنقه.
الفصل السادس عشر
عهد المماليك
المماليك
وأدى توسع المغول واتجاههم نحو الغرب إلى فرار عدد من القبائل التركية من وجههم، والتجأ بعض هؤلاء إلى آسية الصغرى واستقروا فيها ودخل البعض الآخر الشرق العربي وأهم هؤلاء الخوارزميون، ولما جلس الملك الصالح أيوب سابع الملوك الأيوبيين على عرش السلطنة في مصر رأى أن يختار لنفسه جنودا خاصة يثق بهم، فابتاع من هؤلاء المتشردين ومن غيرهم عددا كبيرا جعلهم جيشه الخصوصي، وبنى لهم ثكنة في جزيرة الروضة في مياه النيل فعرفوا بالمماليك البحرية نسبة إلى «بحر النيل »، وكانوا يسمون الحلقة أيضا؛ لأنهم أحاطوا بسلطانهم وحموه من كل اعتداء، ورتب الصالح لبعض هؤلاء دروسا في الإدارة والحرب؛ فتحققت آماله وظهر من بينهم رجال فاقوا ساداتهم، وفي السنة 1250 قام أيبك أحد هؤلاء وقضى على سيده الأيوبي واتخذ لنفسه لقب الملك المعز أيبك وأسس دولة المماليك البحرية (1250-1381).
المماليك البحريون.
شجرة الدر أرملة الصالح أيوب
1250
الناصر محمد
1309-1340
المعز أيبك
1250-1257
المنصور أبو بكر
1340-1341
المنصور علي
1257-1259
الأشرف كجك
1341-1342
الظاهر قطز
1259-1260
الناصر أحمد
1342
الظاهر بيبرس
1260-1277
الصالح إسماعيل
1342-1345
السعيد بركة خان
1277-1279
الكامل شعبان
1345-1346
العادل سلامش
1279
المظفر حاجي
1346-1347
المنصور قلاوون
1279-1290
الناصر حسن
1347-1351
الأشرف خليل
1290-1293
الصالح صلاح الدين
1351-1356
الناصر محمد
1293-1294
الناصر حسن
1356-1361
العادل كتبغا
1294-1296
المنصور محمد
1361-1363
المنصور لاجين
1296-1298
الأشرف شعبان
1363-1376
الناصر محمد
1298-1308
المنصور علي
1376-1381
المظفر بيبرس
1308-1309
الصالح حاجي
1381
الملك الظاهر بيبرس (1260-1277)
وانقسم الصليبيون بعضهم على بعض، وتحارب البنادقة مع أهل جنوا (1257)، وقضى آل باليولوغوس على الإمبراطورية الصليبية في القسطنطينية (1261).
وعاد الظاهر قطز بعد عين جالوت إلى مصر، وفيما هو في طريقه إليها اتفق بيبرس البندقداري مع فريق من المماليك على اغتياله، وقامت أرنب بين يديه فساق عليها فتبعه المماليك المتآمرون، فلما بعدوا تقدم منه مملوك اسمه أنص وشفع في شخص فأجابه قطز فأهوى لتقبيل يده، فحمل بيبرس على قطز وضربه بالسيف، ثم أعلن نفسه سلطانا باسم الملك الظاهر بيبرس، ودخل القاهرة (1260) فخضع له الأمراء والشعب.
وكان بيبرس طويل القامة مفتول العضل أسمر اللون أزرق العينين قوي الإدارة شديد الجرأة عالي الهمة، وكان تركي الأصل ينتمي إلى قبيلة القبجاق
Kiptchak ، وقد عرض للبيع في سوق حماة فهالت خشونته أميرها فلم يرغب فيه، فابتاعه الأمير بندقدار لسلطان مصر، فعرف بيبرس بالبندقداري.
1
ولم ترض دمشق عن عمل بيبرس واعترفت بسنجر الحلبي أميرا عليها، فقام بيبرس في السنة 1261 إلى دمشق وقضى على سنجر وأعوانه فاستتب له الملك في جميع الأراضي السورية خارج الإمارات اللاتينية، وفي السنة 1262 شهد جماعة من البدو أن شخصا أسود اللون اسمه أحمد هو ابن الظاهر بالله محمد ابن الإمام الناصر العباسي عم المستعصم آخر الخلفاء العباسيين في بغداد ، فعقد بيبرس مجلسا حضره العلماء وأثبت فيه القاضي نسب أحمد هذا، فبايعه الملك وسائر الأمراء بالخلافة وسمي المستنصر بالله، فأضحت القاهرة مقر الخلافة العباسية وأكسب بيبرس حكمه صبغة شرعية.
بيبرس والروم
وحالف بيبرس بركة خان أمير مغول القبجاق ضد هولاغو صاحب فارس، وتودد إلى ميخائيل الثامن فسيلفس الروم وقاهر اللاتين في القسطنطينية، ورجاه أن يبقي مضيقين مفتوحين له وللقباجقة بني جنسه؛ لتتم الصلة بين مصر وجنوب روسية عن طريق البحر، وكان خان القباجقة في روسية قد سبق له أن تدخل في شئون البلقان، فوافق ميخائيل على اقتراح بيبرس وأزوج خان القباقجة من بنت له غير شرعية، وفتح المضايق للمماليك مقابل إقامة بطريرك أرثوذكسي في الإسكندرية (1262)، ثم حالف الفسيلفس السلطان المصري للصمود في وجه كارلوس أنجو.
2
بيبرس والصليبيون
وتهيأ الجو لمحاربة الصليبيين، فقام بيبرس في السنة 1263 على رأس جيش قوي وهاجم الناصرة، فاستولى عليها وخرب كنيستها «وشاهد خرابها وقد سوي بها إلى الأرض». وأغار على عكة فغنم في ضواحيها وركب عنها.
3
وفي السنة 1264 دعا هولاغو جميع أمرائه إلى اجتماع عام عقده في معسكره بالقرب من تبريز، واشترك في هذا الاجتماع كل من داود ملك الكرج وهاتون ملك أرمينية وبوهيموند أمير أنطاكية، فأشاد هولاغو بالصداقة المغولية البيزنطية ولام هاتون وبوهيموند على موقفهما من أفتيميوس البطريرك الأنطاكي وأغلظ وشدد؛ لأنهما أكرها هذا البطريرك على الخروج من أنطاكية.
4
ومات هولاغو في الثامن من شباط سنة 1265 وتوفيت زوجته المسيحية في صيف السنة نفسها، فجال بيبرس جولة ثانية واستولى على قيصرية فلسطين في السابع والعشرين من شباط سنة 1265، فدك أبراجها وخرب حصونها وأبنيتها. وفي السادس والعشرين من نيسان سقطت أرسوف في يده، ودخل حيفا منتصرا فبطش فيها بطشا.
5
وأنفذ بيبرس في صيف السنة 1266 جيشين كاملين أحدهما إلى عكة وصفد والثاني إلى قيليقية وأرمينية الصغرى، ولم يقو على عكة، فحاصر صفدودس بين صفوف المحاربين الوطنيين وبوق أن عفوه يشمل الجميع عند الاستسلام، فاستسلم المحاربون ولكن بيبرس حنث بوعده. وترامى إليه أن سكان قارة بين دمشق وحمص يسرقون المسلمين ويبيعونهم بالخفية من الإفرنج، فأمر ببعض كبارهم ورهبانهم وأخذ صغارهم مماليك وحول كنيستهم إلى جامع. ونزع إليه وفد من نصارى عكة يرجون السماح بدفن من سقط منهم خارج أسوارهم فأجابهم: «إذا كنتم تطلبون جثث شهداء فإنكم ستجدونهم بين ظهرانيكم.» ثم اندفع إلى ساحل البحر وخرب وقتل وسبى،
6
وقاد الجيش الثاني قلاوون الشهير، وارتكز - بادئ ذي بدء - إلى حمص، وشن منها هجوما خاطفا على القليعات وحلب وعرقة، فاستولى عليها وعاد إلى حمص، ثم انتقل إلى حماة حيث انضم إليها ملكها المنصور، وقاما منها إلى حلب فقيليقية، وكان هاتون قد توقع هذا الهجوم فأسرع إلى تبريز يطلب معونة ابن هولاغو، وصمد ابنا هاتون لاوون وطوروس في مضايق الأمانوس، فتحاشى قلاوون هذه المضايق وانحدر إلى قيليقية بطريق سروندكار، وسقط طوروس في ميدان القتال ووقع لاوون في يد قلاوون أسيرا.
سقوط أنطاكية (1268)
وبعد أن شل بيبرس نشاط أرمينية الصغرى أنفذ جيشا إلى أنطاكية، وذلك في خريف السنة 1266، ولكن الأنطاكيين رشوا القادة، فعاد الجيش عن أنطاكية بدون قتال، فثار ثائر بيبرس وأنزل العقاب بالمسئولين، فأمر بإعدامهم.
7
وعاد بيبرس إلى عكة في أيار السنة 1267 ولجأ إلى الخدعة، فأمر جنوده برفع الأعلام الصليبية التي أخذت من الهيكليين والاسبتارية، فتمكنوا من ملاصقة الأسوار، ولكنهم اضطروا إلى التراجع، واكتفوا بتخريب الضواحي،
8
وفي أوائل السنة 1268 عاد ببيرس إلى القتال فاستولى على يافة وخرب أبنيتها ونقل رخام قلعتها وأخشابها إلى مصر لبناء جامعه فيها،
9
ثم حاصر قلعة الشقيف، وقصفها بالمجانيق، فاستسلمت في منتصف نيسان، فسمح للنساء والأطفال بالنزوح إلى صور واسترق الرجال،
10
ووصل إلى طرابلس في أول أيار، فقاتل صاحبها بوهيموند السادس، وعاث في ضواحيها مخربا، ثم انتقل منها إلى وادي العاصي.
واستغل بيبرس بقاء بوهيموند في طرابلس فأنفذ جيشه إلى أنطاكية، وكانت حاميتها بضعة آلاف مقاتل، فلم تقو على حماية جميع أبراجها وأسوارها، وحاول محافظها سمعان مانسل
Simon Mansel
الإغارة على جيش بيبرس فأسر. وكان بيبرس قد احتل السويدية ومضائق بيلان، فعزل خصمه عن البحر وعن أرمينية الصغرى، وفي الثامن عشر من أيار ثغر المماليك السور بالقرب من القلعة وتدفقوا منه إلى داخل المدينة، وأمر بيبرس بحراسة الأبواب وبالقتل والنهب فلم يسلم سوى بضعة آلاف التجئوا إلى القلعة، ولدى استسلام هؤلاء جرى بيعهم بأبخس الأثمان نظرا لكثرتهم، فبلغ ثمن الصبي اثني عشر درهما وثمن البنت خمسة فقط، وكومت الحلي الفضية والذهبية أكواما، ووزعت الدراهم على الفاتحين بالكيل لكثرتها.
11
ودمرت أنطاكية تدميرا والتهمت النيران بعض أحيائها، وخربت كنيسة القديس بولس وكنيسة القديسين قوزمة ودميانوس، وكان العراق وتوابعه قد أصبح مغوليا، فتحولت بضائع الشرق عن أنطاكية إلى إياس في قيليقية، فتضاءلت تجارة أنطاكية، وقل الاعتناء بها والاهتمام بأمرها، وأمست قرية قائمة في وسط خراب كبير، فهجرها رؤساء الدين واتجهوا نحو دمشق مركز السلطة في البلاد.
ثيودوسيوس الرابع (1268-1276)
وتوفي أفتيميوس الثاني البطريرك الأنطاكي في السنة 1268 فانتخب الإكليروس الأنطاكي ثيودوسيوس الرابع بطريركا على أنطاكية، وفاوض الفسيلفس ميخائيل الرابع بيبرس سلطان المماليك في أمر بطاركة الكرسي الأنطاكي، فاعترف السلطان برئاستهم وسمح بانتقالهم من أنطاكية إلى دمشق،
12
ولم يشترك ثيودوسيوس الرابع في أعمال مجمع ليون، ولم يعترف بقراراته.
13
ثيودوسيوس الخامس (1276-1285)
ثم تولى السدة الأنطاكية ثيودوسيوس الخامس أحد أفراد أسرة فيلهاردوان اللاتينية الحاكمة في آخية، وكان قد تقبل الأرثوذكسية وانتمى إلى دير الأوذيغس الأنطاكي في القسطنطينية، ثم زاحم فقس في الوصول إلى الكرسي البطريركي القسطنطيني، وكان قد تم الاتحاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية في ليون فأيده ثيودوسيوس وجاء إلى كرسيه يبشر به، ولدى وصول أندرونيكوس الثاني إلى عرش الفسالسة في السنة 1282 وعودة الأرثوذكسية إلى البلاط الإمبراطوري فر ثيودوسيوس والتجأ إلى صيدا، وكانت هذه لا تزال بيد اللاتين.
14
أرسانيوس الأول (1282-1283)
وأقام الإكليروس الأنطاكي أرسانيوس متروبوليت طرابلس بطريركا على أنطاكية، فتمادى في التقرب من الأرمن، فأسقط اسمه من ذيبتيخة القسطنطينية، واعتبر خارجا على الكنيسة الجامعة.
ديونيسيوس الأول (1283-1308)
واجتمع الأساقفة الأنطاكيون لانتخاب بطريرك جديد، فأيد بعضهم ديونيسيوس أسقف بومبيوبوليس القيليقي، واعترف آخرون برئاسة كيرلس متروبوليت صور.
15
عودة المغول (1299-1303)
وحقد خلفاء هولاغو على المماليك والمسلمين وجاشت صدورهم بالغل بعد عين جالوت وحمص ، فعاهد قازان بن أرغون الكرج والأرمن وعاقد الصليبيين في قبرص، وعبر الفرات بجموع عظيمة ثلثهم من النصارى، ووصل إلى حلب، فحماة، ونزل على وادي مجمع المروج. وسارت العساكر الإسلامية بقيادة الملك الناصر إلى حمص، ثم إلى مجمع المروج، والتقوا في عصر الثالث والعشرين من كانون الأول بجيش قازان، فولت ميمنة المسلمين ثم الميسرة، وثبت القلب، وأحاطت به التتر، وتأخر السلطان إلى جهة حمص، «فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر.» واستولى قازان على دمشق وساق في أثر المماليك إلى غزة والقدس وبلاد الكرك، وعصت قلعة دمشق، فأحرق المغول الدور والمدارس وغيرها من الأماكن الجليلة حولها،
16
ثم نشبت ثورة في فارس فعاد قازان لإخمادها وأبقى في سورية قوة صغيرة، وتخلى قبجق والي دمشق عن قازان والمغول فسهل عودة المماليك إلى البلاد، وفي السنة 1303 أطل المغول بقيادة قطلو شاه نائب قازان والتقوا بالمماليك في مرج الصفر في العشرين من نيسان، واشتد القتال فهزم المغول وقتل منهم خلق كثير.
17
الشيعة والدروز والنصارى (1283-1305)
وبات الصليبيون تعابى وظهرت عليهم دلائل الجهد، فخشي سكان التلال اللبنانية بين بيروت وطرابلس من الدروز في المتن وأهل الشيعة في كسروان والنصارى والنصيرية في جرود طرابلس؛ استئثار المماليك بالقوة والسلطة، فهبوا لمعونة الصليبيين بشتى الوسائل؛ فأبو الفداء يقول: إنهم كانوا «يقطعون الطرق ويخطفون المسلمين ويبيعونهم للكفار».
18
وجاء للبطريرك الدويهي عن حاشية في كتاب صلاة قديم تعود إلى السنة 1283 أن العساكر الإسلامية سارت في شهر أيار من هذه السنة في وادي حيرونا، فحاصرت أهدن وملكتها بعد أربعين يوما، وخربت القلعة في وسطها والحصن الذي على رأس الجبل، ثم افتتحت بفوقا وقبضت على أكابرها وأحرقتهم في بيوتهم، وأعملت السيوف بأهل حصرون وكفرسارون، وزحفت في الثاني والعشرين من آب إلى الحدث فهرب أهلها إلى العاصي وهي مغارة منيعة، فقتلت العساكر من أدركته منهم، وخربت الحدث تخريبا.
19
وروى الأهدني تحت تاريخ السنة 1287 أن الكسروانيين (الشيعة) والجرديين (الدروز) نزلوا من الجبال لنجدة الإفرنج في أثناء حصار طرابلس، فقتلوا من عسكر السلطان خلقا كثيرا، فأمر نائب دمشق بجمع العساكر لاستئصال هؤلاء، وكتب إلى أمراء غرب بيروت أن يتوجهوا بعساكرهم إلى كسروان والجرد: «وأن من نهب امرأة كانت له جارية، أو صبيا كان له مملوكا، ومن أحضر منهم رأسا فله دينار.» وفي السنة 1292 قصد الأمير بيدرا قائد السلطنة في مصر جبال كسروان، وبعد أن وصل إليها «انثنى عزمه وانكسر حزمه فتمكن الكسروانيون في بعض العسكر في الأوعار ومضايق الجبال فنالوا منهم». فاضطر الأمير بيدرا أن يطيب القلوب ويخلع الخلع، فاشتط الكسروانيون في الطلب، فأجابهم إلى ما التمسوه وأفرج عن جماعة منهم كانوا قد اعتقلوا في دمشق لذنوب وجرائم صدرت منهم.
20
وفي السنة 1302 نزل الإفرنج عند نهر الدامور، فقتل الأمير فخر الدين التنوخي وأسر أخوه شمس الدين فافتداه ناصر الدين الحسين بثلاثة آلاف دينار، فرفعت الشكاوى إلى نائب دمشق الأفرم من الجرديين وأهل كسروان، فحشد النواب الجيوش لمقاتلة الجرديين والكسروانيين، فنزل ثلاثون مقدما من كسروان بثلاثين ألفا وكنوا عند نهر الفيدار ونهر المدفون، فهزموا الجيش السلطاني وأهلكوا أكثره وغنموا أمتعة وأسلحة واستولوا على أربعة آلاف رأس من الخيل، وغزا الجرديون التنوخيين فأحرقوا عين صوفر وغيرها من بلاد العرب.
21
ونقل صالح بن يحيى عن الحريري والصلاح الكتبي أن أهل كسروان كثروا وطغوا واشتدت شوكتهم، وتطاولوا إلى أذى العسكر، وأغضى السلطان عنهم فزاد طغيانهم وأظهروا الخروج من الطاعة، ففاوضهم نائب دمشق جمال الدين الأفرم في الرجوع إلى الطاعة فأبوا، فأفتى العلماء بنهب بلادهم، فجرد النواب خمسين ألفا، فجمع الدروز رجال الجرد وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل، والتقت الجموع عند عين صوفر، فجرى قتال شديد، ودارت الدائرة على الدروز، فهرب الأمراء والتجئوا إلى كهف نابيه ودافعوا عن أنفسهم، فبذل لهم الأمان فلم يخرجوا، فأمر نائب دمشق بسد الكهف! وصعد اسندمر نائب طرابلس إلى كسروان فقطع وخرب وقتل، وتفرق الباقون من الشيعة في البلاد.
22
الغيوريون والمعتدلون
وكان قد قام في الكنيسة منذ عهد ثيودوروس الاستوديتي في القرن التاسع من قاوم تدخل الفسيلفس والحكومة في شئون الكنيسة، بل من قال بوجوب تقيد الفسيلفس بالأنظمة الإكليريكية، وكانت غيرة هؤلاء على الكنيسة قد اشتدت إلى درجة أدت بهم إلى اللجوء إلى العنف في سبيل الدفاع عن حرية الكنيسة واستقلالها، ولم يتطلب هؤلاء الغيورون
Zelotai
من الإكليروس علما وافرا أو ذكاء مفرطا، ولكنهم أوجبوا عليهم سيرة طاهرة وتقشفا صارما، فنالوا إعجاب الرهبان وتأييدهم في غالب الأحيان، وكان من الطبيعي جدا أن يقول غيرهم من أبناء الكنيسة بالتعاون بين الدولة والكنيسة، وهؤلاء هم المعتدلون
وأصر هؤلاء على وجوب تضلع الإكليروس العالي من العلوم الدينية والزمنية؛ ليحسنوا الدفاع عن الكنيسة جمعاء ويحفظوا حريتها.
23
ووقف الغيورون إلى جانب البطريرك أرسانيوس في نزاعه مع الفسيلفس ميخائيل الثامن، فعرفوا بالأرسانيوسيين، وقضت ظروف ميخائيل السياسية باتحاد الكنيستين - كما مر بنا - فضج الغيورون وأعلنوا سخطهم ومقاومتهم، وجاء أندرنونيكوس الثاني الفسيلفس فألغى الاتحاد، وسيطر الغيوريون على الإكليروس وهيمنوا على البطريركية المسكونية.
الصامتون
وشاع في القرن الرابع عشر في بعض الأديار انعزال عن عالم المادة وانعكاف على التأمل واتصال بالخالق عن طريق الصلاة عرف بالزهد الصامت
Hesychia ، وأشهر من قال بالصمت التام والتأمل الكامل غريغوريوس بالاماس
متروبوليت ثسالونيكية، وكان قد اشتهر بتقشفه عندما قدم النذر في آثوس، وكاد ينسحب من ثسالونيكية لينفذ ما قال به عندما فوجئ بشغب أحدثه الراهب برلام في جبل آثوس،
24
وبرلام هذا راهب يوناني إيطالي أم ثسالونيكية وأقام فيها، فاستمع لأقوال بالاماس رئيس أساقفتها وجادله فيها وملأ المدينة ضجيجا (1333-1339)، ثم قام إلى أفينيون ليفاوض بنديكتوس الثاني عشر باسم أندرونيكوس الثالث الفسيلفس في أمر حملة صليبية ضد الأتراك، ولدى عودته من أفينيون اطلع على رسالة النور الإلهي التي كان بالاماس قد أعدها في غيابه فكتب في دحضها،
25
ثم قام إلى القسطنطينية يشكو بالاماس إلى البطريرك المسكوني يوحنا كاليكاس
Calecas ، وأثار ضجة في العاصمة، فاضطر البطريرك أن يدعو بالاماس إلى المثول أمام المجمع، وترأس أندرونيكوس الثالث المجمع القسطنطيني في العاشر من حزيران سنة 1341، وما إن افتتحت الجلسة حتى أعلن الفسيلفس أن أمر البت في العقيدة منوط بالأساقفة وحدهم وأنه ليس على برلام إلا أن يعتذر للرهبان عما صدر عنه،
26
فعاد بلام إلى الغرب فأذكى نار الشقاق فاستمرت طويلا.
27
وظلت المشادة قائمة حول موقف بالاماس من النور الإلهي فدعا البطريرك يوحنا الرابع عشر (كاليكاس) إلى مجمع جديد في السنة 1345، فقضى بالحكم على بالاماس وحبسه،
28
ولما استولى يوحنا السادس على عرش القسطنطينية (1347-1355) أنزل البطريرك يوحنا الرابع عشر عن عرشه لتآمره وأحل محله أيسيدوروس مرشح الصامتين، فدعا البطريرك الجديد إلى مجمع ثالث في السابع والعشرين من أيار سنة 1351 فخرج بالاماس ظافرا وانتصر الصامتون.
29
أغناطيوس الثاني (1342-1353)
وتولى السدة الأنطاكية بعد ديونيسيوس البطريرك مرقس، وطالت رئاسته أربعا وثلاثين سنة (1308-1342) وجاء بعده أغناطيوس الثاني، ولم يرض عن بالاماس وقوله في النور الإلهي فاشترك في أعمال مجمع القسطنطينية في السنة 1344، ووافق على شجب بالاماس وسجنه، وأصدر طوموسا بطريركيا ضده، لكن باخوميوس متروبوليت دمشق خاصمه فاضطر أن يلجأ إلى قبرص فترة من الزمن وتوفي فيها سنة 1366، وأوفد في السنة 1351 أرسانيوس متروبوليت صور ليمثله في مجمع القسطنطينية، فكان أرسانيوس من المعارضين لبلاماس واحتج على تدخل الفسيلفس في شئون الكنيسة وأحدث ضجة في المجمع.
30
باخوميوس الأول
وأيد باخوميوس الصامتين، فانتصر بانتصار بالاماس، وتولى الرئاسة مدة نجهلها، ولعله ظل جالسا حتى السنة 1368 أو 1370 - كما جاء في مصنف لوكيان،
31
وفي السنة 1370 أيد بعض المطارنة الأنطاكيين أرسانيوس متروبوليت صور في موقفه من بلاماس وانتخبوه بطريركا على أنطاكية وأجلسوه على السدة، ولكنه خلع بعد فترة قصيرة، وإذا ما قدمنا باخوميوس الأول على ميخائيل الثاني وخالفنا بذلك ترتيب البطريرك قسطنديوس؛ سهل علينا التوفيق بين ترتيبه وبين ترتيب لوكيان، وتقاربت تواريخ الرئاسة.
ميخائيل الثاني (1370-1386)
ويرى البطريرك قسطنديوس أن ميخائيل الثاني تولى الرئاسة ست عشرة سنة، وأن باخوميوس عاد إلى الكرسي بعد وفاة ميخائيل في السنة 1386، وبقي فيه حتى السنة 1393، ثم يذكر قسطنديوس البطريرك نيلوس ويحدد سنوات رئاسته، فيجعلها تبتدي في السنة 1393 وتنتهي حوالي السنة 1400، وجاء للبطريرك ميخائيل الثالث أن باخوميوس تولى الرئاسة ثلاث مرات (1359 و1375 و1378)، وأن نيلوس أو نيقون ابتدأ في السنة 1387 وانتهى في السنة 1395.
32
المماليك البرجيون.
الظاهر برقوق
1382-1392
الأشرف أينال
1453-1460
الناصر فرج
1392-1405
المؤيد أحمد
1460
المنصور عبد العزيز
1405-1406
الظاهر خشقدم
1461-1467
الناصر فرج
1406-1412
الظاهر يلباي
1467
العادل المستعين
1412
الظاهر تمريغا
1468
المؤيد شيخ المحمودي
1412-1421
الأشرف قايتباي
1468-1496
المظفر أحمد
1421
الناصر محمد
1496-1498
الظاهر ططر
1421
الظاهر قانصوه
1498-1500
الصالح محمد
1421-1422
الأشرف جنبلاط
1500
الأشرف برسباي
1422-1438
العادل طومان
1501
العزيز يوسف
1438
الأشرف قانصوه
1501-1516
الظاهر جقمق
1438-1453
الأشرف طومان باي
1516
المنصور عثمان
1453
تيمورلنك (1400-1401)
وأعلن تيمورلنك نفسه خانا في السنة 1370 وأخضع لسلطته خراسان وأصفهان واجتاح بلاد فارس والعراقين والجزيرة، وقصد الهند سنة 1397 وأنزل بها الوبال، واتجه في السنة 1400 نحو سورية، فأمر الملك الناصر فرج النواب والحكام أن يتوجهوا إلى حلب ويجتهدوا في دفع تيمورلنك، واستولى تيمورلنك على عين تاب وأرسل مرسوما إلى النواب في حلب أن يطيعوا أوامره ويخطبوا باسمه، فقتل سودون نائب الشام هذا الرسول، واستولى تيمورلنك على حلب وقطع عنق سودون وقتل جما غفيرا ونهب وأحرق، ثم بلغ المعرة «فجفل أهل دمشق وتشتتوا». وقصد بعضهم قلعة أرصون وقلعة الشقيف، ورحب أهل حماة بتيمور ثم وثبوا على نائبه فرجع إليها وقتل ونهب وأحرق، ولما بلغ إلى حمص استجلب خاطره عمر بن الرواس فعف عن أهلها، ونزل على بعلبك فأرسل فيهم جوارح النهب والاستئصال.
وبلغت عساكر الملك الناصر إلى دمشق وبلغ تيمور إليها، ففر الملك الناصر، والتجأ إلى لبنان، واختبأ في قلعة نيحا، فأحاط تيمور بدمشق وقتل أعيانها وسبى نساءها، وأحرق الجامع الأموي وكان فيه جم غفير من النساء والأطفال، وأخرب المساجد والمدارس ودك القلعة، وأسر كثيرين من أصحاب الحرف والصناعات وأبعدهم إلى سمرقند.
33
الجراد والبدو
ولم يخرج تيمور من دمشق حتى جاءها الجراد فغطى وجه السماء وارتعى الأخضر وباض في أرضها وفقس، فاشتد الغلاء وخفت الناس من الجوع وانكسر طرفهم، وشره البدو إلى المكاسب الدنيئة وأقبلوا ناشرين الأذن ومادين الأعناق، فأنزلوا بالناس «ما لا يستحله عباد النار والأوثان».
34
وجاء الوباء ثالثة الأثافي، وثقلت وطأته حتى بقي الموتى بدون دفن.
ميخائيل الثالث (1395-1412)
وفي السادس من شباط سنة 1395 تسلم ميخائيل الثالث عكاز الرعاية، وأرسل رسالة الجلوس إلى زملائه، فإذا به يوافق بالاماس والصامتين، وجاء تيمورلنك في السنة 1400، فاضطر ميخائيل أن يغادر دمشق إلى قبرص، ونهبت «بدلاته وعدته الكنسية وماله». ودون في قبرص صفحات قليلة في تاريخ بطاركة أنطاكية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، وقد حفظها للتاريخ بولس ابن الزعيم.
35
وروى قسطنديوس القسطنطيني أن باخوميوس الثاني خلف ميخائيل الثالث، وأن مدة رئاسته كانت سنة واحدة وأن يواكيم الثاني جاء بعده، فرعى المؤمنين خمس عشرة سنة؛ أي حتى السنة 1426، ويذكر البطريرك القسطنطيني مرقس الثالث بعد يواكيم فيجعل مدة رئاسته عشر سنوات (1426-1436).
36
دوروثيوس الثاني (1436-1451)
وهو أسقف ذينه (صيدنايا) رقي العرش الأنطاكي في السنة 1436، وجاهد في سبيل الأرثوذكسية، فراقب مجمع فراري بممثليه مرقس متروبوليت أفسس وأسيدوروس متروبوليت كيف، واشترك في أعمال مجمع أوروشليم في السنة 1444 ومجمع القسطنطينية في السنة 1450؟ وسنذكر ذلك بالتفصيل عند الكلام عن مجمع فراري.
وخلف دوروثيوس الثاني بموجب رواية قسطنديوس القسطنطيني ميخائيل الرابع (1454-1462)، فمرقس الرابع (1462-1476)، فيواكيم الثالث (1476-1493)، فغريغوريوس الثالث (1493-1511).
ميخائيل الرابع (1451-1497)
ولا نعلم المراجع التي أخذ عنها البطريرك قسطنديوس، ولكنه جاء لمكاريوس ابن الزعيم وبولس ابن الزعيم؛ أنه لدى وفاة دوروثيوس اجتمع أعيان دمشق ونادوا بمرقس أسقف صيدنايا بطريركا، وأن يواكيم متروبوليت بصرى وكيرلس متروبوليت بيروت ومرقص متروبوليت الحصن ويوحنا متروبوليت أفخيتة وأفرايم متروبوليت حماة، وميخائيل أسقف الزبداني ويواكيم أسقف يبرود ومكاريوس أسقف قارة وأرسانيوس أسقف عكة؛ اشتركوا في تنصيبه وأن بطريركيته دامت ستا وأربعين سنة، وأنه توفي في السنة 7006 للخليقة (1497)، وأن دوروثيوس الصابوني خلفه، وأن رئاسة هذا دامت ستا وعشرين سنة.
37
الشماس موسى الجبيلي
ويغفل بعض الآباء الغربيين في الشرق البحث والتنقيب، ويهملون مراقبته فيتغنون بخدمات الشماس موسى الجبيلي، ويقولون: «إنه عمل على اتحاد الكنائس، فصادفت أقواله قبولا لدى مرقس البطريرك الإسكندري والبطاركة الأنطاكيين ميخائيل الرابع ومرقس الرابع ويواكيم الثالث، وأن مرقس الرابع أعاد اسم البابا إلى الذيبتيخة الأنطاكية، وأن يواكيم الثالث ذهب إلى القدس وعمل مع مرقس الإسكندري على إقناع زميلهما البطريرك الأوروشليمي بالرجوع إلى الاتحاد سنة 1457، وأن هؤلاء البطاركة الثلاثة فوضوا موسى الجبيلي إيصال وثائق اتحادهم إلى الحبر الأعظم، وأن موسى وقع صك الاتحاد بالنيابة عنهم في 21 نيسان سنة 1460، وأن بيوس الثاني أمر بتدوين ذلك في كتاب أحمر الجلدة، لا يزال محفوظا في المكتبة الفاتيكانية.» ويضيفون أن هذا الاتحاد استمر حتى السنة 1516 سنة الفتح العثماني، وأن العلاقات مع الغرب أصبحت ممتنعة عمليا، فأخذ نفوذ القسطنطينية يتزايد والاتحاد يتناقص.
38
ويعنى علماء الكنيسة اللاتينية بتاريخ الكنيسة، ويصدرون بين السنة 1947 والسنة 1856 سبعة عشر مجلدا بإشراف فليش ومارتان، ويتولى روجه أوبيناس
Aobenas
الأستاذ في كلية الحقوق في إيكس بروفانس كتابة الفصل عن بيوس الثاني، فيهمل ذكر موسى الجبيلي وعمله العظيم، ويكتفي بالقول إنه لمناسبة سقوط القسطنطينية واهتمام بيوس الثاني بصليبية جديدة أم رومة من الشرق عدد من السفراء الكاذبين، الذين ادعوا أنهم يمثلون بلدانهم، فأضاعوا المصلحة العامة بعجرفتهم وغموضهم،
39
ولعله يرى موسى أحد هؤلاء.
وكان الأب موسه قد طرق الموضوع نفسه في السنة 1948 في كتابه تاريخ النصرانية، فدون أخبار موسى الجبيلي، ولكنه احتاط فأشار إلى موقف العالم الألماني فون باستور من هذه الرواية،
40
أما فون باستور فإنه يرى أن بيوس الثاني نفسه شك في صدق موسى وفي صحة الوثائق التي قدمها، فامتنع عن أي إشارة إلى هذا الحادث الذي لو صح لكان جليلا.
41
المماليك والكنيسة
وعمل المماليك ببعض النصوص الشرعية القديمة وباجتهادات بعض الفقهاء، فضيقوا على النصارى وأوجبوا الحد من نفوذهم، ففي السنة 1277 «هدم شيخ الملك الظاهر كنيسة النصارى بالقدس وقتل قسيسها بيده وعملها زاوية، وهدم كنيسة الروم بالإسكندرية، وهي كرسي كنائسهم، يعقدون بها البتركة ويزعمون أن رأس يحيى بن زكريا - عليهما السلام - فيها، وجعلها مسجدا وسماها المدرسة الخضراء.»
42
وفي السنة 1364 «ورد الخبر بمنازلة الفرنج مدينة الإسكندرية، فتتبعت النصارى وأحضر البطريق والنصارى وألزموا بحمل أموالهم لفكاك أسرى المسلمين، وكتب بذلك إلى البلاد الشامية.»
43
وفي السنة 1442 «ختم على كنائس النصارى الملكيين في مصر؛ لأنه وجد داخلها أعمدة كدان من الحجارة المنحوتة وأكتاف جدد، وحصل على جميع أهل الطوائف من أهل الذمة من الإهانة والتغريم ما لا مزيد عليه.»
44
وفي السنة 1447 «أمر السلطان بهدم كنيسة النصارى الملكيين التي بقصر الشمع في مصر، وأمر ببيع أنقاضها وأن يعمر بثمنها المسجد القديم الذي كان بجانبها، وجعل كرسي البطريرك منبرا، وأخذت جميع عددها من زجاج ونحاس وجعلت في الجامع.»
45
وفي السنة 1448 «توفي السيد أحمد بن حسن بن علي الشافعي الشهير بالنعماني، وكان نقمة على أهل الذمة في ما يجددونه في كنائسهم، وقال لي صاحبنا الشيخ برهان الدين النعماني إنه أسلم على يده ثمانون كافرا، وإنه لم يبق في قصر الشمع ولا في الجيزة ولا في المدينة كنيسة لليهود ولا للنصارى إلا وقد شملها من السيد إما هدم وإما بعض هدم وإما إزالة منبر أو قونوة وهي الأخشاب التي تصنع فيها التماثيل، أو إزالة حجاب وهي المقاصير التي تجعل على الهياكل.»
46
وفي أيام السلطان الملك الظاهر جقمق «جهز خاصكيا اسمه أينال باي، فحضر إلى القدس الشريف بمرسوم من الملك الظاهر بالكشف على الديارات، وبهدم ما استجد بدير صهيون وغيره وانتزاع قبر داود - عليه السلام - من النصارى، فهدم البناء المستجد بصهيون وأخرج قبر داود من أيدي النصارى ونبشت عظام الرهبان المدفونين بالقبو الذي به قبر داود، وأخرج المسجد من دير السريان وسلم للشيخ محمد المثمر وصار زاوية، وهدم البناء المستجد ببيت لحم وبالقمامة (القيامة) وقلع الدرابزين الخشب المستجد بالقمامة وأخذ إلى المسجد الأقصى بالتكبير والتهليل، وكشفت جميع الديارات وهدم ما استجد بها، وكان ذلك في أواخر عمر السلطان، فختم الله أعماله بالصالحات وإزالة الديارات المنكرات.»
47
أيمان النصارى
والأيمان جمع اليمين؛ أي القسم، وكانت تطلب من النصارى في أوقات الهدى والمصالحات ويخلف بها بعض قواد البحر والرسل الواردين للموادعة والموافقة،
48
ونقل القلقشندي في كتابه صبح الأعشى، عن محمد بن عمر المدائني أن أصل ترتيب أيمان النصارى كان في زمان الفضل بن الربيع وزير الخليفة هارون الرشيد، وحكي عن بعض كتاب العراق فقال:
أراد الفضل بن الربيع أن يستحلف عونا كاتبه النصراني فلم يدر كيف يستحلفه، فقلت: ولني استحلافه، قال: دونك، فقلت له: احلف بإلهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلا له، وإلا فخلعت النصرانية وبرئت من المعمودية، وطرحت على المذبح خرقة حيضة يهودية وقلت في المسيح ما يقوله المسلمون: «إن عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب.» وإلا فلعنك البطريرك الأكبر والمطارنة والشمامسة والقمامسة والديرانيون وأصحاب المجامع عند مجتمع الجنائز وتقريب القربان وبما استغاثت به النصارى ليسوع، وإلا فعليك حرم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين خرجوا من نيقية حتى أقاموا عمود النصرانية، وإلا فشققت الناقوس وطبخت به لحم جمل وأكلته يوم الاثنين مدخل الصوم ورميت الشاهد بعشرين حجرا جاحدا بها، وهدمت كنيسة لد وبنيت بها كنيسة اليهود وخرقت غفارة مريم وكهنونة داود، وأنت حنيف مسلم، وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك.
49
تواقيع البطاركة
والتوقيع في عهد المماليك هو البراءة، وأقدم البراءات براءة البطريرك داود الخوري الأنطاكي، وقد سبقت الإشارة إليه وإلى تقربه من رومة وخضوعه لحبرها، وإليك نصها - كما حفظه القلقشندي:
الطرة
توقيع كريم بأن يستقر البطريرك المحتشم المبجل داود الخوري، المشكور بعقله لدى الملوك والسلاطين - وفقه الله تعالى - بطريرك الملكية بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة، حسبما اختاره أهل ملته المقيمون بالشام المحروس، ورغبوا فيه، وكتبوا خطوطهم به، وسألونا تقريره دون غيره، حسبما رسم به على ما شرح فيه، رسم بالأمر لا زال يعز بالالتجاء إلى حرمة من يأوي إليه ويقصد عدله من أهل الملل ويعتمد عليه أن يستقر فلان - وفقه الله - بطريرك الملكية بالمملكة الشامية المحروسة، حسبما اختاره أهل ملته المقيمون بالشام المحروس ورغبوا فيه وكتبوا خطوطهم به وسألوا تقريره في ذلك دون غيره؛ أنه هو كبير ملته والحاكم عليهم ما امتد في مدته، وإليه مرجعهم في التحريم والتحليل وفي الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى في التوراة ولم ينسخ في الإنجيل، وشريعته مبنية على المسامحة والاحتمال والصبر على الأذى وعدم الاكتراث به والاحتفال، فخذ نفسك بالأول بهذه الآداب، واعلم بأنك في المدخل إلى شريعتك طريق إلى الباب فتخلق من الأخلاق بكل جميل ولا تستكثر من متاع الدنيا؛ فإنه قليل، وقدم المصالحة بين المتحاكمين إليك قبل الفصل البت ؛ فإن الصلح - كما قيل - سيد الأحكام، وهو قاعدة دينك المسيحي ولم تخالف فيه المحمدية الغراء دين الإسلام، ونظف صدور إخوانك من الغل، ولا تقتنع بما ينظفه ماء المعمودية من الأجسام.
وإليك الأمر في البيع، وأنت رأس جماعتك، والكل لك تبع، فإياك أن تتخذها لك تجارة مربحة أو تقتطع بها مال نصراني يقربه، فإنه ما يكون قد قربه إلى المذبح وإنما ذبحه، وكذلك الديارات والقلالي يتعين عليه أن يتفقد فيها كل أمر في الأيام والليالي، وليجتهد في إجراء أمورها على ما فيه دفع الشبهات، ويعلم أنهم إنما اعتزلوا فيها للتعبد فلا يدعها تتخذ منتزهات، فهم إنما أحدثوا هذه الرهبانية للتقلل في هذه الدنيا والتعفف عن الفروج، وحبسوا فيها أنفسهم حتى إن أكثرهم إذا دخل إليها ما يعود يبقى له خروج، فليحذرهم من عملها مصيدة للمال أو خلوة له، ولكن بالنساء حراما ويكون إنما تنزه عن الحلال، وإياه ثم إياه أن يؤوي إليه من الغرباء القادمين عليه من يريب، أو يكتم عن الإنهاء إلينا مشكل أمر ورد عليه من بعيد أو قريب، ثم الحذر الحذر من إخفاء كتاب يرد إليه من أحد من الملوك، ثم الحذر الحذر من الكتابة إليهم أو المشي على هذا السلوك، وليتجنب البحر وإياه من اقتحامه؛ فإنه يغرق أو تلقي ما يلقيه إليه جناح غراب منه فإنه بالبين ينعق.
والتقوى مأمور بها أهل كل ملة وكل موافق ومخالف في القبلة فليكن عمله بها، وفي الكتابة ما يغني عن التصريح، وفيها رضى الله تعالى وبها أمر المسيح.
50
ونقل القلقشندي
51
توقيعا سلطانيا ثانيا وجهه السلطان إلى البطريرك الأنطاكي ميخائيل إما الثاني أو الثالث؛ لأنه بين وفاة العمري ناسخ وصية البطاركة التي تضمنها التوقيع السابق (1348)، وسنة فراغ القلقشندي من كتابة صبح الأعشى (1412) قام على الكرسي الأنطاكي بطريركان تسمى كل منهما باسم ميخائيل،
52
وأهم ما يلفت النظر في هذا التوقيع السلطاني خلوه من الإشارة إلى الباب؛ أي البابا، ولا غرو فداود انفرد بخضوعه لرومة ولم يرد اسمه في لوائح البطاركة الأرثوذكسيين، وهذا هو نص التوقيع الثاني:
أما بعد حمد الله الذي جعلنا نشمل كل طائفة بمزيد الإحسان ونفيض من دولتنا الشريفة على كل بلد اطمئنانا لكل بلد وإيمان، ونقر عليهم من اختاروه ونراعيهم بمزيد الفضل والامتناع، والشهادة بأن الله الذي لا إله إلا هو الواحد الذي ليس في وحدانيته قولان، والفرد المنزه عن الجوهر والأقنوم والوالد والولد والحلول والحدثان، شهادة أظهر إقرارها اللسان وعمت بها الجوارح والأركان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله المبعوث إلى كافة الملل والإنس والجان، الذي بشر به عيسى وآمن به موسى وأنزل عموم رسالته في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فصح النقل بنبوته وآدم في الماء والطين وأوضح بذلك البرهان، وعلى آله وصحبه الذين ساروا بإخلاص الوحدانية وشادوا أركان الملكة المحمدية وأعزوا الإيمان وأزالوا الطغيان، صلاة ينفح طيبها ويفصح خطيبها ويفرح بها الرحمن.
فإن أولى من أقمناه بطريركا على طائفة النصارى الملكية على ما يقتضيه دين النصرانية والملة العيسوية حاكما في أمورهم مفصحا عما كمن في صدورهم؛ من هو أهل لهذه البطريركية وعارف بالملة المسيحية، اختاره لها أهل طائفته؛ لما يعلمون من خبرته ومعرفته وكفايته ودربته، وندب إلى ولاية يستحقها على أبناء جنسه ورغب في سلوكها له مع إطابة نفسه، مع ما له من معرفة سرت أخبارها وظهرت بين النصارى آثارها، وكان البطريرك ميخائيل أدام الله بهجته هو من النصارى الملكية بالمعرفة مذكور وسيره بينهم مشهور، القائم فيها بالسيرة الحسنة، والسالك في مذهبهم سيرا تشكره عليها الألسنة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال إحسانه العميم لكل طائفة شاملة وبره الجسيم لسائر الملل بالفضل متواصلا أن يستقر بطركا على النصارى الملكية بالشام وأعماله على عادة من تقدمه بذلك، وتقوية يده على أهل ملته من تقادم السنين بحكم رضاهم، ومنع من يعارضه في ذلك حملا على ما بيده من التوقيع الكريم المستمر حكمه إلى آخر وقت.
فليباشر هذه البطريركية مباشرة محمودة العواقب مشكورة؛ لما تجلت به من جميل المناقب، وليحكم بينهم بمقتضى مذهبه، وليسر فيهم سيرا جميلا ليحصل لهم غاية قصده ومأربه، ولينظر في أحوالهم بالرحمة، وليعمل بتعلقاتهم بصدق القصد والهمة، وليسلك الطرق الواضحة الجلية، وليتخلق بالأخلاق المرضية، وليفصل بينهم بحكم مذهبه في مواريثهم وأنكحتهم. وليعتمد الزهد في أموالهم وأمتعتهم؛ حتى يكون كل كبير منهم وصغير ممتثلا لأمره واقفا عندما يتقدم به إليه في سره وجهره، منتصبين لإقامة حرمته وتنفيذ أمره وكلمته، وليحسن النظر في من عنده من الرهبان، وليرفق بذوي الحاجات والضعفاء من النساء والصبيان، والأساقفة والمطارنة والقسيسين زيادة للإحسان إحسانا جاريا في المساء والصباح والغدو والرواح.
فليمتثلوا أمره بالطاعة والإذعان وليجيبوا نهيه من غير خلاف ولا توان، ولا يمكن النصارى في الكنائس من دق الناقوس،
53
ورفع أصواتهم بالضجيج ولا سيما عند أوقات الأذان لإقامة الناموس، وليتقدم إلى جميع النصارى بأن كلا منهم يلزم زيه وما جاءت به الشروط العمرية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لتكون أحوالهم في جميع البلاد مرعية، وليخش عالم الخفيات، ويستعمل الأناة والصبر في جميع الحالات، والوصايا كثيرة وهو بها عارف، والله يلهمه الرشد والمعارف.
ومما تجدر الإشارة إليه لهذه المناسبة التنبيه السلطاني بوجوب التقيد بشروط عهدة عمر بن الخطاب واعتبارها واجبة شرعا.
قضية الباب
والباب في «المصطلح الشريف» عند المماليك هو البابا، وقد ورد هذا اللفظ غير مرة في كتابات الديوان السلطاني وفي بعض التواريخ؛ ففي التوقيع السلطاني الذي وجه إلى البطريرك داود الخوري العبارة: «واعلم أنك في المدخل إلى شريعتك طريق إلى الباب.» وقد جاء في مخطوط باريس رقم 4439، وهو من نوع كتابي التعريف للعمري وصبح الأعشى للقلقشندي، كلام عن بطاركة النصارى ووصف لبعض تقاليدهم، وجاء أيضا أن أول البطاركة هو الباب بتفخيم البائين وأنه بترك الملكية، وأن الثاني بطرك الملكانية بكرسي أنطاكية، وأن ولاية هذا من الأبواب الشريفة، وأنه «بعد كتابة محضر من النصارى الملكانية باستحقاقه يكتب محضر ثاني ويجهزونه النصارى إلى الباب برومية، فيقف عليه ويجهز لهم استمرار الولاية إلى أنطاكية.»
وكان في أمل صديقنا المرحوم حبيب الزيات أن يكون أمر رومة في العصور الغابرة مطاعا في جميع فروع الكنيسة الجامعة، وأن يكون لها القول الفصل في الأمور الهامة، فما إن اطلع على هذه العبارات في القلقشندي وفي مخطوط باريز حتى ظن أنه بلغ ما في نفسه، فصنف رسالة أسماها «الملكانيون يدينون بطاعة الباب» خلص فيها إلى القول إن الملكيين الأنطاكيين أصبحوا بعد قدوم الصليبين فرعين مستقلين؛ الأول منهما كان باقيا على حالته السابقة خارج الإمارات الصليبية، له أساقفة ورؤساء متفردون، وهم الذين أشار إليهم كاتب مخطوط باريس؛ أي أولئك الذين «يجهز البابا لبطاركتهم استمرار الولاية»، والفرع الثاني في نظر الزيات كان داخل حدود الإمارات الصليبية، وكانت تتجاذبه أطماع فئتين فئة الروم البيزنطيين حينما كان يشتد نفوذهم في أنطاكية وفئة الصليبيين الذين كانوا يترصدون الفرص للتغلب على الكنائس والأديار، ثم يخلص صديقنا الزيات إلى القول: «وكان يتفق أحيانا أن يختار بطريرك أنطاكية من بين صنائع القسطنطينية، فيلبث في مكانه لتعذر السفر عليه إلى أنطاكية أو لمانع آخر، فيلبس لكل حالة لبوسها وينحاز بالطبع - أو بالضرورة - إلى أهواء بطاركة القسطنطينية ويحاربهم في سياستهم ونفورهم من اللاتين، فيظن من لا معرفة له بالحقيقة أن الكرسي الأنطاكي بأسره الذي يمثله بشخصه كان مشايعا لشقاق كيرولاريوس، في حين أن البطريرك إنما كان يتكلم باسمه الخاص دون موافقة أساقفته وشعبه في ديار الإسلام، وإذا صح قط أن أحد أحبار الكرسي المقيمين في الديار الرومية أو أنطاكية جاهر بشيء في ذلك فيكون قد نطق بلسانه وعبر عن جنانه، وهو بعيد عن كرسيه غريب عن شعبه المستقر في الديار الإسلامية، وشتان بين قوم من البيزنطيين كان الحقد السياسي أو الجنسي المتأثل في صدورهم، ولا سيما بعد انتزاع الصليبيين القسطنطينية، يملي عليهم عبارات الخصام والخلاف لكرسي رومة وبين أقوام من العائشين في ذمة الإسلام تنزهوا عن هذه الأغراض وبرئوا من هذه الأمراض، وجاروا الصليبيين وانقادوا للأساقفة اللاتين منذ القرن الحادي عشر.»
54
وكلنا يقول بدستور واحد وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، وكلنا أيضا يصلي «من أجل ثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الكل». ولكن القضية قضية تاريخية علمية، يجب أن تعالج معالجة علمية للتوصل إلى الحقيقة وتشخيص الداء الذي منه نشكو منذ تسعمائة سنة لنوفق - بعون الله - إلى وصف الدواء، ونحن لا ننكر خضوع البطريرك داود لرومة، وقد أبنا ذلك في محله، ولكننا لا نرى في العبارة التي وردت في مخطوط باريس رقم 4439، التي تفيد أن النصارى كانوا يكتبون محضرا باستحقاق بطريركهم، ويجهزونه إلى الباب في رومة، فيقف عليه ويجهز لهم استمرار الولاية إلى أنطاكية، نقول لا نرى في هذا القول دليلا علميا كافيا يخول الزيات استنتاجه الذي ورد أعلاه، فالزيات يعترف في رسالته هذه نفسها أن المخطوط الباريسي «غفل من اسم المؤلف ومن تاريخ التأليف والنسخ».
55
وبالتالي فنحن أمام رواية مجهول راويها، وقواعد المصطلح تقضي بالتثبت من هوية الراوي والتعرف إلى شخصيته وسبر غوره، ودرس المحيط الذي عاش فيه لضبط أمياله ونزعاته ودرجة علمه وذكائه واتصاله بالحوادث التي يروي أخبارها، والروايات التاريخية هي صلتنا الوحيدة بحوادث الماضي، فإن أخبرتنا الخبر على حقه توصلنا إلى الحقيقة، وإن أرجفت أوقعتنا في مهاوي الضلال والتضليل، فمن قال إن نصارى أنطاكية كانوا يجهزون المحاضر إلى بابا رومة فيجهز لبطاركتهم استمرار الولاية؟ وأين عاش هذا الراوي ومتى، وماذا كانت مكانته؟ وجواب الزيات عن هذه الأسئلة الأساسية هو لا أدري! وردنا نحن أن رواية الراوي المجهول تبقى ضعيفة واهية ما دام راويها مجهولا.
وقال الزيات - رحمه الله - في الصفحة 69 من رسالته إن حب التحقيق دعاه إلى السفر إلى رومة للبحث في خزائن الفاتيكان عن أحد هذه المحاضر التي كان الملكيون «يجهزونها ويلتمسون بها من البابا إقرار انتخاب بطاركتهم». فغم حين علم أن كل ما كان محفوظا في حاضرة الكثلكة من هذه المحاضر ضاع وتلف لما دخل رومة شارل الثامن ملك فرنسة سنة 1493 وأطلق أيدي جنوده في السلب والنهب والحريق. وأضاف الزيات: إن كل ما هو في خزائن مجمع نشر الإيمان من الكتابات والأخبار الملكية لا يتجاوز اليوم أوائل القرن السابع عشر، فيترتب علينا - والحالة هذه - أن نقول: إن مخطوط باريس غفل من اسم المؤلف ومن تاريخ التأليف والنسخ، وإنه ليس هناك في رومة ما يثبت قول هذا المؤلف: إن نصارى أنطاكية كانوا يجهزون رومة بالمحاضر لتجهز بطاركتهم باستمرار الولاية، ولا يجوز لنا «افتراض» وجود هذه المحاضر في رومة قبل السنة 1493 سنة السلب والنهب والحريق؛ لأنه ليس لدينا ما يخولنا هذا «الافتراض». وبالتالي فقول الزيات: «إن ما كان محفوظا من هذه المحاضر ضاع وتلف.» هو قول خطير صادر عن غير روية.
ولم يجد الزيات في براءة البطريرك ميخائيل التي نقلها القلقشندي العبارة: «واعلم بأنك في المدخل إلى شريعتك طريق إلى الباب.» تلك التي وردت في براءة البطريرك داود فضل وجهة أمره ونعت كاتب براءة البطريرك ميخائيل «بجعجعة الألفاظ دون غناء غلب عليها التكرار لغير طائل!» ونحن نخشى أن يكون صديقنا قد تغاضى وتغابى، ونرى في إسقاط الإشارة إلى «الباب» في براءة البطريرك ميخائيل وإثباتها في براءة البطريرك داود؛ مجالا للقول إن السلطان علم بخضوع الواحد إلى البابا وامتناع الآخر، ودليلا على تيقظ الديوان السلطاني لا على جعجعة كتابه.
وقد يكون كلام مؤلفنا المجهول صاحب مخطوط باريس وصفا لتقاليد الجاليات اللاتينية في الإمارات الصليبية؛ فاللاتين ملكيون في عرفه والأرثوذكسيون المقيمون في هذه الإمارات أكرهوا على الخضوع لأساقفة اللاتين، وهذه الجاليات كانت تجهز المحاضر باستحقاق بطاركتها فترسلها إلى رومة، والبابا كان يجهز - بدوره - استمرار الولاية لهؤلاء البطاركة.
56
الفصل السابع عشر
المجمع الفراري الفلورنسي
1438-1439
الأتراك العثمانيون
وفي الوقت نفسه الذي كانت تتناثر فيه إمارات الصليبيين تناثر أوراق الخريف كانت قبيلة «كاي كان كلي» التركية الخراسانية قد تقبلت الإسلام، ووطدت أقدامها عند حدود الروم في شمال آسية الصغرى الغربي، وحذا حذوها الصروخان والقرمان وآيدين وغيرها، وتولى عثمان زعامة الكاي كان كلي فعرفت القبيلة باسمه، وفي السنة 1301 تمكنت هذه القبيلة بخيولها المصفحة من اختراق صفوف الروم أمام نيقوميذية، وضغطت القبائل الأخرى على ساحل الأرخبيل وعلى مدن الروم في الداخل، وواصل أورخان بن عثمان الحرب على الروم فاستولى على نيقوميذية ونيقية، ثم جنح إلى السلم فقضى نحو عشرين عاما يثبت دعائم ملكه وينظم الجيش.
وفي السنة 1357 قطع الدردنيل وأغار على الشاطئ الأوروبي فاحتل غاليبولي، وأخضع مراد الأول (1359-1389) الرومللي وبلغارية والصرب، وخلفه ابنه بايزيد الأول (1389-1402) فلم يقل عن أبيه مهارة وإقداما؛ فأخضع الإمارات التركية في آسية ووطد أركان دولته في أوروبة، وعم الهول والفزع معظم الأوروبيين، وقامت رومة تدعو إلى مقابلة الأتراك، وخرج لذلك جيش عظيم بقيادة سيجيسموند ملك المجر ضم بين كتائبه كثيرا من فرسان فرنسة وألمانية، وفاز الأوروبيون في بادئ الأمر واستردوا من الترك كثيرا من المدن، ثم شرعوا في حصار نيكوبوليس عند نهر الدانوب، فأسرع بايزيد للقائهم فهزمهم (1396)، ثم أطل تيمورلنك فخرج بايزيد لصده وتقابل الجيشان في أنقرة (1402) فكانت الهزيمة على العثمانيين، وأخذ بايزيد أسيرا ومات كمدا، وهلك تيمورلنك فاقتتل أولاد بايزيد من أجل العرش عشرين سنة.
ثم انتهى الأمر بتغلب محمد الأول (1413-1421) فصادق الروم ولم شعت الدولة وكبح جماح الإمارات وأصلح ما أفسدته الفتن، وخلفه مراد الثاني (1421-1451) فعمل على مواصلة الفتوح، وكان عمانوئيل الثاني فسيلفس الروم قد طلب إلى السلطان الجديد أن يبقي ابنه رهينة في القسطنطينية فأبى، وفي السنة 1421 أعلن يوحنا الثامن فسيلفسا وشريكا لوالده في الحكم، فأطلق سراح مصطفى بن بايزيد المطالب بالعرش العثماني كما حرر جنيدا الوزير السابق الثائر، فاضطر مراد الثاني إلى أن يحارب مصطفى، ثم قام بخمسين ألف جندي إلى القسطنطينية وضرب الحصار عليها، ثم اضطر إلى أن يرفع هذا الحصار لمجابهة ثورة هامة أذكاها عمانوئيل في بروسة ونيقية والقرمان.
يوحنا الثامن ومراد الثاني
وكانت دولة الروم قد تضاءلت، فلم تعد تشمل سوى القسطنطينية وضواحيها حتى سلمبرية ثم بعض الأراضي الضيقة في ساحل البحر فجبل أثوس فثسالونيكية فميسترة وميزيمبرية وأنخيالوس، وكانت الموارد قد نضبت وقل الخير وكاد ينقطع، وكانت النقود الذهبية قد أصبحت نادرة في أيام عمانوئيل الثاني (1391-1425)، فلما تسلم يوحنا الثامن دفة الحكم اكتفى بالفضي منها.
1
واستغل مراد الثاني ضعف الروم فاستولى على مودونة في السنة 1425 وخرج منها بألف أسير، وفي السنة 1430 زحف على ثسالونيكية وضرب الحصار عليها، وكان أندرونيكوس باليولوغوس قد باعها من البنادقة منذ السنة 1423 لقاء خمسين ألف زكينة، ولم تتمكن البندقية من إقامة حامية قوية، فاستولى عليها السلطان بنفسه في 29 أيار سنة 1430، وأباح نهبها وذبح من قاومه من أهلها وكانوا كثرا، وحول جميع كنائسها إلى جوامع ما عدا كنيسة القديس ديمتريوس.
2
وعظم على يوحنا الثامن سقوط ثسالونيكية في يد الأتراك وأفزعه تقدم مراد وانتصاره، فهرع يرمم حصون العاصمة، ولا تزال بعض النقوش الباقية تنطق باهتمامه هذا، وهاله تخاصم الجنويين والبنادقة في هذا الظرف الحرج،
3
وحز في صدره أن أخويه ثيودوروس وقسطنطين تنازعا الخلافة بعده واستعدا لحرب أهلية مرة وتسابقا لخطب ود مراد الثاني.
4
قرب الثرى وبعد النبط
وكان من الطبيعي جدا أن يعمد الروم إلى نصارى الغرب للصمود في وجه المسلمين، ولكن التراب الندي كان قريبا والماء بعيدا، فرومة تطلب خضوع الإكليروس اليوناني ولم ترض عن هذا الخضوع بديلا، والفسيلفس كان ينتظر المدد الحربي والمالي مقابل الخضوع، وكل وعد بما لم يملك وكل اتعد بما لا أمل في الوصول إليه،
5
وجاء في بعض المراجع الأولية أن عمانوئيل الثاني أوصى قبيل وفاته ألا ينظر إلى الاتحاد إلا كوسيلة لصد الأتراك، وأن يصار إلى المطالبة بعقد مجمع مسكوني، وأن يماطل في ذلك بقصد كسب الوقت، وأنه لا يمكن التوفيق بين عجرفة اللاتين وعناد الروم.
6
مجمع بازل (1431-1448)
وطالب الغرب بإصلاح الكنيسة إصلاحا عاما «يشمل الرأس والأعضاء» ويضم شتات الكنيسة ويدفع عنها خطر الأتراك، فدعا البابا مرتينوس الخامس إلى مجمع في بازل يبحث هذه الأمور جميعها ويحقق الإصلاح المنشود، وتوفي مرتينوس قبل افتتاح المجمع، وخلفه أفجانيوس الرابع (1431-1447) فتم افتتاح المجمع في تموز السنة 1431، ولم يرض البابا عن البحث في إصلاح رأس الكنيسة فلم يحضر اجتماعات بازل، وفاوض الآباء المجتمعون يوحنا الثامن في كيفية التعاون بين النصارى للصمود المثمر في وجه الأتراك المسلمين، وتبادل الطرفان الوفود فقام وفد أرثوذكسي إلى بازل، وكان الأيغومينس أسيدورس ألمع أعضاء هذا الوفد، وهو الذي أصبح فيما بعد رئيس أساقفة كييف، فألقى خطابا حماسيا أكد فيه أن إتمام الاتحاد المنشود يتحف العالم بأثر تذكاري يفوق صنم رودوس في سموه نحو العلى ويصل رأسه إلى السماء، فيضيء الشرق والغرب بلمعانه،
7
ثم بات الوفد الأرثوذكسي ينتظر البحث التفاهم والاتحاد، ولكن أساقفة الغرب تشاحنوا كثيرا في أمر المكان الذي يلتئم فيه مجمع مسكوني، ثم اتفقوا على إرجاء البحث في الاتحاد بين الكنيستين إلى أن يكونوا قد حلوا مشكلة يوحنا هوس وأتباعه، فغضب الأرثوذكسيون لكرامتهم وظنوا أن أخوانهم الغربيين إنما ساووا بقرارهم هذا بين المؤمنين الأرثوذكسيين وبين هراطقة بوهيمية، وعلمت الأوساط الإكليريكية والشعبية في الشرق بما جرى فهبت عاصفة هوجاء من الاستياء في القسطنطينية.
8
مجمع فراري (1438)
وكان يوحنا الثامن قد أرسل وفدا في مطلع السنة 1431 ليفاوض مرتينوس الخامس في أمر الاتحاد والمساعدة، وعلم هذا الوفد - وهو لا يزال في المورة في طريقه إلى رومة - بوفاة مرتينوس فعاد إلى القسطنطينية،
9
فأرسل يوحنا وفدا ثانيا يفاوض البابا الجديد أفجانيوس الرابع، وكان الشقاق قد ذر قرنه بين الكرادلة، وكان مجمع بازل قد بدأ يناوئ رومة فلم يرض أفجانيوس عما رضي عنه سلفه وأصر على وجوب عقد مجمع الاتحاد في فراري لا في القسطنطينية، وعلم الآباء المجتمعون في بازل بما جرى بين أفجانيوس والوفد البيزنطي، ولم يرضوا عن انتقال المجمع من بازل إلى فراري فأرسلوا - بدورهم - وفدا إلى القسطنطينية (أوائل سنة 1433) يؤكد أن سلطة المجمع المسكوني أعلى من سلطة البابا، وأن أمراء أوروبة يؤيدون الآباء في بازل، وأنه من مصلحة الروم أن يبطلوا الانشقاق،
10
فأرسل يوحنا الثامن أخاه ديمتريوس والأيغومينس أسيدورس ويوحنا ذيسيباتوس إلى بازل للمفاوضة - كما سبق وأشرنا،
11
وفي مطلع السنة 1434 عاد الوفد المفاوض من رومة وجاء معه الكردينال غراتوني لمتابعة البحث، وقبل أفجانيوس بعقد المجمع المسكوني في القسطنطينية، ولكن الآباء المجتمعين في بازل أصروا على الاجتماع في أفينيون، فأصر أفجانيوس بدوره على عقد المجمع في بلدة إيطالية، وتجددت البعثات إلى القسطنطينية فأم عاصمة الروم الأب الدومينياكاني يوحنا الراغوزي على رأس وفد يمثل مجمع بازل في السنة 1435-1436،
12
وفي أيلول السنة 1437 وصل إلى القسطنطينية وفد بابوي جديد ؛ ينقل رأي أفجانيوس في الموضوع،
13
وتبعه وفد مجمعي آخر، فوصل في الثالث من تشرين الأول،
14
واضطر أفجانيوس أن يأمر المجمع المنعقد في بازل بالانتقال إلى فراري،
15
فأظهر الآباء المجتمعون في بازل العصيان بأغلبية الأصوات وقرروا خلعه وانتخبوا فيليكس الخامس محله.
16
تشاور الروم
ودعا الفسيلفس يوحنا الثامن بطاركة الشرق للاشتراك في أعمال المجمع المسكوني الجديد، وطلب إلى أمراء الروس وحكام رومانية وديسبوت الصرب وإمبراطور طرابزون أن يعينوا من يمثلهم في هذا المجمع، وتشاور زعماء القسطنطينية في أمر المجمع المسكوني فشايع الفسيلفس على رغبته في الاتحاد عدد من كبار رجال السياسة، وكان ديمتريوس كيذونيس
Cydonés
قد نقل إلى اليونانية شيئا من أبحاث الآباء الغربيين في اللاهوت فتسنى للآباء الأرثوذكسيين الاطلاع على أراء إخوانهم الغربيين أكثر من ذي قبل،
17
ونشأ في الأوساط الإكليركية الأرثوذكسية استعداد للتفاهم مع الغرب والاتحاد، وأشهر هؤلاء بساريون الطرابزوني متروبوليت نيقية وأسيدورس أيغومنس دير القديس ديمتريوس في القسطنطينية ورئيس أساقفة كييف بعد السنة 1436، ولمع في صفوف المدافعين عن العقيدة الأرثوذكسية والتقليد الرسولي كل من مرقس (أفجينيكوس) متروبوليت أفسس وجورج سكولاريوس الذي أصبح فيما بعد البطريرك جناديوس،
18
وشاور يوحنا الثامن مرادا الثاني في أمر التفاوض مع الغرب فلم يرض.
19
الوفد الأرثوذكسي
وترأس يوحنا الثامن الوفد الأرثوذكسي بشخصه، وضم إليه الأمير الملكي عمانوئيل يغارس والبطريرك المسكوني يوسف الثاني وعددا من المطارنة والوجهاء، ومثل بطريرك الإسكندرية أنطونيوس متروبوليت هرقلية وغريغوريوس (مماس) بروتوسنكلوس القسطنطينية، وناب عن بطريرك أنطاكية كل من مرقس (أفجانيكوس) متروبوليت أفسس وأيسيذوروس متروبوليت كييف، وناب عن بطريرك أوروشليم ديونيسيوس متروبوليت سردة، وبعد وفاته بالطاعون دوسيثايوس متروبوليت مونبازية، ومثل الكنيسة الروسية أسيدورس متروبوليت كييف.
وركب الوفد الأرثوذكسي السفن البابوية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني سنة 1437، فوصل إلى البندقية في الثامن من شباط سنة 1438 فاستقبل فيها استقبالا حافلا،
20
وقام يوحنا الثامن منها إلى فراري فوصلها في الرابع من آذار، ووصل البطريرك وحاشيته في التاسع من الشهر نفسه.
جلسات فراري
وافتتح المجمع في التاسع من نيسان فتغيب عن الحضور معظم أعضاء مجمع بازل ومعظم أمراء أوروبة، ولم يشترك من هؤلاء سوى فيليب الطيب دوق بورغندية، وكان يهتم لمسائل الشرق فأرسل وفدا يمثله في المجمع، فخاب أمل يوحنا الثامن وخاب سعيه لتنظيم حملة صليبية فور الانتهاء من أعمال المجمع،
21
ومنع شارل السابع أساقفة فرنسة عن الاشتراك في أعمال المجمع فزاد في الطين بلة،
22
وتقرر تأجيل العمل أربعة أشهر كاملة؛ لانتظار الذين تأخروا عن الحضور.
وعين كل فريق لجنة من عشرة أعضاء تعد الأبحاث لعرضها على الهيئة العامة، فتألفت لجنة الروم من مرقس متروبوليت أفسس وممثل الكرسي الأنطاكي ومن بيساريون متروبوليت نيقية وثلاثة مطارنة آخرين وبلسمون الخرتوفيلاكس، وسيليفستروس (سيروبولوس) الإكليسيارخوس ورئيسين من رؤساء الأديرة وراهب، وأضاف يوحنا الثامن إلى هؤلاء الأمير عمانوئيل يغارس، وتألفت لجنة اللاتين من الكردينال شيزاريني والكردينال البرغاتي وأسقف والراهب الدومينيكي الإسباني توركو يمادا وستة آخرين.
وبحث الأعضاء أمر التصويت، فطالب الروم باعتبار مجموع أصوات الروم موازيا لمجموع أصوات اللاتين في مسائل العقيدة، فلم يقبل اللاتين بذلك، وكان للاتين مائتان وثمانية أصوات مقابل خمسة وعشرين للروم،
23
وحرر مرقس أفسس رسالة إلى البابا شديدة اللهجة، فأوقفها الفسيلفس نفسه،
24
ولكن الفسيلفس لم يتمكن من منع مرقس عن توجيه السؤال التالي في جلسة الثامن من تشرين الأول: «أتجوز الإضافة إلى دستور الإيمان؟» فنهض بيساريون ورجا الحضور أن يبحثوا القضية نفسها بالشكل: «أيجوز القول بالانبثاق من الآب والابن؟» ثم خطب بوجوب الاتحاد،
25
وعاد مرقس إلى الموضوع نفسه في جلسة الرابع عشر من تشرين الأول، ولكن بدون جدوى،
26
فتثبط الأعضاء وتعوقوا،
27
وكان الطاعون قد ظهر في أحياء فراري منذ شهر تموز فانتشر وتلوثت المدينة بكاملها، فأمر البابا بالانتقال إلى فلورنسة، فقام الأعضاء إلى عاصمة توسكانة في أول السنة 1439.
جلسات فلورنسة
وفي الرابع عشر من شباط سنة 1439 تابع المجمع أعماله في جلسة افتتاحية في مقره الجديد في فلورنسة، واستمر النقاش في أمر الانبثاق في جلسات ثمان من الثاني من آذار حتى الرابع والعشرين، وأدى إلى صراع عنيف بين مرقس أفسس ويوحنا راغوزة، فتدخل الفسيلفس ومنع مرقس عن متابعة البحث،
28
واتضح للفسيلفس والبابا أن لا فائدة ترتجى من متابعة المناقشة العلنية، فاتفقا على إيقافها وتعيين لجنة جديدة من العناصر الراغبة في الاتحاد لوضع صك بالاتحاد يوقعه الراغبون فيه من أعضاء المجمع أفرادا، وفي الثلاثين من آذار أعلن هذا الاتفاق في قاعة المجمع فضج مرقس ورد بيساريون وأيسيدورس فتدخل يوحنا الثامن وكم أفواه المعارضين،
29
وتولى بيساريون إعداد النص المطلوب، فاستقصى نقاط الاتفاق في قضية الانبثاق من أقوال الآباء الشرقيين والغربين،
30
ووقع الآباء اليونانيون هذا الصك في الرابع من حزيران، ووافق الباب عليه في الثامن من الشهر نفسه، ورحل عن فلورنسة قبل التوقيع كل من الديسبوت ديمتريوس والفيلسوف بليثون والعالم سكولاريوس (جناديوس فيما بعد)؛ كي لا يساء فهم موقفهم من هذا الصك،
31
وكان البطريرك المسكوني يوسف الثاني قد عارض الاتحاد قبل خروجه من القسطنطينية، فتوفي قبل إعلانه، وذلك في التاسع من حزيران،
32
ويلاحظ هنا أن صحة الوثيقة التي تتضمن موافقة هذا البطريرك على ما جرى في فراري وفلورنسة لم تثبت بعد، وأن سبب وفاته لا يزال مبهما غامضا، أما مرقس متروبوليت أفسس وأحد ممثلي الكرسي الأنطاكي فإنه امتنع عن التوقيع واحتج على محتويات الصك.
وتم التفاهم بسهولة حول قضية المطهر واستعمال الفطير ومسألة الأبيكليسيس، وهي الابتهال إلى الروح القدس الذي يتلى بعد كلام التقديس، وذلك بين الثاني عشر من حزيران والخامس من تموز، واشتد النقاش بين الثالث والعشرين والسادس والعشرين من حزيران حول سلطة البابا على البطاركة وصلاحيته في الدعوة إلى المجامع المسكونية، وهدد الفسيلفس بالانسحاب، ثم وفق بيساريون إلى صيغة أبانت سلطة البابا وحفظت «حقوق الكنيسة الشرقية وامتيازاتها».
33
إعلان الاتحاد
واستخرج طلاب الاتحاد من مختلف الاقتراحات نصا واحدا للاتحاد، وافقوا عليه في جلسة السبت في الرابع من تموز سنة 1439، وأعلن هذا النص رسميا يوم الاثنين في السادس من تموز في قداس حبري أقامه البابا أفجانيوس الرابع، فتلاه باللاتينية الكردينال سيزاريني يمين البابا وباليونانية بيساريون متروبوليت نيقية، ثم تعانقا، وإليك تعريب النص كما جاء في منشور البطريرك كيرلس التاسع لمناسبة الذكرى المئوية الخامسة لمجمع فلورنسة:
34
أفجانيوس الأسقف خادم خدام الله
أكتب هذا للذكر المؤبد، برضى والدنا الأعز بيسوع المسيح يوحنا باليولوغوس إمبراطور الروم، ورضى ممثلي إخواننا البطاركة الشرقيين وبقية أخواننا الأساقفة الحاضرين هنا، بالأصلة عن نفوسهم وبالنيابة عن الكنيسة الشرقية جمعاء؛ لتفرح السموات وتبتهج الأرض! فقد انهدم الحائط الفاصل بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، وأقيم السلام والاتفاق ثانية على حجر الزاوية يسوع المسيح الذي ضم الشعبين إلى واحد، جامعا كلا الحائطين برباط السلام والمحبة الذي لا ينحل، وقد اضمحلت غيوم الحزن المديد، وتبدد ظلام الخصومة المزمن وأضاء لنا كوكب الاتحاد البهي الشهي.
فلتفرح الكنيسة أمنا؛ فإن أبناءها الذين كانت تشاهدهم متخاصمين تراهم اليوم راجعين إلى الوحدة والسلام، وتلك التي كانت تذرف دموعا سخينة على انفصالهم لتشكر الآن بفرح لا يوصف الإله القدير على اتفاقهم العجيب؛ ليفرح به المؤمنون في العالم أجمع وليهنئ المسيحيون أمهم الكنيسة الجامعة، فها إن آباء الغرب والشرق بعد مرور حقبة طويلة من الاختلاف والشقاق قد ركبوا أخطار البر والبحر وتغلبوا على المتاعب وبادروا - بسرور - إلى هذا المجمع المسكوني المقدس، راغبين في تجديد الاتحاد المقدس والمحبة القديمة، ولم تخب آمالهم؛ لأنهم - بعد الأبحاث الطويلة الشاقة - بلغوا برأفة الروح القدس إلى الاتحاد المقدس المرغوب فيه، فمن يستطيع أن يرفع للقدير الشكر الوفي على هذا الإحسان، ومن لا يتعجب من كل قلبه من غنى مراحم الله، هل من قلب صخري لا تلينه مشاهدة رأفة الله هذه غير المتناهية، حقا إنها لأفعال إلهية لا اختراعات الضعف البشري.
إذن يجب علينا قبولها بالاحترام العظيم والاعتراف بها بالترانيم المقدسة، لك المديح لك المجد لك الشكر يا يسوع المسيح يا ينبوع المراحم الذي أوليت عروسك الكنيسة الجماعة هذا الخير العظيم، وأظهرت في جيلنا عجائب حنوك حتى يتحدث الجميع بمعجزاتك، فقد رأينا بعيوننا ما طالما تاق السلف إليه فلم يروه؛ فإن اللاتين واليونان التئموا في هذا المجمع المسكوني المقدس، وبحثوا - بمنتهى الجهد والتدقيق - قضية انبثاق الروح القدس موردين آيات الكتب الإلهية، ونصوصا كثيرة لملافنة الغرب والشرق الآباء القديسين، الذين منهم من يقول: إن الروح القدس منبثق من الآب والابن، ومنهم من يقول إنه منبثق من الآب بالابن، إنما كلهم يرمون إلى مقصد واحد بألفاظ مختلفة.
وبالواقع أكد الروم أنهم بقولهم: إن الروح القدس ينبثق من الآب؛ لا ينفون انبثاقه من الابن، ولكن بما أنهم كانوا يظنون أن اللاتين بقولهم عن الروح القدس: إنه ينبثق من الآب والابن يسلمون بمبدأين ونفختين امتنعوا عن القول بأن الروح القدس ينبثق من الآب والابن. على أن اللاتين أكدوا أنهم بقولهم عن الروح القدس: إنه ينبثق من الآب والابن لا ينفون كون الآب ينبوع كل اللاهوت، ومبدأ للابن والروح القدس، ولا ينكرون أن الابن يأخذ من الآب بثق الروح القدس، ولا يجعلون مبدأين أو نفختين، بل يعتقدون بمبدأ واحد فقط وبنفخة واحدة باثقة للروح القدس كما اعتقدوا على الدوام.
وبما أن مرجع هذه التعابير كلها إلى معنى واحد؛ فقد اتفقوا - أخيرا - وأقروا برضى شامل الاتحاد التالي المقدس المحبوب من الله:
باسم الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس، وبتصديق هذا المجمع المسكوني المقدس المنعقد في فلورنسة، نوجب على المسيحيين بأجمعهم أن يقبلوا حقيقة أيماننا هذه ويؤمنوا بها، معترفين كلهم أن الروح القدس هو - منذ الأزل - من الآب والابن، وأنه يأخذ جوهره وكيانه الخاص من الآب والابن معا منبثقا انبثاقا أزليا من كليهما كمن مبدأ واحد ونفخة واحدة.
ونصرح بأن الآباء القديسين الذين يقولون عن الروح القدس: إنه ينبثق من الآب والابن؛ لا يقصدون سوى هذا المعنى؛ أي أن الابن مثل الآب علة أقنوم الروح القدس كما يقول الروم، أو مبدأه كما يقول اللاتين، كما أن الآب هو علة الابن ومبدأه، وبما أن الآب عند ولادته لابنه الوحيد منحه كل ما يملك ما عدا الأبوة، هكذا أخذ الابن أزليا من الآب أن يبثق الروح القدس ، ونحدد أن زيادة لفظة والابن في قانون الإيمان هي حسنة وشرعية وصوابية؛ لأنها توضح حقيقة من حقائق الإيمان، وقد اقتضتها الضرورة.
ونحدد أن جسد يسوع المسيح يقدس حقا في خبز الحنطة، سواء أكان فطيرا أو خميرا، وعلى الكهنة أن يستعملوا هذا أو ذاك بحسب طقس كنيستهم - غربية كانت أو شرقية.
ونحدد أن نفوس الذين تابوا توبة حقيقية وماتوا في حال محبة الله قبل أن يكفروا عما اجترموه أو أهملوه بأفعال توبة لائقة تتطهر بعد الموت بعذابات المطهر، وتتخلص منها بإسعافات المؤمنين الأحياء كذبيح القداس والصلوات والصدقات وغير هذه من أفعال المحبة التي اعتاد المؤمنون ممارستها لأجل المؤمنين حسب أصول الكنيسة، وأن نفوس الذين بعد قبولهم سر المعمودية لم يتدنسوا قط بأدناس الخطيئة، أو نفوس المؤمنين الذي بعد ارتكابهم الخطيئة قد تطهروا منها إذا كانوا في الجسد أو بعد الموت على النحو المتقدم أعلاه؛ تدخل حالا السماء لتشاهد بوضوح الإله الواحد المثلث الأقانيم كما هو، وإنما تتفاوت درجة هذه المشاهدة بحسب اختلاف درجات الاستحقاق، وأن نفوس الذين يموتون في حال الخطيئة المميتة مفعولة كانت أو أصلية فقط تهبط حالا إلى الجحيم لتتعذب بعذابات مختلفة متفاوتة.
ونحدد أيضا أن الكرسي الرسولي المقدس والحبر الروماني له أولية التقدم في المسكونة كلها، وهو خليفة الطوباوي بطرس هامة الرسل ونائب المسيح الحقيقي ورأس الكنيسة كلها وأبو المسيحيين بأجمعهم ومعلمهم، وقد أعطاه سيدنا يسوع المسيح بشخص الطوباوي بطرس ملء السلطان ليرعى ويدبر ويسوس الكنيسة الجامعة كما تتضمن ذلك أعمال المجامع المسكونية والقوانين المقدسة. ثم نجدد النظام الذي رسمته القوانين لبقية البطاركة المكرمين، وهو أن الثاني بعد الحبر الروماني الأقدس بطريرك القسطنطينية، والثالث بطريرك الإسكندرية، والرابع بطريرك أنطاكية، والخامس بطريرك أوروشليم، على أن تحفظ كل امتيازاتهم وحقوقهم.
35
ويلاحظ هنا أن صك الاتحاد لا يشير إلى الأبيكليسيس، والسبب في ذلك أن الآباء اليونانيين الذين وافقوا على الاتحاد؛ ادعوا أن القديس يوحنا الذهبي الفم يقول إن التقديس يتم بمجرد تلاوة كلمات السيد المسيح دون سواها، ويلاحظ أيضا أن الآباء اليونانيين أصروا - عند اعترافهم بسلطة البابا - على أمرين هامين، أولهما أن المجامع المسكونية لا تصبح مسكونية إلا بحضور بطريرك القسطنطينية وإمبراطورها بالإضافة إلى البابا، وأنه لا يجوز محاكمة بطريرك إلا في داخل أبرشيته لمقابلة المدعي بالمدعى عليه.
36
ويلاحظ أيضا أن يوحنا الثامن قصد فراري مستنجدا مستمطرا، فوعدته رومة فاتعد فتدخل في المجمع تدخلا فعليا، وألح وضغط ولم يسمح بالمخالفة ولا بالمعاندة، فأحرج موقف العضو العادي واضطر الأقلية الباقية إلى التطرف إما سلبا وإما إيجابا.
القسطنطينية والاتحاد
وأنهى المجمع أعماله في جلسة عمومية في السادس والعشرين من آب وغادر الوفد اليوناني البندقية في الحادي عشر من تشرين الأول،
37
ولم يصلوا إلى القسطنطينية قبل اليوم الأول من شباط سنة 1440،
38
فصودموا فيها بمعارضة شديدة من الإكليروس والشعب ونعتوا بالفطيريين والخونة والهراطقة، وأيد الشعب في هذه المعارضة جمهور الوجهاء ورجال البلاط،
39
وجل ما سمح به المعتدلون من هؤلاء ذكر اسم البابا في الذبتيخة، ولم يوافقوا على إذاعة نص كتاب الاتحاد
Tomus Unionis .
40
وتزعم مرقس متروبوليت أفسس المعارضة، وسانده فيها كل من أخيه يوحنا أفجانيكوس وجاورجيوس سكولاريوس، فالتف حولهم الشعب وجمهور الإكليروس، وتراجع عن الاتحاد واحد وعشرون من تسعة وعشرين ممن وقعوا صك فلورنسة! واشتد الجدل وضجت الأوساط بالاحتجاج وعدم الرضى، فأمر الفسيلفس مرقس بالالتحاق بأبرشيته فامتثل، ولكنه اتجه شطر جبل آثوس فأمر الفسيلفس بسجنه،
41
ونصح البابا باللجوء إلى الجدل العلني وأرسل إلى القسطنطينية قاصدا رسوليا وعددا من رجال اللاهوت، فناظر مرقس أسقفين لاتينيين وماتنهما وتمادى فادعى النصر كل من الطرفين،
42
وخطب سكولاريوس في حضرة الشيوخ وارتقى غيره المنابر، فطعنوا في الاتحاد واتهموا مؤيديه بالخيانة،
43
وكان يوحنا الثامن قد أقام متروفانس أحد أعضاء الوفد المفاوض بطريركا على القسطنطينية فكثر عثاره فاستعفى، فجاء الفسيلفس بأحد خصوم مرقس بغريغوريوس ماماس وأجلسه على السدة المسكونية (1445)، فتهجم سكولاريوس عليه وأهانه علنا في كنيسة الحكمة الإلهية،
44
واسترسل يوحنا الثامن في تأييد الاتحاد، فركب المعارضون متن غرورهم، واختلف الأمراء في أمر الولاية بعد يوحنا فأيد بعضهم المعارضة تأييدا فاشتد الكره واضطرب الناس، وقلت ثقة الإكليروس بالحكومة، ومال بعضهم إلى الأتراك.
45
وتوفي يوحنا الثمن في السنة 1448 ولم يرزق ولدا يخلفه في الحكم، فتدخل مراد الثاني السلطان العثماني في أمر الخلافة، فتوج قسطنطين باليولوغوس فسيلفسا باسم قسطنطين الحادي عشر في السادس من كانون الثاني سنة 1449، فعاهد مرادا على الولاء، واستقبله الشعب بابتهاج عظيم، ولم يتصل برومة ليثبت لها أن اتحاد الكنيستين كان لا يزال قائما - في نظره.
الاتحاد في روسية
وعاد أسيدورس إلى روسية، وأعلن صك الاتحاد في موسكو سنة 1441، فخلعه باسيليوس الثاني الغراندوق وأمر بحبه ولقبه بالذئب بدلا من الراعي، ثم أوعز بانتقاء روسي يخلفه في رئاسة الأساقفة، واعتبر الروس يوحنا الثامن وبطريركه جاحدين، فأفلتت كنيسة روسية من يد بطريركية القسطنطينية،
46
وفر أسيدورس من سجنه، والتجأ إلى رومة وبقي فيها، وكان بيساريون شريكه في الاتحاد قد عاد إلى رومة أيضا ليستقر فيها!
مجمع أوروشليم (1443)
ونقل أرسانيوس متروبوليت قيصرية قبدوقية إلى دوروثيوس الثاني البطريرك الأنطاكي وإلى يواكيم البطريرك الأوروشليمي وفيلوثيوس البطريرك الإسكندري موقف الشعب والإكليروس والوجهاء في عاصمة الأرثوذكسية من الاتحاد الذي تم في فلورنسة، فاجتمعوا في أوروشليم في السنة 1443، وبحثوا الموقف فشجبوا أعمال الوفد المفاوض في فلورنسة، واعتبروا قراراتهم غير شرعية ووصموها بالدنس
Miara ، وخلعوا متروفانس البطريرك الاتحادي القسطنطيني وكل من رسم من رجال الإكليروس.
47
مجمع كنيسة الحكمة (1450)
ويختلف العلماء في صحة قرارات نسبت إلى مجمع عقد في كنيسة الحكمة الإلهية في السنة 1450، وضم أقطاب الكنائس الأرثوذكسية البطاركة الثلاثة وغيرهم، فلاوون الأتيوس العالم الإيطالي الذي نشر هذه القرارات في القرن السابع عشر اعتبرها كاذبة مزورة، ولكن بعض علماء اليونان أيد صحتها، ومنذ ذلك الحين والعلماء على اختلاف في أمرها، فالعلامة البحاثة لويس بريهية يقول بصحتها، وكان دراسيكة العلامة الألماني قد قال هذا القول نفسه في السنة 1896،
48
وبابايانو اليوناني ولبديف الروسي وغيرهما ينكران الصحة،
49
ويرى العلامة المعاصر فازيلايف الروسي أنه ليس هنالك دليل كاف يؤيد رجوع قسطنطين الحادي عشر عن الاتحاد.
وخلاصة ما يقال عن أعمال هذا المجمع: إن بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم دعوا إلى مجمع في كنيسة الحكمة الإلهية في السنة 1450، فخلعوا غريغوريوس مماس بطريرك القسطنطينية «المليتن» وأقاموا أثناسيوس «الأرثوذكسي» محله وشجبوا أعمال مجمع فلورنسة، واعتبروا قراراته رجسة خبيثة مخالفة لقرارات المجامع المسكونية، ثم تقبلوا عودة التائبين من الأساقفة والكهنة - والدموع ملء أعينهم.
ويفيد سكولاريوس - الذي أصبح فيما بعد البطريرك المسكوني جناديوس - أن خمسة مطارنة وعشرة إكليريكيين غيرهم رفعوا في تشرين الثاني سنة 1452 بيانا إلى الفسيلفس قسطنطين الحادي عشر رفضوا فيه الاعتراف بالاتحاد.
50
المرسوم الصادر إلى الأرمن
وعمل البابا أفجانيوس لمناسبة مجمع فلورنسة على الاتحاد مع جميع الطوائف المسيحية، وأرسل قسطنطين جاثليق الأرمن في قيليقية وفدا إلى فلورنسة لإعادة السلام والمحبة، فبحث المجمع أمر الأرمن، وأعلن البابا في الثاني والعشرين من تشرين الثاني سنة 1439 صك الاتحاد معهم، وجاء هذا الصك حاويا أكمل عرض لتعليم كنيسة رومة بشأن الأسرار، وجاء فيه قول صريح بشأن الانبثاق والطبيعتين والمشيئتين. وفي الخامس عشر من كانون الأول منع البابا إعادة تعميد الأرمن.
الأقباط والأحباش
ووجه أفجانيوس رسالة إلى يوحنا بطريرك الأقباط وإلى نجاشي الحبشة؛ يدعوهما إلى الاتحاد، فأم فلورنسة في شهري آب وأيلول سنة 1441 من فاوض مجمعها في الاتحاد، وفي الرابع من شباط سنة 1442 أعلن البابا صكا آخر ضمنه الاتحاد مع هؤلاء، وفصل فيه موقف الكنيسة من سر الثالوث الأقدس وخلق العالم وأسفار العهدين وطبيعتي السيد المخلص وحقيقة سر الفداء وأهمية قرارات المجامع المسكونية، وتلي هذا الصك باللغتين اللاتينية والعربية.
المانويون البشناق
وفي السنة 1443 وصل إلى فلورنسة سفير توما ملك البشناق، فاستنكر تعاليم ماني والقول بمبدأين أزليين، وصرح برغبة الملك في الانضمام إلى الكنيسة.
السريان
ووصل إلى رومة عبد الله مطران الرها، ففاوض المجمع الفلورنسي فيها، وأعلن البابا في الثلاثين من أيلول سنة 1444 الاتحاد مع السريان وبين ما يجب الاعتقاد به، ولا سيما فيما يتعلق بالطبيعتين والمشيئتين.
نساطرة قبرص وموارنتها
وكان لا يزال في قبرص نساطرة يقولون بأن السيدة العذراء أم يسوع لا والدة الإله، وما ينطوي عليه هذا الكلام، ويجاهرون بطبيعة واحدة لا بطبيعتين، وكانوا خاضعين لأسقف اسمه تيموثاوس الطرسوسي وكان في الجزيرة أيضا موارنة خاضعون لأسقف اسمه إلياس، فأرسل أفجانيوس بابا رومة أسقفا يدعو هؤلاء إلى الاتحاد، وبعد مفاوضات طويلة رضي الأسقفان بالاتحاد، وأقاما لذلك حفلة خصوصية في كنيسة الحكمة الإلهية القبرصية، وأرسلا مندوبين إلى رومة للبحث في تفاصيل هذا الاتحاد، وفي السابع من آب سنة 1445 أعلن البابا اتحاد هؤلاء، موجبا القول بالطبيعتين والمشيئتين وغير ذلك، مانعا النساطرة من إضافة الزيت إلى مادة سر الأفخارستية،
51
وإليك ما جاء في هذا الموضوع للمطران يوسف الدبس:
لا ننكر أن البابا أفجانيوس الرابع كتب في براءته المفتتحة تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح المؤرخة في سنة 1445، عن كلامه في أندراوس رئيس أساقفة رودوس، أن أندراوس هذا هدى إلى الإيمان القويم تيموثاوس مطران طرسوس الذي كان بقبرص وكان نسطوريا يعتقد أن في المسيح أقنومين، وأن العذراء لا تسمى والدة الله، وأنه رد إلى الهدى إلياس مطران الموارنة، الذي كان مع جماعته بقبرص ملوثا بضلال مكاريوس أن في المسيح مشيئة واحدة، وأنه جمع هؤلاء في كنيسة القديسة صوفيا كنيسة كرسي تلك الجزيرة، فأقروا بالإيمان الكاثوليكي جهارا، ثم إنه أرسل تيموثاوس المذكور والقس إسحاق تلميذ إلياس مطران الموارنة إلى رومة فجحد تيموثاوس ضلال نسطور وإسحاق ضلال مكاريوس في كنيسة لاتران برومة، ولا ننكر أيضا أن المطران إلياس جحد تعليم مكاريوس وأقر بالإيمان الكاثوليكي في كنيسة القديسة صوفيا بقبرس، وكذلك فعل تلميذه القس إسحاق برومة.
لكننا نقول إن أندراوس مطران رودوس عند بلوغه إلى قبرص ومخاطبته تيموثاوس وإلياس الأسقفين ورؤيته أنهما مستعدان للإقرار بالإيمان الكاثوليكي أنشأ لهما دستور الإيمان الذي يلزم كلا منهما أن يقرا به جهارا وباحتفال، ولما كان يعلم أن تيموثاوس نسطوري ضمن الدستور الذي أعده له جحود بدعة نسطور، ولعلمه من كتاب غوليلموس أسقف صور أن الموارنة كانوا يعتقدون بالمشيئة الواحدة ضمن الدستور الذي للمطران إلياس الماروني جحود بدعة مكاريوس الذي كان مغويا ببدعة المشيئة الواحدة، فتلا كل منهما في الكنيسة الدستور الذي أعده له أسقف رودوس، وكتب إلى البابا أوجانيوس أنه هداهما إلى الإيمان القويم، فاغتر البابا بما كتبه في براءته المذكورة، على أن إقرار المطران إلياس لم يكن إحداثا لجحوده، بل تقريرا أو تجديدا له.
52
المجمع والأدب الكنسي
وقضت ظروف الروم في الدور الأخير من تاريخهم بأن يلجئوا إلى الغرب في طلب المعونة ضد الطامعين من الغرب والشرق، ورأوا أن لا مفر من استرضاء رومة واستعطافها؛ لكثرة تدخل أحبارها في السياسة وانغماسهم فيها، فكانت محاولات لتوحيد الكنيستين، فصلنا أخبارها في تضاعيف هذا الفصل وغيره، وأثار موضوع الاتحاد قرائح رجال الكنيسة فصنفوا واختلفوا فيما بينهم.
وكان أكثر رجال الدين استعدادا لإرضاء أحبار رومة يوحنا فقس أو بكوس، بدأ أرثوذكسيا متمسكا بقرارات المجامع المسكونية، فاضطهده ميخائيل الثامن وحبسه، ثم قال بالاتحاد فرقي السدة البطريركية المسكونية، وظل يدير شئونها حتى أيام أندرونيكوس الثاني، وكان من أقدر أهل زمانه علما وثقافة وحجة وفصاحة، وأشهر ما صنف كتابه الاتحاد والسلم بين الكنيستين، وقد حاول فيه أن يظهر وحدة العقيدة بين الكنيستين حتى أيام فوطيوس.
53
وحذا حذو فقس ديمتريوس قيذونس الذي عمر طويلا (1310-1410) فتعلم اللاتينية في ميلانو، وقضى حياته بين ثسالونيكية والقسطنطينية وكريت، وتضلع في الأدب اللاتيني، وتعلق بفلسفة توما الأكويني ونقله إلى اليونانية، وقد دعاه العلامة غريغوار «ذيموستينس الاتحاد».
54
واشتهر في الدفاع عن الاتحاد الأنسني بيساريون، ولد في طرابزون حوالي السنة 1395، وأم القسطنطينية لمتابعة دروسه، ثم أنهاها في ميسترة في المورة على يد بليثون الفيلسوف، وأصبح رئيس أساقفة نيقية فرافق يوحنا الثامن إلى مجمع فراري فلورنسة، فقال بالاتحاد وأمسى منذ الخامس عشر من كانون الأول سنة 1439 مع زميله أسيدورس رئيس أساقفة كيف كردينالا في الكنيسة اللاتينية، وأشهر ما كتب في الاتحاد دفاعه عن فقس ضد هجمات بلاماس، ورده على مرقس رئيس أساقفة أفسس، وتوفي في رابينة في السنة 1472.
55
وتولى السدة البطريركية المسكونية غريغوريوس القبرصي في السنة 1489، فجادل فقس وصنف في «الإيمان» وفي «الانبثاق»، وكان خطيبا مفوها وكاتبا كبيرا، فألف في اللغة والأدب وخلف رسائل كثيرة، هي من أكثر المراجع فائدة.
56
وأشد الأرثوذكسيين تمسكا بالمجامع المسكونية وأقواهم شكيمة مرقس أفجانيكوس رئيس أساقفة أفسس وممثل الكرسي الأنطاكي، حضر مجمع فراري فلورنسة فعارض وأبى أن يوقع قراراته، وعاد إلى القسطنطينية ينادي بالمحافظة على العقيدة الرسولية وعلى تنظيم الكنيسة كما أقرتها المجامع المسكونية، وأشهر ما صنف سبعة وخمسين فصلا في نقد العقيدة اللاتينية، وكتب عددا من الرسائل في الرد على بيساريون، وخلف بعض مراسلات له.
57
واشتهر في حقلي اللاهوت والفلسفة جاورجيوس سكولاريوس الذي أصبح فيما بعد البطريرك المسكوني جناديوس أول بطريرك مسكوني في عهد الأتراك العثمانيين، واشترك سكولاريوس في أعمال مجمع فراري فلورنسة، ولكنه لم يوقع قراراته وعاد إلى القسطنطينية يدافع عن التقليد الأرثوذكسي بخطبه ورسائله ومصنفاته، وجادل بليثون الفيلسوف في موضوع أرسطو وأفلاطون، فأيد الأول تأييدا كبيرا وخلف مما خلف كتابا أسماه «المراثي» ضمنه معلومات مفيدة لتاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في أول عهد الأتراك العثمانيين في القسطنطينية.
58
مجمع القسطنطينية (1484)
ودالت دولة الروم واستولى الأتراك العثمانيون على جميع أبرشيات البطريركية المسكونية، وخشي الأتراك مطامع الدول الغربية واستفزازات رومة وتحريضها، فأيدوا الانفصال بين الكنيستين الكبريين وعارضوا التفاهم والاتحاد، وظلت رومة متشبثة بموقفها من نقاط الاختلاف بينها وبين كنائس الشرق مطالبة بالخضوع لها في العقيدة والإدارة؛ فاشتد النفور وزاد الشقاق.
وفي السنة 1484 دعا سمعان الطرابزوني البطريرك المسكوني إلى مجمع في القسطنطينية؛ للبحث في موقف الكنائس الأرثوذكسية من كنيسة رومة ومن أبنائها الذين يطلبون العودة إلى حضن الكنائس الأرثوذكسية، فلبى الدعوة كل من بطريرك الإسكندرية وبطريرك أنطاكية وبطريرك أوروشليم، واعتبر المجمع قرارات فراري فلورنسة ملغاة لا قيمة لها، ثم اتخذ قرارا بشأن عودة اللاتين إلى حضن الكنيسة الأرثوذكسية، فأوجب على هؤلاء نبذ قرارات مجمع فلورنسة، وتغليط كنيسة رومة في تقديم بطرس على سائر الرسل وفي تقدم خلفائه أساقفة رومة وفي أمر العصمة، وأوجب المجمع أيضا إعادة تثبيت هؤلاء بسر الميرون.
59
الفهارس
سلسلة البطاركة
634-1511 (63) مقدونيوس 628-631. (64) أثناسيوس الجمال 631. (65) مقدونيوس 632-640. (66) جاورجيوس الأول 640-655. (67) مكاريوس 656-681. (68) ثيوفانس الأول 681-687. (69) سباستيانون، أو اسطفانوس الثالث 687-690. (70) جاورجيوس الثاني 690-695. (71) ألكسندروس الثاني 695-702. (72) اسطفانوس الرابع 742-748. (73) ثيوفيلاكتوس (ابن قنبرة) 748-؟ (74) ثيوذوروس الأول 767-787. (75) يوحنا الرابع 798-811. (76) أيوب الأول 811-826. (77) نقولاوس الأول 826-834. (78) سمعان الأول 834-840. (79) إلياس الأول 840-852. (80) ثيودوسيوس الأول 852-860. (81) نقولاوس الثاني 860-871. (82) اسطفانونس ؟-871. (83) نقولاوس الثاني 871-879. (84) ميخائيل الأول 879-890. (85) زخريا 890-؟ (86) جاورجيوس الثالث 902-917. (87) أيوب الثاني 917-939. (88) أفسترانيوس 939-960. (89) خريستوفوروس الأول 960-966. (90) ثيوذوروس الثاني 966-977. (91) أغابيوس الأول 977-995. (92) يوحنا الخامس 995-1000. (93) نقولاوس الثالث 1000-1003. (94) إلياس الثاني 1003-1010. (95) جاورجيوس الرابع (لاسكارس) 1010-1015. (96) مكاريوس الأول الفاضل 1015-1023. (97) الفثيريوس التقي 1023-1028. (98) ثيودوروس الثالث (جرجس) 1034-1042. (99) باسيليوس الثاني ؟ (100) بطرس الثالث ؟-1056. (101) يوحنا السادس 1057-1062. (102) أميليانوس 1062-1075. (103) ثيوذوسيوس الثاني 1075-1084. (104) نيقيفوروس الأول 1084-1088. (105) يوحنا السابع 1088-1106. (106) يوحنا الثامن 1106-1137. (107) لوقا الأول 1137-1155. (108) يوحنا التاسع 1155-1159. (109) أفتيميوس الأول 1159-1164. (110) مكاريوس الثاني 1164-1166. (111) أثناسيوس الأول، أو الثاني 1166-1180. (112) ثيودوسيوس الثالث 1180-1182. (113) إلياس الثالث 1182-1184. (114) خريستوفوروس الثاني 1184-1185. (115) ثيوذوروس الرابع (بلسامون) 1185-1199. (116) يواكيم الأول 1199-1219. (117) دوروثيوس الأول 1219-1245. (118) سمعان الثاني 1245-1260. (119) أفتيميوس الثاني 1260-1269. (120) ثيوذوسيوس الرابع 1269-1276. (121) ثيوذوسيوس الخامس 1276-1285. (122) أرسانيوس الأول 1285-1293. (123) ذيونيسيوس الأول 1293-1308. (124) مرقس الأول 1308-1342. (125) أغناطيوس الثاني 1342-1353. (126) ميخائيل الثاني 1353-1386. (127) باخوميوس الأول 1386-1393. (128) نيلوس الأول 1393-1401. (129) ميخائيل الثالث 1401-1410. (130) باخوميوس الثاني 1410-1411. (131) يواكيم الثاني 1411-1426. (132) مرقس الثاني 1426-1436. (133) ذوروثيوس الثاني (ابن الصابوني) 1436-1454. (134) ميخائيل الرابع (ابن الماوردي) 1454-1462. (135) مرقس الثالث 1462-1476. (136) يواكيم الثالث 1476-1483. (137) غريغوريوس الثالث 1483-1497. (138) ذوروثيوس الثالث 1497-1511.
الباب الرابع: النصرانية في دار الإسلام
1 - الفتح العثماني
2 - طمع واضطراب ووجل
3 - البطريرك مكاريوس الثالث
4 - الروم الكاثوليك
5 - وصول البروتستانت إلى الشرق واتساع الجبهة
6 - اليونان والروس
7 - اسبيريدون وملاتيوس
8 - ملاتيوس الثاني
9 - غريغوريوس الرابع
10 - النظم والقوانين
الفهارس
سلسلة البطاركة
الباب الرابع: النصرانية في دار الإسلام
1 - الفتح العثماني
2 - طمع واضطراب ووجل
3 - البطريرك مكاريوس الثالث
4 - الروم الكاثوليك
5 - وصول البروتستانت إلى الشرق واتساع الجبهة
6 - اليونان والروس
7 - اسبيريدون وملاتيوس
8 - ملاتيوس الثاني
9 - غريغوريوس الرابع
10 - النظم والقوانين
الفهارس
سلسلة البطاركة
كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (الجزء الثالث)
كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (الجزء الثالث)
1453-1928م
تأليف
أسد رستم
الباب الرابع: النصرانية في دار الإسلام
1453-1928
الفصل الأول
الفتح العثماني
سقوط القسطنطينية (1453)
وفي آذار السنة 1452 بدأ محمد الثاني السلطان العثماني بإنشاء قلعة بالقرب من القسطنطينية أطلق علها اسم «روم إيلي حصار»؛ ليهدد بها الإبحار من مرفأ القسطنطينية. فقامت هذه القلعة في الساحل الأوروبي مقابل كوزل حصار التي كان بايزيد قد أنشأها على الشاطئ الآسيوي، فأرسل قسطنطين الحادي عشر وفدا يحتج على ذلك، فأمر محمد بهم فقطعت رءوسهم!
فرمم قسطنطين الأسوار وذخر المؤن وراسل يوحنا هونيادي وألفونز الخامس، ولوح بامتيازات هامة لكل من البندقية وجنوا ، وكتب إلى البابا نيقولاووس الخامس. ولكنه لم يتلق من الغرب شيئا سوى شخص أسيدورس الذي كان قد أصبح كردينالا؛ فإنه جاء من رومة موجبا إعلان اتحاد الكنيستين في كنيسة الحكمة الإلهية وذكر البابا في الذبتيخة. فضغط الفسيلفس على بعض كبار الإكليروس وأقام في الثاني عشر من كانون الأول سنة 1452 قداسا حافلا في كنيسة الحكمة الإلهية بموجب الطقس اللاتيني. وما إن فعل حتى ضجت المدينة بالاحتجاج. وتزعم سكولاريوس هذه المعارضة. وقال نوتاراس الدوق الكبير قوله المشهور: «عمائم الشيوخ ولا تيجان الكرادلة!» وبدأ الحصار، وظل قسطنطين يسعى لاستدرار المعونة من الغرب، ولكنه لم يلق سوى سبعمائة محارب بقيادة يوحنا الجنوي. وألح سفير البندقية والكردينال أسيدورس على الأميرال تريفيزانو الذي كان قد واكب الكردينال أن يبقى في مياه القسطنطينية، ولكن ربابنة البوارج آثروا الخروج على البقاء، وحذا حذوهم أهل الحل والربط من رجال الجالية الجنوية، فقالوا بأن بقاءهم على الحياد يكون في صالح الروم!
ويستدل من أفضل المراجع الأولية على أن عدد المحاربين الروم لم يتجاوز ال 4973 رجلا، وأن عدد الأجانب المقاتلين معهم تراوح بين الألفين والثلاثة آلاف، وأن سلاح هؤلاء كان أبيض، وأنه لم يكن لديهم سوى بعض المدافع المتوسطة الحجم، وأن القوة البحرية كانت مؤلفة من سبع بوارج، وأن الذخيرة لم تكن كافية، وأن الفسيلفس اضطر أن يسك النقود من فضة الكنائس.
1
وفي الثاني من نيسان سنة 1453 مد الروم السلسلة العظيمة فأقفلوا بها مدخل القرن الذهبي. وفي الخامس منه وصل محمد الثاني بستين ألف مقاتل وبعدد كبير من الدراويش والتجار والفلاحين الذين استهواهم النهب والسلب. وفي السابع أنذر السلطان الفسيلفس بوجوب تسليم المدينة فرفض فبدأ الحصار. وفي الثامن عشر من نيسان أمر السلطان بهجوم عام ولكنه نكص على أعقابه، وحاول اقتحام مداخل القرن الذهبي بأسطوله الكبير فلم يفلح. وفي العشرين من نيسان أطل أسطول غربي مؤلف من أربع بوارج وثلاث ناقلات كبيرة، فأمر السلطان بصدهم عن الوصول إلى القسطنطينية، ونشب القتال بين الطرفين وانتصر الأسطول الجنوبي ووصل إلى القرن الذهبي ناقلا حبوبا من صقلية إلى المدينة الخالدة.
وقام السلطان في السابع من أيار وفي الثاني عشر منه بهجومين عنيفين، ولكنه أخفق في المرتين. ورأى البطريرك المسكوني والوجهاء أن يغادر الفسيلفس العاصمة ليجيش الروم في المورة وغيرها ويستدر المعونة من الغرب، ولكن قسطنطين الحادي عشر آثر الموت مع قومه في الدفاع عن النفس. وفي الثالث والعشرين من أيار أوفد السلطان أمير سينوب يفاوض الفسيلفس في تسلم المدينة مقابل خروجه منها وخروج من رغب في ذلك، فلم ير قسطنطين في ذلك سوى فخ منصوب فرفض. وفي التاسع والعشرين عاد الأتراك إلى الهجوم، وكان قد تهدم السور الخارجي بالقرب من باب أدرنة فتسلل الانكشاريون من هذه الثغرة إلى السور الداخلي، وعلموا من أعوانهم في داخل القسطنطينية أن الباب الخفي الصغير كيركوبورتة الذي كان يطل على الخندق في هذا القاع كان مهملا، فاقتحموه ونفذوا منه إلى داخل المدينة؛ فدب الذعر في العاصمة. وكان القائد غوسطنياني قد جرح فنقل إلى جزيرة خيوس وتوفي لدى وصوله إليها. وتابع قسطنطين الجهاد وما فتئ يحارب حتى خر صريعا في ميدان الشرف. وأباح السلطان المدينة ثلاثة أيام بلياليها، ثم دخلها وذهب توا إلى كنيسة الحكمة الإلهية فعلا الأمبون وصلى وجعل الكنيسة مسجدا ثم استقر في القصر المقدس.
2
امتيازات البطريرك المسكوني
ودخل الروم في «ذمة» الفاتح فدفعوا الجزية وأمنوا على دمائهم وعرضهم وأموالهم. وتوقع الفاتح مقاومة البابا وأمراء أوروبة الغربية والوسطى وملوكها، وخشي حربا صليبية جديدة فتهيأ وتجهز، ورأى من الحكمة أن يظل الشقاق قائما بين الكنيستين اليونانية واللاتينية،
3
وكان والده مراد الثاني قد اتبع الخطة نفسها فلم يرض عن مفاوضات فراري فلورنسة، كما سبق وأشرنا.
وتوفي غريغوريوس الثالث (مماس) موالي رومة في السنة 1453، فرأى الفاتح أن يوصل إلى السدة البطريركية شخصا معارضا لا يرضى عن الاتحاد. وكان جاورجيوس سكولاريوس قد تزعم هذه المعارضة بعد وفاة مرقس متروبوليت أفسس،
4
فانتخب المجمع سكولاريوس في أيار أو حزيران السنة 1453
5
وأعلنه بطريركا مسكونيا باسم جناديوس الثاني (1453-1457)، وحل الفاتح محل الفسيلفس فاعترف به بطريركا مسكونيا قائلا: «كن بطريركا حرسك الله وسأوليك عطفي، وتمتع بجميع الحقوق التي مارسها سلفاؤك.»
6
وزار السلطان البطريرك في دير الباما كاريستوس
وحدثه في الدين المسيحي. ثم أعد البطريرك بيانا في الدين المسيحي جاء في عشرين فصلا
7
وقدمه إلى السلطان، فسر السلطان به وعطف على «الأمة المسيحية» وأمر بحمايتها.
8
ويرى رجال الاختصاص أن السلطان الفاتح أصدر براءة ضمن فيها احترام شخص البطريرك وعدم التعدي عليه وإعفاءه من جميع الضرائب واستقراره في كرسيه وحريته، وانتقال امتيازاته إلى خلفائه من بعده، وامتداد سلطته لتشمل الرؤساء الدينيين الخاضعين له.
9
واعتبرت السلطات العثمانية البطريرك المسكوني مسئولا عن الملة المسيحية فخولته سلطة زمنية على المسيحيين علاوة على سلطته الروحية، فأصبح من حقه النظر في «الخصومات التي قد تنشأ بين الروم من رعايا السلطان، وأن يستمع إلى الشهود ويجري الأقسام وينهي المشاكل»، وأمسى من واجبه جمع الضرائب المفروضة على الروم وكنائسهم، ومن واجب الموظفين المدنيين تسهيل أموره،
10
وقول بعض رجال البحث إن صلاحيات البطريرك انحصرت في أمور الإكليروس الأرثوذكسي قول ضعيف لا يتفق وصراحة النصوص.
11
وعاد عدد كبير من الروم إلى القسطنطينية واستقروا حول البطريركية. وكان لهم من ثروتهم القائمة على التجارة ومن براعتهم في السياسة ما ضمن لهم مركزا رفيعا في مختلف العهود.
البلقان في حوزة الأتراك
وهدد المجر الفتوحات العثمانية في البلقان فتحتم القضاء على استقلال الصرب، فقام محمد الثاني بنفسه إلى بلغراد وضرب الحصار عليها، فاندفع هونيادي عبر الدانوب على رأس جيش مختلط من الصليبيين فوفق إلى القضاء على هجوم العثمانيين واضطر محمد إلى الانكفاء (1456). وتوفي هونيادي، ثم مات ملك الصرب واصطرع وارثوه، فنهض محمد الفاتح في السنة 1458 إلى بلاد الصرب فحطم المقاومة وأخضع السكان وأدخل البلاد في حوزته.
وقضى السلطان في هذه الآونة نفسها على إمارتي الروم في المورة وعلى دوقية أثينا اللاتينية، فأمست بلاد اليونان في معظمها ولاية عثمانية. وفي السنة 1464 استولى السلطان على إمبراطورية طرابزون الرومية الكومنينية. وكان خان التركمان أوزون حسن قد شيد دولة فتية في أرمينية وضم إليها فارس والجزيرة الفراتية، فلما دخل محمد الفاتح في حرب طاحنة ضد البندقية حالف البنادقة أوزان حسن وزجوا خصمهم العثماني بين نارين، ولكن الفاتح خرج منتصرا على خصميه في آسية وأوروبة .
وبعد فتح القسطنطينية انطلق الأسطول العثماني إلى بحر إيجه فاستولى على جزائر تاسوس وسموتراقية وإيمبروس ولمنوس وفوقة الجديدة بالقرب من إزمير. أما رودوس فإنها صمدت في وجه هذا الأسطول وأكرهته على التراجع (1480)، وأمر السلطان بإعادة الكرة في العام التالي فعاجلته المنية وقضى نحبه في معسكره في آسية الصغرى في الثالث من أيار سنة 1481.
وأوصى محمد بالخلافة لابنه الأصغر جم فثار الانكشاريون واندلعت نيران الفوضى، فاضطر بايزيد أكبر الأمراء سنا أن يغفر لهم فظائعهم ويزيد في أعطياتهم. واقترح جم على أخيه بايزيد اقتسام الإمبراطورية فلم يرض، بل هجم عليه وهزمه عند يني شهر، فالتجأ جم إلى قايتباي سلطان المماليك وحاول قلب الحكم في آسية الصغرى بالتعاون مع قرمان أوغلو قاسم بك فأخفق، فالتجأ إلى رودوس حيث حاول التحالف مع فرسانها وبعض دول أوروبة. وفي السنة 1488 أسلم الفرسان هذا الأمير التركي إلى البابا أنوشنسيوس الثامن لاهتمامه بصليبية جديدة. وحاصر شارل الثامن ملك فرنسة رومة واستولى على جم. وكان بايزيد قد حرض البابا على قتل أخيه فمات جم مسموما في نابولي في شباط السنة 1495.
واصطفى بايزيد (1481-1512) ابنه أحمد وأحب أن يتخلى له عن العرش، فطالب ابنه سليم بأن يتولى إدارة إحدى ولايات أوروبة بدلا من طرابزون، وكان جنديا بالفطرة شجاعا مقداما فأحبه الجنود. وفي السنة 1511 هدد أدرنة على رأس خمسة وعشرين ألفا، ثم هزم بايزيد ابنه سليما وأكرهه على الفرار فالتجأ إلى خان القرم. وعاد في السنة 1512 فظهر أمام أبواب القسطنطينية، فاستقبلته الحامية استقبالا حماسيا فأكره والده على التنازل وأمر به فدس له السم فتوفي في هذه السنة نفسها.
العثمانيون والمماليك (1516-1517)
وكان سليم الأول (1512-1520) من أعظم سلاطين العثمانيين وأكثرهم انتصارا وفتحا. وتنازعت فرنسة والنمسة السيادة في أوروبة واندلعت نار الشقاق الديني بين الكاثوليكيين والبروتستانت، فانتهز العثمانيون هذه الفرصة السانحة واتجهوا بفتوحاتهم شطر آسية.
وكان على عرش فارس حينئذ الشاه إسماعيل الصفوي الشيعي فطمع في مناطق الحدود بينه وبين الأتراك العثمانيين، وحرض الشيعة في آسية الصغرى. فعزم سليم على غزو فارس وخرج في السنة 1514 بجيش عظيم مارا على ديار بكر وكردستان، فتراجع الفرس إلى وادي جلديران قرب تبريز، ولكنهم لم يقووا على مقاومة الانكشارية والمدفعية العثمانية فانهزموا. فدخل السلطان تبريز حاضرة الفرس آنئذ، ثم اضطر إلى التراجع لتمرد الانكشاريين عليه، واكتفى بضم ديار بكر وكردستان.
وصادق السلطان الظاهر برقوق (1382-1392) معاصره السلطان يلدرم بايزيد العثماني، ودامت هذه الصداقة حتى أيام بايزيد الثاني ابن محمد الفاتح. ودارت بين سلاطين الطرفين رسائل الوداد وعقود المهادنة. وكان ما كان من أمر الأمير جم ففر إلى الأشرف قايتباي (1468-1498) ملتجئا فأجاره، وطلب بايزيد تسليمه فلم يجبه قايتباي فحقد بايزيد، وانضم هذا الحقد إلى نزاع حول إمارة أبناء ذي الغادر. وكانت هذه الإمارة تركمانية قائمة في أرمينية وكردستان، وكان لا يتولى أمير فيها إلا بإذن صاحب مصر، وكانت الدولة العثمانية قد تدخلت في شئون هذه الإمارة وادعت حمايتها. وبلغ بايزيد أن قيتباي أخذ من رسول ملك الهند هدايا كان أرسلها إلى السلطان العثماني، فجهز بايزيد جيشا وتوغل في أرض المماليك حتى مداخل حلب، فصمد المماليك في وجهه وهزموه، فأتبعه بايزيد بجيش آخر فكانت عاقبة وخيمة. فزحف المماليك عبر الحدود العثمانية فالتقوا بجيش عثماني جديد فكانت الحرب سجالا ثم انتهت بالصلح، ولكن الطرفين أصبحا في تنافس وتزاحم على النفوذ والزعامة في العالم الإسلامي.
ثم أخذ العثمانيون يحرضون القبائل والإمارات الخاضعة لمصر على التخلص من سيادتها، وبدءوا يضعون العراقيل في سبل تجارتها مع فارس وما وراءها، مما جعل ورود الصوف ومنسوجاته وأنواع الفراء نادرا، ومنعوا تجار الرقيق من أخذ المماليك الشراكسة إلى مصر، فكان عملهم هذا شديدا على سلاطين المماليك؛ لأن المماليك الشراكسة كانوا آنئذ مادة الجيش المصري ورجال الحكومة فيها. وأخذ سلاطين المماليك يجيرون كل من التجأ إليهم من أبناء السلاطين العثمانيين والأمراء والأعيان الفارين من وجه الدولة العثمانية. واسترسلوا في هذه السياسة فهبوا يوادون من عادى العثمانيين أمثال أوزون حسن ثم بعده الشاه إسماعيل وغيرهما. وحاول الشاه الصفوي تحويل هذه الموادة إلى محالفة فلم يفلح للفرق في المذهب. واستطار شرر هذه الأحقاد بسماح قانصوه الغوري (1501-1516) بأن يمر الوفد الفارسي المفاوض في سورية بطريقه إلى البندقية ليعرض عليها اتحادا ضد الأتراك العثمانيين، وبإجارة السلطان الغوري للأمير قاسم ابن أخي السلطان سليم الأول العثماني وإجارة الشاه إسماعيل للأمير مراد أخي قاسم. وأراد السلطان سليم قتل هذين الأميرين فطلبهما فلم يجيباه. وخشي سليم تحول المودة بين مصر وفارس إلى حلف، فأعلن الحرب على فارس، كما سبق وأشرنا، ثم على مصر. ولما زحف سليم على فارس أتلف الشاه إسماعيل كل ما خلفه في مدنه وقلاعه من المئونة والذخائر وانتظر سليم ورود غيرها من بلاده فعلم أن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر قد أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه، فاضطرب جيشه فحرمه ثمرة انتصاره في جلديران.
وعاد سليم من فارس إلى بلاده فانتقم من إمارة الغادرية فقتل أميرها علاء الدين وضم الإمارة إلى ملكه، واحتد السلطان قانصوه الغوري على ذلك فقابل سليم احتجاجه بإرسال رأس علاء الدين إليه، فعلم الغوري أن الحرب واقعة.
وكانت مملكة البرتغال قد قطعت طريق التجارة الهندية الشرقية على مصر؛ فنضبت أهم موارد الثروة. وكان الفساد قد دب في أخلاق المماليك وقل ولاؤهم، وكان قد جرأهم على ذلك ميل الغوري إلى مماليكه الذين جلبهم لنفسه، فلما أراد أن يستجمع كل ما عنده من قوة تخاذل المماليك القدماء وتعللوا بقلة النفقة. وبعد تساهل من الطرفين تمكن الغوري في شتاء السنة 1515-1516 من إعداد جيش يخرج به إلى حدود العثمانيين، وجمع في هذا الجيش قوة مصر الأدبية؛ فخرج فيه الخليفة العباسي وقضاة المذاهب الأربعة وأشياخ الطرق وكبار العلماء والأعيان ورؤساء المغنين والموسيقيين وأرباب الصناعات. وبلغه أن الأسطول العثماني يقصد الإسكندرية فعزز حاميتها وحصن قلاعها بنحو مائتي مدفع، وأناب عنه الدودار الكبير طومان باي ابن أخيه. وخرج جيش المماليك من القاهرة في صيف السنة 1516 فقاسى الجنود الشدائد في اجتياز صحراء سيناء، ثم دخلوا دمشق وحماة وحلب.
وخرج السلطان سليم الأول من القسطنطينية بجيش بلغ مائة وخمسين ألفا مسلح بكثير من الأسلحة النارية بالمكاحل والمدافع والبندقيات ، فلما صار على حدود المماليك استمال خير بك نائب حلب وجان بردي الغزالي نائب حماة، ووعد الأول بولاية مصر والثاني بولاية سورية. وعرف الغزالي اللبنانيين وما تحلوا به من شجاعة وبأس وحذق في أساليب القتال، فاستمال المعنيين ومن شد أزرهم من المشايخ والأعيان. وأراد سليم أن يخدع الغوري ويصرفه عن القتال فأرسل إليه بتوسط نائب حلب رسالة يعتذر فيها عما فرط ويعده بالخير، ثم أرسل إلى حلب وفدا يؤكد إخلاص السلطان شرط ألا يتدخل الغوري في النزاع القائم بين العثمانيين والصفويين. فأكرم الغوري أعضاء هذا الوفد وأرسل يعرض توسطه في الصلح بين سليم وإسماعيل، فغضب سليم وهم بقتل الرسول، ثم قال: قل لأستاذك إن إسماعيل الصفوي خارجي وأنت مثله وسأبدأ بك قبله وموعدنا مرج دابق على بعد يوم عن حلب. والتقى الجحفلان في مرج دابق وكاد الغوري ينتصر، فعمل خير بك والغزالي والأمير فخر الدين المعني على تثبيط الهمم فتحول النصر إلى انهزام، وفلج الغوري لساعته وسقط عن جواده، وشاع موته فتفرق جيشه.
وانتظر أهل حلب قدوم السلطان سليم فسلموه المدينة وخطبوا باسمه في مسجدها فجعلوه حامي الحرمين الشريفين، فاغرورقت عيناه بالدموع ونهض لساعته وخلع على الخطيب فألبسه فراءه! وانضم إلى العثمانيين خير بك والغزالي والأمير فخر الدين وغيرهم، واستولى السلطان على دمشق وجميع مدن سورية. ورجع المنهزمون إلى مصر فكابد طومان باي المشقات في جمع شتاتهم، وكانت موقعة غزة فالريدانية 1517، فدخلت مصر أيضا في حكم الأتراك العثمانيين وكذلك الحجاز.
نظام الحكم
وبعد أن أتم السلطان العثماني فتح مصر ووضع نظاما لإدارتها عاد إلى دمشق ليعنى بتنظيم الإدارة في سورية ولبنان وفلسطين. فأبقى على نظام النيابات وعين على نيابة حلب حاكما تركيا ثم جعل سائر النيابات في يد جان بردي الغزالي. وعطف على الأمير فخر الدين المعني فعزز سلطته على لبنان وحط من قدر غيره من الأعيان، وأبقى القديم على قدمه فجاء فتحه يسيرا. وأخلص الغزالي الولاء لسليم فضرب البدو والحرافشة وغيرهم ممن عاون المماليك في أثناء أعمال الفتح ووطد السلطة والأمن في البلاد.
ثم مات سليم في السنة 1520، فأعلن الغزالي استقلاله في الجامع الأموي في دمشق متخذا لنفسه لقب الملك الأشرف. فأنفذ السلطان سليمان حملة لتأديبه بقيادة فرهاد باشا، فكانت موقعة القابون في السابع والعشرين من كانون الثاني سنة 1521. وكان تأديب على طريقة التتر وتيمورلنك، فاستغنت السلطات التركية عن خدمات كبار الموظفين المحليين وأسندت أعمالهم إلى أتراك عثمانيين. ولا نعلم بالضبط متى ألغت الحكومة العثمانية النيابات القديمة وما تبعها من أنظمة، ولكن تقارير قناصل الدول الأجنبية تشير إلى باشاويات ثلاث تم تنظيمها قبل نهاية القرن السادس عشر؛ وهي باشاوية حلب وباشاوية دمشق وباشاوية طرابلس، وجاء في تقرير رسمي يعود إلى عهد السلطان أحمد (1603-1617) أن هذه الباشاويات كانت مقسمة إلى سناجق أهمها في جنوب البلاد سناجق غزة والقدس ونابلس وتدمر وصيدا وبيروت، ومنها في الشمال سناجق طرابلس وجبلة وحمص والسلمية، وشملت باشاوية حلب تسعة سناجق مماثلة. وأنشأت الدولة العثمانية باشاوية صيدا في السنة 1660 للإشراف على لبنان ومراقبته!
وجاء على رأس كل باشاوية وال يعينه السلطان لسنة واحدة، وكان ينوب عن الوالي في كل مدينة حاكم إداري يدعى متسلما. أما الريف فإنه كان مقسما إلى زعامات وتيمارات وموزعا على ضباط عسكريين مدة حياتهم، وكان على هؤلاء أن يلبوا الدعوة للحرب بشروط معينة وعلى نفقتهم الخاصة، وأن يقوموا بأعباء الحكم في مقاطعاتهم.
وكان يحيط بالباشا في عاصمة الباشاوية (الإيالة) رؤساء الجند وهم قواد الفرق التي كانت تشكل حامية الباشاوية، وتألف من اجتماع هؤلاء الرؤساء ديوان الوالي. وكان لهذا الديوان سلطة واسعة؛ إذ لم يكن في وسع الوالي أن يبرم أمرا هاما إلا بموافقة الديوان، وكان إذا وقع خلاف بينه وبين الديوان رفعه إلى الآستانة للفصل فيه، وكان للديوان أن يطلب عزل الوالي إذا شاء. وأحاط الباشا نفسه في غالب الأحيان بعدد من الجنود غير النظاميين «باش بوزق» يتناسب ومقدرته على الإنفاق، منهم الكردي والكريتلي والأناضولي والأرناءوطي والمغربي.
وقضت قوانين الدولة بأن يقترح «قاضي عسكر» الأناضول تعيين من تتوفر فيهم الشروط اللازمة لتولي القضاء في باشاويات آسية، فتصدر بذلك فرمانات رسمية. فكان يعين في كل سنة «مولى خلافه» من علماء الأتراك في كل من حلب ودمشق وطرابلس والقدس، وكان يعين هذا المولى خلافه بدوره نوابا في سائر مدن الباشاوية التي ولي القضاء فيها. وكان يتولى الإفتاء في كل من حلب ودمشق مفتون أربعة من المذاهب الأربعة يجيبون عما يلقى إليهم من المسائل المشكوك في أحكامها.
مذهب الدولة
وقال السلطان العثماني بالمذهب الحنفي، فأصبح هذا المذهب هو المذهب السائد، يحق للمتداعين أن يطلبوا تطبيقه إذا رأوا في تطبيق غيره إجحافا بحقوقهم. وأقبل العلماء على درس هذا المذهب وصنفوا فيه، وأشهر ما صنف من هذا القبيل في القرن السادس عشر كتاب «الملتقى»، للشيخ إبراهيم الحلبي مفتي السلطان سليمان القانوني.
الشرع والقانون
وخضع السلطان العثماني للشرع الشريف واعتز بحكمه وأحكامه، ولكنه قال في الوقت نفسه بالعادة والعرف والقانون. والعادة هي ما استمر الناس عليه عند حكم العقول وعادوا له مرة بعد أخرى. والعرف هو ما استقر في النفوس من جهة شهادات العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. والعرف عند الأتراك العثمانيين كان إرادة السلطان السنية، وهو من المعاني الخصوصية التي انفردوا بها.
12
والقانون هو العرف المدون بأمر السلطان أو هو مجموعة الإرادات السلطانية المدونة. وهذه الإرادات السنية كانت لا تصدر قبل مشاورة العلماء المقربين من السلطان العارفين المطلعين الذين كانوا يجارون السلطان في فتاويهم للمحافظة على المصلحة السياسية والاجتماعية ومقتضى الظرف، ومن هنا هذه الامتيازات التي خص بها محمد الفاتح وخلفاؤه بطاركة القسطنطينية.
البطريرك المسكوني والبطاركة
وكانت قرارات المجامع المسكونية قد قضت بتقدم بطريرك القسطنطينية على بطاركة الشرق الثلاثة وباعتباره الثاني بعد بطريرك رومة. وكان قد سبق لهؤلاء البطاركة الثلاثة أن اعترفوا بهذا التقدم في الكرامة. وكان بطريرك القسطنطينية قد اتخذ لنفسه لقب البطريرك المسكوني بمعناه البيزنطي؛ أي بطريرك الإمبراطورية، فوافق بطاركة الشرق على ذلك واعترضت رومة. وكان بطريرك القسطنطينية قد حاول في الربع الأول من القرن الحادي عشر أن يصبح ذا سلطة شرعية على بطاركة الشرق ، فطلب إلى رومة الاعتراف بذلك، فكادت تعترف ثم أبت. وقد سبق الكلام في هذا الموضوع عند الكلام عن بدء الانشقاق، ثم وقع الشقاق ووسعته الحروب الصليبية وثبتته الحملة الصليبية على القسطنطينية، فخسرت رومة ما تبقى من نفوذها في الشرق.
واستولى الأتراك على القسطنطينية ثم على جميع أبرشيات البطريركيات الشرقية، فأصبح بطريرك القسطنطينية بطريرك عاصمة الدولة العثمانية يفاوض باسم البطريركيات الأخرى ويسهل أمورها في عاصمة الدولة، ويدافع عن حقوقها أمام السلطة العثمانية العليا. وكان من الطبيعي جدا أن تعترف السلطات العثمانية بتقدم بطريرك العاصمة على بطاركة الولايات، وأن تمنحه امتيازات إدارية يتميز بها على أقرانه؛ فقد جاء في براءة سلطانية صادرة في أواخر أيلول سنة 1855 موجهة إلى البطريرك كيرلس خلف أفتيميوس أنه إذا أم القسطنطينية بطاركة البلدان الأخرى لترتيب أمورهم يتوجب عليهم أن يفعلوا ذلك بواسطة البطريرك المسكوني والمطارنة،
13
وجاء في قرار اتخذه في السنة 1767 البطريرك المسكوني صموئيل أنه عملا بالامتيازات القديمة التي تخوله حق الرئاسة
Ephoros
والإشراف
Epistates
على عرش أحد البطاركة لدى وفاته، وعملا برئاسته وإشرافه في جميع كنائس المسيح وبصفته رأس الجسم كله؛ ونظرا لطلب كيريوس فيليمون الخطي بأن يخلفه على كرسي أنطاكية كيريوس دانيال، ولما كان أخوه في النعمة كيريوس أفرايم بطريرك أوروشليم يرى الرأي نفسه، وكذلك مجمع الأساقفة المقدس فإنه يعلن حق كيريوس دانيال بتولي العرش الأنطاكي،
14
ولكنه جاء أيضا في قرار أصدره البطريرك المسكوني نيوفيطوس في العاشر من كانون الثاني سنة 1792 أن رعاية مصالح البطريركيات الأخرى واجبة، ولكن التعدي على حقوقها أمر مشجوب لا يجوز التفكير به ولا يليق بالمقام البطريركي.
15
آل عثمان.
سليم الأول
1512-1520
سليمان الأول
1520-1566
سليم الثاني
1566-1574
مراد الثالث
1574-1595
محمد الثالث
1595-1603
أحمد الأول
1603-1617
مصطفى الأول
1617-1618
عثمان الثاني
1618-1623
مراد الرابع
1623-1640
إبراهيم
1640-1648
محمد الرابع
1648-1687
سليمان الثاني
1687-1691
أحمد الثاني
1691-1695
مصطفى الثاني
1695-1703
أحمد الثالث
1703-1730
محمود الأول
1730-1754
عثمان الثالث
1754-1757
عبد الحميد الأول
1757-1789
سليم الثالث
1789-1807
مصطفى الرابع
1807-1808
محمود الثاني
1808-1839
عبد المجيد
1839-1861
عبد العزيز
1861-1876
مراد الخامس
1876
عبد الحميد الثاني
1876-1909
محمد الخامس
1909-1918
محمد السادس
1918
الفصل الثاني
طمع واضطراب ووجل
الولاة والجنود
وما كاد الأتراك العثمانيون يستولون على أبرشيات أنطاكية حتى دخلوا في دور من الانحطاط دام طويلا، فإنهم بلغوا أقصى مجدهم وعظمتهم في عصر سليمان، وبعد وفاته في السنة 1566 ابتدءوا في انحطاط مستمر اللهم إلا فترات كانوا ينتعشون فيها ويظهرون بعض علامات القوة والنشاط.
وترجع أسباب انحطاط الأتراك العثمانيين إلى أسباب داخلية وخارجية، وأهم الأسباب الداخلية أنه جاء بعد سليمان القانوني عدد من السلاطين الضعفاء الذين لم يكن لهم هم سوى الانغماس في الملذات. فلما أصبح الجنود بلا سلطان شجاع يقودهم إلى النصر في ساحات الوغى سقطت هيبة السلاطين من أعينهم، وشعروا بما لهم من حول وقوة فبدءوا يعزلون ويولون من يشاءون متطلبين الأعطيات الجزيلة مبتزين الأموال الكثيرة.
وأدى استئثارهم بالسلطة على هذا الوجه إلى الانغماس في الترف والفساد، ففقدوا صفاتهم الحربية القديمة، وأصبحت ترقياتهم مشروطة بما يبذلونه من الرشوة لولاة الأمور منهم ولبطانة السلطان. وعمت الرشوة مصالح الحكومة بأسرها وأصبحت جميع الوظائف تباع وتشرى، فاضطر الولاة أن يبتاعوا وظائفهم. وكان الواحد من هؤلاء لا يوفق إلى تجديد مدة ولايته دون أن يرسل إلى عاصمة الدولة ما يرضي به رؤساءه، فيضطر والحالة هذه أن ينظر إلى وظيفته كوسيلة لابتزاز المال. وأصبحت مناصب القضاء أيضا تباع وتشرى وتعرض في أسواق المساومة، فترسو على من يدفع الثمن الأعلى، وكان المولى خلافة لا يعرف العربية فيتكل في استماع المرافعة إلى مترجم يصبح هو صاحب القول الفصل في بعض الأحيان.
واستوطن الانكشاريون والسباهيون حلب ودمشق وطرابلس فصيدا واستقروا بها، فصار لهم صبغة محلية وكثرت مطامعهم ومشاكلهم، ولجئوا في غالب الأحيان إلى القوة للوصول إلى ما كانت تصبو إليه نفوسهم، وكانت تغلق الحوانيت ويجري الدم فيضطر كل صاحب مهنة أن يأخذ أسلحته معه إلى محل عمله. وأصبح «أهل الذمة» بحالة يرثى لها يتكيسون بأصحاب السطوة من المسلمين لصيانة أنفسهم، أو يفرون إلى لبنان ليعيشوا فيه أحرارا معززين.
بطاركة القرن السادس عشر
ويختلف الرواة في أسماء البطاركة وفي تسلسل سلطتهم ومدة رئاستهم، وليس لدينا من السجلات الرسمية ما نستعين به لإثبات هذه الحقائق التاريخية الأولية، فحوادث السنة 1860 في دمشق قضت على كل ما كان قد تجمع في البطريركية من أوراق وسجلات، وأحرقت ما كان قد تبقى من كتب طقسية وذيبتيخات في الكاتدرائية البطريركية.
ويقول قسطنديوس القسطنطيني إن دوروثيوس الثالث تولى السدة البطريركية الأنطاكية من السنة 1511 حتى السنة 1523، وإن يواكيم الرابع خلفه في السنة 1524 فساس الكنيسة ثلاثين عاما، وإن ميخائيل الخامس جلس اثنتي عشرة سنة (1555-1567)، وإن يواكيم الخامس ظل متوليا من السنة 1567 حتى السنة 1585، وإن دوروثيوس الرابع خلفه فتوفي بعد اثنتي عشرة سنة؛ أي في السنة 1597.
1
وجاء في كتاب «الأرج الزكي» مثل ما جاء في لائحة قسطنديوس حتى نهاية عهد ميخائيل الخامس في السنة 1567. ثم جاءت بطريركية يواكيم الخامس سنة واحدة تلتها رئاسة يواكيم السادس، فدامت سبع عشرة سنة (1585)، ثم بطريريكية دوروثيوس الرابع حتى السنة 1610. وأضاف صاحب «الأرج الزكي» أن الأرشمندريتي بولس أبو عضل تكرم عليه بالسلسلة البطريركية، وأن غريغوريوس متروبوليت طرابلس (البطريرك فيما بعد) نظر فيها وأجازها.
وإذا ما قابلنا هاتين اللائحتين بما صنفه البطريرك مكاريوس (زعيم) وابنه بولس
2
وبما حبره الخوري ميخائيل بريك، «الخلاصة الوافية في تاريخ بطاركة أنطاكية»،
3
هالنا التناقض وأرهبنا، وليس في ما ظهر في مجلة «المنار» الأرثوذكسية بقلم غطاس قندلفت أو في ما أورده الأب كرالفسكي في «قاموس التاريخ والجغرافية الكنسي» ما يسكن روعنا ويخفض جأشنا، ولولا جهود المغفور له السيد خريسوستومس (بابا ذوبولوس) رئيس أساقفة أثينا،
4
وصبر الأب الأرشمندريتي جوزيف نصر الله،
5
لما تمكنا من رسم الخطوط الرئيسية التالية. وأملنا أن يقوم بعدنا من يعنى بجمع جميع ما تبقى من الآثار الخطية في اللغتين العربية واليونانية ليتسنى لخلفائنا الوصول إلى استنتاجات سليمة كاملة.
البطريرك دوروثيوس الثالث (1497-1523)
وجاء لبولس ابن الزعيم أن دوروثيوس (ابن الصابوني) كان يسوس الكنيسة الأنطاكية في أيلول السنة 7006 للخليقة (1497)، وجاء أيضا في ذيل إنجيل خطي في السابع والعشرين من آذار سنة 1523 تصديق لدوروثيوس يفيد أن هذا الإنجيل أصبح آنئذ وقفا على كنيسة دير عطية،
6
فنرانا مضطرين والحالة هذه أن نجعل مدة رئاسة دوروثيوس الثالث تشمل هذه السنوات كلها. ولكنه ليس في نص بولس ما يمنع القول بابتداء هذه الرئاسة قبل السنة 1497، وقد جاء للمغفور له خريسوستومس رئيس أساقفة أثينا في كتابه في تاريخ كنيسة الإسكندرية أن يواكيم بطريرك الإسكندرية تسلم عكاز البطريركية المرقسية في دمشق في السادس من آب سنة 1487، وهو يستند في قوله هذا إلى مازاراكي وماليشيفسكي،
7
وجاء لدوسيثيوس في تاريخه «جلاء الأبصار من غشاء الأكدار» أن دوروثيوس الأنطاكي اشترك مع زميليه فيليتيوس الإسكندري ويواكيم الأوروشليمي في شجب أعمال مجمع فلورنسة في القسطنطينية في السنة 1484. ويرى الأب نصر الله أن ما ينسب إلى دوروثيوس قبل السنة 1497 هو من أعمال سلفه ميخائيل، والواقع أنه لا يجوز البت في شيء من هذا، ومراجعنا الأولية لا تزال على ما هي عليه من نقص وغموض.
البطريرك ميخائيل الخامس (1523-1541)
ولنا في تاريخ تجليد مخطوطة المتحف البريطاني رقم 418، وفي تصديق وقفية الإنجيل الخطي الذي قدمه جرجس بن إلياس الملاتي إلى كنيسة القديس حنانيا في دمشق،
8
وفي أخبار مجمع قارة الذي التأم في السنة 1539 وفي كلام بولس ابن الزعيم ووالده البطريرك مكاريوس،
9
ما يجعلنا نرجح الحدين 1523 و1541 لرئاسة ميخائيل الخامس كما ورد أعلاه، ويلاحظ هنا أن لا أساس لفترة الخلو بين السنة 1500 والسنة 1523 التي قال بها الأب إسحاق أرملة في مقاله في مجلة «المشرق» سنة 1936، وأن لا صحة لما رواه الأب قسطنطين الباشا عن بطريرك أنطاكي اسمه ميخائيل جاء في مخطوطة الفاتيكان رقم 147 بتاريخ 19 آذار سنة 1522.
10
والبطريرك ميخائيل الخامس هو ابن الماوردي الذي زار الأماكن المقدسة تبركا في السنة 1539، وهو الذي ترأس مجمع قارة.
مجمع قارة (1539)
ونشأ خلاف في السنة 1539 حول حساب عيد الفصح، فاجتمع حول السيد البطريرك الأنطاكي ميخائيل في قارة عدد من رجال الإكليروس بينهم يوحنا أسقف يبرود ويوحنا أسقف صيدنايا وجرمانوس أسقف بعلبك وأسقف الزبداني وجماعة من الخوارنة والقساوسة والشمامسة، «ولم يعرفوا كيف يمسكوا من الحدود الذي من العماد إلى مرفع اللحم، واشتبه الحساب عليهم بسبب زود الدقائق الزائدة، فأرسلوا إلى الشماس إبراهيم عطنط في بيروت يستشيرونه في الأمر فأجاب: «وأنا اختلف الحساب علي!» وعندئذ أحضرني الشيخ إبراهيم بن العكيكة فبرهنت لهم حساب الدقائق وزودها، وجمعت لهم الزود إلى سنة سبعة عشر وسنة ثمانية عشر وتسعة عشر تكون تجعل أيام الخليقة سبعة حتى صح لهم الحساب؛ لأنهم لم يكونوا في زمان الأول يؤرخوا لنا سنة الغلطة، وحسبت لهم أن يرفعوا في تسعة أيام من شباط، وظهر لهم الحق والعيد في ستة أيام من نيسان.» «أما طوائف الأراطقة فإنهم أكلوا اللحم جمعة النقية أول جمعة الصوم، وصاموا جمعة الفصح المجيد، وبرطلوا النقاش أمين كنيسة القدس بألف دينار فأشعل لهم القنديل، وأخذتني الغيرة فأخرجت لهم من شبكة يوحنا الدمشقي من سنة سبعة آلاف وسبعة وأربعين إلى سنة سبعة آلاف ومائة وسبعة وثلاثين برهنت فيها كم يكون فيها العيد العظيم، وكم تكون القاعدة الشمسية، وكم تكون عدة صوم الرسل.»
11
ويلاحظ هنا أن المشادة نشأت بين الأرثوذكسيين وبين اليعاقبة والأرمن والأحباش والموارنة، وأن الكرج والإفرنج والأقباط وافقوا الأرثوذكسيين على موقفهم من حساب الفصح، ويلاحظ أيضا أن وجه الصواب التبس على الأب كارالفسكي فظن في مقاله عن أنطاكية في قاموس التاريخ والجغرافية الكنسي أن المشادة المشار إليها وقعت حول اختلاف بين البطريرك ميخائيل ويواكيم متروبوليت بيروت.
12
البطريرك دوروثيوس الرابع (1541-1543)
ولا نعلم الشيء الكثير عن دوروثيوس الرابع قبل وصوله إلى السدة الأنطاكية، ولعله كان قسطنطيني المولد والنشأة والترهب، ولعل اسمه في الرهبنة كان يوحنا.
اتصاله بالموارنة وخلعه
وجاء في رحلة البطريرك مكاريوس أن دوروثيوس أحب أن يتفقد شئون الرعية فقام بجولة في أبرشيات الكرسي الأنطاكي، وجاء طرابلس فاتصل ببطريرك الموارنة في قرية داريا من منطقة الزاوية وفاوضه في نوع من التعاون بين الطائفتين، فاقترح تبادل الخدمات الروحية بين الكهنة والسماح بالتزاوج بين الطائفتين مع الاحتفاظ بالعقائد القديمة، ويضيف كاتب الرحلة: «وقد وجدنا هذا كله مدونا في قلايتنا في حلب، ووجدنا أيضا الرسالة العربية التي وجهها يواكيم البطريرك الإسكندري إلى دوروثيوس التي حرمه فيها من ممارسة الأسرار المقدسة، وجاء في هذه السنة نفسها أرميا الثاني البطريرك القسطنطيني (1522-1545) أوروشليم فاجتمع بجرمانوس بطريركها (1534-1572) ويواكيم بطريرك الإسكندرية؛ فحكموا بخلع البطريرك الأنطاكي وشرطنوا يواكيم متروبوليت بيروت بطريركا محله.»
13
وليس في المراجع المارونية الباقية أي صدى لهذا الحادث، والبطريرك الماروني المعاصر هو البطريرك موسى العكاري (1524-1567). وجل ما هنالك خبر الرسالة التي أرسلها هذا البطريرك إلى البابا بولس الثالث التي يرجو فيها إرسال ستة كهنة من رهبان القديس فرنسيس؛ «لينشئوا مدرسة في لبنان لتعليم بعض الشباب اللغة اللاتينية؛ لأنه منذ مدة طويلة لم يأت أحد من قبل الحبر الروماني لزيارتهم، ولا استطاع هو أن يرسل أحدا يعرف اللغة إلى قداسته.»
14
وهنالك رواية أخرى تفيد أن سمعان أسقف طرابلس لم يتمكن من الإقامة في طرابلس لما حل بالكاثوليكيين فيها من اضطهاد،
15
وهنالك أيضا ما يفيد بمشادة نشأت في عكار بين الروم والموارنة حول بعض الأوقاف،
16
وجاء في رسالة وجهها البابا بيوس الرابع إلى البطريرك موسى العكاري بتاريخ أول أيلول سنة 1562 «أن يحل البطريرك جميع الهراطقة والمشاقين والمارقين سواء كانوا من الموارنة أو من أية ملة كانت.»
17
البطريرك يواكيم الرابع (1543-1576)
وهو يواكيم بن جمعة أبصر النور في دمشق ولبس الأسكيم فيها، ثم انتخب مطرانا على بيروت وساس هذه الأبرشية إحدى عشرة سنة، وجاء لبولس ابن الزعيم أن يواكيم بن جمعة ظل بطريركا ستين سنة، وجاء له أيضا أن ابن جمعة تولى الرئاسة ثلاثة وثلاثين سنة،
18
ويرى الأب نصر الله أن ليس في هذين القولين تناقض؛ إذ يجوز أن يكون ابن جمعة قد انتخب بطريركا في القسطنطينية في السنة 1516 فلم يتمكن من الوصول إلى الكرسي قبل خلع دوروثيوس الرابع.
19
ويتفق مكاريوس البطريرك المؤرخ وابنه بولس ابن الزعيم على أن يواكيم تحلى بالفضيلة والصلاح، وأنه ساس البطريركية بالعدل والإتقان،
20
واشترك يواكيم الرابع في أعمال مجمع القاهرة في السنة 1557 فتعاون مع زميليه الإسكندري والأوروشليمي في حل مشكلة كنيسة سيناء. وعاد إلى القضية نفسها في السنة 1575 فاعترف مع أرميا القسطنطيني وجرمانوس الأوروشليمي بامتيازات هذه الكنيسة.
21
ونازعه الرئاسة مكاريوس بن هلال أسقف قارة، وانقسمت الرعية حزبين فكان يواكيم وجماعته يصلون في كنيسة كبريانوس ويوستيني ومكاريوس وأتباعه يصلون في كنيسة حنانيا. ودام هذا الشقاق سبع سنوات، ثم مرض مكاريوس فأرسل في طلب يواكيم وسأله الصفح وتوفي، فعادت الألفة إلى صفوف الأرثوذكسيين وأصبح يواكيم وحده بطريركا.
22
نقد البنات والأرامل «وكان من عادة الدمشقيين أن يكثروا نقد بناتهم، فكان الخطيب مهما قدم إلى خطيبته لا يقنع به أهلها، بل يطلبون المزيد، وكان في حارة حنانيا رجل غني له ابنة مخطوبة، وكان خطيبها قد قدم لها أموالا وهدايا كثيرة، فلم يقنع أبوها ومنع زواجها حتى يرضيه. ولما تمادى الأمر على ذلك حجزت البنت، وكان لهم جار جندي فأرسل إليها وخدعها مع امرأة على أن تتزوج به، فرضيت وخرجت إلى الحاكم فأسلمت، وعقد لها على ذلك الجندي، ثم أحضرت أباها إلى المحكمة وأخذت منه نقدها سبعة آلاف غرش.» «وحينئذ أرسل البطرك فجمع رؤساء كهنة الأبرشية وعقدوا مجمعا مكانيا في داخل دمشق، وأوجبوا أن يكون نقد البنات والأرامل أربع طبقات، الطبقة الأولى عشرة غروش صاغ ويتبعها غرشان، والثانية عشرون غرشا يتبعها أربعة غروش، والثالثة ثلاثون غرشا يتبعها ستة غروش، والرابعة أربعون غرشا يتبعها ثمانية غروش، وهي الهدايا والأعياد وغير ذلك. وكتب هذا القانون على الحجر المشهور بباطن كنيسة دمشق كما يرى إلى يومنا هذا، وكان ذلك سنة 1573، ومكث هذا البطريرك في الكرسي ثلاثا وثلاثين سنة وتوفي سنة 1576.»
23
وكتب يواكيم إلى زملائه بطاركة القسطنطينية والإسكندرية وأوروشليم يطلب الموافقة على قرار مجمع دمشق، فوافقوا.
24
البطريرك ميخائيل السادس (1577-1581)
ولدى وفاة يواكيم الرابع التأم المجمع الأنطاكي المقدس ففوض غريغوريوس متروبوليت حلب ومكاريوس متروبوليت أفخائيطة
25
ودوروثيوس متروبوليت طرابلس أمر انتقاء البطريرك الجديد، فآثر غريغوريوس الراحة في حلب على متاعب البطريركية فرشح مكاريوس متروبوليت أفخائيطة، فاضطر دوروثيوس أن يوافقه على ذلك، ففاز مكاريوس بالبطريركية بالإجماع. وصدق المجمع على هذه اللجنة فسيم مكاريوس بطريركا على أنطاكية في مطلع السنة 1577، واتخذ لنفسه لقب ميخائيل السادس،
26
وحرر رسائل الجلوس إلى إخوته البطاركة فاعترفوا به.
27
وهو مكاريوس بن وهبة بن عيسى الصباغ، أبصر النور في حماة ونشأ وترعرع فيها، ثم سيم على أبرشية أفخائيطة المجاورة فإذا به يجيد العربية والسريانية واليونانية
28
ويتقن الخط فينسخ عددا من المخطوطات لا يزال بعضها باقيا حتى يومنا هذا،
29
وأفخائيطة اسم يوناني أطلق على بلدة حناك، وقد ذكرها مكاريوس الحلبي فجعلها قرب معرة حلب، وشملت أبرشيتها محردة ومعلقا وأفيون والبيا ويسارين. ونقل مكاريوس عن أحد كهنة حماة الشيوخ أنه كان على زمانه في محردة أربعة آلاف إنسان، وكان يقيم فيها مطران أفخائيطة، وأن آخر من شرطن عليها ملاشيا. وتمر السنوات الأربع الأولى من بطريركيته هادئة خالية من كل ما يقلق البال، فيطيب خاطر البطريرك الجديد ويهتم بشئون الكنيسة الجامعة خارج أبرشيته، فيشترك في السنة 1579 مع زميله أرميا القسطنطيني لحل نزاع نشأ في أوروشليم بين جرمانوس البطريرك الأوروشليمي ورهبان دير القديس سابا وأنطوشه مار ميخائيل في أوروشليم وبين يواكيم متروبوليت بيت لحم، ويقوم بمهمة التدقيق والتحقيق دوروثيوس متروبوليت طرابلس بالنيابة عن البطريرك المسكوني، وسيماون أسقف صيدنايا بالنيابة عن البطريرك الأنطاكي.
30
وفي السنة 1580 تحامل على البطريرك ميخائيل قوم من رعيته فاتهموه بإثم قبيح ورفعوا أمرهم إلى القاضي، وجاءوا براهب فشهد عليه بذلك، «وأوجبوا عليه السقوط من كهنوته، وكتبوا عليه صكا بذلك»، فخرج من دمشق ورجع إلى حماة وأقام فيها، وعلم غريغوريوس متروبوليت حلب بذلك فلام البطريرك «على نزوله عن بطريركيته بغير حق وبغير مجمع بطاركة»، فندم ميخائيل واحتفل بالقداس الإلهي مع جماعة من رؤساء الكهنة والكهنة وحرم الدمشقيين.
31
وأقام الدمشقيون دوروثيوس متروبوليت طرابلس بطريركا (1581) باسم يواكيم الخامس، فانقسمت الرعية وتراشق الطرفان بالحرم، وأيد ميخائيل أساقفة الشمال وشد أزر يواكيم أساقفة الجنوب، «فكان بين الفريقين شقاق عظيم وغرامات لا تحصى، واضطر البعض إلى جحد إيمانهم لشدة ما نزل بهم من الضيق وقتل أناس في هذه الفتنة ظلما.»
32
واضطر ميخائيل أن يلجأ إلى السلطات العليا، فأقام غريغوريوس متروبوليت حلب نائبا عنه وألبسه الصاكون لأول مرة، «ولم يكن أسقف حلب يلبس الصاكون»، وسار ميخائيل إلى القسطنطينية وشكا أمره إلى زميله البطريرك المسكوني، فنظر المجمع القسطنطيني في المشكلة الأنطاكية وحكم لميخائيل، فاستصدر البطريرك المسكوني أرميا أوامر سلطانية بتأييد ميخائيل وأعاده إلى حلب معززا بالقوة العسكرية، فتفاقم الشر واستطارت الفتنة وكثر الاعتداء وتنوعت المصادرات، «فعاد ميخائيل إلى القسطنطينية (1585) فحكم عليه بالنزول عن كرسيه وبالعودة إلى مركزه في أبرشية أفخائيطة.» فعاد في البحر، ولدى وصوله إلى جزيرة رودوس توفي فيها يوم عيد الميلاد سنة 1592،
33
وندم الراهب المفتري واعترف بذنبه أمام يواكيم واستغفر، فأرعشت يدا يواكيم واصطكت ركبتاه وصاح لساعته: كل خامس يحرم وأنا يواكيم الخامس.
34
رومة تواصل وتحادث (1581-1584)
وضرب لوثيروس ضربته المؤلمة وصارح غيره كنيسة رومة وكاشفها بالخروج، فانجلت الشبهات وتنادى الآباء الغربيون وشحذوا للأمر عزيمتهم واجتمعوا في تريدنتوم في التيرول سنة 1545 وفي غيرها، واتخذوا قرارات من شأنها إصلاح الكنيسة ودرء الخطر البروتستانتي عنها، ولم تنته أعمالهم المتقطعة قبل السنة 1563، فأصدروا في السنة 1564 بيانا بالعقيدة الكاثوليكية الصحيحة عرف فيما بعد بالبيان التريدنتي، وتريدنتوم هي ترانت الحديثة.
وفي السنة 1559 اتصل اللاهوتي الألماني ميلانكتون بالبطريرك المسكوني يواصاف الثاني (1555-1565)، ودعاه إلى إبداء رأيه في المشادة اللاهوتية القائمة بين البروتستانت والكاثوليك، وكان ميلانكتون يعطف على لوثيروس كثيرا، ولكنه كان يسعى لتوحيد الصفوف، فأرسل البطريرك يواصاف شماسه ديمتريوس إلى ويتنبرغ
Wittenberg
للبحث والتدقيق، وعاد الشماس حاملا بيان أوغزبورغ
Augsburg
الشهير، وما إن اطلع البطريرك عليه حتى نفر فأعرض وابتعد. وعاد علماء ويتنبرغ إلى المواصلة راغبين في تأييد الكنيسة الأرثوذكسية، فكتبوا في ذلك إلى البطريرك المسكوني أرميا الثاني (1572-1595)، فألف في الرد رسائل طويلة طافحة بالتعاليم الصحيحة المشتركة بين فرعي الكنيسة الجامعة، فخيب أملهم وأثبت وحدة الاعتقاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية في ما أنكره لوثيروس وأتباعه.
وأدى هذا كله إلى تيقظ رومة، فأصدر البابا يوليوس الثالث (1550-1555) في الثالث من تموز سنة 1553 البولة
Cum Praesertim ، فأمر بموجبها الرهبانية اليسوعية بفتح ثلاث مدارس في الشرق؛ في أوروشليم والقسطنطينية وقبرص «لترميم جدران الكنائس الشرقية وإعادة رونقها القديم.»
35
وجاء البابا غريغوريوس الثالث عشر (1572-1585) فأنشأ مدرسة القديس أثناسيوس اليونانية في رومة في السنة 1577 لقبول الطلبة الروم، وعزم على تجديد العلاقات الودية مع الموارنة، فأوفد في السنة 1578 الأب اليسوعي يوحنا إليانو للقيام بهذه المهمة. وكان الأب إليانو يجيد العربية والسريانية فجال جولة موفقة في ربوع الموارنة ووضع تقريرا ضافيا في الحالة الدينية الراهنة آنئذ،
36
وعاد إلى رومة فأثنى البابا على غيرته وفطنته وطول أناته، وأكد أنه سيبذل الجهد لتنفيذ توصياته وأنه مصمم على إيفاده ثانية إلى لبنان. وعاد الأب إليانو ورفيق له اسمه الأب برونو في منتصف أيار سنة 1580 ووصلا إلى قنوبين في التاسع من تموز، وكان مجمع في قنوبين وكان احتفال رائع بزيارة القاصدين، وقضى الأبوان سنة كاملة (آب 1580-أيلول 1581) يطوفان في ربوع لبنان ساعين لنشر قرارات مجمع قنوبين وتعميمها.
وفي خريف السنة 1581 أبحر المرسلان من طرابلس إلى يافا لزيارة القبر المقدس والتبرك بمشاهدته، وعادا إلى لبنان في أواسط كانون الأول عن طريق البر ليزورا الموارنة في دمشق ويتصلا بالبطريرك الأنطاكي كما أوصاهما الكردينال سان سفرينو.
ولدى وصول الأبوين المرسلين إلى دمشق كتب أحدهما - الأب إليانو - إلى البطريرك يواكيم الخامس أن يسمح له بزيارته مع الأب برونو باسم حبر رومة غريغوريوس الثالث عشر وباسم الكردينال سان سفرينو «محامي الطائفة اليونانية»، فعين البطريرك الأنطاكي يوما استقبلهما فيه مع أعيان الطائفة ورحب بهما، فدار الحديث عن محبة غريغوريوس الثالث عشر لطوائف الروم واليونان، وعن المدرسة التي أنشأها في رومة لتخريج الشباب الروم، ثم عن رغبة حبر رومة في اتحاد الكنائس. فأجاب البطريرك الأنطاكي أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل الاتصال بالبطريرك المسكوني، وكتب رسالة إلى غريغوريوس الثالث عشر شكر له فيها لطفه وذكر سروره بمشاهدة المرسلين وشفعها برسالة ثانية للكردينال سان سفرينو،
37
وفي صيف السنة 1582 قام الأب إليانو إلى حلب لزيارة الموارنة فيها. وكان بطريرك اليعاقبة أغناطيوس نعمة الله المارديني قد وقع في جدل مع بعض علماء المسلمين فاتهموه بالكفر وأصدروا عليه الحكم بالإعدام، فحمله خوفه على الخروج وتظاهر بالإسلام. وكان قد وخزه ضميره ففر من ديار بكر إلى رودوس ومنها إلى رومة سنة 1578، وكان قد أعلن توبته ووعد برد طائفته إلى العقيدة الكاثوليكية. فاتصل الأب إليانو بداود شاه أخي البطريرك الجاحد والنائب البطريركي اليعقوبي فسوفه داود ووعده وعودا عرقوبية. واجتمع الأب إليانو في أثناء إقامته في حلب بالبطريرك ميخائيل السادس مناظر البطريرك يواكيم الخامس، وفاتحه كلاما في اتحاد الكنائس «فاكتفى ميخائيل ببعض الوعود الطيبة.»
38
وفي السنة 1583 سام غريغوريوس الثالث عشر الأب ليوناردو آبل المالطي أسقفا شرفيا على صيدا وأنفذه إلى الشرق ليعمل في سبيل الاتحاد ويدعو للتقويم الغريغوري الجديد. ووصل الأسقف ليوناردو إلى طرابلس واتصل ببعض الأرثوذكسيين فيها، ثم قام إلى حلب وجالس ميخائيل البطريرك الصاخب وفاتحه كلاما في أمر الاتحاد. ويقول ليوناردو إن ميخائيل شكا الظلم الذي لحق به والحيف الذي جره عليه بطاركة اليونان، ورجا المعونة من الكرسي الرسولي، وأنه لأجل هذا يرسل بيانا بإيمانه مرفوقا بالرسائل اللازمة.
39
وجاء في هامش «سفرة البطريرك مكاريوس» الحلبي التي نشرها الخوري قسطنطين الباشا سنة 1912 أن الأب قسطنطين وجد في مكتبة الفاتيكان تحت الرقم 48 من المخطوطات العربية نص الرسالة العربية التي وجهها البطريرك ميخائيل إلى الكردينال سفرينو، وإليك قراءة الأب قسطنطين:
المجد لله دائما، لحضرة الأب الكردينال سنتا سافرينا وكيل ومدبر الشرقيين بمدينة رومة. أقبل الطلعة الأقدسية الخاشعة الماسكية الناسكية العالمة العاملة فخر الملة المسيحية الأب الأقدس والإناء غير المدنس الأب الكردينال سانتا سافرينا وكيل ومدبر جميع الشرقيين بمدينة رومية العظمى، أدام الرب الإله رياسته وسني حياته ويرحم ضعف الحقير بمقبول صلواته، آمين.
بعد تقبيل الطلعة الأقدسية وإهداء السلام الروحاني والوحشة الزائدة إليها قرب الإله الاجتماع بها بخير وعافية وسلامة، فإنه على كل شيء قدير. ليس بخافي عن محبة قدسكم حضور المحب الكامل العالم العامل المحقق المدقق فريد دهره ووحيد أهل زمانه وعصره الأسقف كير ليونارضو أسقف مدينة صيدا إلى البلاد، وأنه أنشأ محبة وسلاما وصلحا مثل الرسول بولس، وكل ذلك لأجل اتضاعه ومنطقه الحلو، ولأجل محبته الزائدة آثر الحقير أن يصحبه مسافرا معه إلى عند قدسكم، ويشاهد طلعة قدس أب الآباء كير سيسطوس البابا الجزيل قدسه بمدينة رومية العظمى وقدسكم أيضا ، وما قطعنا عن السفر إلا الضعف في مدينة حلب وشيء من الشيخوخة وعدم القوة وشيء من عدم قوة الباصرة، ونرجو من الله أن يكون في العمر فسحة ويريد الله أن نحضر بين أيديكم إن شاء الله تعالى وبركة صلواتهم، آمين.
ونطالع قدسكم لا تسل عما جرى على هذا الحقير من الامتحان والشدائد، وأخذني الروم مرتين بشاويش، وصار على الحقير شيء ما صار على الشهدا. ولكن الشهدا جرى عليهم من الملوك عباد الأصنام، وأما نحن صار علينا هذا من أبناء جنسنا وعشيرتنا من جماعة الروم، وقدس الأخ الأسقف يعلم ذلك، وفي مطالعة الأب البابا مسطر ذلك. وصبرنا على ذلك جميعه وقبلناه بشكر وشكرنا الله عليه ونحن أضعف عباده. وفي التواريخ كما في شريف علمكم جرى على آباء وقديسين كانت أشباحهم تقيم الموتى، وكل ذلك سمح الله به لأجل خطايانا وقلة محبتنا لبعضنا بعض وتعدينا على النواميس المقدسة؛ إذ صارت البطركية والكهنوت ينباعوا بالمال ويؤخذ عليهم الرشا. ويا ليت ينباعوا من النصارى، بل من الأمة الغريبة، وجميع ما كتبناه وعرفنا به قدسكم من تعدي النصارى ما هو قيراط من أربعة وعشرين، ونعرف قدس الأب أن من عظم ما عملوا مع الحقير أنه لم يعد يقدر على القوت واللباس بشهادة الله.
بعد تقبيل طلعة قدس الأب ثالثا وطلعة من يلوذ بالولاية والأماكن المعمورة والمحلات السعيدة، زمان طويل ... بشفاعة سيدتنا السيدة البتول والقديس مار بطرس الرسول صاحب الكرسي الروماني وجميع القديسين، آمين. سطر في تاريخ شهر أيار سنة 1585 الحقير البطريرك ميخائيل.
40
ويلاحظ أنه ليس في هذا النص ما يخولنا القول إن ميخائيل دخل في طاعة رومة أو إنه قال قولها في أمر الانبثاق وغيره من الأمور التي بحثها مجمع فلورنسة. ويلاحظ أيضا أن رسالته إلى البابا ضائعة، وأنه ليس لدينا من الروايات ما يثبت خضوع ميخائيل ودخوله في طاعة البابا سوى رواية الأسقف ليوناردو، ورواية ليوناردو فريدة في بابها ضعيفة في عدلها.
وقصد الأسقف البطريرك الجالس يواكيم الخامس للتفاوض معه في أمر الاتحاد فوجده قابعا في عيتا البقاع مبتعدا عن السلطات العثمانية المحلية، فتحدث إليه في أمر الاتحاد فأرجأ البطريرك البحث إلى اجتماع آخر يعقد في طرابلس بعد حين. وشددت السلطات على البطريرك في أمر المال المطلوب فانتقل من عيتا إلى صيدا ومنها إلى القسطنطينية في طلب المعونة.
وعاد الأسقف ليوناردو إلى طرابلس فالتف حوله كل من يوحنا بن إلياس النحوي ويوحنا بن نصر الله وسليمان بن مرتيه وثلاثة آخرون؛ ميخائيل وفضل الله ووهبة، فوافقوه على الاتحاد وكتبوا بذلك إلى حبر رومة غريغوريوس الثالث عشر مؤكدين الطاعة مستمدين البركة:
والذي يطالع به قدس سيدنا هو أن الأب الأقدس والإناء المقدس أبينا وسيدنا كير دونلردو أسقف صيدونيا خبرنا عن جميع إحسان قدسكم وحنوكم ومراحمكم، والخير الذي تفعلوه مع ساير الطوايف المسيحيين وبالأكثر لطايفتنا عبيدك الملكية. وبعدها سافر من عندنا السيد كير دونلردو المشار إليه من طرابلس إلى حلب ثم رجع إلى مدينة الشام واجتمع مع سيدنا وبطريركنا كير يواكيم البطريرك الأنطاكي بطريرك الملكية في قرية من قرى الشام تدعى عيتا، واتفق معه أن يجتمع عندنا في طرابلس في بيت الحقير تلميذكم. وكان الاتفاق بين سيدنا البطريرك وبين كير دونلردو أن «يكون» تمام المحبة والطاعة إلى الكرسي البطريركي الروماني على ما رتبوه الآباء القدسين الثلاثمائة وثمان عشر في مدينة نيقية، وأيضا على ما رتبوه الآباء القديسين في مدينة فرنسيا، وعلى أن الاتحاد يكون واحد والأمانة واحدة وهي الأمانة المستقيمة الكاثوليكية الأرثوذكسية تكون واحدة والمحبة واحدة. وأيضا خبرنا عن سبب القاعدة الجديدة التي صارت في كنيسة رومة المقدسة، وهي قاعدة الأعياد والمواسم تكون عند جميع الطوايف.
ولكن ما قسم نصيب في الاجتماع في هذه المدة لكون أن سيدنا البطريرك كير يواكيم صار عليه حيف كثير وخصر خصاير كثير وتدين مبلغ له صوره، وليس له قدرة على وفاء دينه وخشي من أصحاب الديون لا يحبسوه، فما قدر أن يحضر إلى طرابلس، فنزل في البحر وسافر إلى مدينة القسطنطينية إلى عند بطرك القسطنطينية شكى حالته وضرورته إلى إخوته الأساقفة والأراخنة والكهنة لعل يجمعوا له شيء يوفي به دينه. وعن قريب إن شاء الله تعالى يحضر إلى عندنا ونتكلم معه ونتمم ما في خاطركم وما رسمتم به.
41
ويلاحظ هنا أن يواكيم البطريرك الجالس لم يفعل ما فعله مناظره ميخائيل البطريرك المخلوع، ولم يكتب شيئا إلى رومة، وأنه أرجأ البحث مع الأسقف ليوناردو إلى موعد آخر، وسافر إلى القسطنطينية قبل الاجتماع به مرة ثانية. ولعله رأى من المصلحة الملحة أن يكتب غيره إلى رومة كتابة لطيفة تجعل حبرها يؤجل الاعتراف بميخائيل. لعل هؤلاء الطرابلسيين كتبوا بدون استشارته. ويلاحظ أيضا أن أنسطاسيوس متروبوليت طرابلس الذي ساس آنئذ أبرشيات طرابلس وبيروت وصيدا وصور صنف في السنة 1583 نفسها رسالة رد فيها على ما جاء في رسالة البابا إلى البطريرك يواكيم، وأن هذا الأسقف لم يكن يونانيا، بل وطنيا نشأ وترعرع في مرمريتا في وادي النصارى.
42
ويلاحظ كذلك أنه على الرغم من هذا كله ترى الأب اليسوعي بوسيفينو
رسول البابا غريغوريوس الثالث عشر إلى القيصر الروسي إيفان الثالث يستبق ما جرى في حلب في السنة 1584، فيؤكد في السنة 1581 أن بطريرك أنطاكية اعترف بسلطة البابا وطلب تثبيته!
43
البطريرك يواكيم الخامس (1581-1592)
ووصل يواكيم إلى القسطنطينية في السنة 1584 فوجد حبرها أرميا منفيا إلى رودوس ووجد خلفه باخوميوس طماعا شرها لا يرى في الرئاسة إلا وسيلة لجمع المال، فتابع السير إلى كيف ومنها إلى موسكو. ولدى وصوله إلى عاصمة الروس جابهه صاحبها القيصر فيدور بوجوب الاعتراف ببطريركية روسية والسعي لدى سائر البطاركة لتأييد هذا الاقتراح. ثم زار يواكيم روثينية ونظر في شئون الكنيسة فيها، فأسس رهبانية ونهى الكهنة عن الزواج بعد وفاة زوجاتهم.
44
وعاد إلى مولدافية في السنة 1587 فاتصل بأسقفها جاورجيوس (موغيلة) وأهداه أيقونة لا تزال محفوظة في دير سوكيفيتة حتى يومنا هذا.
45
وقام يواكيم من مولدافية إلى تسالونيكية فأبحر منها إلى طرابلس فدمشق.
46
ويشير الأب نصر الله إلى عبارة وردت في تاريخ المخطوطة الخامسة والثلاثين من مجموعة دير مار يوحنا الشوير جاء فيها أن ميخائيل أسقف طرابلس والكورة انتهى من نسخها في 13 نيسان سنة 7094 يوم كان في أميون ينظر في قضية البطريرك يواكيم نقول يشير إلى هذا كله، فيظن أن الأمور لم تكن على ما يرام في أثناء غياب يواكيم في روسية.
47
بطريركية موسكو (1590-1593)
وضعف نفوذ المغول وازداد نفوذ أمراء موسكو. وفي السنة 1480 تجرأ إيفان الثالث أمير موسكو على قتل رسول المغول الذي كان مكلفا بطلب الضرائب، وعندئذ شرع أمراء موسكو في التغلب على أمراء الروس الآخرين وجمع السلطة في أيديهم إلى أن كونوا مملكة عظيمة متحدة الكلمة.
وفي السنة 1547 والسنة 1549 التأم في موسكو مجمعان روسيان للبحث في أمور وأمور، أهمها مسح إيفان الرابع «القاسي» فسيلفسا واعتبار موسكو رومة ثالثة. وتم المسح في السنة 1547 ونودي بإيفان فسيلفسا بدون استئذان البطريرك المسكوني. ثم طلب إيفان الرابع إلى البطريرك المسكوني يواصف الثاني الاعتراف بما تم، فوافق هذا البطريرك في السنة 1562، ولكنه اعترض على طقس المسح.
48
وفي السنة 1586 فاتح القيصر فيدور البطريرك الأنطاكي يواكيم كلاما في رفع متروبوليت موسكو إلى رتبة بطريرك، كما سبق وأشرنا. ثم عاد أرميا الثاني البطريرك المسكوني إلى كرسيه في السنة 1588 فوجد الخزينة فارغة والأملاك مصادرة، فأم موسكو في طلب المعونة، فطلب فيدور إليه ما كان قد طلبه من يواكيم البطريرك الأنطاكي. فوافق أرميا ونصب في السادس والعشرين من كانون الثاني سنة 1589 أيوب متروبوليت موسكو بطريركا على موسكو. وفي أيار السنة 1590 التأم مجمع في القسطنطينية اشتركت فيه الكنائس الرسولية الأربع، وبعد البحث في قضية البطريركية الروسية تقرر الاعتراف بأيوب بطريركا على موسكو والاعتراف بحق المجمع الروسي في انتخابه واعتباره الخامس رتبة بعد البطريرك المسكوني وسائر البطاركة الأرثوذكسيين. ووقع هذا القرار كل من أرميا بطريرك القسطنطينية ويواكيم بطريرك أنطاكية وصفرونيوس بطريرك أوروشليم.
49
ولم يرض فيدور عن رتبة بطريركه وساءه أن بطريرك الإسكندرية لم يوقع قرار القسطنطينية، فعاد البطاركة إلى الاجتماع في شباط السنة 1593 وجددوا القرار السابق ووقعه كل من أرميا الثاني البطريرك المسكوني وصفرونيوس بطريرك أوروشليم وملاتيوس بطريرك الإسكندرية بالأصالة عن نفيه وبالنيابة عن بطريرك أنطاكية،
50
وكان يواكيم قد توفي في السابع من تشرين الأول سنة 1592.
البطريرك يواكيم السادس (1593-1604)
وهو الملقب بابن زيادة «وكان مطرانا على حمص فأقاموه بطركا ومكث إحدى عشرة سنة، وفي أيامه خرج واحد من أبناء دمشق يعرف بابن الكباب فتزيا بزي راهب وجعل يطوف في البلاد حتى انتهى إلى بلاد الكمخ
51
وما والاها من بلاد المشرق، وادعى أنه مطران مرسل إليهم من قبل بطرك أنطاكية، وكانت معه كتب مزورة عن البطرك فقبلوه عندهم وأكرموه، وأقام يقدس عندهم وجعل منهم كهنة وشمامسة ورهبانا، وعمل كل ما يعمله رؤساء الكهنة، ونمي أمره إلى البطرك فاغتاظ غيظا شديدا، ولا سيما حين علم أنه قد جمع منهم مقدارا جزيلا من المال، وكان النصارى في تلك الناحية يعادلون بقية النصارى في سائر الكرسي الأنطاكي، فأرسل مكاريوس بن خلف مطران حلب بكتاب منه إلى غريغوريوس بطريرك القسطنطينية يعلمه بالأمر، فاستعان بطرك القسطنطينية بالوزارة وبعث فاشخص بن الكباب إلى هناك ورافعه إلى مقام الوزارة، وطالبه بالمال المجموع فجحد إيمانه واعتصم بالإسلام، فلم يحصل البطرك منه على طائل، ولشدة ما ناله من الغيظ مرض وتوفي، وأما الكهنة والشمامسة الذين أقامهم ابن الكباب فحكم البطرك ومجمعه في دمشق أن تعاد شرطونيتهم؛ لأن ذلك المحروم لم تكن عليه شرطونية.»
52
ومن أخبار هذا البطريرك أنه طبخ الميرون المقدس وكرسه كالعادة يوم الخميس الكبير سنة 1594، وأنه وافق على تقسيم أبرشية أفخائيطة في السنة 1597 بين مطراني حمص وحماة،
53
ومن أخباره أيضا أنه تدخل في شئون كنيسة قبرص وطالب بخضوعها إلى الكرسي الأنطاكي متذرعا بما أسماه القانونين السابع والثلاثين والثاني والأربعين من قوانين المجمع المسكوني الأول مبرزا نصا عربيا قديما بذلك، فأقنعه زميله الإسكندري البطريرك ملاتيوس (بيغاس) بأن هذه النصوص مدسوسة على قرارات نيقية، وكان السبب في تدخله في شئون قبرص الاضطراب الذي نشأ فيه من جراء الاختلاف بين مجموعها المقدس وبين رئيس أساقفتها أثناسيوس (1592-1598).
54
دير البلمند (1603)
وبقي دير البلمند خرابا بعد خروج الصليبيين حتى أوائل القرن السابع عشر، فقد جاء في كراس قديم بخط سيميون القس الراهب الذي اشترك في حفلات افتتاحه ثانية ما نصه:
بسم الله الخالق الحي الأزلي الناطق، لما كان بتاريخ شهر أيلول المبارك سنة سبعة آلاف ومائة وأحد عشر لكون العالم (1603) اتفق على بركة الله وحسن توفيقه تاريخ فتوح دير ستنا السيدة ومار جرجس المعروف بدير الفالمند بإشارة السيد المطران أيواكيم مطران محروسة طرابلس، وأنه اعتنى وأشار بعمارته، وأنه طلع لعند الحقير مكاريوس الديراني الذي كان سابقا رئيسا على دير ستنا السيدة الذي يعرف بدير كفتون، وأنه أجاب الأب الحقير بإشارة السيد المطران كير أيواكيم مطران ثغر بيروت برأي المشايخ أبو صالح والحاج سليمان ياضجي يوسف باشا سيفا ومشايخ قرية فيع الحاج فرحات والحاج بطرس، وابتدينا بفتوحه؛ لأنه كان خراب داشر من زمان دخلوا الإسلام إلى البلاد وهو تاريخ ثلاثمائة وثلاثين سنة.
55
حرص يباعد
وعني البابا غريغوريوس الثالث عشر (1572-1585) بالمؤمنين في الشرق عامة، وخص الموارنة برعايته فاستقصى أخبارهم واستجلى غوامضهم، ثم أوصى وأمر بالتنفيذ. وحذا حذوه إقليمس الثامن (1592-1605) فأعاد البحث وكرر التوصية. وغالى الحبران في العناية وتطرفا في الحرص فنفرا الأرثوذكسيين وزادا الانشقاق اتساعا. «والأغلاط التي كانت لا تزال تعزى إلى الموارنة هي قولهم أن في المسيح طبعا واحدا ومشيئة واحدة وفعلا واحدا، وأن الروح القدس ينبثق من الآب وحده، وأن التقديسات الثلاث (تريساغيون) تدل على صلب الثالوث بجملته، وأن لا وجود للمطهر ولا للخطيئة الأصلية، وأن النفوس لا تنال ثوابا أو عقابا قبل الدينونة، وأنه يجوز إنكار الإيمان ظاهرا، وأن سر التثبيت لا يمتاز عن المعمودية، وأنه يلزم خلط الميرون بغير البلسم أيضا، وأنه يلزم التقديس على الخمير، وأن المسحة تكون بالزيت الذي يباركه الكاهن لا الذي يباركه الأسقف، وأن طلاق الزوجة لعلة الزنى والمرض جائز، وأن صور الأسرار ناقصة وأنها ابتهالية.»
56
والتدقيق في هذه الأمور وغيرها تم على يد الآباء اليسوعيين إليانو وراجيو في السنة 1578 ودنديني وبرون في السنة 1596. وأوصى هؤلاء الآباء بأشياء وأشياء ووافقت رومة على معظم هذه التوصيات. والتأم مجمع ماروني في قنويين في السنة 1580 وفي السنة 1596، فكان إجماع على القول بالطبيعتين والمشيئتين وعلى حذف العبارتين: «يا من ولدت لأجلنا، يا من صلبت لأجلنا» من التريساغيون وعلى تحريم جحد الإيمان،
57
وكان بالتالي تقارب من الأرثوذكسيين. ولكن هذه التوصيات الرومانية أوجبت على الموارنة القول بالانبثاق من الآب والابن والاكتفاء بذكر كلمات السيد لأجل الاستحالة والابتعاد عن مناولة الأطفال، وحظرت زواج المارونيات من «المشاقين» والبحث عن كتب المشاقين وحفظها عند البطريرك في مكان مغلق، وعدم السماح بمطالعتها إلا للعلماء فتجانبت وباعدت،
58
ثم جاءت السنة 1606 فأمر البطريرك يوسف الرزي باتباع الحساب الغريغورياني، فيعد الموارنة في طرابلس والجبة والبترون وجبيل مع الإفرنج وقبل الطوائف الشرقية بعشرة أيام. ثم اتبع باقي الموارنة هذا الحساب في دمشق وحلب وسائر المدن والقرى. أما موارنة قبرص فإنهم أصروا على اتباع الحساب القديم واستمروا في ذلك مدة أخرى من الزمن.
59
مدرسة للموارنة في رومة (1584)
وأحس بطاركة الموارنة بحاجة طائفتهم إلى كهنة مثقفين فبدءوا يرسلون منذ السنة 1515 إلى رومة أحداثا يتعلمون اللاتينية ويدرسون تعاليم الآباء. ومن هؤلاء بعثة البطريرك شمعون الحدثي سنة 1515 وبعثة البطريرك ميخائيل الرزي سنة 1578، فبعثة أخيه سركيس سنة 1583.
وفي السنة 1584 بلغ عدد الأحداث الموارنة المرسلين إلى رومة لتلقي العلوم الإكليريكية فيها عشرين طالبا، فأفرد البابا غريغوريوس الثالث عشر دارا وكنيسة لهم. وفي الخامس من تموز من هذه السنة نفسها وافق على نظام تدريس هؤلاء الطلبة بالبولة
Humana sic ferunt . وقد جاء في هذه البولة ما حمل البابا على إفراد المنزل السابق للطلبة الموارنة وجعله مدرسة وما كان يتوقعه منها من الفوائد، ثم عدد المداخيل وشروط الالتحاق وغير ذلك من النظم، وجعل المدرسة تحت نظام محامي الطائفة المارونية، وكان هذا آنئذ الكردينال كرافة. ولا تزال قوانين هذه المدرسة محفوظة في سجلات الرهبانية اليسوعية التي تعود إلى ذلك العهد، وقد نقل الأب شيخو شيئا منها إلى اللغة العربية.
60
البطريرك دوروثيوس الخامس (1604-1611)
وشاخ يواكيم السادس وذهب ضوء عينيه فامتنع عليه أمر الإدارة وأعجزه وأعياه، فطلب إليه أعيان الطائفة في دمشق أن يرسم أسقف قلاية يقوم بتدبير أمورهم، فسام عبد العزيز بن الأحمر شماسا في السنة 1595 ثم قسا ثم خوريا ثم أسقفا على قلاية البطريركية ودعاه دوروثيوس، وقام الأسقف دوروثيوس بأعماله الإدارية خير قيام وأصبح هو البطريرك. وذهب يواكيم إلى السيسانية مسقط رأسه في منطقة حصن الأكراد، ثم عول على العزلة في دير القديسة كاترينة في طور سينا فقام من السيسانية إلى مصر، ولدى وصوله إلى القاهرة لبى دعوة ربه فيها في السنة 1604 فنقل جثمانه إلى طور سينا ودفن فيه، فخلفه دوروثيوس.
61
وجاء في التختيكون للقس يوحنا العجيمي أن دوروثيوس لم يكن من ذوي العلم الواسع، ولكنه كان غيورا شجاعا، فرمم دار البطريركية في دمشق ووسعها ورفع الضرائب عن الكهنة والرهبان وخفف وطأة البلص والظلم، وجعل جباية الأموال الأميرية من النصارى الأرثوذكسيين بيد جباة أرثوذكسيين، وصمد في وجه الطغاة من الحكام وقاومهم، وذهب إلى الآستانة نفسها ليقتص من متسلم أنطاكية وعاد منها حاملا أمرا عاليا بعزله من منصبه. وذكر بالاماس صاحب «تاريخ مدينة أوروشليم اليوناني» (488) أن دوروثيوس الخامس زار أوروشليم في 1608 فاشترك مع كيرلس البطريرك الإسكندري في تنصيب ثيوفانس البطريرك الأوروشليمي.
62
وخرج من دمشق ليتفقد شئون النورية (أبرشيات الكرسي) ولدى وصوله إلى حاصبيا أقام قداسا وشرطونية، وحين خروجه من القداس توفي فجأة فدفن في حاصبيا.
البطريرك أثناسيوس الثالث (1611-1619)
واختلفت الآراء فيمن يخلف دوروثيوس وكثر عدد «المنتدبين»، وكان خلاف وكانت «مشاحة» شديدة. ثم برز أثناسيوس - ابن الدباس - متروبوليت حوران وطلب البطريركية لنفسه، ووعد بأنه «يؤدي عنهم في كل سنة ما يتبقى من جوالي المسيحيين، فرضوا وكتبوا عليه خطا في ذلك» وأقاموه بطريركا عليهم.
63
وكانت حوران آنئذ تغذي الجالية الأرثوذكسية في دمشق بالرجال والأنفس، فكثر عدد الحورانيين في المركز البطريركي ونفذت كلمتهم، وكانت أسرة بيت الدباس من أعز الأسر النصرانية في دمشق، فرحب الروم بالبطريرك الجديد وعقدوا به حبل أمانيهم. ثم خرج البطريرك في جولة رعائية فزار حمص وحماة وحلب وأدنة، وسار إلى القسطنطينية لمحاكمة ملاتيوس مطران حلب، وعاد إلى دمشق. وحان أجل الجوالي فأدى الدمشقيون وغيرهم ما تيسر منها وطالبوا البطريرك بالباقي بموجب الاتفاق الخطي، فامتنع عن أدائه، فشكوا أمرهم إلى الوالي فحكم على البطريرك بالحبس في القلعة فافتدى البطريرك نفسه بمبلغ من المال، وخرج إلى نواحي طرابلس وتوفي هناك في الصوم الكبير ودفن في دير كفتين.
64
البطريرك أغناطيوس الثالث (1619-1634)
وبعد وفاة أثناسيوس الثالث حضر أخوه كيرلس متروبوليت حوران إلى طرابلس، واستعان بالحاج سليمان النصراني كاخية يوسف باشا سيفا حاكم طرابلس وجهاتها، فأسعفه بما طلب وأرسل جماعة من الجند فأحضروا سيماون متروبوليت حماة وعازر متروبوليت حمص وديونيسيوس أسقف الحصن وأكرههم على تنصيب كيرلس بطريركا، ففعلوا ونصبوه في أميون، وأقام في طرابلس يسانده يوسف باشا.
وكان أهل دمشق قد انتدبوا إلى البطريركية لدى وفاة أثناسيوس الثالث أغناطيوس (عطية) متروبوليت صور وصيدا، وكان أغناطيوس قد سافر إلى القسطنطينية على رأس جماعة من الأعيان، فاستقبله بطريركها تيموثاوس بكل ترحاب وأقامه بطريركا على أنطاكية في اليوم نفسه الذي تسلم فيه كيرلس عكاز الرعاية في أميون، وعاد أغناطيوس إلى دمشق حاملا براءة سلطانية فاستقبله الدمشقيون بفرح واحتفال عظيمين.
وأرسل كيرلس ابن عمه جرجس إلى القسطنطينية فأخرج له أمرا عاليا بعزل أغناطيوس ونفيه إلى قبرص، فدفع أتباع أغناطيوس أموالا طائلة فأبقوه في كرسيه، فقصد كيرلس سميه كيرلس (لوكارس) بطريرك الإسكندرية وشكا الدمشقيين إليه، فكتب هذا إلى الدمشقيين يلومهم فأجابوه جوابا جافيا ولم يسمعوا له في ذلك قولا. وجاء لغطاس قندلفت أنهم قالوا: «لا نريد كيرلس ولا نرضاه، وأما أنت فانظر إلى حالك وليس لك أن تلزمنا وتحكم علينا في شيء لا نرضى به.»
65
وازداد التعصب والشر وتوفي ابن سيفا حاكم طرابلس، فهرب كيرلس من طرابلس خوفا من ابن معن، وقام إلى حلب ونزل في دار المطران ملاتيوس، وأقام هناك اثنين وأربعين يوما، ولم يدعه المطران إلى القداس ولا شارك أحدهما الآخر في ذلك.
ثم خرج كيرلس من حلب إلى القسطنطينية، وكان كيرلس بطريرك الإسكندرية قد أصبح بطريركا مسكونيا، وكان جراسيموس قد خلفه في كرسي مرقس، ففرح كيرلس الإسكندري بمقدم كيرلس الأنطاكي وأرسله إلى بلاد الفلاخ والبغدان وأصحبه برسائل منه إلى أكابر تلك البلاد فأكرموه. ثم عاد إلى القسطنطينية واستخرج أمرا سلطانيا بعزل أغناطيوس، فتجددت الغرامات في دمشق وأنفق أهلها أموالا جزيلة واستخرجوا أمرا بعزل كيرلس، ففعل هذا مثل ذاك، وهكذا حتى اضمحلت أحوال المسيحيين في الأبرشية كلها، ولا سيما في دمشق. وتكاثر الضغط والضيق فاضطر الكثيرون إلى الاختفاء، وتوارى الكهنة عن الأنظار، وتوفي أحد الأكابر فلم يجدوا كاهنا يتولى دفنه، وكان أغناطيوس في هذه المدة كلها في بيروت وصيدا.
وعاد كيرلس من القسطنطينية إلى حلب في السنة 1624 فنزل في دار أحد أكابر الأرمن؛ لأن ملاتيوس لم يقبله في دار المطرانية. وأدب كيرلس مأدبة فاخرة ودعا إليها أكابر المدينة من الأشراف والجند (الانكشارية) وبطريركي الأرمن والسريان وكانا يومئذ في حلب مع حاشيتهما وأكابر الإفرنج وغيرهم، فأرسلوا وأحضروا ملاتيوس من قلايته وحضوه على مشاركة كيرلس في القداس فأبى وانصرف وتمارض، فأرسل كيرلس يطالبه بواسطة مجلس الحاكم بمال اثنتي عشرة سنة، فأمر الحاكم فجلد ملاتيوس ثمانين جلدة وحمل على بساط وحبس اثني عشر يوما، ففدى نفسه بمال كثير وخرج واختبأ في بيت أحد شيوخ المسلمين. وفي السنة التالية جمع كيرلس مجمعا عظيما آخر وخاطب ملاتيوس في شركة القداس فأبى وانصرف إلى القسطنطينية. فتبعه كيرلس إليها وجرت بينهما مخاصمات كثيرة، ثم عاد ملاتيوس إلى حلب وعاد كيرلس أيضا إليها في السنة 1628، وترافعا إلى الحاكم، فحبس الحاكم ملاتيوس في القلعة وسجن سبعة وعشرين من أتباعه في سجن المتسلم، وغرمهم بمال كثير.
مجمع رأس بعلبك (1628)
وسار كيرلس بعد ذلك إلى دمشق، فلم يقو الدمشقيون على مقاومته، فأرسل يسأل ابن معن أن يأمر بعقد مجمع من رؤساء الكهنة لينظر في المشكلة القائمة بينه وبين أغناطيوس، فأجابه الأمير إلى ذلك. وقام أغناطيوس سنة 1628 إلى قرية رأس بعلبك إلى دير السيدة بجوارها وتوافد رؤساء الكهنة أيضا، ولكن كيرلس توانى فأحضره الأمير بالقوة، ونظر الأساقفة في أمره فأجمعوا على قطعه وإفرازه؛ «لأنه صار بغير رضا أهل أبرشيته ولكثرة أذاه وضرره»، وثبتوا رئاسة أغناطيوس. وغضب فخر الدين بن معن على كيرلس فنفاه إلى مغارة الراهب بالقرب من الهرمل «وفيها كان قبره.»
ووضع الرؤساء المجتمعون في رأس بعلبك قوانين كيفية انتخاب البطاركة والمطارنة وانتداب الكهنة، وحرموا بعض العادات بين المسيحيين تتعلق بالزيجات والأعراس والأديار، وجعلوا قوانينهم في عشرين مادة. وكان عدد رؤساء الكهنة أحد عشر، وهم: سمعان متروبوليت حماة ويواكيم متروبوليت حمص وملاتيوس متروبوليت حلب، ومكاريوس أو مرقس متروبوليت صور وصيدا ونقولاووس متروبوليت حوران وأبيفانيوس متروبوليت بعلبك، ويواكيم متروبوليت طرابلس وأغناطيوس متروبوليت باياس من أعمال قيليقية وسمعان أسقف صيدنايا، ويواكيم أسقف الزبداني ويواصف أسقف قارة. وكان يحيط بهم عدد من وجهاء الملة، وكان ذلك في حزيران السنة 1628، وجاء لبولس ابن الزعيم أن الرؤساء كتبوا بذلك «صورة» حفظوها في خزانة كتب البطريركية، وأنه كان لديه نسخة عنها، وجاء لغطاس قندلفت أنه عرف هذه الأحكام، وأنه سينشرها في مقال عن تاريخ نظام الكنيسة.
66
أولا:
كان للمسيحيين عادة ردية؛ إذا مات البطرك يحضر رئيسي كهنة أو ثلاثة ويصلوا عليه بغير حضور باقيهم، فمن الآن لا يجوز أن يصير بطرك إلا بحضور رؤساء كهنة الأبرشية جميعهم والمتروبوليت الأكبر. وإن صار بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
ثانيا:
كان لهم عادة يصير بطرك بغير قرعة حسبما يأمر في النواميس المقدسة، فمن الآن لا يجوز أن يصير بطرك بلا قرعة وبغير رضا الشعب، بل إذا حضر جميع رؤساء الكهنة ينتخبوا ثلاثة منهم يكونوا تربوا بالعفة والبتولية، والذي تقع عليه القرعة من الثلاثة يصير بطرك. وإن صار بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
ثالثا:
كان لهم عادة ردية؛ يصيروا بطرك بغير مشورة، وبسبب ذلك يصير انشقاقات وشرور وفتن، فمن الآن لا يجوز أن يصير بطرك بغير مشورة، بل يكون برضا الشعب؛ لأن البطرك خليفة المسيح والمسيح هو فخر السلامة. وإن صار بطرك على غير ذلك وعمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
رابعا :
كان لهم عادة ردية أن أعوام المسيحيين وبعض كهنة يدخلوا في أمر البطركية ويعملوا بطرك على مرادهم وشهوتهم، فمن الآن لا يجوز لأحد من العوام المسيحيين ولا من الكهنة أن يتدخلوا في أمر البطريرك بالكلية، بل إن كان في أمره شغب فليؤخذ رأي الأكثر منهم. ومن عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
خامسا:
كان لهم عادة ردية؛ إذا مات البطريرك قبل أن يلتم رؤساء الكهنة يعملوا بطرك ويصلوا عليه ويحتجوا بخدمة الحاكم. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك، بل يمهلوا الحاكم حتى يحضروا رؤساء الكهنة كلهم، وإذا حضروا كافتهم يرموا قرعة ويصلوا على واحد ويصيروه بطرك، وهو يعطي الخدمة كالعادة. ومن عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
سادسا:
كان لرؤساء الكهنة عادة ردية؛ إذا مات البطرك يسبق واحد منهم حتى يعمل بطرك بأمر الحاكم قبل ما يجوا رفقته، ويكون غير مستحق البطركية، وآخر يتأخر عن الحضور خوفا من التعب والنصب. فمن الآن لا يجوز لأحد أن يسبق ليأخذ البطريركية بأمر الحاكم، ولا يجوز لأحد أن يتأخر كسلا منه وتهاونا بالمجمع. وهذه المهلة التي يحضروا فيها رؤساء الكهنة شهر من الزمان والكثير شهرين، وإن زاد عن ذلك ثلاثة شهور على ما في الناموس المقدس. ومن عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
سابعا:
كان لهم عادة ردية أن البطرك يأخذ على الشرطونية من الرؤساء الكهنة ورؤساء الكهنة يأخذوا من الكهنة والشمامسة. فمن الآن لا يجوز لبطرك ولا لمطران ولا لأسقف يأخذ على الشرطونية ولا أحد يعطي على الشرطونية؛ لأن ذلك في الشرطونية خطيئة واصلة إلى الله، وهي كالتجديف على الروح القدس وأعظم من تسليم يوضاس للمسيح، وأكثر كفرا من أبوليناريوس وأعظم تجديفا من مكدونيوس. فمن أخذ على الشرطونية فجماعة السينودس تحرمه.
ثامنا:
كان لرؤساء الكهنة عادة ردية؛ إذا جاء إليهم إنسان ليرتسم كاهن وكان مشهور بالاسم ما يبحثوا عنه ولا عن سيرته، بل يشرطنوه بغير فحص ويعتقدوا أن الشرطونية تغفر الخطايا الكبيرة. فمن الآن لا يجوز أن يصير كاهن بغير فحص لئلا يكون سقط في خطيئة من الخطايا التي تمنع الكهنوت، بل يكون حر طاهر من بيت أحرار ولا يكون أمي، بل كامل بالعلم والعمل. وكل من عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
تاسعا:
كان لهم عادة ردية؛ يأخذوا رشوة على الزيجة الحرم سواء كانت جسدانية أو روحانية بالششبونية، وتكون ناقصة وجه ويسموا الرشوة قانون ويقولوا نعطيه للفقراء. فمن الآن لا يجوز لأحد أن يحلل الزيجة الناقصة وجه لا جسدانية ولا روحانية أعني الششبونية؛ لأن قرابة الميرون الروحانية أعظم من القرابة الجسدانية. فكل من رشى أو ارتشى وعمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
عاشرا:
كان لهم عادة ردية أن في عماد أولادهم يهدوا لهم أشابينهم هدية إما ذهب وإما فضة وإما قماش أو غير ذلك، ويعملوا يوم العماد ويوم الأسبوع ولائم وضيافات للأكل والشرب والسكر، والمصيبة الكبيرة أنهم يطلقون للأشابين أن يكون راهن من غير مانع. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك جميعه، ومن عمل بخلاف ناموس الله فجماعة السينودس تحرمه.
حادي عشر:
كان لهم عادة ردية؛ يغلوا صداق البنت ويأخذوا في عربون الخطبة إما أساور ذهب وإما مبلغ له صورة أو غير ذلك من المتاع. وكذلك في الصداق يطلبوا مال كثير حتى إن البنت كانت تقوم مقام النساء ولم تخطب، والرجل يشيب ولم يتزوج؛ فلذلك عملنا للبنات صداق حد محدود، فحددنا لروءس الطبقات أربعون غرشا وعربون أربعة غروش، والحد الأوسط ثلاثين غرش وعربون ثلاثة غروش، والحد الذي دونه عشرين غرش وعربون غرشين، وأقل ذلك عشرة غروش وغرش عربون. وأما الهدايا في الأعياد تكون بالقناعة بغير حيف على العريس مدة الخطبة ثلاث سنين كما في الناموس. ومن خالف ذلك فجماعة السينودس تحرمه.
ثاني عشر:
كان لهم عادة ردية؛ أن الكهنة يدخلون إلى الأعراس التي فيها الطبل والزمر ويجلسون في الولائم والعزائم ويشربون إلى أن يسكروا بالخمر. فمن الآن لا يجوز لكاهن من الكهنة ولا لشماس من الشمامسة أن يفعلوا مثل هذه الأفعال المذمومة؛ لئلا يبكتهم الكتاب القائل: «إذ كان الطعام في أفواههم طلع عليهم رجز الله وقتل أكثرهم وعرقل مختاري إسرائيل.» والكتاب الآخر القائل: «لا تشربوا الخمر لئلا تنسوا الحكمة.» والرسول الإلهي قال: «إن السكيرين بالخمر لا يدخلون ملكوت الله.» ومن سكر وعمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
ثالث عشر:
ثالث عشر: كان لهم عادة ردية؛ أنهم يكللوا العريس والعروس من المساء وفي الليل برا الكنيسة، ويكون الكاهن فاطر والعريس والعروس فاطرين وينقشوا يديها ورجليها بالماشطة مثل الأمم، ونسيوا أن الأكاليل مثل القداس الإلهي وجهلوا أيضا أنه لا يجوز الإكليل إلا في الكنيسة، ويكون الكاهن صائم والعروس والعريس صائمين وغير مزينة بالماشطة حتى يحل عليهم الروح القدس. فمن الآن لا يجوز أن يصير إكليل برا الكنيسة إلا عن ضرورة، ويكون الكاهن صائم والعريس والعروس صائمين وغير مزينة بالماشطة. فمن عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
رابع عشر:
كان لهم عادة ردية؛ أن الكهنة يكتبوا الحروز والعوام يعلقوا الحروز والتعاويز على رءوس أولادهم ويقرءوا صلاة السيدة ويعلقوها على أولادهم وكثير من المسيحيين، ويصدقوا المنجمين والرقائين، وربما أنهم يرقوا رقوات مثل الأمم ويفتحوا الفال ويمضوا إلى عند السحرة. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك؛ لأن الكتاب الإلهي يقول: لا يكون فيكم من يفتح الفال، ولا من يقول بالرقا، ولا من يكتب الحروز، ومن فعل ذلك إن كان كاهن يقطع من كهنوته، وإن كان علماني يفرز من بيعة الله. فمن عمل بخلاف ناموس الله جماعة السينودس تحرمه.
خامس عشر:
كان لهم عادة ردية؛ أن الرجال ينامون في ديورة النساء، والراهبات يختلطن في الرجال، فمن الآن لا يجوز فعل ذلك؛ لأن الشيطان له مدخل عظيم في مثل هذا الأمر. فمن تعدى ذلك وعمل بخلاف ناموس الله جماعة السينودس تحرمه.
سادس عشر:
كان لهم عادة ردية؛ بغير معرفة وجهلا منهم يدخلوا كتب الأراطقة إلى الكنيسة ويظنونها كتب الأرثوذكسيين ويقروا منها قصص وأخبار وميامر وغير ذلك. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك على ما يأمر به الناموس المقدس، فمن عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
سابع عشر:
كان لهم عادة؛ يأخذوا على التوبة والاعتراف دراهم ويسموها قانون، ويحتجوا حجج بليدة ويقولوا ما نأخذ لنا، بل صدقة للفقراء أو ثمن قداسات أو ثمن خام للمحتاجين. فمن الآن لا يجوز لمعلم اعتراف أن يعمل سوى صوم وصلاة ومطانيات وإن أمر بصدقة للتائب أو بقداسات فيقول للمعترف أن يعطي ذلك للفقراء من يده إلى يدهم وعلى يد معلمه. ومن عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
ثامن عشر:
كان لهم عادة ردية؛ الرهبان المرسومين على دير ينتقلوا إلى دير غيره والرهبان الكهنة والرهبان العامية يدوروا في المدن والقرى ويقبلوا أولاد من المعمودية، ومنهم أناس يلموا دراهم ويأخذوا نذورة على اسم كنيسة قديس من القديسين أو على اسم دير من الديورة، ويكون معهم كتب من غير منشور بطك الأبرشية. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك، ومن عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
تاسع عشر:
كان لهم عادة ردية؛ أن البطرك يرسم شماس أو قس من غير أن يكون معهم منشور من رئيس كهنتهم ولا كتاب في خطوط أيادي أهل بلدهم بأنهم مستحقين للكهنوت. وأشر من ذلك أن بعض كهنة يكونوا مرسومين على كنيسة فيتركوها وينتقلوا إلى كنيسة غيرها. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك، وكل من عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
العشرون:
كان لهم عادة ردية؛ أنهم يعملوا في كل موضع مرتشي لأجل قبض البرطيل الذي سموه قوانين الذي يأخذوها على زيجات الحرام ويسموا المرتشي وكيل البطرك. والمصيبة العظيمة يكون الوكيل عامي من أعوام الناس ويدخل في أمور الكهنوت ويعترض على رئيس كهنة البلد في أمور الدين! فمن الآن لا يجوز يكون مثل هذه العادة الردية، ولا يصير وكيل بطرك في بلد التي فيها رئيس كهنة. فمن عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
الخاتمة:
ولتعلم جماعة المؤمنين أن أعراس المسيحيين لا يجوز فيها الطبل والزمر والدق والرقص، ولا الأكل والشرب والسكر وغير ذلك. وبالجملة إن الكلفة على مثل ذلك حرام وبفعله يسخط الله، وقد بطلنا هذا جميعه وأقصيناه ورذلناه. ونوصيكم بحفظ جميع هذه السنن، وبحفظ جميع وصايا الله، وأن لا تحيدوا عن الناموس؛ لأن الإحادة عن الناموس تقفر الأرض كلها، وافتعال الشر ينقض كراسي المقتدرين. إلى ها هنا انتهى كلامنا، فمن عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
البطريرك أفتيميوس الثالث (1635-1636)
وعاد أغناطيوس إلى دمشق ودار دفة الرئاسة سبع سنوات متتالية، وتوفي مرقس متروبوليت صيدا 1634، وكان أغناطيوس البطريرك في بيروت فقام إلى صيدا ليرأس الصلاة عن نفس مرقس، ثم عاد إلى بيروت ليلا بزي تتري؛ لأن الحرب كانت قد اندلعت بين فخر الدين وبين الأتراك العثمانيين. وكان رجال الأمير قد علموا أن تتريا قدم إلى صيدا حاملا بريد السلطان إلى الوزراء، فكمنوا لهذا التتري في السعديات، ومر البطريرك فظنه هؤلاء التتري المنشود، فأطلقوا عليه النار فوقع عن فرسه فتقدموا لسلبه فدهشوا وأسفوا، ثم حملوا البطريرك إلى الشويفات، فدفن فيها.
67
وكان ملاتيوس متروبوليت حلب قد رعى أبرشيته بالتقوى والحكمة متمسكا بالقانون مناضلا في سبيل الإيمان الأرثوذكسي. فلما بلغ الدمشقيين خبر أغناطيوس أرسلوا وفدا من أكابرهم ووجهائهم إلى حلب يرجون ملاتيوس القبول بالبطريركية، ثم أتوا به إلى دمشق بوافر الإكرام والاحترام واحتفلوا بدخوله إلى مركز البطريركية احتفالا شائقا، ودعي أفتيميوس الثالث ولقب بابن كرمة.
ولد ملاتيوس في مدينة حماة سنة 1586 من أبوين تقيين حوران وسعادة، وتوفي والده وهو لا يزال صغيرا، فعنيت والدته به عناية مسيحية فشب على التقوى وزار أوروشليم، فقدم النذر في دير القديس سابا ودعي أفتيميوس. ثم استدعاه سمعان متروبوليت حماة فرسمه شماسا ثم قسا وعينه واعظا، فأحرز محبة الجميع بشدة تقواه وكثرة فضائله، وتميز في غيرته على أعمال البر والإحسان. وتراكمت الأموال الأميرية على المسيحيين فأرسله سمعان إلى حلب ليسترحم من واليها تخفيفها فاستجاب الوالي التماسه، وأقام أفتيميوس في حلب مدة من الزمن يعلم ويقضي فأحبه الحلبيون. وكانت أبرشيتهم قد ترملت فانتدبوه مطرانا عليهم، وطلبوا إلى أثناسيوس الثالث السيد البطريرك أن يوافق على ذلك، ففعل وسامه مطرانا على حلب في دمشق ودعاه ملاتيوس وذلك في السنة 1612. وعاد ملاتيوس إلى حلب فرعى أبناءها في مراعي الخلاص، «وأغنى فقر نفوسهم بالغنى الروحاني، وأسعدهم بحسن تدبيره الجسداني، فأقبل المؤمنون على حلب وغرسوا بها فأينعوا وأثمروا وزادوا وتكاثروا.» وأنشأ ملاتيوس منزلا في قلاية المطرانية «متقن البنيان عالي الجدران» بديعا متينا ووقفه على من بعده من رؤساء الكهنة. ونقل إلى العربية كتاب «القنداق» و«الأفخولوجيون» و«السواعي» و«السنكسار» وغيرها من الكتب الكنسية، وسعى لطبعها في رومة مركز الطباعة العربية آنئذ.
68
وقد قال رحمه الله في مقدمته لكتاب «التيبيكون»:
أما بعد؛ فإني لما رأيت اختلاف كنائس المسيحيين في الترتيب والطقس والنظام وما دخل على أهلها من النقص في السجود والركوع والصيام، وما قد أبطلوه من فرائض الكتب المحقة الصادقة، وما قد أثبتوه من عوايد المخالفين وسنن الأراطقة ... فلم أزل أفحص عن أصل مخالفتهم فحصا شافيا، وأبحث عن علة تعديهم بحثا كافيا حتى وجدت أصل هذا الغلط؛ وعلته عدم وجود تيبيكون رومي قديم ... فلما وجدت تيبيكون تأليف القديس سابا العظيم الذي كمله القس يوحنا الدمشقي الحكيم، فبالغت أنا الحقير ملاتيوس بالكد والجهد والطلب، وأنا يومئذ مطران مدينة حلب فأخرجته من اللغة الرومية إلى لغة الأعراب، وذلك بتاريخ سنة 7120 لكون الدنيا الموافق 1612 لتجسد سيدنا يسوع المسيح.
وجاء في مقدمة كتاب «الأفخولوجي»:
أجهدت نفسي في ترجمتها وتفسيرها وأخرجتها إلى اللغة العربية وأنا يومئذ مطران في مدينة حلب، وحررتها بتاريخ سنة 1634 لسيدنا يسوع المسيح.
69
وشرطنه رؤساء الكهنة بطريركا في أول شهر أيار فازداد حرصا على التعاليم الإلهية واندفاعا في سبيل المؤمنين، وحث الشعب على التعرف إلى الله، وعلى العمل الصالح، وأثمر وعظه في دمشق فرد الخطاة إلى الله وجعلهم آنية طاهرة. وشرطن في حياته بابا غفرائيل الفاضل مطرانا على باياس. وبعد مدة يسيرة مرض فاستدعى الكهنة والإكليروس وباركهم، وانتدب في حياته بابا ملاتيوس الصاقزي بطريركا أنطاكيا، وانتقل إلى الرب بسلام في اليوم الأول من شهر كانون الثاني.
70
البطريرك أفتيميوس الرابع (1635-1648)
وآثر بابا ملاتيوس أن يحمل اسم سلفه، فقلده عصا الرعاية كل من فيلوثيوس متروبوليت حمص وسمياون أسقف صيدنايا ويواكيم أسقف الزبداني ودعي أفتيميوس الرابع. وبابا ملاتيوس بدأ حياته الروحية راهبا في دير القديس سابا وبرع في رسم الأيقونات، فلما تبوأ أفتيميوس الثالث السدة البطريركية استدعاه إلى دمشق وطلب إليه أن يزين الكنيسة الكاتدرائية فيها، واقتدى أفتيميوس الرابع بسلفه الصالح فكان مثال الوداعة والتقوى، وطاف الأبرشيات مرارا واعظا مرشدا مدبرا.
وأهم أخباره أنه أيد ملاتيوس سيريغوس
Syrigos
في موقفه من مصنف بطرس موغيلة متروبوليت كيف في العقيدة الأرثوذكسية، فاستمسك بالأبيلكيسيس في سر الاستحالة وامتنع عن القول بالمطهر، واشترك مع أخوته البطاركة الثلاثة سنة 1643 في قبول مصنف موغيلة بعد هذا التنقيح.
71
ومن أخباره أيضا أنه وكل تثقيف ابن أخته الذي أصبح فيما بعد البطريرك نوفيطوس إلى الأب اليسوعي أيرونيموس قيروط، وذلك في السنة نفسها التي أكد فيها موقفه من بعض نقاط الاختلاف بين العقيدتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.
72
الكثلكة تنحصر في الموارنة
وكانت كنيسة رومة قد بدأت منذ السنة 1627 تعمل في أوساط اليعاقبة والأرمن والأرثوذكسيين في حلب لتدخلهم في طاعة البابا، فوكلت أمر اجتذابهم إلى الآباء الكبوشيين أولا ثم إلى الآباء اليسوعيين والكرمليين.
73
وكانت الكثلكة آنئذ لا تزال محصورة في الأوساط المارونية دون سواها.
74
وتذرع الآباء المبشرون بالتطبيب وبالوعظ الفردي والإقناع السري، ثم لجئوا إلى المدرسة والتعليم ليبثوا في صدور الأحداث تعاليم رومة وموقفها من الأرثوذكسيين وغيرهم،
75
ثم استغلوا القحط والجوع والفقر ونفوذ فرنسة للغاية نفسها.
76
وجاء في تقرير وضعه الأب يوحنا أميو
Jean Amieu
اليسوعي في السنة 1650 أن هنالك مجالا لتثبيت أواصر «الصداقة» مع بطريرك الروم الذي «يدعي أنه بطريرك أنطاكية»، وأن سلف هذا البطريرك توفي كاثوليكيا، وأنه يظن أن بعض رهبان الروم دسوا له السم؛ لأنه جهر بطاعته للبابا. وجاء أيضا أن أفتيميوس الرابع أكد لهذا الأب اليسوعي أنه يعترف بالبابا ويدين له بالطاعة، ولكنه لا يجرؤ أن يجهر بذلك خشية أن يحل به ما حل بسلفه،
77
ويلاحظ هنا أن رواية السم ضعيفة ينقصها شيء كثير من العدالة والضبط، وبالتالي فإنه لا يجوز إثباتها والقول بها. ويلاحظ كذلك أن الأب أميو نفسه لم ير في أفتيميوس الرابع سوى صديق مصادق، وأن أفتيميوس الرابع نفسه جهر في السنة 1643 بتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية، كما سبق وأشرنا. بيد أنه لا بد من الإشارة هنا إلى تساهل هذا البطريرك في أمر المدرسة التي أنشأها الآباء اليسوعيون في دمشق، وإلى سيطرة هؤلاء على عقول الأحداث وما نشأ عن ذلك من استعداد في بعض الأوساط الأرثوذكسية للدخول في طاعة رومة في الربع الأول من القرن الثامن عشر.
الفصل الثالث
البطريرك مكاريوس الثالث
البطريرك مكاريوس الثالث (1648-1672)
ومرض أفتيميوس مرضة شديدة وأثخنته وأوهنته، فاجتمع الإكليروس حوله وعملوا له زيتا مقدسا واستشاروه في أمر خلفه، فقال: «إن كنتم تريدون إصلاح أموركم وتوفيق أحوالكم فلا تجعلوا غير مطران حلب بطريركا عليكم.» فكتب الإكليروس بذلك إلى مكاريوس متروبوليت حلب وعرضوا الكتابة على البطريرك فعلم عليها بيده، ووجهوا بها ساعيا وحثوه على السير، ووصل الساعي إلى حلب، ولكنه لم يجد مطرانها؛ لأنه كان فر من جور واليها قره حسن باشا والتجأ إلى المعرة وكلس. وما فتئ الساعي يسعى حتى اتصل بمكاريوس وسلمه الرسالة، فاعتذر ولم يحضر، فاغتاظ البطريرك وهدد بالقطع. فقام مكاريوس إلى الشام يرافقه ابنه الشماس بولس، ولدى وصولهما إلى حماة التقيا بساع ثالث يحمل خبر انتقال أفتيميوس في الحادي عشر من تشرين الأول سنة 1647، وإلحاح الأعيان بوجوب الإسراع إلى دمشق لتسلم عكاز الرعاية، وتدارك ما قد ينجم عن التأجيل والتأخير من اختلاف في الرأي وتفرق في الكلمة.
ووافق كل من ملاتيوس متروبوليت حماة وفيلوثيوس متروبوليت حمص على ارتقاء مكاريوس ورافقاه إلى دمشق، وانضم إليهما أسقف قارة يواصاف. ولدى وصولهم إلى دمشق وجدوا فيها غريغوريوس متروبوليت حوران، فنصبوا البطريرك الجديد في الثاني عشر من تشرين الثاني سنة 1647، وتشاور الآباء في الديون التي خلفها أفتيميوس فوجدوها ستة آلاف غرش، وبلغ مجموع ما أنفق على دفنه و«حشره» وما قدم إلى الباشا محمد كوبرلي لاستصدار البيورلدي باسم البطريرك الجديد أربعة آلاف غرش. فرهنوا التيجان الأربعة القديم والكبير والحلبي والاستنابولي وبقية البدلات والأواني المقدسة. ثم وجد رسائل الجلوس «وأرسل البركة والدعاء إلى سائر البلاد»، وشطرن الخوري ميخائيل ابن القسيس بشارة الحلبي مطرانا على حلب ودعاه متروفانس، وسام ابنه بولس أرشدياكونا على مدينتي دمشق وحلب وسائر بلاد العرب.
1
وهو يوسف ابن الخوري بولس ابن الخوري عبد المسيح البروطس المشهور «ببيت الزعيم». ولد في حلب ونشأ فيها وتلقى علومه الإكليريكية على البطريرك أفتيميوس الثالث، وتزوج من امرأة ناموسية فرزق أولادا، ثم ترمل فرسم قسا، ولما رقي معلمه أفتيميوس الثالث السدة البطريركية سامه خلفا له مطرانا على حلب: وأما ما كان من أمر أهل حلب فإنهم يوم عيد الصليب افتتاح السنة 7144 للعالم (1635) اجتمعوا في قلاية المطرانية الكهنة والأراخنة والإكليروس مع باقي المسيحيين، واستخاروا الخوري يوحنا والدي ليكون عليهم مطران. وأرسلوه صحبة القفل إلى الشام ووجهوا معه رفقة من كهنة وأعوام. وبعد أن وصل بالصحة والسلامة شرطنه الأب السيد البطرك أفتيميوس المذكور مطرانا على حلب سابع وعشرين يوم خلت من شهر تشرين الأول يوم الأحد، ولكثرة وده له ورعايته لخاطر المرحوم معلمه ووصيته له جعله كاتوليك مشرفا على سائر نوريته وصيره إكسرخوسا؛ أي وكيلا وناظرا على بلاد آمد وما يليها وأنطاكية التي هي كرسي البطركية ونواحيها، وأذن له أيضا أن يقدس فيها إذا مضى إليها.
2
وساس مكاريوس أبرشية حلب اثنتي عشرة سنة «مقتفيا في ذلك آثار السادة السالفين متمما وصايا الله تعالى بغير انتقاص، فازداد بنيان الجماعة واستعمارهم عما سلف.» واشترك في السنة 1639 في استقبال السلطان مراد الرابع الذي أم حلب استعدادا للزحف على بغداد وضرب قزل باش الذي امتنع بها. وفي التاسع من آب سنة 1640 زاره في حلب البطريرك أفتيميوس الرابع وشرطن فيها الخوري يوسف الحلبي مطرانا على عكار ورحبة وأوفده إلى «بلاد المسيحيين حد بلاد المسكوف». وأقام البطريرك مائة يوم في حلب استوفى في أثنائها النورية، وخرج منها في الثاني عشر من تشرين الثاني فرافقه مكاريوس وابنه حتى حماة. وفي السنة 1642 قام مكاريوس لزيارة الأماكن المقدسة على رأس جماعة من الحجاج الحلبيين، وأقام في دير القديس سابا يومين وشاهد بأم عينه ألوف القلايات المنقورة في الصخر، وعاد إلى حلب يوم خميس الصعود.
3
جولة بطريركية رعائية (1648-1649)
ولما كانت الديون قد تراكمت على الكرسي تقرر أن يخرج مكاريوس ويطوف في أبرشيات الكرسي الأنطاكي لتفقد شئون الرعية وجمع التبرعات والحسنات. وبعد أن زار العذراء في صيدنايا تبركا والتماسا عاد إلى دمشق. وفي السادس من تموز سنة 1648 خرج منها إلى الديماس وعيتا والقرعون ومشغرة وكفر ملكي فصيدا، وخرج من صيدا إلى عبرا ووادي الليمون وبرتي وكفر بيت وكفر حتا وبسري وعنبال. ثم زار الأمير ملحم بن معن في بعقلين وعاد إلى عنبال وغريفة والمزرعة وعين قنية وعماطور وباتر ونيحا، ثم بعذران والخريبة والمعاصر وبتلون والفريديس والباروك وعين زحلتا وبصين وبريح وعين وزيه والسمقانية ودير القمر والشويفات. وقدس في الشويفات الأحد الثالث عشر بعد العنصرة. وانتقل إلى بيروت في الحادي والعشرين من آب، وخرج منها في الحادي والعشرين من أيلول، وصعد إلى بكفيا والمحيدثة، وقدس في كنيستها نهار الأحد الأول من لوقا، وزار دير مار إلياس والشوير وبسكنتا وقدس في كنيستها، وقام منها إلى كفر عقاب فكرس كنيستها بعد تهدم هيكلها وقدس فيها. وعاد إلى بيروت في السادس عشر من تشرين الأول، وفي الثامن عشر منه أقلع بحرا إلى طرابلس يرافقه يواصف متروبوليت بيروت، فاستقبله في ميناء طرابلس يواكيم مطرانها وجميع المسيحيين فصلى ثم قدس.
وزار كفتين في التاسع عشر من تشرين الثاني وقدس فيها وشرطن فيها الخوري إلياس المرمريتي مطرانا على صور وصيدا وسماه أرميا. وفي العشرين من الشهر نفسه قام إلى دير القديس يعقوب المقطع وقدس فيه عيد دخول السيدة إلى الهيكل. ثم زار دير البلمند وقلحات وفيع وبطرام المشهورة بنساخها، ثم دير سيدة الرأس وبدبا وأميون المشهورة بعلمائها وأقام فيها أسبوعا، وخرج منها إلى كفر عقا وكوسبا ودير حماطورة ودير مار جرجس وقرية كفر قاهل فدير مار إلياس النهر فالبلمند فدير الناطور، ثم أنفة وحامات وسيدة النورية والبرج، وعاد إلى طرابلس وقدس عيد الميلاد والغطاس (1649).
ثم خرج إلى البترون وعبرين وكفر حلدا والكفور حيث أعشاش النسور، وفيها اصطادوا له نسرا فاستخرج دهنه، ثم قام إلى دوما وتولا «قرية المقدم علي»، ومنها إلى بخعاز وغرزوز وشيخان وجبيل وغزير. وعاد إلى طرابلس وخرج منها نهار الخميس من الجمعة الثانية من الصوم، وتوجه إلى بقرزلا وعرقة وجبرائيل «ذات الكنيسة اللطيفة التي يخرج من تحت مائدة هيكلها ماء تجري في وسطها إلى خارجها تبري المرضى.» ثم قام إلى خنيقة ورحبة وبقي فيها أسبوعين وخرج منها عياث وعين يعقوب وبزبينا «وكانوا خرابا».
وفي يوم الإثنين من الجمعة الخامسة من الصوم ذهب إلى السيسنية والبويضة وصافيتا وقدس فيها في كنيسة مار ميخائيل «المعظمة» في البرج، ثم ذهب إلى تنورين ومرمريتا والحصن وتفرج على قلعتها «نجمة الصبح» وقام منها إلى عناز، وقدس أحد الشعانين في مار جرجس الحميرة، ويوم الإثنين الكبير ذهب إلى رباح وافيون.
وفي الحادي والعشرين من آذار سنة 1649 دخل حماة وعيد فيها عيد الفصح. وفي الخامس والعشرين من نيسان شرطن الخوري عطا الله الآمدي مطرانا على آمد وما يليها وسماه ثيودوسيوس، وذلك «بحسب استيهاله واختيار ورضا أهلها وإرسالهم إياه.» وكان خبر الاختلاف بين متروفانس متروبوليت حلب وبين رعيته قد فشا وتفشى. وكان البطريرك قد قطعه ثم حرمه، فلما وصل البطريرك إلى حماة قصده متروفانس وطلب عفوه وكتب «تمسكا بخط يده وحلف عن الخمر والمسكر وعن سائر ما نقل عنه»، واستغفر عما صدر منه، فباركه البطريرك وحله وصفح عنه. وقام البطريرك إلى حلب وأقام فيها إلى أن هدأ الهياج، ثم خرج منها يوم عيد دخول المسيح إلى الهيكل، ووصل إلى دمشق في الحادي عشر من شباط سنة 1650. «وحاسب البطريرك الكهنة والأعيان والإكليروس على ما أورده في هذه الدورة فبلغ ستة آلاف غرش، فدفعوا جانبا من أصل الدين والباقي قدموه رباء ومكاسب.»
4
مكاريوس ومشكلة الجحود
وجاء في تقرير رفعه تلميذ مكاريوس المطران أفتيميوس الصيفي إلى مجمع انتشار الإيمان
5
أنه فتش عن الخلل الذي أدى إلى دخول النصارى في دين الإسلام في زمن مكاريوس وكيرلس، فوجده ناجما عن الفقر وقلة المعاش ومخالطة الأمم وكثرة الأصوام. ومما جاء في هذا التقرير قوله إن الأصوام بلغت في ذلك العهد ثلاثة أرباع السنة؛ أولا: الأربعاء والجمعة على مدار السنة، وثانيا: الصيام الكبير المقدس ، وثالثا: صوم الرسل، ورابعا: صوم العذراء، وخامسا: صوم الميلاد، وسادسا: صوم الصليب، وسابعا: صوم القديس ديمتريوس، وثامنا: صوم رئيس الأجناد، وتاسعا: نسكيات سكان البراري والرهبان. وقد ألزم العوام بها. ويؤكد أفتيميوس أن هذه الأصوام العديدة دفعت ألوفا من الأرثوذكسيين في قيليقية إلى الدخول في الإسلام وألوفا غيرهم من الأرثوذكسيين في بر حماة إلى النكران والخروج، ولعل هؤلاء هم قبيلة الصليب كما ارتأى الأب أنستاس الكرملي،
6
ويفيد أفتيميوس أنه «من مدة خمسة وخمسين سنة وأنا في الشام صار غلا عظيم وكان في قرية عين التينة مقدار خمسمائة نفس نصارى، فمن شدة الغلا وفقرهم طلبوا من البطرك مكاريوس جد البطرك كيرلس أن يطلق لهم أكل الألبان في زمان الصيام، وراجعوه مرات فما أمكن يسمح لهم، وكان مد القمح بقرش، فمن أجل هذه الضيقة العظيمة والقساوة الظالمة مضى كهنة الضيعة أربعة مع رعاياهم كلها ودخلوا في دين محمد، والكهنة صاروا لهم خطبا وعملوا كنيستهم جامعا، وهذا نظرته بعيني ما عدا الذين يفعلون ذلك بالإفراد والتدريج من ضيق العيشة وغير أسباب.»
وقصد جماعة من أهل غزة مكاريوس وشكوا تثاقل ضريبة الخراج، فقالوا إنها كانت تفرض على أربعمائة وخمسة وثمانين رجلا، وإن معظم هؤلاء «خرجوا من الديانة»، وإنه لم يبق من المسيحيين في قريتهم بين مسكين وغائب وحاضر أكثر من ثلاثين، وإن السلطات لا تزال تفرض عليهم خراج الأربعمائة والخمسة والثمانين! «وأعلنوا للبطريرك بأنه إن لم يتحنن عليهم ويخفف ويسقط هذه الأسماء الزائدة وإلا يرحلوا ويتركوا مواطنهم أو يخرجوا من دينهم حسبما فعل غيرهم.» فتحنن البطريرك وخشي أن تستولي الأمم على كنيستهم الرومانية القديمة التي عمرها القديس بورفيريوس مطرانها، فاستعطف الوالي بشير باشا واعتمده، فأجاب سؤله وأسقط عن هؤلاء مائة وواحدا وأربعين اسما. وأنفق البطريرك لهذه الغاية ألفين غرش، فقال أهل الشام نحن أولى؛ لأننا رعيتك . فجد واجتهد وأسقط مائة وعشرين اسما عنهم وخمسة عشر اسما عن أهل قارة وثلاثين عن أهل يبرود وخمسة وثلاثين عن أهل دير عطية.
7
بيروت وبعلبك والزبداني (1650-1651)
وشرطن مكاريوس في الثالث عشر من تشرين الأول سنة 1650 الخوري فرح البيروتي مطرانا على بيروت وسماه فيليبوس. وسام في العاشر من كانون الثاني سنة 1651 الخوري عازاريا الطرابلسي مطرانا على بعلبك ودعاه أنطونيوس. ورسم في السادس عشر من أيار من السنة نفسها تلميذه جراسيموس مطرانا على الزبداني والفرزل، وأقام الخوري سليمان بن الخوري فرج الله الحلبي كاثوليكا على القلاية البطريركية في دمشق ودعاه سيليفستروس.
8
السفر إلى بلاد المسيحيين (1652-1659)
وبلاد المسيحيين في عرف مكاريوس وابنه هي بلاد البلقان وروسية بلاد الأرثوذكسيين المستقيمي الرأي. وكانت الديون لا تزال متراكمة، وكان أمراء الفلاخ والبغدان (رومانية) قد وفوا ديون الكرسي الأوروشليمي وكرسي القسطنطينية والكرسي الإسكندري، فلما كتب باسيلي ابن أمير البغدان إلى مكاريوس يستدعيه إليه آدى البطريرك للسفر راميا هذا الأمير الأرثوذكسي بآماله. وبعد أن أقام سيليفستروس كاثوليك القلاية البطريركية نائبا ووكيلا خرج من دمشق في الحادي عشر من شباط سنة 1652 طالبا حلب، وما إن وصلها حتى بلغه خبر وفاة نائبه بالطاعون، ففوض تلميذه جراسيموس متروبوليت الفرزل والزبداني تدبير شئون البطريركية في أثناء غيابه، وسام قبل خروجه من حلب الخوري ناصر الحموي مطرانا على عكار ورحبة وسماه نيقولاووس، وبعد ذلك بثلاثة أيام رسم الخوري ميخائيل مهنا الحلبي مطرانا على طرابلس وسماه ملاتيوس.
9
وفي اليوم الخامس من آب سنة 1652 خرج مكاريوس من أنطاكية قاصدا القسطنطينية، ووصل إلى الإسكندرونة ليلة عيد التجلي، فاستقبله القبارصة وحضر الأغربنية في كنيستهم. وعند الأيصوذن دخل الكهنة وأخذوا الكيرون و«داروا في الأيصوذن حسب عادتهم مصلين: أيها النور البهي.» وقدس البطريرك قداس السحر ثم خرج إلى باياس وقدس فيها الأحد الثامن بعد العنصرة، وبلغ القسطنطينية في العشرين من تشرين الثاني وزار كنائسها وآثارها القديمة.
وفي السابع من كانون الثاني سنة 1653 خرج من القسطنطينية إلى ياسي عاصمة البغدان وأقام فيها تسعة أشهر ضيفا على باسيلي بك. وكانت الحرب قد اندلعت بين البغدان والقوزاق فلم يوفق البطريرك لنيل ما تمنى، فذهب إلى طرغشتة عاصمة الفلاخ الصيفية وأقام فيها نصف سنة ضيفا على أميرها متى. ثم قام إلى كيف عاصمة القوزاق ومنها إلى موسكو، فاستقبله القيصر ألكسيوس ميخائيلوفيتش بكل ترحاب واحترام وساعده كل المساعدة في احتياجاته، فعاد إلى رعيته في السنة 1659 ووفى قسما كبيرا من الديون التي كانت على الكرسي.
يوداص الثاني وقطعه (1659)
ويوداص الثاني في نظر مكاريوس وابنه بولس هو أثناسيوس متروبوليت حمص نسيب متروفانس متروبوليت حلب. فقد جاء في أخبار سفرة مكاريوس المشار إليها أن الدمشقيين دعوا أثناسيوس متروبوليت حمص ليكون بينهم نائبا بطريركيا في أثناء غياب البطريرك، وأنه ما كاد أثناسيوس يصل إلى كرسي النيابة حتى «قدس في الكرسي البطرسي في الصاكو وشرطن ووقف في الكاتدرا وزوج زيجات حرام وفعل قبائح عظيمة أكبر من قبائح ابن حماة مطران حلب. ولما سمع بقدوم سيدنا البطرك خزي؛ لأنه كان يصيت علينا بأننا متنا كلنا، وبأن ما بقي يجي قطعا، وأنه هو يتبطرك عليهم. وجاء أيضا أن أثناسيوس خرج من دمشق قبل وصول البطريرك إليها، وأنه أقام في صيدنايا وأرسل عوانات للحكام لأجل ضرر الدمشقيين المسيحيين.»
10
ولما وصل مكاريوس إلى حمص خرج أثناسيوس لاستقباله، فضمه البطريرك إلى حاشيته وأخذه معه إلى دمشق وعاتبه في الطريق وذكر له قبائحه واحدة واحدة، فأنكر أثناسيوس وتململ. ولدى دخول البطريرك إلى دمشق في أول تموز وفي خمسة عشر ألف غرش، وقدم للباشا ولبقية الأكابر ما قيمته ثلاثة آلاف غرش.
وفي الثامن والعشرين من آب سنة 1659 التأم المجمع الأنطاكي المقدس للنظر في قضية أثناسيوس بن عميش فثبت عليه أنه وقف في الكاتدرا، وأنه بدل في النرتكس مع «طون ذسبوتين»، وأنه شرطن كهنة وشمامسة، وأنه رهب راهبة بعد وفاتها لأجل متخلفاتها، وأنه كان يقول: «أنا بطرككم.» وأنه زوج زيجات حرام في المدينة والبر لقبض الدراهم. فحكم عليه المجمع بالقطع من كهنوته والحرم إلى أن يتوب، وكتب استاتيكونا بذلك وأذاعه في أبرشيات الكرسي، وإليك نصه:
المجد لله دائما: مكاريوس برحمة الله البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق، أنه لما كان بتاريخ نهار الأحد ثامن وعشرين شهر آب سنة 7167 لكون العالم (1659)، الموافق أول شهر ذي الحجة الحرام سنة 1069 للهجرة الإسلامية صار مجمع مقدس بحضور الحقير الواضع خطي وعلامتي أعلاه وأدناه، وبحضور رؤساء كهنة أبرشية النورية الأنطاكية الواضعين خطوطهم أدناه بمدينة دمشق الشام في كنيسة القديس نقولاوس، وكان إجماعهم ودعواهم على أثناسيوس مطران حمص بأنه جا إلى دمشق وتوطأ كرسي البطريركية بغير أمر البطريرك وبغير شورهم ورضاهم، وأنه قدس في كنيسة البطريركية ولبس بدلته خارجا في النرتكس، وأنه شرطن قسوس وشمامسة بغير إذن صاحب الكرسي، وأنه وقف في الكاتدرا التي لا يصعد عليها غير البطرك، وأنه حمل على إخوته رؤساء الكهنة بالافتراء، وأنه زوج زيجات حرام في المدينة والبر وحلل ذلك بقبض الدراهم. وبعد إثبات ذلك وجهه واحدة فواحدة بحضور المجمع المقدس وكهنة البلد ووجوه الإكليروس وأعيان الشعب، وأيضا أنه مضى إلى دير صيدنايا وطلع إلى الكرسي وقدس بغير إجازة بعد أن أرسلوا له الكهنة والإكليروس وأعيان الشعب وأنهوه عن ذلك فلم ينتهي. وقد ظهرت عليه قبل ذلك قبائح كثيرة مدونة في دفاتر عليه وثبتت عليه في وجهه.
فبموجب ذلك قد حكمت عليه أنا الحقير مكاريوس البطريرك الأنطاكي حالا بموجب ما تأمر الشريعة المسيحية بأمر الرحمان والسلطان أن هذا الرجل المدعو أثناسيوس المذكور فيكون مقطوعا من سائر درجات الكهنوت، وليس له تصرف في قداس ولا في غيره، ولا أن يضع بطرشيل في عنقه، وإن تعدى ما حددناه فيكون محروما مفروزا من مجد الآب والابن والروح القدس ومن المجامع المقدسة إلى أن يرجع ويتوب ويخلص نفسه وذمته مما اختلسه لنفسه من البطريركية والكنيسة والوقف والقوانين من الأحياء والأموات.
وعلى هذا الاصطاتيكون وقد فصلناه من مجمعنا المقدس المحرر في اليوم الأحد ثامن وعشرين شهر آب المبارك لشهور سنة 7167 للعالم الموافق للهجرة الإسلامية سنة 1069، وبالله التوفيق.
المجد لله دائما: ملاتيوس مطران طرابلس، فيلبوس مطران بيروت، غريغوريوس مطران حوران، أرميا مطران صيدا، جراسيموس مطران الزبداني، ناوفيطوس مطران اللاذقية، نقولاوس مطران عكار، الأرشدياكون الشماس بولس.
11
طبخ الميرون (1660)
وقل الميرون المقدس الذي طبخه يواكيم السادس البطريرك الأنطاكي ولم يبق منه سوى زجاجة واحدة، فكتب مكاريوس أنواع الأدوية والعقاقير في دفتر وأمر بجمعها. وأرسل إلى مصر لاستحضار دهن البلسم. وسجد الأرشدياكون بولس لوالده البطريرك واستمد البركة وشرع في إعداد المواد اللازمة، ثم دقها في الهاون وجعلها خمس طبخات، ووضع كل طبخة في ورقة كبيرة وكتب عليها اسمها وحفظها حتى جمعة الشعانين.
وهذه أجزاء الطبخة الأولى:
دار شيشعان وهو نوار؛ أي زهر القندول، مائة وعشرون درهما وعود سليخة حمرا ستون درهما، وحماما ياقوتية ستون درهما، وأصول السوسن ثلاثون درهما، وقصب الذريرة ثلاثون درهما. ثم إننا رضينا منها ما وجب رضه كما يعين في الكتاب، وتنقع بماء مقدس وخمر عتيقة بمقدار ما يغمرها، وأزود بأصبعين أو ثلاثة في وعاء نظيف إلى عشية أحد الشعانين لتطبخ في الغد. ففي نسخة الأصل يعين جزءا واحدا؛ أي مثلا من زهر القندول أربعون درهما، فنحن جعلناه ثلاث مثاله؛ أي مائة وعشرون درهما، ومثل ذلك من غيره. وعلى هذا فقس، وسيأتي ذكر بقية الطبخات بعد هذا.
وفي يوم الجمعة قبل سبت العازار قام البطريرك ورؤساء الكهنة والكهنة بعد صلاة السحر إلى كنيسة مار نقولاوس، فصلوا على الموقد وعلى الأجيازموس والموقدين القائمين في وسط الكنيسة الموجهين نحو الشرق، ووضعوا على الموقدين ماعونين نحاسيين كبيرين مبيضين. وصباح الإثنين العظيم وضع البطريرك حوائج الطبخة الأولى في الماعون الكبير وأفرغ عليها ثمانية وعشرين رطلا من الزيت الصافي وخمرا عتيقا وماء مقدسة. وكان كلما وضع جزءا من الأجزاء يترنم ويقول على اسم الآب والابن والروح القدس إله واحد. ثم وضع ورق الغار وورق الآس وورق الحصلبان وكمشة من الحصلبان الذكر فالخمر العتيق والماء المقدسة. ثم تناول سيدنا البطريرك ثلاثة عيدان وثلاثة أعواد من القنب وثلاث شمعات مشتعلة ووضعهم في الموقد، وبل جانبا من الحطب بماء مقدسة سخنة، وألهب النار وجلس أحد الكهنة مقابل الموقد يوقد ويبل الحطب بالماء السخنة ويوقده قليلا قليلا، وكان يحرك الزيت بمغرفة من الخشب ويضيف شيئا من الماء السخنة. وكان البطريرك لابسا بطرشيله والأموفوريون وكذلك رؤساء الكهنة، ولبس الكهنة كل بطرشيله والشمامسة زنانيرهم، والجميع مكشوفو الرءوس يرنمون الرسائل والنبوات والمزامير، والشمامسة يروحون بالمراوح.
بيان أجزاء الطبخة الثانية:
من الميرون المقدس: قسط مر جيد ستون درهم، وورد أحمر عراقي أو جوري منزوع الأقماع ستون درهم، وصندل مقاصيري ستون درهم، ولادن وبخور جاوري وزنجيل وقرفة القرنفل وعيدانه من كل واحد ستون درهم، وقسط يابس ثلاثون درهم. يرض الجميع ويبالغ في رض الصندل، ويصب عليها من الماء المقدس ما يغمرها. ونقعناه من ظهر يوم الإثنين العظيم إلى سحر الثلاثاء، ثم إننا جبناه ووضعناه على الزيت الذي طبخ بالأمس، وأوقد البطريرك النار كما ذكرنا أولا والتحريك عمال وكان يزداد إذا احتاج قليلا من الماء المقدس. وطبخ أربع ساعات زمانية، ثم نزلناه وركناه إلى العصر حتى برد وصفيناه، ورؤساء الكهنة والكهنة يصلون والشمامسة بالمراوح يتبادلون إلى النهاية. وكنا قد نقعنا حوائج الطبخة الثالثة من سحر هذا اليوم، وأتينا بها ووضعناها فوق الزيت المصفى وأوقد البطريرك النار ثانيا.
بيان أجزاء الطبخة الثالثة:
زرنب ستون درهما، وقشور السليخة الحمراء المختارة أحد وعشرون درهم، وجوز طيب خمسة عشر درهم، وسنبل الطيب العصافيري الجيد ثلاثون درهم، وقرنفل جيد عشرون درهم، وبسباسة ثلاثون درهم. وطبخناها من عصر الثلاثاء إلى العشا، فنزلناه عن المستوقد إلى أن برد وصفيناه سحر الأربعاء كالعادة، وعزلنا الإفادة ناحية بعضها على بعض، وكنا قد دقينا أجزاء الطبخة الرابعة من يوم الثلاثاء.
بيان صفة الطبخة الرابعة:
دار صيني طيب عال أو قرنفل ثلاثون درهم، مر أحمر جيد عربي ستون درهم، عود هندي خالص وهو بخور العود ثلاثون درهما، زعفران شعري عراقي جيد ثلاثون درهم. ثم رضينا منها ما وجب رضه وصبينا عليها من الماء ما غمرها وزيادة ونقعناها ليلة الأربعاء في ماء مقدس أيضا إلى سحر الأربعاء، ووضعناها فوق الزيت المطبوخ ثلاث مرات، وطبخناها بنار لينة كالعادة من سحر إلى الظهر، والطقس الأول عمال من القراءة والمراوح وغير ذلك، ونزلناه عن النار إلى أن برد، وصفيناه وعزلنا الإفادة على بعضها بعض، ثم جمعنا أجزاء الطبخة الخامسة.
بيان صفة الطبخة الخامسة:
الاصطراك الجيد الأحمر الفلكي ماية وعشرون درهم وضعناها في الزيت المطبوخ مع ثلاثة أرطال عسل منزوع الرغوة وماء مقدس أيضا. ووضعناه في الزيت على النار بعد ظهر يوم الأربعاء إلى المسا حتى ذهبت منه رطوبة الماء جميعها وهديت عنه البقبقة بالكلية وطابت رائحته، وعلامة تجربة ذلك هو أن الحكيم الذي كان يدبر هذا العمل جاب فتيلة قطن وغطها في الزيت المطبوخ وقدمها للشمعة فلم تطشطش، فعلمنا حينئذ أن الرطوبة قد ذهبت. ثم نزلناه عن النار، وفي أثناء ذلك كنا قد دقينا أجزاء الطبخة السادسة.
بيان صفة الطبخة السادسة:
دار صيني؛ أي القرفة، مائة وثمانون درهما، ومن سنبل الطيب الجيد العصافيري ستون درهم، ومن قشور السليخة الحمراء الجيدة ثلاثون درهم، ومن البسباسة أربعة وعشرون درهما، ومن العود الهندي القافلي خمسون درهم. وسحقنا الجميع ونخلناهم في كريشة حرير، ووضعهم البطريرك في الزيت المطبوخ ودافهم به. ثم أضاف الحكيم دهن البلسان وكان نحو من مائة وخمسون درهم في وعاء من نحاس على نار حتى ذاب، وأضاف معه أربعة عشر مثقالا من المسك الخالص المسحوق ومن العنبر الجيد أيضا إلى أن اختلط في بعضه بعض، وحصة من الميرون القديم ووضعه البطريرك على الزيت المطبوخ أيضا، وحرك الجميع وغطيناه إلى الغد.
وفي هذه الليلة ظهر سر برهان عظيم من بعض الأيقونات التي على باب هيكل هذه الكنيسة؛ وذلك أنهم من أول الليل نضحوا حيل كان يزرب منهم كساقية وانذهلنا. وضحوة نهار الخميس حضر البطرك وبدأ يعي الميرون في أواعي الزجاج الجدد ولم يكن وضع فيهم شيء، والجميع مكشوفو الروس مترنمين بالطروباريات: الرب يرعاني فلا يعوزني شيء، وغير ذلك، وعزلناهم على حدة.
ونقل البطريرك والأساقفة والكهنة والشمامسة الميرون المقدس بباعوث ورتلوا: ارحمني يا الله، بتمامها، ودخلوا إلى الكنيسة المريمية ووضعوا الميرون على المائدة المقدسة وابتدءوا بصلاة القداس. وعند دورة الجسد حمل الكهنة الميرون أمام الجسد وداروا به وأعادوه إلى المائدة، وأحنى البطريرك رأسه وتلا الأفاشين المعينة. وبعد القداس وضع الميرون تحت المائدة إلى سحر الفصح المجيد، ثم نقل إلى خزانة الميرون في الكنيسة المريمية.
12
عودة إلى بلاد المسيحيين (1666-1669)
وتولى نيقون في السنة 1632 رئاسة كنيسة موسكو وتوابعها، فحض المؤمنين على العمل الصالح والاستمساك بالإنجيل وقوانين الرسل وقرارات المجامع المسكونية، وقال باستقلال الكنيسة عن الدولة. ثم ذهب إلى أبعد من هذا فأجاز للبطريرك التدخل في شئون الدولة بشكل غير مباشر لما لشئون الدولة من علاقة مع الدين وخلاص النفوس. ونسبة الكهنوت للدولة في نظره كنسبة النفس للجسد والشمس للقمر. وحاول نيقون الانتقال من القول إلى الفعل فاصطدم بمقاومة القيصر ألكسيوس ميخائيلوفيتش، وأدت المشادة بين هذين الكبيرين إلى تدخل البطاركة. وتفصيل ذلك أن القيصر وجه إلى البطاركة خمسة وعشرين سؤالا يستفتيهم في أمر نيقون وموقفه من السلطات الزمنية، فاتخذ المجمع القسطنطيني المقدس قرارا قضى بتكليف بائيسيوس البطريرك الإسكندري ومكاريوس البطريرك الأنطاكي القيام إلى موسكو لمعالجة الموقف.
ووفد البطريرك الإسكندري على أخيه الأنطاكي فقاما إلى أرضروم في السنة 1666 وانتقلا منها إلى بلاد الكرج. فتفقد مكاريوس شئون الرعية الأنطاكية وعلم أن الكهنة كانوا قد اكتفوا بالميرون في ممارسة سر العمادة، فأعاد تعميد الكرجيين جماعات جماعات بالماء والميرون وباسم الآب والابن والروح القدس. ووصل الكبيران إلى موسكو بطريق استراخان واتصلا بالأساقفة الروس واشتركا في أعمال مجمع موسكو في السنة 1667، فأقر المجمع استقلال الكنيسة، ولكنه لم يرض عن تدخلها في شئون الدولة وأوجب تنحي نيقون عن الكرسي البطريركي.
13
النظم والقوانين
وجاء في رسالة صغيرة أعدها مكاريوس نفسه ونشرها كل من الأب نيوفيطوس إدلبي وحبيب الزيات،
14
أن كنيسة أنطاكية شملت في عهد مكاريوس الأبرشيات التالية: حلب وصور وصيدا واللاذقية العظمى وطرابلس وآمد وحوران وحمص وحماة وبيروت وباياس وبعلبك وعكار والزبداني وصيدنايا وأرضروم. وجاء أيضا أن ترتيب هذه الأبرشيات هو «بمقدار المدينة وكثرة أهلها»، وأن تغيير هذا الترتيب جائز كما جرى في كنيسة القسطنطينية. ولا يخفى أن أبرشية عكا سلخت عن كنيسة أنطاكية وضمت إلى كنيسة أوروشليم في عهد البطريرك أغناطيوس في أوائل القرن السابع عشر.
ويقول مكاريوس: إن لكل بطريرك مديحا غير مديح الآخر، وإن مديح بطريرك أنطاكية هو هكذا: «سنينا كثيرة يمنحك الرب الإله أيها الكلي الغبطة والجزيل القداسة سيدنا ومعلمنا أب الآباء وراعي الرعاة وريس الرؤساء وثالث الاثنا عشر رسولا، الأب السيد البطريرك كير فلان بطريرك مدينة الله العظمى أنطاكية، وكافة النواحي الثغرية وساير البلاد الشامية وكل الأقاليم الكرجية وجميع الأقطار الشرقية، سيدنا ومولانا فلان لكيما يحرسك الرب الإله سنينا كثيرة أيها السيد في الارتقاء والرفعة الإلهية بغير مرض ولا سقم ناجيا من الأسواء، معافى سنينا جزيلة مكرما ممدوحا معتوقا من ساير أفعال الشياطين متغالبا وظافرا بأعداه المنظورين وغير المنظورين، والله تعالى لأجل صلواتك وطلباتك المغبوطة والجزيلة قداستها يخلص ويشدد كافة المطارنة المحروسين من الله والأساقفة المحبين لله، والكهنة في الرهبان الروحانيين والقسوس الموقرين والإكليروس المكرمين والشمامسة وذوي الحسب والأراخنة والأكابر المنتخبين، وساير الشعب الأرثوذكسيين شعب المسيح محفوظين سنينا عديدة، ثبت الله الأمانة المستقيمة إلى الأبد، آمين آمين آمين.»
ويوجب البطريرك الهتاف بعد هذا بالعبارة: «اسبولا أتي ذسبوطا» ثلاث مرات وسجود القارئ للبطريرك وتقبيل يمينه ثم السجود له ثانية فالرجوع، «فطرح الذوكسا» وجعلها استيخونات بين الخوروسين كل استيخن في خورس دفعة واحدة فقط، ثم إكمال التاسعة والمكارزمي كالعادة.
وقال مكاريوس: إن التيبيكون قضى ببوليخرونيون للمتقدم، وإن هذا كان «معدوما في عصره بالجملة»، وإن الآباء الإلهيين أوصوا به، وأضاف أن لكل رئيس كهنة مديحا، وأنه اجتهد وتعب وعمل لكل رئيس كهنة «من رؤساء كهنة بلادنا» مديحا لائقا بكرسيه وأبرشيته، ثم أثبت نصوص هذه المدائح هكذا:
حلب: فلان المتكامل قدسه والمنطيقي مطران المدينة المقدسة، حلب الفائق الإكرام المتسلط على أبرشية سيريا الأولى، الضابط لمدينة منبج وكافة البلاد الفراتية بولا طا أتي.
15
أما ألقاب سائر المطارنة فهي هكذا: «المسلط على ساير أبرشية بار إلياس»
16
لمتروبوليت صور وصيدا و«المسلط على ساير أبرشية ثيودوريادوس» لمتروبوليت اللاذقية، و«المسلط على ساير أبرشية فينيكي الأولى» لمتروبوليت طرابلس و«المسلط على ساير أبرشية أرمينية الرابعة والضابط لمدينة الرها وبين النهرين» لمتروبوليت آمد، و«المسلط على ساير أبرشية فوسطرا أرابية» لمتروبوليت «المدينة المقدسة حوران»، و«المسلط على ساير أبرشية فينيكي الثانية» لمتروبوليت حمص، و«المسلط على ساير أبرشية سوريا الثانية والضابط لميدنة أبامية الشام» لمتروبوليت حماة، و«المسلط على ساير أبرشية فينيكي الأولى» لمتروبوليت بيروت، و«المسلط على ساير أبرشيات كيليكيا الأولى والثانية والضابط لمدينة سلفكية أيصورية» لمتروبوليت باياس و«المسلط على ساير جبل لبنان» لمتروبوليت بعلبك، و«المسلط على جبل لبنان والضابط لمدينة عرقا» لمتروبوليت عكار و«المسلط على ساير أبرشية فينيكي الثانية» لمتروبوليت الزبداني، و«المسلط على ساير أبرشية فينيكي الثانية» لمتروبوليت صيدنايا، و«المسلط على ساير بلاد أرمينية الكبرى» لمتروبوليت مدينة ثيودوسيوس؛ أي أرضروم.
وتدل أخبار هذا البطريرك على أن متروفانس ترأس أبرشية حلب وأرميا أبرشية صور وصيدا ونيوفيطوس أبرشية اللاذقية وملاتيوس أبرشية طرابلس، وثيوفانس أبرشية آمد وغريغوريوس أبرشية حوران، وأثناسيوس أبرشية حمص، وملاتيوس أبرشية حماة، وفيلبوس أبرشية بيروت، وجبرائيل أبرشية باياس حتى السنة 1644، وأنطونيوس أبرشية بعلبك، ونيقولاوس أبرشية عكار، وجراسيموس أبرشية الزبداني، ولاونديوس أبرشية صيدنايا، ومكاريوس أبرشية أرضروم.
انتقاء الكهنة والإكليروس
وتفيد الآثار التي خلفها مكاريوس وابنه بولس أن المبادرة في انتقاء الكهنة خدمة الرعية كانت بيد الشعب، فلم يكن البطريرك أو المطران يرسم كاهنا إلا بموافقة من كان يخدم من الشعب، وكان المرشح لهذه الرتبة يقدم صكا من قومه يشهدون له فيه بالسيرة الصالحة والتقوى واستقامة الإيمان والعلم الكافي، ويتعهدون له بالطاعة والدخل اللازم لمعيشته. وكان الكاهن ينتقى في غالب الأحيان من أبناء الوجهاء والأعيان تشريفا له ولأسرته، وكان بيته يعتبر بيت الطائفة وديوانها، فيه يجتمعون أعيانها، ومنه تصدر القرارات في الملمات والظروف الاستثنائية، وكان المطران أو البطريرك يجهز الكاهن لدى رسامته ببيان يذكر فيه اسم الكنيسة التي ارتسم فيها واسم الكنيسة التي ارتسم لخدمتها ووجوب تقديم الطاعة له والاحترام، وكان هذا البيان يدعى ستاتيكونا يتلوه الكاهن في كنيسته لدى وصوله إليها وتسلمه الرعاية فيها، وقضت التقاليد الموروثة ببقاء هذا الكاهن في القرية التي رسم لها وعليها وبعدم عزله قبل محاكمته بموجب الناموس والقوانين المقدسة.
أما المبادرة في انتقاء الإكليروس فإنها كانت في يد البطريرك أو مطران الأبرشية، فقد يلاحظ هذا السيد أن أحد الشبان يداوم على حضور الصلوات ويشترك فيها بالقراءة والترتيل، فيتثبت من رصانته وتقواه ويقربه ويرغبه بالكهنوت، فإذا ما وثق من رغبة أكيدة عني بأمر تعليمه إما بذاته أو بواسطة من يعتمد عليه، ثم رسمه أناغنوسطا وألبسه الصاية السوداء والقلنسوة الصغيرة، ويظل هو حرا في أمر البقاء في الخدمة أو تركها.
وقد يتميز أحد الوجهاء من أبناء الطائفة بالتنزه عما يعاب وبصون العرض من الدنس وبعفة اليد واللسان والاندفاع في سبيل الكنيسة، فيمنحه البطريرك أو مطران الأبرشية لقب شماس الكنيسة فيزداد هو بهذا اللقب وجاهة وكرامة. وقد يسعى البعض لنيل هذا الشرف رغبة بما يناله من أجر وثواب. وكان الشمامسة نوعين: شمامسة قلاية وشمامسة بيت وأعمال. وكان على شمامسة القلاية أن يعيشوا فيها ويقوموا ببعض الخدمات الإدارية والكنسية لابسين الثوب حافظين العفاف. وكان بإمكان هؤلاء أن يخلعوا الثوب ويتزوجوا زواجا ناموسيا قبل ترقيتهم إلى رتبة شماس إنجيلي. أما شمامسة البيوت والأعمال فإنهم كانوا يزاولون صناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم العادية كسائر أفراد الشعب، ولا يأتون إلى الكنيسة إلا للاشتراك بالصلوات والاحتفالات الدينية.
ولم يذكر بولس بن مكاريوس في أخبار الزيارة الرعائية التي قام بها والده سنة 1648 من الأديرة في سورية سوى دير صيدنايا ودير مار جرجس الحميرة. وذكر ديري مار تقلا ومار سركيس في جوار معلولة، ولكنه لم يذكر أن والده قدس فيهما. وليس هنالك أي ذكر لدير مار يعقوب قارة، وجاء في أخبار هذه الرحلة أن البطريرك زار دير السيدة كفتين ودير مار يعقوب دده ودير السيدة في البلمند ودير سيدة الرأس ودير مار إلياس شويا (الشوير)، وأنه قدس فيها جميعها. وجاء أيضا أن البطريرك زار دير سيدة حماطورة ودير سيدة النورية ودير مار إلياس كفر قاهل، ولكنه لم يرد ذكر لإقامة القداس فيها، وأغفل الشماس بولس ذكر مار يوحنا الشوير ومار سمعان كفر عقاب، ولعل السبب في إهمال ذكر بعض الأديار وفي عدم إقامة القداس في غيرها أنها كانت قد أهملت فأمست غير لائقة بزيارة البطريرك أو بإقامة القداس فيها. والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن الاضطرابات وقلة الأمن وشدة الفقر كانت قد زعزعت الحياة الرهبانية في معظم هذه الأديار، وأن الديرين الوحيدين اللذين نالا شيئا من العناية كانا دير صيدنايا ودير البلمند. ولا يخفى أن الأول كان ملجأ الدمشقيين المسيحيين والبطريرك والكهنة في أثناء الضيق والاضطراب وقبلة أنظار الأرثوذكسيين في جميع أنحاء الكرسي الأنطاكي؛ لما اشتهرت به سيدته من الحماية والمعونة، وأن الثاني كان ملجأ الطرابلسيين وقد رعاه بعنايته يواكيم متروبوليت طرابلس فجدد بناءه في السنة 1603.
المدارس الإكليريكية
ولم يكن هنالك مدارس إكليريكية عالية، وأمست قلايات المطارنة والبطريرك أفضل المدارس لرجال الإكليروس والكهنوت، فكان الأناغنوسطس القائم يدرس في مدرسة الطائفة التابعة لها، فيقرأ الأسفار المقدسة وتفاسيرها المعربة عن اليونانية ويعنى عناية خاصة بمواعظ القديسين يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير، ثم يعكف على تفهم كتاب المنطق ليوحنا الدمشقي أو غيره، ويتفهم عرض هذا القديس لقضايا الإيمان القويم فيجده في كتاب «المائة مقالة». وكان عليه أن يلم باللغة اليونانية قراءة وكتابة وباللغة العربية، وأن يجيد كتابتها، وأن يتعلم الطب ويمارسه لخير الرعية. ولكي ينال الحظوة والترقية في درجات الكهنوت كان عليه أن يكون سالما من كل عاهة بلا عيب، جميل المناقب حلو الشمائل رخيم الصوت يجيد الترتيل باليونانية والعربية ليسبح الله في كنيسته ويذكر أمجاده بين المؤمنين، وإذا ما توفرت فيه هذه الشروط أو معظمها وأعظمها رقي إلى درجة شماس إنجيلي، ثم إلى درجة رئيس الشمامسة؛ أي أرشدياكون.
انتقاء الأساقفة
ويتضح من أخبار الأساقفة الذين تمت سيامتهم في هذا القرن السابع عشر أن عددا كبيرا منهم جاءوا من صفوف الكهنة المترملين فكانوا عاديين بعملهم وفضائلهم، وكان بعضهم غير لائق لتسنم العرش الأسقفي . ونخص بالذكر من هؤلاء أثناسيوس متروبوليت حمص ونسيبه متروفانس متروبوليت حلب. وكانت المبادرة في انتقاء الأساقفة بيد البطريرك والشعب، فإما أن يختار البطريرك مرشحا ويتصل بأعيان الأبرشية التي يريده أسقفا عليها أو أن يتقدم الأعيان من البطريرك بمرشح يريدونه أسقفا عليهم، وكان لا بد من اتفاق الطرفين على المرشح، وقد يكون هذا المرشح كاهنا مترملا، وقد يكون راهبا من رهبان القلايات أو الأديار المهمة في الكرسي الأنطاكي أو في فلسطين أو قبرص أو إحدى الجزر اليونانية أو أي بلد أرثوذكسي آخر. ويلوح لنا أن الكلمة الأولى والأخيرة في انتقاء المرشح كانت للبطريرك نفسه، وأنه كان لا بد من اشتراك البطريرك في الرسامة متعاونا في ذلك مع بعض الأساقفة كما قضت شروط الشرطونية في جميع الكنائس، وكان لا بد من إصدار براكسيس بالسيامة يتضمن ذكر الرسامة وتاريخها، والمذبح الذي تمت عليه، والمذبح الذي أجريت لأجله.
انتخاب البطريرك
والبطريرك في عرف الكنائس الشرقية هو خليفة الرسل الأطهار ورئيس الكنيسة المحلية، وهو أيضا رئيس العشيرة بكاملها؛ أي زعيم الطائفة التي يرأس، كما يدل على ذلك معنى اللقب نفسه وكما تؤكد المراجع التاريخية. وكان البطريرك أيضا أسقف كنيسة مدينة أنطاكية نفسها، فكان لا بد والحالة هذه من اشتراك أبناء مدينة أنطاكية في انتخاب البطريرك الجديد، ولا بد من موافقة أعيان الطائفة جمعاء. وبانتقال المركز البطريركي من أنطاكية إلى دمشق أصبح البطريرك الأنطاكي أسقف أنطاكية وأسقف دمشق أيضا.
ولم يجر أي انتخاب بطريركي أنطاكي بدون اشتراك المطارنة أصحاب الأبرشيات الخاضعة لأنطاكية، فهؤلاء هم الذين نصبوا البطريرك الجديد في عرشه، وهم الذين سلموه عكاز الرعاية، وهم الذين تولوا سيامته أسقفا على الكتدرا البطريركية إذا كان كاهنا أو شماسا.
وكان على البطريرك الجديد أن ينال اعتراف السلطات الزمنية برئاسته ليمارس الحقوق التي نصت عنها امتيازات محمد الثاني العثماني، وكان هذا الاعتراف السلطاني يصدر ببراءة سلطانية يمهد لها البطريرك المسكوني ويسهل الحصول عليها، وكانت السلطات تتقاضى بعض الرسوم والهدايا، فلما دب الفساد إلى أداة الحكم تعاظمت هذه الرسوم بعض الرسوم والهدايا، فلما دب الفساد إلى أداة الحكم تعاظمت هذه الرسوم والهدايا وتنوعت، فاضطر البطريرك الجديد أن يتحملها لدى وصوله إلى العرش وأن يأخذها فيما بعد من واردات الكرسي، فنشأ عن هذا كله نوع من الدفع والقبض عرف في الأوساط الإكليريكية الأرثوذكسية بالسمعانية نسبة إلى سمعان طرابزون أول من تعاطى بها،
17
وهي غير السمونية التقليدية التي نبذتها الكنيسة منذ أيام الرسل الأطهار. وأدى طمع الحكام في المال وطموح بعض الأساقفة إلى الشغب على البطريرك الجالس ومحاولة خلعه وإجلاس غيره محله وإلى غير ذلك من ظواهر الشر والفساد.
18
سر الاعتراف
وترادفت الأسقام وتوالت الأنصاب «فتخطى» الكهنة بعضهم بعضا «ودفنوا وعمدوا وقندلوا» بدون إذن صاحب الجمعة، فمنعهم مكاريوس عن ذلك، ومنع الكهنة الغرباء عن قضاء مصالح أهل المدينة. وكان المسيحيون يهجمون على تناول الأسرار في الأعياد الكبيرة بدون اعتراف، فصدر أمر البطريرك بوجوب إعطاء كل معترف بالخطايا ورقة تنبئ باعترافه يظهرها في الكنيسة لدى تقدمه من جسد الرب ودمه.
19
مكاريوس والتعاليم البروتستنتية
واشتد الجدل في فرنسة في منتصف القرن السابع عشر بين أتباع كلوينوس وبين أبناء الكنيسة الغربية، وأنكر الكلوينيون أسرار الكنيسة وسلطتها وغير ذلك من العقائد الكاثوليكية الغربية. ثم انحصر الجدل في حقيقة وجود المخلص في سر القربان الطاهر واستحالة الخبز والخمر إلى جسد سيدنا ودمه. ودار الجدال مدة حول آيات الكتاب فأفحم الكاثوليكيون الغربيون الكلوينيين، فادعى هؤلاء أن هذه العقيدة جديدة في الكنيسة اخترعتها رومة منذ سنين معدودة. ثم اختلفوا في تعيين زمن الاختراع فحصره بعضهم في القرن السابع وآخرون في التاسع، وقال غيرهم: إن القول بالاستحالة لم يعرف قبل القرن الثالث عشر. وزعموا أن آباء كنيستنا الأرثوذكسية الجامعة وآباء الكنائس الشرقية الأخرى ينكرون وجود المسيح وجودا حقيقيا في سر الأفخارستية ويرذلون استحالة جوهر الخبز والخمر إلى جسد يسوع ودمه، فسعت الأوساط الكاثوليكية الغربية لدى السلطات الروحية الشرقية في تحصيل شهادات رسمية في معتقد هذه الكنائس الشرقية، فهب هؤلاء للدفاع عن هذا السر المقدس وقدم بطاركة الأقباط والأرمن واليعاقبة ما أثبت اشتراكهم مع رومة في قول واحد بسر الأفخارستية.
20
ودبج مكاريوس في الخامس عشر من تشرين الثاني سنة 1671 رسالة في الرد على «الأراطقة الحديث ظهورهم الموجودين في بلاد غاليا؛ أي الفرانسا وغيرها من البلاد الإفرنجية المقول لهم القلوينيين الذين أنكروا سائر تقليدات الكنيسة الشرقية وغيروا وأبطلوا سائر ما وضعه الرسل الإلهيين والآباء القديسين أصحاب المجامع السبعة المسكونية، وأنكروا عادات الكنيسة الشرقية ونقضوا منها ثلاثة عشر اعتقادات صالحة.» ولا تزال مكتبة باريز الوطنية تحفظ نسخة رسمية عن هذه الرسالة، ولعلها بخط صاحبها،
21
وقد نشرها الأب أنطون رباط في مجلة «المشرق»، 1907،
22
وإليك خلاصة هذه الرسالة بلغة واضعها:
23
الرأس الأول:
قولهم عن الأسرار الطاهرة بأنها بعد تقديم الكاهن لها على المذبح وقوله عليها الكلام الجوهري بأنها تصير شبه جسد المسيح ودمه، وليس هي بالحقيقية جسده ودمه. واعلم أن الإنجيلية الأربعة كل واحد منهم أخبر بإلهام الروح القدس بعض عجائب المسيح وجزء من وصاياه. وأما عن هذه الأسرار المقدسة فإنهم كلهم أخبروا عنها بإفصاح، وأنه قال عن الخبز والخمر الذي قدمه لهم بأن هما جسده ودمه الخاصيان بالحقيقة، فكيف يكون شبه جسده، فالقائلين هذا الكلام قد كذبوا وكذبوا إنجيل سيدنا يسوع المسيح، وكذبهم فهو تلقين الشيطان وهو ظاهر مثل الشمس.
الرأس الثاني:
وقالوا بأن الخبز والخمر في تمام الذبيحة ليس ينتقلان ولا يستحيلان من جوهرهما الخاصي. فاعلم أن السيد المسيح لم يقطع لحما من جسده، ولا أخرج منه دما وأعطاه لتلاميذه، لكنه قدم لهم خبزا وخمرا وقال لهم بأن هذا هو جسدي وهذا هو دمي، فليخزوا إذن القائلين عن هذه الأسرار بأنها شبه جسده ودمه.
الرأس الثالث:
ثم ذكروا هؤلاء المخالفين أن عمل القداسات ليس فيه منفعة للأحياء والأموات. فاعلم بأن الآباء القديسين أمرونا بأن نذكر الأحياء والأموات في كل صلاة وقداس، وجعلوا قداسات أيام السبوت كلها لأجل نياح الراقدين، وقد أمرنا بذلك ديونيسيوس قاضي العلماء وباسيليوس الكبير وغريغوريوس الثاولوغوس ويوحنا فم الذهب وأثناسيوس الكبير، فمن فعلها كان تابعا لهؤلاء القديسين، والذي ينكرها فهو من الأراطقة المخالفين.
الرأس الرابع:
ثم قالوا هؤلاء الأراطقة بأن من يتناول الأسرار المقدسة ليس يتناوله بتمامه حقيقا. فاعلم بأن قد تقلدنا بأن الكاهن يتناول سائر ما قدمه ذلك اليوم، والعلماني الذي يتناول من الأسرار جزءا يسيرا فإن هما قد تناولا جسد المسيح ودمه بتمامه وليس جزءا منه، ومن يتناول شيء يسير من جسد المسيح ودمه يتناول المسيح بتمامه كمثل من ينظر وجهه في المرآة ينظر جسده وصورته بتمامه، وكذلك إذا قطع تلك المرآة فإنه ينظر في قطعة منها صورته بتمامها. والكاهن يقول قبل تناول الأسرار نفصل ونقسم حمل الله تقسيما ونأكل منه كل حين وهو غير منتقصا.
الرأس الخامس:
ثم إن هؤلاء الأراطقة ينكرون سائر الأصوام المفروضة علينا من الله. فاعلم يا هذا بأن أول وصية أمر الله بها لأبينا آدم قوله: من هذا كل ومن هذا لا تأكل. فمن ها هنا أبان فريضة الصوم. وموسى صام أربعين يوما وإيليا صام أربعين يوما ودانيال صام ثلاثة سوابيع. ثم سيدنا يسوع المسيح اعتمد وصعد إلى الجبل وصام أربعين يوما. وعلمنا بأن كل معتمد يجب عليه في كل سنة بأن يصوم أربعين يوما، وهكذا رسله القديسين بعد صعوده إلى السماوات عملوا مجمع مقدس في أوروشليم ووضعوا فيه قوانين كثيرة مشهورة، ومن جملتها أمروا المسيحيين بأن يصوموا في كل أسبوع يومي الأربعاء والجمعة، وأن يصوموا الصيام الكبير في كل سنة مثلما صام سيدنا يسوع المسيح. وكذلك الآباء القديسين وضعوا في المجامع المقدسة قوانين كثيرة شرعت لنا الأصوام المقدسة، وهكذا قلدوا أولاد البيعة الأرثوذكسيين جيل بعد جيل أن يحفظوا ذلك إلى انقضاء العالم.
الرأس السادس:
ثم إن هؤلاء الأراطقة يقولون أن لا يجب تكريم القديسين؛ لأنهم لا ينفعون أحدا من الذين يكرمونهم أصلا بالتجائه وتضرعه إليهم. فاعلم يا هذا بأنه إذا كان تكريم القديسين ليس هو بواجب فلماذا كرمهم الله تعالى في العتيقة وصنع على أيديهم المعجزات العظيمة، وقال عن داود اعضد مدينة أوروشليم لأجلي ولأجل داود عبدي، وكيف لا يجب إكرامهم وهم أحباء المسيح وورثاؤه؟ وكيف لا ننشئ هياكل لله باسمهم ونقرب النذور لهم ونكثر التوسل إليهم، ولا سيما سيدتنا العذراء والدة الإله مريم رجاء الذين ليس لهم رجاء.
الرأس السابع:
ثم إن هؤلاء الأراطقة يحاربون الأيقونات المقدسة ويدعونها أصنام. فاعلم بأن سيدنا يسوع المسيح شمس العدل استبانت صورة وجهه المقدسة بألوان من الأصباغ على السبنية التي أرسلها أبجر ملك الرها وظهر منها عجائب لا ترام ولا تحصى. وأيضا بعد صعود السيد المسيح عمل لوقا أيقونة سيدنا يسوع المسيح ثم أيقونتين الرسولين بطرس وبولص، ثم زوق ثلاث أيقونات على اسم سيدتنا والدة الإله. وبعد تكميلهم ذهب إلى عند والدة الإله؛ لأنها كانت بعد بالحياة وأخبرها بما فعله وطلب إليها أن تمضي معه وتشاهدهم وتباركهم، فذهبت وحين نظرت تبسمت ثم باركتهم وقالت: النعمة التي خرجت مني وكانت في تكون عليهم وفيهم. وإكرام الصورة واصل إلى عنصرها الأول كما قال القديس باسيليوس الكبير. والآباء القديسين أصحاب المجمع السابع المسكوني قد افرزوا كل من لا يسجد للأيقونات المقدسة، وأحرموا الذين يزعمون أن المسيحيين يؤلهونها.
الرأس الثامن:
ويقولون هؤلاء الأراطقة بأنه لا يجب أن يكون في الكنيسة طغمة الكهنوت. فاعلم بأن الكنيسة تدعى سماء أرضية، وكما أنه في السموات طغمات الملائكة تسعة يخدمون الله ويسبحونه، فهكذا في كنيسة المسيح التي على الأرض طغمات الكنيسة المقدسة يخدمون الله ويمنحون نعمة الكهنوت، وهم منصوبين بأمر الله وينيلون المواهب للمؤمنين، والقديس باسيليوس يقول في قداسه اذكر يا رب الكهنة خدام المسيح وكل طغمات الكهنوت.
الرأس التاسع:
وقال أيضا هؤلاء الأراطقة بأن ليس يجب أن يكون في الكنيسة أسقفا. فاعلم أن درجة الأساقفة ضرورية ولازمة في البيعة الأرثوذكسية لأجل تدبير المسيحيين؛ لأن الأسقف تفسيره المشرف والراعي للرعية، والسيد المسيح يقول عن نفسه: أنا هو الراعي الصالح، وهو الذي قبل آلامه سام يعقوب الرسول ابن يوسف وجعله أول أسقف على أوروشليم، وهو الذي بعد قيامته المقدسة قال لبطرس: ارع خرافي! وبولص الرسول يقول: تيقظوا لأنفسكم وللرعية الذي أقامكم الله عليها أساقفة!
الرأس العاشر:
وقالوا هؤلاء الأراطقة بأن كنيسة المسيح قد أخطت وما أصابت بحيث إنها أفرضت ووضعت قوانين لا يجب حفظها. اعلم بأن بيعة المسيح الكاثوليكية لم تخطئ أصلا ، وهي منظورة دائما على الأرض وعادمة للضلالة، وهي أساس الحق وعمده ومعها المسيح إلى انقضاء العالم، وفيها البارقليط وثابت معها إلى الأبد. وهو الذي ألهم ونطق على ألسن الرسل الإلهيين والآباء القديسين بأنهم وضعوا فيها نواميس والقوانين والسنن والفرائض. ولم يخطوا بذلك لكنهم أصابوا، وكانت جميع أقوالهم بالشريعة والحقيقة والطريقة. والقديس باسيليوس الكبير يقول في قداسه نحو الرب: وأيضا نطلب منك يا رب أن تذكر كنيستك المقدسة الجامعة من أقصى المسكونة إلى أقصاها التي اصطنعتها بدم مسيحك الكرم وسلمها وثبت هذا البيت المقدس إلى انقضاء الدهر.
الرأس الحادي عشر:
وقالوا هؤلاء بأن أسرار الكنيسة السبعة ليس هم حقيقة. فاعلم بأن الأنبياء والرسل تكلموا فيهم وذكروا عن سبعة أرواح الله، وبعضهم دعاهم مواهب وبعضهم نعم. وبالحقيقة إنهم سبعة مواهب؛ العماد والميرون والأسرار المقدسة والاعتراف والزيت المقدس للمرضى وإكليل الزواج والكهنوت.
الرأس الثاني عشر:
ثم إن هؤلاء الأراطقة لم يعتقدوا بتحقيق في الكتب المقدسة كلها. فاعلم بأن الكتب المقدسة هي الأساس إلى أمانتنا، وليعلم هؤلاء المخالفين أننا نقبل كافة الكتب المقدسة الإلهية التي ذكرها في مجامع البيعة الأرثوذكسية وفي سائر الكتب التي للآباء القديسين، ومنها الأبوكاليبسيس ورسالة يعقوب أخو الرب وطوبيا ويوديت وسفر حكمة سليمان وسفر الجامعة وباروخ النبي والمكابيين، فجميعهم نقبلهم ونقرؤهم في الكنيسة المقدسة الطاهرة الأرثوذكسية.
الرأس الثالث عشر:
ثم إن هؤلاء الأراطقة يشنعون عنا لأجل أننا متمسكون بتقليدات الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة المقدم ذكرها. اعلم أن هذه الرءوس المقدم ذكرها قد تسلمناها من الرسل الإلهيين والآباء القديسين، ولمعرفتنا بأنها اعتقادات صالحة محقة اعتقدنا فيها اعتقادا كليا من صميم القلب وبصدق اللسان، وليخزوا القائلين كذبا عن كنيستنا الطاهرة المقدسة أنها تمسكت باعتقادات رومية فلتخرس ألسنتهم. ونحن حين وكدنا الحق كتبناه بخط يدنا وختمناه بمدينة دمشق المحروسة، أنا الفقير ماكاريوس بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى في اليوم العشرون من شهر تشرين الأول سنة 1671 مسيحية، الموافق لسنين أبونا آدم سبعة آلاف ومائة وثمانين وللهجرة ألف واثنين وثمانين. ونحن بالله نستعين له المجد سرمدا ، المجد لله دائما ماكاريوس برحمة الله تعالى البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق.
وهذا الاعتقاد المفسر بلسان سيدنا البطريرك فهو اعتقادنا نحن جماعة الروم وشهرت به أنا الحقير غريغوريوس باسم مطران بصرى وحوران، وأنا الحقير يواكيم مطران حمص أقر وأعترف بهذا الاعتقاد، وأنا الخوري يوحنا بن طاشات وأنا أيضا الخوري يوسف بن صيدح وأنا الخوري عبد العزيز هلال وأنا الخوري مخاييل علم وأنا الخوري مخاييل نقاش، أقر وأعترف بهذا الاعتقاد. أقر وأعترف بهذا الاعتقاد بقلبي وفمي أنا الحقير في الكهنة الخوري يوحنا المكنى بابن الذيب وأنا الخوري جرجس أقر وأعترف بهذا الاعتقاد بقلبي وفمي ونيتي وأنا القسيس موسى وأنا القسيس يوسف.
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، وإن بعد وضع ختمنا وخط يدنا على ما شرحنا أعلاه من الرءوس السابق ذكرها سمعنا عن هؤلاء المخالفين المذكورين أنهم قد زادوا في تجديفهم المتقدم قولنا عنه، وبطلوا رسم الصليب على جبهاتهم ولم يعلموا أن هذه عادة مأخوذة من زمن سيدنا يسوع المسيح؛ لأنه كان حين يكسر الخبز كان يختمه شكل الصليب على ما تقلدنا ذلك من باسيليوس الكبير وغيره من القديسين، وكذلك كانوا يفعلون رسل المسيح، وهكذا القديس أغناتيوس المتوشح بالله بطريرك مدينة أنطاكية أمر المسيحيين أن يفعلوا هكذا ومنه اشتهر هذا الأمر في سائر المسكونة. فمن هذه الجهة صار رسم الصليب لازما لسائر المسيحيين أن يرسموه على جبهاتهم وأجسادهم ليتقدسوا به وتنطرد عنهم الشياطين.
الرأس الثاني:
من أجل الرهبنة وشروطها ونذورها وقالوا هؤلاء المخالفين بأن الشيطان قد أبدعها. فاعلم أن قبل مجيء سيدنا يسوع المسيح استساروا بهذه السيرة إيلياس النبي ويوحنا المعمدان، وحين حضر سيدنا يسوع المسيح فأراد أن يثبت هذه العادة الصالحة فقال: من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني.
الرأس الثالث:
وقالوا هؤلاء المخالفين بأن ليس لأحد من البطاركة ورؤساء الكهنة المعظمين سلطة بأن يمنح لأحد المسيحيين استغفارات لخطاياه وتكون نافعة للأحياء والأموات الذين فعلوا جنايات وعليهم قوانين. فاعلم بأن ربنا له المجد في أماكن كثيرة قال لرسله القديسين: كل ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطا في السماء، ومهما حللتموه على الأرض يكون محلولا في السماء، وثم إنه بعد قيامته نفخ في وجه تلاميذه وقال لهم اقبلوا الروح القدس أن تركتم لقوم خطاياهم تترك لهم ومن أمسكتموها عليهم فلتمسك.
الرأس الرابع:
ثم قالوا هؤلاء المخالفين بأن الله وضع على الناس وصايا ثقيلة لا يقدرون على فعلها، وأنه لا يساعدهم بنعمته ومعونته الكافية. والجواب قال: تعالوا إلي أيها المتعبين والثقيلين الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري فإنه صالح وحملي خفيف.
الرأس الخامس:
وقالوا هؤلاء المخالفين أن المسيح ليس مات عن جميع الناس، بل عن بعض منهم فقط؛ لأنه لم يريد خلاص الكل. فاعلم بأن هذا الكلام مخالف للشريعة المسيحية؛ لأن بولص الرسول يقول: لما كانوا جميع الناس خطأة مات المسيح عنهم ليخلصهم، وقال هو تعالى اسمه ما أتيت لأدعو الصادقين، بل الخطأة إلى التوبة.
الرأس السادس:
وقالوا هؤلاء المخالفين بأن زيارة الأماكن المقدسة باطلة. فكيف أمر الله موسى بأن يأمر بني إسرائيل بأن يزورا أوروشليم؟ وكيف كان رسل المسيح يطوفون المسكونة ويعودون إلى أوروشليم ويسجدون فيها؟ وأكثر القديسين المعظمين ذهبوا إلى هذه الأماكن المقدسة وسجدوا بها وحظوا بنعمة الروح القدس.
الرأس السابع:
وذكروا هؤلاء المخالفين بأن الزيجة مسامح بها للرهبان والأساقفة وليس عليهم بذلك خطية. فاعلم بأن كل هؤلاء الأساقفة والرهبان قبل أن يلبسوا الأسكيم الملائكي كانوا قد نذروا على نفوسهم باختيارهم من غير إكراه ولا اغتصاب بأنهم قد أوقفوا أجسادهم هياكلا لله، ثم إن رسل المسيح والآباء القديسين جميعهم أمروا الأساقفة والرهبان بعدم الزيجة واستعمال العفة والطهارة.
الرأس الثامن:
ثم قال هؤلاء الأراطقة بأنه ليس يجوز للمسيحيين بأن يصلوا في كنائسهم بألفاظ غريبة لا يعرفها أهل البلاد، فاعلم بأن الرسل القديسين تكلموا في سائر اللغات وخلفوا لنا بأن نصلي بأفضلها ، وأن الشعب تتقدس مسامعه بتلاوة هذه الألفاظ الطاهرة إذا سمعوها الملائكة يحضروا والشياطين يهربون من قوتها، ولأجل ذلك نستعمل اللسان اليوناني والسرياني في كنائسنا ومنازلنا.
ومهما شرحناه في هذه الدروس فهو من اعتقادنا القويم رأيه ووكدنا حقه بخط يدنا وختمناه في مدينة دمشق المحروسة في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الثاني سنة 1671 مسيحية، الموافق لسنين أبونا آدم سنة 7180، المجد لله دائما ماكاريوس برحمة الله تعالى البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق، هكذا آمنت أنا الحقير غريغوريوس مطران بصرى وحوران، وأقر أنا المطران يواكيم بهذه الأمانة.
أمولوغية دوسيثيوس أو رسالة البطاركة (1672)
وعني دوسيثيوس بطريرك المدينة المقدسة (1669-1707) بترميم سقف كنيسة المهد، فلما انتهى من عمله هذا دعا في أوائل السنة 1672 الكنائس إلى الاشتراك معه في التدشين، فاجتمع في بيت لحم في العشرين من آذار واحد وسبعون إكليريكيا عاليا بينهم البطريرك والمتروبوليت ورئيس الأساقفة والأسقف. وتفاوض المجتمعون في شئون الكنيسة الجامعة فأقروا أمورا أهمها الرد على ما كان قد ذهب إليه كيرلس (لاسكارس) البطريرك القسطنطيني في موقفه من كلوينوس وبعض آرائه الدينية الفلسفية. وأعد هذا الرد دوسيثيوس البطريرك الأوروشليمي، فنسب إليه وعرف فيما بعد بأمولوغية
Omologia
دوسيثيوس، وجاء في ثمانية عشر بندا تتلوها أجوبة أربعة على أربع مسائل. ثم تبنى البطاركة في مجمع عقده في القسطنطينية في السنة 1723 هذه الأمولوغية فيما أرسلوه إلى الروس وما دعوه الإكثيسيس الأرثوذكسي
Ekthesis ، واشترك في توقيع هذا الإكثيسيس كل من أرميا بطريرك القسطنطينية وأثناسيوس بطريرك أنطاكية وخريسنثوس بطريرك المدينة المقدسة وعدد من أعضاء المجمع القسطنطيني المقدس، وأطلق الرؤساء الروحيون في روسية على هذا الإكثيسيس الاسم رسالة البطاركة، فعرف به أيضا منذ ذلك الحين،
24
وإليك تعريب الأمولوغية كما أعده الشماس غفرائيل كرابتاكيس في السنة 1904 وأقره البطريرك الأوروشليمي ذاميانوس في التاريخ نفسه:
القضية الأولى:
نؤمن بإله واحد حق ضابط الكل لا حد له آب وابن وروح قدس، آب غير مولود وابن مولود من الآب قبل كل الدهور ومساو له في الجوهر، وروح قدس منبثق من الآب ومساو للآب والابن في الجوهر. وهذه الأقانيم الثلاثة نسميها ثالوثا أقدس في جوهر واحد تباركه البرايا بأسرها في كل حين وتمجده وتسجد له.
القضية الثانية:
نؤمن بأن الأسفار الإلهية موحى بها من الله؛ ولذلك يجب علينا أن نثق بها غير مرتابين، ونصدقها دائما على حسب ما فسرتها وسلمتها لنا الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية. نعم إن أصحاب البدع الرجسة يقبلون هم أيضا الأسفار الإلهية، ولكنهم يحرفون فيها الكلمات عن مواضعها بادعاء ترادف الكلمات والتأويل والسفسطة بمقتضى حكم العقل والحكمة البشرية، خالطين فيما لا خلط فيه ومتلاعبين فيما لا يباح التلاعب فيه. فلو صح ذلك وانفرد كل واحد بالرأي لما كانت كنيسة المسيح الجامعة حاصلة، مع تمادي الأيام إلى يومنا هذا، على وحدة الرأي من جهة الإيمان والثبات الدائم بدون تزعزع في اعتقاد واحد، ولما كانت الكنيسة عمود الحق وقاعدته ولا خالية من الدنس والعيب، بل كانت تنشق بالبدع إلى فرق شتى فتصبح مجتمع أشرار خبثاء، وهو ما صارت كنائس الهراطقة والحال ظاهرة بلا إشكال. وهؤلاء مع كونهم قد تعلموا من الكنيسة الجامعة فإنهم يرفضونها عن خبث ورداءة. أما نحن فإننا نعتقد أن شهادة الكنيسة الجامعة ليست أقل من شهادة الأسفار الإلهية؛ لأن مبدعها واحد هو الروح القدس. وإذا كان مصدر شهادة الكنيسة؛ أي التقليد الشريف وشهادة الأسفار الإلهية واحدا فلا مشاحة في أن تعليمها أيضا واحد. ثم إنه إذا تكلم إنسان أيا كان من عنده فمن الممكن أن يخطئ ويضل ويضل، أما الكنيسة الجامعة فإذ كانت لم تتكلم قط ولا تتكلم أبدا من تلقاء نفسها، بل إنها تكلمت وتتكلم من الروح القدس «الذي يغني المعلم أيضا إلى الدهر»، فلا يمكن أصلا أن تخطئ أو تضل أو تضل، بل هي متفقة مع الكتاب الإلهي، وهي ثقة على الدوام فيما تعلمه.
القضية الثالثة:
نؤمن بأن الله الفائق الصلاح منذ الأزل قد اختار البعض فعينهم للمجد ورفض آخرين فسلمهم للدينونة، ولكنه لم يشأ تبرير الأولين ولا دينونة الآخرين على بسيط الحال وبدون علة؛ فإن ذلك لا يليق بالله جل شأنه أبي الكل الذي ليس عنده محاباة الوجوه، إن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (تيموثاوس 2: 4)، بل نظر أن الأولين يستعملون حريتهم حسنا والآخرين رديئا، فأنال أولئك ما عينهم له وقضى على هؤلاء. ونحن إنما نفهم باستعمال الحرية أن النعمة الإلهية المنيرة التي ندعوها إعدادية الموهوبة بفرط الصلاح الإلهي نورا للموجودين في الظلام الذين يريدون أن ينصاعوا لها؛ لأنها إنما تنفع من يريد لا من لا يريد، وأن يرتضوا بما توصي هي به مما هو ضروري للخلاص، نقول إن هذه النعمة تمنحهم نعمة خصوصية تساعدهم وتقويهم وتجعلهم ثابتين في محبة الله؛ أي فيما يريد الله أن يفعلوه من الخير مما فرضته النعمة الإعدادية، وتكملهم وتبررهم وتجعلهم معينين للخير بسابق التحديد. أما الذين لا يريدون أن ينصاعوا للنعمة ويرتضوا بها ومن ثم لا يعملون بما يريد الله أن يفعلوه، بل يستخدمون الحرية التي نالوها من الله لاستعمالها طوعيا في فعل الخير ويستعملونها في الحركات الشيطانية، فهؤلاء يدفع الله إلى الدينونة الأبدية.
أما ما يقوله الهراطقة من أن الله تعالى يسبق فيحدد البعض للخلاص والبعض للدينونة بقطع النظر عن أعمال كل منهم، فإننا نعتبره قولا شنيعا مردودا دنسا جدا، فلو كان ذلك صحيحا لنا قضت الأسفار الإلهية بعضها بعضا؛ لأنها هي تعلم أن المؤمن يخلص بالأعمال، وأن الله تعالى إنما هو السبب بمنحه النعمة المنيرة قبل الأعمال لكي توضح للإنسان حقيقة الإلهيات، وتعلمه أن ينصاع لها إن شاء، ويفعل الخير وما هو مرضي عند الله فينال الخلاص، فالطاعة لله أو عدم الطاعة له لا تقتضيان إرادة الإنسان أو عدم إرادته. أوليس هوسا بل جنونا الزعم بأن الإرادة الإلهية هي علة للأعمال تفعل عفوا أو بدون داع؟ أولا يكون هذا الزعم وشاية بحق الله جل شأنه، وتظلما وتجديفا عليه تعالى، فإننا نعترف بأن الله بريء من الشر يريد خلاص الجميع على السواء، وأنه لعدله يسمح بدينونة للذين ضلوا بسوء إرادتهم وصلابة قلوبهم وعدم توبتهم خطاة دنسين، فلا نزعم البتة بكون الله القائل إنه يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب سببا للعذاب الأبدي وينبوع قساوة وعدم تحنن ومقت للبشر، معاذ الله أن نؤمن بمثل ذلك أو يتبادر فهمنا إليه ما دمنا غير فاقدي الشعور، وإننا نوثق الذين يقولون مثل ذلك ويعتقدون به بالجرم الأبدي ونعترف بأنهم أقبح كل الكافرين.
القضية الرابعة:
نؤمن بأن الله المثلث الأقانيم الآب والابن والروح القدس هو خالق كل ما يرى وكل ما لا يرى، ونعني بما لا يرى القوات الملائكية وكل النفوس الناطقة والشياطين، على أنه من المعلوم أن الله لم يخلقهم شياطين، بل هم من تلقاء إرادتهم أمسوا كذلك.
وبما يرى نعني السماء وكل ما تحتها، ولما كان الخالق - سبحانه وتعالى - كلي الصلاح بالطبع صنع كل ما صنعه حسنا جدا، ولا يمكن أن يكون خالق الشر أصلا، فإن رأينا في الإنسان أو الشيطان شرا ما؛ أي خطيئة حادثة على خلاف الإرادة الإلهية فيكون ذلك صادرا إما عن نفس الإنسان أو نفس الشيطان، فإنه لا شر في الطبيعة مطلقا، وهي قاعدة صادقة ثابتة أن الله ليس بخالق الشر، وبالتالي فلا يحق أن يحكم على الله بخلق الشر.
القضية الخامسة:
نؤمن بأن كل المخلوقات منظورة كانت أم غير منظورة تسوسها العناية الإلهية، فالشرور كيفما كانت يسبق الله فيعرف ويسمح بحدوثها، ولكنها لا تحدث عن عناية له؛ إذ ليس هو خالقها، ولكنه عملا بصلاحه الإلهي يحولها أحيانا بعد حدوثها إلى شيء أفضل على قدر طاقة البشر؛ ولذا فإنه يفرض علينا والحالة هذه أن نحمل العناية الإلهية لا أن نبحث في أحكامها المكنونة وغير المعلنة لنا البتة، بل كل ما سلمتناه الأسفار الإلهية عن هذه العناية الإلهية يجب علينا أن نبحث فيه بطيب خاطر وسلامة ضمير؛ لأنه يجدي نفعا للحياة الأبدية. وبالتالي فإنه يجب أن نقبل المعاني الأولية على الله - سبحانه وتعالى - بدون شك ولا ارتياب فيها.
القضية السادسة:
نؤمن بأن الإنسان الأول المخلوق من الله في الفردوس سقط بغواية الحية وخالف وصية الله، فنتجت الخطيئة الجدية بالتسلسل، فلم يولد أحد بدون أن يكون حاملا على عاتقه هذا العبء ويشعر بعواقب هذه الخطيئة في هذا الدهر. وبقولنا عبئا وعواقب لا نعني الخطيئة كالكفر والتجديف والقتل والعداوة وما شاكل ذلك مما يضاد مشيئة الله لحدوثه لا حدوثا طبيعيا، بل عن خبث إرادة، فإن كثيرين لم يكونوا قد ارتكبوا ما أشبه تلك الزلات كالأجداد والأنبياء وغيرهم وكثيرين لا يحصون عددا ممن عاشوا في شريعة الظل شريعة الحق مثل يوحنا السابق الإلهي، ولا سيما مريم أم كلمة الله الدائمة، بل بقولنا عبئا وعواقب نعني اقتراب الشر منا، وكل ما نال الإنسان بالمعصية من قبل العدل الإلهي قصاصا له كعرق التعب والضيقات والأمراض الجسدية وأمخاض الولادة والعيشة بالشقاء والأتعاب في دار الغربة هذه، وأخيرا الموت الجسدي.
القضية السابعة:
نؤمن بأن ربنا يسوع المسيح ابن الله قد احتمل الإخلاء؛ أعني أنه قبل في أقنومه الخاص البشرة؛ إذ حبل به من الروح القدس في بطن الدائمة البتولية مريم، وتأنس وولد دون أن يسبب وجعا أو مخاضا بمن صارت أمه بالجسد أو أن ينزع بتوليتها. وأنه تألم وقبر وقام بمجد في اليوم الثالث على ما في الكتب وصعد إلى السماء وحبس عن يمين الله الآب، ونحن ننتظر مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات.
القضية الثامنة:
نؤمن بأن ربنا يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد، وأنه بذل نفسه فداء عن الكل وأجرى بدمه الخاص المصالحة بين الله والناس، وأنه يعتني بخاصته فهو المعزي والكفارة عن خطايانا، ونعترف أيضا بأن القديسين هم شفعاء في صلواتهم وتوسلاتهم إلى الرب، ولا سيما أم كلمة الله الكلية الطهارة والملائكة القديسين الذي نعتبرهم شفعاء لنا والرسل والأنبياء والشهداء والأبرار، وكل الذين مجدهم الله جل جلاله لكونهم خداما أمناء له، ونحصي في مصافهم رؤساء الكهنة والكهنة أيضا لكونهم أشخاصا دأبهم المثول أمام المذبح الإلهي، وكذلك الرجال الصديقون المختارون بفضائلهم؛ وذلك لأننا نتعلم من الأقوال الإلهية أن نصلي بعضنا من أجل بعض، وأن صلاة الصديق تقتدر كثيرا، وأن الله يستجيب للقديسين أكثر مما يستجيب للمنغمسين في الخطايا، ونعترف أيضا بأن القديسين لا يكونون وسطاء وشفعاء وهم في دار الغربة هذه فقط، بل بعد الموت أيضا وخاصة متى تخلصوا من المرآة فصاروا يشاهدون عيانا الثالوث الأقدس الذي بنوره غير المحدود تنجلي لأذهانهم معرفة شئوننا. لأننا كما لا نرتاب بأن الأنبياء وهم بالأجساد يعلمون الأمور السماوية، وبه يوحون إلى الناس المستقبلات، كذلك لا نشك بأن الملائكة أيضا ومن أصبحوا كالملائكة من القديسين يعلمون أمورنا بواسطة ذلك النور الإلهي الذي لا حد له، بل بالأحرى نؤمن نحن بذلك ونعترف به من دون أدنى ارتياب.
القضية التاسعة:
نؤمن بأن لا أحد يخلص بدون إيمان، والإيمان في عرفنا هو الاعتقاد القويم بالله ولا بإلهيات، فهذا الإيمان عندما يفعل بالمحبة؛ أي بالوصايا الإلهية، يبررنا لدى المسيح، وبدونه لا يمكن أن نسترضي الله.
القضية العاشرة:
نؤمن بأن الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية الأرثوذكسية التي تعلمنا أن نؤمن بها تضم في أحضانها كل المؤمنين بالمسيح عموما؛ أي الموجودين في دار الغربة هذه ولم ينتقلوا بعد إلى الوطن السماوي. فبعض الهراطقة يتوهمون أننا نخلط بين الكنيسة التي في دار الغربة هذه والتي في الوطن؛ وذلك لأن أعضاءهما هم خراف لله رئيس الرعاة، وأنهم يتقدسون بالروح القدس الواحد. ولكن زعمهم هذا لا محل له وهو غير ممكن، فالأولى من الكنيستين لا يزال تجاهد إلى الآن وهي في الطريق، والثانية قد حازت الظفر ونالت الجائزة واستقرت في الوطن، ولما كان غير ممكن للإنسان المائت أن يكون رأسا أبديا لهذه الكنيسة الجامعة كان من الواضح أن رأسها هو ربنا يسوع المسيح نفسه القابض بيمينه على إدارتها ومدبرها بالآباء القديسين، ومن ثم جعل الروح القدس لكل كنيسة على حدة من الكنائس التي يحق أن تدعى كنائس، وهي مؤلفة من أعضاء حقيقيين مدبرين ورعاة هم رؤساء على وجه الحقيقة لا المجاز ينظرون إلى رأس خلاصنا مكملة وإليه وحده يعزون إتمام الفعل المختص بالرئيس. إن الهراطقة قد أضافوا إلى بدعهم الشنيعة اعتقادهم بأن الكاهن ورئيس الكهنة هما واحد لا فرق بينهما، وأنه يمكن على ذلك أن يستغنى بالأول عن الثاني، وأن الكنيسة تساس بواسطة بعض الكهنة فقط، وأن كاهنا يمكنه أن يشرطن كاهنا، وأن عددا من الكهنة يشرطنون رئيس كهنة.
وعن خبث يزعمون متشدقين بأن الكنيسة الشرقية تشاركهم بهذا الاعتقاد، أما نحن فاستنادا إلى رأي الكنيسة الشرقية منذ القديم نعترف بأن رتبة رئيس الكهنة هي بهذا المقدار ضرورية للكنيسة، حتى إنه بدونه لا يمكن وجود كنيسة ولا وجود مسيحي أو تسميته بذلك، فإن رئيس الكهنة بصفته خليفة للرسل وبنواله على التسلسل من الرب بوضع الأيدي واستدعاء الروح القدس موهبة الحل والربط الممنوحة لهم، إنما هو صورة لله حية على الأرض وبمساهمته كمال فعل الروح القدس هو مصدر لجميع أسرار الكنيسة الجامعة التي بها ننال الخلاص، فأصبح وجوده في الكنيسة والحالة هذه ضروريا بمقدار ما التنفس ضروري للإنسان والشمس للعالم؛ ولذلك حق لقوم أن يقولوا في مديح رتبة رئيس أنه كما يعتبر الله في كنيسة الأبكار السماوية والشمس في العالم، كذلك يعتبر كل رئيس كهنة في كنيسته على حد سوى؛ لأن الرعية تتلألأ به وتزهر وتصير هيكلا لله.
ومن الواضح أن سر الأسقفية العظيم ودرجتها يمنحان بالخلافة إلى يومنا هذا، فإن الرب بقوله إنه سيكون معنا إلى الأبد، مع كونه معنا على طرق لنعمته وإحساناته غير هذه متنوعة، إنما يقصد أنه يختصنا بذاته ويكون معنا بواسطة شرطونية الأسقفية، وأنه يتحد بنا بواسطة الأسرار المقدسة التي يتممها بواسطة الروح ويرأس حفلتها الأسقف الذي لا يدع أن نسقط في الهرطقة. ولذا قال يوحنا الدمشقي في رسالته الرابعة إلى أهالي أفريقية إن الأساقفة عموما قد ائتمنوا على الكنيسة بأسرها، وأن كليمنضوس أول أساقفة رومة وأفذويوس أسقف أنطاكية ومرقس أسقف الإسكندرية يعترف بكونهم خلفاء بطرس، والقديس أندراوس أقام استاخيس خليفة له في كرسي القسطنطينية، وفي أوروشليم المدينة العظمى المقدسة أقام السيد له المجد يعقوب خليفة وبعد يعقوب قام أسقف آخر ثم آخر وهكذا حتى يومنا هذا. وعلى ذلك دعا في رسالته إلى بابيانوس كل الأساقفة خلفاء للرسل، وأفسابيوس الملقب بمفيلس يشهد بخلافة الأساقفة للرسل وبكون منزلتهم وسلطانهم رسوليين، ويشهد بذلك الآباء القديسون أيضا عموما الذين لا حاجة إلى تعدادهم، وتؤكدها العادة الجارية منذ القديم في الكنيسة الجامعة.
ومن الواضح أيضا أن درجة الأسقف تمتاز عن درجة الكاهن البسيط، فإن الكاهن يشرطن من الأسقف، وأما هذا فلا يشرطن من الكاهن، بل اتباعا للقانون الرسولي يشرطن من رئيسي كهنة أو ثلاثة، والكاهن ينتخب من الأسقف، وأما رئيس الكهنة فلا ينتخب من الكهنة؛ أي القسوس، ولا من ذوي المناصب والرتب المدنية ولو امتازوا بالفضيلة، بل من مجمع الكنيسة الكبرى التي في الإقليم الواقعة فيه المدينة المراد إقامة أسقف لها أو على الأقل من مجمع الأبرشية التي يقام لها الأسقف، فإن حدث أحيانا أن تنتخب مدينة ما أسقفا فلا يتم ذلك بمجرد انتخابها؛ لأن الانتخاب يعرض إذ ذاك على المجمع، فإذا رأى الانتخاب قانونيا يشرطن المنتخب بوضع أيدي الأساقفة واستدعاء الروح القدس عليه، وإلا فينتخب المجمع من يشاء فيشرطن ويرقى إلى درجة الأسقفية، ثم إن الكاهن يحفظ في نفسه فقط سلطان الكهنوت ونعمته التي حصل عليها، وأما رئيس الكهنة فيهبها لغيره أيضا، ومن نال من رئيس الكهنة رتبة الكهنوت فيحق له أن يتمم سر المعمودية المقدسة وصلاة الزيت المقدس والذبيحة غير الدموية، ومناولة الشعب جسد ربنا يسوع المسيح ودمه الأقدسين، ومسح المعمدين بالميرون المقدس وتكليل الذين يتزوجون زواجا شرعيا من الحسني العبادة والصلاة من أجل المرضى، ومن أجل خلاص كل الناس وإقبالهم إلى معرفته، وخاصة من أجل ترك وغفران خطايا الحسني العبادة من أحياء وأموات. وإن امتاز بالخبرة والفضيلة فبعد أن يأخذ السلطان عن الأسقف يسوغ له أن يصلح من يقصده من المؤمنين ويقودهم إلى سبيل الفوز بالملكوت السماوي، ويقام واعظا في البيعة المقدسة. أما رئيس الكهنة فعلاوة على تتميمه كل ما يتممه الكاهن؛ لأنه مصدر للأسرار الإلهية ومواهب للروح القدس كما تقدم القول، يحق له وحده أن يصنع الميرون المقدس، وله وحده يحق أن يشرطن ويمنح الرتب والدرجات الكنسية، وله وحده يحق على وجه خاص ومن باب أولى أن يربط ويحل، وحكمه حسن القبول عند الله حسب قول الرب وتعليم الإنجيل المقدس، وهو يناضل عن الإيمان المستقيم ويطرد المخالفين من حظيرة الكنيسة كوثنيين وعشارين ويرشق الهراطقة بالحرم والأناثيما ويبذل نفسه عن الخراف. ومما تقدم يتضح لنا جليا الفرق بين الكاهن البسيط ورئيس الكهنة، وعدم مقدرة كل كهنة العالم على رعاية كنيسة الله وتدبيرها بدون رئيس كهنة.
وقد أحسن أحد الآباء بقوله إنه ليس بأمر هين أن نجد هرطوقيا حكيما عاقلا، فإن الهراطقة بتركهم الكنيسة تركهم الروح القدس فلم يبق عندهم حكمة ولا نور، بل ظلام وصلابة قلب, ولولا ذلك لما اعترضوا على أوضح الأمور التي منها سر الأسقفية العظيم حقا, وقد علمتنا عنه وأثبتته وأكدته لنا الأسفار الإلهية وكل التواريخ الكنسية والآباء القديسون في مؤلفاتهم، ولا تزال الكنيسة الجامعة تتعاطاه وتعترف به.
القضية الحادية عشرة:
نؤمن بأن أعضاء الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية إنما هم المؤمنون كلهم، الذين يعتقدون اعتقادا لا يخامره ريب بإيمان مخلصنا يسوع المسيح الذي لا عيب فيه. وهذا الإيمان قد أعلنه المسيح نفسه والرسل الأطهار والمجامع المسكونية المقدسة، ولئن كان بعضهم قد سقط تحت طائلة خطايا متنوعة؛ لأن مثل هؤلاء لو لم يكونوا أعضاء للكنيسة لما كانت الكنيسة تحكم عليهم. والآن فإذا كانت الكنيسة تحكم عليهم وتدعوهم إلى التوبة والندامة، وتقودهم إلى اتباع الوصايا الخلاصية، فإنهم لعدم قنوطهم وقطع رجائهم ولمثابرتهم على الاعتصام بإيمان الكنيسة الجامعة القويم مع كونهم مدنسين بالخطايا لا يزالون أعضاء للكنيسة الجامعة وهكذا تعرفهم هي.
القضية الثانية عشرة:
نؤمن بأن الكنيسة الجامعة إنما تتعلم من الروح القدس، فإنه هو المعزي الحقيقي الذي يرسله المسيح من عند الآب ليعلم الحق ويطرد الظلام عن أذهان المؤمنين، وتعليمه يزين الكنيسة بواسطة آباء الكنيسة الجامعة القديسين ورؤسائها، فإنه كما أن الأسفار الإلهية بأسرها هي كلام الروح القدس، وهكذا تدعى لا لأن الروح القدس نطق بها رأسا، بل بواسطة الرسل والأنبياء، كذلك الكنيسة تتعلم من الروح القدس المحيي، وذلك بواسطة الآباء القديسين ومعلمي الكنيسة الذين من المقرر أن دستورهم هو المجامع المسكونية المقدسة، ولا أزال أكرر ذلك مرارا كثيرة. ولذلك قد اقتنعنا بأن الكنيسة الجامعة لا يمكن أن تخطئ أو تضل أو تؤثر حينا ما الكذب على الصدق، بل نقر معترفين بصدق أقوالها وصحتها لا محالة، فإن الروح القدس الذي يفصل دائما بواسطة الآباء القديسين والرؤساء الخادمين بأمانة يقي الكنيسة من كل ضلال.
القضية الثالثة عشرة:
نؤمن بأن الإنسان لا يبرر بمجرد الإيمان، بل بالإيمان المقرون بالمحبة؛ أي بالإيمان والأعمال. وأما الزعم بأن الإيمان الخالي من الأعمال يتم به تبريرنا بالمسيح فنبلغ الخلاص، فمثل هذا الأمر نعتبره بعيدا عن كل صحة في الاعتقاد وحسن العبادة، فلو كان الإيمان على هذه الصفة لكان شائعا لكل الناس وكان الكل يخلصون، وهذا كذب محض. فنحن نؤمن بأننا لا بالإيمان وحده نبرر بالمسيح، بل بالإيمان المقرون بالأعمال. وهذه الأعمال ليست بشهود تثبت ميلنا، بل هي أثمار قائمة بذاتها وبها الإيمان يأخذ صورة عمله ظاهرة، لينال كل واحد من المؤمنين حسب الوعد الإلهي ما يقتضيه عمله، وهو في الجسد خيرا كان أم شرا.
القضية الرابعة عشرة:
نؤمن أن الإنسان قد تهور بعصيانه فماثل البهائم وأشبهها؛ أي إنه شوه صورته وسقط من رتبة الكمال وعدم التألم، ولكنه لم يجرد عن الطبيعة والفاعلية اللتين نالهما من الله الكلي الصلاح؛ لأنه لو تجرد منهما لم يكن بعد ناطقا، بل لم يكن إنسانا. ولذا نؤمن بأنه حائز على تلك التي بها خلق وعلى فاعليتها، وهي الحرية حية فعالة إلى درجة أنه يقدر بطبيعته أن يختار الخير ويكره الشر ويهرب منه. فلا يليق بنا والحالة هذه أن نزعم أن الطبيعة الصالحة المخلوقة من الله الكلي الصلاح هي عادمة الفاعلية الصالحة؛ لأننا بزعمنا هذا نعتقد بأن الطبيعة رديئة، فإن فاعلية طبيعة الإنسان تكون على ذلك معلقة، وأما طبيعة الخالق فلا، ولئن اختلفت الطريقة. أما كون الإنسان يستطيع أن يعمل الخير من تلقاء طبيعته الذاتية فإن السيد له المجد أشار إلى ذلك بقوله: إن الوثنيين أيضا يحبون الذين يحبونهم، وبولس الرسول علم بذلك في رسالته إلى رومة (1: 19) وفي مواضع أخرى حيث قال: إن الأمم الذين ليس لهم ناموس يعملون بالطبيعة بما في الناموس ، فيتضح من ذلك أن الخير الذي يعمله الإنسان لا يمكن أن يكون خطيئة؛ لأن الخير لا يمكن أن يكون شرا. على أن الخير عندما يجري بمجرد الطبيعة ويغدو بتعاطيه جسديا لا روحيا لا يفيده شيئا، وهو مجرد بدون إيمان لأجل الخلاص، ولا يفضي بالإنسان إلى الدينونة؛ لأن الخير إن كان خيرا فحاشا أن يكون مصدرا للشر. وهذا الخير عند الذين أعيدت ولادتهم بالنعمة يجعل من يفعله بالنعمة كاملا أهلا للخلاص. فالإنسان إذن يستطيع قبل إعادة ولادته أن يميل بطبيعته إلى الخير، وأن يختار ويفعل الخير الأدبي، ولكنه بعد إعادة ولادته فلكي يعمل الخير الروحي، وإنما نسمي أعمالا روحية أعمال المؤمن المسببة الخلاص المفعولة بنعمة خارقة الطبيعة، يلزمه أن تسبق وتدركه النعمة كما قلنا آنفا في كلامنا عن سابق التحديد بحيث لا يستطيع الإنسان من تلقاء نفسه أن يعمل عملا يكون به أهلا للحياة المسيحية، ولكنه يستطيع على إرادة الرضوخ للنعمة أو عدم إرادة ذلك.
القضية الخامسة عشرة:
نؤمن بأن الأسرار الإنجيلية في الكنيسة إنما هي سبعة، وأن عددها في الكنيسة لا ينقص عن ذلك ولا يزيد، وما خالف هذا العدد في الأسرار هو بدعة هوس شنيعة. وهذه الأسرار السبعة قد اشترعها نفسه كسائر عقائد إيمان الكنيسة، فإن المعمودية المقدسة قد فرضها الرب بقوله: اذهبوا وتلمذوا كل الأمم معمدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس (متى 28: 19). وبقوله: من آمن واعتمد يخلص ومن لم يؤمن يدان (مرقس 16: 16).
وسر الكهنوت سلمه بقوله: اصنعوا هذا لذكري (لوقا 22: 19)، وقوله: كل ما تربطونه أو تحلونه على الأرض يكون مربوطا أو محلولا في السماء. (متى 18: 18).
وسر الذبيحة الأفخارستية الغير الدموية فقد سلمنا إياه بقوله: خذوا كلوا هذا هو جسدي، واشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد (متى26: 26-28)، وبقوله: إن لم تأكلوا جسد ابن البشر وتشربوا دمه فلا حياة لكم في أنفسكم (يوحنا 6: 53).
وسر الزواج سلمه بذكره ما قيل عنه في العهد القديم بقوله تثبيتا لذلك: ما جمعه الله فلا يفرقه إنسان (متى 19: 6). وبولس الرسول يدعوه سرا عظيم (أفسس 32: 5).
وسر التوبة الذي حليفه سر الاعتراف سلمه لنا بقوله: من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت (يوحنا 20: 23)، وقوله: إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون (لوقا 13: 3).
وسر الزيجة المقدس المعروف باليونانية بأفشيليون قد ورد ذكره في مرقس البشير (6: 13)، وأثبته يعقوب أخو الرب في رسالته جليا (5: 14 و15).
أما الأسرار فهي مؤلفة من شيئين طبيعي وخارق الطبيعة، وليست هي علامات بسيطة لمواعيد الله، بل نعترف بأنها أثر للنعمة نافذة بالضرورة ومؤثرة فيمن يتلقن معرفة الأسرار. ونرفض الزعم بأن كمال السر يقتضي تناول المادة الطبيعية، ونعتبر ذلك غريبا عن التعليم المسيحي؛ لأنه مناقض لسر الأفخارستية الذي سن بما قاله المخلص نفسه وتقدس باستدعاء الروح القدس، فكملت به استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وهذا الكمال يتقدم على التناول؛ لأنه لو لم تكن الاستحالة كاملة قبل التناول لما كان من أساء في التناول يأكل ويشرب دينونة لنفسه متناولا خبزا وخمرا بسيطين، فبتناوله إياهما بدون استحقاق إنما يأكل ويشرب دينونة لنفسه، فالسر إذن يكمل لا حين التناول بل قبله. وكذلك نرفض الزعم بأن السر يخسر كماله بتناوله بقلة إيمان وننبذ ذلك نبذ قذارة ورجاسة؛ فإن الهراطقة الذين بعد رفضهم بدعهم وانضمامهم إلى الكنيسة الجامعة تقبلهم الكنيسة مع عدم كمال إيمانهم تعتبر معموديتهم كاملة، بحيث لا تعيد معموديتهم متى كمل إيمانهم.
القضية السادسة عشرة:
نؤمن بأن المعمودية المقدسة المأمور بها من الله التي تتم باسم الثالوث الأقدس هي من أعظم الضروريات، فإنه ليس أحد يستطيع أن يخلص بدونها حسب قول الرب: «إن لم يولد أحد من الماء والروح فلا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات» (يوحنا 3: 5). وهي على ذلك ضرورية للأطفال أيضا؛ لأنهم هم أيضا تحت طائلة الخطية الجدية وبدون المعمودية لا يمكنهم أن ينالوا المغفرة عنها. والرب تأكيدا لذلك لم يستعمل التقييد في كلامه في ذلك، بل الإطلاق والتعميم قائلا: من لم يولد، أعني كل الذين يدخلون بعد مجيء مخلصنا المسيح إلى ملكوت السماوات، يجب أن يولدوا ثانية. فإن كان الأطفال بشرا وكانوا محتاجين إلى الخلاص فإنهم محتاجون إلى المعمودية أيضا، ومن لا يتعمد منهم فهو لعدم نواله المغفرة عن الخطيئة الجدية لا يزال تحت قصاص الخطيئة الأبدي اللازم عنها؛ وعلى التالي لا خلاص له بدون المعمودية. ومن ثم كان من باب الضرورة أن يعمدوا. وقد ورد عن خلاص الأطفال قول متى البشير: «ومن لا يعتمد لا يخلص.» فمن الضروري على ذلك تعميد الأطفال. وقد ورد أيضا في أعمال الرسل (16: 33) قوله: إن البيوت برمتها كانت تعتمد؛ أي بأطفالها. وقد شهد بذلك الآباء القديسون شهادة صريحة، منهم ديونيسوس في مؤلفه المعنون «في الرئاسة الكهنوتية» ويوستينوس في المطلب السادس والخمسين حيث يقول صريحا عن الأطفال إنهم يستحقون ما يترتب على سر المعمودية من الخيرات بإيمان مقدميهم إلى المعمودية، وأفغوستينوس يقول: «إن من التقليدات الرسولية أن يخلص الأولاد بالمعمودية.» وفي موضع آخر يقول: «إن الكنيسة تجعل للأطفال أرجل الغير لكي يأتوا إليها، وقلوب الغير لكي يؤمنوا، وألسنة الغير لكي يعدوا.» ويقول أيضا: «إن الأم الكنيسة تمنح أولئك قلوب أمهات.»
وسر المعمودية إنما يجري بالمواد بالماء الصافي لا بسائل آخر، ويتم على يد كاهن. وعند الضرورة القصوى يجوز أن يتم على يد إنسان غيره علماني شرط أن يكون أرثوذكسيا قاصدا الغاية الملائمة لجوهر المعمودية المقدسة.
أما فوائد المعمودية فهي بالإجمال هذه؛ أولا: مغفرة الخطيئة الجدية وكل ما يكون قد ارتكبه المعتمد من الخطايا. ثانيا: النجاة من العقاب الأبدي الذي يكون مقتضيا به عليه إما بسبب الخطيئة الجدية أو الخطايا المميتة التي يكون قد ارتكبها. ثالثا: منح غبطة الخلود؛ لأن المعمودية تبرر الإنسان من الخطايا السالفة وتجعله هيكلا لله فلا يسمح لنا والحالة هذه بأن نقول إن الخطايا التي يكون الإنسان قد ارتكبها قبل المعمودية لا تحل كلها، بل تلبث ولكنها لا تقوى، فإن هذا الزعم مفعم من معظم الكفر وهو مناف لحسن العبادة على خط مستقيم. بل نقول إن كل خطيئة سبقت المعمودية أو ارتكبها الإنسان قبلها تضمحل بها وتعتبر كأنها لم تكن أو لم تحدث ؛ لأن الرمزين الدالين على سر المعمودية وكل العبارات المقبولة التي تدل على كل منهما تجعل السر كاملا وتشير إلى كمال التطهير.
ثم إن أسماء المعمودية أيضا تظهر وتوضح ذلك، فإن كانت معمودية بالروح والنار فمن الواضح أن التطهير للجميع يكون كاملا؛ لأن الروح يطهر تطهيرا كاملا، وإن كان نور فالظلام ينحل وإن كان إعادة ولادة فالقديم يزول، وليس هذا القديم إلا الخطايا. وإن كان المعتمد ينزع الإنسان العتيق فيكون بذلك قد خلع الخطيئة أيضا. وإن كان يلبس المسيح فيكون قد أصبح بالفعل بواسطة المعمودية بلا خطيئة؛ لأن الله بعيد عن الخطاة، وبولس الرسول يعلم بأجلى بيان قائلا: لأنه كما أنه بمعصية إنسان واحد جعل الكثيرون خطاة؛ كذلك بطاعة واحد يجعل الكثيرون أبرارا. فإن كنا أبرارا فنحن معتقون من الخطيئة؛ لأنه من المستحيل اجتماع الحياة والموت، وإن كان المسيح قد مات حقا فالمغفرة بالروح هي أيضا حقيقية. فمن ثم يتضح أن كل الأطفال الراقدين بعد تعميدهم يخلصون لا محالة؛ لأنهم قد أعدوا لذلك من ذي قبل بموت المسيح، فإن عري الأطفال من كل خطيئة من الخطيئة العمومية تخلصهم بواسطة الحميم الإلهي من الخطايا الخاصة لتعذر ارتكابهم شيئا منها، وهم لا إرادة لهم فعلا، فلا ريب بأنهم يخلصون. ثم إن للمعمودية تأثيرا لا يمحى، فإن من اعتمد مرة معمودية صحيحة لا يمكن أن تعاد معموديته ثانية ولو ارتكب خطايا لا يحصى عددها، بل لو اتصل إلى جحود الإيمان نفسه، فإنه إن أراد إذ ذاك الرجوع إلى الرب لنال بواسطة الندامة التبني الذي يكون قد أضاعه.
القضية السابعة عشرة:
نؤمن بأن سر الأفخارستية الكلي قدسه الذي جعلناه فيما تقدم رابعا في تعداد الأسرار هو ذاك السر بعينه سلمه الرب في الليلة التي فيها أسلم نفسه فداء عن حياة العالم، فإنه أخذ حينئذ الخبز وبارك وأعطى تلاميذه الرسل القديسين قائلا: «خذوا كلوا هذا هو جسدي»، وأخذ الكأس وشكر وقال: «اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي يهرق عنكم لمغفرة الخطايا» (متى 26: 26-27). ونؤمن أنه في تكميل هذا السر يحضر ربنا يسوع المسيح لا على وجه رمزي أو على سبيل التشخيص أو بفرط نعمة كما يحضر في باقي الأسرار، وأنه لا يحضر حضورا مجردا كما قال بعض الآباء عن حضوره في سر المعمودية، ولا على سبيل الامتزاج بحيث يتحد لاهوت الكلمة بخبز الأفخارستية أقنوميا كما يعتقد أتباع لوثيروس عن جهل وغرور، بل حضورا حقيقيا فعليا، حتى إنه بعد تقديس الخبز والخمر ينقلب ويستحيل ويغدو. أما الخبز فنفس جسد الرب المولود في بيت لحم من الدائمة بتوليتها مريم والمعتمد في الأردن والمتألم والمدفون والناهض من بين الأموات والصاعد إلى السماء والجالس عن يمين الآب، والمزمع أن يأتي على سحب السماء. وأما الخمر فيستحيل ويغدو نفس دم الرب الحقيقي الذي أريق عن حياة العالم على عود الصليب.
ونؤمن أيضا أنه بعد تقديس الخبز والخمر لا يبقى جوهرهما المادي، بل يغدوان نفس جسد الرب ودمه تحت هيئة الخبز والخمر.
ونؤمن أيضا بأن جسد الرب ودمه الطاهرين يناولان ويدخلان في أفواه ومعد المشتركين فيهما سواء حسنت عبادتهم أم ساءت، غير أنهما يمنحان من يتناولهما عن حسن عبادة واستحقاق مغفرة الخطايا والحياة الأبدية، ومن يتناولهما عن سوء عبادة وغير استحقاق فدينونة وعذابا أبديا.
ونؤمن أيضا بأن جسد الرب ودمه يجزآن ويفصلان، ولكن ذلك يجري عليهما على سبيل العرض العارض للخبز والخمر اللذين نظن بأنهما منظوران وملموسان، غير أنهما يلبثان بنفسهما غير منقطعين ولا مقسمين البتة؛ ولذلك تقول الكنيسة الجامعة: «يفصل ويجزأ حمل الله الذي يفصل ولا ينقسم الذي يؤكل دائما ولا يفرغ أبدا، ولكنه يقدس المشتركين باستحقاق.»
ونؤمن أيضا بأن كل جزء وقطعة من الخبز والخمر المستحيلين مهما كان صغيرا ليس هو بجزء من جسد الرب ودمه، بل هو كل السيد المسيح بجملته هو بنفسه ولاهوته إلها تاما وإنسانا تاما. ومن ثم فبإقامته قداديس عديدة في ساعة واحدة في المسكونة كلها لا يكون أجساد متعددة للمسيح، بل يحضر المسيح نفسه الواحد حضورا حقيقيا فعليا، ويكون كلا جسده ودمه واحدا في كل كنائس المؤمنين المتفرقة الأماكن. ولا نقصد بكلامنا هذا أن جسد السيد الموجود في السماوات ينزل ويحل على المذابح، بل إن خبز التقدمة المقدم في كل الكنائس المتفرقة الأماكن يستحيل ويتبدل بعد التقديس فيصير نفس جسده الذي في السماوات؛ لأن جسد الرب في كل الأماكن المتعددة هو واحد لا متعدد؛ ولذلك كان هذا السر عجيبا، ويدعى عجيبا، وإنما يدرك بالإيمان لا بسفسطات الحكمة البشرية التي ديانتنا الحسنة العبادة والمسلمة من الله ترفض ميلها الباطل الناشئ عن جهل وغباوة إلى استطلاع الأمور الإلهية والتنقيب عنها بنور العقل البشري.
ونؤمن أيضا بوجوب تكريم جسد الرب ودمه الذين في سر الأفخارستية مزيد الإكرام، وأن نسجد لهما سجود عبادة، فإن السجود للرب ولجسد ودم الرب واحد. ونؤمن بأنه ذبيحة حقيقية تكفيرية تقرب عن كل المسيحيين الحسني العبادة الأحياء والأموات، ومن أجل منفعة الجميع كما ورد في صلوات هذا السر المسلمة من الرسل إلى الكنيسة عن أمر الرب الصادر لهم.
ونؤمن أيضا بأن الخبز المقدس المحفوظ في مستودعات الهياكل لمناولة المشرفين على الموت بعد تقديسه وقبل تناوله هو أيضا نفس جسد الرب الحقيقي، لا يفرق عنه أصلا بحيث يغدو بعد التقديس وقبل مناولته وحال تناوله وبعد تناوله نفس جسد الرب الحقيقي بكل الوجوه.
وبحسب اعتقادنا لا نعني بكلمة استحالة الكيفية التي بها ينقلب الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه؛ فإن ذلك يتعذر إدراكه أصلا على الجميع ما عدا الله تعالى وينسب إلى المعتقدين به الجهل والكفر. بل إنما نعني بها أن الخبز والخمر بعد تقديسهما يتحولان إلى جسد الرب ودمه لا على وجه الرسم ولا على سبيل التشخيص، ولا بفرط النعمة ولا بشركة لاهوت الله الوحيد أو حضوره فقط، ولا بطريق العرض؛ أي عرض الخبز والخمر يغدوا عرضا لجسد المسيح ودمه على سبيل التحويل أو التبديل، بل يغدو حقيقة وفعلا وجوهريا، أما الخبز فنفس جسد الرب، وأما الخمر فنفس دمه كما تقدم.
ونؤمن أيضا بأن سر الأفخارستية المقدس إنما يتم على يد كاهن حسن العبادة مشرطنا قد منح درجة الكهنوت من أسقف قانوني حسن العبادة على مقتضى تعليم الكنيسة الرسولية، فهذا رأي الكنيسة الجامعة واعترافها الصادق وتقليدها القديم جدا في هذا السر أيضا على وجه الإيجاز. ولا يجب أن يشوه مطلقا على أي وجه كان من قبل حسني العبادة عن رغبة في الأحداث وميل إلى بدع الهراطقة الرجسة وانتحالها، بل يجب أن يحفظ التقليد المفروض المسلم سالما ثابتا غير متزعزع؛ لأن الكنيسة الجامعة ترفض وتحرم كل من يخالفه.
القضية الثامنة عشرة:
نؤمن بأن نفوس الراقدين هي إما في الراحة أو في العذاب بمقتضى عمل كل منهم، فإنها بعد انفصالها عن الأجساد تنتقل في الحال إما للفرح والسرور وإما للحزن وتنفس الزفرات. ومن المقرر أن لا الفوز يكون إذ ذاك كاملا ولا الدينونة، فإن كل واحد ينال ما يستحقه بفعله من الجزاء كاملا بعد القيامة العامة حين تتحد النفس بالجسد الذي سلكت وهي فيه سلوكها الحسن أو الردي.
أما الذين فسدوا بخطايا مميتة ولم يرقدوا على اليأس، بل نادمين في حال حياتهم وهم في الأجساد بعد، ولكنهم لم يلحقوا أن يأتوا بشيء من ثمار التوبة كذرف العبرات والسهر في الصلوات والحزن وتعزية الفقراء، وأخيرا إظهار المحبة لله وللقريب بالفعل، فنؤمن أن نفوس هؤلاء أيضا تذهب إلى الجحيم حيث تكابد القصاص عما ارتكبته من الخطايا، ولكنها تشعر بمستقبل النجاة منه. ونؤمن أيضا بأن هذه النفوس تخلص بفرط الصلاح الإلهي بواسطة صلوات الكهنة والصدقات التي يعملها أقارب المتوفى من أجله، ولا سيما الذبيحة الغير الدموية التي تقدمها الكنيسة الجامعة الرسولية خصوصا عنه وذلك بطلب أقاربه وعموما عن الجميع كل يوم. ومن المعلوم أن زمن النجاة غير معلوم عندنا، ولكننا نعلم ونؤمن أن عتق مثل هذه النفوس من عذاباتها يكون قبل القيامة والدينونة العامة جاهلين تعيين وقته.
هل يباح لكل من المسيحيين عموما أن يقرأ الكتاب المقدس؟
كلا؛ لأننا نعرف أن الكتاب المقدس بجملته موحى به من الله ومفيد، وهو بهذا المقدار ضروري بحد نفسه حتى إنه بدونه لا يستطيع الإنسان أن يحسن عبادته على وجه ما، ولكننا لا نرى أن الجميع يمكنهم قراءته بسهولة قراءة تفيدهم، بل الذين بالبحث اللائق يتعمقون في معاني الروح ويعرفون كيف يبحث في الكتاب المقدس، وكيف يقرأ بوجه الإجمال؛ ومن ثم كان من المسموح لكل إنسان حسن العبادة أن يسمع تعليم الكتاب المقدس لكي يؤمن بالقلب للبر ويعترف بالفم للخلاص، ولكنه يحظر عليه أن يقرأ بعض مواضع من الكتاب المقدس، لا سيما العهد العتيق للأسباب السابق ذكرها وما أشبهها. وتوصية عديمي الخبرة بعدم قراءة كل الكتاب المقدس هي موازية تماما لتوصية الأطفال بعدم اتخاذ قوت قوي.
هل الكتاب المقدس واضح المعنى لكل من يقرؤه من المسيحيين؟
لو كان الكتاب المقدس واضح المعنى لكل من يقرؤه من المسيحيين لما كان الرب له المجد سمح بالبحث عنه للراغبين في نوال الخلاص، ولكان باطلا قول بولس الرسول: إن موهبة التعليم قد جعلت في الكنيسة، ولما قال بطرس الرسول عن رسائل بولس الرسول: إن فيها ما يعسر فهمه، فيتضح جليا أن من المعاني ما هو عويص وسام جدا، وأن البحث فيه يختص برجال متألهي الألباب وذوي علم قانون لإدراكه على وجه الحقيقة ولمعرفته معرفة صحيحة وفهمه فهما مطابقا لكل فحاويه ولمقصد مبدعه الروح القدس. وبناء على ذلك فإن الذين قد أعيدت ولادتهم وإن كانوا معتصمين بالإيمان بالثالوث الأقدس وعاملين ومعترفين بتجسد ابن الله وآلامه، وقيامته وصعوده إلى السماء وما قيل عن تجديد الكون والدينونة مما لم يحجم كثيرون منهم عن احتمال الموت لأجلها لا يلزمهم، بل يتعذر عليهم أن يعرفوا تلك الأمور أيضا التي إنما كشفها الروح القدس للذين تمرنوا بالحكمة وتروضوا بالقداسة.
كيف يجب أن نعتقد بالأيقونات المقدسة وبالسجود للقديسين؟
لما كان القديسون كما قلنا في القضية الثامنة شفعاء - وهكذا تعتبرهم الكنيسة الجامعة - صح لنا أن نقول: إننا نكرمهم كأصفياء لله مبتهلين من أجلنا إلى إله الكل، ونحن نكرمهم على نوعين؛ الواحد: ندعوه فرط العبودية وهو تكريم أم كلمة الله، فإن والدة الإله وإن تكن أمة للإله الواحد فهي أمه لولادتها أحد أقانيم الثالوث بالجسد، وعلى ذلك تسبح كفائقة على كل الملائكة والقديسين بغير قياس، ومن ثم نقدم لها سجود فرط عبودية. والثاني: إكرام مجرد عبودية نقدمه ساجدين للملائكة والرسل والأنبياء والشهداء وكل القديسين عموما.
وكذلك نسجد لعود الصليب المحيي الكريم الذي تألم عليه مخلصنا لخلاص العالم، وكذلك لرسم الصليب المحيي، ولمذود بيت لحم الذي به خلصنا من البهيمية، ولموضع الجلجلة والقبر المقدس المانح الحياة ولسائر المزارات المقدسة والأناجيل الشريفة والأواني المقدسة التي بها تتم الذبيحة غير الدموية. ونكرم أيضا القديسين مبجلين إياهم بتذكارات سنوية وأعياد حافلة عامة وبناء هياكل شريفة وتقديم نذور إلهية. ونسجد أيضا ونكرم ونقبل أيقونة ربنا يسوع المسيح ووالدة الإله الفائقة القداسة وكل القديسين، بل أيقونات الملائكة القديسين أيضا مصورين إياهم على هيئة ظهورهم لبعض الأجداد والأنبياء، ونصور كذلك الروح القدس على هيئة حمامة كما ظهر.
فإن قال البعض عنا إننا نعبد أوثانا بسجودنا للقديسين وصورهم وباقي ما ذكر آنفا، فإننا نعتبر قولهم إفكا وبهتانا؛ لأننا إنما نعبد الله المثلث الأقانيم لا سواه. أما القديسون فإننا نكرمهم لسببين؛ الأول: نسبتهم إلى الله؛ لأننا من أجله نكرمهم. والثاني: نسبتهم إلى أنفسهم؛ لأنهم صور لله حية، وتكريمنا لهم بالنسبة لأنفسهم يدعى تكريم عبودية كما تقدم. أما تكريمنا الأيقونات المقدسة فهو تكريم إضافي يتجه إلى الأصل الذي تمثله الأيقونة، فإن من يسجد للأيقونة إنما يسجد للأصل الذي تمثله، وشرف الأيقونة ومن تمثله واحد لا يتميز وذلك كما يكون شرف السفير الملوكي ومن يرسمه.
أما ما يتمسك به مثل هؤلاء من آيات الكتاب المقدس لإثبات رأيهم بأن اتخاذ الأيقونات وتكريمها أحداث فلا يجديهم نفعا كما يرغبون، بل بالأحرى يظهر ملائما لنا، فنحن لدى قراءتنا الكتاب المقدس نبحث عن الوقت والشخص وعن المثل والمرادف والسبب، فنرى أن الله الأحد تارة يقول: «لا تصنع لك تمثالا ولا صنما ولا تسجد لهما ولا تعبدهما.» وأخرى يأمر بصنع شاروبيم، وعند معاينتنا ثيرانا وأسودا في الهيكل ولا نتعصب في فهم معناها ، فإنه لا إيمان في التعصب، بل نعتبر الزمان وباقي ما يلزم اعتباره فنفوز بصحة المعنى والرأي، فقوله: لا تصنع لك صنما ولا تمثالا هو في اعتقادنا مرادف تماما لقوله: لا تسجد لآلهة غريبة؛ أعني لا تعبد الأوثان. ومن ثم جرت العادة في الكنيسة من عهد الرسل بالسجود للأيقونات المقدسة سجودا نسبيا يكون محفوظا به سجود العبادة لله وحده. وكلام الله غير متناقض. وإذ كانت الوصية إنما تتعلق بعبادة الأوثان فإنك ترى أنه قد صنع قديما شاروبيم وكذلك صور؛ أي تماثيل للملائكة تمثلهم على هيئة ظهورهم، وكانت تكرم ويسجد لها.
ومن يذكرهم الأضداد من القديسين مدعين أنهم قالوا: إنه لا يسمح بالسجود للأيقونات فإنهم بالأحرى يعضدون معتقدنا، فإن القديسين المنوه عنهم أطلقوا كلامهم في نضالهم على المقدمين للأيقونات سجود عبادة الذين أحضروا صور أقربائهم المتوفين لتعليقها في الكنائس فأوجبوا عليهم الأناثيما لا على السجود الصحيح للقديسين وللأيقونات وللصليب الكريم وباقي ما تقدم ذكره، ولا سيما وأن الذين ذكروا وجاهروا في مؤلفاتهم بوجود الأيقونات المقدسة في الكنيسة وبالسجود لها من عهد الرسل هم كثيرون، وقد شاركهم في ذلك فيما بعد المجمع السابع المسكوني المقدس الذي أشهر كل أحداث للهراطقة في ذلك خازيا ممقوتا.
ولما كان هذا المجمع المقدس قد أفهمنا صريحا كيف يجب أن نسجد للأيقونات المقدسة، وأوضح كل ما سبق ذكره آنفا وأوجب الأناثيما على الذين يسجدون للأيقونات سجود عبادة أو ينسبون إلى الأرثوذكسيين عبادة الأوثان بسجودهم للأيقونات، فإننا نوجب نحن أيضا مع الأناثيما على الذين يسجدون لقديس أو ملاك أو أيقونة أو صليب أو عظم قديس أو إناء مقدس أو إنجيل أو شيء آخر مما في السماء فوق وما في الأرض وفي البحر سجود عبادة، ونقدم سجود عبادة لله وحده المثلث الأقانيم ونوجب الأناثيما على الذين يزعمون أن السجود للأيقونات هو عبادة لها فلا يسجدون لها ولا يكرمون الصليب والقديسين كما قلدتنا الكنيسة.
ونحن نسجد للقديسين وللأيقونات على المنوال الذي تقدم الكلام عنه ونصورها لزينة الهياكل، ولكي تكون أسفارا للأغبياء وموضوع قدوة لهم بفضائل القديسين، وذكرى وواسطة لنمو شغفهم بهم وتنبيههم إلى السجود للرب دائما كسيد وآب، وللقديسين كعبيد له ومساعدين وشفعاء لنا.
على أن الهراطقة يقبحون نفس صلاة الحسني العبادة إلى الله، ولا نعلم كيف يخصونها بالنساك فقط. أما نحن فنعترف ونقر بأن الصلاة هي مناجاة الله وطلب للخيرات الملائمة التي نرجو نوالها منه تعالى، والارتقاء بالعقل نحو الله واتجاه الفكر نحوه تعالى عن حسن عبادة، وطلب السماويات وعون للنفس المقدسة وعبادة مكرسة لله وعلامة توبة ورجاء وطيد لا ريب فيه. وهي تتم إما بالعقل فقط أو بالعقل والصوت معا، ويعتبر فيها صلاح الله ورحمته وعدم استحقاق الطالب المصلي وشكره وموعد خضوعنا لله في المستقبل. وهي تتضمن إيمانا ورجاء وثباتا وحفظا للوصايا ولا سيما السماويات، ولها ثمار كثيرة لا حاجة إلى تعدادها، وتقام على التواتر بالانتصاب وبإحناء الركب، ومنفعتها عظيمة جدا حتى إنها تعتبر قوتا وحياة للنفس. وكل ذلك يستنتج من الكتاب المقدس واضحا، حتى إن من يطلب برهانا عليه يشبه الجاهل أو الأعمى الذي يحاول إنكار وجود نور الشمس في رابعة النهار.
وأما الهراطقة فإذا أرادوا أن لا يدعوا شيئا مما أوصى به المسيح بدون تهشيم تطاولوا على الصلاة أيضا، ولكنهم لا يخجلون من أن يسيئوا العبادة قاصدين بذلك أن يجعلوا البسطاء يبغضونهم ويعتبرونهم كدنسين ومحدثين، ولا يطيقون أن يتعلموا منهم عقائد الإيمان الحسن القويم. فإن خصمنا الشيطان حكيم في الشر وبصير في الأباطيل ولذلك لا يحلو لأتباعه، ومنهم هؤلاء الهراطقة خاصة، أن يحسنوا العبادة بمقدار ما يتوقون، ويهتمون بأن يتهوروا في هوات الشرور ويتهشمون في أماكن لا يفتقدها الرب.
والآن فلنسألهم ما هي صلوات الرهبان على زعمهم؟ فإن قالوا مثبتين إن الرهبان إنما يفعلون من تلقاء أنفسهم أمورا غريبة لا تتلاءم وديانة المسيحيين القويمة ننضم إلى رأيهم فلا نعتبر الرهبان رهبانا، بل لا نعتبرهم مسيحيين أيضا. ولكن إذا كان الرهبان يذيعون مجد الله وعجائبه في الارتقاء العقلي ويعظمونه على الدوام بلا انقطاع، وفي كل حين على قدر الطاقة البشرية، وذلك بأناشيد التسبيح والتمجيد المتواصلة تارة مرتلين بعض آيات الكتاب وطورا مقتبسين التسابيح منه، فيصدعون ناطقين بما يوافقه؛ نقر ونعترف أنهم بذلك يعملون عملا رسوليا ونبويا وبالأحرى ربانيا.
وعلى ذلك فنحن أيضا بترتيلنا في كتاب «المعزي» و«التريودي» و«المناون»، لا نعمل عملا غير لائق بمسيحيين؛ لأن مثل هذه الكتب تتكلم عن اللاهوت كلاما إجماليا ومفصلا، ونرتل بها تسابيح منها ما هو مقتطف من «الكتاب المقدس» بقصد أن تكون عباراته العبارات الملائمة المؤمنين أكثر ملاءمة وأسهل فهما. ولكي يتضح جليا أننا نرتل دائما محاوي «الكتاب المقدس» نردف كل طروبارية مما نرتل بآية استيخن من «الكتاب المقدس». وإذا كنا نرتل ونقرأ ما لثيقارا من الصلوات وما وضعه غيره من الآباء القدماء فليقل لنا المضادون أي تجديف وأي شيء مناقض لحسن العبادة أتى به هؤلاء؛ حتى ننبذه ونرفضه معهم.
فإن اقتصر الهراطقة على القول إن مواصلة الصلاة بدون انقطاع مضر بهم وبنا فليخاصموا المسيح، وقد قال مثل القاضي الظالم في وجوب مواصلة الصلاة وعلمنا أن نسهر ونصلي لكي ننجو من الضيقات ونتمكن من الوقوف أمام ابن البشر، وليخاصموا أيضا الرسول لما قاله في الإصحاح الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي وفي مواضع أخرى كثيرة غيره، وإني أدع زعماء الكنيسة الجامعة الإلهيين من عهد المسيح إلى عهدنا يتكلمون، فإنه يكفي الأضداد خزيا بمتابعة ومواصلة الأجداد والرسل والأنبياء للصلاة.
ولما كانت أعمال الرهبان بمثابة أعمال الرسل والأنبياء، بل بمثابة أعمال الآباء القديسين وأجداد المسيح أنفسهم، كان من الواضح أن صلواتهم هي أثمار الروح القدس فاتح المواهب. أما ما أحدثه الهراطقة مجدفين فيما يتعلق بالله والإلهيات ومفسرين الكتاب المقدس على خلاف معانيه الصحيحة ومحرفين فيه فهو من سفسطات الشيطان واختراعاته.
ثم لا فائدة مما يقوله الهراطقة في أن لا يمكن الكنيسة أن تأمر بالأصوام والامتناع عن بعض المآكل بدون اضطرار ولا اغتصاب. فالكنيسة تقصد أمانة الجسد وكل أهوائه، وقد أحسنت جدا بأمرها بالصلاة والصوم اللذين صار الآباء القديسون قدوة لنا فيهما وبهما. ومع النعمة التي من العلى يضمحل خصمنا الشيطان وكل جنوده وقواته بسهولة ويتم الطريق الموضوع لحسني العبادة. ولما كانت الكنيسة الجامعة قد بنت آراءها في ذلك فهي لا تضطر ولا تكره أحدا، بل تعزي وتنصح وتعلم تعاليم الكتاب المقدس وتقنع بقوة الروح القدس.
مكاريوس ورومة
ويختلف الباحثون من إخواننا الروم الكاثوليكيين في موقف مكاريوس من رومة وأسقفها، فيرى صديقنا المرحوم الخوري قسطنطين الباشا أن مكاريوس اعترف بسلطة رومة وقال قولها، ويجادله في ذلك صديق آخر هو المرحوم حبيب الزيات فيرى أن مكاريوس قال قول رومة واتحد معها، ثم عاد إلى الانشقاق وتوفي غير كاثوليكي.
وتنحصر أدلة الخوري قسطنطين الباشا فيما يلي: (1) أن طائفة الروم لم تكن في عهد مكاريوس منقسمة إلى طائفتين كما هي اليوم، بل كانت واحدة وكان مكاريوس وحده بطريركها لا شريك له فيها. (2) أن طائفة الروم لم تجهر آنئذ بالانشقاق والانفصال، ولم يناقض أحد من أبنائها تعليم الكنيسة الرومانية في تأليف أو رسالة. (3) أن الاشتراك في القدسيات مع الروم لم يكن ممنوعا في ذلك العهد، بل كان مباحا جاريا بالفعل. (4) أن كنيسة الروم كانت كاثوليكية بتعليمها وصلواتها وسائر طقوسها، بخلاف باقي الطوائف الشرقية من أرمن وسريان وأقباط وكلدان، وأن هؤلاء هراطقة مشهورون محرومون من شركة الكنيسة الكاثوليكية ولم يكن قد دخل إلى كنيسة الروم الأنطاكية عيد فوطيوس ولا عيد غريغوريوس بالاماس. (5) أن أحبار رومة لم يمنعوا الكاثوليك عن الاشتراك مع الروم إلا بعد أن امتازت كل فئة من هذه الطائفة عن أختها بإكليروسها وصورة إيمانها وتعليمها بشأن قضايا الخلاف. (6) أن الكاثوليك لم يستطيعوا المجاهرة آنئذ باتحادهم مع رومة. (7) أن السلطات العثمانية اعتبرت الروم وحدهم أهل الذمة واعتبرت الكاثوليك أعداء الإسلام لكثرة الحروب التي شنها ملوك أوروبة الكاثوليكيون على السلطنة. (8) أن البطريرك مكاريوس كان كاثوليكيا على هذا الوجه، وإن اشترك في القدسيات مع الروم جريا على العادة القديمة فإنه لم يشاركهم في انفصالهم، بل بعكس ذلك كان بسلوكه وكلامه وكتاباته كاثوليكيا تماما على ما تقتضيه أحوال تلك الأيام، فإنه أمضى صورة الاعتراف بالإيمان الكاثوليكي بخط يده أمام شهود تقاة، وهي محفوظة في سجلات مجمع انتشار الإيمان، ثم أعلن ذلك مصرحا بصحة هذا الإيمان في مواقف رسمية في كنيسته أمام بطاركة ومطارنة وقناصل ومرسلين من شرقيين وغربيين أو إفرنج كانوا من معارفه وأصحابه الذين عرفوه تمام المعرفة.
25
ولا حاجة إلى تفنيد هذه التعليمات التي تفتقر إلى التدعيم بالنصوص المعاصرة الكاملة العدالة والضبط. بيد أنه لا بد من الإشارة إلى أن المسلمين لم يفرقوا في الاعتراف بأهل الذمة بين أرثوذكسي وكاثوليكي، بل أطلقوا هذا الاصطلاح الفقهي على جميع النصارى واليهود وعلى غيرهم أيضا. ولا بد كذلك من القول إن أقرب دول أوروبة إلى الدولة العثمانية آنئذ كانت دولة فرنسة «ابنة الكنيسة البكر»، وأبعدها وأشدها عداوة كانت روسية الأرثوذكسية.
ويستطرد الخوري قسطنطين الباشا فيقول: ولإزالة كل ريبة ينبغي لنا أن نورد هنا ما بلغ إليه بحثنا من هذه الشهادات الشافية بنصها: (1)
قال الأب ميخائيل نو اليسوعي في الفصل السابع من الجزء الرابع من الكتاب الذي ألفه بالعربية سنة 1670 وعنوانه: «احتجاج كنيسة الروم على صحة إيمانها»، ردا على من يعترض فيقول إن البطاركة على خلاف مع البابا: «من الذي أخبرك عن رأي البطاركة وأفعالهم؟ وهل اعترفوا عندك بكل سر خفي؟ فقد سمعت وقرأت أن بعضهم بعدوا عن هذا الرأي الردي ورموا الطاعة للبابا على الطريق الممكن لهم.»
ونحن نقول إن شهادة الأب اليسوعي ميخائيل نو ناقصة في العدالة والضبط، وإنها ضرب من الدعاية قصد بها صاحبها اجتذاب القراء إلى طاعة رومة، وإنها غامضة مبهمة لا تذكر البطريرك مكاريوس ولا تعنيه. (2)
أن رئيس الرسالة اليسوعية في الشام الأب يوحنا أميو قال في السنة 1650: وبطريرك الروم المقيم هنا في دمشق الذي يلقب بالأنطاكي ليس متعذرا اتحاده مع رومية نظير أسلافه، وهو رجل صالح يحسن الوعظ وإن لم يكن قد تعلم الفلسفة واللاهوت، وهو يحبنا؛ لأن آباءنا ساعدوه وشفوه من مرضه إذ كان مطرانا على حلب، وعندما زار صيدا قابلني فيها أحسن القبول. ومن دأبه أن يعظ جماعته بأنه ينبغي أن نحب الإفرنج كأنهم إخوتنا في المسيح، ولا يجوز لنا أن نتجنبهم، وكان لكلامه هذا نتيجة حسنة عند الروم، وهكذا فعل في طرابلس حيث سمعت بذاتي وعظه في كنيستهم، فلو كان متعلما لكان أحسن.
ونحن نرى أن الأب قسطنطين تصرف في الترجمة فجاءت غير صالحة للاعتماد عليها، ومثال ذلك قوله بالعربية: «الذي يلقب بالأنطاكي.» والصحيح أن النص الإفرنسي يقول: «الذي يدعي أنه بطريرك أنطاكية!» وكذلك عبارة الأب قسطنطين: «ليس متعذرا اتحاده مع رومية.» والأصل الإفرنسي ينص: «الذي يمكن جعله صديقا لرومة!»
26
والواقع أنه ليس في هذا النص ما يخولنا القول إن مكاريوس كان «كاثوليكيا تماما» كما يريده الأب الباشا، وجل ما يجوز استنتاجه أن هذا البطريرك اعترف بفضل الرهبان عليه في حلب فلاطفهم، وأنه اعتبر الرومانيين الكاثوليكيين إخوة له في المسيح فلم يرض عن مقاطعتهم. (3)
أن رؤساء الرسالات الكاثوليكية في حلب قالوا: إنه إذ نظر هذا بطريرك الروم اضطر أن يقر أن الدين الحق هو مذهب الرومانيين أو الإفرنج؛ ولهذا دعا القنصل المذكور والمرسلين لحضور قداس حافل في كنيسته، ثم أعلن فيه لشعبه أن الإفرنج سالكون حقا الطريق المستقيم. ولما عرف أن القنصل عازم على السفر إلى رومية وفرنسة أرسل معه رسالة إلى البابا يعترف فيها بأنه هو الحبر الأعظم العام على الكنيسة الأرثوذكسية، وأنه سيبذل جهده في سبيل إخضاع طائفته كلها للكنيسة الرومانية.
وهنا أيضا يسيء الأب قسطنطين التعريب، وكان أجدر به أن ينقل خلاصة الفقرة السابقة فيصف الضيق الذي حل بالمسيحيين في حلب في شتاء السنة 1661 واضطهاد الحكام، وأن يذكر المساعدات المادية التي قدمها المرسلون الرومانيون فيقول: «ولما رأى بطريرك الروم هذا اضطر أن يعترف بأن الدين الحقيقي كان عند الرومانيين، وأنه دعا القنصل والمرسلين لحضور القداس في كنيسته حيث أظهر لشعبه بأن الإفرنج كانوا سالكين طريق الخلاص، ثم بعد ذلك علم أن القنصل سيضطر إلى السفر إلى رومة وفرنسا فجاءه برسالة ورجاه أن يسلمها إلى يد صاحب القداسة، وأعلن في هذه الرسالة أنه عرف أن البابا هو سيد الكنيسة القويمة الرأي، وأنه سيبذل جهده لإعادة وصل ملته بالكنيسة الرومانية بعد أن فصلتها العجرفة عنها.»
27
ويلاحظ أن مكاريوس أحب أن يعترف بفضل القنصل والمرسلين على فقراء الروم في حلب، فأقام قداسا نوه فيه بأثر الدين الحقيقي في نفوس الرومانيين، وأبان لشعبه أن هؤلاء سلكوا طريق الخلاص، وكتب إلى البابا يأسف على الانفصال الذي حل بالكنيسة ويعد أنه سيسعى لإزالته!
ويطلق الأب الباشا عنان الهوى فيستعين بغير هذه النصوص، ولكنه يستمر في التسكع في بيداء الغواية. وإلى القارئ باقي الأدلة التي يتذرع بها هذا المؤرخ نوردها على سبيل الإحاطة وننصح بالتيقظ والتربص. فهو يدعي في المرتبة الرابعة أن مكاريوس خضع لرومة وقال قولها؛ لأنه «كان من أكبر المساعدين لانتخاب أندراوس أخيجان بطريركا على السريان الكاثوليك»، ولأنه في المرتبة الخامسة شرب نخب البابا في وليمة قنصل فرنسة «وسماه رأس الكنيسة العام»، والنص الإفرنسي يقول إنه شرب نخب البابا وقال: «لصحة الأب الأقدس زعيم الكنيسة، وإني أتوسل ألا يكون سوى راع واحد وقطيع واحد كما كان في الماضي.» ويورد في المرتبة السادسة اتحاد البطاركة الثلاثة وإعلان طاعتهم للحبر الروماني، ولا يذكر ما قاله بطريرك السريان الكاثوليك في هذا الصدد عن مكاريوس: «إن بطريرك الروم ومعظم شعبه قد بدءوا يعرفون الحقيقة.»
28
ويهمل ملاحظة الأب رباط نفسه وشكه في موقف مكاريوس من الاتحاد المزعوم،
29
ويرى مؤرخنا في المرتبة السابعة أن مكاريوس اتحد مع رومة؛ لأنه قال في رسالته إلى لويس الرابع عشر: «يا أصيل في حسن العبادة والديانة، ونحن من هذا الجنس الأصيل في حسن العبادة من سلالتكم الطاهرة.» ويلاحظ الأب رباط خلو هذه الرسالة من اللفظ «كاثوليك» فيشك في قناعة مكاريوس وإخلاصه.
أما الأب قسطنطين فإنه يرى في هذا النص أن البطريرك الأرثوذكسي أراد أن يقول إنه كاثوليكي مثل لويس! وهكذا دواليك إلى أن يقول في الصفحة 130 من النخبة المشار إليها إنه وجد في مكتبة الفاتيكان نسخة من السواعي تحت الرقم 618 من المخطوطات العربية وقد كتب عليها هكذا:
وقد طبعت في مدينة رومية في عهد مكاريوس الجزيل قدسه بطريرك أنطاكية من وجود وإحسان سيدنا البابا ألكسندروس السابع ذي الفضائل الكلية ثبت الله وجود إحسانه ونعمه للأنام، وشيد معالي فضائله وفواضله للخاص والعام وأجزاه عن فعله بالجوائز الفاخرة بسمو المقام في الدنيا والآخرة، بتاريخ سنة 1662 للتجسد الإلهي.
ونحن لا نرى في هذا النص أي دليل على خضوع مكاريوس لألكسندروس، ولا سيما وأن كاتب هذه العبارة مجهول. ويورد الأب الباشا أن ألكسندروس كتب في 22 تموز سنة 1662 إلى مكاريوس يقول:
علمنا من مكتوبك ومن ولدنا فرنسيس بيكت (قنصل فرنسة في حلب) أنك ليس فقط تابعا للإيمان الأرثوذكسي، بل إنك تبذل جهدك حتى تجمع كل الشعب الذي تحت سلطتك إلى الكنيسة الرومانية رأس كل الكنائس.
30
ويخلص الباشا إلى القول إنه ليس بعد نص هذه الشهادة أوضح دلالة أو أعلى مقاما. وعندنا أنه لا يجوز قبول هذا النص أو رده ما دامت رسالة مكاريوس إلى البابا ضائعة لا نعلم ما جاء فيها.
ويلاحظ لهذه المناسبة ما يلي: (1) أن مكاريوس ظل محترما مكرما في جميع الأوساط الأرثوذكسية الإكليريكية العالية طوال أسقفيته وبطريركيته. (2) أن هذا البطريرك تعاون مرارا مع سائر البطاركة الأرثوذكسيين في أمور تتعلق بالكنيسة جمعاء. (3) أنه ما فتئ يذكر البطاركة في الذبتيخة طوال عهده ولم يرو عنه أنه ذكر بابا رومة مرة واحدة. (4) أن ابنه بولس يطلق التعبير «بلاد المسيحيين» على البلدان الأرثوذكسية. (5) أن مكاريوس نفسه يشير إلى الكنيسة التي إليها ينتمي باللفظ «الأرثوذكسية»، وحينما يستشهد بالمجامع المسكونية يجعلها سبعة فقط. (6) أنه يطلق اللفظ «كاثوليكي» على الكنيسة الشرقية فيقول: الكنيسة الشرقية الكاثوليكية، ويقصد بذلك الكنيسة الجامعة التي يرأس هو إحدى فروعها، والتي يسميها أرثوذكسية أيضا. (7) يحتمل كثيرا أن يكون مكاريوس أوسع صدرا من زملائه في الشرق والغرب فيعتبر الكنيستين اللاتينية واليونانية كنيسة واحدة جامعة «كاثوليكية»، ويرحب بإخلاص بكل ما يؤدي إلى تقريب القلوب والرجوع إلى ما كانت عليه الحال قبل الانشقاق، ولكن هذا لا يعني أنه دخل في طاعة رومة. (8) لا يوجد في محفوظات رومة أي اعتراف بطاعتها يمكن عزوه إلى مكاريوس.
31
مصنفات مكاريوس
وقد خلف هذا السعيد الذكر عدة مؤلفات، منها: (1) «سلسلة البطاركة الأنطاكيين». و(2) «سيرة البطريرك نيقون الروسي وسياسته». و(3) «سيرة البطريرك أفتيميوس الثالث». و(4) «شرح الخبر عن ابتدا بدعة محاربي الأيقونات». و(5) «الرد على الكلوينيين». و(6) «عجائب العذراء». و(7) «أخبار القديسين». و(8) «أخبار المجامع المسكونية السبعة». و(9) «التاريخ الرومي العجيب من عهد آدم إلى أيام قسطنطين». و(10) «الدر المنظوم في أخبار ملوك الروم من زمن قسطنطين إلى السلطان مراد الرابع». و(11) كتاب «النحلة» وفيه أخبار متفرقة دينية وأدبية وتاريخية. و(12) كتاب «الكنوز في الأعياد السيدية». و(13) رحلته إلى روسية بقلم ابنه الشماس بولس.
وجاء في تاريخ قسطنطين باشا أن سلسلة البطاركة الأنطاكيين ترجمت إلى اليونانية بقلم الخوري ميخائيل بريك، وأن مكاريوس ألف في أثناء رحلته الأولى إلى روسية خمسة كتب في مواضيع مختلفة مفيدة جدا وعشرة في رحلته الثانية وجميعها في اليونانية، فنقلها الخوري ميخائيل بريك إلى العربية. والخوري ميخائيل بريك نفسه في سيرة البطريرك مكاريوس يحسب هذه المصنفات من ترجمة البطريرك لا تأليفه، فقد قال: «وله أتعاب كثيرة من جملتها كتب بخطه في الغيبة خمسة كتب وفي الغيبة الثانية عشرة كتب، وكلها لا أصل لها في اللغة العربية، بل هو نقلها من الرومي إلى العربي، وهي معروفة عند إخوتنا أولاد العرب وفيها فوايد عظيمة؛ لأني أنا الفقير اجتمعت بجانب منها بخطه وبغير خطه نسأل الله أن يجمعنا بالباقي.»
32
ونقل بلفور الإنكليزي أخبار الرحلة إلى الإنكليزية ونشرها في مجلدين بين السنة 1829 والسنة 1836، ثم نقلها جرجي مرقس إلى الروسية في مجلدات خمسة وذلك بين السنة 1896 والسنة 1900. وقام الأب أنطون رباط اليسوعي فنشر رسالة مكاريوس في الرد على الكلوينيين في مجلة «المشرق» في السنة 1904 تحت العنوان «الطوائف الشرقية وبدعة الكلوينيين». ثم نشر الخوري قسطنطين الباشا «نخبة» من رحلة البطريرك مكاريوس سنة 1912. وتولى في السنة 1913 الأب لاونديوس كلزي حياة البطريرك أفتيميوس كرمة فنشرها في أعداد مجلة «المسرة».
الفصل الرابع
الروم الكاثوليك
نيوفيطوس وكيرلس (1672-1720)
وتوفي مكاريوس الثالث في الثاني عشر من حزيران سنة 1672، كما نص بذلك حجر منقوش عرفه الخوري ميخائيل بريك في كنيسة كبريانوس ويوستينة في دمشق، وقيل إن أناسا من أشرار محلة الميدان ائتمروا فسقوه سما فانتقل إلى جوار ربه.
1
وبعد وفاة هذا السعيد الذكر فضل الدمشقيون قسطنطين حفيد مكاريوس على غيره؛ احتراما لقدر جده وإكراما لورع والده الخوري بولس واعتبارا لصفاته الممتازة، فقد كان فصيحا لبيبا ذكيا فاضلا. وقد ذكره قسطنديوس القسطنطيني بقوله: «وأما الدمشقيون فنظرا لميلهم ومحبتهم للمغبوط مكاريوس وقياما منهم بحق الشكر وعرفان الجميل والمنة لفضله الوافر في نجاح الكرسي وتقدمه انتخبوا حفيده بصوت واحد وهو ابن الخوري بولس ابن البطريرك مكاريوس السعيد الذكر، ودعوه كيرلس في شرطونيته وارتقائه إلى السدة البطريركية. ومع حداثة سنه فإنه كان فصيحا لبيبا متصفا بتعقل الشيوخ وحكمتهم.»
2
وجاء لصاحب تاريخ أبرشية بيروت
3
أن الدمشقيين استصدروا براءة لكيرلس، فلما وصلت شرطنه بطريركا كل من غريغوريوس متروبوليت حوران ورومانوس متروبوليت الزبداني ولاونديوس متروبوليت صيدنايا وجرمانوس متروبوليت بمفيلية، وذلك في الثاني من تموز سنة 1672. وإن قيل كيف أن أساقفة الكرسي وآل دمشق اختاروا هذا الرجل الحدث السن جدا مع أنه كان يومئذ في أبرشية الكرسي الأنطاكي أكثر من عشرين أسقفا؟ ألعله لم يكن بينهم كفؤ للبطريركية إلا هذا الحدث السن؟ فنجيب: بلى، إنما انتدب هذا وشرطن لثلاثة أسباب؛ أولا: احتراما لقدر جده البطريرك مكاريوس الذي جاهد جهادا عظيما بوفاء ديون كثيرة وانتظمت في أيامه الأبرشية كلها أكثر من أيام سلفائه. ثانيا: إكراما لورع والده الخوري بولس، وكان هو وولده محبين للدمشقيين ومحبوبين منهم جدا، وكان هذان الفاضلان ملازمين للقلاية البطريركية، وكانت مداخيل كراسي الأبرشية بيد والده الخوري بولس مع جميع متخلفات جده، وليس لأحد سواه معرفة بذلك. ثالثا: ولئن كان كيرلس حدث السن إلا أنه كان كامل العقل متجملا بالفضيلة متأدبا فصيحا لبيبا؛ فهذه الأسباب الثلاثة كانت تمنع البعض من الأساقفة وسائر المسيحيين وتبكمهم عن التكلم غير اللائق بحقه؛ إذ كانوا مشمئزين منه لحداثة سنه.
نيوفيطوس (1674-1684)
ولم يرض آخرون ولعلهم الأكثرية عن الخروج على القانون والتقليد، فطعنوا في حداثة سن كيرلس، ونددوا بانتخابه غير الشرعي، وقدحوا في شرطونيته غير القانونية وازدروا بإقامته بطريركا بصولة السلطات الزمنية. واتفق أن اجتاز دمشق في أثناء هذه المشادة البطريرك الأوروشليمي دوسيتيوس الثاني العالم الشهير والحبر الجليل، ونزل ضيفا على الدار البطريركية فتسنى له أن يتعرف إلى كيرلس في أوائل عهده في البطريركية. وتحقق بذاته دور الحداثة الذي كان كيرلس لا يزال فيه، فقال عنه إنه «الطفل الصغير»، وإنه «بسطوة السلطة الغاشمة وجبروتها قد جلس على الكرسي.»
4
واجتمع دوسيتيوس بنيوفيطوس متروبوليت حماة فأظهر له نيوفيطوس عدم الرضا عن شرطونية كيرلس وبطريركيته لمخالفتها القانون، وقدم المطارنة عريضة بالعربية إلى الكنيسة المسكونية يشكون فيها أمر كيرلس ووصوله إلى السدة الرسولية الأنطاكية، فعقد البطريرك المسكوني ديونيسيوس الرابع في أوائل تشرين الثاني من السنة 1672 مجمعا برئاسته وبحضور البطريرك الأوروشليمي، وبعد أن اطلع المجمع على عريضة مطارنة الكرسي الأنطاكي وعلى رسائل أخرى شتى أصدر بناء على قانون الرسل 30 والمجمع المسكوني السابع 3 ومجمع قيصرية 11 ومجمع ترولو 14 قراره بالإجماع بخلع كيرلس وطرده من الكرسي الأنطاكي،
5
ثم رشح مجمع القسطنطينية للسدة البطريركية الأنطاكية الشاغرة كلا من نيوفيطوس متروبوليت حماة وغريغوريوس متروبوليت قيصرية وأفجانيوس متروبوليت خريستيانوبوليس. وأخيرا تم انتخاب نيوفيطوس بالإجماع، فطلب رجالات الكرسي الأنطاكي إلى نيوفيطوس أن يتوجه إلى القسطنطينية ويتقلد البطريركية بموجب كتاب منهم. كما أن المجمع نفسه استدعاه إلى المدينة الممتلكة، فقام نيوفيطوس إلى القسطنطينية فأقيم فيها بطريركا على أنطاكية، وبعد انقضاء عام تقريبا على تنصيبه جاء إلى دمشق وتولى زمام الكرسي البطريركي.
6
ثم قام كيرلس إلى القسطنطينية واستصدر براءة سلطانية بالبطريركية وعاد إلى دمشق، فانقسمت الرعية وتفاقم الشر وكثرت المغارم، فعاد نيوفيطوس إلى القسطنطينية واستصدر براءة سلطانية جديدة ورجع إلى دمشق وضبط الكرسي . وبقيت الحال على هذه المنوال تسع سنوات، وترتب على نيوفيطوس دين كبير فقال له كيرلس: أنا أقضي هذه الديون عنك وأتخلى لك عن اللاذقية وتوابعها تقيم بها وتستأثر بدخلها، فرضي نيوفيطوس بذلك، ودخل اللاذقية واستراح فيها مدة، وكان يوقع «البطريرك الأنطاكي سابقا»، وبعد أربع سنوات توفي ودفن في كنيسة القديس نقولاووس بهيكل مار موسى الحبشي.
7
ومن آثار نيوفيطوس اعتراف بالإيمان المقدس لدحض أقوال كلونيوس، فإن الأب ميخائيل نو اليسوعي قابل هذا البطريرك في أيار السنة 1673 وشكا إليه أمر الكلوينيين ورجاه تأييد الكاثوليكيين، فحرر نيوفيطوس اعترافا بالإيمان الأرثوذكسي ووقعه معه غريغوريوس متروبوليت حوران وأنطونيوس متروبوليت بعلبك ورومانوس أسقف الزبداني وأربعة عشر كاهنا وستة شمامسة وعدد من الأعيان. ثم عرض الأب ميخائيل هذا الاعتراف على كل من أرميا متروبوليت صور وصيدا وفيليبوس متروبوليت بيروت، فاشتركا في التأييد والتوقيع.
8
بدء رسالة اليسوعيين وغيرهم
وكانت رومة لا تزال تتطلب وحدة الكنيسة عن طريق الخضوع والطاعة لأسقف واحد اعتبرته أسقف الأساقفة، وكانت قد أرهفت لهذه الوحدة غرار عزمها في مجمع تريدنتوم
Trent (1545-1563) وأخذت تتجهز لها وتتذرع، فأصدرت في السنة 1553 بولة بتأسيس كليات ثلاث في أوروشليم والقسطنطينية وقبرص. وكان غريغوريوس الثالث عشر قد أسس في السنة 1576 كلية للموارنة في رومة أيضا. وكانت فرنسة قد جعلت من أهدافها الرئيسية في الشرق حماية «الدين الكاثوليكي» في أراضي الإسلام وكشف الهم عن أتباعه «ورد المسيحيين المشاقين إلى الطاعة.»
9
وأحب أوربانوس الثامن أن يستغل الصداقة القائمة بين فرنسة والسلطنة العثمانية ففاتح حكومة لويس الثالث عشر كلاما في رد المسيحيين «المشاقين» إلى الطاعة فوافقت، فأصدر أمره إلى الكرمليين والكبوشيين واليسوعيين بوجوب إرسال آبائهم إلى الشرق الأدنى، ولا سيما سورية لرد أبنائها المسيحيين إلى الطاعة، وأوصى لويس الثالث عشر بهؤلاء المرسلين فكتب إلى سفيره في الآستانة المسيو ده سيزي
De Césy
وحرر هذا بدوره بالمعنى نفسه إلى قناصل فرنسة في الإسكندرية وصيدا ودمشق وحلب. وبدء المرسلون أعمالهم في حلب أهم مدن سورية ولبنان آنئذ وأقربها إلى آسية الصغرى والعراق، وأنشئوا فيها في السنوات 1625-1627 مراكز لأعمالهم متعاونين في ذلك مع الآباء الفرنسيسكانيين مستبصرين بخبرتهم الطويلة وإرشاداتهم. ثم انطلقوا من حلب فعملوا في دمشق وصيدا وطرابلس وخيوس وإزمير وناكسوس،
10 «ومارسوا التطبيب مجانا وتداخلوا مع الأساقفة الكهنة، وترددوا إلى الكنائس الأرثوذكسية وإلى بيوت المسيحيين متظاهرين بالمحبة والوداعة ووحدة الإيمان، ناشرين بين العامة أن معتقداتهم أرثوذكسية لا تختلف بشيء أبدا عن معتقدات الكنيسة الشرقية ما عدا بعض فروق ليست بذات أهمية، وكثيرون منهم كانوا يحامون ويدافعون عن أمور كثيرة في المعتقدات والطقوس الشرقية يحسبها الغربيون اليوم خللا وشوائب. وكانوا يظهرون علنا أنهم ينكرون أهم المعتقدات التي يتمسك بها غير الأرثوذكسيين؛ وهذا ما حمل البطريرك أفتيميوس الرابع الصاقزي أن يأوي البعض منهم إلى دار البطريركية.»
11
وسمح لهم أن يعلموا أبناء الطائفة، وأن يمارسوا سر الاعتراف في الكنائس الأرثوذكسية، وأن يزوروا منازل المسيحيين.
وألقى هؤلاء المرسلون بذار تعاليمهم بوساطة سر الاعتراف، فلم يطلبوا من السذج وجمهور المؤمنين الأرثوذكسيين سوى إيمان آبائهم وقرارات مجامعهم. ولكنهم صارحوا المثقفين في ظروف معينة وأوجبوا رجوعهم عن الخطأ، وإليك ما كتبه أحد الآباء اليسوعيين في السنة 1650 عن طريقتهم في اجتذاب النفوس:
عندما يأتي أرثوذكسي ليعترف عندنا نسأله إذا كان يؤمن بما علم به الآباء اليونانيون: باسيليوس وأثناسيوس وغريغوريوس والذهبي الفم والدمشقي، فجيب نعم، فنسأله ما إذا كان لا ينبذ ويلعن كل تعليم يتفق وما علم به هؤلاء الآباء القديسون، فيجيب نعم. ولما كان دستور إيمانهم لا يختلف عن دستور إيماننا إلا بالكلمة «والابن»، ولما كنا نحن نعتبر هذه الكلمة مجرد تفسير للدستور، فإننا نسأله ما إذا كان لا يفهم الدستور كما فهمهم آباء الكنيسة والمجامع المقدسة، فيجيب نعم. وعندئذ يتلو الدستور ونحله. وجميع الأرثوذكسيين الأذكياء المتعقلين يعترفون بتقدم البابا؛ لأنهم يقرءون في كتبهم كيف التجأ الذهبي الفم في أثناء محنته إلى البابا، وكيف أعاده البابا إلى كرسيه مهددا الإمبراطور والإمبراطورة بالحرم، ويستنتجون عندئذ أن الأرثوذكسيين والإمبراطور نفسه خضعوا في عهد الذهبي الفم إلى البابا.
12
وهكذا فإنه بينما كان الرؤساء الأرثوذكسيون يتخاصمون ويشقون الطائفة، كان هؤلاء المرسلون اللاتينيون يعملون لتقريب العقول والقلوب من رومة وحبرها، وكان سفراء الدول الكاثوليكية وقناصلها يعضدونهم بكل ما أمكنهم من الوسائل لتنفيذ رغبة رومة في «الكثلكة»!
أثناسيوس الرابع (1686-1694)
وترملت أبرشية حلب وجد أبناؤها في التفتيش عن إكليريكي لائق، فاهتم المرسلون اللاتينيون للأمر ووجهوا الأنظار شطر المدينة المقدسة مشيرين إلى بروكوبيوس رئيس دير بيت لحم. وكان بروكوبيوس (أو بائيسيوس) قد أبصر النور في دمشق من والدين أرثوذكسيين، فنشأ فيها باسم بولس الدباس وتعلم عند الآباء اليسوعيين، فقال قولهم في الإيمان، ثم دخل معترك الحياة فاحترف الخياطة مدة من الزمن. وكان جميل الصورة «فخاف على عرضه من الأناس الأردياء.» ورحل عن دمشق إلى أوروشليم لينذر نفسه لله، فلبس الأسكيم في دير القديس سابا وأتقن اللغة اليونانية والعلوم الدينية وسيم قسا ثم نصب رئيسا على دير الروم في بيت لحم، واتصل بالرهبان الفرنسيين «فتجدد فيه الإيمان الروماني وتمكن منه بعد تراخيه من معاشرة المشاقين.»
13
وأم أراخنة حلب المدينة المقدسة تبركا واتصلوا بمرشح المرسلين فوجدوه وديعا بشوشا بارعا في العلوم الدينية متضلعا باللغتين العربية واليونانية، فرغبوا في انتدابه لأسقفية حلب وأقنعوه أن يترك الدير ويرافقهم مارا بدمشق ليشرطن فيها. فلما وصلوا إلى دمشق وبحثوا الأمر مع البطريرك كيرلس رضي ثم عدل،
14
فحقد الحلبيون وتحرك الرهبان الفرنسيسيون «وأرادوا أن يقيموا بروكوبيوس بطريركا على أنطاكية لأجل تمكنه في الإيمان الروماني المقدس عوض كيرلس الذي كان مشاقا، فسعوا له في ذلك وأقاموه بطريركا بأمر السلطان.»
15
وكان لبروكوبيوس خال اسمه ميخائيل شامبذيم طرزي من ذوي الوجاهة،
16
فقام إلى القسطنطينية حاملا محضرا موقعا من وجهاء الطائفة في حلب، وكتب توصية من بعض قناصل الدول الإفرنجية في حلب إلى سفرائهم في القسطنطينية. فلما وصل إليها عرض أوراقه على المجمع، فعزل المجمع كيرلس واستصدر لبروكوبيوس أوامر سلطانية على ما جرت به العادة.
17
وعاد الخال إلى دمشق وأطلع حاكمها وقاضيها على الأوامر السلطانية. وكان كيرلس يطوف في الأبرشية، فتم في غيابه انتداب بروكوبيوس بطريركا على أنطاكية يوم الأربعاء في 25 آب سنة 1686 بحضور ثلاثة من المطارنة هم لاونديوس مطران صيدنايا، ويواصف مطران نابلس، ومطران حوران. ودعي أثناسيوس، فلما نمى خبر ذلك إلى كيرلس أرسل إلى الآستانة واستحضر أوامر وبراءة سلطانية شريفة ودخل دمشق ووضع يده على دار البطريركية. وأما أثناسيوس فسكن في أمطوش مار ميخائيل ثم انتقل إلى حلب.
وفي العاشر من نيسان سنة 1687 كتب أثناسيوس إلى سفير فرنسة في القسطنطينية يؤكد أنه نشأ كاثوليكيا في دمشق بفضل الآباء اليسوعيين، وأنه أرسل منذ بضعة أشهر اعترافه بالإيمان الكاثوليكي على يد الآباء الفرنسيسيين إلى الحبر الأعظم، ثم يرجو السفير أن يكون بظل حماية ملك فرنسة، وأن يستمد هذه الحماية في وقت الضرورة، وأن يحظى بها حينما يطلبها، ويضيف أنه يلتمس مراقبة خصومه خصوم الكنيسة الرومانية ومنعهم عن إيقاع الضرر به لدى الباب العالي.
18
وصورة اعتراف أثناسيوس بالإيمان الكاثوليكي كتبت في الرابع من تموز سنة 1686 قبل وصوله إلى البطريركية بسبعة أسابيع، وعنوانها: «صورة اعتراف أثناسيوس البطريرك الأنطاكي على جماعة الروم». وإليك مقتطفات منها أثبتها الخوري قسطنطين الباشا في كتابه «تاريخ الطائفة الملكية» نقلا عن الأصل المحفوظ في رومة:
أنا أؤمن إيمانا ثابتا وأعتقد بكل ما تحويه فصول الأمانة المستعملة في الكنيسة المقدسة الرومانية ... ثم بالمجمع القسطنطيني الرابع وهو الثامن من المجامع العامة، وأعتقد أن فوطيوس اترفض فيه واتحكم عليه بعدل وحق، وأن القديس أغناطيوس ارتد مكانه في الكرسي القسطنطيني ... وبالمجمع الفلورنتيني، وأعتقد بجميع الأمور المحددة فيه؛ أعني الروح القدس هو أزلي من الآب والابن وله ذات وماكث مع الآب والابن معا، وعلى الدوام وهو منبثق من الاثنين كمن مبدأ واحد ونفخة واحدة. ولأجل ذلك إن القول من الابن قد وضع في الأمانة ضروريا وحقيقة حتى يفسر الحق والضرورة العظمى ... والآن بحريتي وحسن رضائي من كل قلبي أعتقد بها وبالحقيقة والصدق أتمسك بها سالمة من غير عيب إلى آخر نفس من حياتي بثبات بعون الله تعالى، وأحفظها وأعترف بها وأحترص على أن تتمسك وتتعلم وتكرز من الذين هم تحت تدبيري ومن رعيتي والخاضعين لي، أنا أثناسيوس البطريرك الأنطاكي على جماعة الروم أوعد وأنذر وأحلف، وهكذا الله يعينني والأناجيل المقدسة والسبح لله دائما.
19
وقامت الشرور والفتن وتحزب قسم لهذا وقسم لذاك، وحرم كل منهم الآخر. وفي السادس من حزيران سنة 1687 اعترفت رومة بأثناسيوس بطريركا على أنطاكية «على الرغم من الشذوذ التي أحاطت بانتخابه.»
20 «وانتدب سلفستروس الدهان لأسقفية بيروت فكره أن تكون إقامته على يد أثناسيوس وقال: بطركنا أفرنجي فلا أرضى أن تكون أسقفيتي في يده.»
21
ونجم عن هذا الشقاق خسائر جسيمة واختباطات واضطرابات، وهدد بعض الأساقفة والأعيان بانتخاب بطريرك ثالث،
22 «فحزن أثناسيوس من هذه الأمور ومن نفقات السياسة، وأحب السلام والهدوء للكنيسة فتنازل لكيرلس في شهر تشرين الأول سنة 1694.»
23
وتصالح الطرفان على أن تكون البطريركية لكيرلس، وأن تعطى أبرشية حلب لأثناسيوس يقيم فيها ويعيش من دخلها ودخل إدلب وكلس، وعلى أن يحتفظ بلقب بطريرك إلى أن يتوفى أحدهما فينفرد الآخر بالبطريركية ولا ينتخب لها غيره، وتقرر هذا كله في مجمع الأساقفة ووافق عليه عموم أهالي دمشق وحلب،
24
ولكن رومة لم ترض عن هذا الوفاق، ولم يعترف حبرها أنوشنسيوس الثاني عشر به، بل حض أثناسيوس على العودة إلى الكرسي البطريركي.
25
وبعد أن تم الصلح بين كيرلس وأثناسيوس قام أثناسيوس إلى القسطنطينية والبغدان والفلاخ يستعطف المسيحيين. وذلك في شهر آذار سنة 1700 وفي أيام الأمير «الحسن العبادة» قسطنطين، فعطف الأمير وقدم الهدايا، ولما عرف أن كتب الكنيسة الأنطاكية لا تزال مخطوطة أخذته الغيرة فأمر بصنع حروف عربية وتشرفت الطباعة العربية بطبع الليتورجية الأرثوذكسية وكتاب السواعي،
26
ولما عاد أثناسيوس إلى حلب اصطحب هذه المطبعة معه، ثم نقلت منها إلى دير البلمند، والتقليد البلمندي يفيد أن هذه المطبعة انتقلت فيما بعد إلى دير مار يوحنا الشوير مع من أمه من الرهبان الموالين لرومة،
27
أما التقليد الحناوي الشويري فإنه يجزم بأن المطبعة الشويرية نشأت مستقلة بهمة الشماس عبد الله زاخر.
28
اصطلاحات كيرلس الثالث
واستتبت الراحة بعد الصلح وساد السلام في دمشق ومعظم الأبرشيات، فوجه كيرلس أنظاره إلى تدبير أمور الرعية، وكان صاحب نفوذ عند الحكام ومحبوبا عند الجميع من مسيحيين وغير مسيحيين فوسع الكنيسة الكاتدرائية في دمشق وزينها وزاد في بنيان البطريركية، ورفع عن المسيحيين مظالم عديدة، وأقام عنده اثني عشر وكيلا علمانيين من الوجهاء وأصحاب الدراية والغيرة ليشتركوا معه في النظر في شئون الملة وتدبير أحوالها ويهتموا في مساعدة الفقراء وفي العناية بالأوقاف والكنائس.
29
رومة تكمل رسالتها
واستمسك أثناسيوس بالصلح ولم يسع للعودة إلى الكرسي البطريركي، فقامت رومة تكمل خطتها، وفي السنة 1697 خص الأب اليسوعي فيرسو
Verseau
دير البلمند بعنايته؛ لأنه كان آهلا بالرهبان «وكان للشقاق شأن عظيم فيه بحيث يتناول كل ملة الروم». وحاول الأب فيرسو الدخول إلى البلمند لإيضاح الإيمان الكاثوليكي مرارا ولكنه أخفق، ثم شعر اثنان من تلاميذ الآباء اليسوعيين بالدعوة الرهبانية واختارا البلمند لخدمة الله فيه، «فأخذ الأب فيرسو يزورهما ويرشدهما منبها إلى ما في هذا الدير من خطر»، ثم تحقق أنهما راسخان في الكثلكة فاتخذهما وسيلة للدعاية الرومانية بين الرهبان فأكثر من زياراته للدير، وتعرف بسائر الرهبان، وصار يدخل ويشترك في اجتماعاتهم الديرية بدون مانع، «ولكي يرضيهم جميعا» كان يمدح القديس باسيليوس الكبير ويتلو عليهم أخباره، ثم وضع بين أيادي صديقيه مؤلفات الأب كليسون
Clisson
والأب نو
Nau ،
30
وفي السنة 1704 تقدم خمسة من رهبان البلمند بطلب وجهوه إلى مجمع انتشار الإيمان جاء فيه ما يلي:
نعرض لجلالتكم البهية أننا نحن عبيدكم مقدار خمسة أنفار من ملة الروم العرب رهبان من طريقة القديس باسيليوس الكبير، قد تربينا منذ صبانا في الديانة الكاثوليكية خاضعون دائما للحبر الأعظم الكلي قدسه، إلا أننا في هذه الديارة لم نوجد إطلاق وعتق لتكميل السيرة لأجل خلاص النفس كما ينبغي في مذهب الرهبانية؛ لعدم تركين البلاد وتسلط الأمم عليها وعدم نظام أحوال الديورة والرهبان. فأعرضنا حالنا على جلالتكم السنية حتى إن رسمتم تمنوا علينا وتأمرونا بأن نحضر لعندكم لذلك الطرف، نستمن فضلكم بأن تمنوا علينا من إحسان الكنيسة المقدسة بمكان حقير نتآوى فيه وحدنا داخل رومية أو خارجها، وتتصدقوا علينا هناك بالقوت الضروري والشرب الزهيد كفاف الجسد اللطيف لا غير، حتى نخدم الله بمكنتنا على الإمكان وندعي لجلالتكم السامية البهية. سطر في دير البلمند من أعمال طرابلس الشام في أول تشرين الثاني سنة 1704، عبدكم مكاريوس الكاهن في الرهبان، عبدكم جرمانوس الكاهن في الرهبان، عبدكم الحقير حنانيا الكاهن في الرهبان، عبدكم الحقير نصر الله الكاهن في الرهبان، عبدكم جرجس الشماس في الرهبان.
31
دير مار يوحنا الشوير
وفي هذه الآونة نفسها وصل إلى البلمند شابان حلبيان راغبان في التبتل والزهد، فنصح لهما الأب نصر الله الحلبي «أن يذهبوا إلى جبل لبنان ويفتشوا على مطرح خالي، وبعده نحن نجي إلى عندكم ونعمل رهبنة قانونية؛ لأن في هذا الدير الإنسان ما يحسن يعيش في حرية الإيمان؛ لأن فيه أناس معاندين وعشرتنا معهم لا تصلح. فسمعوا من شوره وراحوا حوشوا دير الذي يقال له مار يوحنا الشوير وأرسلوا أخبروهم عنه.»
32
وكان هذا الدير حقيرا في بدء عهده لا يشمل سوى كنيسة صغيرة على اسم يوحنا الصابغ وغرفة حقيرة أوى إليها زاهد من أبناء أسرة صوايا الشويرية، وكانت الشوير تئن من مشادة عنيفة بين أسرتيها الكبيرتين آل مجاعص وآل صوايا، فلما نشب الخلاف بين البطركين أثناسيوس وكيرلس وتحزب قسم لهذا وقسم لذاك، أيد آل مجاعص كيرلس، فانبرى آل صوايا لمناصرة أثناسيوس. وشد أزر آل مجاعص معظم العائلات الشويرية فامتنع آل صوايا عن الصلاة في كنيسة السيدة كنيسة القرية وأخذوا يصلون في كنيسة مار يوحنا المشار إليها، وهكذا فليس نسبة دير مار يوحنا إلى مجرد وقوعه في خراج الشوير، بل إلى الزاهد الشويري المؤسس وإلى أنسبائه الشويريين الذين اتخذوا من كنيسته معبدا لهم وحموا من التجأ إليه من الرهبان القائلين بطاعة رومة.
رجل رومة الأوحد
وواحد الآحاد في طاعة رومة والخضوع لأسقفها أفتيميوس الصيفي متروبوليت صور وصيدا (1682-1723)، هو ميخائيل بن موسى الصيفي. ولد في دمشق في حوالي السنة 1643 ونشأ فيها، وتعلم في مدرسة الطائفة في دار البطريركية ولقي عطفا خصوصيا من الخوري جرجس بريق فتشرب الكثلكة في حداثته، وكان الخوري جرجس المذكور قد سافر إلى رومة وتخمر فيها بالكثلكة. ولما شب ميخائيل تردد على دير الآباء اليسوعيين والكبوشيين فجذبوه إليهم وزادوه طاعة وخضوعا، وتقرب إلى نيوفيطوس الصاقزي النائب البطريركي فأخذ اليونانية عنه وفن الموسيقى الكنسي البسلطيكة. ولعل نيوفيطوس نفسه رسم ميخائيل شماسا إنجيليا في السنة 1666 ثم كاهنا.
وتوفي أرميا متروبوليت صور وصيدا في حوالي السنة 1680 فحض المرسلون اللاتينيون أعيان الروم في صيدا على انتداب الخوري ميخائيل صيفي. ورضي البطريرك كيرلس الثالث فسامه مطرانا على صور وصيدا في السنة 1682 ودعاه أفتيميوس، وأول عمل هم به هذا الأسقف الجديد أنه أسرع فأرسل مع الأب أكورسيو الكبوشي صورة اعترافه بالإيمان الكاثوليكي إلى البابا أنوشنسيوس الثاني عشر، والأب أكورسيو
Accursio
كان معلم اعتراف الأسقف الجديد في دمشق، ومما جاء في هذا الاعتراف ما يلي:
لقد رفضت ضلال الروم وشقاقهم منذ زمان واعترفت بالإيمان الكاثوليكي بين أيادي الرهبان المرسلين في دمشق، والآن وقد صرت بنعمة الله مطرانا على كرسي صور وصيدا فيجب علي تقديم الطاعة الواجبة لحضرتكم والاتجاه إلى كرسيكم المقدس اقتداء بالآباء القديسين أثناسيوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم، وسائر الآباء القديسين الذين قبلتهم الكنيسة الرومانية وقت جهادهم واضطهادهم، ولا ينبغي أن أذكر ما احتملته من النفي والحبس والإهانة وخسارة الأموال والتعدي علي من الإسلام بسعاية البعض من الروم وإكليروسهم، ولا سيما بطريركهم المدعو كيرلس وذلك لأجل اعترافي بالإيمان الكاثوليكي.
33
وكانت أبرشية صور وصيدا واسعة، ولكنها غير عامرة، فعمل الأسقف الجديد على تعميرها بتشجيع النزوح إليها. فاتفق في أيار السنة 1686 مع أعيان الروم في صيدا على أن يكتب إلى من أراد من النصارى ليدعوهم للإقامة في صيدا، واستكتب قاضي الشرع صكا بذلك لا يزال محفوظا حتى يومنا هذا.
34
ثم جدد بناء كنيسة صيدا بماله الخاص وحرر صكا رسميا بذلك في الحادي عشر من نيسان سنة 1690. ولا يخفى أن مثل هذا الصك كان ضروريا؛ لأن الشرع الإسلامي حرم تشييد الكنائس والصوامع، وأجاز ترميم القديم وإبقاءه على قدمه.
35
وأهم ما قام به أفتيميوس في هذه الفترة الأولى من ولايته أنه أنشأ الرهبانية المخلصية لنشر مبدأ الاتحاد مع رومة والخضوع لأسقفها. وبدأ هذا العمل في صيدا حيث جمع قبل السنة 1700 عددا من الرهبان ليعيشوا معه في مزرعة مشموشة بالقرب من جون عيشة مشتركة قانونية. ويرى الأب قسطنطين الباشا المخلصي أن تلاميذ المطران كانوا في أواخر القرن السابع عشر لا يقلون عن عشرة، وأنهم لم يستطيعوا الإقامة في صيدا وجوارها بدون أن يتعرضوا لكل تهمة ولكل بلاء من الجند وسواهم، فاستأجروا مزرعة مشموشة من صاحبها الشيخ قبلان القاضي ليقيموا فيها ويستغلوها. وما فتئوا كذلك حتى تم لهم بعناية المخلص إقامة ديرهم على اسمه في السنة 1711، ورتب أفتيميوس لرهبانه قانونا خصوصيا ذاع وشاع بين الناس في حياته حتى بلغ حلب، ولا تزال رسالته إلى أحد أصدقائه في حلب تحفظ بعض ما اصطلح عليه الرهبان المخلصيون في بداية عهدهم وبعض ما جاش في صدر أفتيميوس من مبادئ. وكان صديق المطران قد كتب يعترض على ما أباحه المطران لرهبانه من أكل الزفر والسمك في الصيام، فأجابه:
ليس خافيا عن معرفتكم إن كان تأملتم ورأيتم ضعف الملة وانحطاطها ثم افتقارها للمعارف الضرورية والعلوم الروحية. وقد رأينا الكثيرين من النحيفي المزاج ذوي غيرة صالحة ولهم بعض معارف، أرادوا يصرفوا حياتهم بعيشة طاهرة مرتبة بحفظ الثلاث نذور التي هي أسس الرهبنات كلها لكي ينفعوا ملتهم بعلمهم وعملهم، فاستمضوا الدخول إلى الرهبنة لأجل خشونة معاشها الآن عندنا وتخلفوا عن تكميل قصدهم الصالح. فلما تحققت أنا الحقير أن هذا السبب الجزئي مانع لذلك الخير الكلي استعملت أنا الحقير سلطان الحل والربط المعطى لي من الله ومن كنيسته لإطلاق أمر، بل لإطلاق جبر مفهوم عند الجميع بسبب وضعه ودخوله، وذلك حتى تكون العبادة في هذا المعنى أمرا اختياريا لا اضطراريا، وليس كما هو الآن مستعمل من الآخرين جهرا ومرفوض من الأكثرين سرا. وحتى أيضا لا نماثل قساوة بعض الرعاة السالفين الذين استعملوا سلطانهم بالربط لا بالحل، وأحرى أن أقول باللعنة لا بالبركة الذين صدق فيهم قول الله بلسان ميخا: «أكلوا لحم شعبي وكسروا عظامهم.» فلهذا نرى حالتهم وقد سببوا خسرانا عظيما على هذه الطريقة الطاهرة وعلى الأمانة المسيحية الفاخرة، فأنا أيضا نيتي أن أتفق هكذا فيكون مثل هؤلاء مفترقين عن الرهبان الآخرين بسكنى والمعاش فقط ومتفقين معهم بحفظ الثلاث نذور وبقية القوانين الأخر إذا كانوا كلهم تحت طاعة رئيس واحد، وإن لم يوجد من تكمل بهم نيتنا فتكون حجة الله على المتعنتين.
36
أفتيميوس أسقف الخاضعين لرومة (1702)
وأبى بعض الأساقفة الضيم الذي حل بالكنيسة من جراء الشقاق، وعصفت في رءوسهم النخوة فكتبوا إلى أفتيميوس في حوالي السنة 1694 ليكون عليهم رئيسا فتصبح الرعية لراع واحد.
37
ثم تم التفاهم بين أثناسيوس وكيرلس وأصبح كيرلس البطريرك الأوحد فطوى فؤاده على عرقلة أعمال المرسلين وعدم تسهيل أمورهم، وامتنع عن إعطاء سلطان الاعتراف إلى الكهنة الذين صادقوا المرسلين وعملوا بإرشاداتهم، ودخل أثناسيوس في دور التراجع عما وعد رومة به في بادئ الأمر. وتولى السدة الرومانية في السنة 1700 إقليمس الحادي عشر (1700-1720)، فكتب أفتيميوس يهنئ البابا الجديد ويجدد خضوعه. وفي الرابع والعشرين من شباط سنة 1701 أعد رسالة ثانية أوضح فيها أحوال البطريركية الأنطاكية، وطلب أن يكون «وكيل البابا في الشرق» ليعطي سلطان الاعتراف للكهنة الكاثوليكيين خارج أبرشيته، وأشار إلى رغبة المطارنة في تنصيبه بطريركا على أنطاكية وأرفق الوثيقة التي وقعوها، ولكنه قال إنه قصير اليد واللسان لا يتمكن من إجابة طلبهم؛ لأنه يتعلق «بسلطان المسلمين»؛ ولذلك فإنه يطلب «سلطان الذمة» فقط.
38
وبحث مجمع انتشار الإيمان طلب أفتيميوس في جلسة عقدها لهذه الغاية في السادس من كانون الأول سنة 1701، فأجاب طلب متروبوليت صور وصيدا لمدة سبع سنوات بقرار رفعه إلى البابا. وأجاز إقليمس الحادي عشر قرار المجمع وأمر بالعمل بموجبه، فوردت على أفتيميوس الرسالة التالية:
إلى السيد أفتيميوس مطران صور وصيدا والروم في كل البطريركية الأنطاكية، حيث لا يوجد أساقفة كاثوليك. نهار الأربعاء في 19 تموز سنة 1702 في المقابلة العادية لحضرة الأب المحترم المساعد منح الأب الأقدس حسبما عرض هذا عليه للطالب المذكور هذه الحقوق لمدة سبع سنوات، بحيث لا يستطيع أن يمارسها قطعا خارج حدود البطريركية المذكورة، ولا في الأبرشيات التي يوجد فيها أساقفة كاثوليك.
39
كتاب «الدلالة اللامعة» (1710)
وكان الأب ميخائيل نو
Nau
اليسوعي قد لجأ إلى التأليف لإقناع الروم بالخضوع والطاعة لرومة وصنف في عهد البطريرك مكاريوس كتابا أسماه «احتجاج كنيسة الروم المقدسة في استقامة إيمانها وحسن اعتقادها.» فلم يقف الآباء الأرثوذكسيون موقف القنوع، ولا سيما رهبان القبر المقدس، فنقلوا إلى العربية في مستهل القرن الثامن عشر رسالة زخريا أسقف أدنة في الدفاع عن التقاليد المقدسة وإيضاح منهاج رومة وكشف المورى من أساليبها، ثم وزعوه في أبرشيات أنطاكية، فاضطربت به الألسنة وتداولته الرواة. فكتب أفتيميوس في العاشر من حزيران سنة 1704 إلى مجمع انتشار الإيمان يقول: «إن أصحاب أبرشية أورشليم المشاقين أحضروا كتاب زخريا جرغانو أسقف أدنة المفعم تجاديف ضد رأي كنيسة رومة وأخرجوه إلى العربية وبثوه في بلادنا بأبرشية الكرسي الأنطاكي ليسقوا السم الذي هو داخله.» وأضاف أفتيميوس أنه عني بوضع كتاب يرفع شرف الكنيسة الرومانية المقدسة ويخزي من عاكسها، وطلب إمداده بمصنفي يوحنا كاريوفيلوس
Cariafili
في الرد على زخريا والرد على نيلس التسالونيكي، وبكتب بساريون متروبوليت نيقيا (الكردينال أوبوسكولا) وكتب ديمتريوس خيدونس وكتاب بطرس الكورفوي في خدمة الأسرار والمطهر؛ لأنها لازمة له. وأرسل أفتيميوس مخطوطه إلى رومة فوافقت عليه بإشراف الكردينال بربريني، فظهر «كتاب الدلالة اللامعة بين قطبي الكنيسة الجامعة المشتمل على اتفاق كنيسة الروم الأرثوذكسية الشرقية مع كنيسة رومية الجامعة الغربية واتحادهما برأي واحد وأمانة واحدة مسيحية» بنفقة مجمع الإيمان برومة سنة 1710.
40
ووزع هذا الكتاب توزيعا فهب أيكونوموس كنيسة حلب ورد عليه برسالة في السنة 1712 بقيت خطية فيما يظهر. وهذا الأيكونوموس كان في عرف أفتيميوس «صاحب معرفة وحافظا لطقوس الروم بالكمال ومؤيدا لها ومناصرا.»
41
ولفت كتاب الدلالة اللامعة أنظار البطاركة والمطارنة الأرثوذكسيين فأشاروا إليه في الحرم الذي وضعوه في السنة 1718 على أفتيميوس ومن تاه معه؛ لأنه «أنشأ كتبا من ذاته، واجتذب شهادات كما رأى ونسبها إلى الكنيسة المقدسة الشرقية.»
42
تحفز أفتيميوس وتحزمه
وفوض أفتيميوس أمره إلى هواه فرأى في أيلول السنة 1713 أن «أبرشية أنطاكية أرض صالحة بدها فلاحين»، وأن كيرلس بطريركها «رجل عادم العلم يبغض الكنيسة الرومانية»، ولكنه لا يجرؤ على تقديم الطاعة قبل بطريرك القسطنطينية والإسكندرية، ورأى أن أسقف صيدنايا جراسيموس الشامي «رجل على باب الله قداسه برطل نبيذ وما دام النبيذ في قلايته المسيح راضي عليه»، وأن أسقف معلولا وقارة «قبرصي هرطوقي معاند»، وأن أسقف بعلبك «قبرصي سالم من الغرض إن أسعده الله بمعلم ربما يوافق بكلما نريد»، وأن أسقف حمص «عاجز بالدين والدنيا»، وأن أسقف حماة «قبرصي قوي بالكفر وبسب الدين للكنيسة ولنا، ومنذ سنتين حضر عندنا في أشغال له فأكرمناه وأعطيناه إحسان وافر ونصحناه بقدر الإمكان، ومنذ ذلك اليوم أبطل المسبات، ولكنه باقي على كفره»، وأن مطران بيروت «كان سابقا يصدق بالكنيسة ويكرم ويمجد كنيسة الروم، ولأجل ذلك أسدينا إليه بعض إحسانات وطلبناه إلى صيدا وعرفناه النقص والغلط الذي وقعت فيه كنيسة الروم بعد الانشقاق»، وأن مطران طرابلس «كان سابقا شهد لنا بعض رهبان من المرسلين أنه كاثوليكي، وأما أنا ما قشعت له علامات الكاثوليكية، وربما يكون أقر بالحق تحت رجاء، فلما انقطع الرجاء منكم عاد كالكلب إلى قيه»، وأن مطران اللاذقية «صاقزلي هرطوقي جاهل بالدين وبالهرطقة ينبح ويقروش بغير وعي»، وأن بطريرك حلب «معروف عند رومة بأنه كاثوليكي ومعروف عندي بأنه مساقل» وأن مطران أدنة «قبرصي عتي عدو الله وكنيسته»، وأن مطران ديار بكر كذلك قبرصي، وأن مطران أرضروم من أيالتها، ومطران القرص من أيالة أرضروم،
43
ولا يخفى أن هذه البضاعة كانت رائجة في ذلك الزمان موجودة عند الطرفين.
وهكذا فيكون أفتيميوس أسقف رومة الأوحد في أبرشيات أنطاكية قد حاول اجتذاب المطارنة إلى الكثلكة بأساليب قد لا يكون بعضها مشروعا.
44
وأما اليعاقبة فإن جذبهم كان بعيدا في نظره «وإنما بطريق القوة أقرب تناول.»
45
ويلاحظ هنا أن الاتحاد الحقيقي لا يتم بالمال والقوة، بل بالروح القدس والمحبة التي لا تطلب ما لنفسها ولا تظن السوء، بل تتأنى وترفق وتصدق وتصبر.
كيرلس والكثلكة
وذكر أفتيميوس أن كيرلس البطريرك الأنطاكي كان عزيز الجانب لا تلين قناته لغامز، فخاطبه في موضوع الاتحاد وجادله، ولكن على غير جدوى. ثم ألح أفتيميوس على قنصل فرنسة في صيدا المسيو بولارد
Boulard
أن يخاطب البطريرك في الموضوع نفسه ففعل. وكتب الأب لورنسيوس رئيس الآباء الفرنسيسيين في أوروشليم رسالة طويلة إلى كيرلس أخبره فيها عما فعل باسم البابا لإعادة بطريرك الموارنة يعقوب عواد إلى كرسيه وإعادة كل حقوقه وشرفه. ثم أشار إلى ما فعله أحبار رومة للبطاركة والمطارنة الشرقيين من هذا القبيل، وذكر كيرلس كيف تظلم جده مكاريوس إلى البابا ألكسندروس السابع من جور الأتراك وصلفهم.
ثم أطلت السنة 1716 فإذا بحبر رومة نفسه يخاطب كيرلس ويدعوه إلى الاتحاد فيقول: بلغنا أن لإخوتك ميلا عظيما إلى الاتحاد ففرحنا ورأينا أن نعظك بصوتنا الأبوي أن لا تهمل هذا الإلهام الصالح، وليكن محققا عندك أنك ما دمت مفترقا عن الكنيسة الرومانية تبقى في خطر عظيم وأكيد، ويجب عليك أن تعظ إخوتك الأساقفة وشعبك ليفعلوا مثلك، ومتى تحققنا أنك اعتمدت على القبول الثابت لإيمان الحبر الروماني نوضح لك حينئذ ما يجب عليك أن تفعل.
46
فأوضح كيرلس لرئيس الآباء الفرنسيين أن الكنيسة الشرقية تمت ماسكة شروطها وفرائضها المرتبة منذ القديم، فبعد مدة لما ظهرت طقوس وتراتيب غير موجودة في المجامع السبعة الكبار ولا في السبعة الصغار مثل الفطير والانبثاق والمطهر وحظوى القديسين، فلما رأت الكنيسة الشرقية هذه الأمور وحضرة قدس أخونا البابا الذي أبدع هذه الأمور وثبتها وليس هي مدونة في ناموس ولا في قوانين الآباء ولا في المجامع السبعة، فسخت الكنيسة عن الكنيسة الغربية. ومن المجمع السابع إلى الآن الكنيسة الشرقية ماسكة شروطها وما تسلمته من الآباء القديسين وهم باقين على طقوسهم وترتيبهم القديم. وأما قولكم من ميل جدنا المرحوم البطريرك مكاريوس بأن مكتوبه مخطوط في خزانة رومية فليس أنه بعث يطلب التثبيت، ولكن نحن نفهم أنه بعث يخبر قدس عزيزنا وأخونا البابا بسبب القنصل بيكيت ويشهد له عما فعله من الخير في سنة الغلا الذي صار في حلب؛ لأنه كان قد أصرف نحو سبعين كيس دراهم على الفقرا والمساكين. ونسأل الباري تعالى أن يلهمه (أي البابا) حتى يجمع إخوته وأولاده الروحانيين ويخزي الشيطان «من الفريقين».
47
ثم وجه كيرلس رسالة طويلة في العشرين من آب سنة 1716 إلى إقليمس الحادي عشر اعتبرها بعض مؤرخي الكثلكة اعترافا صريحا بسلطة السدة الرومانية وقبولا واضحا لجميع تعاليمها، ونحن لا نرى فيها سوى اعتراف بتقدم رومة شرط استمساكها بقوانين المجامع المسكونية السبعة، ولعل كيرلس تطرف في الملاطفة فأخذ كلامه على معنى أوسع مما أراد. ويلاحظ هنا أنه لا بد من أخذ رسالته إلى رئيس الفرنسيسيين بعين الاعتبار؛ لأنها قريبة جدا من تاريخ الرسالة إلى البابا. وإليك نص رسالة كيرلس إلى إقليمس:
المجد لله تعالى دائما: كيرلس برحمة الله تعالى البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق إلى جناب حضرة الأخ الأقدس كير أكليمنضوس البابا الحادي عشر مشرف كنيسة رومية القديمة العظمى حرسه الله لنا زمانا طويلا.
إلى قداسة أب الآباء وسيد السادات قابل النعمة ومعطي البركة رأس رؤساء الكهنة الأبرار خليفة بطرس الرسول والإناء المختار، فريد عصره الشائع ذكره بالأقطار، قدوة النساك الأطهار وكنز التعليم وقطب الأربعة الأقاليم إبراهيم في سماحته وإسحاق في وداعته ويعقوب في طاعته ويوسف في عفته وإلياس النبي في غيرته، وأشعيا في فصاحته ودانيال في طهارته وسليمان في حكمته وزخريا في كهنوته ويوحنا الثاولوغوس في أقواله ويوحنا المعمدان في كرازته وفم الذهب في تفسيره وإنذاره.
أما بعد؛ فالذي نعرضه لقدسكم هو أن وصل إلينا مكتوبكم الشريف وقريناه وحمدنا الله تعالى على سلامتكم وأن قدسكم بكل خير. وقد بلغكم من المرسلين بأننا قوي رافعين شأنكم وذكركم غير منقطع عندنا في كل صلاة وقداس إلهي، ونطلب من رب البرية أن يحقق المحبة الروحانية بين الخاص والعام؛ لأن بلا محبة ليسل سلام، لأن يعلم الله غاية قصدنا المحبة؛ لأن قد بلغنا من تلاميذ قدسكم أن كل قصدكم أن تكون المحبة والسلامة مع الإخوة والأولاد الروحانيين إلى كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، ولكن باغض الخيرات دائما لا يكف ولا يهدأ عن تبلبل الكنيسة حتى إنه من جملة أفعاله أظهر اسم الكنيسة الشرقية والغربية. ولكن في المجمع الأول المسكوني بحضور سلفستروس بابا رومة وضعوا نؤمن بإله واحد، والمجمع الثاني المسكوني كان بحضور دماسيوس بابا رومية، والمجمع الثالث المسكوني كان بحضور كاليستينوس بابا رومية، والمجمع الرابع المسكوني كان بحضور لاون بابا رومية، والمجمع الخامس المسكوني كان بحضور فيجيليوس بابا رومية، والمجمع السادس كان بحضور أغاتون بابا رومية، والمجمع السابع كان بحضور بطرس وبطرس وكلاء أدريانوس بابا رومية ... ولم يكن يصير مجمع مسكوني بدون خاطر بابا رومية.
48
ومن ذلك الزمان إلى الآن الكنيسة الشرقية تطلب دائما وتقول كل يوم: من أجل الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية من الرب نطلب، وما نقول كنيسة غربية وشرقية، بل دائما نطلب السلام للعالم جميعه حتى للذين يبغضوننا والذين يظلموننا. هذا كله مطبوع في كتب الكهنة عندكم، ونشكر الله تعالى على أن كنيستنا على إيماننا الذي نحن ماسكينه من السبعة المجامع المسكونية، ونترحم على البابا أفجانيوس الذي قصد المحبة والسلام في زمان المرحوم الملك يوحنا البالالوغوس وعمل المجمع الثامن وقصد به المحبة والسلام والهدوء. ولكن باغض الخيرات حرك الفتن، والروم من طبعهم العناد ما قبلوا، وبعده حركت نعمة الروح القدس البابا نقولاوس أن كل ما تعب فيه وعمله البابا أفجانيوس قد خربوه الروم ركب بذاته إلى مقابل القسطنطينية وأرسل رسله إلى الملك والإكليروس، فما قبلوا كلامه حتى صار فيهم الذي صار ونحن رحنا بسببهم.
نسأل الله المسيح بكل لغة ولسان أن يعطيك الرب الإله أن تجمع الإخوة والأولاد الروحانيين الذين اشتراهم سيدنا يسوع المسيح بدمه الكريم إلى صيرته الحقيقية. ثم إن جدنا المرحوم البطرك مكاريوس بعد حضوره من المصكوف كان غاية قصده الحضور إلى رومية ليعمل محبة وسلامة، ولكن بقي يقول إن الإخوة إذا تقاتلوا ما يبقى أحد عاقل بينهم، وإن رحنا إلى رومية يقول الروم البطرك مكاريوس صار فرنجي، وسابقا المرحوم جيفالا رئيس أساقفة قبرس لأجل حضوره إلى رومية عملوه بأنه إفرنجي. ربنا يهلك كل من أبدع هذه البدع وفرق الإخوة عن أخوهم الأكبر؛ لأن جميع الناس يقولون الوعاء الكبير يسع الصغير، ولكن كل من قرب إليكم بالظاهر يصير عند الأمم الغربية كافر. وربما بلغكم أخبار بطرك السريان كيف طائفته الأراطقة عملوا معه من المساوي ومات في المنفى وهو بلا شك من القديسين، والأساقفة والكهنة ما خلص منهم إلا القليل، ونحن كنا دائما نرسل مكاتيب إلى تلاميذنا الذين هناك بأن يحسنوا إليهم وهم في الحبس ويخدموهم إكراما للكنيسة الرومانية، وقنصل فرنسة بحلب لو أنه يعطي خمسمائة قرش ما كان صار فيهم هكذا.
ولكن نحن بقوة المصلوب لما حضر القبجي لعندنا لدمشق وجابنا وقري علينا الخط الشريف وسألنا عن أتباع البابا عندنا وتوابعهم ردينا الجواب عن الجميع، وبقوة الله منعناه وما خليناه يتحرش في راهب ولا قسيس ولا كاثوليكي وخسرنا من كيسنا مبلغ عظيم ربنا يعرف حتى دفعنا الشر عنهم؛ خوفا من أن تجري العادات السيئة الجارية في غير بلاد. لكن في هذا الزمان جماعتهم خسيسين الله يرحم القنصل بيكيت، في زمانه صار أندراوس بطرك على السريان هو وقف بحملته وتكلف تلك السنة نحو سبعين كيس على الفقراء؛ لأنها كانت سنة غلا شديد. ولما نظروا فعل الخير الذي صنعه أرسل جدنا البطرك مكاريوس وأندراوس بطرك السريان وبطرك الأرمن أخبروا قدس المرحوم البابا بالخير الذي صنعه. فإن كان القنصل طيب ربنا يزيده بركة من فمكم الطاهر، وإن كان تنيح الرب يجعل حظه مع الآباء القديسين، فهكذا كان القناصل يفعلون الخير والناس تميل إليهم وتمجد خبرهم.
وأيضا المرحوم سلطان فرنسا لما وقع بينه وبين طائفة الإنكليز وقالوا له: نحن تبع الكنيسة الشرقية، بعث طلب اعتقاد الكنيسة الشرقية، فكتب له جدنا البطرك مكاريوس عشرين بابا في اعتقاد الكنيسة الشرقية، وفي أثناء ذلك توفي جدنا وانتخب الحقير مكانه والمكاتيب ما كانوا بعد توجهوا فبعثوها إلينا فأمضيناها وحققنا قوله.
وإن شاء الله ما تكون الكنيسة الشرقية ناكرة كنيسة رومية ولا آخذتها بأنها محدثة، وهذا مدون في كتب الكنيسة عندنا، وأن بابا رومية هو الأخ الأكبر، وتذكارات الباباوات في أعيادهم الممتازة موجودة في الكنيسة الشرقية.
ولكن هذه الأمور الموجودة اليوم في هذا الزمان ما كانت في القديم؛ لأنه لما ظهر معلمين النجم والرصد فهذه العشرة أيام صار فيها شقاق عظيم؛ إذ يكون مسيحي صائم ومسيحي فاطر. وطائفة الموارنة أعرضوا لديكم بأنهم قلائل والروم ما تجوزهم والأمم ما يجوزوهم، فلكونكم مباركين وما تعرفون الكذب صدقتموهم، فقالوا إن قدس البابا أعطانا دستور أن نتجوز على أربعة وجوه. وأيضا العلماني إذا ماتت حرمته يتجوز غيرها ويعملونه كاهن. وبهذه الأسباب وغيرها صرنا عارا عند الأمم والأراطقة لكون يبقى نصراني صايم ونصراني فاطر ونصراني متجوز على سبعة وجوه وآخر على ثلاثة وجوه. وهم كذبوا عليكم ولكونكم ناس مباركين صدقتم قولهم وسودوا عرضكم وقالوا: إن البابا أعطانا دستور بذلك. ونحن ما كنا نصدق بأن ينشر عن قدسكم هذا. وكل هذا صار سبب الافتراق وتسمية كنيسة شرقية وغربية.
ولكن نحن معتقدين ومحققين بأن كنيسة رومية (ماسكة) السبعة المجامع الكبار والمجامع الصغار ورافعين شأنها لكونها كانت أم كنائس الدنيا، ومقرين ومعترفين بكنيسة واحدة ومعمودية واحدة، ونبارك ما باركوه ونحرم ما حرموه. لكن الأمميين لما ينظروا صدرت هكذا أمور غير مصدقة، وليس لكم عنها خبر لهذا السبب ينفرون من ذلك وتقع الشكوك ويتم قول الإنجيل المقدس الويل لمن تأتي الشكوك على يده.
فإذا صار من قدسكم مرسوم برفع هذه الأمور الموجودة الآن وارتفعت يكون الروح القدس حقيقة حاضر معكم؛ لأننا صرنا عارا عند الأمم والأراطقة، ولو كان الأراطقة أراطقة ولو صيامهم وطقسهم وزيجاتهم ما غيروها، بل هي بموجب الناموس المقدس. ونحن نسأل المسيح بكل لغة ولسان بأن يعطيك الرب الإله أن تجمع الإخوة والأولاد الروحانيين الذين اشتراهم المسيح بدمه الكريم الثمين إلى صيرته الحقيقية، ويعطي الرب الإله لكل من يريد السلام والمحبة كما قال السيد: «سلامي أعطيكم سلامي أخلفه لكم.» فما قال فتنة وعناد وشرور، وناس تقول عملتم كذا، وناس تقول الحق معنا وأنتم ما معكم حق، وتم فينا قول الإنجيل المقدس: نترك الخشبة التي في أعيننا ونقول لأخونا أخرج العودة التي في عينك.
وعند قراءتنا الكتب المقدسة نعدل عن السماع لها كقول يوحنا الإنجيلي حيث يقول: إنك إن كنت تحب الله ولأخيك تبغض باطل قولك؛ إذ كيف الذي تراه تبغضه والذي لا تراه تحبه، وسيدنا له المجد قال: حبوا أعداكم وأحسنوا لمن يبغضكم. ونحن الآن عملنا كله بخلاف ما أوصانا تعالى به.
ونطلب من حنو مراحمه ببركة صلواتكم أن يجعلنا من السامعين الطائعين لما يرضيه ويفرحكم باجتماع الإخوة والأولاد الروحانيين لتقولوا: هؤلاء هم الأولاد الذين أعطاني إياهم الله، ادخلوا إلى فرح ربكم، يكون ذلك لكم بشفاعة العذراء البتول ومار بطرس الرسول وجميع القديسين آمين. جرى ذلك وحرر في اليوم العشرين من شهر آب المبارك في سنة ألف وسبعمائة وستة عشر بمحروسة دمشق الشام من أخيكم بالمسيح كيرلس البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق.
واستنزل البطريرك الأنطاكي بعد هذا غضب الله على كل من يزيد أو ينقص. وأضاف أنه مرسل مع البادري بلاسيوس والخوري ساروفيم «هدية» حقيرة: عكازا صدفا إذا مسكتموها في القداس الإلهي تذكرون حقارتنا ومرتبان صيني داخل رطل دهن البلسم صافي.
49
ويلاحظ هنا أن البطريرك الأنطاكي يخاطب الحبر الروماني كأخ ويشير إلى البطاركة باللفظ «الإخوة»، وأنه يؤكد استمساك الكنيسة الأرثوذكسية التي رأسها بقرارات المجامع السبعة، ومثابرتها على الصلاة في كل يوم من أجل الكنيسة الجامعة. ثم يلمح إلى الفتن التي أثارها الشيطان في مجمع فلورنسة وأثر ذلك في الروم الذين من طبعهم العناد. ويشكر لأخيه البابا سعيه للاتحاد ويشير برقة ودقة إلى موقف جده مكاريوس من قضية الاتحاد، فيحبذ الدور الذي لعبه دور الوسيط المصلح بين الحبر الروماني وسائر الأحبار، ثم يصلي «لكل» من يريد السلام والمحبة، ويقدم عكازا من الصدف هدية للبابا، فأين الاعتراف بسلطة رومة والدخول في طاعتها؟ ولا سيما إذا قرأنا هذا كله على ضوء ما جاء في رسالة هذا البطريرك نفسه إلى رئيس أساقفة الآباء الفرنسيسيين. ويلاحظ أيضا أن الفرق كبير جدا بين نص هذه الرسالة البطريركية وبين النص الذي أعده أثناسيوس وأشرنا إليه سابقا، وبين ذاك الذي أعده جراسيموس مطران صيدنايا في منتصف تموز من السنة 1716.
50
وفي نظرنا لا يجوز القول بدخول كيرلس في طاعة رومة لمجرد تأكيد هذا الخبر في بعض رسائل أفتيميوس؛ لأن أفتيموس له مصلحة فيما يروي، وبالتالي فإنه لا يعتبر شاهدا عدلا. ويستدل من رسالة إقليمس الحادي عشر إلى كيرلس الثالث المؤرخة في 21 أيار سنة 1718 أن هذا الحبر لم يكتف بما نقل إليه من أخبار أفتيميوس ورسائل كيرلس فهو يقول ما يلي، والعهدة في ذلك على المترجم الخوري قسطنطين: «على أننا نطلب من أخوتك أن تظهر علنا للجميع بكتابات متصلة واضحة أنك متحد مع هذا الكرسي الرسولي بقلب صادق «بدون مراياة»، وأنك تعهدت بالخضوع له وللحبر الروماني.»
51
وقول أفتيميوس إن كيرلس وقع أمانة أوربانوس الثامن وختمها بيده وأرسلها يبقى قولا ضعيفا إلى أن نعثر على هذه الوثيقة في محفوظات رومة. ويجب ألا ننسى أنه جاء في تقرير رفعه القس جبرائيل فينان إلى كاتم أسرار مجمع انتشار الإيمان بتاريخ 11 تموز سنة 1719، أنه اتصل بكيرلس وقدم له هدية البابا وأقام عنده وكلمه مرارا في أمر «الإيمان الروماني المقدس»، فكان تارة يذعن له وطورا «يجادله جدالا خفيفا.» وكان يشكو من «عدم تكميل الكنيسة الرومانية طلبته في طبع الكتاب الأفخولوجي ورفع ضرر القرصان وعودة التابعين للكرسي الروماني إلى الحساب الشرقي في تعييد الفصح.» ويخلص الأب فينان إلى القول إن ما أرسله كيرلس إلى رومة جاء إما عن طمع منه في أشياء عالمية أو عن خوف من مشاغبة الكاثوليكيين في أبرشيته، وإن البطريرك «رسم مشاقا على كرسي باياس» نزولا عند رغبة بطريرك أوروشليم.
52
كيرلس وأفتيميوس
ولج أفتيميوس في كثلكته فامتنع عن تأدية مال النورية إلى المقر البطريركي واكتفى بتقديم «سمكة بحرية أو أربعين قالبا من الجبن القبرصي». وبعد وفاة مطران بيروت اتصل بالأمير حيدر شهاب واستأذنه في ضم بيروت وتوابعها إلى أبرشيته، وطمع في أبرشية عكة وحض المسيحيين في حوران وشرق الأردن على الدخول في طاعته،
53
فشكاه بطريرك أوروشليم إلى السادة البطاركة وأطلعهم على «مكاتيبه ومراسلاته»، فأرسلوا هذه الرسائل إلى كيرلس وطلبوا ردع أفتيميوس وإدلاء النصح إليه بألا «يقارش» أفتيميوس أبرشية القدس، وقالوا: «نحن ماسكين خاطرك!» فأرسل البطريرك الأنطاكي هذا كله إلى أفتيميوس، وطلب إليه أن يمتنع عن هذه الأفعال فلم يقتنع، وتساهل أفتيميوس في أمور الزواج مفسحا من بعض الموانع وخالف بذلك الناموس الأرثوذكسي، فكان عندما يمنع البطريرك الزواج الحرام يجيزه هو «ويأكل البلعة» بكاملها،
54
وجاء لغطاس قندلفت في «تاريخ البطاركة» أن أفتيميوس اختلس أمتعة تخص البطريرك.
55
البطاركة يحرمون أفتيميوس (1718)
وأصر أفتيميوس على موقفه فالتأم مجمع في القسطنطينية في خريف السنة 1718 برئاسة أرميا الثالث بطريرك «رومة الجديدة»، ونظر في قضية أفتيميوس فحكم عليه بالخروج على الناموس من أبواب سبعة: تحليل الزواج في الدرجة الرابعة، وشرطنة أناس من غير أبرشيته، وإبطال عظات يوحنا الذهبي الفم في كنيسته، وتحليل أكل السمك في الصوم، وإبطال بعض الترتيبات الكنسية، وإبطال «وضع الزاون ورفعه من الوسط»، ولبس الميترا وغيرها بدون إذن. ووافق على هذا كله بطريرك أوروشليم والبطريركان القسطنطينيان السابقان أثناسيوس وكيرلس، فحرم المجمع أفتيميوس وقطعه من درجات الكهنوت واستصدر فرمانا بنفيه، ونقلت هذه القرارات كلها إلى العربية في بطركية أوروشليم، ثم أرسلت إلى الكرسي الأنطاكي مع أصلها اليوناني.
ولدى اطلاع كيرلس على قرارات المجمع القسطنطيني أبلغ أفتيميوس محتوياتها ونصح إليه أن يسترضي الرؤساء المسئولين بنفسه أو بواسطة شخص آخر يوفده لهذه الغاية، فأبى أفتيميوس وامتنع. فسكت كيرلس سبعة أشهر فأقبل الرؤساء عليه باللوم واتهموه بالتواطؤ وقالوا له: «بدك تخرب أربع أبرشيات البطاركة!» فاضطر البطريرك الأنطاكي أن يذيع قرارات المجمع القسطنطيني في سائر أبرشيات أنطاكية. وينقل البطريرك كيرلس هذا كله إلى قنصل فرنسة في صيدا، فيخلص إلى القول: «لكن يا عزيزنا إذا كان عندكم في بلادكم واحد كاثوليكي عمل مخالفة في أمور الدين وحكموا عليه بالحرم، ما يتمكنوا حرمه حتى ينظروا إيش يضمر من طاعته وتوبته وندامته، وفي فهمكم كفاية كل أمر.»
56
وجاء في رسالة كتبها أفتيميوس نفسه إلى مجمع انتشار الإيمان في آخر كانون الثاني سنة 1720 أن كيرلس حرض البطاركة عليه، وأنه استعان بالبادري توما لإظهار خضوعه أمامه، فقام إلى دمشق وقبل يد البطريرك «وعمل له الطاعة»، فباركه البطريرك وأعلن ذلك في حاصبيا وبيروت وطرابلس ونصح إليه أن يترك صيدا ويختبئ في جبل الشوف.
57
حرم البطاركة «أرميا برحمة الله رئيس أساقفة القسطنطينية رومة الجديدة البطريرك الإيكومينيكوس المسكوني إلى حضرة أب الآباء المتقدس ورئيس الرؤساء كير كيرلس، بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق، وإلى المطارنة ورؤساء الأساقفة المحبين لله الذين هم تحت طاعة قداستكم موجودين محبين وإخوة لنا بالروح منتخبين، وشركائنا في الخدمة والأسرار الإلهية إلى الكهنة الورعين وإلى أولادنا الأحباء، والأراخنة المكرمين والأعيان المبجلين مع بقية النصارى الأرثوذكسيين الذين هم في أبرشية أنطاكية قاطنين وموجودين أولادنا المحبوبين بالرب.
فرحا لكم وسلامة تشمل كافتكم ورحمة من الله الضابط الكل ومن حقارتنا نعم لكم بركة وغفرانا كاملا يشمل كافتكم، آمين.
والذي نعلم محبتكم أنه من باب الواجب يكون عند كل إنسان منكم حفظ أمانته غير منصدع ولا متزعزع عن تقليدات آبائنا الحسني العبادة المستقيمي الرأي، وتحفظونها وتصونونها حفظا وثيقا حكم ما شرعت به شريعة الرسل القديسين والآباء الإلهيين المتفوهين بإلهام الروح القدس التي هي شرائع الكنيسة ونواميسها، وحسب ما هو مسطر في الكتب الإلهية، لأجل ذلك يجب علينا أن نحفظ اعتقادنا بكل حرص واجتهاد نقيين ومن الدرن سالمين ومن الأفكار الردية هاربين وإلى جميع خرافات العالم راذلين. (ويجب أن نحفظ) الأمانة الأرثوذكسية لامعة بكل شهادة وتثبيت؛ لأن الإنسان إذا كان مائلا في اعتقاده ويتمجد بذاته ويقول كلام مخالف غير لائق الذي هو كلام بدع وتجديف في التسليم السابق فذلك من الأباطيل، والكلام غير مسموع وطازه ومخالفته فيه وتحققه لتلاف الناس وتشويش القلب إذ يقول: لا تغيروا التقليدات الأبوية، والقلب المشوش ليس فيه راحة وهو بوق ظاهر وردي جدا. ومن يكون عنده مثل هذا التشويش فمن كل بد هو فعل شيطاني وإحادة عن المعرفة بمساعدة وطغيان باغض الحق الذي دائما يسعى في المضادة فرحانا، ولا يسعى للذين مطابقين رأيه. لكن دائما يجاهد في ضد المستقيمين الرأي ويضع لهم الشكوك، وهو مبغوض ومردود ومبعود مع من يتبع أفعاله الشيطانية، ومطرود من كنيسة الله؛ لأن الباري في البار يكون. والذي يريد أن يطرد عنه الخيالات الشيطانية فليفتكر في ذاته ويعرف الحق من الباطل، وأما الذي يكون متعوج وكذوب ومماحك وكلامه غير لائق ويدين غيره يضاد الحق ويبذر أفكاره الشريرة ويلومها حتى لا يسع عقل أحد معنى كلامه.
فمثل هذا تباين وظهر عندنا طغيانه وتجديفه، وتحقق عندنا ذلك من مكاتيبه ورسائله ومن أناس شهود ثقاة صادقين، ومن المكاتيب الممهورات باسمه وختمه الذين ظهروا في مجتمعنا هذا المقدس الذي بتخلي من الله صار رئيس كهنة، الذي هو الشقي الشرير أفتيميوس المطران بالاسم لا بالفعل، وهو مطران صور وصيدا. هذا الكاذب الطاغي المجدف على الروح القدس، الخافي الغش في قلبه وفي نفسه، الذي الآن ظهر كذبه وطغيانه، المشوش على رعية المسيح وأغنامه الناطقة، والدائس لها والمضل لها في الكذب والافتراء. وكل ذلك قصد منه السبح الباطل والآراء المزخرفة تابعا لهم وضلال رأيهم مقتفيا وماسكا لتفسحه في طرايق المؤمنين.
ولم يكفاه ذلك، بل إنه يسمي ذاته أرثوذكسي وينشر حاله أنه في اعتقاد الكنيسة الشرقية ثابت، وكل ذلك خدعة منه للحسني العبادة وضلالا شنيعا لسقوطهم وتهورهم في غوطة الأفكار، وأنشأ كتبا من ذاته، ويجتذب شهادات كما يريد وينسبهم إلى الكنيسة المقدسة الشرقية الأرثوذكسية. ومن استفحصهم على ما ينبغي يفهمهم ويعرف معناهم.
ثم بلغنا الخبر أيضا أنه صنف بغير معرفة كتبا ضد الدائم الذكر الشيخ كير ضوستاوس البطريرك الأوروشليمي الذي كان غيورا للدين الأرثوذكسي الذي حسن عبادته وديانته وعلمه قد انبثت في سائر المسكونة، وفي كل الأرض خرج صيت تقويماته، وهو مشابه الرسل القديسين كما تشهد كتبه المصنفة منه بإلهام الروح القدس، وبكل كد وتعب في الرأي المستقيم الذي كان عالما بها ومعلما نهارا وليلا وكارزا فيها في جميع المسكونة.
فأما هذا الشقي الحظ يظهر (خروجه) على النواميس المقدسة ويدل بهم أنهم مثبتين على الحق والاستقامة. وبالحقيقة ليسوا هم كما يظن، بل هم مصنفات إلى الطغيان. ولم يفهم معاينهم كما يجب، بل يضل بهم أناسا كثيرين من قليلي المعرفة السذج في قلة فهمهم وغلاظة ذهنهم وافتخارهم بعلمهم، وهم لم يعرفوا شيئا، ولا يدرون الطريق المؤدية إلى الخلاص لأجل أنها ضيقة وليس رحبة؛ ولهذا يقبلون قول هذا الطاغي بتفسحه لهم بالأمور التي لا تجدي نفعا، ويدخل سيرة الغنم كراعي بالخارج ومن داخل ذيب خاطف يذبح ويشتت بقدر مقدرته الباطلة، ويشتد إلى الوسط طغيانا فاسدا وكذبا بهرجا لعلمه أنهم سذج أميون لا يفهمون شيئا، ويبدع بدعا ويظن أنها من الكتب المقدسة، وكل ذلك من عظمته وغروره وافتخاره.
ويقول في أثناء ذلك في إمضاء مكاتيبه من الحقير متروبوليت أي من غير المستحق ولم يفهم أن هذه القضية لم تعطى له، بل هي أعطيت إلى البطاركة وإلى رؤساء الأساقفة القائمين بذاتهم لا غير كما هي مرتبة من المعلمين الإلهيين.
ولم يكفاه ذلك بل إنه لعظمة غباوته وجهله يتجاسر على غير أبرشيات ويوعظ فيهم من غير إذن ولا دستور صاحب الأبرشية، ويبان ذلك ليس هو من باب طريق الناموس ولا هو لائقا ومرتبا بين رؤساء الكهنة أن يطأ كراسي غيرهم من غير إذنهم، كما هو مشروح في القانون العشرين في «طرلو» المقدسة في المجمع الخامس والسادس المقدسين الذي يذكر فيهم بأن ليس لائق لرئيس كهنة يتقدم في غير أبرشيته أو يعلم فيها، وكل من يتجاسر على ذلك يكون مقطوعا من كهنوته.
وأيضا في قانون التاسع عشر والتاسع والعشرين من مجمع أنطاكية العظمى يشرع بالقول: إن كل رئيس كهنة يشرطن بغير أبرشيته أو يوعظ بغير إذن صاحب الأبرشية أو من غير مكاتبة له، فتلك الشرطونية باطلة وذلك المشرطن يكون مقطوعا من سائر درجات الكهنوت.
لأجل ذلك لما ثبت عندنا أقوال وأفعال وتصريح هذا الشقي الحظ أفتيميوس، وتعويجه وتجديفه على الحسني العبادة، وعلى القوانين المقدسة وتحريمهم مثل ذلك من غير جزع ولا خوف ولا احتشام لكونه خالف شروط القوانين المقدسة ؛ لأنه:
أولا:
حلل زواج الزيجة الرابعة وزوج أختين إلى أخين.
ثانيا:
شرطن أناسا من غير أبرشيته.
ثالثا:
أبطل تفاسير يوحنا فم الذهب وقال: هؤلاء كانوا رؤساء كهنة وأنا رئيس كهنة مثلهم .
رابعا:
حلل أكل السمك في يومي الأربعاء والجمعة وفي الصيام الكبير المقدس وبقية الصيامات المقدسة ويلعن الذي ما يأكل في الصيام سمك.
خامسا:
أبطل تراتيب الكنيسة وزاد ونقص في قوانينها.
سادسا:
أبطل من القداس إلهي حط الزوان الماء الحار ورفعه من الوسط.
سابعا:
بتجبره وكبريائه وافتخاره بنفسه تجرأ وابتدع له ميترا ولبسها من غير أن سبق للمطارنة الذين قبله أن لبسوها بهذا الكرسي، ومع ذلك من غير إذن ومشورة معلمه ومن غير دستوره. وصار قائم بذاته وخالف القوانين المقدسة وأمورا غيرها قبيح أن نذكر تعاويدها؛ فلأجل ذلك حكم مجمعنا هذا المقدس بالحق أنه مستحق القطع وهو مقطوع من ساير درجات الكهنوت العظيمة والملايكية.
فمن حيث إنه لم يثبت مستقيما، بل تعظم في معرفته وشابه طغمة الملائكة التي سقطت من السماء وماثلها. ومن الواجب لكل رئيس كهنة أن يكون نقي طاهر ليس بالقول فقط، بل بالفعل حتى لا يشكوا منه رعاياه ولو بكلمة واحدة صغيرة، ولا يفتري على الاسم القدوس، بل يكون كواحد من الرسل بالقول والفعل والسيط، وكل من فعل خلاف هذا الرأي ويعلم الناس بخلاف ذلك ويطغي عقول السذج فمثل هذا فليسقط من درجته، ويجب أن يطرد هذا الطاغي من بيننا ويحذف كما يحذف الحجر بالمقلاع كما معين في شريعة الرسل.
فليعلم الآن كل واقف عليه وسامع رسالتنا هذه فليعتقد بأنه بعد فحص بليغ واستيثاق حريز بهذا المجمع المقدس بحضور البطاركة الدائمين الذكر إخوتنا كير أثناسيوس وكير كيرلس بطاركة القسطنطينية سابقا، وبحضور أخونا الأب الأمجد كريسانطوس البطريرك الأوروشليمي، وبحضور من وجد معنا من رؤساء كهنتنا المطارنة والأساقفة المحبين لله، وشركائنا في الخدمة الإلهية الذين سنذكر أساميهم أدناه، بأننا شرعنا جميعنا وحكمنا وحتمنا بأن هذا الشرير أفتيميوس مطران صور وصيدا محروم مفروز مقطوع من سائر درجات الكهنوت، ومعرى من سائر مواهب الروح القدس، وليكن مسقوطا وخارج من درجة المطرانية، ويكون جزءا ساقطا ومطرودا من سائر أبرشيته. وأما كتبه المصنفات من قبله فليكونوا مرذولين وبطالين وليس مع أحد دستور من جميع الحسني العبادة أن يعتنى بهم أو يفعل بما فيهم، وكل من تعدى ذلك من المسيحيين وتبع هذا المذكور الكاذب المشوش على كنيسة المسيح الأرثوذكسية الأغنام الناطقة الذي هو متشبه بالشيطان كائنا من كان يكون مفروزا.
وهذا الشقي المنكود حظه ليس له «معاضدة» في أبرشيته، ولم يبق معه دستور بوضع يده على كنيسته ولا يقارش محصولها من المسيحيين، وليس له سلطان أن يتزيا بزي رؤساء الكهنة، ولا أن يتصرف ويخدم خدمتهم؛ لأنه مقطوع ومسقوط ومنتزعة عنه النعمة وسائر درجات الكهنوت. ومن الآن يسمى أفتيميوس فقط لا غير ويكون كواحد من المطروحين. وكل كاهن يقدس معه ويحتسبه كباقي رؤساء الكهنة بمعرفة يكون مقطوع من كهنوته مفروزا، وكل واحد من العلمانيين يكرمه إكرام رئيس كهنة، ويقبل تلك اليد النجسة المملوءة غشا قاصدا بذلك أخذ بركة، فلتكن خطاياه غير متروكة ولا مغفورة إذا كان بمعرفة منه. وكائنا من كان منكم أو من غيركم يساعده ويقبله في بيته أو في أوضته أو في حاصله أو يشاركه في مصالحه وفي أفعاله أو يسعى معه أو يساعده كائنا من كان ذلك الشخص يكون محروم كبير كان أو صغير. ومن الآن كل من يتشرطن من يده يكون مقطوع. والذين يتفقون معه وهم يعلمون أنهم يتفقون ضد الحق فليكونوا محرومين معه ويكون حظهم مع المعوجين كما يقول النبي داود. وكل الذين يضادون وينشقون مائلين إلى طغيانه وتجديفه فليكونوا مغضوبين ومحرومين في هذا الدهر، ويرثون برصا لا يبرأ دائما وفي حياتهم يهتزون مثل قايين ويهلكون ولا يشبعون القوت الضروري، ويمحقون من مصحف الحياة. ويكون لهم وعليهم غضب الآباء المتوشحين بالله الثلاثمائة وثمانية عشر وبقية المجامع المقدسة.
وأما جميع المسيحيين الأرثوذكسيين الذين هم لأوامر كنيستهم سامعين وبها عاملين ومما يضادها هاربين ولتقليدات الآباء القديسين ورسومهم فيها تابعين، وفي كل عمل صالح ناجحين فليكونوا لملكوت السماء وارثين، آمين آمين آمين. حرر في شهر تشرين الأول سنة 1718 أنديكتون الثاني.
برحمة الله أثناسيوس بطريرك القسطنطينية سابقا أمر بذلك، برحمة الله كيرلس بطريرك القسطنطينية سابقا أمر بذلك، برحمة الله جريسندوس بطريرك أوروشليم أمر بذلك، في طاعة قدسكم أكليمنضوس أيراكلية ورودوستوس، في طاعة قدسكم بائيسيوس نيقوميذية، في طاعة قدسكم أفكسنتيوس كيزيكو، جراسيموس نيقية، أثناسيوس أدرنة، ديونيسيوس أماسية، برتانيوس لاريسوس، نيكوميدس ميليتيني، أبروفنوس متليني، أثناسيوس أيلاصونوس.
نسخ من اللغة الرومية إلى العربية في دمشق على يد أب الآباء ورئيس الرؤساء وراعي الرعاة كير كيرلس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.»
58
أثناسيوس الرابع (1720)
وشاخ كيرلس الثالث وقرحت رجله وشقت قرحتها، وحضرته الوفاة وبلغ الوصية فدخل عليه الخوري عبد المسيح وكان ممن قالوا بالكثلكة، وسأله إذا كان يريد أن يعترف، فأجابه البطريرك: «أي شيء عملت؟! لا قتلت ولا زنيت ولا سرقت اقرأ أفشين!»
59
وفي يوم الثلاثاء الخامس من كانون الثاني سنة 1720 اختار له الله ما عنده ففاضت نفسه ودفن يوم عيد العماد الشريف في مدفن البطاركة في تل القديس جاورجيوس، «وكانت مدة رئاسته سبعا وأربعين سنة وستة شهور وأربعة أيام.»
60
وكان أفتيميوس في دمشق آنئذ فأحاط به أنصاره وأرادوا أن ينادوا به بطريركا واستعانوا بعثمان باشا أبي طوق صديق أفتيميوس وأرادوا أن يستولوا على البطريركية بالقوة، فعارضهم في ذلك المرسلون الرومانيون في شخص كل من الأب توما دي كامبايا والأب بطرس فروماج وقالا: إنه محروم من البطاركة، وإن رائده تغيير الطقوس والعوايد وتخريب نظام الكنيسة! وفصلا ذلك في أنه «بده يبطل الماء الحار من القداس ويلزمكم في أكل السمك ويطعم رهبانكم لحم حتى يحقر كنيستكم!» وأيدا أثناسيوس؛ لأنه سبق له أن نصب بطريركا، فطالب أفتيميوس بخمسمائة غرش دفعها إلى كيرلس لمناسبة شرطنته مطرانا على صور وصيدا فأعيدت له مائة ذهب بندقلي وستة عشر كتابا كنسيا وأشياء أخرى، فذهب أفتيميوس إلى الكنيسة وأقام اسم أثناسيوس وقال: «كونوا مطمئنين القلب والخاطر.»
61
أما أثناسيوس فإنه بعد الصلح الذي تم في السنة 1694 استقر في حلب ودبر رعيته أحسن تدبير، «فمنع عنها ما لا يجوز وأثبت فيها ما يجب إثباته من قطع أسباب الشر وإثبات أسباب الخير.» فأحبه النصارى على اختلاف مللهم ومالوا إليه؛ «لأنه كان ذا عقل وافر وحكيم.»
62
وكان يكثر من مطالعة كتب الآباء والتواريخ فلوى عنانه واستقام على الطريقة المثلى واتصل بالقسطنطينية وسافر إلى الفلاخ والبغدان مستجديا. ولما توفي كيرلس نادى جمع غفير من نصارى دمشق بأثناسيوس بطريركا وكتبوا بذلك إلى أعيان الطائفة في حلب، وكان أثناسيوس غائبا عنها متجولا في الفلاخ فأجاب نعمة بن توما الخوري الحلبي باسم أعيان حلب برسالة مسهبة أدخل نصها في كتابه «راكب الطريق لمن يرضى بتقليد التلفيق». وإليك أهمها:
ومن جهة مكاتيبكم المرسلة على يدنا لكي نرسلها إلى قدسه مع المكاتيب المخصوصته إلى إسلامبول، ففي حال وصولها بذلنا ما يجب علينا من الهمة وباشرنا تحرير مكاتيب خصوصية وعمومية، ووضعنا الجميع في مغلف واحد وأرسلناهم ضمن مكتوب بولسة صحبة جوقدار حضرة محصل أغا مضمونات الوصول بوجه السرعة ليد المقدسي فرج الله القاري. وأكدنا عليه في مكاتيبنا أنه حال وصولهم إلى يده يمسك ولاق (ساعي) على كيسنا ويرسلهم صحبته إلى الولاء (الفلاخ). وأكدنا على قدسه أن يكون حضوره إلى إسلامبول قبل بيوم وساعة ليقضي شغله على مراده.
63
مجمع القسطنطينية (1722)
وعاد أثناسيوس من بلاد الفلاخ وبلغ دمشق في أوائل آب سنة 1820، وكان كيرلس قد وقف جميع متروكاته على الكرسي البطريركي، فلما استتب الأمر لأثناسيوس وجد معظمها مندثرا فأخذ الغيظ منه كل مأخذ، وزاده غيظه بما لاحظه من نشاط رهبان الإفرنج وتدخلهم في شئون الكنيسة.
ولما كانت وسائل أثناسيوس المادية ضعيفة لا تساعده على محاربة رهبان الفرنجة بسلاحهم تذاكر في ذلك مع البطريركية المسكونية، ثم سافر إلى القسطنطينية بنفسه وأجهد في عقد مجمع للنظر فيما يجب اتخاذه من احتياطات بهذا الشأن، فانعقد هذا المجمع في أواخر السنة 1722 في القسطنطينية برئاسة أرميا البطريرك المسكوني واشتراك أثناسيوس البطريرك الأنطاكي وخريسنتس البطريرك الأوروشليمي واثني عشر مطرانا. وحكم هذا المجمع على التعاليم غير الأرثوذكسية ، ولا سيما ما يتعلق منها بالرئاسة والعصمة والانبثاق من الابن والفطير والنار المطهرية وسعادة القديسين والمخنوق وصوم السبت ومنع الميرون والمناولة عن الأطفال. وحررت أعمال هذا المجمع باليونانية والعربية وانتشرت في لبنان وسورية وفلسطين. وقد ذكر السمعاني ذلك في الجزء الثالث من «المكتبة الشرقية» وبندوتي في إضافته على «التاريخ الكنسي» لملاتيوس
64
وديمتراكوبولس في تاريخه، ص170-171،
65
وكان بطرس الأكبر قيصر روسية يعيد النظر في نظام الكنيسة الروسية فاستشار القسطنطينية في بعضها، فعني المجمع المنعقد فيها بهذه الأمور. وأهم ما اتخذه من القرارات لهذه المناسبة الإكثيسيس الأرثوذكسي، فتبنى بذلك أمولوغية دوسيثيوس الأوروشليمي وأرسلها إلى روسية، فعرفت برسالة البطاركة، وقد سبقت الإشارة إليها ونشرت بتمامها في الفصل السابق.
اختصار صوم الرسل
وكان كيرلس الثالث قد سعى لدى المقامات الأرثوذكسية العالية في اختصار صوم الرسل، فلما استولى أثناسيوس على سدة الرسولين جاءه سينذيكون يفوض أمر حل هذا الثقل إليه، فأصدر منشورا رعائيا جعل فيه صوم الرسل اثني عشر يوما بعدد الاثني عشر رسولا؛ وذلك «لكي من يصوم لا يدين من لا يصوم ومن لا يأكل لا يدين من يأكل.» وبين الأسباب التي أوجبت هذا الاختصار فجعلها خمسة؛ أولها: أن من صام هذا الصيام كان يصومه بتذمر وضجر، وثانيها: أن هذا الضجر كان يدفع البعض إلى التجديف، وثالثها: أن بعض المؤمنين كانوا يتعدون الصوم بالخفاء، ورابعها: أن البعض كانوا يأكلون الزفر من غير حياء، وخامسها: أن أغلب أهل القرى والبر كانوا يتركون المذهب المسيحي وينحازون إلى الأمم؛ لأن «فصل السنة في هذا الصوم مقفر من الخضر والفاكهة ومن المآكل الصيامية، ومخصب بالحليب واللبن والجبن والبيض، وأن أهل البر لم يكن عندهم غير هذه المآكل، وهكذا كان أولادهم ينفرون عنهم وينتمون إلى مجاوريهم من الأمم، فلم يبق في بعض القرى من المسيحيين أحدا.»
66
الليتورجية والأورولوغيون
وعني أثناسيوس وهو لا يزال بطريركا سابقا بالطقوس الدينية فطبع في السنة 1701 في مدينة بوخارست في حقلين يوناني وعربي بحبر أسود فاحمر كتاب الليتورجيات الثلاث، واعتمد في النص اليوناني ما كان قد طبع سابقا في مدينة البندقية وتبنى للنص العربي ترجمة ملاتيوس كرمه، فظهر الكتاب في 252، صفحة من القطع المتوسط، وجاء في ديباجته ما يلي:
كتاب القداسات الثلاثة الإلهية مع بعض احتياجات أخرى ضرورية للصلوات الأرثوذكسية. قد طبع الآن حديثا في اللغة اليونانية والعربية بالتماس ومشارفة الأب الطوباني كيريوكير أثناسيوس البطريرك الأنطاكي سابقا، بمصرف السيد الأمجد الرفيع الشأن متقلد حكم جميع بلاد ونكر وفلاخيا كيركيريوانو قسطنطين بسارابا ويوضا المكرم، في تقليد رياسة كهنوت الأب المطران الكلي الغبطة ثاوضوسيوس للبلاد المذكورة، في دير سيدتنا والدة الإله المكنى بسيناغوفو في سنة ألف وسبعمائة وواحد مسيحية، بيد الكاهن في المتوحدين أنثيموس الكرجي الأصل.
وفي السنة 1702 أنجزت هذه المطبعة نفسها كتاب الأورولوغيون بحرف عربي كبير بحبر أسود وأحمر في حوالي سبعمائة صفحة. وجاءت طروباريات وقنداقات أعياد المشاهرة وأعياد الخمسين والتريودي مطبوعة باليونانية والعربية في حقلين متقابلين.
كتاب «صخرة الشك»
ورأى أثناسيوس أن يزود الأرثوذكسيين بما يثبت إيمانهم ويمكنهم من الرد على رهبان الفرنجة وأتباعهم فنقل كتاب إيليا مونياتي إلى العربية وأسماه «صخرة الشك» ونشره مطبوعا سنة 1721 ووزعه مجانا على أبناء الطائفة. وفي هذا الكتاب بيان بدء الانشقاق وأسبابه وانفصال الكنيسة الغربية عن الشرقية والاختلافات الكلية بينهما،
67
فاستفز بعمله هذا الشماس عبد الله زاخر، فرد هذا بكتاب أسماه «التفنيد للمجمع العنيد» وبموجز دعاه «مختصر التفنيد»، وقد طبعه الآباء اليسوعيون فيما بعد في بيروت سنة 1865، وقام بعده الخوري نقولا الصايغ فصنف في الدفاع عن الكثلكة كتابا أسماه «الحصن العظيم مقابل المجمع الأثيم»، منه نسختان في مكتبة دير المخلص.
تاريخ البطريركية الأنطاكية
وصنف أثناسيوس تاريخا لبطريركية أنطاكية من زمن بطرس الرسول حتى السنة 1702 ودونه باللغة اليونانية فترجم إلى اللاتينية وطبع في فينة عاصمة النمسة، وشرح كتاب «التعليم المسيحي» وكتاب «الحكيم والعالم»، وألف في سيرة القديس خريستوذولوس رئيس دير الرسول يوحنا اللاهوتي الذي كان في جزيرة بطمس.
68
أثناسيوس وأفتيميوس
واعتبر البطريرك أثناسيوس أفتيميوس محروما وأعلن ذلك في أبرشيات الكرسي الأنطاكي، واستصدر فرمانا سلطانيا بنفي أفتيميوس وحمل هذا الفرمان إلى الولاة رسولا سلطانيا، فقبض على أفتيميوس وعلى ابن أخته الخوري ساروفيم طاناس وأخيه أو ابن عمه منصور الصيفي والخوري خليل خبية والقس إلياس فرعون والخوري فرج الله نصر والخوري سليمان سالم، وقيدوا بالحديد وأودعوا السجن في قلعة صيدا استعدادا لنفيهم إلى أدنة. وجاء إلى صيدا مطران يوناني يحمل ثلاثة أوامر سلطانية قضت بضبط الكرسي والأملاك وبتأديب من اعترف بسلطة رومة. وزار هذا المطران اليوناني أفتيميوس في سجنه وفاوضه في العودة إلى حضرة الكنيسة فأبى، وكان لأفتيميوس صداقة ترعى عند والي صيدا عثمان باشا أبي طوق فتوسل بها. وبدلا من أن يطوقه «أبو طوق» أطواق بره أرسل رجاله إلى السجن يفاوضون السجناء فيما يدفعون فداء أرواحهم! ولما نال مراده منهم شهد بحسن حال أفتيميوس واستصدر عفوا من الآستانة، ثم أطلق سبيل السجناء بعد أن قضوا في القلعة ثلاثة أشهر ونيفا، وخشي أفتيميوس أن تنقلب الحال عليه بعد أن عزل صديقه عثمان باشا في أواخر السنة 1722، فاستصدر حجة شرعية من قاضي صيدا تثبت التحقيق في قضيته وصدور العفو وذلك في حوالي التاسع عشر من حزيران سنة 1723،
69
وجال أفتيميوس جولة رعائية فزار صور وصيدا وبعلبك، ثم نهض إلى دمشق فاستولى عليه العياء وكان قد جاوز الثمانين، فتوفي فيها في أواخر تشرين الثاني سنة 1723، ودفن في مدفن التل. وفي السنة 1926 عثر بعض الفعلة العاملين في المدفن على حجر تاريخ أفتيميوس فنقله بعض الرهبان سرا من المدفن إلى محطة القطار في دمشق، فأعلم مدير الشرطة البطريرك غريغوريوس الطيب الذكر بذلك فقال رحمه الله: «هم أحق منا بذلك؛ لأن أفتيميوس كان أول أسقف كاثوليكي.» فنقل الحجر إلى دير المخلص.
70
أثناسيوس وحلب
وذهب أثناسيوس بعد تفرده بالبطريركية إلى بلاد الفلاخ والبغدان لجمع التبرعات للكرسي الأنطاكي، ثم عاد إلى القسطنطينية ومنها إلى حلب. وأقام في هذه المدينة مدة؛ لأنه شعر أن مناخها كان أكثر موافقة لصحته، ولعله أحب أن يكون مركزه الفعلي في أكبر وسط أرثوذكسي، ولعله أيضا سئم الإقامة في دمشق لكثرة الشغب في أوساطها الأرثوذكسية المائلة إلى رومة.
وألح الحلبيون بوجوب رسامة أسقف عليهم منذ السنة 1720، فانتهز أثناسيوس فرصة شغور الكرسي فيها واشترع ما يؤمن المحبة والسلام، فأصدر في الخامس والعشرين من تموز من هذه السنة مرسوما بطريركيا قضى بتأليف مجلس ملي من اثني عشر عينا من أعيان الطائفة، وبتخصيص جميع ما يدخل من النذور وما يرد من تفريق الشمع وما يجمعه صندوق الفقراء وثلثي دخل القداديس والنياحات إلى الكنيسة يتسلمه مجلس الملة وينفقه برأيه، فيؤمن باتيومية
وملاقاة القضاة وحكر الكنائس والإنفاق على الفقراء والديورة والقندلفت وغير ذلك، وخصص البطريرك دخل الإكليل والخطبة ونصف مدخول الأعياد وثلث مدخول القداديس والنياحات لرئيس الكهنة بالإضافة إلى مال البطرشيل. وأما النورية فإنها ظلت للبطريرك المتولي كائنا من كان وفي أي مكان كان.
71
وكان أثناسيوس قد قضى في دمشق أحد عشر شهرا (1720-1721) ثم أقام الخوري جرجس البلمندي وكيلا له فيها، ومضى إلى حلب فوصلها يوم عيد الرسل في التاسع والعشرين من حزيران سنة 1721. ولدى وصوله طلب الشعب مطرانا عليهم ورغبوا في انتداب ثيوذوروس الحناوي الشويري، فلم يرض البطريرك لما كان قد شاع عن ثيوذوروس من ميل نحو الكثلكة، فطلبوا أن يكون المطران من أبناء بلدهم فخيرهم بين ثلاثة: الخوري جرجس الشدودي والخوري نقولا الصايغ والخوري جراسيموس (جرجس البلمندي)، فاختاروا جراسيموس فحضر حالا؛ «لأنه كان متمرمرا من أهل الشام؛ لأنهم بغضوا معلمه.»
72
ورسم البطريرك جراسيموس مطرانا على حلب ثاني عيد الميلاد ليلا وأصدر المرسوم التالي:
بعد البركة والنعمة، المنهي أنه لما دعت الضرورة إلى إقامة مطران على مدينة حلب، حيث إننا التزمنا سياسة أبرشية الكرسي الرسولي الأنطاكي المقدس، ولأن الطريقة الكنايسية تقضي أن يصير انتخاب المطران برضا البطريرك واختيار الكهنة وباقي الرعية، ورأينا أن الرعية انقسمت آراؤها في ذلك أقسام قد يتصل إلى انخرام النظام، وآل أمر انتخابهم إلى أربعة أنفار لم يستقر لمجموعهم على أحد قرار، ثم تصفحنا الاثنين من الأربعة فرأيناهم لا يقبلان التقدم إلى هذه الدرجة السامية الشاقة حذرا من محذورات ضروراتها الفايقة، والثالث ليس بمعلوم أن يكون كفؤا ولا تبين أنه يرضى الالتزام بها.
فاستخرنا الله واخترنا لهذه الدرجة العلية والوظيفة الربانية ولدنا الروحي الخوري جرجس البلمندي بما أنه كفؤ لها من حيث السيرة وحسن التدبير وسلامة الذمة والسريرة ؛ ولذا حررنا هذه الوثيقة لإظهار انتخابنا المذكور ورضانا به، حتى كل من اعتمد على رأينا المرقوم يحرر خطه بيده لإثبات ما ألهمنا إليه تعالى من الهداية؛ لأن الجماعة الحلبية بما أنهم أبناؤنا الأخصاء قد التمسوا منا أن نقيم عندهم لسياسة أمورهم ولإظهار محبتنا لهم ما دمنا في قيد الحياة، وإن اقتضى أمر ضروري لسياسة غيرهم فنذهب لقضائه ونجازه ونعود إليهم، فرأينا أن إجابة طلبهم من وجه المحبة الأبوية واجب ومقبول وحري بالقبول. فأجبنا التماسهم المرغوب كالمأمول، وهم قبلوا هذا العهد والقرار على هذا المنوال بناء على أن يثبت المقال بثبات الأفعال وعليه الاتكال.
73
وبعد أن ارتقى جراسيموس إلى الأسقفية رفض الذهاب إلى دمشق بوكالة البطريرك، فقامت بينهما الضغائن. وكان من الحلبيين قسم وافر قد شرد عن الأرثوذكسية، فلما رأوا ما جرى بين أثناسيوس وجراسيموس وكانوا ينفرون من الأول نظرا لاجتهاده في مقاومتهم، تحزبوا لجراسيموس ومالوه إليهم. فلما رأى البطريرك ذلك أبعد جراسيموس عن حلب وحرم الشماس عبد الله زاخر، فخرج جراسيموس من حلب وأقام مدة في دير البلمند، ثم في دير السيدة في رأس بعلبك ثم في بعلبك نفسها. وما فتئ جراسيموس مبعدا حتى تموز السنة 1724، وفيه وهبه البطريرك الحل وأعاده إلى كرسيه.
أثناسيوس ودمشق
وصمم أثناسيوس على محاربة الكثلكة في دمشق وأصر على ذلك، فكتب في الرابع عشر من كانون الأول سنة 1722 إلى لاونديوس متروبوليت حماة ووكيله في دمشق أن يجمع الكهنة والشمامسة والوكلاء والأعيان ويكلمهم فيما جرى، ويأمرهم بالتمسك بالتقاليد الأرثوذكسية بدون زيادة أو نقصان، وبكتابة محضر بذلك يبين واقع الحال ويقنع البطريرك القسطنطيني وسائر المطارنة. وأمر لاونديوس أن يفهم الدمشقيين أن بطريركهم يتبع الكنيسة الشرقية والمجامع المقدسة السبعة، وأنه يؤمن بجميع ما قالوه وحددوه من القوانين والطقوس والرتب والأصوام والصلوات جميعها، فإن قبلوا هذا الرأي وأعطوا خطوط أيديهم به جاز وبقي هو على ما كان عليه من الاهتمام بهم، وإن لم يمتثلوا فليس على لاونديوس إلا أن يعلم البطريرك بذلك ليرفع يده ويتركهم «يعملون خلاصهم»، وإن طاعوا رضي عنهم. ولكنه يصر على ربط الخوري خليل خبية والخوري عبد المسيح زبال والقس يوحنا خبية والقس نقولاسيور، وإن لم يحفظ هؤلاء الرباط البطريركي وقعوا في الحرم بكلمة الرب العزيز، وكذلك من تعصب معهم وشوش فهو محروم أيضا!
74
مجمع دير المخلص
وتوفي أفتيميوس الصيفي في السابع والعشرين من تشرين الثاني حسابا شرقيا سنة 1723، فاجتمع كهنة الروم الكاثوليك في دير المخلص، وانضم إليهم الوجوه والأعيان وتفاوضوا في أمر خلف يتولى شئون الروم الكاثوليك، فطلبوا إلى الخوري سيرافيم ابن أخت أفتيميوس أن يخلف خاله فأبى؛ لأن نصارى صيدا كانوا لا يزالون يفاوضون البطريرك أثناسيوس في سيامة سيرافيم مطرانا على صيدا. فاتجهت الأنظار نحو الخوري جبرائيل فينان، فقال: «إن هذا الأمر ليس في يدنا.» فقالوا له: «أنتم اسكتوا واقبلوا الدرجة ونحن نعمل شغلنا.» فقبل فألح المجتمعون على الأمير حيدر حاكم جبل لبنان أن يوجد مطارنة ثلاثة يرسمون جبرائيل، «فجاب لهم الأمير ثلاثة مطارنة من تحت حكمه الواحد مطران بيروت من طقس الروم، والثاني مطران إلياس الموراني، والثالث مطران إبرام الأرمني.»
75
وسام هؤلاء جبرائيل أسقفا على بانياس ودعوه باسيليوس. وأقام باسيليوس في دير المخلص يدبر شئونه، ثم كتب في الثاني من آذار سنة 1724 إلى مجمع الإيمان يوضح واقع الحال ويرجو «الحلة من الكرسي الرسولي»؛ لأن نيوفيطوس غير كاثوليكي!
76
أغناطيوس مطران صور وصيدا (1724)
ولم يرض أثناسيوس البطريرك عن رسامة باسيليوس، ولم يثق بسيرافيم لاندفاعه الشديد في سبيل الكثلكة وجرأته على الجهر بها. وكان لا يزال يأمل في تسوية الأمور ورد الشاردين إلى الحظيرة، فاتخذ موقفا وسطا في رسامة خلف أفتيميوس على صور وصيدا، فوافق على ترشيح الخوري أغناطيوس البيروتي، وكان هذا من تلاميذ أفتيميوس وقد ناب عنه في أثناء غيابه، ولكنه كان «مسكينا لين الجانب»، فدعاه إلى حلب، وطلب إلى نيوفيطوس متروبوليت بيروت ونيوفيطوس متروبوليت صيدنايا أن يتوليا أمر رسامته وسمح لهما بالقيام بذلك وحدهما لتعذر وجود مطران ثالث، وقال في مرسومه: إنه عمل بنص القانون العشرين من الكتاب الثالث من قوانين الرسل والفصل السابع والعشرين من كتاب المراسيم الرسولية للقديس إكليمنضدوس تلميذ بطرس الرسول.
77
وفاة البطريرك أثناسيوس (1724)
وكبر أثناسيوس وتجاوز الخامسة والسبعين، وكان قد أصابه استرخاء في مثانته فتوفي في الرابع والعشرين من تموز سنة 1724 ودفن في جرن أعده لنفسه في كنيسة حلب. وجاء للخوري ميخائيل بريك أنه مات مسموما.
78
وجاء في تاريخ الرهبنة الشويرية أنه احتفل بخدمة القداس في أوائل شهر تموز وقال عند النهاية: «إن بعضا ألفوا كتابا ضد مجمعنا (عبد الله زاخر) فليكونوا محرومين هم ومن يقرأ في كتابهم.» فشعر وهو يخلع ثوبه الحبري بألم فلزم فراشه.
79
وجاء في «تاريخ البدع» لجرمانوس فرحات أنه لما دنت ساعة وفاة البطريرك جاءه الأب فروماج اليسوعي وفاتحه كلاما في سر الاعتراف، فأبى أن يعترف عنده وقال: لقد اعترفت! وأضاف جرمانوس أن البطريرك اعترف على يد الخوري بطرس الأشقر الأرثوذكسي رئيس دير مار جرجس الحميرة وأنه مات أرثوذكسيا.
80
وجاء في تاريخ الرهبنة الشويرية أن أثناسيوس بقي مصرا «على شقاقه» حتى الموت،
81
وجاء للأب جوزف دي ريلي رئيس دير الكبوشيين في حلب أنه ذهب في السابع والعشرين من تموز حسابا غربيا لعيادة السيد أثناسيوس بطريرك الروم ولم يكتم له خوفه من دنو أجله، فرفض قرارات المجمع القسطنطيني وقال: إنه لا يعرف إلا كنيسة واحدة هي كنيسة رومة، وإنه يموت على هذا الإيمان والاعتقاد ما عدا عادات الطقس التي لا تمس الدين، وإنه يقبل كل المجامع المسكونية، ولا سيما المجمع الفلورنتيني، وإنه حل عبد الله زاخر قبل وفاته.
82
وجاء أخيرا للمؤرخ المجهول صاحب «تاريخ نشأة الطائفة المعروفة بالروم الكاثوليك» الذي دون في حوالي السنة 1820 ما يلي:
ويزعم الكاثوليكيون أن أثناسيوس توفي على مذهبهم، وهو قول شائع بينهم وبين أحزابهم لما علم من عادة هؤلاء القوم من أنه إذا توفي واحد منهم أو منا وكان من المعروفين بالتقى والصلاح قالوا إنه مات على رأيهم ولو كان ذلك زورا وافتراء، ولا إثم عندهم في ذاك ولا حرج!
83
ونحن نرى أن شهادة المطران جرمانوس فرحات أولى بثقتنا، فهو مطران الموارنة الموالين لرومة، وهو صديق أثناسيوس وجليسه ولا مصلحة له فيما يروي، ومؤرخ الرهبانية الشويرية لا يناقضه في ذلك، ولا يجوز اتخاذ موقف وسط في هذه القضية، فما يصح في علم الرياضيات يصح هنا.
البطريرك كيرلس طاناس الكاثوليكي (1724)
وبعد وفاة أثناسيوس الرابع تشدد المنفصلون وانتهزوا الفرصة لتقوية مركزهم في الكرسي وتعزيز جانبهم برئاسة سيرافيم طاناس ابن أخت أفتيميوس الصيفي. وولد سيرافيم في دمشق في نحو السنة 1680، وتربى على يد خاله أفتيميوس، وأم رومة في السنة 1702 لتلقي العلوم فيها، ثم عاد إلى صيدا مركز أبرشية خاله في السنة 1710، فرسمه خاله كاهنا فعمل بإرشاده وتنقل واعظا داعيا لرومة في أبرشيات الكرسي الأنطاكي. وانتدبه فريق من أهل عكة مطرانا لهم، فعارضه في ذلك البطريرك الأوروشليمي ولم تتم رسامته. ثم انتدبه أهل أبرشية صور وصيدا ليخلف خاله عليهم، فذهب إلى حلب حاملا صكوك انتدابه طالبا رسامته من يد البطريرك أثناسيوس، فأبى هذا أن يرسمه لما اشتهر به من خضوع لرومة وجهر بوجوب الاتحاد معها. ولما توفي أثناسيوس قر قرار المنفصلين في دمشق وعددهم ثلاثمائة وثمانية وعشرون على انتداب سيرافيم للكرسي البطريركي وكتبوا بذلك صكا ووقعوه ورفعوه إلى السلطات الزمنية في دمشق، فقالوا:
المعروض بعد الدعاء المفروض بين يدي حضرة أولياء النعم أرباب السيف والقلم جناب الدولة العلية والسدة السنية، أدام الله تعالى ملكها على التأبيد وأمدها بالنصر والتأييد من عبيدهم ومماليكهم النصارى الذميين القاطنين بمحروسة دمشق الشام من طائفة الروم الداعيين لهذه الدولة العلية بالبقاء على الدوام المسطرة أسمائهم أدناه بأنهم قد قبلوا ورضيوا واختاروا بأن يكون عليهم المعلم كيرلس بطريركا ومتكلما مطاعا؛ ليسوسهم بالقوانين المألوفة، ويراعي أحوالهم بالسياسة المعروفة على النمط السابق من البطاركة السابقين قبله بالأسلوب المعهود بينهم، فإنه لذلك أهل ومستحق للرياسة عليهم وللبطريركية مستوجب لديهم. ويرجون من مراحم الدولة العلية وإحساناتها المرضية تقرير هذا المعلم في بطريركية أنطاكية في دمشق الشام واستجلاب الدعاء من الخاص والعام. شيد الله أركان هذه الدولة العلية على ممر الليالي والأيام إلى يوم البعث وساعة القيام والدعاء باقي.
84
وقدموا هذه العريضة إلى الباشا وكلفوه استصدار براءة سلطانية بذلك ودفعوا له ما توجب دفعه. ثم فاوضوا أساقفة كنيسة أنطاكية في أمر الرسامة، فامتنع الأساقفة، ولم يتوجه منهم أحد إلى دمشق سوى نيوفيطوس أسقف صيدنايا. فاستقدم الدمشقيون باسيليوس فينان من دير المخلص، ولدى وصوله رسم بالاشتراك مع نيوفيطوس الخوري أفتيميوس فاضل أسقفا على الفرزل ليكون للبطريرك أساقفة ثلاثة يقومون بتنصيبه. ولا يخفى ما في هذا العمل من الخروج على التقاليد المقدسة، فأسقفية باسيليوس كانت في أساسها غير قانونية لتدخل الأمير حيدر فيها وضغطه على نيوفيطوس متروبوليت بيروت وإحضاره جبرا، ولاشتراك أسقف ماروني وأسقف أرمني في الرسامة. ومن ظواهر الخروج على التقاليد إقدام نيوفيطوس صيدنايا وباسيليوس دير المخلص على سيامة أسقف ثالث وانفرادهما بذلك. ولا يجوز اعتبار سيامة أغناطيوس على صور وصيدا سابقة لمثل هذا الشذوذ؛ لأن البطريرك أثناسيوس وافق على رسامة هذا بالاشتراك مع نيوفيطوس ونيوفيطوس، وأين البطريرك الذي وافق على سيامة أفتيميوس على الفرزل؟!
وسيم أفتيميوس في الرابع عشر من أيلول أسقفا على الفرزل. وفي العشرين من الشهر نفسه رسم الأساقفة الثلاثة الخوري سيرافيم أسقفا باسم كيرلس ثم نصبوه بطريركا. ولم تأبه رومة لهذا الشذوذ وهذا الخروج على التقاليد الرسولية المقدسة، فأصدر حبرها بندكتوس الثالث عشر براءة رسولية في الخامس عشر من آذار سنة 1729 ثبت بها كيرلس طاناس بطريركا على أنطاكية، وأرسل له الباليوم (الأموفوري) «بعد وضعه على ذخائر القديس بطرس رمزا إلى استمداد السلطة منه.»
85
ووضع كيرلس طاناس يده على المركز البطريركي في دمشق واستوى على عرش الكاتدرائية، «ورفع آيات الشكر لله بذلك، وسمع حينئذ لأول مرة: أؤمن أن الحبر الأعظم الروماني هو نائب السيد المسيح ورأس الكنيسة كلها، وأؤمن أن الروح القدس منبثق من الآب والابن.»
86
وجاء في «الحقائق الوضية»، ص64:
وحينئذ أعلنوا الأشياء الخمسة ودخل الإفرنج إلى الكنيسة وذلت طائفة الروم فتعاظم الخطب واشتدت الفتنة وتكاثرت المظالم والمغارم، ودخل جماعة من حاشية الحاكم من المسلمين بقصب الدخان إلى داخل الهيكل والبطرك في التقديس وتكلموا معه .
ورسم كيرلس الخوري مطوديوس الحلبي أسقفا على القلاية وقلده أمر تدبير أبرشية دمشق لمعاونته في أمرها.
87
سلفسترس الأول (1724-1766)
وكان أثناسيوس قبل وفاته قد أشار إلى المسيحيين في حلب وغيرها أن ينتدبوا خليفة له كاهنا يدعى سلفسترس قبرصي الأصل، خدم عنده أولا كشماس ورافقه في كثير من أسفاره إلى بلاد الفلاخ والبغدان وغيرها، ثم تركه وانخرط في إكليروس الكنيسة القسطنطينية. وكان سلفسترس وقتئذ مقيما في الجبل المقدس آثوس متنسكا متزهدا.
88
وراسل كيرلس طاناس المسيحيين الثابتين على الإيمان القومي ليجتذبهم إليه، وحرر أيضا إلى أساقفة الكرسي الأنطاكي وأعلن لهم أنه قد انتصب عليهم بطريركا، وطلب إليهم أن يعرفوه ويخضعوا له ويذكروا اسمه، وتوعد من يخالفه بالخلع فلم يجبه المطارنة. وكانوا قبل أن تصل إليهم رسائله حرروا مع الشعب إلى المجمع القسطنطيني الذي كان يرأسه البطريرك بائيسيوس، وأخبروه عن وفاة البطريرك أثناسيوس وعن أعمال كيرلس طاناس وعن كيفية شرطونيته ودخوله بالقوة الجبرية إلى قلاية دمشق وإقامته فيها. وطلبوا إلى المجمع المساعدة الأخوية بما كان له من نفوذ أدبي لدى الحكومة العثمانية، وأعلنوا لهم أنهم انتدبوا سلفسترس بطريركا، ويرغبون في أن يصير استدعاؤه من جبل آثوس وترقيته إلى الأسقفية ليتبوأ السدة الأنطاكية الرسولية، ورمى المسيحيون الأنطاكيون بعملهم هذا إلى الحصول على شخص يجمع بين الخبرة والنفوذ الأدبي، ويأتي كنيسة أنطاكية مصحوبا ببراءة سلطانية وتواص تساعده على كبح جماح المخالفين وعلى المحاماة عن الإيمان الأرثوذكسي، فيتمكن من أن يقوي الأرثوذكسية ويزيل الخصام بين مسيحي أنطاكية ويعمل على توحيد قلوبهم.
89
فلما وصلت هذه الكتابات إلى المجمع القسطنطيني حرر إلى جبل آثوس واستدعى سلفسترس ورقاه إلى درجة الأسقفية في السابع والعشرين من أيلول سنة 1724، وأخرج له براءة سلطانية وأوامر سنية بنفي كيرلس طاناس، وعزل أبو طوق والي دمشق الذي تعهد باستصدار البراءة السلطانية لكيرلس . وشاع خبر سلفسترس وبراءته والأوامر التي بيده، ففر كيرلس حاملا الملابس والتيجان والصلبان والكئوس والصواني وسائر الأواني المقدسة التي كان مكاريوس قد أحضرها من روسية، والتجأ إلى جبل لبنان وأقام في دير المخلص .
90
وكان كير سلفسترس رجلا فاضلا أقام مدة طويلة في مناسك جبل آثوس، ونظرا لابتعاده عن العالم كان ساذجا خفيف العنان سهل الانقياد، ولكنه كان في الوقت نفسه شديد التمسك بالرسوم الشريفة، لا يتزعزع ولا يحيد عنها.
91
ولدى وصول سلفسترس إلى حلب بلغه ما فعله سيرافيم فأسرع إلى دمشق وأقام فيها شهرين، ورحب به أهلها وبينهم أنصار كيرلس طاناس، ثم خرج للتطواف. وبعد سنة ونصف سنة اتجه شطر حلب، ولما وصل إلى خان طومان خرج أعيانها الأرثوذكسيون لاستقباله وأعدوا له هناك مائدة نفيسة من السمك مع أنه كان يوم أربعاء؛ وذلك بناء على الإجازة التي كانوا قد أخذوها من البطريرك السابق أثناسيوس، فلما نظر سلفسترس السمك رفس المائدة برجله وحرم الحلبيين وترك الأعيان وذهب توا إلى قلاية حلب. وحاول الحلبيون استرضاء البطريرك، ولكنه لم يصفح، بل انتصب نهار الأحد التالي في الكنيسة وحرم كل من يجسر في المستقبل أن يتناول سمكا في يومي الأربعاء والجمعة. ولم يقتصر على هذا الحد، بل حقر وجهاء حلب وشكا المتشيعين منهم إلى الباباوية إلى الوالي فأودعوا السجن ولم يطلق سبيلهم إلا بعد خسائر جمة، فغضب هؤلاء وحقدوا وسعوا لحبس البطريرك. وعلم سلفسترس ذلك من قنصل الإنكليز ففر خفية إلى اللاذقية ومنها توجه بحرا إلى القسطنطينية.
92
وشكا الحلبيون أمرهم إلى المجمع القسطنطيني وادعوا أن سلفسترس يضرب الكهنة ويسلم الأعيان إلى الحكام ويعرض أموال الشعب للمصادرة والمغارم ويهدد بالنفي والقتل، «ويتهمهم بأنهم على مذهب الإفرنج»، وأنهم طردوه ولم يعد بإمكانهم قبوله. ووصل سلفسترس نفسه إلى القسطنطينية فشكا الحلبيين بدوره، فنصح المجمع باللين والرقة والإقناع والمحبة وبعث أسقفا يدعى غريغوريوس وكيلا عن البطريرك سلفسترس وأمره بإقامة اسم سلفسترس، فرحب به الحلبيون وعادوا إلى الكنيسة صباح مساء «ولم يظهروا آراءهم».
93
وأصدر المجمع القسطنطيني في السنة 1725 وبالاتفاق مع البطريرك سلفسترس منشورا رعائيا موجها إلى المسيحيين من أبناء كنيستي أنطاكية وأورشليم، يحضهم على الابتعاد عن التعاليم المحدثة الغربية التي لا تنطبق على تعاليم المجامع المسكونية والآباء القديسين ويرشق المخالفين بالحرم.
94
ومكث غريغوريوس في حلب سنتين، ثم سئم الإقامة بها؛ لأنها ليست من أبرشيته، فاستأذن الحلبيين وودعهم وانقلب راجعا إلى القسطنطينية. فكتب الحلبيون إلى المجمع القسطنطيني بذلك وطلبوا العفو عن جراسيموس أسقفهم الشرعي وإعادته إليهم، فأجابهم المجمع إلى ذلك وأخرج جراسيموس من المنفى بعد أن لبث فيه خمس سنوات ونصف السنة، وأوصاه أن يحسن سلوكه فيهم، وأن يقيم اسم البطريرك سلفسترس، فقبل الوصية وأظهر الطاعة. ولما وصل إلى حلب أحسن الحلبيون استقباله وأكرموه ولبث بينهم يتظاهر بما أوصاه به المجمع القسطنطيني، وكان يذكر في قداسه اسم البطريرك سلفسترس. وكان الحلبيون يؤمون الكنيسة بشطريهم وكل منهم على رأيه، بيد أن رهبان الإفرنج ما فتئوا يزينون لهم أمر الطاعة والخضوع لرومة ويشحذون عزائمهم على فعله، بل يدفعونهم إليه ويسوقونهم سوقا. وكان جراسيموس يسكت عن هذه الأعمال؛ لأنه كان يبطن الكثلكة وإن تظاهر بخلافها خوفا من الرجوع إلى المنفى.
95
سلفسترس في بلاد المسيحيين
واجتهد سلفسترس لدى وصوله إلى القسطنطينية في رد الحلبيين إلى الطاعة بالقوة، وأنفق في هذا السبيل مبالغ وافرة، ولما لم يتسن له الفوز بمرغوبه عاد إلى الكرسي مارا في بلاد أرضروم وما يليها جامعا بعض الحسنات، ثم وصل إلى دمشق في السنة 1731 وأقام مدة بين المسيحيين والسلام سائد، ثم أثار رهبان الإفرنج النزاع بين الفريقين، فتثاقلت الديون على الطرفين وساءت الأحوال، ولما رأى أن لا سبيل لإزالة الشرور خرج من دمشق في جولة رعائية ثم عاد إليها وأقام علمانيا - ميخائيل توما - من ذوي الدراية والنفوذ والمداخلات وكيلا عنه وتوجه إلى القسطنطينية. وبعد مذاكرة البطريرك القسطنطيني ومجمعه خرج منها إلى بلاد الفلاخ والبغدان؛ لأجل جمع الإحسان ووفاء الديون، وقيل: إن هذه الغيبة استغرقت نحو عشر سنوات. وفي أثنائها عمر سلفسترس ديرا في بلاد البغدان على اسم القديس اسبيريدون العجائبي ووقفه على الكرسي الأنطاكي.
وطبع سلفسترس في السنة 1747 في اللغة العربية في بخارست مجموعة تحوي النصوص التي نظمت في المجمعين المنعقدين في القسطنطينية بشأن ظهور الكثلكة بين صفوف المسيحيين الأنطاكيين؛ أحدهما: في أواخر السنة 1723 برئاسة البطريرك أرميا، والآخر: في السنة 1727 برئاسة البطريرك بائيسيوس. وحوت هذه المجموعة أيضا خمس مقالات بالعربية فيها الردود الأرثوذكسية على القضايا الخمس المستحدثة عند اللاتينيين، وجاء بعد هذه دستور «كنيسة المسيح المقدسة الشرقية»،
96
فإذا به يتضمن سبعة عشر رأسا؛ أي فصلا، وإليك خلاصتها:
الرأس الأول:
على كل مسيحي أن يقر ويعترف بالقلب واللسان بالأمانة المقدسة المرتبة بإلهام الروح القدس من المجامع الإلهية كما تعترف به كنيسة المسيح المقدسة الجامعة الرسولية الشرقية هكذا: أؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماوات والأرض ... إلخ.
الرأس الثاني:
وبسبعة مجامع مسكونية فقط لا غير: مجمع نيقية، ومجمع القسطنطينية، ومجمع أفسس، ومجمع خلكيدونية، ومجمعي القسطنطينية الخامس والسادس، ومجمع نيقية السابع المسكوني، وساير المجامع الصغيرة أيضا.
الرأس الثالث:
وبجميع التقليد المسلم من الرسل القديسين وخلفائهم الآباء الإلهيين المكتوب وغير المكتوب كما تحفظه الكنيسة من غير زيادة أو نقصان.
الرأس الرابع:
وبأسرار سبعة؛ سر المعمودية وسر الميرون وسر القداس الإلهي وسر الكهنوت وسر الإكليل الناموسي وسر التوبة؛ أي الاعتراف، وسر الزيت المقدس.
الرأس الخامس:
وبأن الروح القدس منبثق من الآب وحده وليس من الابن، والزيادة التي أحدثها اللاتينيون غير مقبولة من المجامع المقدسة، وهي سبب الانشقاق والانفصال.
الرأس السادس:
وبسر القداس الإلهي وبأن الاستحالة تتم بعد القول: واضع هذا الخبز جسد مسيحك المكرم، وأما هذا الكأس دم مسيحك المكرم لينتقلان بروحك القدوس ويستحيلان.
الرأس السابع:
نبذ العقاب الذي أحدثه اللاتينيون الذي يسمونه مطهرا، والرأي عندنا في الذين قد توفوا أنهم ينتظرون القيامة في أماكن عديمة التعزية مخيفة محزنة، أما أنفس الصديقين فإنها في أماكن نيرة براحة وطمأنينة تنتظر السعادة المغبوطة.
الرأس الثامن:
بأن القديسين لم ينالوا بعد السعادة التامة، وبأنهم ينتظرون حضور سيدنا يسوع المسيح لينالوا السعادة الكاملة بأجسادهم معنا.
الرأس التاسع:
بأن النور الذي أشرق على جبل طابور في تجلي المسيح ليس هو مخلوق ولا هو جوهر الله مطلقا، ولكنه مجد التجسد الإلهي.
الرأس العاشر:
بأن المواهب المختصة بالآب والابن والروح القدس ليست مخلوقة، ولكنها مختصة به منذ البداية.
الرأس الحادي عشر:
بأن رأس الكنيسة الجامعة الرسولية هو سيدنا يسوع المسيح، وأما بابا رومة فإنه تابع خاضع لأوامر المجامع.
الرأس الثاني عشر:
نقر أيضا بالكتب الإلهية المسلمة إلينا من الآباء القديسين، ونقبل تفاسيرهم لا تفاسير رومة المحرفة المعوجة.
الرأس الثالث عشر:
ونعترف بالغفرانات التي يمنحها البطاركة بتدقيق وتمييز لا كما تمنحها كنيسة الغربيين.
الرأس الرابع عشر:
ونعتقد أن الرسل القديسين حرموا علينا ذبيحة الأصنام كلها والدم المخنوق، وأمرهم هذا مطاع وثابت.
الرأس الخامس عشر:
ونقول: إن سر الزواج الناموسي لا ينفك عملا بقول الإنجيل: ما أزوجه الله لا يفرقه إنسان. أما إذا استبان على الامرأة أمر زنى فلرجلها أن ينفصل عنها ويتزوج من غيرها.
الرأس السادس عشر:
نحفظ القوانين والتعاليم الرسولية ونثبتها ونؤيدها.
الرأس السابع عشر:
هذه هي أمانة المسيحيين الأرثوذكسيين الصحيحة، وهي دين شرعي على كل المسيحيين أبناء جنسنا، ومن يعود راجعا ويطلب الاتحاد بالكنيسة المقدسة عليه أن يقر ويعترف بجميع هذا الدستور. تحريرا في السنة 1727.
منع الاشتراك في القدسيات (1729)
وفي السنة 1729 أعلن مجمع نشر الإيمان «أن الاشتراك في الإلهيات مع المشاقين والهراطقة ومخالطتهم في طقوسهم غير جائز.» وأكد هذا المجمع أن عمله هذا مبني على النظر والخبرة، وأن المخالطة محرمة بموجب الناموس الطبيعي والإلهي.
97
كيرلس ودمشق
وأما كيرلس طاناس فإنه بعد أن خرج من دمشق والتجأ إلى لبنان أقام في دير المخلص وأجهد كثيرا في الضغط على الأرثوذكسيين في أبرشيات الساحل وتحريضهم على نبذ الطاعة لرؤسائهم القانونيين. وفي أثناء غيبة سلفسترس التي طالت كثيرا اتفق مع بعض أهالي حلب ورهبان الإفرنج، وعمل على تأليف عرائض من بعض الأهالي وإرسال كتابات من قناصل فرنسة والنمسة في حلب وصيدا إلى سفرائهم في الآستانة لأجل مساعدته في الحصول على براءة سلطانية. وأنفق مبالغ وافرة في إعداد عرائض أخرى يشكو الدمشقيون فيها من إطالة غيبة بطريركهم ويبينون احتياجهم إلى بطريرك يدبر أمورهم الدينية، ويشهرون في الوقت نفسه رضاهم عن كيرلس طاناس ويطلبونه بطريركا عليهم. وسعى سفير فرنسة ووكيل البابا في الآستانة وقدما أربعة آلاف ريال روماني للدفتر دار واستصدرا البراءة المنشودة في السنة 1745 وأرسلاها إلى قنصل فرنسة في صيدا.
واستلمها كيرلس وأوفد نائبا عنه إلى دمشق فأطلع واليها على الأوامر السنية. وتمكن من وضع يده على الكنيسة ومن سجن ميخائيل توما وبعض الأعيان. ثم قام كيرلس نفسه إلى دمشق وسجل براءته في محكمتها الشرعية واستولى على الكرسي،
98
وأفاد ديمتري شحاده نقلا عن جدته ابنة الخوري ميخائيل بريك أنه لدى عودة كيرلس إلى دمشق اشتد الاضطراب، فكان كلما تلا دستور الإيمان بزيادة «والابن» تظهر العكاكيز ويبدأ الضرب،
99
وحرر كيرلس إلى المطارنة يعلن وصول البراءة ويطلب الخضوع. فنبذ الأساقفة أمره وحرروا إلى البطريرك المسكوني بائيسيوس بما كان من أمر كيرلس طاناس والتمسوا أن يحرر بسرعة إلى سلفسترس ويستعجله بالرجوع إلى الكرسي. فأسرع بطريرك القسطنطينية واستعجل سلفسترس وقدم عريضة بالاتفاق مع برثينيوس البطريرك الأوروشليمي وثلاثة عشر مطرانا إلى الحضرة السلطانية، بينوا فيها مساوئ كيرلس طاناس الذي ادعى أنه بطريرك أرثوذكسي، وهو على مذهب الإفرنج، وشهدوا أن البطريرك القانوني حي يرزق وبيده براءة سلطانية.
كيرلس يعود إلى دير المخلص
ولما تحققت الحكومة العثمانية مقاصد كيرلس طاناس وسفيري فرنسة والبابا أصدرت لسلفسترس براءة ثانية وفرمانا يأمر بالقبض على كيرلس طاناس ونفيه، فأرسل سلفسترس مأمورا من قبل الباب العالي يعلن للحكومة في دمشق وللمسيحيين ما كان من صدور الأوامر بإلغاء بطريركية كيرلس وتسليم الكنيسة الكاتدرائية والبطركخانة للأورثوذكسيين. ثم عين نيقوفوروس متروبوليت باياس وكيلا عنه مفوضا بكل الإجراءات القانونية، وأرسل معه الفرمان والأوراق التي تتضمن الأوامر المشار إليها، فحضر هذا الوكيل إلى دمشق بعد سنة من صدور هذه الأوامر، وقابل أسعد باشا والي دمشق فاستقبله على غاية ما يرام، وساعده بإجراء كل ما من شأنه تعزيز جانبه.
وعلم كيرلس بعزله قبل وصول المأمور وقبل حضور نيقيفوروس فعاد إلى دير المخلص. أما أتباعه في دمشق فإن بعضهم عادوا إلى الأرثوذكسية وبعضهم ترددوا إلى الكنيسة الأرثوذكسية مدة من الزمن ثم تركوها وصاروا يقيمون الصلاة في دير الإفرنج . وكان قد قدم إلى بيروت رجل من بني الدلال من يافة، وكان يتظاهر بالأورثوذكسية ويبطن الكثلكة، فجعل يبث آراء الغربيين في أكل السمك وتقصير الصوم فمال قوم إلى كلامه وعملوا به، وكان من جملة هؤلاء جرجس الدهان وذووه، فاستغل جرجس عطف الأمراء الشهابيين عليه استولى من الجانب الشمالي من الكنيسة الكاتدرائية هيكلا على اسم النبي إلياس وأقام له قسيسا اسمه ثيودوسيوس دهان ليخدم التابعين له. ثم حضر كيرلس طاناس إلى بيروت ودفع مبلغا من المال إلى الأمير ملحم الشهابي حاكم بيروت آنئذ واستولى على كنيسة مار إلياس كلها، وأحضر أسقفين من الجبل وشرطن ثيودوسيوس مطرانا على بيروت بحياة مطرانها القانوني نيوفيطوس، وأكره نيوفيطوس على النزول إلى الكنيسة ولبس البطرشيل والأموفوري في أثناء سيامة ثيودوسيوس. على أن هذا الاستبداد لم تطل مدته أكثر من أسبوع واحد، فإنه على أثر بلوغ الخبر بقرب وصول سلفسترس مصحوبا بالأوامر السلطانية وبنفي كيرلس أسرع هذا والأسقف الجديد الذي تشرطن منه وهربا إلى الجبل، فاسترجع الأرثوذكسيون كنيستهم ثم كتبوا إلى البطريرك سلفسترس بما جرى وبعجز نيوفيطوس لتقدمه في السن وفقد بصره ورغبته في التنزل عن المطرانية وطلبوا شرطنة أسقف بدلا منه. وكان سلفسترس قد خرج من القسطنطينية وجاء أرضروم، فأخذ عريضتهم وهو في هذه الأبرشية وشرطن لهم شماسه يوانيكيوس القبرصي وأرسله حالا. وبوصوله استلم الكرسي بكل هدوء بعد أن تنزل له نيوفيطوس،
100
وجاء للخوري قسطنطين الباشا أن نيوفيطوس تفرغ عن كرسيه وأبرشيته على يد كيرلس طاناس لثيودوسيوس دهان، ولكنه لم يذكر مراجعة.
101
سلفسترس في دمشق (1754-1766)
وقضى سلفسترس في دمشق اثنتي عشرة سنة انقطعت في غضونها القلاقل بينه وبين الباباويين؛ لأنه لاحظ أن المناحرة تكبد الطرفين خسائر مادية جسيمة، ولم يكن هو من الأشخاص الذي يجتذبون الرعايا بالوسائل الأدبية كالإرشاد والوعظ والتعليم وبالمحبة المسيحية الحقيقية التي تلاشي البغض والحقد وترفع الكنيسة إلى المستوى اللائق بها. وكان للذين انحازوا إلى الكثلكة في هذه الآونة قسوس يخدمونهم في البيوت أو في كنائس اللاتين أو غيرهم من الطوائف الكاثوليكية. أما أكاليلهم ومعمودياتهم وجنازاتهم في المدن والأوساط الأرثوذكسية فإن الكهنة الأرثوذكسيين كانوا يكملونها، وكانت تدفع المعينات عنها إلى المراجع الأرثوذكسية.
وفي أواخر عمل سلفسترس الميرون المقدس في كنيسة القديس نقولاوس في دمشق مع اثنين من رؤساء الكهنة وسبعة عشر كاهنا وعشرة شمامسة. وفي الثالث عشر من آذار سنة 1766 انتقل إلى رحمة ربه ودفن في مقبرة البطاركة في تلك القديس جاورجيوس.
102
الفصل الخامس
وصول البروتستانت إلى الشرق واتساع الجبهة
أبرشية حلب (1729-1766)
وعاد جراسيموس من المنفى في نحو السنة 1729. وكان يبطن الكثلكة فيجتذب إليها من استطاع سرا ويرفع اسم سلفسترس علنا ويقدم له «النورية والعوايد». ثم علم الكاثوليكيون أن رجلا حلبيا مسيحيا يقال له المنصوري دخل في دين الإسلام في الآستانة وأصبح طبيبا لدى الباب الهمايوني، وعلموا أن المنصوري هو أخو الراهب ميخائيل الحكيم البلمندي، فاستقدموا ميخائيل إليهم وأكرهوا جراسيموس متروبوليت حلب وصديقه أغناطيوس متروبوليت حمص على سيامة ميخائيل أسقفا على حلب. وكان أغناطيوس ممن يبطن الكثلكة أيضا، فسام هذان الأسقفان ميخائيل أسقفا باسم مكسيموس. وكانوا قد كتبوا إلى المنصوري في فصل أبرشية حلب عن الكرسي الأنطاكي وأن يكون مطرانها مستقلا بنفسه يدفع مالا إلى الدولة كأحد البطاركة، فبادر المنصوري أخو مكسيموس إلى إجابة طلبهم، واستصدر أوامر سلطانية سامية بفصل مطرانية حلب واستقلالها على أن تؤدي إلى الباب العالي في كل سنة مائتين وخمسين غرشا وستين غرشا للوزير الأعظم والدفتردار، وأرسل الأوامر باسم أخيه. ولما تم لهم ذلك أرسلوا جراسيموس إلى لبنان، فجاء وأقام بدير مار ميخائيل، وأجروا له نفقة حينا من الزمن ثم قطعوها عنه، فاغتاظ واغتم وألم به مرض في ركبتيه، فوصف له رهبان الدير نطولا من مغلي بعض العقاقير، وجعلوا فيه رجليه فصاح: لقد احترقت! ومات لساعته. ولما صار للحلبيين أسقف منهم جاهروا بمذهبهم وأظهروا قسوسهم، وشرعوا في اضطهاد أبناء الكنيسة، فمن هؤلاء من فر نازحا ومنهم من بقي مستترا في بيته.
1
وجاء في تقرير الأب سيغوران
Seguran
اليسوعي المعاصر أنه بعد إفراز أبرشية حلب على هذا الوجه في الثالث عشر من نيسان سنة 1730 وبعد دفع خمسة وأربعين كيسا لهذه الغاية نجح سلفسترس في نقض هذا القرار في السنة 1732، وأرسل وكيلا عنه في 20 تموز سنة 1733 حبيبا الأعور. ففر مكسيموس إلى جبل لبنان، فأنفق اليسوعيون ثمانية آلاف وخمسمائة غرش وجددوا الأفراز بواسطة والي حلب وقاضيها بعد أن دفعوا ثانية سبعة آلاف وخمسمائة غرش، فعاد مكسيموس إلى الكرسي في السنة 1734. وكل سلفسترس وعدل عن المقاومة اثنتي عشرة سنة، «ثم تحرك كيرلس فغضب سلفسترس» فأرسل وكيلا يضبط الكنيسة وأمرا بنفي ستة من وجوه الطائفة، «فقاومناه وأرشينا ومنعناه وتكلفنا مقدار عشرة آلاف غرش.» فأرسل جناديوس مطرانا على حلب، فوصل جناديوس في رابع العنصرة سنة 1746 ومعه جوقدار الصدر الأعظم وأوامر بضبط الكنيسة وإرسال اثني عشر كاهنا ووجيها إلى الآستانة، «فوقع الهرب وكبس البيوت وضرب العصي إلى حد الألف والإشراف على الموت تحت الضرب، فوزنا إلى جوقدار الوزير 7500 غرش وإلى حضرة الباشا 7500 ثم 2500. وبوسيلة هذه المصارف والرشوات صرنا نقدس بهياكل خصوصية من غير مشاركته مقدار سنة. وهدد سلفسترس جناديوس فهرب من حلب، فأخرجنا الكهنة المشاقين من الكنيسة وتسلمناها فدفعنا 12500 غرش ما عدا الرشوات عند الأبواب، وصرفنا على عرضحال إلى الآستانة 8500 غرش ولأجل بيورلدي في حلب 5000 غرش، ولأجل الصلاة عند الإفرنج 5000 غرش. ثم أرسلنا وكيلا إلى الآستانة لفرز المطرانية باسم السيد مكسيموس وفوضناه بإنفاق ما يريد. وقبل وصوله جاء ابن ديب وكيلا من قبل سلفسترس فقبض على ثلاثة من الكهنة وثلاثة من العوام وتسلم الكنيسة في السنة 1749. ثم وفقنا إلى من رأف من أرباب الدولة فأخرج لنا براءة سلطانية بتجديد الأفراز، ووصلت هذه البراءة في التاسع من تشرين الأول سنة 1749، وتكلفنا على تسجيلها في السراي والمحكمة 12500 غرش، فيكون جملة الذي وزناه من استيلاء سلفسترس إلى هذه الواقعة 322755 غرشا. تحريرا في 7 أيار سنة 1750».
وفي اليوم السادس عشر من شهر تشرين الثاني سنة 1750 وصل صفرونيوس «متجلببا بشعار الرياء والورع المصطنع»، وأظهر انشقاقه وأكد أنه لن يقبل أحدا يشاركه في قداسة ما لم يستفهم منه ويجادله في حقائق إيمانه، وتكلفنا على تسجيل براءته خوفا من ضرره 3500 غرش. وفي الثاني من نيسان سنة 1752 حبس الباشا جميع الكهنة والشمامسة، ورثى حضرة الملا والأعيان وأكابر البلدة لحالتنا وأمروا أن نعرض حالنا لدى الشرع الشريف في أثناء غياب الباشا في الجردة، ففعلنا فحكم الملا على صفرونيوس وقسوسه وحبسه في القلاية وحبس القسوس في الحبس العام في باب قنسرين، «فوزنا في هذه الدعوى 7500 غرش» وتسلمنا الكنيسة في 24 أيلول سنة 1752. وفي اليوم الثامن من تموز سنة 1754 جددنا براءة إلى مطراننا مكسيموس فوزنا فوق الستة آلاف غرش خمسة عشر ألف غرش لتسجيلها في حلب. وجاء مكسيموس في 15 تشرين الأول سنة 1754 فاستقام عندنا مدة، ثم أخرجوا براءة لصفرونيوس وردت في 29 تشرين الأول سنة 1756 فدفعنا من تكاليف هذه البراءة أربعة آلاف غرش. وقبضوا على سيدنا كير مكسيموس ونفوه إلى قلعة أدنة في 8 تشرين الثاني سنة 1756، ثم عاد إلى حلب في 11 نيسان سنة 1757. وطلبنا تجديد أفراز المطرانية ولكن من الطولة والخوف الذي اعترى سيدنا فر إلى لبنان من أول تشرين الثاني سنة 1758. وجاءت براءة الأفراز، ولكن سيدنا لم يرجع. وما مر برهة من الزمان حتى تجددت براءة باسم المطران فيليمون فدخل حلب في 5 أيار سنة 1858.
2
وتتفق رواية المؤرخ المجهول الأرثوذكسي وما جاء في تقرير الأب اليسوعي في الخطوط الكبرى، ولكنها تذكر لجوء الكاثوليكيين إلى الإهانة والرشق بالحجارة والشتم وما إلى ذلك من أعمال غفل عنها صاحب التقرير اليسوعي. وأهم من هذا وذاك قوله إن الطبيب أثناسي الذي رافق الوزير راغب باشا والي حلب مدة ولايته نقل إلى المجمع القسطنطيني ما شاهده من الفوضى في كنيسة حلب، فأجابه هذا المجمع: «وما عسانا نحن أن نصنع إذا كان بطريركها قد تخلى عنها، أما إذا وجهها لنا نظرنا لعلنا نستطيع أن نصلح شئونها»، فكتب أثناسي إلى البطريرك سلفسترس فوهب أبرشية حلب إلى الكرسي القسطنطيني. فرفع البطريرك القسطنطيني الأمر إلى الباب العالي وطلب إلحاق حلب بأبرشيته، وأن يؤدي هو الأموال المفروضة عليها فأجابوه إلى ذلك وأصدروا له أمرا به.
3
خضوع حلب للكرسي القسطنطيني
وفي السادس من تشرين الثاني حسابا شرقيا سنة 1757 اتخذ المجمع القسطنطيني قرارا ضم به أبرشية حلب إلى أبرشيات الكرسي القسطنطيني. وأهم ما جاء في هذا القرار أن سلفسترس اقترح هذا الإلحاق من تلقاء نفسه نظرا للصعوبات التي لقيها في ضبط شئون هذه الأبرشية، وأن واجبات الكرسي القسطنطيني قضت بحماية جميع الجاليات المسيحية والعناية بشئونها، وأن الامتيازات التي تمتع بها هذا الكرسي خولته الإشراف على شئون جميع المسيحيين للإصلاح والتعضيد. ومما جاء في هذا القرار التاريخي خبر ترشيح الأب الراهب فيليمون بروتوسنكلوس أبرشية دركون
Derkon
لأسقفية حلب.
4
البطريرك فيليمون (1766-1767)
وبعد انتقال السيد سلفسترس تذاكر الأساقفة والوجهاء بشأن انتداب خليفة له، وكان وقتئذ في القسطنطينية حبر جليل تميز بالتقوى والفضيلة والعلم والدراية من أبناء الكرسي الأنطاكي هو السيد صفرونيوس (الكلزلي). وكان هذا السيد قد تربى منذ نعومة أظفاره في العلوم الدينية واشتهر بتضلعه في اللغات العربية واليونانية والتركية. وكان يجيد الخطابة والوعظ في هذه اللغات الثلاث، وكان قد انتدب مطرانا على عكة ثم مطرانا بالوكالة على حلب. وعند وفاة سلفسترس كان قد انتقل إلى القسطنطينية واستقام فيها، فكتب كثيرون من الشعب الأنطاكي والمطارنة إلى البطريرك المسكوني وإلى متاوس البطريرك الإسكندري وبرثانيوس البطريرك الأوروشليمي يلتمسون إقناع السيد صفرونيوس بقبول السدة الأنطاكية، فلم يقبل صفرونيوس «وآثر الإخلاد إلى الراحة والسكون.»
5
ولم ير البطاركة والمجمع القسطنطيني أن يبقى الكرسي الأنطاكي «مهملا بلا رئيس كالجسد الخالي من الرأس والروح.» فعقد البطاركة الثلاثة ومجمع رؤساء الكهنة القسطنطيني مجمعا لانتقاء من يصلح لرعاية كنيسة أنطاكية، فوقع انتخابهم على فيليمون «لكونه مجربا في رتبة رئاسة الكهنوت متصفا بالمناقب الفاضلة السنية معروفا بحسن العبادة يحكم ويقضي بحسب قانون الإنجيل والناموس أمينا بالقضايا الكنيسة؛ ولذلك رقي إلى السدة البطريركية وشرطن في كنيسة المسيح الكبرى المقدسة وصار بطريركا قانونيا وراعيا روحانيا، مقدما على مطارنة كنيسة أنطاكية سيدا حقيقيا وشرعيا، باقتبال هذه النعمة العظيمة والموهبة الكبرى.» وكتب برثانيوس البطريرك الأوروشليمي مثل هذا وحض الإكليروس والشعب الأنطاكيين على استقبال فيليمون بفرح وعلى اعتباره راعيا وبطريركا، «وهو يسلك معكم ومع الجميع بمحبة وسلامة وهدوء كما سلك سابقا، والرب الإله الناهض من القبر لثلاثة أيام يبارككم أنتم ونساؤكم وأولادكم، ويوفقكم بجميع أعمالكم نفسا وجسدا، ويسبغ عليكم أتم البركات السماوية.»
6
وفي أواخر تشرين الثاني خرج فيليمون من الآستانة فجاء بيروت وأقام فيها بضعة أيام، ثم ذهب إلى دمشق فدخلها في الثامن من كانون الأول سنة 1766، فأم الكنيسة المريمية وصلى وبارك. وفي اليوم التالي قابل المتسلم والقاضي فقرئت براءته وسجلت وعاد إلى البطريركية، ثم استدعى المطارنة فلبى الدعوة سبعة واشتركوا معه في صلوات عيد الميلاد مع عدد كبير من الكهنة والشمامسة، «ولكن يا حيف ثم يا حيف ما كمل ذلك اليوم؛ لأنه من بعد القداس انطلق البطريرك والمطارنة إلى المائدة وأكلوا لحوما ودجاجا محشيا»، وشاركهم الرهبان في ذلك، وبلغ الخبر المسيحيين الأرثوذكسيين «فانغموا جدا ووقع البلبال من هذا الحال؛ لأنه سابقا لم تكن العادة أن يأكلوا لحوما رهبان الروم جهارا.»
7
مجمع دمشق (1767)
وقبل خروج فيليمون من دمشق لتفقد شئون الرعايا عقد مجمعا مع سبعة مطارنة واتخذ القرارات التالية:
القانون الأول: انتداب رئيس الكهنة يكون برأي المجمع وليس برأي البطريرك فقط. القانون الثاني: إذا اتفق وقدم عرض على رئيس كهنة فمن غير فحص المجمع لا يدان. القانون الثالث: في غياب البطريرك لا يصير وكيل في دمشق إلا بمعرفة المجمع؛ أي لا يصير وكيل للبطريرك رجل عامي. القانون الرابع: المختصين في كل الأبرشيات فليكونوا طائعين لرئيس كهنتهم كما ينبغي. القانون الخامس: السيمونيا لا توخذ في الشرطونيات. القانون السادس: ينبغي لكل رئيس كهنة أن يعمل وصية في متروكاته ويوهب الجزء الأكبر للكرسي. القانون السابع: حلل رياسة الكهنوت وفرش الأرض وطقم المطبخ فليبقوا للمطران بعد وفاة مطرانها؛ أي لمطران البلد والباقي يعطى للكرسي. القانون الثامن: عرض كنائسي يجب أن يصير بعلم المجمع وليس برأي واحد. القانون التاسع: بعد نياح البطريرك الأنطاكي الوقتي لا يصير بطريرك آخر بغير فحص المجمع؛ أي رؤساء كهنة الكرسي وإرادتهم وإذا صار فلا يقبل. القانون العاشر: البطريرك الموجود في الكرسي الأنطاكي ليس له أن يتنزل بإرادته فقط، بل بإرادة المجمع. القانون الحادي عشر: مدخول الكرسي ومصروفه جميعه يتحرر في دفتر بخوف الله وبضمير نقي ولا يصير فيه خلل.
وسطرت هذه القوانين ووقع عليها جميع مطارنة الكرسي الأنطاكي وأرسلت إلى القسطنطينية فوقع عليها البطريرك القسطنطيني السيد صموئيل وقبلت في الكنيسة العظمى، وأجاب البطريرك القسطنطيني بقبولها.
8
التطواف الرعائي والوفاة (1767)
وبقي فيليمون في دمشق ثلاثة أشهر وجعل الخوري ميخائيل بريك وكيلا على الكنيسة وخرج يتفقد شئون الأبرشيات، ووصل إلى صيدنايا ومعه «وكيله الشرير جرجس، فسلب الدير وعرى الطاقة الشريفة، وقام إلى معلولا وأراد أن يبلص النصارى الكاثوليكيين فقاموا عليه وأخرجوه من عندهم بإهانة. وأرادوا أن يقتلوا جريس الوكيل، فعاد جريس إلى دمشق واشتكى على نصارى معلولا وجرمهم وأخيرا صار قتله على يد أستاذهم.»
9
أما البطريرك فإنه تابع السير فزار حمص وحماة ومنها إلى حلب فوصلها في السبت الخامس من الصوم. وفي يوم سبت إلعازار شرطن أحد شمامسته نيوفيطوس قسا، وفي اليوم التالي في أحد الشعانين رقاه إلى مطرانية حلب وكان قد تذاكر بشأنه مع البطريرك القسطنطيني، وأقام في حلب إلى خميس الصعود. ثم خرج منها إلى إدلب فاللاذقية، فأقام فيها مدة قصيرة وتوفي يوم الخميس في الخامس من تموز ودفن فيها، وقيل: إن العذراء أماتته سريعا؛ لأنه سلب ديرها وعرى طاقة الشاغورة من زينتها. وكان مكاريوس (صدقة) مطران صور وصيدا قد حاول في السنة 1764 أن يضبط مدخول الدير فأخذ مفتاح الطاقة من الرئيسة نمفيذورة وأعطاه لقسيس كان معه، فخرجت نار من الطاقة وأحرقت القلائد والمعلقات والقون.
10
كنيسة بيروت (1767)
وأنشأ الكاثوليكيون في بيروت أمطوشا وكنيسة وسلموها إلى رهبانهم، وأراد الأرثوذكسيون أن يجددوا بناء كنيستهم؛ لأنها قديمة وضيقة فلم يوافق يوانيكيوس المتروبوليت على ذلك. ثم أرسله البطريرك سلفسترس بالميرون إلى قبرص، فانتهز الشعب البيروتي فرصة غياب المتروبوليت وهدموا الكنيسة ورسموها متسعة جدا وشرعوا في تجديد بنائها وأتموه سنة 1767، ثم بدءوا بتركيب الأيقونسطاس والأمبون. وفي يوم الأحد الثاني من الصوم الكبير الواقع في الرابع من آذار سنة 1767 بينما كان المطران يقدس في هيكل السيدة في بيت النساء والشعب كله في داخل الكنيسة سقطت قبة الكنيسة الوسطى وسمع لها صوت كالصواعق، واندفع الشعب كبارا وصغارا طالبين الفرار فمات سبعة وثمانون. وعاد الشعب إلى تجديد البناء بإشراف المتقدم فيهم يونس نقولا فتم ذلك في السنة 1772، ولم تقم كنيسة مثلها في البلاد العربية.
11
البطريرك دانيال (1767-1791)
وبعد وفاة فيليمون اختلف الأساقفة فيمن يقيمون خلفا له، فاختار بعضهم يوانيكيوس متروبوليت بيروت، وأيد آخرون مكاريوس متروبوليت صور وصيدا وقالوا: إن سلفسترس كان قد انتدبه في آخر أيامه، ومال غيرهم إلى برثانيوس متروبوليت طرابلس واختار غيرهم غير هؤلاء.
12
فكتب الأعيان بذلك كله إلى المجمع القسطنطيني فاتخذ هذا المجمع قرارا بسيامة بابا دانيال بروتوسنكلوس البطريرك المسكوني بطريركا على أنطاكية وذلك في اليوم السادس من آب سنة 1767.
ومما جاء في هذا القرار التاريخي أن فيليمون خشي قبيل وفاته انطفاء نور الأرثوذكسية في كنيسة أنطاكية، فكتب ينتدب بابا دانيال لرئاسة هذه الكنيسة، وأن أعضاء المجمع المقدس القسطنطيني ذكروا أعمال «ذي الاسمين سيرافيم أو كيرلس»، فاستهولوا تكرار هذه الأعمال وإمكانية تهجم أحد المليتنين واستيلائه على الكرسي بالرشوة وتبذيره أموال الرعية، وأن كنيسة القسطنطينية رأت من واجبها أن تستعمل صلاحياتها المستمدة من النظام القديم الذي يخولها بصفتها رأس الجميع حق العناية بالجميع والمحافظة على مصلحة الكل، فأقامت بناء على اقتراح فيليمون كير دانيال البروتوسنكلوس العظيم بطريركا على أنطاكية بموافقة كير أفرايم البطريرك الأوروشليمي.
13
ووصل البطريرك الجديد إلى مركزه في دمشق في مطلع السنة 1768 فزار الوزير وقدم له هدية فرحب به وأكرمه. وكان «قصير القامة واليد» شحيحا ضنينا قصير العنان قليل الخير متقاعسا متراجعا خافض الجناح متطامن النفس حريصا يحب المال ويشره إلى كسبه. وأعظم من ذلك فإنه كان يدين بالفائدة فعرف ب «البطريرك المرابي»، فشكاه الدمشقيون إلى صفرونيوس البطريرك المسكوني «فوقعت الشرور وقامت الضغون وتألفت الجمعيات.» وشكت دمشق بدورها من قلة الألفة وتقطعت أحزابا وتفرقت في الرأي والهوى، فتدخل صفرونيوس في أواخر السنة 1777.
كاتدرائية دمشق
وقام في جوار البطريركية آنئذ كنائس ثلاث: البرانية على اسم القديس كبريانوس والقديسة يوستينة، والجوانية وهي المريمية الكاتدرائية، والثالثة تحت الأرض على اسم القديس نقولاووس، وكان يدفن فيها البطاركة والمطارنة والكهنة قبل أن عادت مقبرة التل إلى ما كانت عليه.
وفي السنة 1759 زلزلت الأرض فتقوضت أركان المريمية، فسندت أقواسها وعلقت سقوفها وأمها المؤمنون للعبادة. ثم أشرفت على الانهيار فصلوا في كنيسة القديس نقولاووس. وفي السنة 1779 وافق الوزير محمد باشا العظم على الترميم فاستعان دانيال ببرنابا مطران صيدنايا وجدد بناء المريمية والبرانية ورفعا سقف كنيسة القديس نقولاووس.
14
وعني الخوري خريسطوفوروس المصابني المتوحد بدير القديس جاورجيوس في صيدنايا فأزاح الصخرة التي كانت في داخله واستبدل سقفه الخشبي بعقد حجري، فأصبح «نزهة للناظرين».
15
فرنسة والكثلكة في الشرق
وجاء في التعليمات التي أعدتها حكومة لويس الخامس عشر إلى سفيرها الجديد في الآستانة الماركيز دي فيلنوف
Villeneuve
في الحادي عشر من آب سنة 1728 أن لحكومة جلالته أهدافا ثلاثة لنشر الإيمان في تركية: تنصير المسلمين، وهدي المشاقين، واقتلاع بذور الهرطقة. وجاء أيضا أن أساقفة رومة حذروا المرسلين ونهوهم عن التبشير في الأوساط الإسلامية خشية وقوعهم تحت طائل الشرع الثقيل الوطأة. والروم والأرمن في هذه التعليمات يكرهون اللاتين ويضطهدون الكاثوليكيين، وحماية الكاثوليكيين واجبة إما باللجوء إلى السلطات العثمانية وإما باجتذاب رؤساء الكنائس، واللجوء إلى السلطات أمر دقيق مخطر. وأفضل من هذا أن يصار إلى اجتذاب رؤساء الكنائس اليونانية والأرمنية كأن يقال لهم: إن سلطتهم وطقوسهم لا تمس، وإنه ليس للمرسلين أي هدف زمني وإن غايتهم إزاحة الحواجز التي تبعد الكنائس بعضها عن بعض لرفع منزلة النصارى في عيون المسلمين وتعظيم قدرهم.
16
وما كاد هذا المركيز يستقر في منصبه في الآستانة حتى أمطره أساقفة الكاثوليك ورهبان الإفرنج وابلا من الرسائل يستحثونه فيها على توطيد بطريركية كيرلس خدمة للكثلكة في الشرق . فتبصر في طلبهم وتقصى وأعاد النظر وتأمل، فوجد أن القوانين المرعية قضت بأن يرشح بطريرك القسطنطينية لمنصب البطريرك الأنطاكي من رأى فيه الكفاءة فيوافق السلطان ويعترف. ثم وجد أيضا أن الروم أغنى من الكاثوليك واللاتين، وأن نفوذهم في القسطنطينية أقوى، وأن الأرمن يناصرون الروم فيزيدونهم قوة؛ ولذلك كله رأى هذا السفير الإفرنسي أن مصلحة الكثلكة في الشرق قضت بإبعاد كيرلس عن مركز الرئاسة وإبعاد كل إكليريكي يشتهر بحبه لرومة وطاعته لها، وبتأييد الإكليريكيين الأرثوذكسيين المعتدلين في الرأي المتزنين في العمل، وبردع المرسلين عن غيهم وحبس عنانهم.
17
وعاد المركيز السفير إلى معالجة الموضوع نفسه في السنة 1740 فأعد تقريرا مطولا في موضوع سياسة فرنسة الدينية ضمنه آراءه على ضوء اثنتي عشرة سنة من الخبرة في شئون الدولة العثمانية ورعاياها المسيحيين، فجاء رأيه بعيد الغور محكما، فهو يقول إنه ما فتئ يحض الرهبان المرسلين على تطبيق الآية: «باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم»؛ لأن ما يحيق بالمسيحيين من ضيم في ظل الأتراك العثمانيين إنما ينشأ عن مسيحيين آخرين يعاكسون إخوانهم فيشجعون الأتراك بتفرقهم على الظلم والتظلم، وإذا كانوا يتباغضون لاختلافهم في العقيدة، فإن تفرقهم ناجم عن تباغضهم أيضا. وليس أفضل والحالة هذه من التحلي بالرفق والدعة والمحبة والحكمة، وعلى المرسلين أنفسهم أن يرفقوا ببعضهم أولا ويتحابوا فيوفروا لسفراء جلالته شيئا كثيرا من الراحة وعدم الارتباك.
18
ومما جاء في التقرير الذي أعده المركيز السفير سنة 1740 أن الروم والسلطات العثمانية اعترضوا على إقامة المرسلين الرومانيين في المدن الخالية من التجار الإفرنسيين والقناصل، مدعين أن السبب الذي يبرر وجود هؤلاء الآباء هو القيام بالخدمات الروحية لهؤلاء التجار والقناصل. ويضيف السفير أنه إذا كانت المادة الأربعون من امتيازات السنة 1673 ثبتت إقامة المرسلين حيث كانوا آنئذ فإن هذه الامتيازات نفسها تفرض على هؤلاء المرسلين «الانكفاء داخل حدود واجباتهم». وإن الأتراك والروم يفسرون هذا النص بأنه يوجب على المرسلين أن يحصروا ممارسة طقوسهم ضمن أوساطهم الخاصة وأوساط مواطنيهم، وأنه لا يجوز لهم أن يقبلوا رعايا السلطات في كنائسهم، ولا أن يزوروهم في بيوتهم أو أن يعلموا أطفالهم في مدارسهم لإخضاعهم إلى سلطة البابا. ثم يفيد المركيز أن الروم استصدروا في السنة 1725 براءتين أوجبتا منع المرسلين من الدخول إلى بيوت المسيحيين رعايا السلطان، وإكراه الذين اتبعوا طقوس الإفرنج على العودة إلى دينهم وطرد المرسلين من الأماكن الخالية من القناصل. ويضيف السفير أن هذه الأوامر نفذت في ديار بكر والموصل وبغداد وأرضروم، وأنها على وشك التنفيذ في دمشق، وأن ترجمان الباب العالي يوناني يسعى بما لديه من وسائل لحماية مصالح ملته.
19
الروس والأرثوذكسية
وخطا الشعب الروسي في عهد بطرس الأكبر (1689-1725) خطوات واسعة في سبيل العمران، وتدرب الجيش على الطرق الحديثة. وكان البحر البلطي لا يزال في قبضة أسوج، والأسوج في يد الترك؛ فكان لا بد من مناوأة أسوج. وبعد حروب طويلة جاءت معاهدة نيستاد سنة 1721 فتنازلت أسوج لروسية عن ليفونية وأيثونية وأنجيرية وكريلية وغيرها. وأخذ الروس من الترك آزاق في السنة 1696، ثم توقف تقدمهم لما نزل بجيشهم من هزيمة في السنة 1711 عند نهر البروث، ولكن ما لبثت هذه الفترة أن انقضت وعادت روسية إلى مناوأة الترك طول القرن الثامن عشر بلا انقطاع.
وكان الشعب الروسي ولا يزال وديعا مسالما في طبيعته لا يحب الاعتداء، ولكنه أرثوذكسي في الصميم لا يرى إلا الهدى، شديد التمسك بتقاليد الرسل وقرارات المجامع المسكونية فخور بتراث الآباء يأبى الضيم وتعصف في رأسه النخوة، فرافق النهضة العمرانية شعور بأن موسكو هي رومة الثالثة، وأنها حامية الدين القويم.
وفي منتصف القرن الثامن عشر تولى مصطفى الثالث عرش العثمانيين (1757-1773)، وكان مولعا بالحروب. فلما رأى أن ازدياد نفوذ الروس في بولونية يتعاظم خشي على بلاده. ورأت ذلك أيضا الحكومة الفرنسية بالنسبة لبلادها فوافقته على رأيه؛ ولذلك عزم الباب العالي على منازلة الروس. وقوى عنده هذا العزم أن الروس كانوا منذ السنة 1765 يحرضون اليونان والبوشناق ونسور الجبل الأسود على الخروج على الدولة. وفي السنة 1768 اشتد حنق الباب العالي؛ إذ دخلت الجنود الروسية أملاك الدولة أثناء مطاردتهم لبعض البولونيين الفارين من وجوههم وأحرقوا بلطة التابعة لخان القرم أحد ولاة الدولة، فأعلن الباب العالي الحرب على روسية في السادس من تشرين الأول سنة 1768 لذلك، وبحجة الدفاع عن حرية البولونيين.
ولازم سوء الطالع الدولة العثمانية من أول نشوب الحرب، فلم تلبث أن انهزمت أمام الروس على نهر الدنيستر؛ فاحتلت روسية مولدافية (البغدان) والفلاخ وبسارابية والقرم. وفي خلال هذه المدة كان الأسطول الروسي ظافرا في البحر فانتصر على أسطول العثمانيين في شزمى، ولولا ما أبداه القبودان حسن باشا الجزائرلي من الشجاعة لأحدق الخطر بالقسطنطينية نفسها. وما زالت الجيوش الروسية تجد في الفتح حتى عبرت الدانوب واكتسحت بلغارية وهددت القسطنطينية من البر، فخشي الأتراك العاقبة وطلبوا الصلح في السنة 1774.
الروس حماة المسيحيين (1774)
وأبرم الروس مع الأتراك العثمانيين معاهدة كوجوك قينارجه في السنة 1774، وهي أهم معاهدة عقدت بين روسية والدولة العثمانية، وأول طور جدي في تاريخ المسألة الشرقية. ولم تنل روسية بهذه المعاهدة أملاكا شاسعة؛ إذ كان ما أخذته قاصرا على كنبورن وكرتش وآزاق والأقاليم المجاورة لها مما ثبت قدمها على شمال البحر الأسود، ولكنها نالت بها حقوقا سياسية كبيرة كان لها شأن عظيم في المستقبل. فالدولة العثمانية قبلت في هذه المعاهدة أن تضمن لروسية حكومة عادلة وحرية دينية للرعايا المسيحيين، وجعلت لروسية الحق في المطالبة بحقوق هؤلاء الرعايا كلما رأت حاجة إلى ذلك.
فقد جاء في المادة السابعة من هذه المعاهدة ما تعريبه:
إن الباب العالي يتعهد الدين المسيحي والكنائس المسيحية بحماية دائمة، ويسمح لوزير بلاط روسية أن يحتج متى شاء لصالح الكنيسة المشيدة في القسطنطينية المشار إليها في المادة الرابعة عشرة ولصالح من يخدم فيها.
وجاء في المادة الرابعة عشرة أنه يحق لبلاط روسية أن ينشئ بالإضافة إلى كنيسة السفارة كنيسة عمومية في ضواحي غلطة تدعى الكنيسة الروسية اليونانية. وفصلت المادتان السادسة عشرة والسابعة عشرة نوع الحماية الواجب تطبيقها في الأراضي، والجزر التي احتلتها الجيوش الروسية في أثناء الحرب ووعدت بالجلاء عنها.
اضطهاد الروم في بيروت ولبنان
واستفحل في هذه الآونة أمر علي بك الكبير وتاقت نفسه إلى الاستقلال، فأعلن مصر بلدا مستقلا في السنة 1769 واستولى على جدة لتكون له مركزا لتجارة الهند، ولم يلبث أن سيطر على باقي جزيرة العرب. ثم وجه همته لفتح الأقطار الشامية، فأنفذ جيشا بقيادة محمد بك أبي الذهب، فكان النصر حليفه، واستولى على كثير من مدن الشام مستعينا بالشيخ ظاهر العمر صاحب بلاد بشارة وعكة. ورأى أبو الذهب أن الدولة ربما التفتت لمصر وأرجعتها إلى سلطانها، فخطب ود الباب العالي وقصد مصر بالجيش الذي كان معه في بلاد الشام، فاستولى على وادي النيل وفر علي بك إلى عكة واحتمى بظاهر العمر حاكمها. وهنا وجد أسطولا لروسية ففاوضه بشأن تحالفه معها فأمده الأسطول بالذخيرة والمال. وانحاز الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان إلى جانب الدولة العثمانية، فقصفت العمارة الروسية بيروت في السنة 1771 ولم تبتعد عنها إلا بعد أن دفع الأمير يوسف 25000 ريال إلى الأميرال الروسي، ثم عادت هذه السفن بعد سنة لتخرج أحمد الجزار من بيروت وتسلمه إلى الأمير يوسف وذلك لقاء ثلاثمائة ألف غرش.
20
ولدى وصول العمارة الروسية خرج المسيحيون من بيروت إلى الجبل وخرج معهم رئيس كهنتهم نيوفيطوس، فنهبت أرزاقهم وخربت دورهم. ثم جاء الأمير يوسف فغرم مسيحيي بيروت بنصف ما دفع إلى الروس. وكانت الحرب لا تزال مستعرة بين الروس والعثمانيين، فنشبت فتنة في بيروت أدت إلى فرار أهلها المسيحيين إلى الجبل مرة ثانية، واغتنم الرهبان الكاثوليكيون هذه الفرصة «فأغروا» الشيخ سعد الخوري كاخية الأمير يوسف «وزينوا» له اضطهاد الأرثوذكسيين، «على ما عنده من الميل إلى ذلك»، فأطلق يده في الضغط عليهم وعذب أناسا منهم وصادر آخرين وقتل جماعة من نبلائهم، وأخذ منهم عدة كنائس وسلمها إلى الكاثوليكيين، وقتل من المتقدمين بين الأرثوذكسيين اثنين اتهمهما بالخيانة أحدهما عبد الله بن مالك والثاني أسعد إلعازار.
21
اضطهاد النصارى في دمشق
وتقوى ضاهر العمر الشيعة ونهب جبخانة عثمان باشا والي الشام وأراد أن ينهب الحجاج ويأخذ المحمل. ثم أقبلت العساكر المصرية بقيادة محمد بك أبي الذهب، فطلب عثمان باشا من النصارى مالا كثيرا وجمع في نصف نهار ثلاثين ألف غرش، والتقى الجيشان في سهل داريا فولى العثمانيون الأدبار وهربوا إلى حمص وحماة، واستولى المصريون والشيعة على دمشق، ثم انسحب محمد بك أبو الذهب «ولم يعلم أحد سبب رجوعه إلى مصر.» فعاد عثمان باشا إلى دمشق وعاد معه الأمير يوسف شهاب حاكم جبل الشوف بعساكره، «وتنمروا على الدمشقيين وحصل منهم ثقلة وبهدلة للمسلمين حتى صاروا يدخلوا الدروز والنصارى الذين معهم الجامع الأموي بزرابيلهم ونومسوا النصارى قليلا.» ثم خرج هؤلاء إلى أوطانهم «فتنمر المسلمون على النصارى ووقع البلص والعوان والظلم والعدوان شيء لا يوصف حتى إن نصارى كثيرين دشروا بيوتهم، وأخذوا حريمهم وأولادهم وفروا هاربين إلى الجبل.»
22
معمودية اللاتين (1755-1774)
وقال الجميع قبل الانشقاق وبعده بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. واعترف مجمع القسطنطينية الذي التأم في السنة 1484 بمعمودية اللاتين، واكتفى الآباء أعضاؤه بمسح اللاتينيين العائدين إلى حضن الكنيسة الأرثوذكسية بالميرون المقدس. وشك الآباء الروس في صحة معمودية اللاتين، وأوجب بعضهم تجديد التعميد، ولكن الآباء اليونانيين الذين اشتركوا في مجمع موسكو (1666-1667) أوجبوا الاعتدال والاكتفاء بمسحة الميرون.
ثم شنت رومة هجومها على الكنيسة الأرثوذكسية وبثت رسلها اليسوعيين والكرمليين والكبوشيين في أبرشيات أوروشليم وأنطاكية والقسطنطينية، فجاءوا مدربين مثقفين مسلحين بالمال والنفوذ. فاستهال الآباء الأرثوذكسيون الأمر وتروعوا، ولا سيما وأن المرسل الغربي فاق الكاهن الشرقي بالعلم والثقافة وفن الجدل. فهب دوسيثيوس
Dositheos
البطريرك الأوروشليمي (1666-1707) للدفاع بالعلم فأنشأ في السنة 1680 على نفقة الكرسي الأوروشليمي مطبعة ياسي اليونانية. ثم جمع النصوص اليونانية اللازمة للدفاع عن الإيمان القويم فنشر في السنة 1692 كتاب «الكتلوغ»، وفي السنة 1698 كتاب «المحبة» وفي السنة 1705 كتاب «الفرح»،
23
وتوفي قبل أن ينشر «تاريخ بطريركية أوروشليم»، فظهر هذا المصنف المفيد في السنة 1715 بإشراف خريسنطوس نوتاراس
Notaras
مذيلا بترجمة البطريرك المتوفى.
24
وتابعت رومة هجومها فضاعفت هيرارخية أنطاكية وأنشأت كنيسة جديدة في الشرق، فلجأ البطاركة الشرقيون اليونانيون إلى الحرم واستعانوا بالسلطات العثمانية والقوة والعنف للصمود في وجه التيار الروماني، واعتبروا الفروقات الخمسة خروجا كافيا على التقاليد الموروثة لوصم رومة وأتباعها بالهرطقة، والتعيير بالهرطقة جر أصحابه إلى إعادة النظر في موقف الكنيسة الأرثوذكسية من معمودية اللاتين.
وفي حوالي السنة 1750 رغب بعض اللاتين في الانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسية القسطنطينية، فاختلف الآباء في كيفية قبولهم وقال البعض بوجوب تعميدهم وقال آخرون بالاكتفاء بمسحة الميرون
Myro Chriesthai . ورفع الأمر إلى البطريرك المسكوني كيرلس الخامس فقال بوجوب التعميد، فثار ثائر المرسلين الرومانيين في الشرق واحتجوا وضجوا فوافقهم في موقفهم «عدد كبير» من الأرثوذكسيين،
25
وأيد البطريرك المسكوني كل من ميثاوس بطريرك الإسكندرية وسلفسترس بطريرك أنطاكية فقالا بوجوب «بتر الأطراف الفاسدة»،
26
وتدخل بعض الممثلين الديبلوماسيين في هذه القضية فأنكروا على كيرلس فعلته وشددوا عليه النكير،
27
واستغل بعض الطامعين في الكرسي البطريركي هذا الظرف، فتعددت حوادث التنفيذ فتنازل كيرلس عن الكرسي في السنة 1752 وتبوأ السدة القسطنطينية بائيسيوس. وأصبح كيرلس بطل الأرثوذكسية، وأمسى بائيسيوس أمام جمهور المؤمنين صديق رومة والكثلكة، وتزعم معارضة بائيسيوس راهب زاهد اسمه أوكسنتيوس كان قد نال إعجاب المؤمنين بما تم على يده من المعجزات. وأيد هذا الراهب كيرلس في موقفه من معمودية اللاتين فأوجب تعميدا جديدا، وظن بائيسيوس أن لكيرلس يدا في ذلك، فأرسل إلى جزيرة خالكي مقر كيرلس الجديد من فاتحه كلاما في المعارضة وعلاقته بها. فأقسم كيرلس في كنيسة والدة الإله في خالكي أن ليس له أية علاقة مع الراهب المعارض. ودعا بائيسيوس الراهب العجائبي إليه للبحث معه في موضوع معمودية اللاتين، فأبى ظانا أن البطريرك سيأمر بالقبض عليه ويبعده عن القسطنطينية، فأم أنصار الراهب ومريدوه الكنيسة يوم الأحد ونادوا بسقوط بائيسيوس «صديق الأرمن واللاتين»، وهجموا على البطريرك وأخرجوه بالعنف إلى الشارع، ولولا تدخل الشرطة لحدث ما لا تحمد عقباه. وذهب المجمع إلى مقر الصدر الأعظم ونادوا بسقوط بائيسيوس وإعادة كيرلس إلى الكرسي، وبعد يومين؛ أي في السابع من أيلول سنة 1752، وفد كيرلس على مقر الوزارة مصحوبا بالمطارنة فتردى «الجبة البطريركية» وعاد إلى رئاسة الكنيسة.
28
ويذكر مكاريوس المؤرخ المعاصر هذه الأمور جميعها ويشير إلى اضطهاد الأرثوذكسيين في بولونية وطمع اللاتين في الأماكن المقدسة في فلسطين وقيام هيرارخية كاثوليكية مستقلة في أبرشية أنطاكية، فيؤكد أن ما جرى في القسطنطينية كان مظهرا من مظاهر الدفاع عن الدين القويم.
29
وعني كيرلس بإصلاح الإدارة فألف لجنة شعبية ووكل إليها النظر في الأمور المالية المادية وتفرغ هو للعمل في الحقل الروحي، وكان من أهم ما فعل في هذا الميدان أنه أنشأ مدرسة عالية في آثوس ودعا عالم اليونان آئنذ أفجانيوس بولغاريس لتولي شئونها، وشجع تعليم الأسفار المقدسة وشرحها وتفسيرها بموجب تعاليم الآباء.
30
وظل وصول كيرلس إلى البطريركية يحز في صدور بعض المطارنة والأعيان، فعاد هؤلاء إلى البحث في معمودية اللاتين فشجبوا موقف كيرلس منها ووصموه بالخروج على التقليد المقدس،
31
واتهموه بالعطف على أعداء رومة في الغرب؛ أي على البروتستانت، والسعي للتقريب بين هؤلاء وبين الكنيسة الأرثوذكسية! ثم اتخذوا موقفا قانونيا فقالوا: إن البطريرك أوجب تجديد التعميد بدون قرار من المجمع المقدس، فأظهر كيرلس استعداده لعرض القضية على المجمع المقدس والأراخنة للبت فيها وترك الأساقفة أحرارا في موقفهم من معمودية اللاتين إلى أن يبت المجمع المنتظر فيها.
والتأم المجمع القسطنطيني في نيسان السنة 1755 فشجب موقف كيرلس من معمودية اللاتين كما نبذ تعليم خريستوفوروس أيتولية في الموضوع نفسه،
32
فرد كيرلس بحرم بطريركي عرف بال
Anathematismos
وخاطب به عموم الإكليروس الأرثوذكسي. وأهم ما جاء في هذا الحرم أن كيرلس فتش كتب المجامع والآباء فلم يجد مبررا للرش بالماء
Rhantismos
في ممارسة سر التعميد؛ ولذلك فالرش في نظره بدعة من البدع لا مبرر لها ولا يجوز السكوت عنها. وجاء في هذا الحرم أيضا أن المطارنة المجتمعين ضغطوا على البطريرك مهددين، فأبى محافظة على سلامة الإيمان الأرثوذكسي، وأنه بناء على ذلك يعلن المحافظة على التقليد سالما واعتبار رسالة المطارنة خروجا وهرطقة، وهو بالتالي يلعن ويحرم كل من يقبل رسالة المطارنة من الإكليروس والشعب مستنزلا غضب الله داعيا عليهم بالويلات البشرية.
33
وبعد أن رشق كيرلس المطارنة ومن قال قولهم بهذا الحرم أعد بيانا قانونيا في المعمودية أسماه الأوروس
Oros
ومنع بموجبه الاعتراف بمعمودية اللاتين والأرمن، ثم أسبغ على هذا البيان صفة كاثوليكية جامعة بما ناله له من تأييد رسمي من بطريرك أوروشليم برثانيوس وبطريرك الإسكندرية متثاوس، وصدر الأوروس في السنة 1755 نفسها، ولعل خريستوفوروس الأيتولي عاون البطريرك في إعداده.
34
والله أعلم.
وبدأ كيرلس بيانه بإظهار أهمية المعمودية للخلاص ، ثم أبان ضرورة التجدد وأهمية الماء في هذا الدور. وانتقل بعد هذا إلى صحة التغطيس ثلاثا فوجدها في تقليد الرسل وقوانينهم، ثم اعتبر الرش تعديلا لهذه القوانين والتقاليد وبالتالي دسا وإفسادا، وأوجب اعتبار من يعمد بالرش نجسا عملا بقوانين ديونيسيوس وقرارات المجمع البنثكتي
الخامس السادس.
35
واحتار سلفسترس البطريرك الأنطاكي في أمره، وكان لا يزال في حاجة إلى تأييد المجمع القسطنطيني في نزاعه ضد رومة وعمالها، فلم يوقع الأوروس، ولكنه لم يعلن موقفه منه. وظل الحال على هذا المنوال حتى السنة 1774 عندما تبنى نص الأوروس دانيال الأنطاكي البطريرك القائم آنئذ، وأوجب تعميد اللاتين والأرمن وغيرهم.
36
البطريرك أنثيميوس (1792-1813)
وأم دانيال القسطنطينية في أواخر السنة 1791 وشكا ضعف جسده وعجزه عن القيام بمهام الكرسي الأنطاكي. وفي الخامس عشر من كانون الأول قدم استعفاءه من هذا المنصب الرسولي وأشار بانتداب أنثيميوس أسقف هيلينوبوليس خلفا له، فوافق المجمع القسطنطيني وقبل استعفاءه ونصب أنثيميوس بطريركا على مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق.
37
وجاء في سجلات البطريركية المسكونية بتاريخ العاشر من كانون الأول سنة 1791 أنه نزولا عند رغبة المسيحيين في حلب، الذين أخذوا الدين البالغ ثلاثة آلاف غرش على عاتقهم، ونظرا لاستقرار السلم في هذه الأبرشية فإن المجمع القسطنطيني المقدس يعيد هذه الأبرشية إلى كنيسة أنطاكية، ويوجب على أسقفها أن يذكر اسم بطريرك أنطاكية ويخضع له بالناموس والتقوى.
38
وجاء أنثيميوس إلى قبرص مسقط رأسه ومنها إلى اللاذقية فطرابلس فبيروت فعكة، حيث قابل الجزار وأطلعه على نص البراءة السلطانية. ثم انطلق منها إلى دمشق فرضي المجمع الأنطاكي به؛ نظرا لعلمه وفضله وتقواه، وقلده زمام البطريركية الأنطاكية، ورتب المجمع معاشا قدره ألف غرش في السنة إلى البطريرك المستقيل دانيال المقيم في جزيرة صاقز.
وأظهر المسيحيون في أنطاكية رغبة في تشييد كنيسة لهم في المكان الذي دعي فيه المؤمنون مسيحيين أولا، فلاقت رغبتهم استحسانا في نفس أنثيميوس وعاونهم في ذلك فاستصدر لهم براءة سلطانية تخولهم البناء المنشود. واندفع كبيرهم «أبو سابا» فتبرع بجميع المال اللازم وباشر الأمر وشرع في البناء. ولم يرق الأمر القاضي بعض من شد أزره، فادعى أن النصارى إنما ينشئون قلعة لا معبدا ورفع شكواه بذلك إلى السلطان، فأمر السلطان بشنق أبي سابا وثلاثة من الكهنة وشماس!
39
البطريرك سيرافيم (1813-1823)
وتوفي أنثيميوس في دمشق ودفن فيها، فانتدب الشعب والإكليروس الأنطاكيون سيرافيم متروبوليت أركاذيو بوليس فنصبه المجمع القسطنطيني بطريركا على أنطاكية. وكانت المشاحنات الأرثوذكسية الكاثوليكية لا تزال ثائرة وكل يتذرع بما عنده من وسائل. وكانت وسائل الروم تنحصر في غالب الأحيان ببراءات سلطانية يستصدرونها من عاصمة الدولة إلى الولاة والحكام المحليين لرد الروم الكاثوليكيين إلى طاعة رؤسائهم الشرعيين مطارنة الروم وعلى رأسهم البطريرك، أو لتسليم ما استأثروا به من كنائس معينة أو لدفع عائدات الأكاليل والعمادات والجنازات إلى السلطات الأرثوذكسية المحلية. وكان الروم الكاثوليكيون يقاومون نفوذ الموظفين الأرثوذكسيين في عاصمة الدولة بنفوذ الموظفين من أبنائهم في دوائر الحكم في حلب ودمشق وطرابلس وعكة.
40
الكتبة الكاثوليكيون
وكان قد رافق السعي لانفصال الروم الكاثوليكيين شعور بالمسئوليات التي أوجدها هذا الانفصال وإقدام على العلوم ولا سيما الدينية منها. فتميزت الأوساط الكاثوليكية الجديدة بكثرة نسبية في عدد المتعلمين من أبنائها، وغزا هؤلاء المتعلمون الدواوين الحكومية المحلية في الربع الأول من القرن التاسع عشر فتربعوا في كراسيها، ولا سيما في دواوين أيالة صيدا حيث كانوا جميعهم من الروم الكاثوليك،
41
وأشهر من اشتهر من هؤلاء الكتبة إبراهيم صباغ وأولاده في عكة وعبود البحري وأخوه جرمانوس وحنا عند إبراهيم باشا أوزون قطراغاسي في حلب أولا وفي مصر بعد السنة 1808، والمعلم ميخائيل العورا في صور وابنه حنا وحفيده إبراهيم في عكة. وكان ميخائيل هذا يحسن الإنشاء في العربية والتركية والفارسية، والأخوان إبراهيم وخليل النحاس ابنا عم حنا العورا، وقد كتب الأول في عكة والثاني في صور وفضول الصابونجي وأخوه ونقولا الترك وبطرس كرامة في بيت الدين.
42
كنيسة صيدا (1818)
وفي خريف السنة 1818 أم عكة زخريا متروبوليت عكار حاملا فرمانا سلطانيا موجها إلى سليمان باشا والي أيالة صيدا، يشير إلى خروج الروم الكاثوليكيين عن طاعة رؤسائهم الأرثوذكسيين وأتباعهم طائفة الإفرنج واستئثارهم «بجملة كنايس» منها كنيسة صيدا، ويوجب تخليص هذه الكنائس من يد الكاثوليكيين، وأكره هؤلاء على تقديم عائدات الأكاليل والجنازات والعمادات إلى السلطات الروحية الأرثوذكسية. وحمل زخريا متروبوليت عكار رسالة من البطريرك سيرافيم إلى المعلم حاييم اليهودي ذي النفوذ الكبير في ديوان عكة ورسائل غيرها من أخوه حاييم وابن عمه سلمون من دمشق توجب السعي الجدي لتنفيذ الأوامر السلطانية.
43
وبلغ أمر هذا الفرمان وهذه الرسائل مسامع أعيان الروم الكاثوليك في عكة فاضطربوا. وكان الخوري سابا الكاتب مدير الرهبنة المخلصية آنئذ في عكة فاتصل بحاييم فتثبت من صحة الخبر، «وثاني يوم أخبر الكتاب والطائفة فراجعوا المعلم حاييم واستعملوا ساير وسايل التذلل والخضوع، وذكروا حاييم بضعف طائفة الكاثوليك، وبأنها منذ القدم مختصة به وبوالده وبعيلتهم، ولكن جميع هذا ما أفاد.»
ويضيف المعلم إبراهيم العورا صاحب «تاريخ ولاية سليمان باشا» أنه في السنة 1811 أبرز بطريرك الروم أنثيميوس مثل هذا الفرمان إلى سليمان باشا نفسه، وكان آنئذ والي دمشق وعكة، فاتصل المعلم حنا العورا ولد إبراهيم المؤرخ بالمعلم حاييم وأظهر غيظه وعزمه على المقاومة، فقال حاييم: «وتربة أبي عندي خاطرك بألف بطرك!» وأوقف التنفيذ، فأظهر البطريرك الحب واللطف للمعلم حنا، وأرسل له هدية صندوقا من الشمع الكافوري الأبيض وصندوقا من الصابون الممسك وطاقية جشكلي هندي وساعة ذهبية.
44
واطلع سليمان باشا على نص الفرمان الجديد الذي حمله إليه زخريا متروبوليت عكار فأمر برؤية الدعوى على الوجه الشرعي بحضور القاضي وحضور عبد الله باشا نائبا عن الوالي. وجاء القاضي وجلس في مجلس خصوصي مقابل ديوان الوزير. ونهض عبد الله باشا وجلس وكيلا عن الوزير، ودخل زخريا متروبوليت عكار إلى جانب القاضي، ووقف وكلاء الروم الكاثوليك في المجلس «وانفتحت الدعوى». وسارت الدعوى في صالح الروم فثار ثائر الروم الكاثوليكيين ودخل المعلم حنا العورا على عبد الله باشا: «ووجده عمال يتوضى وقارب الخلاص، فإذ نظره الباشا قال له: تفضل يا معلم حنا، فتمنى والدي وبقي واقفا ناحية إلى أن خلص وتنشف وجلس مكانه، فتقدم والدي بكل سرعة ومسك أقدامه وقال له: كنت أتمنى أن الباري تعالى ينعم علي بأن أموت قبل وفاة والدك ولي نعمتي العادل كريم الشيم صاحب الناموس المضف، وليس أنا فقط، بل أولادي وعيلتي وكامل طايفتي أوفق وأيسر من أن نشاهد الذل والخراب والأذية في أيامك، الأمر الذي ما كنت أتأمل ولا أفتكر أن أصادفه في أوقات ابن علي باشا العادل المشهور، فكيف حسن عندك تضيع شرف والدك الذي صرف حياته لأجل «تربيتك عندي» على الحق والعدل لكي توافق خاطر «أعداء الدين» على من هم عبيدك وأرقاء نعمتك ونعمة أبيك؟ «يا حيف على تعبي عليك ويا حيف على أملي فيك!» وحالا سقطت دمعته على وجهه.»
45
واتصل عبد الله باشا بالقاضي وعاد المجلس لسماع الدعوى فتغيرت لهجة القاضي وعمل الروم الكاثوليك بنصيحة المعلم حاييم، فادعوا أن الكنيسة موضوع البحث كانت للسريان الكاثوليك فوهبوها لهم لقلة عدد هؤلاء في صيدا، فحكم القاضي بنصف كنيسة للروم وبنصفها الآخر للروم الكاثوليك. وصدر عن سليمان مرسوم بذلك مؤرخ في الخامس من صفر سنة 1235 تشرين الثاني سنة 1819 وهذا نصه:
قدوة النواب المتشرعين نايب محروسة صيدا حالا السيد محمد سعيد أفندي زيد فضله وافتخار العلماء الكرام المأذون بالإفتاء، أفندي زيد علمه وفرع الشجرة الزكية قيمقام نقيب السادات والأشراف أفندي زيد شرفه وقدوة الأماثل والأقران متسلمنا فيها حالا الحاج سليمان أفندي زيد قدره.
بعد السلام التام المنهي إليكم قبل تاريخه، حضر لطرفنا مطران الذميين القاطنين بناحية عكار بالوكالة عن قدوة الملة المسيحية البطريق سيرافيم بطريق طائفة الروم الأنطاكي المقيم بدمشق الشام ختمت عواقبه بالخير، وقرر على مسامعنا بأن البطريق المرقوم منصوب بطريق من قبل الدولة العلية والسدة الخاقانية صانها رب البرية على طائفة الذميين الروم الكاينين بأنطاكية وطرابلوس الشام، والشام وصيدا، وأن ساير كنائس طائفة الروم وأوقافها تحت نظارة المسفور بموجب براءة سلطانية، وأعرض لدينا صورة البراءة ممضية.
وادعى أن كنيسة الروم الكائنة في صيدا فهي تحت تصرفه وتحت نظارته، وأن الذميين الكاثوليكيين المقيمين بصيدا واضعين يدهم على الكنيسة المذكورة فضولا من غير مساغ شرعي ولا أمر سلطاني، والتمس استردادها ورفع يدهم عنها، فاقتضى أن أحضرنا الذميين الكاثوليكيين القاطنين بصيدا، وهم إبراهيم الزهار وإبراهيم سركيس ويعقوب الزهار وقسطنطين عكاري وإلياس الكركجي وحنا دبانه وجبران بولاد وحنا زكار وساير وجوه طايفة الكاثوليكيين. ورفعنا استماع دعواهم إلى حاكم الشريعة الغراء قاضي محروسة عكة حالا افتخار القضاة والحكام السيد محمد أبو الهدى أفندي التاجي زيد مجده، بحضور أمير الأمراء كبير الكبراء الفخام ذي القدر والاحترام صاحب العز والاحتشام كتخدانا ولدنا السيد عبد الله باشا دام إقباله. وصارت المرافعة بينهما، وطلب المطران المسفور رفع يد الكاثوليكيين عن الكنيسة المذكورة، فأجابوا أن الكنيسة هذه بالأصل كنيستان إحداهما إلى طائفة الروم والثانية إلى طائفة السريان الذميين، ومن بعد انقراض السريان من قديم الزمان رفعوا الحائط الذي كان بين الكنيستين لأجل التوسع وصارت الكنيسة واحدة، وأن الحصة التي تخص طائفة الروم لم يزالوا واضعين يدهم عليها، والذي تخص طائفة السريان الكاثوليكيين واضعين اليد عليها وهي بأيديهم. وأن طلب البطريق المرقوم إلى الكنيسة جميعها فهو بغير حق. فطلب منهم حاكم الشرع بينة على إثبات مدعاهم وأحضروا بينتهم إلى مجلس الشرع.
وقبل تاريخه حضر لنا إعلام من الأفندي المومى إليه بصورة المرافعة الذي حصلت، فاقتضى الآن أن نصدر لكم مرسومنا هذا من ديوان عكا المحمية مرسلين لكم الإعلام الذي حضر لنا من الأفندي المومى إليه بهذا الخصوص؛ لكي تطلعوا على كيفية المادة وتسجلوا مرسومنا هذا والإعلام الشرعي بالسجل المحفوظ، وتخطروا خوري طائفة الروم والرعايا الكاثوليكيين أن لا يفارشوا كنيسة الروم في حصتهم المصرف بنظارتها البطريق المسفور بموجب براءة شريفة سلطانية، وتنبهوا على خوري الروم المسفور في أي وقت أراد يجري دينه لا أحد يتعارضه فيه. وكذلك الحصة التي تخص السريان تبقى الآن طائفة الكاثوليك يجروا دينهم فيها في الوقت الذي يريدوا إجراءه إلى حين يصدر لكم مرسوم ثاني من طرفنا بإعطاء رابطة هذه المادة مع الكاثوليكيين بوجه التفصيل، حيث إن هذه الحصة المتعلقة بالسريان منوطة إلى رأينا، اعلموا ذلك واعتمدوه. في 5 صفر سنة 1235. الحاج سليمان والي صيدا وطرابلس حالا.
46
البطريرك مثوديوس (1823-1850)
ومضى سيرافيم مستقبلا وجه البقاء في السنة 1823 وانتقل إلى دار القرار في دمشق ودفن فيها. وأجمع الأساقفة والأعيان على قسطنديوس رئيس أساقفة سيناء وكتبوا إلى الكنيسة العظمى القسطنطينية ينتدبونه بطريركا على أنطاكية. ولكن قسطنديوس تمنع وأعرض فنصب المجمع القسطنطيني مثوديوس متروبوليت أنقيرة بطريركا على أنطاكية وسائر المشرق.
ونهض مثوديوس من القسطنطينية قاصدا دمشق بطريق البر فاستغرقت رحلته خمسة أشهر وخمسة أيام. وكان قد أرسل أمتعته بحرا فغرقت مقابل رأس كستيلوريزو. وما إن وصل إلى دمشق وسجل براءته فيها حتى هب لمقاومة الكثلكة، وكان عزيز الجانب شديد الشكيمة لا تلين قناته لغامز،
47
فبذل قصارى جهده لمقاومة الكثلكة، فلجأ إلى الطرق الاغتصابية واضطهد ونفى.
الدولة تعترف بالأرمن الكاثوليك (1828)
وشمل برنامج رومة إدخال الأرمن في الطاعة منذ أوائل القرن السابع عشر، فانشقوا على أنفسهم انشقاق الروم، وتنادوا واختلفت كلمتهم وتشعبت آراؤهم. وانتظم الكاثوليكيون منهم كنيسة مستقلة وأقاموا منذ السنة 1740 بطريركا عليهم. ولكن الدولة ظلت تعتبرهم خاضعين في أمورهم الدينية وأحوالهم الشخصية للبطريرك الغريغوري القسطنطيني. واستحكم الشقاق بينهم واشتد الاضطهاد، ولا سيما في السنوات 1699 و1702 و1759 و1782.
واغبر الجو وأظلم في السنة 1828 وتقوضت دعائم المحبة، فجرى في القسطنطينية نفسها ما لا يمت إلى المسيحية بصلة. فرفع برتو أفندي تقريرا بذلك إلى السلطان محمود الثاني، فقبح السلطان وأنكر وعين ناظرا مسلما يعنى بشئون الأرمن الكاثوليك الزمنية ووكل أمورهم الروحية إلى القاصد الرسولي نفسه،
48
ثم خول الكاثوليكيين من الأرمن حق انتداب أسقف يتولى شئونهم الزمنية والروحية. وفي الثالث من كانون الثاني سنة 1831 أصدر براءة سلطانية اعترف بها برئاسة الأسقف آغوب وبالملة الأرمنية الكاثوليكية،
49
وربط السلطان بهذه البراءة جميع الطوائف الكاثوليكية بالأسقف الأرمني المستقل، وخوله حق قضاء أشغالهم أمام المراجع الحكومية الرسمية ورفع بذلك سلطة البطاركة غير الكاثوليك عنهم.
ممارسة الحقوق المكتسبة (1828-1834)
ومارس الروم الكاثوليكيون هذه الحقوق المكتسبة فرمموا كنائسهم في دمشق وغيرها من المدن والبنادر، ودخل بطريركهم مكسيموس مظلوم دمشق، وعاد الكهنة الروم الكاثوليكيين إلى لبس القلاليس الممنوعة، وامتنع الشعب الكاثوليكي عن دفع العائدات الروحية إلى السلطات الأرثوذكسية، وأعلن عدد من الأرثوذكسيين خضوعهم لرومة في دمشق وحمص وطرابلس وحاصبيا.
50
براءة باسيليوس (1834)
واستصدر الأسقف المستقل أروتين الأرمني في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 1834 براءة سلطانية باسم باسيليوس مطران مصر وتوابعها على الروم الكاثوليكيين. واعترف محمد علي باشا عزيز مصر آنئذ بمضمون هذه البراءة التاريخية كما يلي:
إن أروتين قدم عريضة مختومة أبان فيها أن الروم الملكيين القاطنين في محروسة مصر المتعلقين به ليس لهم رئيس يتصرف بشئونهم، وأن المطران الراهب باسيليوس كفؤ للقيام بمهام الرئاسة، وأنه يحدد خمسة آلاف أخشاية محصول رئاسته المطلوبة، وأن أروتين قدم خمسة آلاف وفوقها عشرة آلاف أخشاية. وأنه ابتداء من اليوم الحادي والعشرين من تشرين الأول سنة 1834 تبدأ رئاسة باسيليوس على الروم الكاثوليك في مصر.
وأوجب السلطان بعد هذا على الكاثوليكيين التابعين لرئاسة باسيليوس أن يراجعوه «بالأمور المتعلقة بعاداتهم وألا يتجاوزوا كلامه الذي بالطريقة وألا يتعدوا ذلك.» وأوجب السلطان أيضا ألا يحول حائل دون تلاوة الإنجيل في بيت المطران المذكور، وألا يعترض أحد على توليع القناديل ووضع الصور والكراسي والتبخير ومسك العكاز، وأن يمتنع الضباط والميرميرانات وطائفة أهل العرف عن تعجيز هؤلاء واستدرار المال منهم بوجه غير شرعي «وأن لا يرفعوا صوتهم عليهم بإعلان الكفر.»
ومنحت هذه البراءة الكهنة الكاثوليكيين حق الإشراف على الزواج ومنعتهم عن إجرائه بدون إذن المطران، وعن الطلاق وأخذ امرأة على امرأة، وهددتهم بالتأديب في حال المخالفة، ونهت أصحاب القدرة عن إكراه الكهنة بقولهم: «زوجوا هذه الحرمة إلى هذا النصراني!» وحرمت أيضا إكراه الكهنة على دفن من هم على غير طريقتهم. وإذا أوصى بعضهم بشيء إلى البطريرك أو القسوس لأجل الكنائس، فليؤخذ ما أوصى به من الورثاء بمعرفة الشرع. ومن يتوفى من القساوسة وسائر أبناء الطائفة من غير وارث يتسلم موجوداته المطران، ولا يحق لبيت المال أن يتدخل في ذلك. ولا تسمع الدعاوى المتعلقة بالشرع الشريف التي تقام على المطران أو الكهنة خارج الديوان الهمايوني في الآستانة، «ويجب ألا يغتصب أحد النصارى على الإسلام من دون رضاه.» ولا يعارض المطران في حوائجه ولبسه وعكازه أو في محل سكناه.
51
وأنفذ مكسيموس القس توما القيومجي إلى مصر في السنة 1835 ليدير شئون الطائفة الكاثوليكية فيها، وما إن وصل إليها وخرج لقضاء أشغاله فيها لابسا لباس الروم التقليدي حتى قبض «يسقجي» البطريرك الإسكندري عليه وساقه إلى البطريركية. فأمر البطريرك بحبسه وأكرهه على «قلع القلوسة ولف الشال»، فشكا توما أمره إلى العزيز فمنع هذا البطريرك عن التدخل في شئون الروم الكاثوليك عملا بنص البراءة السلطانية.
52
مجمع طرابلس (1836)
فشق الأمر على البطريركين الإسكندري والأنطاكي واشتد عليهما، فدعا مثوديوس مطارنة الكرسي الأنطاكي إلى مجمع في «نواحي طرابلس» في آب السنة 1836، واتصل الآباء المجتمعون ببطريرك الإسكندرية وجمعوا الأموال من الرعايا وأنفذوا من اختاروه إلى القسطنطينية لدرء هذا الخطر الجديد، وادعوا أن لبس القلاليس مختص بهم وطالبوا بمنع الكاثوليكيين عن التزيي بأزياء الروم؛ كي يتمكن الشعب من التفريق بين الإكليروسين. فاستدعى كارلوس كرابيد أزيان البطريرك الكاثوليكي في الآستانة وكيل البطريرك مكسيموس الخواجه يوسف حجار وحضه على جمع المال لمقاومة بطريرك الروم في الدوائر الرسمية. وفي أواخر أيار السنة 1837 صدر فرمان سلطاني موجه إلى عزيز مصر محمد علي باشا يمنع تغيير المذهب، ويوجب بقاء كل نصراني على مذهبه ويردع القساوسة الكاثوليكيين عن التزيي بزي الروم وعن التحرك بجمعية خلاف أطوار الرعية عند انتقالهم من محل إلى محل.
53
مثوديوس في مصر (1837-1840)
وأرسل البطريرك القسطنطيني الفرمان السلطاني إلى مثوديوس البطريرك الأنطاكي، فهب هذا لساعته يطالب بالتنفيذ. ولما كان الفرمان السلطاني موجها إلى محمد علي باشا عزيز مصر، وكان مكسيموس آنئذ في وادي النيل يتفقد شئون رعيته طلب مثوديوس إلى محمد شريف باشا حكمدار الأيالات الشامية أن يأذن له بالسفر إلى مصر لمقابلة العزيز والتحدث إليه في أمر الفرمان الجديد، فأجاب الحكمدار الطلب. وقام البطريرك من دمشق في صيف السنة 1837 إلى طرابلس ومنها إلى أهدان لمقابلة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا وقائد جيوشه. وأصغى السر عسكر المصري إلى ما قاله البطريرك الأنطاكي ، ثم أجاب أنه لا يريد التدخل في المسائل الدينية الطائفية، ولكنه مستعد لعرض الشكوى أمام والده في مصر. ورجع مثوديوس إلى طرابلس يرافقه زخريا مطران عكار، وقاما منها إلى بيروت وجمعا الأموال اللازمة وأبحرا إلى الإسكندرية فوصلا إليها في أوائل أيلول، ورفعا أمرهما إلى العزيز وتلي الفرمان السلطاني على مسامعه فأمر بتنفيذه وتسجيله في المحكمة الشرعية.
وسام البطريرك مكسيموس الخوري يوسف الكفوري «مطرانا على قلاية بطريركية الإسكندرية» ودعاه باسيليوس ليوافق نص البراءة التي استصدرها أروتين الأرمني الأسقف المستقل. وشارك البطريرك في وضع اليد يوسف ناتسيو الأسقف اللاتيني العابر الطريق آنئذ وأسقف هالينة النائب الرسولي على طائفة الأقباط الكاثوليكيين في مصر، وذلك في الخامس من أيلول سنة 1837،
54
ثم أقام مكسيموس المطران الجديد نائبا بطريركيا له في مصر. وكانت الحكومة الإفرنسية قد منحت مكسيموس التبعة الإفرنسية منذ السنة 1822، فشاور مكسيموس قنصلية فرنسة في المشكلة القائمة، فأشارت بأن يجعل البطريرك نائبه باسيليوس يلتمس إحالة النظر في الدعوى القائمة بين الروم والروم الكاثوليك أمام المحكمة الكبرى أو أمام الديوان الخديوي أو إعطائه مهلة كافية لعرض الحقائق لدى الباب الهمايوني في الآستانة،
55
فأجاب العزيز أنه لا يتدخل في أمور الديانات، وإنما يأمر بتنفيذ البراءات والفرمانات كما ترد، وأنه ليس على الروم الكاثوليكيين إلا أن يستصدروا فرمانا جديدا يخولهم الحقوق التي يطلبونها.
56
وطالب الروم بتنفيذ الأوامر السلطانية فاضطر مكسيموس وكهنته أن يقيموا في الدار البطريركية، وألا يغادروها خشية التنفيذ الجبري. وأكدت القنصلية الإفرنسية في الإسكندرية أنها تعتبر الدار البطريركية الكاثوليكية داخلة في حمايتها بموجب نصوص الامتيازات الأجنبية، واتصل القنصل بالديوان الخديوي ورجا التريث، فأكد حبيب أفندي لمثوديوس وقنصل اليونان أن الديوان منفذ الأوامر السلطانية ولكنه لم يفعل.
57
مكسيموس رئيس مرخص (1837)
وفي السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1837 تسلم مكسيموس بريد الآستانة، فإذا به براءة سلطانية ترخص له السلطة والسيطرة على الروم الكاثوليكيين في بطريركيات أنطاكية وأوروشليم والإسكندرية، وهي مؤرخة في أول شعبان سنة 1253؛ أي في الحادي والثلاثين من تشرين الأول سنة 1837:
إن الراهب المسمى كرابيد بطريرك الكاثوليك الذين في إسلامبول وتوابعها قدم لدى سدتي السنية عرضحالا مختوما، يذكر فيه أنه قد لزم تعيين مرخص على جميع الروم الملكيين الكاثوليكيين الموجودين في أبرشيات أنطاكية والإسكندرية والقدس الشريف الداخلين تحت بطريركية الكاثوليك. وأن قدوة مختار الملة المسيحية المسمى مكسيموس مظلوم المتروبوليت ختمت عواقبه بالخير الحامل براءتي هذه الهمايونية، حيث إنه مقتدر على رؤية أمور المرخصية وإدارتها، فاستدعى أن يعطى له براءة سنية مع درج الشروط فيها بتوجيه لمرخصية المذبورة إلى المتروبوليت مكسيموس المذكور بشرط تقديم مقدار من الدراهم إلى الخزينة العامرة على وجه الهدية، فهذا هو مضمون العرضحال المقدم ذكره.
فبعد المراجعة في القيود تبين أنه من مقتضيات الشروط المدرجة في براءتي العلية الشأن التي بيد البطريرك المرسوم، أنه إذا لزم تعيين مرخص للمحلات الداخلة تحت ملل هذه البطريركية حسب المقتضى على موجب عاداتهم، ووضع رسم الهدية على قدر تحمله واستدعى أن تعطى له براءة مجددة، فتسلم الهدية المعينة نقدا إلى الخزينة العامرة وتعطى له براءة شريفة مجددة مع درج الشروط فيها. وقد عين هو على المرخصية المرقومة في هذه المرة خمسة عشر ألف عثماني على وجه الهدية، وأعطي له البيان من محلها بتسليم الهدية المذكورة نقدا إلى الخزينة العامرة؛ فأصدرت براءتي هذه الهمايونية على موجب فرماني العالي الشأن المبرز قبلا.
وقد أمرت بأن المتروبوليت مكسيموس مظلوم حاملها يدبر مرخصية جميع الكاثوليكيين الذين في بطريركيات أنطاكية وإسكندرية والقدس الشريف، وأن الطائفة الذمية الكبار والصغار والقسوس والرهبان والرجال والنساء الذين على المذهب الكاثوليكي الموجودين في المحلات التابعة لمرخصيته يلزم أن يعرفوه رئيسا مرخصا عليهم ويراجعوه في الأمور المتعلقة بعاداتهم، ولا يتجاوزوا كلامه الذي في محله، ولا يحدث منهم قصور في طاعته.
ثم لا أحد يتعارض المتروبوليت المذكور في بيته ولا في سائر البيوت عن قراءة الإنجيل وإجراء اعتقاده، ولا أحد يقول: أنتم أيها الكاثوليكيون تجرون في بيوتكم اعتقادكم وتقرءون الإنجيل وتعلقون القناديل وتضعون كراسي وتصاوير وستارات وتبخرون بالمباخر وتمسكون العكاكيز بأيديكم، فلا يتعارضهم أحد في شيء من اعتقادهم جميعها . ولا يصنع لهم تعللا وتعجيزا لأجل جلب المال من طرف الميرميرانات ولا من قبل الضباط كافة، ولا من جهة أهل العرف جميعا، فلا يصير عليهم أدنى تعد بغير حق مخالف الشرع الشريف.
والذين يموتون من المطارنة والقسوس والرهبان والقسيسات وغيرهم مهما أوصوا به إلى الفقراء، أو لكنائسهم أو لبطريركهم، تكون وصيتهم نافدة مقبولة ولا تصير من أحد مداخلة بها بوجه من الوجوه، بل تكمل على موجب اعتقادهم وقاعدتهم وبشهود جماعة كاثوليكيين من طائفتهم تسمع دعاويهم شرعا.
ولا أحد من المتقدمين يتعارض قائلا للمرخص أرسل هذا القسيس الفلاني بهذا الوجه أو بذاك، ولا يصير جبر أو تعد بهذا الشأن أصلا.
وإذا اقتضى للمتروبوليت المذكور أن يحضر إلى الآستانة لأجل مصلحة، فالقسيس والراهب الذي يوكله عوضا عن ذاته لا أحد يمانعه أو يتعرض له من طرف أهل العرف ولا من غيرهم بوجه من الوجوه قطعا. ولا يقول أحد للمرخص المذكور أنا أتبعك جبرا لأجل خدمتك؛ إذ لا رخصة لأحد بذلك.
والأشياء المختصة بالمتروبوليت المذكور أو بكنائسه متى بلغت إلى الأساكل أو إلى الأبواب فليس لأحد أن يطلب عليها شيئا من كمرك أو باج أصلا.
وإذا اقتضى للمرخص أن يرسل من قبله إنسانا لجمع ميرياته ومحاصيله من أهالي القرى والأمكنة الأخرى فليعط لهم دليل في الطرقات. ومباح لهم أن يغيروا ملابسهم، وأن يتقلدوا الأسلحة الحربية لأجل تحصين ذواتهم من الأشقياء. وليس لأحد من طائفة أهل العرف أو من الحكام أن يعترضهم لأجل جلب المال أو عوائد أو هدايا أو بنوع من الأنواع بتة، ولا يطالبهم أحد بشيء بخلاف الشرع الشريف أصلا.
ولا تسمع دعوى على المتروبوليت المذكور ولا على قسوسه ولا على المختصين به إلا في ديواني الهمايوني في آستانة دار السعادة لا في مكان آخر قطعا .
وإذا اقتضى أن يحبس بإذن الشرع الشريف أحد من الرهبان أو من القسوس أو من الراهبات فلا يكن ذلك عند الضابط، ولا يقدر بدون رضاه أن يحوشه هو، بل إن المتروبوليت يمسكه ويحبسه عنده، ثم لا يجبر الذي على الإسلام أصلا بدون رضاء.
والأشياء الحاصلة للمتروبوليت لأجل مأكولاته من كرومه وأرزاقه، وكذلك الآتية إليه باسم التصديق من حلو أو دهان وعسل وغير ذلك، فوكلاء الكمارك وجماعتهم الذين في الأساكل والأبواب لا يتعارضونهم بالمنع عن الإدخال ولا بطلب شيء برسم كمرك البتة. والحذر من المخالفة! وهكذا مهما يكون مختصا بكنائسهم وأديرتهم من كروم وبساتين وطواحين وقرى ومزارع ومراعي وأراضي وغيرها، ونظيرها أوقاف كنائسهم من بيوت ودكاكين وأملاك وموجودات وأشجار مثمرة وحيوانات مع سائر مأكولهم، فليكن في ضبطهم وتصرفهم المطلق، ولهم فيه دستور العمل من دون أن يتداخل به أحد أصلا.
ثم إن الكنائس مع الأديرة المختصة بالطائفة المذكورة لا يتعارض أمرا من أمورها أحد من طائفة أهل العرف بتفتيش لأجل بيولردي أو غيره، ولا يحدث لهم بذلك ممانعة أو تجريم، بل تكون كنائسهم وأديرتهم في ضبطهم وتصرفهم.
وبدون إذن المتروبوليت المذكور ومعرفته لا أحد من قسوسه يعقد زواجا لا يكون جائزا في اعتقادهم ومذهبهم. ومن حيث إن الطلاق والزواج بامرأة أخرى عدا الامرأة الحية ليس جائزين عندهم، فلا يعطى لأحد منهم رخصة بذلك أصلا، بل إذا حدث أمر مغاير لمذهبهم فالذين باشروه يتأدبون حالا بالقصاص حسبما يستحقون. وإذا أراد البعض من الطائفة المذكورة أن يعقد زواجا عند طائفة أخرى فلا يعقدوه له. ولا أحد من ذوي الاقتدار يغصب أحدا من القسوس مع عقد زواج لأحد بخلاف اعتقادهم. ثم إذا حدث منازعة فيما بين البعض من الكاثوليكيين، إما لعقد زواج أو لأمر من الأمور كافة أو من الاختصاصات جميعها فليحضر المتخاصمون أمام المتروبوليت المذكور أو أمام الذين يعينهم لأجل رؤية الدعاوي مثل ما يقتضي الحال. وإذا لزم أن يحلف يمينا لأحد هؤلاء فيحلفه في الكنيسة على موجب اعتقادهم.
وإذا اتفق البعض من الطائفة المذكورة لأجل مقتضى أغراضهم أن يرفعوا الدعوى إلى القضاة أو إلى الحكام، فلا أحد من طرف القضاة أو الحكام يتعارض أو يتداخل فيها، وإن فعل أحد بالخلاف فيجرم.
وإذا مات أحد في حالة مخالفة مذهبهم وأراد القسوس أن لا يتعاطوا دفنه لأجل مقتضى مذهبهم فلا أحد من القضاة، ولا من الحكام ولا من الضباط ولا من ذوي المقدرة، يجبر القسوس برفع ذلك الميت ودفنه أو يصنع بهذا الشأن أدنى تعد.
والتعميرات والترميمات التي تقتضى لكنائسهم وأديرتهم فيأذن الشرع الشريف أن تعمر وترمم من غير أن يصير من طرف أحد أدنى تداخل.
وإذا كان لأحد دين فليحذر من أن يتعارض بسببه حوائج الكنيسة أو الأديرة حتى ولا بطريق الاسترهان، وإن كان أحد يتجاسر على أخذ شيء من ذلك يرد حالا بمعرفة الشرع.
والذي يموت من القسوس أو القسيسات بلا وارث فالمتروبوليت المذكور كبطريرك يستولي على ما يكون للميت، مهما كان من موجودات ودواب وغير ذلك، لجهة الميري له من دون أن يتداخل بذلك أحد من طرف بيت المال أو القسام أو المتولين أو الشوباصية أو يضع يده على ماله أو نقوده أو شيء من سائر مخلفاته.
ولتؤد الطائفة المذكورة ما عليهم لمتربوليتهم في كل سنة رسوم ميرية وصدقات وسائر المرسومات البطريركية تماما ولا تصير في ذلك مرادة من أحد.
وإذا تقدم أعراض من الباشاوات أو القضاة أو النواب في سوء حال المرخص المذكور أو قسوسه أو في عزل أحد منهم أو نفيه، فالشكوى التي تصدر في حق أحد منهم لا تقبل دون الفحص الكامل والوقوف على صحة الأمر، وبغير ذلك لا يصغ إلى كلام أحد أصلا. وفي فرضية إذا صدر فرمان أو أمر شريف بتاريخ مقدم أو مؤخر لا يعتبر ولا يعمل به في مكانه.
ويكونون جميعا مرخصا بإجراء عقائدهم في كنائسهم وأديرتهم وأمكنة زيارتهم المعلومة، ولا تحصل في ذلك ممانعة البتة من طرف أهل العرف، ولا من جهة غيرهم لا في دفن موتاهم ولا في قراءتهم خلوا من معارضة أحد لهم بذلك.
ونظرا إلى الحيوانات والخيل والبغال المعدة لمراكيب المتروبوليت المذكور وأتباعه فلا يعترضها أحد بنوع من الأنواع، وهكذا الدار التي يسكنها هذا المرخص ليس لأحد من أهل العرف أو من الحكام أو غيرهم أن يطلبها لتستعمل منزولا أو لأجل نزول عساكر فيها. ثم ليس لأحد عليها ولاية بوجه من الوجوه، وكذلك لا يقدر أحد من الميرميرانات أو من أمراء اللواء أو من المتسلمين أو من النظار أو من أصحاب الولاية أو من الضباط أو من الشوباصية أو غيرهم أن يمانعه في ملابسه أو زيه ولا في العكاز المختصة به المعتاد أن يمسكها بيده، ولا أن يصنع له أدنى مزاحمة أو ممانعة في شيء؛ وذلك حفظا لشروط براءتي هذه العالية الشأن التي بموجبها يكون دستور العمل في ضبط أموره وحلها وربطها بالحرية الكاملة، من دون أن يتعارضه أحد في جميع التصرفات المختصة به بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب. فهكذا اعلموا جميعا واعتمدوه على علامتي هذه الشريفة. تحريرا في اليوم الأول من شعبان سنة 1253.
58
وإذا كان في هذه البراءة اعتراف واضح بما كان يعانيه بعض رجال الدين المسيحيين من تضييق وضغط، فإن فيها أيضا محاولة رسمية لحمايتهم من ذلك، ففيها ترخيص بتعمير الكنائس وترميمها وحرية الملبس وإظهار شعائر السلطة الدينية وحرية التوصية وصلاحية النظر في الدعاوي ومنع القضاة والحكام عن التدخل في أحكام الأساقفة، فالبراءة من هذه الناحية تبشر بعهد جديد وإصلاح شامل، وهي من حيث علاقة الروم الكاثوليكيين بالروم الأرثوذكسيين تؤذن بالاستقلال التام.
السلطان يبرم وينقض
ثم نقض السلطان ما أبرم، فأصدر في منتصف تشرين الثاني من السنة 1837 فرمانا جديدا وجهه إلى عزيز مصر، وأوجب به التحقيق في النزاع القائم بين الروم والروم الكاثوليك بحضور العلماء والأعيان وأهل الخبرة، ورفع النتيجة إلى جلالته ليثبت الحق ويرفع الأذى.
59
فاضطرب مثوذيوس وزميله الإسكندري أيروثيوس وفاوضا السلطات المصرية في مهلة ثلاثة أشهر يتمكنان في أثنائها من الدفاع عن حقوقهما المشروعة. وفي أوائل تموز السنة 1838 أصدر السلطان فرمانا أوجب فيه قطع القال والقيل وردع الروم الكاثوليكيين عن التردي بقيافة الروم وتدبير قيافة تشبه الرهبان الكاثوليكيين القائمين في ممالكه المحروسة.
60
وما فتئ السلطان يقدم ثم ينخزل ويقر ثم ينقض حتى اضطر الطرفان أن ينتقلا في نزاعهما إلى عاصمة الدولة نفسها. وفي أيلول السنة 1838 أصدر البطاركة الأرثوذكسيون الأربعة غريغوريوس القسطنطيني وأيروثيوس الإسكندري ومثوذيوس الأنطاكي وأثناسيوس الأوروشليمي بيانا قبحوا به الليتنة وخروج الروم الكاثوليكيين.
61
وشغل هذا النزاع باريس ورومة وبطرسبرج بالإضافة إلى الآستانة، فإن مكسيموس غادر الإسكندرية في خريف السنة 1840 إلى مالطة فرومة فباريس مستجديا مستنهضا. ثم عاد توا إلى الآستانة فوصلها في الثالث والعشرين من آب سنة 1841 وأقام فيها، وكتب البطاركة إلى السنيودس الروسي واتصلوا بسفارة روسية في الآستانة، فاضطر الباب العالي أن يسعى سعيا حثيثا للوصول إلى حل مناسب يرضى به الطرفان. وفي أوائل تشرين الأول سنة 1847 أصدر السلطان عبد المجيد خطا همايونيا أوجب به اكتساء المطارنة والكهنة والرهبان الملكيين الكاثوليكيين «قلنسوى مسدسة الزوايا بلون مور»، وأوجب أن يكون لون اللاطية فوقها مورا أيضا.
62
مكسيموس بطريرك مستقل (1848)
وخسر مكسيموس جولة «القلوسة» ورضي أن تكون هذه القلوسة مسدسة الزوايا بنفسجية اللون لا مستديرة سوداء كقلوسة الروم الأرثوذكسيين، ولكنه فاز باعتراف الدولة به بطريركا مستقلا عن البطريرك الأرمني الكاثوليكي الذي كان يتبعه منذ السنة 1837 بصفة «رئيس مرخص». ففي الثامن من كانون الثاني سنة 1848 صدرت براءة سلطانية تعلن هذا الاستقلال وتعترف به، فقد جاء في مقدمات هذه البراءة:
أن الرؤساء المرخصين القائمين على تدبير أمور الكلدان والسريان والموارنة يستمرون في طاعة بطريرك الكاثوليكيين في الآستانة. أما طائفة الملكيين فإنهم في حالة خصوصية؛ لأن بطريركهم قائم بهم بالفعل والعملية منذ القديم.» وبما أنه لم يعط براءة بهذه الصفة، وبما أن مجلس الأحكام العدلية رأى أن الضرورة تقضي بإعطائه براءة بذلك؛ فإن السلطان أصدر أمره الهمايوني «في هذا الخصوص، وتعلقت إرادته السنية الملوكية بإجراء ما اقتضى.
ولذلك فإنه أعطى مكسيموس مظلوم براءته الهمايونية متضمنة بطريركيته على الروم الملكيين الكاثوليكيين الموجودين في أنطاكية وإسكندرية والقدس الشريف وسائر الممالك المحروسة، وعلى هؤلاء كبارا وصغارا أن يعرفوه بطريركا عليهم ويراجعوه في الأمور المتعلقة بعاداتهم ولا يتجاوزوا كلامه الذي في محله ولا يبدوا قصورا في طاعتهم له.
ثم استطرد السلطان فكرر جميع ما ورد في براءة السنة 1837 من امتيازات إدارية وسياسية وقضائية وتحرير اجتماعي. وقد أثبتنا نص هذه البراءة الأولى آنفا فلتراجع في محلها. ولا تزال البراءة الثانية محفوظة في دار البطريركية الكاثوليكية في دمشق، وقد أحسن الأب يوسف حجار بنشرها بالزنك في كتابه الأنيق «البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم» الذي ظهر حديثا بموافقة سيادة الحبر العلامة كيريوس فيليبوس متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما.
63
البروتستانت
واستقلت المستعمرات البريطانية في أميريكة الشمالية وأصبحت الولايات المتحدة الأميريكية (1776-1783). وانتظمت شئون الدولة الجديدة ودرت مواردها فتفتحت أمام قادتها وزعمائها آفاق جديدة، وكثر المهاجرون البروتستانت حتى أصبحوا أغلبية السكان، وقال معظمهم بالبروتستانتية الكلوينية فشعروا بواجب التبشير والدعاية لإيمانهم أكثر من اللوثريين والإنكليكان. وانتظم في وليامستون في إنكلترة الجديدة في السنة 1806 جماعة من الأتقياء الذين نذروا حياتهم «للعمل في حقل الرب»، فأسسوا في السنة 1808 «جمعية الإخوة»، ثم التحقوا بكلية أندوفر لدرس اللاهوت وبثوا دعايتهم في كلية وليم، وقدر لهم النجاح فنشأت في السنة 1810 «المفوضية الأميريكية للتبشير في الخارج»،
64
وفي السنة 1812 اعترف مجلس ولاية مساتشوست التشريعي بهذه المفوضية.
واهتم الإخوان والمفوضون لأمر فلسطين منذ اللحظة الأولى، فأرسلوا في السنة 1819 بلينيوس فسك ولاوي بارسنس للإقامة في أوروشليم والعمل على تبشير اليهود.
65
وأوصوا هذين المبشرين بدرس الموقف لمعرفة ما يمكن أن يعمل لمساعدة المسلمين والمسيحيين وسكان مصر وسورية وفارس وأرمينية.
66
وأقام فسك في إزمير مدة وجاء بارسنس أوروشليم فوصلها في السابع عشر من شباط سنة 1821 وأقام فيها يوزع الأسفار ويفسرها. ثم توفي بداء الديزنطارية في الإسكندرية في السنة التالية. فلما علم رفيقه بلينيوس فيسك بذلك قام من إزمير إلى مالطة يشوق مرسلا أميريكيا آخر كان يشرف على المطبعة الأميريكية في هذه الجزيرة للعمل في أوروشليم، فآثر تمبل هذا البقاء في مالطة. وكانت كلية أميرست
Amherst
الأميريكية قد أوفدت يونس كينغ إلى باريز لتعليم اللغات الشرقية في مدرسة باريز على المستشرق الشهير سلفستر دي ساسي، فاتصل فيسك به ودعاه للعمل في الشرق فلبى الدعوة بسرور. وشجعته جمعية التبشير الإنجيلية الإفرنسية
67
على ذلك فمنحته مساعدة مالية قدرها مائة دولار في السنة لمدة ثلاث سنوات، فأصبح هذا الشاب الأميريكي أول المرسلين الإنجيليين الإفرنسيين،
68
وقام المرسلان من مالطة إلى الإسكندرية فالقدس فوصلا إليها في أوائل السنة 1823. ثم التحق بهما إسحاق بيرد موفدا من قبل مفوضية التبشير الأميريكية. وجاء بيروت في السنة 1823 لويس واي
Way
نائب رئيس الجمعية اللندنية للتبشير بين اليهود،
69
واستأجر مقر الآباء اليسوعيين في عينطورة الزوق وجعله مركزا لعمله التبشيري، وبعد بضعة أشهر عاد إلى لندن تاركا لويسهو
Lewiswho
يعمل لنشر الإيمان.
70
البطريرك الأوروشليمي ينقبض ويقبح (1823)
وجاء لنيوفيطوس القبرصي أن المرسلين الأميريكيين أقاموا لدى وصولهم إلى القدس عند الأرمن ووزعوا الأسفار المقدسة، ثم أظهروا المحبة لليونان وأقرضوا رهبان القبر المقدس مالا كانوا في حاجة إليه واستأجروا غرفتين أو ثلاثا في دير رئيسي الملائكة، ثم وزعوا الخبز يوميا على الطلبة الفقراء فبارك الرهبان عملهم الخيري. ولكن المرسلين بدءوا بعد ذلك يعلمون الأولاد ألا يحترموا الأيقونات والصليب، وألا يصوموا وألا يستشفعوا والدة الإله، فاستدان الرهبان مالا من اليهود وأعادوا إلى الأميريكيين قرضهم وطردوهم من الدير والمدارس.
71
وداعات يونس كينغ
وخرج بلينيوس ويونس من القدس في السنة 1825 واستقرا في بيروت وجعلاها مركز أعمالهما. وعكف يونس كينغ على درس العربية والسريانية فلازمه أسعد الشدياق لقاء أجر معين. وتوفي بلينيوس فيسك في خريف السنة 1825 ودفن في بيروت.
واستصدرت السلطات الروحية الكاثوليكية فرمانا سلطانيا يمنع توزيع الأسفار المقدسة ويوجب جمع ما وزع منها (1824)،
72
واتصل الإكليروس الكاثوليكي الشرقي بيونس كينغ وحضوه على العودة إلى حضن الكنيسة الجامعة. وكان هو قد قرر القيام إلى إزمير والجزر اليونانية فصنف ردا على من دعاه إلى الكثلكة. ونظر المعلم أسعد الشدياق في الرد فسماه «وداعات يونس كينغ»، ثم نشر هذا الرد ووزع في جميع أنحاء الدولة العثمانية.
وجاء هذا الرد في قسمين رئيسيين؛ أولهما: اثنتا عشرة مادة في الإيمان الكلويني، والثاني: ثلاث عشرة ردا على السؤال: لماذا لا أقبل الكثلكة؟ وعناوين هذه الردود هي ما يلي: (1) لأن المسيح لا البابا هو رأس الكنيسة على الأرض. (2) لأن رومة توجب التبتل على الإكليروس وهو أمر مناف للأسفار. (3) لأن المسيح هو الشفيع الوحيد، ولأن لدى رومة شفعاء كثيرين؛ العذراء مريم والقديسين والملائكة. (4) التوراة تحرم عبادة الصور والتماثيل ورومة تجيزها. (5) لأن القول بالمطهر يعاكس نص التوراة. (6) لأن التضرع إلى القديسين لا يتفق والأسفار. (7) لأن رومة تحرم العامة من كأس الشركة. (8) لأن رومة تستعمل لغة مجهولة في العبادة. (9) لأن الإيمان بالبابا يخالف نص الأسفار. (10) لأننا ننال الخلاص بالمسيح لا بالقديسين. (11) لأن رومة تقر اضطهاد البروتستانت وإفناءهم كما جرى في يوم القديس برتلماوس عندما سقط ثلاثون ألفا في يوم واحد. (12) لأن رومة لا تسمح للشعب بمطالعة التوراة. (13) لأنه لا يمكنني أن أصير رومانيا والتوراة بيدي، ولأني أتمنى لكم جميعا أن تصيروا مسيحيين ولا أكترث للقب بروتستانت.
73
موقف الموارنة والكاثوليك
وقدم في السنة 1824 إسحاق بيرد ووليم غودل والتحق بهما في السنة 1827 عالي سميت، وبدءوا العمل الإنجيلي فاستمالوا أسعد الشدياق واثنين من أساقفة الأرمن الغريغوريين، وأنشئوا المدارس لتعليم الأولاد فبلغ عددها في السنة 1827 ثلاث عشرة مدرسة ضمت 600 طالب، فأعد البطريرك الماروني يوسف حبيش حرما شديد اللهجة في الخامس عشر من كانون الأول سنة 1826، وأمر به فأعلن رسميا في كنيسة بيروت المارونية في الرابع عشر من كانون الثاني سنة 1827. وجاراه في ذلك بطريرك الروم الكاثوليكيين أغناطيوس قطان،
74
وقبض على أسعد الشدياق، وسجن في دير علما ثم في قنوبين، وفر أخوه فارس والتجأ إلى دور المرسلين في بيروت فأرسلوه إلى مالطة.
75
البطريرك مثوديوس والمرسلون (1827)
وكتب البطريرك مثوديوس نفسه في السابع والعشرين من آذار سنة 1827 إلى القسين بيرد وغودل يلفت نظرهما إلى أن مدارسهما تبذر الشقاق بين خرافه. ثم أمر جراسيموس متروبوليت صور وصيدا بإقفال المدارس في مرجعيون وحاصبيا،
76
ولا نعلم السبب الذي حدا بزخريا متروبوليت عكار إلى العطف على المرسلين وأعمالهم، ولعله لم يفعل!
البطريرك مثوديوس وترميم الكنائس
وتميزت حكومة محمد علي باشا عزيز مصر بعدلها وتسامحها، فاغتنم مثوديوس الفرصة السانحة ودفع الرعية للعمل على ترميم الكنائس وتوسيعها وإنشاء بعضها إنشاء جديدا. فالتمس روم السويدية في منتصف تشرين الأول سنة 1833 إعادة إنشاء كنيستين فيها ،
77
وتقدم روم أنطاكية في أواسط أيار سنة 1834 يرجون إنشاء كنيسة لهم، فوافق العزيز على ذلك،
78
وفي السابع والعشرين من آذار سنة 1839 رفع روم حماة إلى العزيز عريضة أشاروا فيها إلى الظلم الذي لحق بهم في عهد الحكومات السابقة، وأشادوا بعدل الحكومة المصرية، وأيدوا ذلك برجوع النازحين منهم إلى حماة، والتمسوا السماح بتوسيع كنيستهم، فكان لهم ذلك على الرغم من اعتراض المتسلم والقاضي،
79
وكتب متروبوليت بيروت في هذه السنة نفسها للبطريرك الإسكندري يرجوه استصدار إذن بترميم دير مار إلياس التينة في ضواحي بيروت، فأحال العزيز الطلب إلى محافظ بيروت محمود نامي بك وعلى قاضيها الشيخ مصطفى الجمالي لإبداء رأيهما، فوافق المتسلم واعترض القاضي مدعيا أن الشرع الإسلامي لا يجيز ترميم المتهدم من الكنائس والأديار، ويمنع إنشاء الجديد، فضرب العزيز برأي القاضي عرض الحائط متهكما ووافق على ترميم الدير المذكور،
80
ووسع مثوديوس بناء دير مار جرجس الحصن في السنة 1837، كما أنشأ في دير النبي إلياس في ضواحي الشوير عددا من الغرف الجديدة (1841-1842).
مدرسة البلمند الإكليريكية (1833-1842)
وشعر الوجوه والأعيان والإكليروس بوجوب الانتباه إلى الرهبان لتصمد الكنيسة في وجه التيار الكاثوليكي وتكسر النصال التي كان قد بدأ يسددها المرسلون البروتستانت إلى كبد العقيدة الرسولية المقدسة. وكان مقدام هذه الفئة الأرشمندريت أثناسيوس (قصير) رئيس دير سيدة البلمند البطريركي. ووافق البطريرك مثوديوس وتسايرت أهواء المطارنة، فأنشأ أثناسيوس في السنة 1833 مدرسة في الدير المشار إليه، وجمع بها من التلامذة نحو الثلاثين، وأحضر لها الأساتذة فوكل تدريس الدينيات واللغة العربية للخوري اسبيريدون صروف الدمشقي، واللغة اليونانية والموسيقى الكنسية لديمتريوس فيليبيدس، وكان من أساتذتها أيضا الخوري يوسف الحداد والسيد جراسيموس (فرح) الذي صار فيما بعد مطرانا على باياس ثم على صور وصيدا.
81
وتحلى أثناسيوس بوفرة العلم وسعة المعرفة وثبات العزم والحزم وحسن الإدارة والدراية، فأحيا أملاك الدير القديمة وأضاف إليها أملاكا جديدة، وجدد كنيسة الدير وجهزها بالأواني المقدسة والملابس الشريفة والكتب الروحية المفيدة، وبنى غرفا جديدة وجهزها بكل ما يلزم، فهب الشبان الأرثوذكسيون يتقاطرون إلى البلمند من جميع أبرشيات الكرسي الأنطاكي قصد التمرن على السيرة الرهبانية. وزها البلمند واشتهر بحسن النظام والطاعة ومحبة الشغل والتعب وخدمة العلم والمعرفة. وقابل أثناسيوس إبراهيم باشا المصري مرتين واستصدر أمرين؛ أولهما: إعفاء الدير من الضرائب، وثانيهما: منع الأمير بشير الشهابي من اغتصاب مطاحنه.
82
وفي خلال السنة 1840 زار البطريرك مثوديوس مدرسة البلمند وبمعيته زخريا متروبوليت عكار، فاحتفلت المدرسة احتفالا شائقا. وسقطت في أثناء التظاهر بالسرور بادرة لفظية بنى عليها زخريا القصور والعلالي، وقذف في قلب البطريرك أمورا وأمورا، فلم يطل الأمر على الأرشمندريت أثناسيوس حتى أنذر بما ساءه فأبدى الرغبة بأن يستقيل، فأجابه البطريرك أن استعفاءه قبل. وهكذا كفت يده عن العمل، ورحل إلى أوروشليم بصفة واعظ، وانتثر عقد المدرسة بعد أن أخذت تزهو وتزهر، فتبدد تلامذتها الرهبان، وذهب البعض منهم إلى دير القديس جاورجيوس، والبعض إلى آثوس أو إلى صيدا، ولم يبق منهم في الدير سوى اثنين وعشرين راهبا ينتظرون إصلاح الحال.
83
مثوديوس يستجدي الروس (1842)
وتخوف مثوديوس من اتساع الجبهة ومن لجوء الكاثوليكيين والبروتستانت إلى المدرسة والتعليم في أعمالهم التبشيرية، ولم ير في مدرسة الأقمار الثلاثة التي حض على إنشائها في بيروت ما يكفي لدرء الخطر المداهم، فاتصل بالأوساط الروسية ورماهم بآماله، فأشاروا عليه بإرسال مطران إلى روسية يطوف بلدانها لجمع ما يلزم لترميم الأديرة والكنائس وإنشاء المدارس وإعداد الكتب وطبعها.
فأوفد مثوديوس في السنة 1842 نيوفيطوس متروبوليت بعلبك لهذه الغاية، وزوده بالتعليمات اللازمة وحمله بيانا بطريركيا أنطاكيا بواقع الحال، وأرسل البطريرك مع نيوفيطوس كلا من الأب الأرشمندريت صفرونيوس والأب الراهب أنثيموس وكاتم أسراره السيد يوحنا باباندوبولو.
ومما جاء في هذا البيان البطريركي أن كنيسة أنطاكية رزئت منذ القدم بنير الذل والفقر، ثم أحاطت بها الأخطار فقام الرومانيون الكاثوليكيون يبثون عقائدهم في صدور المؤمنين، ثم اغتصبوا أفضل الكنائس والأديار ونهبوا هياكل العبادة ودور الكتب، فأمست بعض الكنائس والأديار خالية خاوية وأضحت معظم المعابد القائمة فقيرة تنقصها الآنية والأغطية، والمؤمنون هائمون في أودية الجهل تائهون في شعاب البربرية لا مدارس لهم ولا معلمون ولا مؤسسات عمومية تعنى بشئونهم. وإذا ما أجمل المؤمنون الروسيون الصنع وساقوا الجميل فإن ما يجمع منهم سيكرس لإنشاء المدارس والمطابع ولترميم كنيسة القديس نقولاوس العجائبي في دمشق وغيرها من الكنائس القديمة والأديرة، ولتشييد بعض الأبنية المسيحية العامة التي لا يستغنى عنها. ووقع هذا البيان البطريركي كل من البطريرك مثوديوس ورؤساء الأساقفة مثوديوس حمص وبنيامين بيروت ويوانيكيوس طرابلس، وأرميميوس اللاذقية وزخريا عرقة وبرنابا حماة ويعقوب سلفكية وأشعيا متروبوليت صور وصيدا.
84
أزمة في كنيسة حاصبيا (1844-1845)
واقتصر المرسلون الأميريكيون في بادئ أمرهم على التعليم الابتدائي وتوزيع الإنجيل، ثم قبلوا مسيحيين شرقيين من الروم والموارنة والأرمن في الشركة، فتكونت نواة لطائفة إنجيلية في بيروت (1827). وتابعوا أعمالهم التبشيرية، فتسربت عقائدهم إلى القرى، فهب أحبار الطوائف المسيحية للدفاع، ومنعوا المؤمنين عن إرسال أولادهم إلى مدارس المرسلين البروتستانت. وفي السنة 1832 أمر مطارنة اللاذقية وطرابلس وصور وصيدا بإحراق المطبوعات البروتستانية، فتم ذلك باحتفالات علنية في دور الكنائس، واستصدر الآباء اليسوعيون أوامر حكومية رسمية بمنع المنشورات البروتستانية من الدخول إلى أراضي الدولة العثمانية،
85
فرد المبشرون الأميريكيون على هذا الإجراء بنقل مطبعتهم من مالطة إلى بيروت (1835).
وصادف المرسلون الأميريكيون نجاحا في حاصبيا، فأم مدرستهم فيها طلاب من جميع الطوائف والتف حول المعلم المبشر مائة وخمسون شخصا يدينون بالبروتستانية. فنشأت مشادة عنيفة بين هؤلاء ومعظمهم من الروم وبين جمهور الروم في حاصبيا وتوابعها، فطالب البروتستانت في حاصبيا برفع سلطة الإكليروس الأرثوذكسي عنهم والاعتراف بهم كنيسة مستقلة، فقام مثوديوس البطريرك الأنطاكي من دمشق إلى حاصبيا في خريف السنة 1844 واتصل بزعماء الحركة البروتستانتية، وحاول إقناعهم بالعدول عن مطلبهم والعودة إلى حضن الكنيسة، فأجابوا: «يا سيدنا نحن نريد أن نفحص بالإنجيل فإذا وجدنا طريق الخلاص فيكون المطلوب وإلا نبقى نرجع.» وأبصر آخرون رشدهم وثابوا إلى الهدى واستقاموا على الطريقة المثلى، فأصدر البطريرك البركة ورفع الحرم عنهم:
المجد لله دائما: مثوديوس البطريرك الأنطاكي برحمة الله تعالى. النعمة والبركة تشملان ابنتنا الروحية المحبوبة بالرب هيلانة زوجة ولدنا الروحي المحبوب بالرب الشيخ يوسف غره (الكفير). فحيث إن ابنتنا المذكورة قد قيل عنها إنه بادي منها كلام غير لايق، وإنه كان حصل بسببها منع في رجوع رجلها إلى الكنيسة؛ ولهذا السبب تغلظ خاطرنا عليها وما أشبه ذلك، فالآن حيث إن رجلها ولدنا المذكور قد رجع إلى أحضان أمه الحنونة التي هي كنيستنا الشرقية الأرثوذكسية المقدسة المستقيمة الرأي، وابنتنا المذكورة هيلانة قد قدمت التوبة الحقيقية بصفاوة النية فلتكون مباركة هي ورجلها أيضا معها من الآب والابن والروح القدس ومنا نحن أيضا، ويكون أولادها كذلك مباركين وأعمال يدها وجميع تصرفاتها المرضية لعزته تعالى، ونعمته تعالى مع بركاتنا وأدعيتنا تكون شاملة إياها، وإلى رجلها وأولادها وكل من يلوذ فيها، آمين.
أصابع الإنكليز
وكان ريتشارد وود
Richard Wood
الذي أخرج الموارنة عن صداقتهم التقليدية لفرنسة عام 1840 قنصلا بريطانيا في دمشق، وكان ترجمانه ميخائيل مشاقة وقضت السياسة البريطانية بمقاومة الكثلكة وعرقلة أعمال فرنسة في الشرق، وبإحباط مساعي الروس لاستمالة الرعايا العثمانيين الأرثوذكسيين، وقضت هذه السياسة أيضا بتأييد المرسلين البروتستانتيين في الشرق، ولا سيما الأميريكيين منهم؛ لأنهم ليسوا من رعايا جلالتها البريطانية، ولكنهم يخدمون أغراضها بصورة غير مباشرة، وهكذا فإننا نرى بروتستانت حاصبيا يوجهون عريضة إلى القنصل ريتشارد وود في الثاني عشر من كانون الأول سنة 1844 يلتمسون بها رفع الاضطهاد والتضييق الذي حل بهم ويتهمون السلطات المحلية بالتعاون مع البطريرك مثوديوس وتسهيل مهمته.
فاتصل ميخائيل مشاقة بالأمير أحمد ابن الأمير سعد الدين الشهابي وفاتحه كلاما في موضوع بروتستانت حاصبيا في التاسع عشر من كانون الأول سنة 1844، فأجاب الأمير أحمد أنه مسلم لا «يعنيه اختلاف مذاهب النصارى»، وأنه يؤثر باطنا البروتستانت على غيرهم؛ لأنهم أقرب في الطاعة، ولكنه مكره على طاعة أولياء أمره، وأنه لو تظاهر بحماية البروتستانت لشكا خصومه أمره إلى الوزراء بواسطة جنرال المسكوب. فرأى ريتشارد وود أن يكتب إلى سعيد بك جنبلاط في أمر البروتستانت ويحضه على حمايتهم في حاصبيا بواسطة أعيان الدروز فيها، ومن هنا قول المعلم بطرس البستاني في رسالة له حررها في حاصبيا في 24 حزيران سنة1844 أنه «قبل تاريخه بيوم كان قد ذهب الشيخ أمين شمس وأخوه إلى الدار، وأروا المكتوب الذي جاءهم من الشيخ سعيد جنبلاط وعاتبوه بما أظهره لنحو أبو بشارة وجمهورنا، فأجاب الأمير أنه إن شاء الله ما عاد يصدر منه مثل هذا الشيء.»
رأي المعلم بطرس البستاني (1845)
ولوى المرسلون عنانهم وأرادوا أن يقصروا ويكفوا فأخذوا رأي كبير الإنجيليين الوطنيين آنئذ صديقهم الحبيب المعلم بطرس البستاني، فحرر رسالة في هذا الموضوع في الثاني والعشرين من كانون الثاني سنة 1845 جاء فيها:
أن ترك أهالي حاصبيا ينتج منه شرور كثيرة: (1) أنه يكون ثقلة واضطهاد شديد على الذين يرجعون من أهالي بلدهم، وربما يصير خطر على حياة البعض منهم. (2) إذا تركناهم في هذه الحال يصيرون من أشد أعداء طريقتنا وينسبون خراب بيوتهم إلينا، وهذا مما يكون سببا لسد الباب علينا ليس في جهات حاصبيا فقط، بل في هذه الجهات أيضا. (3) أنه ينقطع عند الأكثرين من أهالي البلاد رجا إعطاء الحرية لأن يكونوا بروتستانت. (4) إذا رجع هؤلاء إلى محلاتهم مذلولين يتحقق لدى الأضداد والأحباب أيضا أن الدولة تضاد امتداد البروتستانت في هذه البلاد. (5) أن المحلات الموجودة فيها بعض أناس منا تقوى شوكتها علينا، وربما أنهم يفتحون علينا أبوابا جديدة حتى يصوروا عند الدولة وبقية أضدادنا، وربما عند أحبابنا، بأننا منشئون مفاسد في البلاد ويمنعون الناس الذين تحت سلطانهم عن مبايعتنا ومخالطتنا، ونرجع إلى الحال القديم وتقوى شوكة الإكليروس على رعاياها. (6) أن الذين يريدون أن يتبعوا الحق أو الذين هم قريبون إلى الحق إذا أرادوا أن يتظاهروا فيه في أماكنهم تقوم عليهم أهالي بلدهم ويعملون بهم ما عمله أهالي حاصبيا بهؤلاء الفقراء المساكين. (7) حيث إن حاصبيا هي على نوع ما منتظر الجميع أصحابا وأعداء، فإذا رأوا انتهاءها على هذه الحال يجعلون يهزون روسهم علينا ويقولون: إيه إيه قد رأت أعيننا! (8) أن الناس في حاصبيا إذا سمعوا بتركنا لهؤلاء وعدم السؤال عنهم من أحد الأرجح أنهم يهجمون على بيوت هؤلاء وبيوت الباقين هناك ويؤذونهم في مالهم وحالهم. ولكن إذا افتكروا أن مادتهم للآن ممسوكة ولو أن فكرهم وهميا، فإن الوهم يمنعهم نوعا عن إتمام كل مقاصدهم الردية. (9) إذا فشا هذا الخبر هناك وأراد أصحاب الأعيال من هؤلاء أن يأتوا بعيالهم إليهم أو أراد الباقون هناك أن يرحلوا من البلد يتعرضهم أهاليها خوفا من رحيل البعض من أقاربهم وأعيالهم معهم، وهذا عندهم مضر لهم ديانة ودنيا. (10) متى انقطع حبل الرجا فإن الذين باقون هناك كقسطة المجدلاني وغيره ربما يموت الفكر من عقولهم ولا يعودوا أن يترجوا إمكان تمذهبهم بمذهب البروتستانت هناك، وهكذا يتلاشى هذا الفكر بالكلية ويتركون العادة الحميدة في اجتماع سرا للصلوات والقراءة معا، وناهيك أن أضدادهم يبالغون في منعهم عن ذلك. (11) إن الذين ماسكون في حبل الباقين هناك مثل المشايخ وبعض الأمراء متى تحققوا لديهم ذلك يخافون ولا يعودون يتجاسرون على حمايتهم وصيانتهم من أعدائهم كما يفعلون الآن حتى ولا يعودون يقبلونهم في بيوتهم. (12) متى رأوا ذلك يحرقوا الكتب التي هناك وربما يختلسون الحوايج. (13) متى رأت الدولة ذلك ربما أن والي الشام يرسل بطلبهم باجتهاد أو أن والي بيروت يطردهم من كل ولايته.
والنتيجة أن الشرور الناتجة من ذلك هي كثيرة، فمنها ما أراها ومنها ما يراها الناس الفطنون. هذا وإني لا أرى شرا من حفظهم، وإذا وجد شيء من ذلك فلا يكون بالنسبة إلى الشرور الناتجة من عكسه شيئا. وأنا أعلم أن الخسائر التي صارت بسببهم هي كثيرة؛ ولهذا لا يسوغ لنا أن ننسى كل تلك الخسائر لأجل ما نضيفه إليها من خسارة جزئية، وأنا أظن الناس المسيحيين إذا طلبت منهم المساعدة لهؤلاء الفقراء المضطهدين فلا يحبسون إحسان رأفتهم عنهم؛ لأني أحقق أن محبة الإحسان في كنايس البروتستانت إذا لم تكن أعظم منها في بقية الكنائس فإنها تكون بالأقل مثلها.
والتدبير الذي يظهر لي الآن أنه الأوفق هو: (1) أن يعطى كم غرش للمحتاجين منهم على سبيل الإحسان لكي يبعثوها إلى أعيالهم الذي يعرون جوعا. (2) أن شاهين غبريل يخدم عند أحد الأمراء أو المشايخ في هذه البلاد، والأحسن أن يخدم عند الشيخ سعيد جنبلاط. (3) أن شاهين أبو بركات وناصيف الريس يسكنوا في نيحا تحت نظر الشيخ سعيد ويتعاطيا أمر البيع والشرا. (4) أن يوسف بندر ونقولا عيد ونقولا حصلب يدقون بارود في عبيه أو بحمدون. (5) أن إلياس غبريل يتعاطى صناعة الصياغة في عبيه أو بيروت. (6) أن جريس الريس وأخوه منصور يتعاطى السكافة في كفر متى أو غير مكان بالقرب من عبيه. (7) أن نقولا أبو ناعسة وأولاده يكونون في نيحا أساكفة. (8) أن فارس الدبغي يبقى في عمله أو يفتح مدرسة في إحدى ضياع الجبل، وإذا وجد أحد بعد هؤلاء يكون تدبيره كتدبيرهم وكل منهم يجتهد على جلب عياله أو يبقيهم هناك حسب إرادته. وإذا تعذر تدبير أحد منهم على الطريقة المذكورة فربما يوجد البعض من المشن يريده أن يخدم في بيته، وأنا أظن أنه لأجل نفوذ هذا التدبير لا يلزم أكثر من ألفين غرش التي أنا مستعد أن أجمعها وأساعد فيها من مالي على قدر استطاعتي.
فأرجوكم ثم أرجوكم لا تسدوا آذانكم عن صراخ هؤلاء الفقراء المساكين ولا تحبسوا أحشا رأفتكم عنهم بعد أن عملتم معروفا جزيلا وخيرا وفيا، وأترجاكم أن تنظروا بعين الرحمة إلى ضيقتهم الحاضرة وتفرجوا منها عنهم على قدر إمكانكم، ولأجل تقدمة ما يجب علي لهؤلاء أنا تجاسرت بتقديم أعراضي إليكم لكي تفحصوا ما فيه، وعلى كل حال كل شيء راجع لخاطركم. طالب دعاكم بطرس البستاني.
الأمطوش الأنطاكي في موسكو (1848)
وكان فيلارتيوس صاحب التعليم المسيحي المطول ومحب الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة مطرانا على موسكو، فلما طلب مثوديوس البطريرك الأنطاكي المساعدة في السنة 1842 هب فيلارتيوس للعمل وتلبية النداء، فاستأذن المجمع الروسي المقدس بأن تعطى كنيسة الصعود والقديس أيباتيوس في موسكو الواقعة بالقرب من الكرملين للكرسي البطريركي الأنطاكي، فأقر المجمع ذلك ورفعه إلى القيصر فحاز القبول في 22 كانون الأول سنة 1848. وفي السنة التالية سلمت الكنيسة المشار إليها مع جميع موجوداتها وما يخصها من الأراضي المجاورة إلى الكرسي البطريركي الأنطاكي لبناء أمطوش بطريركي في موسكو. واشترع المجمع الروسي المقدس أن تستعمل إيرادات هذا الأمطوش لأجل تهذيب الإكليروس والشعب الأنطاكي.
البطاركة والبابا (1848)
وتوفي غريغوريوس السادس عشر في حزيران السنة 1846، فخلفه على السدة الرومانية بيوس التاسع (1846-1878). وتحلى البابا الجديد بالورع والتقوى منذ حداثته وبالوداعة واللطف والمحبة، وأراد الكنيسة الجامعة واحدة مقدسة، فوجه في السادس من آذار سنة 1848 رسالة إلى البطاركة الأربعة يدعوهم فيها إلى الشركة مع السدة البطرسية، وبدأت رسالته هذه بالعبارة «على السدة البطرسية العليا»
In suprema Petri
فعرفت بها.
86
ولكن رومة جهلت الشرق إكليروسا وشعبا وتجاهلت الماضي، فمدت يدها فارضة سلطتها فرضا مدعية بصحة كل ما اشترعت بعد الانشقاق، معتبرة كل ما جرى في الكنائس الأرثوذكسية بعد الانشقاق خروجا وضلالا. وحضت البطاركة على الاعتراف بالإيمان الكاثوليكي الصحيح والاحتفاظ بالليتورجية اليونانية ما عدا ما أدخل عليها بعد الانفصال مما لا يتفق والإيمان والوحدة الكاثوليكيين. ثم أكدت استعدادها للاعتراف بجميع الدرجات المكتسبة والمساواة التامة بين الكاثوليكيين الجدد والكاثوليكيين القدماء.
87
وقد لا يختلف اثنان في حسن النية التي خالجت فؤاد بيوس التاسع، ولكن أسلوب الرسالة جعلها دعوة للدخول في الطاعة لا محاولة حبية للاعتراف بالخطأ الذي ارتكبه الطرفان وإظهار الندامة والتوبة والاشتراك في جسد واحد ودم واحد.
واستلم البطاركة الدعوة الباباوية وأنعموا النظر فيها منفردين ومجتمعين وأشركوا المطارنة في ذلك، فلم يتمكنوا من الترفع بالمحبة، بل أعدوا دفاعا وردوا الكيل كيلين،
88
ونبشوا الماضي وطعنوا في الادعاءات الباباوية وفي أعمال المرسلين اللاتين في الأوساط الأرثوذكسية، وأشاروا إلى الوحدة التي تربط الكنائس الأرثوذكسية وأكدوا أنهم يتعاونون بالمحبة الأخوية مسترشدين بآراء البطريرك القسطنطيني معترفين بتقدمه وباستمراره بطريركا في عاصمة الدولة، وفي هذا غمز من قناة البابا لا اعتراف بسلطة السلطان العثماني في أمور الدين والعقيدة كما يزعم بعض المتهورين.
89
وأكد البطاركة في الرد على البابا أن إيمانهم اكتمل بالمجامع المسكونية السبعة وهو بالتالي لا ينقص ولا يزيد ولا يتغير،
90
وأضافوا أنه لن يجرؤ بطريرك أو مجمع على تغيير الإيمان المقدس؛ لأن الشعب الأرثوذكسي هو الحامي.
91
الفصل السادس
اليونان والروس
الروس والدين القويم
وقضت مصالح الروس بالاستيلاء على المضائق والانطلاق منها إلى المياه المتوسطة الدافئة، وعظم الشعب الروسي الإيمان القويم وأجله وأراده منيع الساحة حصين الناحية، لا يناله مبشر بروتستانتي، ولا يطمع فيه طامع روماني، فاهتم بشأن الرعايا الأرثوذكسيين العثمانيين ولم يدخر عنهم وسعا.
وسادت السكينة بعد معاهدة كوجك قينارجة فترة من الزمن، ولكن الشعب الروسي ظل متشبثا بموقفه التقليدي. وفي السنة 1783 نقض الروس العهد وضموا القرم بالرغم من تهادنهم مع الدولة، فخشيت فرنسة وإنكلترة توغل الروس في الأملاك العثمانية ونصحتا للباب العالي بالنزول عن القرم وكوبان، فتم ذلك بمقتضى معاهدة القسطنطينية في كانون الثاني سنة 1784. وجدد الباب العالي اعترافه بحق روسية في التدخل في شئون الدولة الداخلية لحماية الرعايا الأرثوذكسيين. ثم خرج الروس في السنة 1787 إلى القرم في موكب حافل، ولما وصلوا في طريقهم إلى خرسون كتبوا على أحد أبوابها: «الطريق إلى بيزنطة»؛ فثارت خواطر المسلمين واضطر الباب العالي إلى إعلان الحرب، فجاءت معاهدة ياسي في السنة 1792 تثبت معاهدتي قينارجة والقسطنطينية وتعترف لروسية بالقرم بكامله وباقي الأراضي العثمانية إلى نهر الدنيستر.
وجاء نابوليون بعد حملته على مصر وسيطرته على ألمانية والنمسة يقوي تركية ليعتمد عليها ويستخدمها ضد روسية وإنكلترة. ولكن بنيان الدولة العثمانية كان قد أصبح منخورا يهدد بالانهيار عند هبوب العاصفة. وانتصر نابوليون في موقعة فريدلند على روسية وبروسية فقابل القيصر في تيلسيت سنة 1807 ووافق على تقسيم الدولة العثمانية، ولكنه أصر على أن تبقى القسطنطينية وبلاد الرومللي تابعتين للدولة العثمانية، فأصر القيصر على أخذ القسطنطينية، فلم تأت المفاوضات بنتيجة. وقامت الحرب بين روسية وتركية في السنة 1809، واستمرت ثلاث سنوات، فعجل القيصر بعقد معاهدة بخارست سنة 1812 استعدادا لهجوم نابوليون على روسية.
وانعقد مؤتمر فيينة في السنة 1815 فلم يتعرض للمسألة الشرقية؛ لأن الروس أصحاب النفوذ الأول في هذا المؤتمر خشوا أن يفقدوا حرية العمل المنفرد في الدولة العثمانية. فلما سقطت دولة نابوليون واستتب السلام في الغرب عاد الروس إلى مواصلة مشاريعهم في الشرق، وكانت أسباب النزاع بين الروس والأتراك متوافرة بفضل الحقوق التي كسبتها روسية على رعايا السلطان المسيحيين، فاعتبرت موسكو أن الواجب يقضي عليها بتحرير هؤلاء من حكم العثمانيين.
وهال الباب العالي أن يرى دول أوروبة تدخل في حلف مقدس وتظهر كأنها أسرة واحدة تعمل بتعاليم الأسفار والإنجيل، فخاف أن يكون المقصود من هذا الحلف إثارة حرب صليبية جديدة، فكتب يستفهم من حكومتي لندن وفيينة، فأجابتاه بأن يستفهم من موسكو فطمأنته. ولكنها كانت قد آوت قره جورج زعيم الصرب سنة 1813، ثم ساعدت ميلوش زعيمهم الثاني سنة 1817، وأدخلت في خدمتها كثيرين من اليونانيين أمثال كابوديسترياس والأخوين أبسيلنتي، وساعدت اليونان على تأليف جمعيتهم السرية «هيتايرية فيليكي»، واتسعت دائرة هذه الجمعية حتى انضم إلى صفوفها في غضون ست سنوات (1814-1820) كل يوناني ذي مكانة.
وأعلنت الثورة على الحكم العثماني في ياشي في السادس من آذار سنة 1821، وكان زعيمها الأول ألكسندروس إيبسيلنتي ضابطا في الجيش الروسي. واندلعت نيران الثورة في المورة وبعض الجزر، فألقى الأتراك القبض على غريغوريوس الخامس البطريرك المسكوني وهو يقوم بصلوات عيد الفصح وجروه إلى باب الكنيسة بثيابه الحبرية وشنقوه، فأثار هذا العمل حنق الشعب الروسي وأضرم غيظه. فأخذت الحكومة الروسية تتحين الفرص لإعلان الحرب والتدخل في الثورة اليونانية. وحاولت بريطانية تحاشي العمل الروسي المنفرد فكانت معاهدة في لندن أوجبت استقلال اليونان، فلم يذعن الباب العالي، فجاءت موقعة نوارين البحرية وزحف الجيش الروسي عبر الدانوب، فأكره العثمانيين على الاعتراف باستقلال اليونان (1828).
الروس وكنيسة أوروشليم (1811-1844)
وقضى واجب حماية الدين القويم بتسهيل الحج وحماية الحجاج، وبدأت وفود الحجاج الروس تصل إلى المهد والقيامة في السنة 1811، وتكاثروا سنة بعد سنة، فأنشأت الحكومة الروسية قنصلية لها في القدس في السنة 1819. وتوفي أثناسيوس الخامس البطريرك الأوروشليمي في السنة 1844 فذكرت سفارة روسية الباب العالي بالتقليد الأرثوذكسي، وأوجبت انتخاب خلفه في أوروشليم نفسها لا في القسطنطينية، فرفعت أخوية القبر المقدس كيرلس الثاني إلى السدة الأوروشليمية (1845-1872). وكانت هذه الأخوية قد قبلت في عدادها راهبا روسيا اسمه أرسانيوس. وعني هذا الراهب بشئون الحجاج الروس وشاهد ما كانوا يقاسونه من الضيق والتضييق في أثناء إقامتهم في القدس. فلما أوفدته الأخوية إلى روسية لجمع الإحسانات دعا لإنشاء مقر للحجاج الروس في القدس. وفي السنة 1839 تبنى قسطنطين باسيلي رأي أرسانيوس وألح على تنفيذه، وأشار بتخصيص دير الصليب المقدس أو بترميم ديري القديسة تيودورة وإبراهيم وإيواء الحجاج فيهما، ولم يتخل رهبان القبر عن هذين الديرين، ولكنهم تبرعوا بترميمهما على حساب الأخوية.
وشاطر المجمع الروسي المقدس المجمعين الأنطاكي والأوروشليمي مخاوفهما من اهتمام اللاتين بنصارى الشرق، فأوفد في الرابع العشرين من حزيران سنة 1842 الأرشمندريت بورفيريوس أوسبنسكي إلى القدس لدرس الموقف عن كثب، وقام بوفيريوس بالمهمة الموكولة إليه خير قيام وعاد في السنة 1844، فأشار على المجمع الروسي بوجوب التدخل الفعلي واقترح إرسال أسقف روسي إلى أورشليم وعددا من الرهبان المثقفين للإقامة في المدينة المقدسة وإعطاء المثل الصالح في الحياة الرهبانية الحقة، ونقل الكتب الدينية وغيرها إلى العربية وتوزيعها في الأوساط الأرثوذكسية المحلية. فقبل المجمع الاقتراح وأمر بورفيريوس بتنفيذه، ولكنه لم يزوده بالأموال اللازمة.
نبذة روسية عن كنيسة أنطاكية (1850)
وعطف الروس حكومة وشعبا على كنيسة أنطاكية منذ أيام البطريرك مكاريوس، وشجعوا العطاء بسخاء في عهد مثوديوس، كما سبق وأشرنا، وازداد اهتمامهم في النصف الأول من القرن الماضي بمصير الأرثوذكسيين والأرثوذكسية في أبرشيات أنطاكية فكثر البحث وتعددت التقارير. وظهرت في السنة 1850 نبذة باللغة الروسية عن كنيسة أنطاكية حوت معلومات شتى مفيدة.
1
البطريرك
والبطريرك الأنطاكي بموجب هذه النبذة يجب أن يكون من أبناء كنيسة أنطاكية، وأن ينتخب انتخابا من الشعب والإكليروس الأنطاكيين. وظل البطريرك الأنطاكي في عرف صاحب النبذة ينتخب انتخابا من أبناء كنيسة أنطاكية منذ القرون الأولى حتى بداية القرن الثامن عشر حينما أصبح انتخابه بيد المجمع القسطنطيني نظرا لانتشار الكثلكة. ويتمتع البطريرك الأنطاكي في رأي صاحب هذه النبذة بحق دعوة المجمع لتوطيد النظام في الكنيسة أو لإصلاح شئونها، وهو مسئول في جميع أعماله وفي إدارة الأوقاف أمام المجمع الأنطاكي . وللبطريرك الحق في تأديب الرعايا الأرثوذكسيين بالسجن أو الإقصاء، ولكنه لا يجرؤ على ممارسة هذا الحق لخوفه من التحاق أبنائه بالكنائس التي اتحدت مع رومة أو من تدخل قناصل الدول. وله أن ينظر في الدعاوى الحقوقية بين أبناء رعيته برضا الطرفين، وللسلطات التركية أن تبطل هذه الأحكام عند اللزوم، وليس للباشاوات ومحاكمهم أن ينظروا في الدعاوى التي تقام على البطريرك، فالحق في ذلك يعود إلى الباب العالي. وللمجمع الأنطاكي حق النظر في كل مخالفة كنسية يرتكبها البطريرك، وهو مسئول عن طاعة الأرثوذكسيين وخضوعهم للسلطات التركية، وقد تحجز حريته أو تنهى حياته إذا لجأ رعاياه إلى العنف والتمرد على هذه السلطات. وفي السنة 1826 قاسى البطريرك مثوديوس مرارة السجن لمناسبة الثورة اليونانية، وسمح له بالخروج من السجن يوم عيد الفصح فقط ثم أعيد إلى الحبس. وفي السنة 1845 تعهد مثوديوس أمام باشا دمشق بإخلاء رعاياه في حاصبيا إلى السكينة وعدم التعدي على الدروز، فلان الأرثوذكسيون لأمر البطريرك وأطاعوه، ولكن الدروز ذبحوا مائتين وخمسين أرثوذكسيا وأهانوا النساء والأولاد. وللبطريرك وكيل في القسطنطينية كالباشاوات، ولكن التماساته من الباب العالي تتم على يد البطريرك القسطنطيني.
ومقر البطريرك في دمشق ليس واسعا، ولكنه ليس ضيقا وهو قديم غير مرتب. ويقيم الأرشمندريت وكيل البطريرك والكاتبان في غرف حقيرة ضيقة على السطح، وليس للمسيحيين الأرثوذكسيين في دمشق سوى كنيسة واحدة هي كنيسة البطريركية. وقد خصصت إحدى حناياها لاسم القديس نقولاووس وجددت بالمال الذي جمعه مطران بعلبك في موسكو.
وكنيسة أنطاكية فقيرة ويعود فقرها إلى أسباب أربعة؛ أولها: أن البطريرك سيرافيم الذي دان بالكثلكة نقل إلى لبنان مالها المنقول، وأن أقرباء البطريرك كيرلس نهبوا البطريركية عند وفاة هذا البطريرك في السنة 1720. والثاني: أن انقسامات هذه الكنيسة في القرنين السادس عشر والسابع عشر أثقلت كاهل البطريرك والأهلين بالديون. والثالث: أن النزاع بين الروم والروم الكاثوليك الذي دام قرنا كاملا أدى إلى خسائر جمة. والرابع: أن الحروب والفتن التي ميزت النصف الأول من هذا القرن في سورية أفقرت المسيحيين جدا.
الأبرشيات
وأبرشيات أنطاكية كانت ست عشرة في القرن الماضي، أما الآن فإنها عشر فقط، فقد ألحقت أبرشية أكيس أو أخالتكيس بالكنيسة، وأبرشيات هيليوبوليس وآمد وبصرى وتدمر وأرضروم قد انمحقت تماما. ولقب أسقف هيليوبوليس أمسى شرفيا يحمله الأسقف الموجود في موسكو. واللقب أسقف بالميراس يطلق على رئيس دير القديس اسبيريدون، وأسقف صور وصيدا وحده يحمل لقب متروبوليت، أما الباقون فإنهم رؤساء أساقفة. والأسقف الأنطاكي ينور النفوس بكلام الله ويقدسها بالأسرار ويضبطها بالقانون. وهو يشارك شعبه الفقر والذل والاضطهاد، ويزورهم جميعا فقراء وأغنياء مرة في السنة ليعيش من التقدمة، وبابه مفتوح دائما للإرشاد والقضاء والحماية والضيافة. والبطاركة وبعض الأساقفة يونانيون منذ بداية القرن الماضي، وقد خدموا الكنيسة خدمات جليلة، فإنهم حفظوا استقلالها عن رومة وقضوا على الانقسام وضبطوا الأديرة وحموها من عسف المشايخ وذويهم، وقد أوقفوا انحياز الأساقفة العرب إلى رومة وأسمعوا المتحدين مع رومة صوت الكنيسة كلها وصوت الأمة اليونانية.
الأديار
والأديار البطريركية خمسة؛ دير القديس جاورجيوس ودير سيدة البلمند ودير النبي إلياس ودير سيدة صيدنايا ودير القديسة تقلا. ودير القديس جاورجيوس في أبرشية عرقة ولا نعرف مؤسسه ولا نعلم شيئا عن تاريخ تأسيسه، وقد رممه البطريرك أثناسيوس في السنة 1700 ووسعه البطريرك مثوديوس في السنتين 1837 و1838. ورهبانه سوريون وعددهم ثلاثون وليس لهم هيغومينس يدبر شئونهم، ولكن البطريرك يعين من الرهبان من يقوم بهذه الوظيفة. وأوقاف الدير واسعة تشمل الزيتون والتوت والكرمة ويقوم على حرثها والاعتناء بها شركاء يتقاضون ربع دخلها. وسكان المنطقة على اختلاف مللهم يكرمون الدير ويزورونه تبركا واحتراما، وأشدهم تعلقا به النصيرية؛ فإنهم ينذرون أولادهم عند الولادة للقديس جاورجيوس شفيع الدير ويستفكونهم عن الزواج بهدايا يقدمونها للدير. ويخرج الرهبان مرة في السنة للم العطايا فيقدم النصيريون على العطاء حيثما كانوا. وأكرم ملوك الكرج هذا الدير فقدموا له الأواني والحلل المقدسة، وسمحوا لرهبانه بجمع التبرعات في بلاد الكرج مرة في كل ثلاث سنوات.
ثم يذكر كاتب هذه النبذة دير البلمند وعناية البطريرك مثوديوس به وجد أثناسيوس الأب الراهب وسعيه لتجديد الدير وإنشاء مدرسة إكليريكية فيه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في فصل سابق. وينتقل صاحب النبذة إلى الشوير فيصف بإيجاز ديرها - دير النبي إلياس - فيقول: إنه صغير ذو كنيسة صغيرة أنيقة. ثم يذكر عناية هيغومينة الأب مكاريوس اليوناني وسعيه لتوسيع الدير بإنشاء غرف جديدة في طبقته العليا سنة 1842-1843، وبجعل عدد رهبانه ثمانية وعدد الخدم ثمانية أيضا.
ويصف صاحبنا دير سيدة صيدنايا فيقول إن عدد غرفه ثمانون وإن عدد راهباته ثمان وثلاثون. ثم يشيد بفضلهن وانقطاعهن وترفعهن عن أكل اللحوم واكتفائهن بالخبز والبرغل والزيت، وخضوعهن لراهبة ينتقيها البطريرك لتدبير شئونهن، وقيام أمينين على إدارة الدير أحدهما كاهن من كهنة الدير والآخر علماني من دمشق أو صيدنايا. وبعد ذكر الأيقونة العجائبية والكنيسة يخلص إلى القول: «إن الدير جنينة أزهار مكرسة لفائقة الطهارة ومستشفى لشفاء النفوس الخاطئة، وينبوع نعمة ومبعث نور للعذارى.» ودير مار تقلا معلولا «عش النسر» مهمول ليس فيه سوى هيغومينس وشماس ومبتدئين.
ثم ينتقل واضع هذه النبذة إلى أديار الأبرشيات فيذكر بإيجاز ديري القديس دومينيوس والنبي إلياس في أبرشية عرقة، وديورة مار يعقوب وسيدة الناطور وسيدة كفتين ومار متر ومار جرجس في أبرشية طرابلس، وأديار سيدة حماطورة وكفتون والنورية ومار جرجس الجرف ومار ميخائيل بقعاتا ومار جرجس سوق الغرب في أبرشية بيروت.
الكهنة
والكهنة خدام الرعية يذكروننا بعهد الرسل، فإنهم ينتقون من الشعب انتقاء مواطنين متعلمين محترمين مزوجين متقدمين في السن ضابطين أمورهم البيتية. والكاهن السوري لا يعول على رعيته فإنه مستقل في أموره المادية له بيته ورزقه وأبناء يقومون بحاجاته عند الكبر. وهو أول خدام الشعب يعمل وفق رغائبه ويضحي لأجل خلاصه عملا بأوامر السيد، وهو لا يستكبر ولا يتجاوز حده خشية استبداله بغيره، ويختلف الشعب في أمر انتقاء الكاهن فينقسم على نفسه وعندئذ يتدخل الأسقف بلباقة ليعيد السلام والوئام.
وليس لكنيسة أنطاكية طبقة من الوعاظ المتجولين، ففي القسطنطينية وإزمير وأوروشليم وغيرها وعاظ متجولون يرشدون حيثما تدعو الحاجة بإذن الأسقف وامتثالا لأمره. والكنائس الشرقية فرقت منذ القدم بين الكهنة المعلمين المرشدين والكهنة خدام الرعية؛ إذ ليس على هؤلاء إلا أن يتحلوا بالإيمان والصلاح، أما أولئك فيجب أن تكون لهم موهبة الفصاحة.
ولا بد من الاعتراف برزانة الكاهن الأنطاكي وتواضعه وترفعه عن الغرض ومحافظته على القانون الكنسي واجتهاده في تعليم أولاد رعيته.
وبين الذين يعملون في حقل الرب ويقدمون المثال الصالح وكيل البطريرك الأرشمندريت أغاثنغلوس
Agathangelos ، فهو يوناني وديع في الأناضول يجيد التركية والعربية ويحسن تصريف الأعمال. ومنهم أثناسيوس هيغومينس دير البلمند، فهو وقور موهوب نشيط يجيد الوعظ ويحسن الإدارة. ومكاريوس هيغومينس دير النبي إلياس يوناني يحظى بعطف الأمير حيدر الحاكم في لبنان، وقد افتقد الأمير في محنته يوم نفي بأمر السلطات المصرية فآوى زوجة الأمير وأولاده. وهو غيور يستعطف الأمير لحماية الأرثوذكسيين من الظلم؛ ولذا تعلق هؤلاء به وزاد احترامهم له. وأشعيا هيغومينس دير حماطور يوناني أيضا يجيد اللغة العربية ويفهم تقاليد الرعية وعاداتها، وهو فصيح اللسان سليم الاستنتاج. والأب يوسف (مهنا) خادم رعية دمشق أبو عائلة كبيرة تقي صبور متواضع، وقد لبى دعوة البطريرك فحث الأهلين على إرسال أولادهم إلى مدرسة الطائفة، وتولى تعليم الأسفار فيها واللغة العربية والمنطق. وقد أدى اهتمامه بالمدرسة إلى الانقطاع عن خدمة الرعية، فانقطع عنه وارد البطرشيل، وهب أولاده لمعونته المادية ليتمكن من تكريس وقته للمدرسة. والأب اسبيريدون خادم الرعية في طرابلس أحد تلامذة الأب يوسف، وهو طرابلسي رزين يدرس قواعد اللغة العربية في مدرسة طرابلس. والأب المعرف المرشد في أبرشية بيروت تقي ورع يعمل في المطبعة لإعداد المخطوطات وطبع الكتب الكنسية.
المدارس والتعليم
وقلما يخلف أبناء الكهنة آباءهم في الخدمة؛ ومن هنا خلو الكنيسة الأنطاكية من كهنة في مقتبل العمر. ورغب البطريرك مثوديوس في جمع اثني عشر شابا من مختلف الأبرشيات لإعدادهم للخدمة الروحية، ثم عدل لضيق المكان وقلة المورد. وليس للطائفة مدارس للعامة، فانتقاء الكهنة يتم بالانتخاب. وليس هنالك خدمة معينون (قندلفت) ولا كتبة؛ وبالتالي فإن الضرورة تقضي بالجمع في مدارس الطائفة بين تعليم العامة والتعليم الكنسي. وجميع الطلبة يتعلمون الموسيقى الكنسية والتعليم المسيحي والتاريخ المقدس ليفهموا دينهم ويحسنوا التعبد في الكنيسة.
ويقترح صاحب النبذة إنشاء معهد للوعظ والتبشير يضم عددا من الرهبان الصغار الذين زهدوا في العالم وكرسوا حياتهم لله والكنيسة والعلم، فيعدهم ملحا للأرض ونورا للعالم ويؤهلهم للوعظ ورئاسة الكهنوت ، ثم يقول إن هذا كان رائد مدرسة البلمند، ويضيف أن للطائفة مدارس ثلاث في دمشق وبيروت وطرابلس، ويؤكد صاحبنا أن مثوديوس البطريرك أنشأ مدرسة دمشق، وأن المال اللازم لإنشائها جاء من الإحسانات التي جمعت في روسية في السنتين 1736 و1839 ومن تبرعات روسية أفرادية جمعها لهذه الغاية بطريرك أوروشليم. أما التعليم في هذه المدرسة فإنه كان ابتدائيا وثانويا وشمل الثانوي اللغات العربية والتركية واليونانية وشيئا عن البيان والمنطق تلقاه بعض الطلبة على يد الأب يوسف مهنا.
ونشأت مدرسة بيروت في المطرانية وبتبرعات أبناء الطائفة ومساعدات أديار الأبرشية، ثم وسعت في السنة 1841 بالمال الذي جاءها من الشعب الروسي لهذه الغاية، وبالمعونة التي قدمتها خزينة القبر المقدس. وبرنامج التعليم فيها هو برنامج مدرسة دمشق يضاف إليه اعتناء خصوصي باللغتين اليونانية والإيطالية وبالحساب والجغرافية. وبلغ عدد الطلبة في هذه المدرسة في السنة 1843 المائتين.
وقامت مدرسة طرابلس في المطرانية أيضا في بيت يخص القبر المقدس وبتبرعات المطران وصندوق الكنيسة، وشمل التعليم فيها الدورة الابتدائية وصفا ثانويا واحدا. وعلم معلم علماني سبعين طالبا العلوم الابتدائية في بيت بالقرب من كنيسة القديس جاورجيوس في المينا وذلك على حساب الأهالي.
ومطبعة بيروت قديمة العهد تعطلت بعد أن قصف الروس بيروت، ثم عادت إلى العمل في السنة 1842 بعد أن استوردت أمهات الحروف من فرنسة، وهي تطبع ألوف النسخ من المزامير وخدمة القداس.
الشعب والكنائس
والشعب الأرثوذكسي الأنطاكي متدين متزن معتدل نشيط، وحماة الإيمان فيه الأمهات والكهنة والتقاليد والعادات. وعلى الرغم من كثرة الضرائب وتنوع البلص وشدة الفقر فإن الشعب يؤدي بوجه طليق النورية للأساقفة والتبرعات للأديار والمدارس والكنائس.
وتسمح السلطات العثمانية بترميم الكنائس وإعادة بنائها، ولكنها تطلب شهادة المسلمين بصحة ما يطلبه النصارى من حيث المكان الذي يقام فيه البناء وحجم هذا البناء. وإذا رغب الشعب في إنشاء كنيسة جديدة فإنهم يكرسون بيتا من البيوت لهذه الغاية ويتعبدون فيه مدة من الزمن، ثم يسعون للحصول على شهادة من المسلمين تثبت قيام كنيسة في محل البيت المهدوم.
ولا تخلو مدينة أو قرية من كنيسة، وكنائس المدن أنيقة أما كنائس القرى فإنها فقيرة. وعدد الكنائس التي هدمتها الزلازل أو نهبتها أيدي الألبانيين ورعاع القوم في الحوادث الأخيرة في لبنان يربو على السبعين. ولا بد من ترميم هذه الكنائس وتأثيثها، والواجب يقضي بالتعاون مع إخواننا المسيحيين في سورية. وفرنسة والنمسة تمدان الموارنة والمتحدين مع رومة بمبالغ كبيرة من المال، فهل ينسى الشعب الروسي السوريين المتحدين معه بالإيمان، وموسكو قلب روسية قد رحبت بالاستجداء الذي قام به متروبوليت هيليوبوليس؟
ويذكر صاحب هذه النبذة عدد الأرثوذكسيين في أبرشيات أنطاكية في السنة 1850 فيجعلهم 1400 في أبرشية أدنة، و4000 في أبرشية اللاذقية و4160 في أبرشية حماة و3200 في أبرشية حمص و12080 في أبرشية عرقة و7800 في أبرشية طرابلس، و20000 في أبرشية بيروت و5600 في أبرشية صور وصيدا و2800 في أبرشية سلفكية وهيليوبوليس و4800 في أنطاكية ودمشق وحوران و500 في حلب، بحيث يصبح مجموعهم 66340 نسمة. ويذكر لهذه المناسبة أن عدد الروم الكاثوليكيين كان آنئذ 36735، وعدد الموارنة 120677.
أيروثيوس البطريرك الأنطاكي (1850-1885)
وكان أثناسيوس الخامس البطريرك الأوروشليمي قد رقد بالرب في السنة 1844 بعد رئاسة دامت سبعة عشر عاما، وكان قد أقام في قيد حياته أيروثيوس مطران الطور ووكيله في القسطنطينية خليفة له في الكرسي الأوروشليمي، فعرف أيروثيوس بالذياذوخوس. وكان هذا الأمر - أي ولاية العهد - قد جرى بعض مرات في الكرسي الأوروشليمي وانتهى بولاية عهد أيروثيوس، وحرص أيروثيوس في أثناء ولاية عهده على استقلال الكرسي الأوروشليمي فصد تدخل البطريرك المسكوني في أمور أوروشليم مرارا. فلما قضى أثناسيوس في السنة 1844 سعى البطريرك المسكوني بأيروثيوس لدى السلطات العثمانية وأفسد الحالة، فأشار إلى تجوال أيروثيوس في روسية لجمع الحسنات واتهمه بالتحيز للروس وخدمة مصالحهم، فاعترض الباب العالي على ترشيح أيروثيوس فانتخب المجمع الأوروشليمي كيرلس متروبوليت الله بطريركا على أوروشليم، فعرف بكيرلس الثاني (1845-1872).
وعقيب رقاد البطريرك مثوديوس البطريرك الأنطاكي انتدب الشعب الأنطاكي أيروثيوس متروبوليت بيروت بطريركا لأنطاكية، والتمسوا بواسطة البطريركية القسطنطينية قبول ذلك الانتخاب لدى المراجع الإيجابية، ولكن أيروثيوس الذياذوخوس مطران الطور بذل الوسائل لتخويله هذه المنصة كما يستفاد من تحرير زخريا مطران معلولا إلى زخريا مطران عكار الصادر عن دير مار تقلا في أول تشرين الأول سنة 1850. وفازت المساعي فنصب أيروثيوس الذياذوخوس بطريركا على أنطاكية في القسطنطينية، واستلم عصا الرعاية في كنيسة بطريركيتها في التاسع من تشرين الأول سنة 1850. ولم يشأ أيروثيوس بيروت مناصبته العداوة خوفا من أن تجد الأيدي الأجنبية الغربية يدا للفساد.
2
أبرشيات أنطاكية
وجاء في السينتغماتيون
Syntagmation
الصادر عن البطريركية المسكونية سنة 1855 أن المطارنة الخاضعين لكيريوس أيروثيوس الفائق الغبطة والفائق القداسة بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق كانوا كما يلي: (1) متروبوليت حلب وأكسرخوس سورية الأولى الفائق الشرف. (2) متروبوليت أبيفانية وأكسرخوس سورية الثانية الفائق الشرف. (3) متروبوليت اللاذقية وأكسرخوس الثيوذورياذة الفائق الشرف. (4) متروبوليت سلفكية أو معلولا وأكسرخوس سورية الفائق الشرف. (5) متروبوليت آمد أو أيديسة وأكسرخوس ما بين النهرين الفائق الشرف. (6) متروبوليت صور وصيدا وأكسرخوس فينيقية الساحلية الفائق الشرف. (7) متروبوليت طرابلس وأكسرخوس فينيقية اللبنانية الفائق الشرف. (8) متروبوليت بيروت وأكسرخوس فينيقية الساحلية الفائق الشرف. (9) متروبوليت أدنة التي تدعى باياس وأكسرخوس قيلقية الأولى والثانية الفائق الشرف. (10) هيليوبوليس التي تدعى بعلبك وقد تضاءلت. (11) بالميراس وقد اختفت. (12) أركاذية التي تدعى عرقة وعكار. (13) متروبوليت ثيودوسيوبوليس التي تدعى أرضروم وأكسرخوس أرمينية الكبرى الفائق الشرف. (14) متروبوليت أكيكوس الفائق الشرف.
3
الخط الهمايوني ونظم الكنيسة (1856)
وأحب نابوليون الثالث أن يستميل الإكليروس الكاثوليكي في فرنسة لتدعيم سلطته فيها، فداهن وتملق وأظهر اهتماما كبيرا وغيرة شديدة على مصالح الكنيسة اللاتينية في الشرق، فأثار قضية الأماكن المقدسة في أوروشليم وتوابعها. فهب الروس للدفاع عن حقوق الروم الموروثة في هذه الأماكن نفسها. ولم ترض بريطانية عن مطامع الروس في شرق المتوسط والبلقان، فاختطت لنفسها سياسة «المحافظة على سلامة الدولة العثمانية». وكانت حرب في القرم وكانت معاهدة في باريس سنة 1856، وأوجبت هذه المعاهدة عدم التدخل في شئون الدولة العثمانية الداخلية، وعدم الانفراد في حل ما ينشب من مشاكل بين الدولة المسيحية وبين السلطان. ورأى السلطان أن يطمئن الدول المسيحية وشعوبها عن مصير رعاياه المسيحيين، فأصدر خطا همايونيا أعلن فيه المساواة بين المسلمين والمسيحيين في السلطنة وألحقه بنص معاهدة باريز،
4
فدخلت النصرانية في دور قانوني جديد في علاقاتها بالإسلام والمسلمين.
وكان البطريرك القسطنطيني بعد أن ينتخبه مطارنة كرسيه ووجهاء شعبه ينال براءة سلطانية تؤيد حقوق الملة، وتمنع مداخلات الحكام والموظفين في المسائل الروحية والملية وفي الاختلافات الواقعة بين الرؤساء الروحيين والشعب. وكان لدى البطريرك المنوه به مجلس مختلط مؤلف من إكليروس أبرشية القسطنطينية وبعض العلمانيين كوكيل البطريرك لدى الباب العالي وترجمان البطريركية وغيرهما. وكان هذا المجلس يهتم في جميع الشئون الكنيسة وغيرها مما يتعلق بملة الروم. وفي زمن البطريرك صموئيل في السنة 1768 تألف مجمع من اثني عشر مطرانا من متقدمي مطارنة الكرسي القسطنطيني، وأنيط به أمر العناية بالمسائل التي تتعلق بعموم الأبرشيات للكرسي القسطنطيني. وأما المجلس المختلط فتركت له العناية والاهتمام بشئون القسطنطينية وحدها.
وبعد نشر الخط الهمايوني سنة 1856 ألغي هذان المجلسان وتغيرت طريقة الإدارة والنظام تغيرا كليا، ففصلت سلطة الرؤساء الروحيين في إقامة محاكم لديهم، وتقرر تأليف محاكم نظامية مختلطة يحكم فيها بالسواء لجميع رعايا السلطان من أي مذهب أو ملة كانوا. وصدرت الإدارة السنية بأن يتألف قوميسيون عمومي من إكليروس وعلمانيين لكل ملة ينظر في شئونها بحسب الامتيازات الممنوحة قديما للرؤساء الروحيين، ويحدد بموجب هذه الامتيازات حقوق الإكليروس وواجباتهم وفقا للسنن الدينية ومقتضيات العصر، ويرتب كيفية انتخاب البطاركة والمطارنة مبينا كل ذلك في لوائح تعرض على الحكومة العثمانية في مدة محدودة لتصديقها.
وإجابة لمنطوق هذا الخط الهمايوني اجتمع في السنة 1857 قوميسيون عمومي للملة الأرثوذكسية مؤلف من إكليروس وعلمانيين من آباء وأبناء كنيسة القسطنطينية. وترتبت أمور الملة في هذا القوميسيون طبقا للمبادئ الأساسية التي وضعت في الخط الهمايوني. وبعد مجادلات شديدة ومذكرات طويلة أذاع هذا القوميسيون نظاما للبطريركية القسطنطينية سنة 1860 وأقرته الحكومة العثمانية وأدرجته في دستور الدولة كجزء من نظامها.
5
وبعد مدة روجع في قوميسيون جديد وتنقحت بعض المواد.
وتحدد في هذا النظام الجديد أن يصير انتخاب البطريرك القسطنطيني من جمعية مؤلفة من أعضاء المجمع ومن وجهاء الملة وكبار الموظفين لدى الحكومة، من أبناء الطائفة ومن وكلاء أرباب الصنائع والحرف ونواب أحياء القسطنطينية وممثلي الأبرشيات التابعة للكرسي القسطنطيني. وأعطي الحق لكل من مطارنة الأبرشيات أن يقدم في مدة أربعين يوما إلى الهيئة المنتخبة اسم مرشح من مطارنة الكرسي القسطنطيني الذين يكونون قد خدموا في إحدى الأبرشيات القسطنطينية مدة لا تقل عن سبع سنوات، وكان على المطران أن يرسل ورقة الترشيح ضمن ظرف مختوم. وتقررت أيضا طريقة لاشتراك الشعب في الترشيح، وتعين أن تقدم لائحة بأسماء المرشحين إلى الباب العالي الذي له أن يستثني من هذه اللائحة أسماء الأشخاص الذين لا يرى فيهم اللياقة بالنظر إلى أمور الملكية، ثم يرجع اللائحة إلى البطريركية في ظرف أربع وعشرين ساعة من إرسالها مستبقيا من الأسماء المدرجة فيها ما لا يقل عن الثلاثة. ومن هذه الأسماء الباقية في اللائحة بعد إرجاعها من الباب العالي ينتخب جميع أعضاء مجلس الانتخاب الإكليريكيين والعلمانيين ثلاثة بالأكثرية. وبعيد ذلك يجتمع أعضاء الهيئة المنتخبة الإكليريكيون فقط وينتخبون بعد الصلاة واستلهام الروح القدس في الكنيسة الكاتدرائية واحدا من هؤلاء الثلاثة بطريركا مسكونيا، ثم يبلغ الباب العالي فتصدر إدارة سلطانية بقبوله.
وتألف بموجب هذا النظام الجديد مجمع من اثني عشر عضوا يكون بمعية البطريرك ليشترك معه بالمذاكرة في الشئون الكنسية المحضة والحكم فيها وفي كل ما يتعلق بإدارة الكرسي. واشترك في عضوية هذا المجمع بالتناوب جميع مطارنة الكرسي القسطنطيني بنوع أن كل سنة يتجدد نصف أعضائه فيخدمون فيه سنتين.
وأقيم أيضا مجلس مختلط مؤلف بمعرفة البطريرك من أربعة من أعضاء المجمع المقدس أقدمهم ينوب عن قداسته في رئاسة هذا المجلس ومن ثمانية أعضاء من وجهاء الله. وتخصص له النظر في المسائل المتفرعة عن الزيجات والطلاق والإرث ومالية الأديار البطريركية وسائر الأملاك والأوقاف في العاصمة وما يحال إليه من شئون الملة الزمنية من الأبرشيات.
وفرض أن يشترك جميع أعضاء المجمع في العمل والإدارة وفي التوقيع مع البطريرك على جميع المذاكرات والكتابات والأوراق المتعلقة بإدارة الكرسي. وفرض أن يلبث البطريرك في الكرسي مدى الحياة إلا إذا ظهرت منه حركة مخالفة للقوانين والنظامات، فيطلب المجلس المختلط فصلا بأكثرية ثلثي المجمع والمجلس. وعندما تعرض مسائل مهمة يجمع البطريرك جمعية عمومية من هيئة أعضاء المجمع والمجلس للمذاكرة وتنوير ما يلزم.
وتحددت شروط ترشيح الأساقفة وانتخابهم، وكان أهمها السيرة الحسنة والخبرة في الإدارة، وإجادة اللغات اليونانية والتركية والسلافية، وإكمال العلوم الكنسية بعرف أساتذة كلية خالكي،
6
وتقلدوا مناصبهم ببراءات سلطانية فزاد نفوذهم عند الولاة، وتوجب أن يكون لدى كل أسقف مجلس روحي من كهنة وقوميسيون زمني من المتقدمين والشيوخ يستشيرهم الأساقفة في الظروف المهمة. وينظرون في أمور المسيحيين ويشتركون مع الأساقفة في إدارة الشئون الملية كما تسوغه القوانين المقدسة والنظامات العالية.
وسنت كنيسة أوروشليم قانونا مماثلا في السنة 1873 فأقرته الحكومة العثمانية وأصبح ساري المفعول. أما كنيسة أنطاكية فإنها شرعت في وضع قانون لها في السنة 1890، ولكنها لم تنجزه قبل السنة 1898، وسيجيء الكلام عنه في حينه. وظل البطريرك الأنطاكي ومعظم الأساقفة ينالون براءات سلطانية تشبه براءات إخوتهم القسطنطينيين، وظلوا يعرضون أمورهم الهامة على الباب العالي بواسطة بطاركة القسطنطينية. وجاء في كتاب «الأرج الزاكي» لأمين ضاهر خير الله أن أيروثيوس استخف بالمجمع الأنطاكي المقدس وأشاح سمعا عن نصائحه، ولكنه عندما عجز عن القيام بالأعمال في أواخر أيامه سمح بالقوميسيون الزمني فتدرجت الطائفة في مراقي النجاح، وكثر في دمشق رجالها وازدهرت مدارسها.
7
عودة إلى الأرثوذكسية (1857-1959)
وفي أوائل السنة 1857 دعا إكليمنضدس بطريرك الروم الكاثوليك إلى الحساب الغربي، فقبل البعض بذلك وامتنع البعض الآخر. وكان على رأس الممتنعين أساقفة بيروت وزحلة وبعلبك وصيدا والخوري يوحنا حبيب والخوري غبريال جبارة. واشتد الخلاف فعقد الأساقفة مجمعا في عين الذوق فوق زحلة. وأم الآستانة الكاهنان يوحنا حبيب وغبريل جبارة، فوصلاها في أيار السنة 1859 واتصلا بمجمع البطاركة المنعقد فيها آنئذ وفاوضا باسم أنصارهما في سورية ومصر، وعادا إلى حضن الكنيسة بقرار من مجمع البطاركة سجله باللغة العربية غفرائيل كاتب البطريرك أيروثيوس الذي أصبح فيما بعد متروبوليت بيروت.
8
الحركة أو الطوشة (1860)
وفي السنة 1832 انتشر على المسيحيين رأيهم والتبس عليهم وجه الصواب فرأوا في انتصار المصريين على الأتراك العثمانيين فوزا لهم وانطلاقا وتحريرا، فنزعوا ملابس التحرز وأزالوا كلفة الاحتشام، فخرج بعض السفلة من نصارى دمشق «وزوقوا جملا وركبوا عليه رجلا مسلما من أهالي حارة الخراب يسمى حمزة الذكرة، وأعطوه مسودتي عرق، وأحضروا المشاعل وزوقوها بالأزهار والفاكهة وعملوها على كسم الصلبان، ومشوا من طالع القبة في صفوف وأخذوا يغنون: «إبراهيم باشا يا منصور الله يلعن المقهور!» وكانوا كلما مشوا بعض خطوات يقفون، فيمسك حمزة المسودة بيده ويلوح بها ويصرخ: المسيح قام. فغضب المسلمون وتوعدوا.»
9
وخرج المصريون وعادوا إلى مصر (1841)، وجاء العثمانيون يرتبون الأموال الأميرية على لبنان كما كانت في عهد الشهابي الكبير، فقبل الدروز بها، أما الموارنة فإنهم عارضوا «وعملوا جمعيات متعددة حضرها الوجوه والمطارنة وحرروا عروضا للدولة. ومن جملة ما حرروه أن مال الجزية يتوجب دفعه على من يحتاج حماية الدولة، وأما هم لا يحتاجون إليها لا، بل إنهم يحمون جوارهم، وقدموه للوالي لكي يقدمه للدولة، فنصحهم أن يسترجعوه وراجعهم بذلك مرارا فما زاده إلا غرورا واستكبارا فالتزم الوالي لتقديمه، وجاهروا بانتمائهم لدولة أجنبية فتغير باطن الدولة نحو النصارى.»
10
وجاء الخط الهمايوني في السنة 1856 يساوي النصارى بالمسلمين أمام القانون ويبطل مفعول الشرع في أمور وأمور، وشرعت السلطات العثمانية بتطبيقه، فتساقط البعض في الغرور وأوغلوا وتجاوزوا الحد في الغواية. وقضت مصالح نابوليون الثالث الشخصية بالظهور بمظهر المدافع عن حقوق الكنيسة الكاثوليكية في الشرق. ولم يرض الموارنة عن نظام القائمقاميتين ورأوا فيه إجحافا بحقوق الطائفة في القائمقامية الدرزية وأحبوا العودة إلى حكومة لبنانية موحدة. واختلفوا في عودة الشهابيين إلى الحكم، فاقترح قنصل فرنسة في بيروت جعل الرئيس الروحي؛ أي البطريرك رئيسا زمنيا على غرار دولة الفاتيكان، فلاقى اقتراحه ترحيبا في نفس المطران طوبيا عون، وراح هذا يدعو إلى «كسر الجرة» في دير القمر على حد قول جرجس بك صفا. واتصل قنصل فرنسة بخطار بك العماد للغرض نفسه كما شهد بذلك الخوري إبراهيم كيوان أمام رشيد بك نخلة. ثم انكسرت الجرة في بيت مري كتف عين سعادة مقر المطران طوبيا عون. وحرض والي دمشق الدروز وسلحهم كما يشهد بذلك الدكتور ميخائيل مشاقة، وتودد «وود» القنصل الإنكليزي إلى الدروز وشجعهم على التدخل في شئون النصارى في حاصبيا وحماية الأقلية منهم ضد رأي الأغلبية، كما سبق وأثبتنا، فكان ما كان من أمر الحركة في لبنان والطوشة في دمشق وبعض المدن الأخرى.
واتصل القس جورج وليامس الإنكليزي بالبطريرك أيرونيوس في أوائل آب السنة 1865 فحل ضيفا عليه في دير مار إلياس الشوير، وأطلع القس البطريرك على ما كان يقوم به القس يوحنا نيل من تفتيش عن المصادر لتاريخ كنيسة أنطاكية، ورجاه أن يسمح له بالاطلاع على محفوظات الكرسي الأنطاكي فقال البطريرك إنه لم يبق من هذه شيء بعد إحراق البطريركية في دمشق.
11
وطالب أيروثيوس الحكومة العثمانية بالتعويض عما حل بالبطريركية والكنيسة المريمية من تخريب وتدمير في أثناء الطوشة، وقام إلى الآستانة بنفسه مرتين لهذه الغاية، فنال مبلغا من المال أنفقه في ترميم المقر البطريركي وإعادة بناء الكنيسة المريمية كما تنطق بذلك الكتابة المنقوشة على جدار هذه الكنيسة.
التوراة والإنجيل (1848-1865)
ورغب المرسلون البروتستانتيون في نشر الكتاب المقدس على العرب أجمعين، فألفوا في السنة 1847 لجنة لهذه الغاية برئاسة الدكتور عالي سميث وعضوية الدكتورين وليم طومس وكرنيليوس فانديك. فاتصلت اللجنة بالمراجع العليا في الولايات المتحدة وحثتهم على الموافقة، راجية اجتذاب العرب المسلمين إلى مطالعة التوراة والإنجيل. وفي الحادي عشر من شباط سنة 1848 فاوضت هذه اللجنة جمعية انتشار الكتاب المقدس الأميريكية في أمر ترجمته إلى اللغة العربية، وقررت نقل المعلم بطرس البستاني من عبية إلى بيروت ليكون تحت تصرف لجنة الترجمة، واستعانت بمواهب الشيخ نصيف اليازجي للغاية نفسها. فكان المعلم بطرس ينقل النص من العبرية أو اليونانية إلى العربية مستعينا بالسريانية ، ثم يحيل ما يعرب إلى الشيخ نصيف لينقيه من كل صبغة أعجمية. وكان الدكتور عالي سميث يعيد النظر بالمقابلة بين النص العربي والأصل العبري أو اليوناني. وكانوا عند الانتهاء من هذه المراحل الثلاث يدفعون بما عربوا إلى المطبعة لصف الأحرف وإعداد ثلاثين نسخة توزع على الثقاة في سورية ومصر وألمانية، فتعاد إلى اللجنة منقحة حاملة عددا من الملاحظات. وأشهر الثقاة الألمان الذين اشتركوا في هذا العمل الأساتذة؛ فلايشر
Fletischer
في ليبزيغ ورويديغر
Rodiger
في هالي وفلويغل
Flugel
في درزدن وبرناور
Behrnaver
في فيينة. ورأى البعض أن يأتي التعريب في أسلوب فصيح قرآني، ولكن معظم البروتستانت الوطنيين آثروا عبارة بسيطة صحيحة. وتم تعريب الإنجيل في التاسع من آذار سنة 1860، والتوراة في العاشر من آذار سنة 1865، وأشرف الشيخ يوسف الأسير إشرافا نهائيا على اللغة والأسلوب.
12
وظهر الكتاب بثوب قشيب ووزع توزيعا وأقبل المسيحيون على اقتنائه وقراءته، وتصفحه الآباء الكاثوليكيون فهالهم حذف بعض الأسفار وادعاء المرسلين أن ما حذفوا ليس من الكتاب الكريم، وأنهم ألفوا في موضوع الحذف كتبا طبعوها ووزعوها بين الناس. ولمس الآباء الكاثوليكيون اختلافا في الترجمة في بعض آيات الإنجيل والرسائل، فاعتبروا هذا الاختلاف تحريفا لموافقة مذهب البروتستانت. فأوعز رئيس الرسالة اليسوعية إلى بعض رهبانه أن يكتب شيئا في الرد على البروتستانت، فألف في ذلك كتابين عنوان الأول منهما: «كشف المغالطات السفسطية ضد بعض الأسفار الإلهية»، وهو يتضمن الأدلة على أن نسخة كتاب الله الكاثوليكية والأسفار القانونية الثانوية صحيحة النص صادقة الرواية لم يدخل عليها دخل ولا فساد، وعنوان الثاني: «كشف التلاعب والتحريف في مس بعض آيات الكتاب الشريف»، وفيه بيان الآيات التي «لعبت بها يد البروتستانت وحرفتها عن مواضعها» لموافقة مذهبهم.
وفي غضون ذلك ورد استحسان المجمع المقدس في رومة لما رفع إليه أمر ترجمة كتاب الله إلى اللغة العربية لمقاومة البروتستانت برعاية بطريرك اللاتين في أوروشليم. فترجم الآباء الكتاب عن العبرانية واليونانية، وجمعوا إلى النص الأصلي النسخ القديمة التي في يد الكنيسة الكاثوليكية لمقابلته، وهي الترجمة اللاتينية والسريانية واليونانية المعروفة بالسبعينية. «غير أنه كان إذا عرض إشكال في بعض الآيات التي تتعلق بالإيمان أو الآداب يكون الاعتماد على ما في النسخة اللاتينية» التي اتخذها الآباء دستورا يرجع إليه على الإطلاق؛ لأنها هي المعول عليها في الكنيسة الكاثوليكية وقد ثبتت في المجمع التريدنتيني، فظهر الكتاب الشريف في السنوات 1876-1878 على غاية ما يرام من الرونق وحسن الوقع.
13
وساعد الآباء في تصحيح العبارة وتثقيفها الشيخ إبراهيم اليازجي؛ فجاءت مهذبة اللفظ محكمة النسج متينة الحبك.
14
وكنيستنا الأرثوذكسية تميز الأسفار بعضها عن بعض فتدعو بعضها كتبا قانونية والباقي منها تدعوه كتبا غير داخلة في القانون أو كتبا كنسية أو كتب التلاوة. واللفظ اليوناني قانون
Canon
يدل على معان كثيرة؛ منها المسطرة والجدول والقاعدة واللائحة، والمراد بكلمة قانون في كلامنا هذا هو الجدول أو مجموعة الكتب المقدسة التي تعتبرها الكنيسة موحى بها من الله وتتخذها قانونا للحقيقة. والكتب القانونية هي التي نظمتها الكنيسة في قانون الأسفار المقدسة بحسب تعليم الرسل الإلهيين والآباء الطاهرين والمجامع المقدسة. وتعتبر الكنيسة هذه الكتب القانونية قانونا للحقيقة لا يتغير كما قال القديس أثناسيوس الكبير في رسالته في الأعياد:
إننا نقبل الكتب التي دخلت في القانون ونعتبرها إلهية؛ لأنها مصدر الخلاص، فليرو العطشان ظمأه بالكلمات التي فيها، وهي وحدها تكرز بتعليم حسن العبادة، ولا يزيدن أحد عليها شيئا ولا يحذفن منها شيئا.
والقانون الذي نعتبره جدولا لأسفار العهد القديم يتضمن الأسفار الآتية: (1) كتاب التكوين. (2) كتاب الخروج. (3) كتاب اللاويين. (4) كتاب العدد. (5) تثنية الاشتراع. (6) كتاب يشوع بن نون. (7) كتاب القضاة وسفر راعوت كذيل له. (8) كتاب الملوك الأول والثاني كقسمين لكتاب واحد. (9) كتابا الملوك الثالث والرابع. (10) كتاب الأيام الأول والثاني. (11) كتاب عزرا الأول والثاني، وهذا دعاه اليونان كتاب نحميا. (12) كتاب إستير. (13) أيوب. (14) المزامير. (15) أمثال سليمان. (16) الجامعة له. (17) نشيد الإنشاد له أيضا. (18) أشعيا النبي. (19) أرميا. (20) حزقيال. (21) دانيال. (22) الأنبياء الاثني عشر الصغار.
والقانون الذي نعتبره جدولا لأسفار العهد الجديد يتضمن البشائر الأربع لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا، والرسائل الأربع عشرة لبولس، ورسالتين لبطرس وثلاثا ليوحنا وواحدة ليعقوب وواحدة ليهوذا وكتابي أعمال الرسل والرؤيا.
15
وأما الكتب التي لم تدخل في القانون فعلى شهادة باسيليوس الكبير هي الأسفار التي فرض الآباء قراءتها على المسيحيين، ولا سيما على من أقبل إلى الديانة المسيحية حديثا؛ ولذلك دعيت أيضا كتب التلاوة. وبما أنها كانت تتلى في الكنائس لتعليم الموعوظين والمؤمنين سميت كتبا كنسية. وقد قال فيها يوحنا الدمشقي في شرحه للإيمان الأرثوذكسي أنها تدعى مفيدة ومعزية، ولكنها لم تحص مع الكتب الأولى. وكنيستنا لا تزال حتى الآن تضمها إلى الأسفار القانونية في مجموعة واحدة جريا على ما تلقته من المسيحيين القدماء الذين كانوا يضمون إليها كتبا مفيدة كرسائل إقليمس ورسالة هرماس، وكانوا يتلون من فصولها في الصلوات والاجتماعات. ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن الكتب القانونية جاءت بوحي من الله، وأما المتلوة فإنها مفيدة وجديرة بكل إكرام، وقد قبلتها كنيستنا لتهذيب الأخلاق بآدابها النقية التي تنطبق على كلام الله والناموس الإلهي. والكتب التي لم تنتظم في قانون الكتاب المقدس محصورة في العهد العتيق، وهي: كتاب طوبيت وكتاب يهوديت وحكمة سليمان وحكمة يشوع بن سيراخ، وسفرا عزرا الثاني والثالث وأسفار المكابيين الثلاثة، ويضاف إلى منزلة هذه الكتب نبذ تتبع الكتب القانونية عادة؛ وهي صلاة منسى كذيل لكتاب الأيام الثاني، ونبذ من سفر إستير وتسبحة الفتية الثلاثة تضم إلى الفصل الثالث من نبوة دانيال وتاريخ سوسنة العفيفة في الفصل الثالث عشر من تلك النبوة، وقصة بعل والتنين في الفصل الرابع عشر من تلك النبوة أيضا.
وكتب التلاوة شيء وكتب الأبوكريفة شيء آخر، فهذه معزوة اختلاقا إلى الرسل أو إلى تلامذتهم ولم تحص في قانون الكتاب المقدس ولا كانت بمثابة كتب التلاوة، بل إن الكنيسة أعلنت أنها في عداد الكتب المزورة ونبذتها وحرمت مطالعتها.
16
وليس لدينا من النصوص المعاصرة ما يفصل لنا موقف البطريرك أيروثيوس من النزاع الذي نشب بين المرسلين البروتستانتيين والمرسلين اللاتينيين حول الكتاب المقدس في النصف الثاني من القرن الماضي، ولكننا لا نشك في أنه وقف موقفا أرثوذكسيا.
وما رواه هنري جسب عن الأب غفرائيل جبارة من تقدير للترجمة البروتستانتية، وإعجاب بنشاط الدكتورين عالي سميث وكرنيليوس فانديك لا يعني في حد ذاته أن الأب غفرائيل جبارة وافق على ما جاء من اختلاف في ترجمة سفر الأعمال والرسائل بين النصوص الأرثوذكسية والكاثوليكية من الجهة الواحدة، وبين النصوص البروتستانتية من الجهة الأخرى،
17
بل يجب ألا ننسى أن الأب مكاريوس الرملي هب لطبع كتب التلاوة لدى ظهور الترجمة البروتستانتية، واجتهد في المقدمة أن يبرهن أن هذه الكتب هي مما يجب إلحاقه بالكتاب المقدس.
وكان مثل هذا قد جرى في أواسط القرن التاسع عشر في الأوساط الأرثوذكسية اليونانية، فإنه عندما حاول بعض المرسلين البروتستانتيين أن ينشروا ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية الحديثة بدون أن يضموا إليها كتب التلاوة قام الكاهن قسطنطين أيكونوموس كنيسة القسطنطينية وألف كتابا كبيرا لتفنيد مزاعم البروتستانت وطبعه سنة 1849.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه في السنة 1867 التأم مؤتمر لامبث
Lambeth
الأول، فوجه الدكتور أرشيبولد كامبل رئيس أساقفة كانتربري نداء إلى البطريرك المسكوني غريغوريوس السادس أظهر فيه رغبته في اتحاد الكنيستين الإنكليكانية والأرثوذكسية، فأجابه غريغوريوس جوابا لطيفا، ولكنه لم يخف الصعوبات التي اعترضت السبيل.
أيروثيوس والقضية البلغارية (1858-1872)
وصدر الخط الهمايوني (1856) وأمر الباب العالي بتنفيذه، واجتمع الإكليروس القسطنطيني والوجوه والأعيان للنظر في تطبيقه، فاجتهد مطارنة اليونان أن يكون أعضاء القوميسيون من اليونان فقط، وبالكد دخل فيه أربعة أعضاء من البلغار. والشعب البلغاري الخاضع للبطريركية المسكونية آنئذ ضاهى عدد اليونان أو زاد، ولما اجتمع القوميسيون وشرع في وضع النظام الجديد للملة الأرثوذكسية لم يعبأ بالتشكيات التي عرضها نواب الأبرشيات البلغارية وحدد أن يصير انتداب المطارنة من البطريرك القسطنطيني ومجمعه ورتب انتخاب البطريرك على طريقة توافق شعور اليونانيين فقط.
ولما كان من واجبات هذا القوميسيون أن ينظر في كيفية تسديد الديون البطريركية البالغة آنئذ ثمانية ملايين غرش حدد أن يشترك في تسديدها جميع الأرثوذكسيين الخاضعين للبطريرك القسطنطيني، فرفض نواب الولايات البلغارية أن يوافقوا على هذه القرارات وانسحبوا من القوميسيون واعترضوا على كيفية تأليفه، واهتمت الحكومة العثمانية لمطالب البلغاريين ولم توافق على النظام الجديد للملة الأرثوذكسية إلا بعد أن أضافت المادة الثامنة عشرة، وهذا نصها:
تصرف الدقة الكاملة وتبذل الملاحظات اللازمة من طرف مجمع المطارنة على التشكيات المعروضة على البطركخانة بالتتابع من طرف طائفة البلغار، بسبب الصلوات والمواعظ التي تتلى في الكنائس، وبعد أن يجري التدقيق والتحقيق على هذه التشكيات وبأية درجة هي يحصل السعي وتبذل الغيرة على أسباب ووسائط ما يلزم لتسدية الكيفية لأجل راحة المرقومين وتسكين خواطرهم.
18
وكان للبلغار في الآستانة كنيسة في بلطة يقيمون فيها فروضهم الدينية باللغة البلغارية، وكانوا قد أقاموا كنيسة أخرى في السنة 1851 في الفنار، وكان في السنة 1860 مترئسا على كنيسة بلطة الأسقف أيلاريون، وفي قداس الفصح لم يذكر أيلاريون البطريرك ولم يقم الدعاء له، بل ذكر كل أسقفية أرثوذكسية. ودعي إلى المجمع بحضور البطاركة الإسكندري والأنطاكي والأوروشليمي، فأجاب أن تصرفه يتفق ورغائب الشعب البلغاري. ثم دعي ثانية إلى المجمع فلم يلب الطلب ولم يتأخر عن رسم كهنة وشمامسة بدون إذن البطريرك. ووافق البطريرك المسكوني كيرلس السابع (1855-1860) على انتقاء الأساقفة بدون تفريق بين يوناني وبلغاري، فلم يرض البلغاريون بهذا الحل، وقاموا بتظاهرات في القسطنطينية وفي بعض المدن البلغارية، فاضطرب الباب العالي وتوجس خيفة، فقدم كيرلس البطريرك استعفاءه،
19
ولم يعترف أيلاريون بالقائمقام البطريركي، وبعد مدة اتحد معه أفكسنذيوس مطران دراخ وبائيسيوس مطران فيليبوبولي، وأعلنوا استقلال الكنيسة البلغارية ورئاسة أيلاريون.
20
ثم انضم إلى هؤلاء المطارنة أربعة مطارنة آخرين، وبدأ هؤلاء يتجولون بين صفوف الشعب البلغاري يحرضونه على نبذ الطاعة للبطريرك المسكوني. وكان وجهاء الشعب البلغاري في أثناء هذه الأمور قد عينوا لهم نوابا في الآستانة وفوضوهم النظر في هذه المسألة، فأخذوا يتداولون في إيجاد وسيلة لحسم الخلاف وقرروا ما يجب إجراؤه ليتم الاتفاق عليه، وحصروه في ثمانية بنود، وقدم للبطريركية المسكونية بواسطة الحكومة العثمانية. فجمع صفرونيوس البطريرك المسكوني (1863-1866) مجلسا عموميا وأوضح أمامه سير الحوادث ومطالب البلغار، فرفض المجلس هذه المطالب، فأصر البلغار، فاقترح البطريرك الجديد غريغوريوس السادس (1867-1871) إقامة إكسرخسية بلغارية تشمل جميع الأبرشيات الواقعة بين جبال البلقان ونهر الدانوب، فلم يلق هذا الاقتراح قبولا في الأوساط البلغارية ولم يرض عنه البطاركة السابقون، وبينما كان البطريرك يؤمل أن توافق الحكومة العثمانية على اقتراحه وردت إليه تذكرة من وزير الخارجية في الثالث من تشرين الثاني سنة 1868 مصحوبة بلائحتين لأجل حسم الخلاف، وطلبت منه أن يقبل واحدة منهما أو أن يرى في طريقة أخرى تنطبق على رغائب الفريقين، فأجاب البطريرك في منتصف كانون الأول أن الطريقة المثلى لحسم الخلاف هي عقد مجمع مسكوني؛ لأن سلطته على بلغارية مستمدة في أساسها من قرارات المجامع المسكونية. وحرر البطريرك في الوقت نفسه إلى جميع الكنائس الأرثوذكسية المستقلة عارضا أفكاره بشأن عقد مجمع مسكوني للنظر في القضية البلغارية، على أن الباب العالي لم يظهر ارتياحه إلى عقد هذا المجمع ولم يرخص به، بل باشر حسم الخلاف وأصدر في 11 آذار سنة 1870 فرمانا سلطانيا اعترف فيه باستقلال كنيسة البلغار.
21
مجمع القسطنطينية (1871)
ولما صدر الفرمان السلطاني اضطر البطريرك المسكوني أن يلح بشأن عقد المجمع المسكوني، فرفضت الحكومة العثمانية طلبه، ولم تستحسن كنائس روسية ورومانية والصرب عقد المجمع، وحرضت البطريرك المسكوني على معاملة الشعب البلغاري بالرفق والتساهل والمحبة المسيحية، فاضطر البطريرك أن يستعفي، فانتخب المجمع خليفة له أنثيميوس السادس (1871-1873)، فاحتج أنثيميوس على تأسيس الأكسرخوسية، فلم يلتفت البلغار إلى احتجاجه، فدعا للبطريرك المسكوني البطاركة في أواخر آب السنة 1872 للنظر في المسألة القائمة، فلبى الدعوة صفرونيوس البطريرك الإسكندري وأيروثيوس البطريرك الأنطاكي وصفرونيوس رئيس أساقفة قبرص، واشترك في أعمال هذا المجمع ثلاثة من البطاركة القسطنطينيين المتنازلين وخمسة وعشرون من مطارنة الكرسي القسطنطيني، وفي السادس عشر من أيلول سنة 1871 أصدروا الحكم على السيد أنثيميوس أكسرخوس البلغار ومن تبعه أو تشرطن منه من الأساقفة والكهنة والشمامسة والشعب، واعتبرهم مشاقين وقطعوهم من الشركة مع الكنيسة الأرثوذكسية؛ لأنهم أحبوا العرق وفرقوا بين الأجناس البشرية وأثاروا الفتن القومية.
22
اجتماع بيروت (1872)
وأعلنت البطريركية المسكونية حكم مجمع القسطنطينية إلى الكنائس الأرثوذكسية المستقلة التي لم تشترك في المجمع، فأظهرت هذه الكنائس عدم استحسانها، وكان كيرلس الثاني البطريرك الأوروشليمي في الآستانة، ولكنه لم يشترك في أعمال المجمع ولم يقبل بحدوده، فاجتمع رهبان أخوية القبر وحكموا عليه بالعزل، وانتخبوا بروكوبيوس متروبوليت غزة بطريركا محله، فهاج الشعب الأرثوذكسي في فلسطين، وامتنع معظم رؤساء الكنائس المستقلة عن إرسال الرسائل السلامية.
وأظهر الشعب الأنطاكي كدره أيضا، واجتمع المطارنة في بيروت في السنة 1872 وأقاموا الحجة على بطريركهم لخروجه على الطريقة التي حددوها له في رسالة بعثوا بها إليه يحرضونه فيها أن يكون رسول سلام بين اليونان والبلغار، وأن يجتهد في إقناع كنيسة القسطنطينية أن تسلك بالتساهل وطول الأناة وتتخذ التدابير السلمية المقتضية، حيث لا خطر في المذهب، وأن الانشقاق الممقوت الناتج عن غيرة، لكن ليس بمعرفة حسب قول رسول الأمم الإلهي هو مذموم ومستوجب لعنة جميع الأجيال المسيحية السالفة، وأخيرا ألحوا عليه أن يسحب توقيعه من أعمال هذا المجمع.
23
الجمعية الروسية الأرثوذكسية (1882)
واضطر الأرشمندريت بورفيريوس أوسبنسكي أن يغادر فلسطين عند نشوب حرب القرم (1853) ولم يعد إليها، ووضعت الحرب أوزارها (1856) فعاد المؤمنون الروس إلى الاهتمام بشئون الأراضي المقدسة والحجاج، فأوفدوا في السنة 1858 قوميسيونا روسيا برئاسة كيرلس أسقف ميليتوبوليس، فتبنى القوميسيون برنامج بورفيريوس أوسبنسكي، وجاء الغراندوق قسطنطين في السنة 1859 فوضع حجر الزاوية لكنيسة الثالوث الأقدس «المسكوبية».
وفي ربيع السنة 1881 أم أوروشليم الأمراء: سرجيوس وبولس وقسطنطين، حاجين مصلين، فاستقبلهم البطريرك الأوروشليمي أيروثيوس وكافة الإكليروس وحياهم الشعب بالهتاف «أورا»، فزاروا القبر المقدس وجثوا مصلين لنفوس الراقدين من آبائهم. ثم حياهم البطريرك باسم أم الكنائس وشكر الله والدمع يتساقط على خديه لاهتمام الشعب الروسي بالكنيسة المقدسة، وتعددت صلوات الأمراء عند المهد والقبر وبللت دموعهم الأرض، وأنشئوا تذكارا لوالدتهم في بستان الجثمانية هيكلا لا تنقطع الصلاة فيه، ولدى عودتهم إلى روسية انتظم أصدقاء فلسطين فيها جمعية إمبراطورية أرثوذكسية برئاسة الأمين سرجيوس وعطف القيصر. واحتفل بتأسيس هذه الجمعية في الحادي والعشرين من أيار سنة 1882 في بطرسبرج في قصر الأمير الحاج نقولا الأكبر وبحضور الأميرة الزائرة الأولى ألكسندرة. وافتتح الاكتتاب لهذه الجمعية بلاتون متروبوليت كيف فقدم ألف ريال، واتخذت الجمعية الناصرة مركزا لأعمالها فعنيت بالتعليم الابتدائي والتطبيب المجاني.
أيروثيوس مخلص وفي
وقضى أيروثيوس خمسة وثلاثين عاما في رعاية كنيسة الله في أنطاكية وسائر المشرق متحليا بنقاوة الإيمان واستقامة الرأي وإعلاء منار الدين، مترفعا عن كل ما يمت إلى العنصرية بصلة غير مفرق بين يوناني وعربي. وكان ثاقب النظر عالي الهمة يحسن انتقاء الرجال لخدمة الكنيسة، فسام عددا من كبار الرجال الذين خدموا كنيسة أنطاكية أفضل الخدمات. وليس من العلم أو العدل بشيء أن نقول مع بعض من كتب في جو الثورة على البطريرك اسبريدون أن البطاركة اليونانيين المتأخرين «لم يعملوا إلا على انحطاط الأرثوذكسية لا على تقويمها، فقد أهملوا تعليم الشعب مبادئ الإيمان الأرثوذكسي، ولم يكترثوا لتهذيب الأحداث ولم يعتنوا في إعداد وعاظ، ولم يصرفوا أقل عناية من أجل الأديار، بل قد أهملوا كل ما به خير الكرسي، وعند وفاتهم كانوا يتركون لأقاربهم أو للمشيدات الخيرية في أوطانهم كل ما كانوا يجمعونه من الأموال الوافرة من دخل الكرسي دون أن يترك البعض منهم شيئا يستحق الذكر لمصلحة الكرسي، أو لعضد الأرثوذكسية فيه أو لعمل الخير في هذه البلاد.» نقول: ليس من العدل بشيء أن نطلق الكلام بهذا الشكل ونتناسى جهاد مثوديوس في سبيل الأرثوذكسية الحقة، وسعيه لإعلاء شأن الكنيسة في جميع الأبرشيات الخاضعة له، وقد سبق لنا الكلام في أعماله ومبراته، ولم يكن أيروثيوس أقل منه فضلا، وقد ذكرنا شيئا من مآثره، ولنا فيما يأتي عن بعض المطارنة في عهده ما يثبت اهتمامه برعاية الكنيسة رعاية صالحة، ومساهمته في يقظة أرثوذكسية محلية مباركة انبعثت ثمارها بعد وفاته.
ملاتيوس اللاذقية
هو ميخائيل بن موسى الدوماني الدمشقي، ولد في دمشق في الثامن من تشرين الثاني سنة 1837، ونشأ في دمشق والتحق بالمدرسة البطريركية فأخذ منها مبادئ اللغات العربية واليونانية والتركية والإيطالية. ومال بكل عواطفه إلى التوشح بالأسكيم فانتقل إلى المدرسة الإكليريكية البطريركية التي كانت آنئذ بإدارة الخوري يوسف مهنا، فاستنفد علومها. وقدم النذر في السنة 1857، ونال من البطريرك أيروثيوس التفاتا وعناية. فلما شخص البطريرك إلى الآستانة في 18 أيلول سنة 1858 كان ملاتيوس من خواص حاشيته، وهناك حل في مقام جليل لدى البطاركة الأربعة الملتئمين وقتئذ للنظر في تنظيم الكنائس على ضوء الخط الهمايوني ولحل المشكلة البلغارية وغير ذلك، فسامه البطريرك الأوروشليمي كيرلس شماسا بإدارة أيروثيوس البطريرك الأنطاكي وذلك في أحد العنصرة في 22 أيار سنة 1860. وعاد ملاتيوس مع معلمه سنة 1861 إلى بيروت، وقدر أيروثيوس أتعاب ملاتيوس ومواهبه فرقاه في درجات الكهنوت، فلما ترملت أبرشية اللاذقية سنة 1875 رشحه لرعايتها، وألقى الله في روع المطارنة فانتخبوه وسيم مطرانا على اللاذقية في 19 تشرين الثاني سنة 1865.
واستلم ملاتيوس مهام الأبرشية في أوائل السنة 1866 فجمع أوقاف الكنائس إلى قلم واحد وأسس مدرسة للذكور وخصص واردات الأوقاف للمدرسة، واعتنى بترميم الكنائس في اللاذقية وفي توابعها، فجدد سبع كنائس في الأبرشية. وفي السنة 1869 منحه السلطان الوسام المجيدي والملك جورج وسام المخلص الذهبي، ولمزيد اهتمامه بنشر العلوم الدينية أرسل على نفقته الأرشمندريت جراسيموس مسرة والأستاذ باسيل جبارة إلى مدرسة خالكي اللاهوتية فنالا شهادتها.
24
ميصائيل صور وصيدا
هو ابن الخوري صموئيل استبريان أيكونوموس كرسي اللاذقية من عائلة شريفة عريقة بالكهنوت تتوارثه أبا عن جد، وكانت ولادته في أول تشرين الثاني سنة 1828 في نفس مدينة اللاذقية، وتربى منذ الصغر على الآداب الأرثوذكسية، ونشأ على مبادئ الديانة القويمة يرضعها في بيت أبويه، ولما شب أرسله والده إلى دمشق حيث تلقى العلوم اللاهوتية على الخوري يوسف مهنا وغيره وباقي العلوم المدنية واللغتين التركية واليونانية وآداب اللغة العربية. وبعد أن أكمل دروسه أنفذه البطريرك أيروثيوس إلى دير البلمند ليدرس الرهبان العلوم اللاهوتية واللغتين التركية واليونانية. وذهب البطريرك إلى الآستانة للنظر في قضية البلغار مع أخيه القسطنطيني، ولدى وصوله إليها أنفذ له أمرا يطلبه ليكون في معيته مديرا للقلم العربي. وبإيعاز من البطريرك رسمه صفرونيوس مطران طرابلس شماسا إنجيليا في أيار السنة 1858. وعقيب ذلك لبى دعوة البطريرك وسافر حالا إلى الآستانة، وبقي بمعيته سنتين في الآستانة، فأتقن دروسه فيها وعاد مع البطريرك إلى دمشق. وكان البطريرك يعتمد على درايته وحسن مداركه في قضاء الأمور المهمة. وفي السنة 1862 أرسله إلى صور لأجل بناء كنيستها، فبقي في صور إلى أن أكمل بناء الكنيسة، وأرسله البطريرك إلى جهات مختلفة لفض المشاكل، فكان يتميز بالاستقامة وحسن السياسة. وفي أواخر السنة 1865 سافر البطريرك إلى الآستانة فترك ميصائيل وكيلا عنه في الكرسي البطريركي. وطال غياب البطريرك سنتين تقريبا فحل ميصائيل مشكلة كنيسة القديس يوحنا الدمشقي واسترجعها من يد الكاثوليك، وكان ذلك في أيام ولاية رشدي باشا الملقب بشرواني زارده. وعاد البطريرك إلى دمشق في حوالي السنة 1867 فأنفذ ميصائيل إلى مصر لقضاء بعض الأمور الطائفية، ثم توفي جراسيموس (طراد) متروبوليت صور وصيدا، فانتخب المجمع بناء على ترشيح البطريرك أيروثيوس الأب ميصائيل مطرانا على صور وصيدا، وتمت سيامته في المريمية في دمشق بحضور مثوديوس زحلة وصفرونيوس طرابلس وسيرافيم.
واتخذ ميصائيل حاصبيا مركزا لسكناه فذب فيها عن الطائفة صامدا في وجه المرسلين البروتستانت، وكان كثير التجول في أنحاء الأبرشية، رادا هجمات الطوائف الغربية، مصلحا شئون الرعية، باذلا بسخاء من وقته وماله.
غفرائيل بيروت
ولد في دمشق في الخامس من شباط سنة 1825 من أبوين أرثوذكسيين تقيين هما نعمة الله شاتيلا وتقلا مخلع، وكانت والدته ابنة بروتوبسلتي الكرسي الأنطاكي يوسف مخلع، وكان عماها مطرانين؛ أحدهما: أثناسيوس متروبوليت بيروت، والآخر: جراسميوس متروبوليت سلفكياس. وتلقى «جورجي» علومه الابتدائية في المدرسة البطريركية فأكملها في التاسعة من عمره، وبعدها أخذ في نساخة الكتب. وفي العاشرة دخل المدرسة البطريركية التي أنشأها البطريرك مثوديوس وعين لها معلما كاتبه يني بابا دوبولوس، فدرس جورجي فيها مبادئ اليونانية، ثم تجرد لاقتباس صناعة نسج الحرير. وفي الرابعة عشرة أخذه والده لمحل شغله في دمشق ليدربه بنفسه على أعماله وليتوكأ على همته في أشغاله التجارية. وبعد نصف سنة توفي الوالد فأخذ جورجي على عاتقه القيام بحاجات بيت أبيه وتربية أشقائه القاصرين. ثم شب أخوه فضل الله فاعتمد عليه في دمشق وشخص إلى القدس الشريف تبركا واستدرارا للفائدة التجارية، وذهب منها إلى إزمير فالآستانة لمهام تجارية.
وتوفي البطريرك مثوديوس وجورجي شاتيلا في الآستانة، فحضر حفلة تنصيب أيروثيوس. ولما رأى وداعة البطريرك الجديد وتقواه ألقى الله في روعه أن يكرس حياته لخدمته تعالى، فرغب إلى البطريرك الجديد بواسطة ديمتري شحاده أن يجعله راهبا ليكون بمعيته. وكان البطريرك أيروثيوس في حاجة إلى رجل يعرف العربية واليونانية ليكون كاتبا ومساعدا له في أشغاله، فضم غفرائيل إلى معيته وألبسه ثوب الرهبنة في أمطوش القبر المقدس في الآستانة في التاسع من آذار سنة 1851 وسماه غفرائيل بدلا من جورجي. وعاد أيروثيوس إلى دمشق وعاد شماسه معه ونفث الله في صدر غفرائيل أن يسعى لدى أيروثيوس بإنشاء مدرسة يتثقف بها فتيان وطنيون في العلوم الروحية تهيؤا للانتظام في سلك الإكليروس، فتكلل مسعاه بالنجاح وتألف فريق من اثني عشر تلميذا لهذه الغاية. واستقدم البطريرك معلمين للغة اليونانية أحدهما من إزمير والآخر من أثينا. وعين لمساعدة الخوري يوسف مهنا المعلم يوسف عربيلي والمعلم يوسف الدوماني. وفي أيلول السنة 1858 قام البطريرك إلى الآستانة فرافقه غفرائيل ونال عطف البطاركة الأربعة لما فطر عليه من الأمانة والتقوى والغيرة. وفي أيار السنة 1860 احتفل بخدمة القداس في أمطوش القبر المقدس في الآستانة البطريركان الأنطاكي والأوروشليمي، فسام أيروثيوس غفرائيل قسا، وسام البطريرك الأوروشليمي ملاتيوس (الدوماني) شماسا. وفي عيد الميلاد من السنة نفسها رقى أيروثيوس الأب غفرائيل إلى رتبة أرشمندريت وعينه رئيسا للأمطوش الأنطاكي في موسكو.
وقام غفرائيل من الآستانة إلى موسكو في الخامس من آب سنة 1861، وأقام هناك تسع سنوات، فجدد كنيسة الأمطوش وقام بمهامه بأمانة ونشاط وغيرة، فأحبه متروبوليت موسكو فيلاريتوس وشمله القيصر إسكندر الثاني بعطفه. واغتنم غفرائيل فرصة وجوده في روسية فأرسل كثيرا من الأيقونات التي يزدان بها أيقونسطاس كاتدرائية دمشق وجدرانها، وأرسل أيضا كثيرا من الأواني.
وفي السابع والعشرين من أيلول سنة 1869 اجتمع مطارنة الكرسي الأنطاكي في دير سيدة البلمند لانتخاب مطران لكرسي بيروت، فأجمع المطارنة على انتخاب غفرائيل، فأجاب شاكرا مستعفيا. ثم تكرر الطلب من البطريرك والشعب فدافع دون القبول نحوا من سنة ثم أحنى عنقه. وقام من موسكو إلى بيروت فوصلها في الثاني والعشرين من أيلول سنة 1870. وأم دمشق فسامه معلمه البطريرك أيروثيوس بمشاركة مثوديوس سلفكياس وميصائيل صور وصيدا وسيرافيم أيرينوبوليس. وتوسم الشعب خيرا، وسكنت عواصف الاضطراب والانقسام التي استغرقت خمس سنوات كانت فيها الأبرشيات مترملة.
وأول عمل قام به غفرائيل أنه دفع من ماله الخاص نحوا من خمسة وسبعين ألف غرش كانت ديونا على أديرة الأبرشية لا تكفي إيرادات الأديرة لدفع فائدتها، وأخذ يهتم في إصلاح أرزاق الأديرة وبناياتها وإيجاد الرهبان فيها منفقا من ماله الخاص حيثما يرى موارد الأديرة غير كافية.
وكان في أثناء إقامته في روسية قد ابتاع من ماله الخاص كثيرا من الأواني الكنسية والملابس الكهنوتية الجديدة فوزعها على كنائس الأبرشية. وتحقيقا لرغائبه في تعليم الإكليروس أخذ على عهدته مدرسة الطائفة الكبرى في بيروت، وأنفق عليها من ماله نحوا من ألف ليرة عثمانية ذهبا علاوة على إيرادها، ودعا إليها تلامذة من أبرشيته لينظمهم فيما بعد في ملك الإكليريوس، فنبغ من هؤلاء غريغوريوس حداد الذي أصبح فيما بعد مطرانا على طرابلس وبطريركا أنطاكيا. ومنهم أيضا مكاريوس صوايا، ثم أخرجت تلك المدرسة من يد غفرائيل، فأنشأ في السنة 1883 مدرسة إكليريكية على حسابه الخاص واتخذ لها مقرا في قلايته نفسها، وأنشأ أو جدد ثلاثين كنيسة وسام سبعة وسبعين كاهنا منفقا على أكثرهم مدة تعلمهم في قلايته. ومهد السبيل لإنشاء الجمعيات الخيرية، فأسس في السنة 1877 جمعية التعليم المسيحي لتتلو في أيام الآحاد على شبان الملة وأولادها فصولا من الكتاب المقدس وتآليف الآباء ومواعظ وخطبا دينية. وفي السنة التالية (1878) نظم جمعية القديس جاورجيوس للعناية بالمرضى وتدريب الممرضات، وأنشأ مستشفى القديس جاورجيوس. وفي السنة 1880 أسس جمعية زهرة الإحسان لتعليم البنات وتدريب الممرضات. وقامت في السنة 1882 جمعية القديس بولس لمساعدة كنائس الأبرشية والاعتناء بالكهنة.
نيقوذيموس عكار
هو نقولا بن قسطنطين زوغرا فوبولوس، ولد في الآستانة سنة 1839 وكان وحيدا لوالديه ومحبوبا منهما، وبعد ولادته ببضعة شهور توفيت والدته ثم والده فعاد يتيما، فأخذه إليهما عماه نقولا وباسيلي، فعاش عندهما نحوا من سنتين. وفي السنة 1854 سافر مع أحد أقربائه إلى القدس قاصدا الانتظام في سلك الرهبنة، فمثل لدى البطريرك كيرلس فأعجبته نجابته ولوائح ذكائه ونشاطه، فدفعه إلى مطران الأردن ليكون مبتدئا عنده، فأدخله هذا المطران في المدرسة الطائفية هناك، ولما أتم دروسه لبس الأسكيم. وفي السنة 1866 غادر القدس ذاهبا إلى وطنه مدينة القسطنطينية، فمر في ثغر بيروت ودفع إلى البطريرك الأنطاكي أيروثيوس تحارير كان قد سلمه إياها رهبان القدس يطلبون بها إلى البطريرك الأنطاكي أن يبقيه لديه ليتدرج في مراتب الكهنوت لما كانوا قد توسموه به من النشاط والاقتدار، فأمسكه البطريرك الأنطاكي لديه ولم يأذن له بالذهاب. وفي تلك السنة سيم خريسندوس (اليوناني) مطرانا على عكار، فأرسل البطريرك نيقوذيموس ليكون شماسا عنده. وفي السنة 1867 سام خريسندوس الراهب نيقوذيموس شماسا. وفي السنة 1870 سامه كاهنا وأرسله رئيسا على دير القديس ضوماتيوس في قضاء الحصن، فأقام هناك ست سنوات. وفي السنة 1876 سيم أرشمندريتا ورئيسا على دير مار إلياس الريح في قضاء صافيتا ووكيلا عن المطران في جميع أشغال الأبرشية، وبقي هناك ثماني سنوات. وفي سنة 1884 توفي خريسندوس فعهد أيروثيوس بالوكالة على الأبرشية إلى نيقوذيموس.
ويلاحظ هنا أن بعض رجال الإكليروس اليوناني الذين تسلموا كراسي الأبرشيات الأنطاكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا مثال التقوى والصلاح، وأنهم خدموا الكنيسة الأنطاكية خدمة مسيحية كاملة؛ فالسيد بنيامين متروبوليت غفرائيل وسلفه كان من التقوى والغيرة والفضيلة على جانب عظيم، والسيد أيوانيكيوس متروبوليت طرابلس كان متوشحا بالعفاف متجملا بأفضل الصفات المسيحية، وأجمعت الألسن على غيرة الأرشمندريت أغاثنجلوس يمين مثوديوس البطريرك، وعلى طهارته ورأفته وتكريس حياته لخير الكنيسة. وأجاد بعضهم اللغة العربية؛ فأنثيميوس متروبوليت صيدا وضع قاموس مفردات بين اليونانية والعربية، ونيكيفوروس متروبوليت حماة خط المزامير بالعربية بيده، وباخوميوس متروبوليت صيدنايا استنسخ الإنجيل بالعربية.
أيروثيوس والعلوم الإكليريكية العالية
وترفع أيروثيوس عن النعرة الجنسية، فأوفد إلى مدرسة خالكي ومدارس روسية من الإكليريكيين الوطنيين من عاد إلى كنيسة أنطاكية ودافع عنها ورفع شأنها، فإنه علم في السنة 1870 بنجاح أسعد عطا الله في مدرسة سوق الغرب الأرثوذكسية التي كان يديرها المعلم يوسف عربيلي، وتثبت البطريرك من نبالة أسعد ودماثة أخلاقه فضمه إلى بطانته متوسما به أن يكون من متقدمي خدمة الأسرار الإلهية، ووشحه بالأسكيم وأخذه إلى دمشق وألحقه بالمدرسة البطريركية. وفي السنة 1871 سامه متوحدا وأطلق عليه اسم المجاهد العظيم عن الإيمان القويم أثناسيوس. وفي السنة 1872 رسمه شماسا إنجيليا وصحبه معه إلى الآستانة، ثم أذن له في 1879 أن يلتحق بمدرسة خالكي. وفي السنة 1883 سامه أرشمندريتا ورأسه على دير مار إلياس الشوير، فأقام فيه ثلاث سنوات متفانيا في الخدمة، وجمع لديه فريقا من التلامذة أعدهم للرهبنة ودرسهم بنفسه اللغتين اليونانية والعربية والموسيقى والحساب والجغرافية؛ منهم الخوري موسى مرهج الشويري.
جراسيموس يارد (1840-1899)
وزار أيروثيوس البطريرك راشيا في السنة 1851 فتقدم منه الولد الأرثوذكسي جورجي أسبر يارد والتمس إلحاقه بمدرسة دمشق البطريركية فوعده بذلك، ولما عاد البطريرك إلى دمشق طلب جورجي إليه وأدخله إلى المدرسة، فدرس العربية واليونانية على الخوري يوسف مهنا. وفي السنة 1858 انتدب معلما لمدرسة حماة الأرثوذكسية فأظهر من براعة التعليم والتهذيب ما خلد له الذكر الحسن في تلك المدينة. ثم رأى البطريرك أن يزيد علم هذا الشاب النابغة فألبسه الأسكيم ودعاه جراسيموس وألحقه بخالكي سنة 1860 ثم بامطوش موسكو سنة 1861. وفي السنة 1862 التحق جراسيموس بمدرسة موسكو الإكليريكية فأتم دروسه القانونية فيها سنة 1868، ومن ثم دخل كلية بطرس برج العليا فحاز قصب السبق على أقرانه وأكمل العلوم اللاهوتية والفلسفية وأتقن لغات أوروبية جديدة. وفي السنة 1872 نال الشهادة الرسمية من الصنف الأعلى وسمي أستاذا لمدرسة بسكوف، ثم اختير رئيسا لمدرسة ريغا في فنلاندة، ثم أستاذا لتاريخ الكنيسة الشرقية في مدرسة بطرسبرج، فبحث وصنف في مواضيع متعددة، وخص فوطيوس العظيم بشطر وافر من وقته فوضع كتابا في هذا الموضوع لا يزال مرجعا من أفضل المراجع حتى يومنا هذا.
25
وكان يلقي المواعظ والخطب في الكنائس الروسية الكبرى والمحافل والأندية، فيحتشد ألوف مؤلفة لاستماع عظاته النفيسة وخطبه البليغة. وسنة 1883 انتقاه نيقوذيموس البطريرك الأوروشليمي واعظا للكرسي الأوروشليمي. وسنة 1885 جاء بمعية هذا البطريرك إلى بيروت فارتقى منبر الكنيسة الكاتدرائية وفسر خبر جريح اللصوص فأدهش الجمهور.
البطريرك جراسيموس (1885-1891)
وأقام السيد أيروثيوس على المنصة البطريركية الأنطاكية خمسة وثلاثين عاما، ثم دعاه الله إلى شيخوخة متناهية فخلا مكانه في السنة 1885. واجتمع الأساقفة للنظر فيمن يخلفه، وأراد بعض الوطنيين منهم أن يشركو الشعب في الانتخاب فنابذهم غفرائيل متروبوليت بيروت، فاحتكموا للناموس، وعند مطالعته لم يجدوا قانونا يخول الشعب حقوق التدخل، فقال أغابيوس (صليبا) إنه وارد لأحد الشراح رأيا خصوصيا لا قانونيا كنسيا، وأحضر الحاشية المشار إليها؛ وعندئذ قرر المجمع أن يرشح من يريد كالسابق ثم يظهر اسم المرشحين لعقلاء الشعب (الأراخنة) ليظهروا ما لديهم حتى إذا لم يكن للشعب ما يقال يظل للمجمع ملء الحرية. ومن تلك السنة؛ أي سنة 1885 سرت هذه العادة في الكنيسة الأنطاكية.
26
وخشيت المقامات اليونانية الإكليريكية أمر ترشيح إكليريكي وطني فنقلوا إلى السلطات العثمانية أن الوطنيين يميلون إلى الروس، وتدخل يواكيم الرابع البطريرك المسكوني ونيقوذيموس البطريرك الأوروشليمي في أمر الانتخاب فأيدت السلطات العثمانية ترشيح جراسيموس متروبوليت سكيثوبوليس (بيسان)، فتم انتخابه في 29 أيار سنة 1885، وصدرت البراءة السلطانية به بطريركا على أنطاكية وسائر المشرق،
27
ويرى بافييذس المؤرخ اليوناني أن الدعاة الروسيين كانوا منذ منتصف القرن التاسع عشر قد بدءوا يثيرون نعرة عنصرية علمانية في أبرشيات الكرسي الأنطاكي
28
ما فتئت أن ذرت قرنها في انتخاب جراسيموس ثم في إسقاط اسبيريدون:
باسم الإله المثلث الأقانيم غير المنقسم، قد التأمنا نحن مطارنة الكرسي الرسولي الأنطاكي المقدس في كنيسة دمشق الكاتدرائية التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم. وبناء على ما تقرر في الجلسات الأولى من عمل الانتخاب شرعنا في الانتداب قانونيا وفي وسطنا أيقونة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الطاهرة؛ لإيجاد وانتخاب شخص فيه الأهلية واللياقة لضبط زمام الكرسي الرسولي البطريركي الأنطاكي المقدس، والقيام بمهامه روحيا وزمنيا، فوضعنا أولا اسم قدس أخينا جراسيموس مطران بيسان الكلي الطهر من مطارنة الكرسي الرسولي البطريركي الأوروشليمي المقدس، وثانيا قدس أخينا يوحنا مطران قيسارية الجزيل الوقار من مطارنة الكرسي الرسولي القسطنطيني المقدس، وثالثا اسم قدس أخينا فيلوتاوس مطران إزمير الجزيل طهره من مطارنة الكرسي القسطنطيني أيضا، الذين أدرجت أسماؤهم في هذا السجل البطريركي الشريف؛ لبيان دائم وإيضاح ثابت. وبعد التضرع والابتهال إلى إلهنا العظيم واستمداد روحه القدوس وإعطائنا انتدابنا السري القانون وقع الانتخاب بصوت عمومي على قدس جراسيموس مطران بيسان الكلي الطهر، فقدمنا لله الضابط الكل الشكر القلبي، وبادرنا بتقديم التلغراف الإشعاري لسيادة المنتخب الموما إليه ممضيا من جميعنا. وقد صار هذا الاجتماع يوم الأربعاء الواقع في 29 شهر أيار سنة 1885 مسيحية في دمشق الشام المحمية.
التواقيع: ملاتيوس مطران اللاذقية، سيرافيم مطران أيرينوبوليس ونائب بائيسيوس مطران أرضروم، ميصائيل مطران صور وصيدا، غفرائيل مطران بيروت ولبنان ونائب صفرونيوس مطران طرابلس، أغابيوس مطران أداسيس، جرمانوس مطران ترسيس واطنة، خريسانتوس مطران عكار، مثوديوس مطران زحلة ونائب جرمانوس مطران حماة.
29
وأبصر جراسيموس النور في استروس في شبه جزيرة المورة في الثامن عشر من آب سنة 1839، ونشأ نحيف الجسم حاد الذكاء رقيق المعاشرة لطيفا لبقا، وتحلى بالعلوم الإكليريكية العالية وأجاد اليونانية والتركية وتكلم العربية، وأحبه مطارنة الكرسي الأنطاكي وتعاونوا معه، وأحب هو كنيسة أنطاكية وتمنى لها النجاح والرقي. وتعاون مع الشعب فنظم مجلسا مليا بطريركيا وسام عددا من المطارنة الأكفاء وأحب الأرشمندريت أثناسيوس عطا الله ورغب إليه أن يقيم لديه ليكون يده اليمنى وأذنه المستمعة أصوات الرعية، وعينه الباصرة حاجات الشعب، وأبقاه عنده خمسة أشهر. غير أن لجاجة الشعب في حمص وتوابعها وتعلقهم بأثناسيوس جعل البطريرك يرشحه لكرسي حمص. وسامه مطرانا عليها في 25 آذار سنة 1886، وفي هذه السنة نفسها رقد بالرب السيد جرمانوس (زيوت) متروبوليت حماة، فرفع المؤمنون الحمويون عريضة إلى البطريرك يلتمسون بها الأرشمندريت غريغوريوس جبارة راعيا لهم، وكان جراسيموس يتجول في تفقد شئون الأبرشيات فلما وصل إلى طرابلس اجتمع لديه عدد من المطارنة للمذاكرة، فجرى ترشيح غريغوريوس وأخذت أصوات الحاضرين والغائبين كالسيد نيقوذيموس مطران ديار بكر، فأصابت الدعوة الإلهية غريغوريوس فشخص البطريرك إلى اللاذقية وسامه مطرانا على حماة وتوابعها في شباط السنة 1887. وفي السنة 1889 توفي بيسوع خريسنذوس (صليبا) متروبوليت عكار ومتوديوس (صليبا) متروبوليت سلفكياس. وكان نيقوذيموس محبوبا جدا من الشعب في عكار، وكان قد قضى خمس سنين يقاسي أمر العذاب في كرسي ديار بكر فانتخبه المجمع مطرانا على عكار، وانتخب المجمع جراسيموس (يارد) واعظ الكرسي الأوروشليمي مطرانا على سلفكياس، فسامه البطريرك بالاشتراك مع أغابيوس (صليبا) متروبوليت أداسيس وسيرافيم متروبوليت أيرينوبوليس، وذلك في الكنيسة المريمية. وفي يوم عيد البشارة سنة 1889، وكان الشقاق قد ثار في طرابلس في آخر أيام راعيها صفرونيوس (نجار)، فلما مضى مستقبلا وجه البقاء ثارت عواصف المخاصمات، فانتقى البطريرك جراسيموس الشماس غريغوريوس حداد قائدا لسفينة طرابلس في أيام محنتها، فأحسن الانتقاء للمرة الخامسة. وكان غريغوريوس لا يزال في بيروت فسامه غفرائيل قسا ونال نعمة رئاسة الكهنوت في العاشر من أيار سنة 1890 من يد البطريرك جراسيموس بمشاركة السيدين سيرافيم ونيقوذيموس، وهل يقال فيمن ينتدب هؤلاء الرجال الكبار إلى الكراسي الشاغرة إنه غير مكترث للمسئولية الملقاة على عاتقة؟! وهل يقال إنه آثر اليونانيين على الوطنيين بعد هذا الانتقاء؟
الأنوار في الأسرار
ومن مآثر هذا البطريرك اليوناني أنه اعترف بعلم الشماس جراسيموس مسرة وفضله، فشجعه على أداء رسالته ومنحه لقب «واعظ الكرسي الأنطاكي». وكان ملاتيوس متروبوليت اللاذقية قد استنشق في جرجي ابن اسبيريدون مسرة في اللاذقية نسيم أمل فدعاه لتكريس النفس في خدمة الله، فلبى وترك بيت أبيه في صيف السنة 1873 وتوشح بالأسكيم باسم جراسيموس يوم عيد الميلاد من السنة نفسها. ثم توسم ملاتيوس في هذا الراهب مستقبلا جيدا فأرسله في صيف السنة 1875 إلى القسطنطينية ليلتحق بمدرسة خالكي منيطا بالعناية فيه الشيخ ديمتري شحاده نزيل القسطنطينية آنئذ، وعاد جراسيموس إلى اللاذقية في صيف السنة 1879 فسامه معلمه شماسا إنجيليا يوم عيد الرب، ثم دفتريفونا لكرسي اللاذقية، وعاد الشماس جراسيموس إلى خالكي وأتم دروسه فيها ونال شهادتها في السنة 1882 ممضية من رئيس المدرسة ومصدقة من البطريرك المسكوني يواكيم الثالث، وهي أول ديبلومة نالها سوري من تلك المدرسة، ثم عاد إلى اللاذقية وأقام في خدمة كنيستها سنتين فدعاه أيروثيوس السعيد الذكر ليستلم إدارة القلم اليوناني في البطريركية، وجاء البطريرك جراسيموس فسماه في أحد العنصرة سنة 1886 في حفلة حافلة في الكاتدرائية المريمية واعظ الكرسي الأنطاكي.
30
ولما كانت الكتب الدينية الغريبة عن روح الكنيسة الأرثوذكسية قد تكاثرت في البلاد العثمانية واللغة العربية وكانت أيادي العلماء تتداولها ويقرؤها الفقهاء والبسطاء، ولما كانت الكتب الأرثوذكسية الموضحة صحيح التعليم والمفندة ما بعد عن الرأي القويم قليلة العدد؛ حيث وجدت لانحصار ما وجد منها خطا ببعض أفراد أو لا وجود لها مطلقا في أكثر الأنحاء والبلاد. ولما كانت الخدمة في نشر الحقائق الدينية القويمة فرضا واجبا ومعاضدة أبناء الكنيسة الأرثوذكسية دينا لازبا؛
31
هب هذا المعلم في اللاهوت لخدمة كنيسة أنطاكية بالتأليف والتعريب لنشر تعليم الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية، فنشر أولا رسالة أفجانيوس البلغاري المعروفة بالبينات الجليلة، وأتبعها بكتاب جليل عنوانه «الأنوار في الأسرار» وطبعه بالمطبعة اللبنانية في بيروت سنة 1887.
وقال جراسيموس مسرة في تقديم هذا الكتاب: إنه لما كانت أسرار الكنيسة السبعة موضوع اختلافات متعددة بين الكنيسة المقدسة الجامعة وبين سواها من الكنائس، رأى أن يجعل مقدمة خدمته الدينية كتابا في الأسرار السبعة، يبحث فيها إجمالا وفي كل منها أفرادا نشأتها وتاريخها وما أحدث فيها وابتدع، فطالع وقابل ما كتبه في ذلك أشهر المؤلفين الكنائسيين من شرقيين وغربيين أرثوذكسيين وغير أرثوذكسيين، وعد منهم ما عدا القدماء أرميا بطريرك القسطنطينية وغفرائيل مطران فيلادلفية وسمعان التسالونيكي ويوحنا الدمشقي ومكاريوس مطران موسكو، واعتراف الرأي القويم ورسالة البطاركة والتعليم المسيحي وكتب الخدمة، فجاء كتابا مستوفي الشروط وافيا بالمقصود.
وفي السنة 1888 دعاه بطريرك الإسكندرية لخدمة الكنيسة السورية في الإسكندرية فسامه البطريرك الأنطاكي قسا، ثم أرشمندريتا في 21 تشرين الثاني من هذه السنة. وفي آذار السنة 1889 جعله البطريرك صفرونيوس الإسكندري معلما للاعتراف في كنيسة القديس مرقس، وفي حزيران السنة التالية انتخبه المجمع الأنطاكي مطرانا لحلب، ولكنه لم يلب الدعوة «لاعتبارت صحية».
استقالة البطريرك جراسيموس (1891)
واستقال نيقوذيموس البطريرك الأوروشليمي في السنة 1890 وارتحل إلى القسطنطينية وأقام بها، فلبث الكرسي شاغرا مدة إلى أن اجتمع السينودس بعد انقضاء الأعياد الميلادية، وبينما كان الناس في حدس من أمر المنتخب شاع الخبر وتناقلته الجرائد أن لجراسيموس البطريرك الأنطاكي حظوة في السنودس الأوروشليمي. وفي منتصف آذار السنة 1891 وردت برقية على جراسيموس من سينودس أوروشليم تبشره بانتخابه بطريركا على أم الكنائس، فأمر البطريرك باجتماع قوميسيون الملة، وانتدب بعض الأعيان أيضا. وحضر الاجتماع أغابيوس متروبوليت أداسيس وسيرافيم متروبوليت أيرينوبوليس وجمهور الكهنة، فأبلغهم البطريرك خبر انتخابه، وطلب إليهم المذاكرة فيما يرونه موافقا لمصلحة الكرسي أولا ولمصلحة الكرسي الأوروشليمي ثانيا. فأجمع الحضور على عدم الموافقة واستعطفوا البطريرك إلى رفض الانتخاب. وفي الغد أبرق البطريرك إلى المجمع الأوروشليمي يشكر ويقول إن قبوله موقوف على رضا الكنيسة الأنطاكية وموافقة الحكومة. وفي اليوم التالي عاد القوميسيون إلى الاجتماع وقرر الإبراق إلى المطارنة بعدم الموافقة وبوجوب الالتماس إلى من يلزم بهذا المعنى. وشفع القوميسيون هذه البرقية برسالة عمومية أفصح بها وأوضح:
غب المصافحة الأخوية واستمداد الدعاء نعرض. قد ورد تلغراف منا لسنودس الروحي بأوروشليم المقدسة لغبطة بطريركنا الكلي القداسة يعلن انتخاب غبطته بطريركا للكرسي الأوروشليمي المقدس. وبما أن انتقال غبطته من الكرسي الأنطاكي في الأيام الحاضرة والقيام بانتخاب خلف لغبطته موجب لأتعاب كلية تذهب براحة الكرسي الأنطاكي عموما والشعب الأرثوذكسي في دمشق خصوصا، وبما أن غبطته حين بلغه تقديم أسماء المرشحين للبطريركية الأوروشليمية ووجود اسم غبطته بين أسماء المرشحين حرر لمقام الصدارة العظمى يبين لزوم وجوده في الكرسي الأنطاكي، ويستدعي الالتفات لما ينشأ عن انتقاله. وبعد ورود تلغراف الانتخاب لغبطته من السينودس الأوروشليمي المقدس حرر أن قبوله موقوف على رضا وقبول الحكومة السنية والكرسي الأنطاكي المقدس، وبما أن تصرف غبطة بطريركنا المشار إليه بصورة موافقة للرضا العالي قد أوجب التفات ورضا الحكومة السنية حتى الآن ونحن في راحة نرغب بقاءها، تقرر في اجتماع عقد بتاريخه تقديم عريضة للحكومة السنية نبين فيها ما ذكر ونطلب إبقاء غبطته على الكرسي الأنطاكي ومخابرة سيادتكم بهذا الشأن. وعليه بادرنا لتقديم تحريرنا هذا نبين فيه رغبتنا في بقاء غبطة بطريركنا قياما بواجب الاحترام المفروض، ومحافظة على الراحة ومنعا للأتعاب التي يخشى وقوعها على فرض اضطرار الكرسي الأنطاكي المقدس للقيام بأعباء انتخاب خلف. فنرجو من سيادتكم أن توافقوا المركز في حاساته هذه وإجراء المخابرات اللازمة بسرعة حذرا من فوات الوقت. في 2 مارت (شرقي) سنة 1891، أخوكم بالمسيح سيرافيم مطران أيرينوبوليس، أغابيوس مطران أداسيس، الأرشمندريت أثناسيوس أبو شعر الخوري، عبد الله القصعة الخوري، ميخائيل كركر أولادكم يوسف طنوس، عبده عجمي، جرجي رومية، مخايل صيدح، جبرائيل أسبر أمين أبو شعر، جبرائيل شامية، سمعان لاذقاني، نعمان أبو شعر، جبران لويس، ميخائيل كليلة.
ورفع القوميسيون عريضة موقعة من المطارنة والأراخنة إلى والي سورية يظهرون بها امتنانهم من البطريرك جراسيموس، وأنهم في راحة يرغبون استمرارها، وأن انتقال البطريرك للكرسي الأوروشليمي مقيد باتفاق الكنيستين لا بإحداهما فقط، وعليه يلتمسون من دولته مخابرة من يلزم في توقيف الانتخاب. وحمل هذه العريضة إلى الوالي المطرانان سيرافيم وأغابيوس وبعض الوجهاء، فرحب بهم الوالي وأعرب عن استحسانه وقال: إن دمشق بأسرها تأسف لفراق رجل لطيف محب مثل غبطته. وأسرع فرفع العريضة إلى الصدارة العظمى. وبعد يومين جاء والي سورية إلى البطريركية وبلغ البطريرك والوجهاء أن الصدارة ترى ذهاب البطريرك مناسبا وموافقا نظرا لأهمية المركز وثقة الدولة بالبطريرك، وأنه يحب اتخاذ الاحتياطات اللازمة في انتخاب خلف بكل راحة.
وبعد انصراف الوالي عجل البطريرك في استقدام المطارنة، وعين السابع عشر من آذار حسابا شرقيا موعدا للمذاكرة في شئون الطائفة وما يئول إلى صالح الكنيسة وخيرها. وتقاعد المطارنة إلا أحدهم؛ السيد نيقوذيموس متروبوليت عكار، فاستعد البطريرك للسفر وأنفذ خبرا إلى الوفد المقدسي يستقدمه إلى دمشق، فجاء هذا الوفد وفيه بتريكيوس مطران عكة والأرشمندريت فوطيوس الصغير.
وفي الثامن والعشرين من آذار حسابا شرقيا استدعى البطريرك المطارنة والكهنة وأعضاء القوميسيون وتلا على مسامعهم استعفاءه من الكرسي الأنطاكي، وأمر أن يدرج في سجل البطريركية، فأدرجوه ووقع عليه بخط يده، وأهم ما جاء فيه ما يلي:
إن ارتباطنا عظيم من الكنيستين، ففي الأولى ولدنا وتربينا وكبرنا، وفيها قصصنا شعر رأسنا ولخدمتها تركنا العالم، وأقسمنا بأننا سنكون منصبين إليها حتى آخر نسمة من حياتنا، وفي الثانية نخدم بأمانة وكنا نؤمل أن كل حياتنا ستصرف لأجلها. تلك أمنا تستدعينا وهذه تملك عقلنا وقلبنا وفؤادنا، فما العمل؟ أنخالف الرحمة الإلهية؟ حاشا وكلا! «إن كنا نعيش بالروح فللروح نخضع.» وكيف نناقض نعمة الله طالما الرسول يصرخ: «لا أناقض نعمة الله!» وهكذا بحسب قوانا الضعيفة، وبحسب إرادة ذاك الذي قوته بالضعف تكمل نؤمل في أننا نساعد على خدمة ليست مختصة بهذه الكنيسة فقط أو بتلك، بل شاملة كل جسد الكنيسة التي نحن أعضاؤها متحدين بجسم واحد تحت رأس واحد إلهنا ومخلصنا وربنا يسوع المسيح. وبانفصالنا عنكم نرجوكم ونعظكم قائلين: احترسوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم فيها الروح القدس أساقفة وارعوها بخوف الله وبمحبة الرعية، واهربوا بكل اجتهاد من كل مستجد يزعج سلام الكنيسة والنظام السائد فيها بدون أن تنسوا اللعنة التي وضعها الرسول بولس معلم هذه الكنيسة ضد من يخترع أمورا مستجدة ويدخل غير ما تسلمتموه واحفظوا الوديعة سالمة.
وفي السابع من نيسان احتفل البطريرك بقداس حبري، وبارك الشعب في ختامه واستودعه الله، ثم ركب وبطانته والوفد الأوروشليمي العربات قاصدين بيروت، وساروا توا إلى شتورة حيث قضوا الليل، فلقيهم فيها جراسيموس (يارد) متروبوليت زحلة وتوابعها، ففند للبطريرك قوله في الاستعفاء، وأكد له أن لا مجمع ولا كنيسة يمكنها إرغامه على قبول الانتقال من كرسي إلى آخر طالما هو مستو على الكرسي الرسولي الأنطاكي، وأن حجة غبطته في وجوب الرضوخ إلى إرادة الباب العالي واهية. وتابع البطريرك السير فوصل بيروت مساء الإثنين. ويوم الأربعاء العاشر من نيسان ركب الباخرة الخديوية إلى يافة، وقام على وداعه أهالي بيروت أحسن قيام فشيعوه حتى البحر مستمطرين بركاته وداعين له بالسلامة.
تسرع الأب هنري موسه
وفي السابع عشر من نيسان سنة 1891 أدرجت صحيفة النيولوغس اليونانية رسالة صدرت عن بيروت وتضمنت خبر استعفاء البطريرك. ومما جاء في هذه الرسالة أن شعائر الشعب الأنطاكي تحركت، وأنهم بكوا لما علموا أن بطريركهم استعفى، وأن البطريرك توجع قلبه وتمزق، ولكنه قضى ست سنوات «في أرض قحلة غير مضيفة الغريب»، فانبرى للرد على هذا الكلام الأخير سليمان الجهيني فأثبت في كتابه «الخلاصة الوافية» وفي الصفحة 19 ما دخل على البطريرك جراسيموس مدة وجوده في الكرسي (1885-1891)، فجعله نقلا عن السجل البطريركي 11493 ليرة عثمانية، وقال: إن الكرسي الأنطاكي فقير بالنسبة إلى الكرسي الأوروشليمي.
وتولى الأب هنري موسه الأبيض تدريس التاريخ الكنسي في مدرسة القديسة حنة في أوروشليم وأعد كتابا في موضوعه أسماه «تاريخ النصرانية»، ولا سيما في الشرق، وأتى في الجزء الثالث على تاريخ الكرسي الأنطاكي في القرن التاسع عشر فجعل هم البطاركة الأرثوذكسيين جمع المال ونقله إلى ذويهم، وقال عن جراسيموس الطيب الذكر: «إنه جز الرعية ونبهها فخطف من دمشق أحد عشر ألف ليرة عثمانية.»
32
والواقع أن هذا المبلغ يمثل دخل الكرسي في ست سنوات ولا يشمل النفقات، وكان يجدر بهذا الأب الفاضل رحمه الله أن يذكر أن مثل هذا التسرع لا يقرب وحدة الكنيسة، وأن العلاج الوحيد لجمع الصفوف هو المحبة تلك التي «تتأنى وترفق ولا تظن السوء»!
دخل الكرسي البطريركي (1885-1891)
وقد يفيد أن نفصل الكلام في هذا الموضوع، فقد بلغ مجموع دخل الأوقاف في بساربية في هذه السنوات الست 1613 ليرة عثمانية، وريع الأديرة البطريركية 1658 ليرة ومن مطارنة الكرسي 171 ومن دمشق والميدان 369، ومن الجولة الرعائية 838 ومن القداسات 451 ومن كوبونات عثمانية 62، ومن براءات ووسامات 136، ومن راتب دولة اليونان 2239، ومن حسنات للمدرسة الإكليريكية 227، ومن حسنات من روسية 186، ومن أخوية القبر المقدس 1803، ومن بيوع متفرقة 447، ومن أنطاكية 195، ومن حسنات لكنيسة كفر مشكي (سنة 1886) 61، ومن حوالات 355، ومن حسنة من الغراندوقات الروس 54، ومن مطران سلفكية 25، ومن دير موسكو 13، ومن وقفية في روسية 38، ومن ديون جرى استقراضها 172، ومن فضلة رصيد 873.
الفصل السابع
اسبيريدون وملاتيوس
سيرافيم القائمقام البطريركي
ولدى خروج البطريرك جراسيموس من دمشق دعا المطارنة الثلاثة سيرافيم وأغابيوس ونيقوديموس وجوه الطائفة وكهنتها إلى اجتماع يبحثون فيه أمر تعيين قائمقام بطريركي، فرغب البعض السلوك في ذلك بموجب القوانين الكنسية؛ أي بتفويض مطارنة أبرشيات الكرسي في تسمية من يشاءون، فعارضهم في ذلك فريق أصر على تسمية السيد سيرافيم؛ لأنه أكبر المطارنة سنا، ولأنه سبق أن قام بالوكالة بعد وفاة الطيب الذكر البطريرك أيروثيوس، وكتب سيرافيم بذلك إلى أساقفة الكرسي لاستجلاب موافقتهم فأجاب بعضهم موافقا ولزم آخرون الصمت، ثم قدمت عريضة بذلك إلى الوالي فرفعت لمحلها وصدق عليها .
تشاغل الأفكار في انتخاب الخلف
واتجهت بعض الخواطر إلى انتخاب البطريرك الجديد من أساقفة المجمع الأنطاكي، وإن تعذر ذلك لاختلاف يقع بين الأساقفة يلجأ إلى انتخاب يواكيم الرابع البطريرك القسطنطيني المستقيل أو أحد أساقفة الكرسي القسطنطيني. وقال آخرون بانتخاب البطريرك بين أساقفة الكرسي الأوروشليمي، وكان قد ساعد على هذا القول البطريرك جراسيموس نفسه. وأضاف هؤلاء أن الكرسي الأنطاكي فقير، وأن حاجاته متنوعة متعددة، وأن الأولى تفضيل رهبان القبر المقدس، وفيهم جماعة قد ادخروا الأموال، «فإن أتينا بأحدهم كفانا مئونة الفقر والحاجة»، وخصوا بالذكر أنتيموس مطران بيت لحم وبتريكيوس مطران عكة واسبيريدونس مطران طابور.
الجرائد اليونانية
وبينما كان الشعب الأنطاكي ينتظر التئام الأساقفة كانت الجرائد اليونانية تدعو لانتخاب يوناني للكرسي الأنطاكي. وبين هذه الجرائد جريدة النيولوغس وجريدة بالينيكيسيا في أثينا وجريدة ميثارثيميسيس في الإسكندرية، وجاء في هذه الجريدة الأخيرة في عددها الصادر في الرابع من حزيران سنة 1892 أن الأنطاكيين يرغبون في أن يروا مطرانا وطنيا يرأسهم، ولكن هذه الرغبة لا تتفق ومصلحة الكرسي الأنطاكي والكنيسة جمعاء والملة اليونانية؛ وذلك للأسباب التالية: (1) لأنه لا يوجد وطني لاهوتي والكنيسة الأنطاكية في حاجة إلى فصاحة يوحنا الذهبي الفم وقوة فوطيوس لتقاوم بهما الدعايات التي تحيط بها. (2) لأنه يتعذر على الوطني أن يسطو على من يعرف أصله وفصله. (3) لأن رئيس هذا الحزب أو ذاك له أضداد يقاومونه. (4) لأنه يتعذر على بطريرك وطني التوفيق بين مصالح رعيته ورغبات الباب العالي.
ملاتيوس اليافاوي
وجاء بيروت تاجر يوناني اسمه ملاتيوس يدعو لاسبيريدون متروبوليت طابور، واتصل بقنصل اليونان المسيو ماريناكي وبخليل الخوري «مأمور بوليتيكة ولاية سورية وترجمانها». وتفاوض هؤلاء الثلاثة في الأمر وأشاروا بقيام أحدهم - ملاتيوس - إلى دمشق وباتصاله بوكيل قنصل اليونان فيها وببعض وجهاء الروم، ففعل ملاتيوس واتصل وسرت إشاعة في دمشق أن اسبيريدون مستعد لشراء عقار في دمشق بمبلغ عشرة آلاف ليرة ولحبسه على الكرسي الأنطاكي وقفا مؤبدا.
الأرثوذكسيون جميعهم واحد
وخرج عاصم باشا والي سورية يتفقد أنحاء الولاية، فجاء المعلقة مركز قضاء البقاع. ووفد عليه جراسيموس (يارد) العالم مسلما مهنئا، فرحب به الوالي وأخذا في الحديث إلى أن أتيا على ذكر الانتخاب البطريركي، فقال الوالي: أظن أن الانتخاب سيجري في وقت قريب؟ فأجابه جراسيموس: نعم، سيجتمع المطارنة في دمشق لهذه الغاية. فقال الوالي: أظن لا يخلو الانتخاب من بعض الصعوبات؟ فأجاب المطران: لا بد من الصعوبات، ولكنها ستذلل بتوجيهات الدولة. فقال الوالي: تسهل إذا بقي القديم على قدمه، وقد جرت العادة أن ينتخب غريب لهذه الوظيفة، ولا يجب الخروج عن هذه الخطة! فأجاب جراسيموس جوابه التاريخي: «لا يوجد بين الأرثوذكسيين غريب وقريب؛ لأن الكل واحد، وهم جميعا متساوو الحقوق، ولا شك في أنه يجب أن يكون المنتخب ذا خبرة في الأمور عارفا مشرب البلاد ولغة الأهالي متعلقا أشد التعلق بالأريكة العثمانية، يفرح لفرح الأهالي ويبكي لبكاهم.»
وبينما كان عاصم باشا في المعلقة جاءه خليل أفندي الخوري قادما من بيروت ليعرض على مسامعه أشياء وأشياء كان قد اتفق عليها مع قنصل اليونان ورسول اسبيريدون.
ملاتيوس وخليل
ورحل خليل على عجل وأقبل على دمشق قبل وصول المطارنة بيوم واحد، ولم يلبث أن وافاه إلى فندق فيكتورية ملاتيوس رسول اسبيريدون وأقاما في دار واحدة يجتمعان في كل آونة، وحمل ملاتيوس تعهدا خطيا من اسبيريدون إلى جبرائيل أفندي اسبر بالعربية أنه إذا تمت المسألة يدفع المبلغ، وأرفق سفتجة بعشرة آلاف ليرة من محل فروتيكر في القدس لأمر اسبيريدون فلم تحظ قبولا، فكتب ملاتيوس إلى القدس فجاءت سفتجة بالإفرنسية من محل فروتيكر مفادها أن اسبيريدون أودع المحل المرقوم عشرة آلاف ليرة فرنساوية تحت أمره. وأمر جبرائيل أفندي اسبر وإلياس أفندي قدسي حتى إذا صار انتخابه للبطريركية تدفع بواسطة البنك العثماني في بيروت يوم تثبيت الانتخاب، وتستخدم في اقتناء عقارات بمعرفة لجنة مخصوصة تحت رئاسة الواهب مؤلفه من كبار الإكليروس والعامة لنفع الكرسي.
الدعاية لاسبيريدون
وطفق الوجوه يخابرون من اجتمع بدمشق من المطارنة ويستطلعون أفكارهم، وأجهدوا النفس في الدعاية لاسبيريدون لكثرة ماله وما يترتب على ذلك من النفع للكرسي، ثم هددوا فقالوا : إن الحكومة اليونانية قد تقطع الإعانة السنوية البالغة عشرة آلاف فرنك التي خصصتها إلى السيد جراسيموس، بل قد لا تمكننا من استغلال المال الذي حبسه أيروثيوس في بنك أثينا ودخله لا يقل عن الخمسمائة ليرة، وقد نحرم إذا استوى على الكرسي الأنطاكي غير اسبيريدون من خدمات وكيل البطريرك الأوروشليمي في الآستانة وقد نمنع من مساعدة البطريرك المسكوني.
المجمع الأنطاكي
وبعد أن اكتمل عدد المطارنة المجتمعين في دمشق عقدوا مجمعا ابتداء من الثاني والعشرين من حزيران سنة 1891 وذلك برئاسة المطران سيرافيم. وهاك بيان أعمال الجلسة الأولى نقلا عن السجل البطريركي:
إنه في يوم السبت الواقع في 22 حزيران سنة 1891 التأمت تحت رئاسة القائمقام البطريركي نيافة مطران أيرينوبوليس كيريوس سيرافيم هيئة المجمع الأنطاكي المقدس، مؤلفة من السادة ملاتيوس مطران اللاذقية وميصائيل مطران صور وصيدا وغفرائيل مطران بيروت ولبنان، وأغابيوس مطران أداسيس وجرمانوس مطران ترسيس ونيقوذيموس مطران عكار وأثناسيوس مطران حمص وجراسيموس مطران زحلة وغريغوريوس مطران طرابلس.
وبعد الصلاة الاعتيادية قال سيادة القائمقام: إن أول مسألة يظن بوجوب الابتداء بها مسألة انتخاب المرشحين. وقال: إن للكرسي الأنطاكي الحق في أن ينتخب من يشاء ومن أية كنيسة كانت. فأجابه مطران اللاذقية: نعم، إن كرسينا حر ويوجد فيه مطارنة بهم كل اللياقة ليكونوا مرشحين؛ ولذلك أظن أنه يمكننا الافتكار بانتخاب بطريرك من إكليروس الكرسي، وسيادة مطران صور وصيدا وافق على ذلك قائلا: يجب ألا يكون المنتخب من خارج الدائرة. وسيادة مطران بيروت وسيادة مطران أداسيس وافقا على ذلك، أما سيادة مطران ترسيس فقال: إنه يجب أن ندقق في هل مجمعنا هذا قانوني، وهل يمكنه أن ينتخب بطريركا للكنيسة بدون أدنى مانع؟ فطلب سيادة مطران طرابلس الإيضاح عن ذلك، وبعد المذاكرة تقرر أن المجمع قانوني وله ملء الحق أن يباشر العمل.
ثم بحثت المسائل الآتية: من هم المرشحون؟ ممن المرشحون؟ وكيف يرشحون؟ وجرت مذاكرة كثيرة بهذه المواد الثلاثة انتهت إلى القرارات الآتية: أولا: أن شعب دمشق وأنطاكية التابعة للكرسي الأنطاكي رأسا وشعب حلب وديار بكر الأبرشيتين المترملتين لهم الحق أن يرشحوا كل على حدة مثل واحد من الأساقفة. ثانيا: أن يكون عدد المرشحين من واحد إلى ثلاثة من كل من له حق الترشيح. ثالثا: بخصوص مسألة من يرشح، تقرر أنه لما كانت الظروف التي جعلت الكنيسة الأنطاكية أن تنتخب سابقا بطاركة من خارج كرسيها، قد زالت ومضت، وعدا ذلك يوجد اليوم بين أبناء الكنيسة أشخاص فيهم كل اللياقة الكنائسية والخبرة الإدارية ليكونوا بطاركة بنعمة من قال «إن قوته بالضعف تكمل»؛ لذلك لا نرى ضرورة ولا حاجة لتوجيه الأنظار إلى خارج دائرة الكرسي الأنطاكي. وقد وافق على ذلك السادة المطارنة؛ ملاتيوس وميصائيل وغفرائيل وأغابيوس وأثناسيوس وجراسيموس وغريغوريوس. أما سيادة المطارنة سيرافيم وجرمانوس ونيقوذيموس فقد قالوا عن هذا القرار إنه يجب أن يحفظ الحق بحرية الترشيح من أبناء الكرسي الأنطاكي ومن غيره أيضا، وعلى هذا وافق أيضا المطران ميصائيل.
وفي الخامس والعشرين من حزيران سنة 1891 اجتمع أعيان دمشق وكهنتها خمسة وأربعين وترأس اجتماعهم سيرافيم، وحضر الاجتماع معاونه أغابيوس، وتغيب عن الحضور ستة من وجوه الطائفة أولئك الذين كانوا يعملون لاسبيريدون، فرشح المجتمعون مطارنة بيروت واللاذقية وحماة.
وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه عاد عاصم باشا إلى دمشق فذهب المطارنة للسلام فاقتبلهم بالرعاية والإكرام، وأظهر ارتياحه إلى وجود الراحة والوفاق في انتخاب بطريرك جديد يتحلى بالصفات المطلوبة، وأن يكون ذلك حسب العادة السابقة. وقال أيضا إنه يود بقاء الاتفاق بين كنيستي الآستانة ودمشق، وأن انتخاب البطريرك على وجهين؛ روحي وسياسي. أما الوجه الروحي فلا دخل له فيه، وأما السياسي فله فيه نظر. وانصرف المطارنة شاكرين، وفي اليوم التالي الثامن والعشرين عقدوا جلسة مجمعية ثانية، هذا ضبطها:
إنه في يوم الجمعة الواقع في 28 حزيران سنة 1891 التأمت هيئة المجمع المقدس بحضور السادات المطارنة المذكورين في الجلسة الأولى. وبعد الصلاة وقراءة أعمال الجلسة الماضية والتوقيع عليها طرح سيادة القائمقام تلغرافين من أنطاكية أحدهما باسمه بتاريخ 23 حزيران بإمضاء كهنة أنطاكية، ونصه: «سيادتكم وكيلا من قبلنا بالانتخاب»، والآخر بتاريخ 26 حزيران بإمضاء طائفة الروم الأرثوذكس بأنطاكية ونصه: «نوكل الشماس بولس عقل (أبي عضل) نفوضه بترشيح من يكون أهلا للبطركية»، وجرت المذاكرة بشأن هذا الاختلاف، وتقرر أنه لما كان توكيل اثنين عن بلدة واحدة غير ممكن اقتضى أن تجري مخابرة الكهنة والعلمانية في أنطاكية هكذا: «عينوا إكليريكيا واحدا للترشيح من قبل عموم الكهنة والشعب» ثم تقرر تعيين سيادة مطران اللاذقية ومطران أداسيس ومطران زحلة ومطران طرابلس ليؤلفوا قانونا يجري عليه غبطة البطريرك المستقبل في إدارة الكرسي والأديرة والأوقاف.
ثم طرحت المسألة الآتية: «هل تقبل وكالة أحد المطارنة لأجل الترشيح للبطريركية إذا تعين من قبل مطران آخر غائب أو من أبرشية خالية من راع، بما أنه في أعمال الجلسة السابقة من الدور الثاني بتاريخ 13 كانون الأول سنة 1889 ذكر ما يأتي بخصوص العادة الجارية عندنا وقت انتخاب مطران ما؛ أي إن المطارنة الذين لا يحضرون بأنفسهم وقت الانتخاب عوضا عن أن يرسلوا ورقة انتخابهم إلى البطريركية يوكلون بعض المطارنة الموجودين هنا الذين يكون لهم وقتئذ صوتان أو ثلاثة ... تقرر باتفاق الأصوات أنه وقت إجراء انتخاب ما يجوز إعطاء الصوت فقط للمطارنة الذين يحضرون شخصيا وللذين يرسلون أوراق انتخابهم، وأما إعطاء الصوت بالنيابة عن أحد فلا يكون مقبولا في المستقبل.» فتقرر أنه بما أن ذلك القرار لم يتبلغ لباقي المطارنة وللأبرشيات الخالية، والقرار المذكور يصرح عن انتخاب أسقف الأبرشية لا عن انتخاب البطريرك؛ لذلك يجوز للوكيل أن يقدم صوتين عنه وعن موكله؛ بشرط أن يكون الصوتان بالأسماء ذاتها.
الوالي والترشيح
وفي التاسع والعشرين من حزيران يوم عيد هامتي الرسل بعث عاصم باشا ترجمانه خليل أفندي الخوري يبلغ المطارنة ورود برقية من الصدارة، توجب الإسراع في تنظيم دفتر بأسماء من يجدون أهلا للانتخاب، وإلى تقديمه إلى الباب العالي عملا بنص القانون الساري المفعول لانتخاب بطريرك في الآستانة. وفي أول تموز جاء الوالي نفسه فقال بالعربية: عهدت إلى خليل أفندي أن يبلغكم الأمر الصادر من الصدارة العظمى، وبالإسراع في الترشيح وتقديم دفتر بمن تشاءون بحرية، وبعد أن يرجع إليكم الدفتر تنتخبون ثلاثة ذوات من الذوات المصدق عليهم وتصعدون إلى الكنيسة، وفيها تقترعون على واحد منهم سرا، قال هذا وأشار إلى النظام العمومي المختص بانتخاب بطريرك القسطنطينية ثم انصرف.
الترشيح
وفي الثاني من تموز سنة 1891 عقد المجمع جلسته الثالثة للترشيح، فبلغ عدد من اشترك في الترشيح ستة عشر وهم شعب أنطاكية، وقد ناب عنه الشماس بولس أبي عضل وشعب دمشق ومطارنة بيروت واللاذقية وحمص وطرابلس وزحلة وترسيس وعكار وصور وصيدا، وسيرافيم أيرينوبوليس وأغابيوس أداسيس وناب عن مطران حماة مطران اللاذقية، واستناب مطران أرضروم سيرافيم، وناب نيقوذيموس عن أبرشية ديار بكر، وبلغ عدد الذوات المرشحين عشرة أحد ذاتا.
ورفع المطارنة هذه النتيجة إلى ولاية سورية مع دفتر الذوات الذين انتخبوا ووجدت فيهم الأهلية لتبوء الكرسي البطريركي:
إننا نحن العاجزين مطارنة الأبرشيات المنضوية للكرسي البطريركي الأنطاكي، بنعمة الله تعالى وبالظل الظليل الشاهاني، قد اجتمعنا في مركز الكرسي هذا دمشق لانتخاب خلف لغبطة البطريرك جراسيموس المستقيل، وباتفاق أصوات من لهم حق الترشيح قد جرى الترشيح، فأصاب أحد عشر ذاتا أسماؤهم مدونة بذيله، مع بيان ما اكتسبه كل واحد من الأصوات بناء أن ننتخب واحدا من الذوات الموما إليهم بطريركا للكرسي الأنطاكي بحسب قوانين كنيستنا الأرثوذكسية، فنلتمس من دولتكم مخابرة الباب العالي بذلك وإيضاح الكيفية لمعاليه والتكرم باستحصال الجواب، وبكل حال الأمر لمن له الأمر أفندم.
عدد الأصوات
أسماء الذوات المرشحين
9
ملاتيوس متروبوليت اللاذقية
تسعة
8
جراسيموس متروبوليت زحلة
ثمانية
7
غفرائيل متروبوليت بيروت
سبعة
6
اسبيريدون متروبوليت ثابو
ستة
عن بطريركية قدس شريف
5
فيلوثيوس متروبوليت إزمير
خمسة
عن بطريركية القسطنطينية
3
أغابيوس متروبوليت أداسيس
ثلاثة
3
جرمانوس متروبوليت ترسيس
ثلاثة
3
نيقوذيموس متروبوليت عكار
ثلاثة
2
ميصائيل متروبوليت صور وصيدا
اثنين
1
أثناسيوس متروبوليت حمص
واحد
1
غريغوريوس متروبوليت حماة
واحد
فقط أحد عشر ذاتا، الداعي سيرافيم قائمقام البطريركية الأنطاكية، الداعي ملاتيوس مطران اللاذقية، الداعي ميصائيل مطران صور وصيدا، الداعي غفرائيل مطران بيروت ولبنان، الداعي أغابيوس مطران أداسيس، الداعي جرمانوس مطران ترسيس وأطنة، الداعي أثناسيوس مطران حمص وتوابعها، الداعي جراسيموس مطران زحلة وبعلبك ومعلولا، الداعي غريغوريوس مطران طرابلس.
الاحتجاج على ترشيح اسبيريدون
واختلفت الأوساط الأرثوذكسية الأنطاكية في لياقة اسبيريدون مطران طابور وتشعبت آراؤهم، فقدم بعضهم العرائض إلى المجمع الأنطاكي ملتمسين منع السجس والاضطراب في الكنيسة بعدم انتخاب اسبيريدون؛ «لأنه غير متصف بالصفات التي تنطبق على رغائب الشعب ولاستخدامه السيمونية»، مؤكدين رفضه رفضا تاما ورفض المطران الذي يصوت له. ورفعت البرقيات إلى الصدارة العظمى، فجاء في إحداها:
بينما هؤلاء العبيد قائمون على فريضة الدعاء بزيادة شوكة مولانا الخليفة الأعظم بلغ مسامعنا تشبث المجمع الأنطاكي الأرثوذكسي بالشام بانتخاب مطران طابور ومطران إزمير مرشحين للبطريركية، فبتنا في يأس حيث الذاتين المرقومين لا يصلحان لتدبير أمورنا الروحية. فنسترحم استرحام الأذلاء من العواطف الشاهانية أن تنظر بالإشفاق إلى عبوديتنا لمنع قبول المرشحين المذكورين.
وشاع عن اسبيريدون أنه أضاع السنين التي قضاها في المدرسة في كسل وبطالة؛ لأن الله لم يؤته ذكاء، فسيم شماسا ولبث مدة طويلة في هذه الخدمة ثم شرطن قسا، وتوفي عمه فترك له ثلاثين ألف ليرة، فاستولى عليها وأصبح من ذوي الحل والعقد في دير القدس، وسيم مطرانا على جبل طابور فرمم الأبنية وزين المعبد فاستجلب الحجاج الروس واستنبط لنفسه ينبوع ثروة من عطائهم، ثم انتدب وكيلا على دير بيت لحم، فساعده الحظ أن جمع من المال مبلغا كبيرا.
جواب الباب العالي
ولما كان يوم السبت الواقع في 27 تموز سنة 1891 قام خليل الخوري إلى الدار البطريركية وسلم المطارنة المجتمعين فيها تذكرة من والي الولاية، جاء فيها أن الصدارة العظمى أمرت باستثناء الأفندية مطران زحلة جراسيموس يارد ومطران بيروت وجبل لبنان غفرائيل ومطران أداسيس أغابيوس ومطران حمص أثناسيوس، ووضع السبعة المطارنة الباقين للانتخاب وفقا للأصول وتنظيم المضبطة اللازمة بالذات الذي سيتعين للبطريركية لإجراء مأموريته.
حرب العرائض
وتعارضت أهواء المطارنة فأصر الوطنيون منهم على انتخاب مطران أنطاكي للكرسي البطريركي، ورأى اليونانيون منهم غير هذا فانتقضت عقدة المطارنة واضطرب حبلهم، وألف الوطنيون أكثرية، فحاول اليونانيون إضعاف هذه الأكثرية، فحرموا أغابيوس حق التصويت مدعين أن لا أبرشية له، واعترضوا على صوت أبرشية بيروت ولبنان بداعي المرض الذي ألم بغفرائيل، واجتذب دعاة اسبيريدون مطران صور وصيدا، وماطل اليونانيون وامتنعوا عن الاجتماع منتظرين أمرا من الآستانة يؤيد موقفهم من أغابيوس وغفرائيل.
وأسقط الوطنيون سيرافيم من رتبة القائمقامية محتجين على تحيزه ومماطلته في تطبيق القانون وذلك في اليوم الثاني من آب، وكتبوا بهذا المعنى إلى الوالي، وأضافوا أن لقبه «مطران أيرينوبوليس» لقب شرفي، فأيرينوبوليس هي سلمية، وسلمية بلدة إسماعيلية لا نصارى فيها! ثم نقل إلى الوطنيين أن سيرافيم وجرمانوس ونيقوذيموس ذهبوا إلى بيت رافائيل شامية حيث اجتمعوا بجبرائيل اسبر وجبرائيل شامية وميخائيل صيدح وجبران لويس وسليم شاهين وموسى الصباغ، وتشاوروا فأعدوا مضبطة انتخاب وكتبوا في المضبطة أنه لدى اجتماع أعضاء مجمع الكرسي الأنطاكي وإجراء الانتخاب القانوني أصابت الأكثرية سيادة المطران اسبيريدونس، فنودي به بطريركا مع التماس التصديق على انتخابه من الباب العالي. ونقل أيضا أن جرمانوس ونيقوديموس وقع هذه المضبطة، أما سيرافيم فتمنع فابتدره رافائيل شامية بكلام شديد قادر فوقع على المضبطة، وأن ميصائيل وقع بدوره، ونقل إلى المطارنة الوطنيين أن هذه الوثيقة رفعت إلى المقامات الحكومية مشفوعة بعريضة من الشعب تؤيد هذا الانتخاب وترجو تصديقه قطعا لدابر الفساد. وادعى أنصار اسبيريدون أن مرشحهم فاز بخمسة أصوات من ثمانية، أما الخمسة فهم: ميصائيل وسيرافيم وجرمانوس ونيقوذيموس وبائيسيوس، وأما الثلاثة المعارضون فهم: أثناسيوس وجراسيموس وغريغوريوس حماة. وأسقط الاسبيريدونيون صوت مطران بيروت لمرضه، وصوت مطران طرابلس لإعطائه الورقة كما علمناه، وصوت مطران اللاذقية لكونه مرشحا لا صوت له وصوت أغابيوس؛ لأنه لا أبرشية له.
فاحتج المطارنة الوطنيون بعريضة قدموها إلى والي سورية في السابع من آب سنة 1891 وببرقيتين رفعوها إلى الصدارة ونظارة المذاهب والأديان، وهاك بعض ما جاء في برقية الصدارة:
إن المغدورية والإجحاف بحقوقنا الدينية والملية وحجز الحرية الممنوحة لنا بشأن انتخاب بطريرك الكرسي الأنطاكي بحسب قواعد ديننا وعوائدنا المرعية الإجراء، وأسر إرادتنا بأشياء مستجدة من قبل دولتلو عاصم باشا والي سورية وصلت إلى درجة اضطهاد عنيف.
أولا: منع بواسطة القائمقام البطريركي جلسة المجمع يوم الخميس غرة الجاري المعينة لأجل الانتخاب. ثانيا: لم يسمح بالجلسة الانتخابية في ثاني آب. ثالثا: اقتبل من القائمقام البطريركي ومطراني ترسيس وعكار اليوناني الجنس تهما وأراجيف بحق بعض المطارنة، وبلغنا أنه عرضها للمراجع العالية بدون أن يفحص أو يسأل أحدا منا عنها. رابعا: عارض حرية الانتخاب بمنع أحدنا أغابيوس من حق الاقتراع. خامسا: لم يأخذ استرحاماتنا بعين الاعتبار، وأظهر ميلا نحو مطران ترسيس الذي صدر الأمر السامي بعزله سنة 1305 الذي صرح في أحد اجتماعاتنا بعدم أمنيته بالدولة العلية، وأعلن أن مسيحي الشرق إذا تركوا من حماية الدولة اليونانية يعدمون حقوقهم، الأمر الذي تبلغ لمسامع دولته. سادسا: أبطل عاداتنا الدينية في أنه قسم المجمع شطرين، وطلب إلى القسم الأقل عددا أن يقدم له مضبطة انتخاب بدون اشتراك القسم الأكثر، وصرح لنا نحن القسم الأكبر بأنه يقبل مضبطة أخرى بمنتخب آخر، فأجبنا دولته في الحال بأن هذا مناف لقواعد ديننا، وإنما كان ذلك منه بقصد تمهيد السبيل لإيصال اسبيريدون أفندي مطران طابور إلى البطريركية بطريق الرشوة والسيمونيا. سابعا: لم يكتف دولته بغض النظر عن تعديات القائمقام البطريركي، بل تعصب له ودافع عنه بالشدة والتهديد وتصويب جميع ما أجراه. ثامنا: اقتبل مضبطة لفقت في بيت أحد الأفندية تحكي عن انتخاب اسبيريدون أفندي، الأمر الذي لم يجر قط؛ لأنه للآن ما عقدنا جمعية التفريق، ولا صار اختيار ثلاثة أسماء.
فبناء على جميع ذلك نسترحم تخويلنا الحرية الدينية بانتخاب بطريرك لكرسينا بمقتضى قوانين كنيسة الروم الشرقية وعوائدنا القديمة المرعية الإجراء، وإعطاءنا الأمنية على أنفسنا مدة وجودنا ضمن ولاية سورية من الظلم؛ لنتمكن من إتمام عملنا بوجه السرعة وبحسب قوانين كنيستنا ورضا عظمة مولانا الخليفة الأعظم.
1
ولجأ الاسبيريدونيون إلى استباق الحوادث فأذاعوا خبر فوز مرشحهم وتناقلته الصحف اليونانية كجريدة أمالثبا اليونانية التي كانت تصدر في إزمير، فإنها نشرت في الثالث عشر من آب خبر انتخاب اسبيريدون ولمحة من تاريخ حياته. ويلاحظ هنا أن جل ما قالته هذه الصحيفة الموالية لاسبيريدون أنه في الخامسة والخمسين من عمره ، وأنه ليس من المتعلمين بحسب الأصول، ولكنه من الحائزين على خبرة كافية في الأمور الكنسية. وأشارت هذه الصحيفة إلى أن اسبيريدون كان يحمل إلى الكرسي مبلغ عشرة آلاف ليرة من ماله الخاص عربونا له ليقوم باحتياجات كنيسة أنطاكية الكثيرة المتعددة الأنواع.
واحتج الوطنيون لدى السلطات المحلية والمركزية بلهجة قوية،
2
فاضطر الباب العالي أن يبطل مفعول المضبطة الانتخابية التي انفرد بها مؤيدو اسبيريدون، وصدرت جريدة أمالثيا نفسها في الحادي والعشرين من آب تكذب نبأ انتخاب اسبيريدون، وجاء في جريدة المونيتور أورنيتال الصادرة في الآستانة بالإفرنسية والإنكليزية أن الباب العالي بعد مخابرات طويلة مع ولايتي سورية وبيروت أصدر الأمر بإلغاء الانتخاب لعدم انطباقه على القانون، وأن الصدر الأعظم كامل باشا أبلغ السلطات المحلية أن لا فرق عند الدولة إذا كان البطريرك من أبناء البلاد أو غريبا عنها، وأن رغبتها منصرفة إلى أن يجري الانتخاب بحسب النظام، وأن يكون المنتخب من ذوي الأهلية والاستحقاق وحائزا على ثقة الحكومة.
روسية والانتخاب
وادعى الاسبيريدونيون أن سليم أفندي طراد نزيل دمشق آنئذ جاء رسولا من قبل قنصلية روسية في بيروت ليحرك المطارنة والشعب ويغريهم على انتخاب بطريرك وطني، فاضطر قنصل روسية في دمشق أن يصرح «وينادي على أعلا السطوح أنه صدر له الأمر من حكومته بتجنيب كل مداخلة في الانتخاب؛ إذ ليس لروسية أرب في المسألة البطريركية ولا غاية لها لتسعى في طلبها، فسيان عنده من ينتخب»، ولزم القنصل العزلة وبذل النصح إلى المطارنة أن يتفقوا وينتخبوا واحدا أيا كان.
3
تدخل الباب العالي
وأعلن الباب العالي رأيه في النزاع القائم بين الوطنيين والاسبيريدونيين حول حق بعض المطارنة في التصويت، فجاء في صالح الاسبيريدونيين، وادعى الباب العالي المحافظة على الحرية الدينية والقوانين المذهبية، فاستفتى بطريركية القسطنطينية في حق أغابيوس وسيرافيم في التصويت، فأجابت هذه البطريركية أن المطران التيتولاريوس هو ذاك الذي لا أبرشية له ولا شعب يدبر شئونه، وأن هذا النوع من المطارنة لا حق له في الاشتراك بانتخاب البطاركة عملا بالقوانين الكنسية. ولم يقف الباب العالي عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك في تأييد الاسبيريدونيين، فحرم متروبوليت بيروت من حق التصويت بداعي العجز الصحي العقلي!
وفي الثامن والعشرين من أيلول سنة 1891 ذهب ترجمات الولاية خليل أفندي الخوري إلى الدار البطريركية وجمع المطارنة ودفع إليهم بكتابة رسمية، هذا تعريبها:
إلى قائمقام بطريركية أنطاكية، رتبتلو أفندي: إنه قبلا تقدم للباب العالي الأوراق التي أعطيت من قبل المطارنة الذين اجتمعوا في دمشق بناء على تحويل مأمورية رتبتلو جراسيموس أفندي إلى بطريركية القدس الشريف؛ لانتخاب ذات سواه لبطريركية أنطاكية التي أضحت محلولة، وهذه الأوراق هي التي أعطيت للولاية من الطرفين حاوية بعض اختلاف آراء وقع بينهم.
وبما أنه قد صدر الأمر والإشعار من مقام الصدارة السامي بتلغراف مؤرخ في 26 أيلول سنة 1307 بأنه لما كان من مقتضى القرار العالي المنيف استثناء غفرائيل أفندي مطران بيروت وأغابيوس أفندي من إعطاء الرأي، يجب أن يجتمع باقي المطارنة ويقدموا بسرعة المضبطة اللازمة بخصوص الذات الذي ينتخبونه لبطريركية أنطاكية المذكورة ضمن دائرة الأصول. بناء عليه ابتدر لترقيم هذه التذكرة المخصوصة كي بعد استثناء الموما إليهما غفرائيل أفندي وأغابيوس أفندي من إعطاء الرأي بموجب القرار العالي يجتمع باقي الأساقفة، ويجروا سريعا أصول الانتخاب ويسرعوا إلى إعطاء المضبطة اللازمة لجانب الولاية، لأجل تقديمها لمركز الدولة، أفندم. في 7 ربيع الأول سنة 1309 و28 أيلول سنة 1307 والي سورية.
ولما تليت هذه الكتابة على مسمع من المطارنة استغربها بعضهم، وعجبوا من استثناء مطران بيروت بعد أن قدموا الشهادات الطبية اللازمة بسلامة علقه.
4
فقال ملاتيوس متروبوليت اللاذقية: نسألك يا سعادة خليل أفندي عن السبب الذي استثني لأجله غفرائيل؟ فأجابه: أنا لست مأمورا أن أعطيك إيضاحات، فهذه أوامر الباب العالي عليكم الامتثال لها، ومن أراد أن يعترض عليها فليتقدم بذلك، وأضاف: وأنا مأمور أن أخبركم أنه لا يجوز لأحد أن يعترض بكتابة شيء ما على مضبطة الانتخاب ولا يقبل منك ذلك. وانصرف فأتم رغبة الوالي في أن يسطو على المطارنة، فلا يعترض أحدهم ولا يتأخروا عن إتمام الانتخاب مخافة أن يرشقوا بالتمرد والعصيان على أوامر السلطان. ثم وفدت عليهم الرسالة التالية من القائمقام البطريركي:
بعد المصافحة الأخوية: بهذا النهار صدر أمر عالي من الولاية الجليلة مبني على تلغراف وارد من جانب الصدارة العظمى بقرار عالي مؤرخ في 28 أيلول سنة 1307، مضمونه السامي استثناء إخوتنا بالرب المطران غفرائيل مطران بيروت والمطران أغابيوس من إعطاء الرأي بالانتخاب المزمعين نجريه بتعيين خلف للبطريركية الأنطاكية، وأن يصير اجتماعنا لإتمام الانتخاب وتقديم المضبطة بالذي يجوز أكثرية الآراء للبطريركية الأنطاكية بالسرعة يصير تقديمها لجانب الباب العالي لتصدر عليها الإرادة السنية حسب الأصول. وهذا الأمر صارت قراءته علنا على إخوتكم بمعرفة المأمور المعين لتسليمه، وهو سعادتلو خليل أفندي الخوري ترجمان ولاية سورية الجليلة هذا النهار.
وحيث المضمون المسارعة بالانتخاب؛ فعليه قد عينا الساعة الثانية صباحا من نهار الاثنين القادم الواقع في 30 الجاري للاجتماع في قاعة البطريركية لأجل الانتخاب القانوني للبطريركية، وضمن الكنيسة المقدسة حسب الأصول الكنائسية واستمداد الروح الكلي قدسه، فنؤمل من أخوتكم توقيع إمضاءاتكم على هذا بالقبول؛ حيث إنه بالوقت المعين تجدونا بانتظاركم ضمن قاعة البطريركية المعدة للاجتماع، ونعمته تعالى لتكن معنا وفيما بيننا دائما. في 28 أيلول سنة 1891، أخوكم بالمسيح سيرافيم مطران أيرينوبوليس قائمقام البطريركية الأنطاكية بالشام.
وتبلغ المطارنة نص هذه المذكرة وأشاروا بوجوب عقد جمعية التفريق قبل الانتخاب ووجوب التحرير للمرشحين من الكرسي؛ فيلوثيوس مطران نيقوميذية واسبيريدون مطران طابور، ليصرحا رسميا بقبول الترشيح.
اسبيريدون بطريرك أنطاكية
وأبرق المطران سيرافيم إلى المطران اسبيريدون والمطران فيلوثيوس يطلب موافقتهما على الترشيح، فامتنع فيلوثيوس عن القبول، وأبرق اسبيريدون أنه إذا شاءت العناية الإلهية انتخابه فيخضع شاكرا. وجاء جبرائيل أفندي اسبر وأطلع المطارنة على التعهد الذي بيده بالعشرة آلاف ليرة، فطلب المطارنة تعهدا جديدا بأن القيمة المذكورة تحبس على أعمال البر والتعليم، فأبرق جبرائيل بذلك، فأجاب أخو اسبيريدون: وما الفائدة من تكرار التأمينات وعندكم وثيقة كافية وافية؟ وصرح جرمانوس مطران ترسيس ونيقوذيموس مطران عكار بانسحابهما من الترشيح، فلم يبقى سوى ثلاثة من السبعة المرشحين؛ وهم ملاتيوس مطران اللاذقية، وغريغوريوس مطران حماة، واسبيريدونس مطران طابور.
وفي الثاني من تشرين الأول سنة 1891 عقد المطارنة مجمعا حافلا، وبعد إجراء رسوم التفريق؛ أي بعد تسطير أسماء المرشحين الثلاثة دخل المطارنة الكنيسة وأجروا فيها اقتراعا سريا، فأصابت الأكثرية اسبيريدونس مطران طابور، وهي أكثرية مؤلفة من مطارنة أيرينوبوليس وأرضروم وترسيس وعكار وصور وصيدا وزحلة وحماة، وأصاب السيد ملاتيوس صوتان، وأصاب مطران حماة صوت واحد، ونودي باسبيريدونس بطريركا على أنطاكية في الكنيسة الكاتدرائية. ودونت أعمال الانتخاب في السجل البطريركي بنص مماثل كل المماثلة لنص انتخاب جراسيموس البطريرك السابق، وقد سبق إثبات هذا النص فليراجع في محله، ووقع المطارنة إشعارا بالانتخاب رفعوه إلى السلطة العثمانية.
قانون الانتخاب البطريركي (1891)
وكان هذا المجمع الأنطاكي قد انتدب في جلسته الثانية في الثامن والعشرين من حزيران سنة 1891 كلا من مطران اللاذقية ومطران أداسيس ومطران زحلة؛ ليعملوا في وضع قانون للانتخاب البطريركي وسن نظام لتدبير الأوقاف والأديرة، ولكن لما تم الانتخاب البطريركي أسرع المطارنة إلى الانهزام من دمشق هربا من الهواء الأصفر، وبقي السيد سيرافيم وحده في دمشق يدير مهام البطريركية. ثم تشاغل المطارنة عن مشروع القانون بالمنازعات الشخصية وببعض المآرب الخصوصية حالت دون ائتلافهم.
بيروت تحتج
واحتج غفرائيل متروبوليت بيروت على إغفال اسمه من لائحة المطارنة المنتخبين، فأبرق في الرابع من تشرين الأول سنة 1891 إلى المابين وإلى نظارة العدلية يقول: إن حرمانه حق الاشتراك في الانتخاب جلب اليأس لنفسه ولأبناء أبرشيته؛ لأنه بلا سبب، وأنه يسترحم العدل وعدم الإجحاف. ووقع الوجهاء عريضة بمثل ما تقدم ورفعوها إلى والي ولاية بيروت عزيز باشا.
وأم دار المطرانية في يوم الأحد في الثالث عشر من تشرين الأول الكهنة والوجوه والأعيان واتخذوا القرارات التالية؛ أولا: أن الملة الأرثوذكسية في بيروت ولبنان لا فرق عندها بين يوناني ووطني؛ لأنه ليس في كنيسة المسيح يوناني ولا عربي، بل الجميع أخوة بالمسيح، وإنما يهمها أن ينتخب البطريرك انتخابا قانونيا، وأن يكون المنتخب معروفا بحسن الصفات والغيرة الرسولية. ثانيا: تأسف الملة لصدور تبليغات كاذبة ودسائس مختلفة بني عليها حرمان مطران الأبرشية من حق الاشتراك في انتخاب البطريرك. ثالثا: أن الملة تقيم الحجة على الانتخاب؛ لأنه كان غير قانوني، ولأن المنتخب تذرع بوسائل لا يجيزها الدين القويم للوصول إلى الرئاسة. رابعا: إبلاغ الوالي والمطران هذه القرارات.
5
وفي السابع من تشرين الثاني عاد الكهنة والوجوه والأعيان إلى الاجتماع، «فقرروا بصوت واحد عدم الاعتراف بالسيد اسبيريدون بطريركا عليهم وعدم استقباله والاحتفاء به، وتشكيل لجنة تفوض إجراء ما يلزم دفاعا عن حق الطائفة وكرامتها.»
6
إسقاط اسبيريدون في دمشق
وتسرع سيرافيم وجرمانوس فأقاما في الثالث من تشرين الثاني قداسا حبريا في كاتدرائية دمشق ورفعا اسم اسبيريدون بطريركا، فنادى الشعب: «فليسقط!» وعلت الضجة ودخل قسم من الشعب إلى الهيكل لإخراج سيرافيم منه، فسقط على الأرض وجلا، وكان جرمانوس مستويا على الكرسي في الخوروس فلم يفه بشيء ولم يبد حركة، وأقبلت الضابطة فأحاطوا بالكنيسة، وسكنت الضوضاء وانتهت خدمة القداس فواكب رجال الضابطة المطرانين حتى دار البطريركية.
قدوم البطريرك المنتخب
وأرسل اسبيريدون يستقدم الوفد الدمشقي إليه، وكان قد ضجر من الانتظار، فترأس الوفد المطارنة جرمانوس ونيقوذيموس وجراسيموس، واشترك فيه من الشعب الدمشقي كل من جبرائيل اسبر ونعمان أبي شعر وموسى الصباغ وسليم شاهين ونقولا شاهين، وسار الوفد عبر الأردن ودخل أوروشليم ليلة عيد الميلاد، وجاء بيروت وال جديد؛ إسماعيل كمال بك، فكتب إليه اسبيريدون مهنئا وطلب إلى خليل أفندي الخوري أن ينقل إلى الوالي الجديد عزم البطريرك على القيام إلى مقره بحرا ووجوب مروره في بيروت، وأنه يصعب عليه جدا ألا يصادف فيها احتفالا كنسيا، فاتصل كمال بك بالمطران غفرائيل. واتفق الاثنان على أن يكتب البطريرك إلى غفرائيل منبئا بيوم وصوله، فيرد عليه المطران بأنه يستقبله حال وصوله إلى كرسيه . ولكن البطريرك المنتخب أبى أن يعمل بالمحبة المفروضة، فأبرق إلى غفرائيل محددا تاريخ وصوله موجبا استقباله كنسيا؛ لأنه سيخرج من الباخرة توا إلى الكنيسة، فسكت غفرائيل عن الجواب وأطلع الوالي على نص البرقية، فأشار عليه هذا أن يخرج وحده إلى استقبال البطريرك ليقيم الدليل على طاعته للدولة، وأن يمتنع عن إقامة الاحتفال الكنسي.
وبلغ البطريرك المنتخب بيروت في التاسع عشر من كانون الثاني سنة 1892 فلقيه مكتوبجي الولاية مندوبا عن الوالي وأركبه العربة وسار محفوفا بالضابطة إلى السراي. أما غفرائيل فإنه لم يدرك اسبيريدون إلا بعد أن ركب العربة فتبعه إلى دار الحكومة وصافحه في قاعتها الكبرى، وألقى اسبيريدون خطابا باليونانية داعيا بحفظ الذات السلطانية شاكرا للوالي. ثم تلاه غفرائيل فقال إنه يستقبل امتثالا للأوامر السلطانية، ويمتنع عن الاحتفال الروحي احتجاجا على ما جرى في أثناء الانتخاب، وقضى اسبيريدون عشرة أيام في بيروت على ضيافة حبيب طراد، وأعد له بعض الوجوه مآدب مخصوصة، ولكن الكنائس ظلت مقفولة في وجهه، فعمد إلى الرحيل إلى دمشق.
ووصل اسبيريدون إلى دمشق في غاية كانون الثاني فاستقبله في الهامة بعض الموظفين الرسميين وكوكبة من الفرسان وتراجمة القناصل، فجاءوا به إلى دار الحكومة فدار البطريركية، فدخل الكنيسة توا وتليت الصلاة وأجريت الرسوم الدينية لتبوء الكرسي وتسليم العصا. وكان الشعب الدمشقي قد لجأ إلى كنيسة مار يوحنا مذ أصر المطارنة على رفع اسم اسبيريدون في الكنيسة الكاتدرائية، فلما استقر البطريرك في مركزه أمر بإقفال كنيسة مار يوحنا، فأخذ الشعب يجتمع للصلاة في مقبرة القديس جاورجيوس.
الرسائل السلامية
وفي الرابع من شباط سنة 1892 وجه البطريرك رسائله السلامية إلى رؤساء الكهنة يفيد ارتقاءه الكرسي الرسولي، ويؤكد استعداده لرفع شأن الكنيسة وحفظ عقائدها، ويطلب ذكر اسمه في خدمة الأسرار، فأجاب المطارنة على الرسائل السلامية وخضعوا للبطريرك الجديد إلا غفرائيل بيروت وملاتيوس اللاذقية وأثناسيوس حمص وغريغوريوس طرابلس. وشكا البطريرك أمره إلى الحكومة العثمانية فتدخل الولاة والمتصرفون وضغطوا على هؤلاء السادة فقبلوا وذكروا اسم البطريرك في خدمة الأسرار، ولكن النفور تمكن من نفوس الشعب وكمن فيها.
سخف واستبداد
واختلط على اسبيريدون رأيه والتبس عليه وجه الصواب وانقاد إلى طفلاريوس.
7
فسام الأرشمندريت بنيامين الراهب اليوناني مطرانا على ديار بكر قبل اعتراف المطارنة الأربعة بغبطته. ثم شرطن في السابع عشر من أيار سنة 1892 نكتاريوس اليوناني مطرانا على حلب قبل أن يبلغ الثلاثين من العمر ، وفصل الإسكندرونة عن أبرشية ترسيس وألحقها بأبرشية حلب، وضم أنطاكية إلى حلب قبل استرشاد المطارنة أصحاب الرأي واستنصاحهم. وطفق طفلاريوس يأمر وينهي ويحكم ويفصل ويربط ويقطع ويحرم ويحلل وليس من يسأل. ولم يرض طفلاريوس عن قيام قوميسيون زمني أو روحي فامتعض وجهاء الطائفة في دمشق حتى الذين سعوا لاسبيريدون في البطريركية، فتألفت لجنة شعبية لحل المشادة التي كانت لا تزال قائمة بين البطريرك وبين الشعب الذين لم يرضوا عن انتخابه، وتقدمت هذه اللجنة من البطريرك بمواد أربع: (1) إنشاء مدرسة إكليريكية على نفقة البطريرك. (2) توسيع نطاق المدرسة البطريركية. (3) إعادة الجمعيات الخيرية التي أقفلت. (4) الاعتراف بحقوق القوميسيون البطريركي الزمني في النظر في مصالح الملة. فرفض البطريرك وأبى القبول وخرج إلى دير صيدنايا!
دمشق تستصرخ
واشتد ضيق العيش على الكهنة خدمة الشعب في دمشق لامتناع المؤمنين عن طاعة البطريرك وابتعادهم عن الكنائس، فتقدموا إلى البطريرك يلتمسون منه إما النظر في استرضاء الشعب؛ ليعود إلى ممارسة واجباته الدينية، وإما أن يعين لهم راتبا يقتاتون به، فقابلهم طفلاريوس بالبطريرك وأغلظ لهم الكلام وعاملهم بالجفاء، فخرجوا مغتاظين ولحقوا بالشعب وامتنعوا عن خدمة القداس، وحرروا عريضة بواقع الحال وبعثوا بها إلى رؤساء أساقفة الكرسي الأنطاكي. وهاك نصها:
أيها السادة أساقفة الكرسي الأنطاكي الجزيل طهرهم: عهدنا بكم رعاة فاضلين أنكرتم ذاتكم لرعاية الخراف وحفظها من التبديد والاختطاف، لا تهربون ممن يتهددها، ويهمكم شأنها كل الأهمية؛ لكونها خاصة السيد الراعي الصالح الذي تعرف صوته كما تعرف صوتكم. فتلتجئ إليكم بلساننا الضعيف مستمدة الحماية والرعاية مستغيثة بحوزتكم؛ إذ قد لعبت بها أيدي الاختطاف والتبديد. وقد عملنا غاية جهدنا في حفظها ومنع تشتتها وربطها بعرى الاتحاد فلم نتمكن من شيء؛ لأنها ترى أمامها راعيا تجعلها الشكوك أن لا تعرف صوته ولا تستعبد، بل تهرب منه؛ فتشتت شملها وحرمت منذ أمد طويل الغذاء الروحاني غذاء الكنيسة المقدسة. أطفالها يشبون بدون الاصطباغ بجرن المعمودية المقدسة الخلاصية، شبانها بعيدون عن ممارسة الأسرار الإلهية والتأملات الشريفة التي بها تتحد مع رأس الخلاص وتنمو أعضاء للكنيسة التي أسسها المخلص، والرجال يضطهدون تصادمهم عواصف الأغراض الدنيوية، وتداهمهم أمطار الوشايات والدسائس لدى الدولة العلية التي إخلاص الطائفة لديها أشهر من نار على علم، يقاومهم أصحاب المبادئ المنافية لروح الإنجيل الشريف، وكثيرا ما يكون دفن موتاهم بدون الصلاة الأخيرة المفروضة.
الكهنة ألزمتهم الأمور هذه أن يمنعوا ذواتهم عن الخدمة فأصبحت الكنائس مسلوبة زينتها وبهجتها، أعني الطقوس الإلهية، فضلا عن أن روح المحبة المسيحية أساس كل الفضائل، والكمال قد اضمحل من قلوب الشعب الأرثوذكسي في مركز الكرسي، وسادت بينهم البغضاء والانشقاقات والأحزاب، والتجأ عدد كبير منهم إلى كنائس غريبة. ومع أن لهفتهم وتعلقهم بالكنيسة الأرثوذكسية أقوى من كل مصادم، ولم تتمكن من أن تفصل جدودهم وآباءهم عنها كل القرون السالفة بطولها وشقاء أحوالها وصعوبة ظروفها، فإن الظروف والأحوال الحاضرة جعلتهم أن يفصلوا أولادهم عن مدارس الطائفة، فأدخلوهم إلى مدارس يرضعون فيها سم التعاليم المعوجة، وكل ذلك على أثر الانتخاب الذي حصل في العام الماضي للسدة البطريركية وانتداب السيد اسبيريدونس إليها بطريقة لم يقنع الشعب أنها عارية عن استعمال وسائط محرمة في الكتاب الطاهر وفي قوانين الكنيسة الشريفة.
وقد زاد الطين بلة واتسع الخرق؛ إذ إن فئة من الذين ساعدوا السيد اسبيريدون لتبوء السدة البطريركية أملا بالفائدة للكنيسة الأنطاكية المحاطة بأعداء كثيرين، وظنا أنه صاحب دراية وقدرة وأهلية لسياسة الشعب وإدارة مهامه وتدبير شئونه، هؤلاء قد لاحظوا أن كل آمالهم قد خابت وظنونهم لم تصدق وما توسموه بهذا لا أصل له. وأعظم شاهد يؤيد لديهم ذلك اتخاذه عمالا أجانب غرباء المكان واللسان ليسوسوا عوضا عنه أمور الشعب مستأجرين لا يبالون بالخراف. ومع عدم لياقتهم بكونهم غير إكليريكيين فليس في أفئدتهم ولا ذرة من روح الإنجيل والمبادئ المسيحية ليساعدوا من يستخدمهم على احتقار القوانين الشريفة بانتداب أساقفة على خلاف ما تحدده النظامات الكنائسية. ويصنعون هكذا بمغايرات عديدة شكوكا كثيرة أمام الشعب البسيط، ويعملون غاية ما في وسعهم على انشقاق الشعب ورمي الإحن بين أفراده، وسيبذلون الجهد في تذليل كباره واحتقار صغاره لا يسألون عن أولئك الذين شردوا، كما أنهم يزاحمون الأمور ليعجلوا على شرود من لم يشرد حتى الآن.
فنهرع إليكم والحالة هذه سائلين غيرتكم أن تلتفتوا إلى هذا القطيع وتعملوا ما يستدعيه صوت ذلك الراعي الإلهي، الذي حسب قول النبي أرميا (13: 20) سوف يقول لكل من الرعاة: أين هو القطيع الذي أعطيته؟ أين الغنم التي هي مجدك؟
نعم إن لكل منكم رعية خصوصية، وإنما الرعية التي تنتسب إلى مقر الكرسي الأنطاكي تحسب من رعيتكم، كما أن أمر تعيين راعيها منوط إلى صوتكم المتفق، وكل منكم عليه أن يهتم بأمرها كما يهتم برعيته الخاصة، كيف لا وهذه المهمة تقتضيها الغيرة الإنجيلية والحمية الرسولية صارخة إليكم أن تناضلوا ضمن الطريقة القانونية؛ لأجل رفع هذه الحالة والالتجاء إلى كل ما به إصلاحها مع الشرف والخير لكنيسة مدينة الله أنطاكية. فإن صوتكم المتفق أو المتغلب بالأكثرية يقوم مقام مجمع أنطاكية المقدس، وحكمه بمسائل كهذه يوجب امتثال من تعيينه لا يقوم إلا بصوتكم، فاتفقوا كلكم أو أغلبكم على ما به الصالح والشرف والخير، ودراية كل منكم وخبرته أوفر من أن تطرح لديها الوسائط الواجب استعمالها إما بالطلب من السيد اسبيريدون أن ينتبه هو ذاته لإصلاح ذات البين، وإما بالتجاء إلى دائرة كنسية أوسع حسب القوانين المقدسة، وإما أخيرا وأولا بقرع أبواب الحكومة العادلة التي أيدها الله إذا شرحت لها الأمور لا شك في أنها سوف تأخذ بناصر الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه. في دمشق تحريرا في 17 حزيران سنة 1892 تواقيع خمسة من الآباء الكهنة وخمسة من الوجوه.
8
المدارس الروسية (1895)
ولجأ بعض الأساقفة إلى المقامات الروسية الرسمية والإكليريكية متذمرين، وأفلت روفائيل أسقف بروكلين من يد اليونان وكان لا يزال آنئذ الأرشمندريت روفائيل هواويني، وزار روسية واتصل بخيتروفو مؤسس الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، وتحدث إليه في موضوع العمل في فلسطين، فشكا خيتروفو من خمول الإكليروس اليونان وإعراضه ومصارمته، فاقترح الأرشمندريت إيفاد أحد نظار مدارس الجمعية لزيارة مطارنة الكرسي الأنطاكي، فقاطعه خيتروفو قائلا إنه يخشى أن يكون هؤلاء مثل زملائهم في فلسطين يحبون المال ويصرفونه على أنفسهم، فأطرى الأرشمندريت بأخلاق أثناسيوس متروبوليت حمص واهتمامه بالعلم والتعليم، فأخذ خيتروفو برأي الأرشمندريت وأوفد إسكندر قوزما رئيس سمينار الناصرة لزيارة مطارنة الكرسي الأنطاكي، فطاف إسكندر قوزما في أبرشيات أنطاكية وتحدث إلى المطارنة ورفع تقريرا حبذ فيه العمل في سورية ولبنان، فبادرت الجمعية الإمبراطورية للعمل في حمص في السنة 1894. وفي السنة التالية أخذت على عاتقها مدرسة البنات في دمشق والشويفات ومدرسة الصبيان في عالية وراشيا الوادي وفتحت ست عشرة مدرسة أخرى معظمها في قرى لبنان. وعني خيتروفو بنقل الكتب المدرسية إلى اللغة العربية وعهد بذلك إلى إسكندر قوزما وميخائيل عطايا وإسكندر ياكوبوفيتش وديمتري بوغوانوف وبولس نيقولايفسكي، وحث آخرين على التصنيف فاشتهر بين هؤلاء خليل بيدس.
موقفنا من رومة (1895)
واغتنم حبر رومة لاوون الثالث عشر (1878-1903) فرصة يوبيله الأسقفي، فوجه في العشرين من حزيران سنة 1894 رسالة إلى أمراء المسكونة تدعى
gratulationis
دعا بها كنيستنا الأرثوذكسية الجامعة الرسولية إلى الاتحاد بالكرسي الروماني، ذاهبا إلى أن هذا الاتحاد ممكن بمجرد الاعتراف به أنه الحبر الأعظم والرئيس الروحي والمدني الأسمى لجميع الكنائس، والنائب الوحيد على الأرض للمسيح والموزع لكل نعمة وموهبة.
فرد على هذه الرسالة البطريرك المسكوني أفتيميوس السابع (1895-1897) برسالة بطريركية مجمعية تجوز تسميتها على الطريقة الرومانية الرسالة «كل نفس أرثوذكسية تقية»؛ لأنها بدأت بهذه العبارة، وذلك في آب السنة 1895. وقد نقلها إلى العربية آنئذ غطاس قندلفت وعاد فأذن بطبعها ثانية سيادة كيريوس إيليا متروبوليت بيروت وتوابعها الجزيل البر والتقوى.
9
وهاك خلاصتها: «كل نفس أرثوذكسية تقية لها غيرة حقيقية مخلصة على مجد الله تحزن حزنا عميقا وتتوجع توجعا عظيما حين ترى أن الشيطان باغض الخيرات، الذي قتل الإنسان من البدء ، لا يزال بدافع حسده من خلاص البشر يزرع في كل وقت أصنافا من الزؤان في حقل الرب ليغربل الحنطة ويبيدها. ففي الأزمنة الأخيرة فصل الشرير عن كنيسة المسيح الأرثوذكسية أمما برمتها في بلاد الغرب؛ إذ نفخ في بعض أساقفة رومة أفكار كبرياء ولدت بدعا جديدة متنوعة خارجة عن القانون ومخالفة للإنجيل.
ومن ذلك أن بابا رومة الحالي لاوون الثالث عشر الجزيل الغبطة اغتنم فرصة يوبيله الأسقفي، ووجه في شهر حزيران من السنة الخلاصية الماضية منشورا إلى أمراء المسكونة وشعوبها، دعا به كنيستنا أيضا كنيسة المسيح الأرثوذكسية الجامعة الرسولية إلى الاتحاد بالكرسي الباباوي، ذاهبا إلى أن هذا الاتحاد ممكن بمجرد الاعتراف به أنه الحبر الأعظم والرئيس الروحي والمدني الأسمى لعمود الكنائس والنائب الوحيد على الأرض للمسيح والموزع لكل نعمة وموهبة.
ولا ريب في أن على كل قلب مسيحي أن يمتلئ شوقا إلى اتحاد الكنائس؛ ولذا تصلي الكنيسة كل يوم إلى الرب من أجل جمع المشتتين ورجوع الضالين إلى طريق الحقيقة المستقيم الذي وحده يؤدي إلى حياة الكل ابن الله الوحيد وكلمته ربنا يسوع المسيح، وكنيستنا كنيسة المسيح الأرثوذكسية على استعداد دائم لأن تقبل كل ما من شأنه الاتحاد إذا كان أسقف رومة يرفض رفضا باتا سلسلة التعاليم الجديدة التي أدخلت في كنيسته وكانت سبب الانفصال المحزن بين الكنائس في الشرق والغرب.
وتود كنيسة المسيح المقدسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية ودا مقدسا لو أن الكنائس المنشقة تتحد معها على أساس دستور الإيمان الواحد؛ لأنه بدون الاتحاد في الإيمان على هذه الصورة يستحيل اتحاد الكنائس المرغوب.
ولإتمام الرغبة التقوية في اتحاد الكنائس يقتضي تعيين مبدأ واحد يرجع إليه، ولا مبدأ سليما وقاعدة عامة إلا تعليم الإنجيل الشريف والمجامع السبعة المسكونية المقدسة. ولا نعني الخلافات السطحية والفروق الطقسية، بل نعني الاختلافات الجوهرية المتعلقة بعقائد الإيمان المسلمة من الله وبنظام إدارة الكنائس القانوني المؤسس من الله أيضا.
إن الطريقة المقربة إلى الاتحاد هي رجوع الكنيسة الغربية إلى النظام القديم عقيدة وإدارة؛ لأن الإيمان لا يمكن أن يتغير مع الزمان ولا مع الظروف، بل يبقى دائما هو نفسه.
وكانت الكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية كنيسة المجامع المسكونية السبعة تؤمن وتعتقد وفقا للأقوال الإنجيلية بأن الروح القدس ينبثق من الآب، ولكن الغرب بدأ منذ القرن التاسع ينشر الرأي بأن الروح القدس ينبثق من الابن أيضا، فإذا كانت كنيسة رومة تبقى مصرة ولا ترجع إلى اعتقاد المجامع المسكونية تكون قد ألقت نفسها تحت المسئولية التامة أمام كنيسة المسيح الواحدة المقدسة الرسولية التي لا تزال تتمسك بالتعاليم الأبوية تمسكا شديد، وتحفظ وديعة الإيمان المسلمة إليها غير متغيرة في شيء خاضعة للوصية الرسولية القائلة: «احفظ الوديعة الحسنة بالروح القدس الساكن فيها، معرضا عن الكلام الباطل الدنس ومناقضات العلم الكاذب الاسم الذي انتحله قوم فزاغوا عن الإيمان.»
10
وكنيسة المجامع المسكونية السبعة أقامت سر المعمودية منذ القديم بثلاث غطسات في الماء، ولم يزل التعميد بثلاث غطسات محفوظا في الغرب إلى القرن الثالث عشر عينه، وأحواض المعمودية التي لا تزال قائمة إلى الآن في أقدم هياكل إيطالية شهود تنادي عن الحقيقة بكل صراحة. أما نحن الأرثوذكسيين فبثباتنا أمناء على التعليم الرسولي «قد وقفنا مجاهدين عن المتاع العام؛ أعني الكنز الأبوي، كنز الإيمان الصحيح.»
والكنيسة الواحدة المقدسة الرسولية لبثت ألف سنة ونيف تتمم سر الشكر الإلهي في الشرق والغرب بخبز مخمر على مثال مخلصنا كما يشهد محبو الحقيقة من علماء اللاهوت الباباويين أنفسهم.
وكنيسة المجامع المسكونية السبعة كانت تعتقد أن القرابين تقدس ببركة الكاهن بعد صلاة استدعاء الروح القدس، إلا أن الكنيسة الباباوية ابتدعت بعد ذلك بدعة جديدة واستبدلت بقولها: إن تقديس القرابين المكرمة يتم بمجرد لفظ الأقوال الربانية: «خذوا كلوا هذا هو جسدي واشربوا منه كلكم هذا هو دمي!»
وكنيسة المجامع المسكونية السبعة تبعث وصية الرب القائلة: «اشربوا منه كلكم»، فناولت الجميع «كلكم» من الكأس المقدسة، أما الكنيسة الباباوية فإنها حرمت الشعب من الكأس خلافا لوصية الرب ولعرف الكنيسة القديمة العام.
وكنيسة المجامع المسكونية السبعة اتبعت تعليم الكتاب المقدس والتسليم الرسولي، فصلت وطلبت رحمة الله للعفو عن الراقدين بالرب وراحتهم، ولكن الكنيسة البابوية قالت منذ القرن الثاني عشر بالنار المطهرة، وزيادة فضائل القديسين وتوزيعها على المحتاجين معتقدة أيضا بأن الصديقين يحصلون على تمام المكافأة قبل القيامة العامة والدينونة.
والكنيسة الواحدة المقدسة الرسولية كنيسة المجامع المسكونية السبعة تعتقد بأن التجسد المتعالي عن الطبيعة تجسد كلمة الله الابن الوحيد من الروح القدس ومريم البتول هو وحده كان نقيا وبلا دنس، إلا أن الكنيسة الباباوية ابتعدت من مدة لا تزيد عن الأربعين سنة واعتقدت اعتقادا جديدا بالحبل بلا دنس بوالدة الإله مريم الدائمة بتوليتها، وهذه العقيدة لم تعرفها الكنيسة القديمة.
وإذا راجعنا ما قاله أبناء الكنيسة ومجامعها في القرون التسعة الأولى نجد أن أسقف رومة لم يعتبر ولا مرة رئيسا أعلى ورأسا معصوما في الكنيسة، وأن كل أسقف إنما هو رأس كنيسته المحلية خاضع لأوامر وأحكام مجامع الكنيسة الجامعة بما أنها هي وحدها سليمة من الغلط، ولا يستثنى من هذا القانون أسقف رومة مطلقا كما يوضح التاريخ الكنائسي، وأن رئيس الكنيسة الأبدي ورأسها السرمدي إنما هو يسوع المسيح ربنا؛ لأنه هو رأس جسم الكنيسة، وهو قال لتلاميذه ورسله: «وها أنا معكم كل الأيام وإلى منتهى الدهر.»
وبطرس الرسول يتحدث في مجمع أوروشليم الرسولي بلسان شخص مساو للحاضرين وهم مساوون له، حتى إن بولس وبخه مرة توبيخا مرا، كما يتضح من الرسالة إلى الغلاطيين:
11
والآية: «أنت بطرس وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي»
12
تشير إلى الاعتراف القويم الذي اعترف به بطرس بالرب «أنه هو المسيح ابن الله الحي.»
13
وعلى هذا الاعتراف والإيمان أسس الرسل جميعهم وخلفاؤهم التعليم الإنجيلي الخلاصي، وهكذا شرح بولس الرسول هذه الآية الإلهية شرحا صريحا، حيث نطق بروح الوحي وقال: «بحسب نعمة الله المعطاة لي كبناء حكيم وضعت أساسا وآخر يبني عليه ... إذ لا يستطيع أحد أن يضع أساسا آخر غير الموضوع الذي هو يسوع المسيح.»
14
كرم الآباء أسقف رومة؛ لأنه أسقف أول مدينة في المملكة فمنحوه شرف التقدم في الجلسات، واعتبروه أول أسقف في الرتبة فقط ؛ أعني أولا بين متساوين، وهذا التقدم منحوه فيما بعد لأسقف القسطنطينية حين صارت هذه المدينة عاصمة المملكة، كما يشهد القانون الثامن والعشرون من قوانين المجمع المسكوني الرابع، ولم يرد أي تلميح لا في قانون من القوانين ولا في كتاب أب من الآباء أن أسقف رومة هو وحده رئيس الكنيسة عموما وقاض معصوم عن الغلط.
وكل كنيسة ذات رئاسة كانت في أعصر المجامع المسكونية السبعة مستقلة عن غيرها ضابطة سياستها بيدها، وعندما كانت تقوم قضايا مهمة تحتاج إلى تصديق الكنيسة كلها كانت تستأنف إلى مجمع مسكوني؛ لأن المجمع المسكوني هو وحده كان ولم يزل المحكمة العليا للكنيسة الجامعة كلها، وإن كان بعض أساقفة رومة اعتراهم أحيانا حب المجد فقاموا يطلبون حقوقا تزيد عن ملء كيلهم مدعين برئاسة مطلقة، فهؤلاء وبخوا أو زجروا كما كان يليق.
وعلاقة الشرق مع الغرب علاقة مستقلة تتضح من أقوال باسيليوس الكبير في رسالته إلى أفسابيوس أسقف سميساط حيث يقول: «وحقا إن من طبيعة الأخلاق الصلفة أنها متى وجدت من يلاطفها ازدادت تشامخا، فإنه إذا تعطف الرب علينا فإلى أي شيء أكثر من تعطفه نحن محتاجون؟ ولكن إذا استمر غضب الله فماذا تكون مساعدة حاجب كبرياء الغربيين؟! فإنهم والحق يقال ليسوا على شيء من العلم، ولا يطيقون أن يتعلموا، ولكونهم مليئين بالوساوس الكاذبة يفعلون الآن ما كانوا يفعلونه قبلا بمركلوس.» هذا والأوامر الأيسودورية كاذبة مزورة.
وقد وسعت كنيسة رومة الهوة بين الفريقين بإعلانها رسميا في أواخر القرن التاسع عشر أن أسقف رومة معصوم من الغلط، فأدهشت العالم المسيحي! إن كنيسة المسيح لا تعرف أحدا وجد على الأرض معصوما من الغلط غير ابن الله وكلمته، وبطرس الرسول نفسه الذي يظن البابا أنه خليفته أنكر الرب ثلاث مرات ووبخه بولس الرسول مرتين بأنه لا يسعى مستقيما إلى حقيقة الإنجيل. والبابا ليباريوس وقع اعترافا آريوسيا في القرن الرابع. والبابا زوسيموس في القرن الخامس استحسن اعترافا هرطوقيا متنكرا للخطيئة الجدية. والبابا فيجليوس حكم عليه المجمع الخامس في القرن السادس بسبب سوء عقيدته. والبابا أونوريوس سقط في هرطقة المشيئة الواحدة فحكم عليه المجمع السادس واعترف خلفاؤه بهذا الحكم.
أيها الشعوب المحبة للمسيح شعوب البلاد الغربية الأماجد نفرح بكم؛ إذ نرى فيكم غيرة المسيح بانقيادكم للحقيقة التي تعرفونها أنه بدون الإيمان بالمسيح لا يمكن إرضاء الله، ولكن الإيمان بالمسيح يجب أن يكون مستقيما موافقا للكتاب والتقليد. وكنيسة الله الجامعة الحافظة في أحضانها هذا الإيمان الخلاصي بصفته الحقيقية؛ أي كوديعة إلهية لا تمس إيمانا واحدا صحيحا وسليما من كل غش كما سلم إليها منذ القديم وكما شرحه الآباء المتوشحون بالله أن هذه الكنيسة هي واحدة على الدوام وليست كثرة ولا تتنوع مع امتداد الزمن؛ لأن الحقائق الإنجيلية لا تقبل تغييرا ولا تطورا في الزمن كالفلسفات المتنوعة؛ «لأن المسيح يسوع هو أمس واليوم وإلى كل الدهور.»
ولنحذر الرسل الكذبة الذين يأتون بشكل الحملان ويحاولون أن يصطادوا البسطاء فينا بأوعاد متنوعة غشاشة، ويحسبون كل شيء حلالا ويتسامحون به في سبيل الاتحاد بالاعتراف بأن بابا رومة رئيس أعلى ومعصوم وله سلطان مطلق على الكنيسة كلها، نائب وحيد للمسيح على الأرض وينبوع لكل نعمة.
وإله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع هو يجعلنا كاملين راسخين مؤيدين مؤسسين، وليمنح جميع الذين هم خارج الحظيرة الواحدة المقدسة الجامعة الأرثوذكسية أن يستنيروا بنور نعمته ومعرفة الحق له المجد والعزة إلى أبد الآبدين، آمين.»
خشونة وفظاظة
وقسا قلب اسبيريدون وولى الاستعطاف أذنا صماء. وفتئ طفلاريوس يثير الشغب باذلا قصارى همته في إذلال الشعب واسبيريدون ضعيف الإرادة لا يحيد عما يوحيه إليه المشيرون؛ «حتى غدا الديدن يتمادى في الإرجاف والانتقاص من رجال الفضل، والسعي في تحقير بعض المطارنة وإذلال الرعية، وكانت الرعية تقيم الأود بالحزم وتارة تنيل الراحة مظهرة ما تسر من النوايا النقية، فتعكف على تنشيط لجانها الخيرية ومدارسها المجانية.» ولكن هذه الفرص كانت تغتنم في ابتداع مشاكل جديدة ومتاعب عديدة. ومما يروى والرواية صحيحة أن أحد السادة المطارنة خوف البطريرك عاقبة الإقدام على إحدى الفريات التي تغضب الشعب، وحبب إليه عيش الدعة والموادعة، وأنذره بأن سخط الشعب من سخط الله، فأبى وأوعد بما لا خير فيه.
15
المناداة بالسقوط
ولما رأى الشعب عدول اسبيريدون عن جادة الاستقامة قام عليه قومة رجل واحد في يوم عيد الرسولين بطرس وبولس في التاسع والعشرين من حزيران سنة 1897 ونادى بسقوطه، فذهب الوالي حسن باشا بنفسه إلى دار البطريركية وسمع دعوى الشعب فأعرض عن تطلبات السيد اسبيريدون.
وتولى ناظم باشا ولاية سورية والمسألة البطريركية في معظم اشتدادها فسلك فيها مسلك الاستقامة، ورفع إلى الباب العالي شكاوي الشعب الأنطاكي، فصدرت الإرادة السنية السلطانية بوجوب اجتماع المطارنة للنظر في المعضلة والتداول في حلها، فأقبلوا من أبرشياتهم ملاتيوس اللاذقية وميصائيل صور وصيدا وجرمانوس ترسيس ونيقوذيموس عكار وأثناسيوس حمص وغريغوريوس حماة وجراسيموس سلفكياس وغريغوريوس طرابلس وبنيامين ديار بكر ونكتاريوس حلب. ولم يستطع غفرائيل بيروت الحضور فاستناب مطران طرابلس، وبذل اسبيريدون جهده للبقاء على السدة البطريركية، لكن بالقسوة والجفاء لا بالحب والولاء، وتحقق لدى السلطات الزمنية المحلية أن هذه الحال غير ممكنة ونصح بعض المخلصين من المطارنة لغبطته أن يستعفي، فقدم استعفاءه في الحادي والثلاثين من كانون الثاني سنة 1898.
وقام بعد حين الأرشمندريت كاراباتاكي فصنف لمناسبة يوبيل اسبيريدون الأسقفي كتابا استغرق مائة وعشرين صفحة بحجم كبير عنونه: «البطريرك اسبيريدون والمسألة البطريركية الأنطاكية»، ضمنه سيرة حياة اسبيريدون في صفحات قليلة، وأفاض في الكلام بشأن انتخابه إلى الكرسي الأنطاكي، فعزا سقوطه إلى ما ارتكبه من أخطاء وإلى تدخل الروس وإثارة النعرة القومية. وجاء بفيذس فافترض افتراضا أن اسبيريدون قوى العنصر الوطني في أثناء بطريركيته وخدم مآرب الروس وارتكب ما ارتكب، فكان ما كان من أمر تسقيطه.
16
جرمانوس القائمقام البطريركي (1898)
وقبل المجمع الأنطاكي المقدس استعفاء اسبيريدون في جلسة السادس من شباط سنة 1898 وانتخب جرمانوس متروبوليت ترسيس قائمقاما بطريركا، وأبلغ السلطات المحلية بذلك فرفعته إلى الباب العالي، فورد التصديق عليه في الثالث والعشرين من الشهر نفسه.
ولما رأى جرمانوس أن المطارنة خولوه هذه المرتبة السامية، وأن الشعب مسرور به طمع بالكرسي البطريركي ، ونفخ نكتاريوس متروبوليت حلب في أنف جرمانوس شيئا من الغرور، فأصغى جرمانوس إليه وعول على البقاء في الكرسي مهما كلفه الأمر. وكان نكتاريوس موطنا نفسه على بلوغ الذروة البطريركية متوكئا على عكاز جرمانوس، ولكن رحمة الله تداركت الكنيسة فكشفت برقع الغرور وتمحلات نكاريوس ومقاوماته غير المشروعة التي استمر عليها مع ما توجه من المجمع من النصائح والإنذارات خطا وشفاها.
17
ثم صوبت الحكومة العثمانية مراعاة الأكثرية في قرار المجمع، ولم تعتبر الاكتفاء بالمرشحين من ضمن مطارنة الكرسي الأنطاكي ذنبا، فأقبل جميع مطارنة ونواب الأمة على إجراء الترشيح للمركز البطريركي في السادس من أيار سنة 1898، فأصاب كل مطارنة الكرسي الأحد عشر خطا من الترشيح، واستثنى منهم بنيامين ديار بكر ونكتاريوس حلب؛ لأنهما لم يكملا سبع سنوات في أبرشيتهما عملا بالقانون البطريركي القسطنطيني الذي كان ساري المفعول آنئذ في القسطنطينية وأنطاكية.
ولم يرق هذا الأمر لنكتاريوس فصور المسألة بصورة التعصب الجنسي، وأثار خواطر جرمانوس وبنيامين لمشايعته، وشكا أمره على هذا الأساس إلى البطريركين المسكوني والأوروشليمي، والواقع أن المجمع الأنطاكي شمل مطارنة من العرب واليونان، فأين التعصب الجنسي في الترشيح؟ وإذا كان هنالك شيء من ذلك فالمسئولية فيه تقع على نكتاريوس وبنيامين وجرمانوس اليونانيين الذين تشبثوا بإدخال مرشحين من خارج الكرسي الأنطاكي وليس في خارجه أحد من الإكليروس العربي! وبولس الرسول قال: «ولبستم الإنسان الجديد فثمة ليس بعد يوناني ولا يهودي لا ختان ولا قلف، لا أعجمي ولا أسكوتي لا عبد ولا حر، بل المسيح هو كل شيء وفي كل شيء.»
18
ملاتيوس القائمقام البطريركي (1898-1899)
وتدارك المدد العلوي المجمع الأنطاكي ففصل جرمانوس عن القائمقامية بعد أن أنذره مرارا، وانتخب في الثاني عشر من أيار سنة 1898 ملاتيوس اللاذقية للقائمقامية، وكثرت التدخلات وتنوعت فلم تصدر الإرادة السنية بالتثبيت قبل الثالث والعشرين من شباط سنة 1899.
البطريرك ملاتيوس الثاني (1899-1906)
وقبلت السلطات العثمانية دفتر الترشيح بلا استثناء بنيامين ونكتاريوس، ودعا القائمقام الجديد المجمع المقدس إلى العمل، فتمنع المطارنة المخالفون عن الاشتراك وكتبوا أنهم لا يعرفون السيد ملاتيوس قائمقاما رسميا، فالتأمت هيئة المجمع ثانية وأعيد استدعاء المطارنة الثلاثة فأبوا، فاستدعتهم الهيئة للمرة الثالث فأبوا وأضافوا أن فصل جرمانوس وتثبيت ملاتيوس هو بغير محله، فحينئذ قرر المجمع قانونية الجلسات السابقة منذ السادس من أيار، وعمل المجمع بدونهم، وأرسل دفتر الترشيح إلى الآستانة. وبعد أن قبل فيه وأخذ في المعاملات عليه عرض من المداخلات ما أعاق إرجاعه حتى الثالث من تشرين الأول سنة 1899، فاستدعى القائمقام المطارنة المخالفين فلم يشاءوا، ولما كان العمل الانتخابي تاما منذ الخامس عشر من نيسان سنة 1899 ولم يعرض عليه ما يفسده تقدمت المضبطة القانونية بتثبيت ذلك العمل. وفي الثالث والعشرين من تشرين الأول سنة 1899 صدرت الإرادة السلطانية بقبول الانتخاب وتصديق مأمورية ملاتيوس الثاني بطريركا على أنطاكية وسائر المشرق.
19
وامتلأت القلوب سرورا وحمل البرق البشرى إلى الشعب الأنطاكي في أقاصي الأرض، ونشرت الجرائد في مصر والشام هذه البشرى بعبارات ملؤها التهنئة:
رجاء دافعتنا الأيام فيه فوجدت منا قلوبا أشد على الدهر من الدهر، وأثبت على الصبر من الصبر، ونفوسا أصلب من الحديد تميد لها الجبال ولا تميد، وعزائم تفري الصوارم وترغم كل مراغم حتى ساعف الإقبال وسعد المآل، وصدحت البشرى بالأماني فرددتها القلوب ترديدا وكررتها شداء ونشيدا، فتمت النعمة العظمى والمنحة الكبرى. ألا وإن العناية الإلهية قد انتدبت إلى السدة البطريركية الأنطاكية، مثال الكمال الأكمل وعلم العلم الأمثل نبراس الطهارة وعنوان البرارة حنانيا مصره مقاما وأفوذيوس عصره مقاما، الحبر الجليل الغيور والراعي النبيل الوقور كيريوس كيريوس ملاتيوس الجزيل الطوبى والفائق القداسة بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق مطران اللاذقية سابقا.
20
تنصيب البطريرك
وما لاح نور صباح الأحد في الحادي والثلاثين من تشرين الأول سنة 1899 حتى غصت الكاتدرائية المريمية داخلا وخارجا ودار البطريركية بجماهير المؤمنين الأرثوذكسيين وغيرهم. وفي الساعة التاسعة حضر قناصل الدول وفي مقدمتهم ألكسيس بيلاييف قنصل روسية العام في دمشق والبرنس شوخوفسكي كونشليرها، فخرج الجميع من دار البطريركية يتقدمهم خفراء القناصل ويواكبهم عدد كبير من الجند وقصدوا الكنيسة، ولدى وصولهم إلى بابها قدم خسرو باشا وخلوصي باشا من قبل المشير، ويوسف طنوس وخليل الخوري من قبل الوالي.
فاتشح غبطته بالميتة والبطرشيل والأموفوريون، ودخل إلى الهيكل وأمامه الشموع والمرتلون يرتلون «بواجب الاستيهال»، والشمامسة يبخرون حتى وصل إلى الباب الملوكي، فانتصب أمام المائدة المقدسة والسادة المطارنة على جانبيها، وحينئذ ابتدأت صلاة التنصيب، فتلا أحد السادة التريصاغيون، ثم رتلت طروبارية أحد حلول الروح القدس: «مبارك أنت أيها المسيح إلهنا!» والقنداق: «لما انحدر العلي مبلبلا للألسن»، ثم ابتدأ غبطته بطلبات وختمها بالحل، وبعدئذ وقف في الباب الملوكي متجها إلى الشعب فمثل أمامه الأرشمندريت بولس أبو عضل كاتب المجمع المقدس ففاه بالإعلام العظيم الميغا منيما، وهذا نصه:
إن المجمع الأنطاكي المقدس ومصف الإكليروس الموقر وجماعة الشعب الأرثوذكسي المبارك قد انتخبوا غبطتكم باتفاق الرأي بطريركا على مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق بإلهام الله وتعطفات المتبوع الأعظم. وهم يدعونكم بواسطة الابن الحقير إلى هذا الكرسي البطريركي المقدس المؤسس من هامتي الرسل بطرس وبولس الإلهيين. فارتقوا إذن إليه أيها السيد الكلي الغبطة وزينوه عمرا مديدا كما زينه أسلافكم الرسل الأطهار وأغناطيوس المتوشح بالله وأفستاثيوس الكبير وملاتيوس الشريف، وسائر الذين تقلدوا زمام هذا الكرسي المقدس بخوف الله.
21
ثم تقدم متروبوليت بيرو ولبنان أول الأساقفة سيامة وسلم البطريرك عصا الرعاية البطريركية، وقال: «الله معك يا مبارك الرب، تشجع وتقو بالرب، وكن أمينا في الخدمة التي اختارها لك الله إلهك، وارع بخوف الله وأمانة ونشاط الرعية المفتداة بالدم الكريم في مراعي الخلاص، وأوردها ينابيع الحياة الإلهية حافظا الإيمان ساهرا في الصلاة محبا لله ولشعبه المختار معلما الجميع وصايا الرب وحقوقه صائرا مثالا في كل عدل، وخذ بيمينك هذه العصا القويمة لتكون لك نحو الجهال والمتمردين للتأديب والتربية، ونحو العقلاء والخاضعين للرعاية والعناية.»
فقبض البطريرك على عكاز الرعاية وخرج من الباب الملوكي يتبعه لفيف الأساقفة ورقي سدة الرسولين وأخذ الصليب وبارك الشعب، وقال: «إن جلالة المنصب بالنسبة إلى حقارتنا تزيدنا شعورا بضعفنا واحتياجنا إلى نعمة القدير الذي منه كل رئاسة وسلطة، فنستعين بنعمة القائل: «إن قوتي في الضعف تكمل »، ونتقدم لإتمام رغبة إخواننا بالرب الكلي الطهر وأبنائنا الأحباء بالروح القدس بارتقائنا إلى هذا الكرسي الرسولي المقدس، معاهدين الله الضابط الكل على أن نبذل جهد القدرة للقيام بأمانة ونشاط بواجبات المنصب الذي عهد إلينا ثابتين ومحافظين على الناموس الإلهي والترتيبات الشريفة ونفوس الرعية وحقوق الملة حتى النهاية، شاكرين لإخوتنا الكلي طهرهم انتخابهم لنا على ما بنا من الضعة، ولبنينا الأعزاء ثقتهم بنا على ما بنا من الضعف مستمدين العون الإلهي والمساعدة الأخوية والطاعة البنوية للبلوغ إلى غاية رضا الإله الذي يدين جميع الخليقة، فنظهر جميعا أهلا للدعوة التي دعيناها ولميراث ملكوت السماوات بنعمة المسيح إلهنا الذي له المجد والعزة والإكرام والسجود مع أبيه وروحه القدوس إلى أبد الدهر آمين».
ثم لفظ أثناسيوس متروبوليت حمص وتوابعها خطابا أهم ما جاء فيه قوله: «لنشكر الله الكريم؛ إذ أجزل العطايا وكلل الجهاد بالظفر، فاهنئي أيتها الكنيسة وسر يا مصف رؤساء كهنة الكرسي الأنطاكي بقطف أثمار أتعابك اليانعة! وابتهج أيها الشعب المجاهد في سبيل النجاح والتقدم، واعتصم دوما بحبال الألفة والاتحاد والتكاتف.»
واختتمت حفلة التنصيب وبدئ بالقداس الإلهي، فخدم البطريرك الأسرار المقدسة يعاونه مطارنة بيروت وعكار وحمص وطرابلس وأداسيس، وفي ختام القداس رقي غريغوريوس متروبوليت طرابلس المنبر وقال ما خلاصته: افرحوا بالرب أيها السيد الكلي الغبطة والأخوة الجزيلو الطهر والذوات الأجلاء والأبناء الأعزاء. تعلمون أن المراحم الإلهية بعد أن أنارت العقل البشري بالإعلان الإلهي ورسمت له الكهنوت وشرفت بعض البشر برئاسته ما كان من عدو البشر إلا نهض فنصب الفخاخ في سبيل الرؤساء والمرءوسين، وحرك عواصف المجد الفارغ في رءوس بعض الأمم فاحتملت الكنيسة من شواذهم مصائب ونوائب في كل جيل. ولم ننج نحن سكان هذه البلاد من تجارب عدو الخير؛ لأننا لا نزال في العالم إلا أن الذي لا يدع المؤمنين باسمه يتجربون فوق ما يطيقون، بل يجعل مع المحنة المخرج قد استيقظ فضرب أعداءه، ولم يختر سبط أفرام، بل اختار سبط يهوذا، ورضي الآن ما كان رضيه سابقا لداود؛ إذ أخذه ليرعى يعقوب عبده وإسرائيل ميراثه، وهكذا ارتضى الآن أن يرحمنا؛ لأنه نظر إلى مسكنتنا وحزننا، إذ أكلنا الرماد مثل الخبز وشربنا الدموع بالكيل، فبماذا نكافئ الرب على كل ما أعطانا؟ لو أن الرب يؤثر المحرقات لكنا الآن نعطي، لكن الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المتخشع المتواضع ما يرذله الله.
وهذا القلب وهذا الروح قد وجدناهما اليوم في السيد الجليل والراعي النبيل، فخر طغمتنا الرهبانية وقدوة ملتنا الأرثوذكسية، فإنه حبر مجرب في الرئاسة والسياسة مشهور بالدماثة بعيد عن الشكاسة ذو اطلاع على واجبات الراعي ويعلم أن تعليم الرعية ينبوع حياتها، وأن دوام الألفة عنوان ثباتها، وأن كل بنيه إخوة وهو لهم أب بالرب، يسهر على نفوسهم من الذئاب الخاطفة حذرا على إيمانهم من سيول الطغيان الجارفة.
22
المجمع والبطاركة (1899)
وكان أعضاء المجمع الأنطاكي قد أعدوا رسالة باللغة اليونانية وبعثوا بها في أول أيار سنة 1899 إلى «الكلي القداسة والغبطة كيريوس كيريوس قسطنطين البطريرك المسكوني وإلى كيريوس كيريوس صفرونيوس البطريرك الإسكندري، وإلى كيريوس كيريوس ذاميانوس البطريرك الأوروشليمي، الفائقي الاحترام.» فذكر بها السادة البطاركة بأمور أهمها ما يأتي: إذا كنا ثابتين في المحبة فلنا ملء الأمل بقداستكم الوادة الله وبمجمعكم الشريف ألا تمسوا حرية الكنيسة الأنطاكية الرسولية المقدسة التي هي أقدم الكنائس بعد كنيسة أوروشليم الحرية التي جاد بها المسيح نفسه على المؤمنين باسمه، وأن لا تزعزعوا أساس السلام ولا تجرحوا محيا المحبة الجميل، ولننس ما مضى إن أقلقتم أفكار الحكومة بتقديم استدعاءات واعتراضات رسمية ضد الكنيسة الأنطاكية واجتهدتم بإحباط أعمال مجمعها المقدس القانونية، ناسبين إليه مخالفة لتعامل قديم لا تعلق له بالأصول الدينية، والقوانين المسكونية الشريفة تأمر بصراحة وجلاء بأن مجمع كل أبرشية له وحده الحق المطلق في أن ينتخب بملء حريته مرشحين من حيث يشاء، ثم إننا نذكر لفطنة قداستكم بمحبة واحترام أن التاريخ الكنسي يروي أن كثيرين من الكرسي الأنطاكي تبوءوا كرسي القسطنطينية وكرسي أوروشليم، فلماذا لا تعتبر كل من هاتين الكنيستين ذلك تعاملا قديما ولا ترشح في انتخاباتها من الكرسي الأنطاكي، بل تحصر الانتخاب ضمن دائرتها الروحانية فقط؟ إن احتضانكم لمخالفة المطرانين (نكتاريوس وبنيامين) وسعيكم لمساعدتهما بإبطال انتخاب المرشحين الذي تم، وإلزام المجمع بانتخاب مرشحين من مطارنة الكرسي القسطنطيني أو الأوروشليمي يوسعان مجالا للظنون.
أو لم يكف لدمار الأرثوذكسية في أبرشيات أنطاكية أن أسلافنا - رحمهم الله - صدقوا ما كانت تذيعة الجرائد عن استعداد وفضائل البعض، وانتخبوا منهم بطاركة كانوا لعدم معرفتهم لغة الرعية واحتياجاتها يتصرفون معها بلا اكتراث أو لأسباب أخرى كانوا يسلكون غير المسلك الجدير بهم، فسببوا نفور آلاف كثيرة من الأرثوذكسيين تؤلف منهم اليوم طوائف كثيرة لم يكن لها قبل وجود في أبرشيات أنطاكية؟ وهذا الطوائف تحارب الأرثوذكسية بواسطة البروبوغندات الغنية والرهبنات الكثيرة حربا عوانا بالمدارس والكتب والجرائد وغيرها.
إن الظروف الحالية تقضي أكثر من ذي قبل على الرؤساء الروحيين الأرثوذكسيين في كل مكان بأن يحافظوا على وحدانية الروح برباط السلام، ويبذلوا كل ما عز وهان في هذا السبيل ويسعوا جميعهم لرفع شأن الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية الأرثوذكسية ولإعادتها إلى مجدها الأول.
23
فلما كان ما كان من أمر الانتخاب والتنصيب وجه البطريرك الجديد ملاتيوس الثاني الرسائل السلامية القانونية إلى متقدمي جميع الكنائس الأرثوذكسية المستقلة؛ أي إلى البطريرك المسكوني والقائمقام البطريركي في الإسكندرية وبطريرك أوروشليم ورئيس أساقفة قبرص ورؤساء المجامع المقدسة في روسية واليونان ورومانية والصرب والجبل الأسود وإلى بطريرك النمسة، فأعلن لهؤلاء الرؤساء تبوءه السدة الأنطاكية بانتداب المجمع والشعب وموافقة السلطان بعد انحلال المسند البطريركي سنتين، وطلب منهم جميعا الأدعية الأخوية والمعاضدة التي تقتضيها المحبة المسيحية وروح السلام، فرد جميع الرؤساء التحية بمثلها واعترفوا ببطريركية ملاتيوس الثاني ما عدا البطاركة الثلاثة وغيرهم من اليونانيين.
24
الفصل الثامن
ملاتيوس الثاني
مدرسة البلمند (1899-1900)
وجعل البطريرك ملاتيوس والمجمع باكورة أعمالهم العودة إلى مدرسة إكليريكية لتثقيف عقول المرشحين لخدمة الكنيسة وتهذيبهم في علوم الدين والدنيا.
1
فأقروا افتتاحها في مطلع السنة 1900 في دير البلمند واختاروا غريغوريوس الراهب الورع متروبوليت طرابلس وكيلا لها، وغطاس قندلفت خريج مدارس اليونان الإكليريكية مديرا وأستاذا للعلوم اللاهوتية فيها. وأسرع غريغوريوس إلى بيروت لإيجاد سائر الأساتذة، فخص جرجس همام الشويري بشطر وافر من جهده ودعاه لتعليم الرياضيات واللغة العربية. وكان الهمام قد عاد من جامعة أدنبرج مبرزا في الرياضيات العالية وفي الأسلوب الحديث في التعليم، ولا سيما في طريقته المستحدثة في تعليم اللغة العربية.
وفي الثامن والعشرين من تشرين الثاني سنة 1899 أعلن غريغوريوس وكيل المدرسة الإكليريكية الجديدة شروط الدخول ولائحة الدروس، فجاءت الشروط هكذا: (1) لا يقبل تلميذ في صف دروس السنة الأولى قبل بلوغه الخامسة والعشرين من عمره. (2) يسمح بدخول التلميذ في أي صف من الصفوف الثلاثة الأولى بحسب استعداده الذي يظهر باختباره عند الدخول، وأما في صف السنة الرابعة فبعد مطالعة دروس الصف الذي قلبه. (3) عند الدخول يختبر التلميذ في القراءة الفصحى العربية وفي مبادئ الصرف والنحو والجغرافية والحساب والتاريخ الشريف وفي مبادئ اليونانية إن أمكن. (4) لا ينقل تلميذ من دروس سنة إلا بعد أن يطالعها في السنة القانونية ويختبر فيها في آخر السنة ويظهر أهلا للانتقال إلى دروس سنة أعلى. (5) يشترط على التلميذ قبل دخوله أن يظهر لمدير المدرسة شهادة معمودية وشهادة تبين حسن سلوكه قبل دخوله، ويقدم لغبطة البطريرك الأنطاكي صك تعهد بأنه عند حلول الوقت المناسب يدخل في الطغمة الإكليريكية ويكون تحت أمر غبطته، ويخضع لنظام المدرسة ويبقى فيها إلى نهاية دروسه. ويقدم كفيلا معتمدا يكفله بأنه إذا خالف التعهد يدفع عنه عشرين ليرة عثمانية مقابلة لمصاريف تعليمه وملبوسه وسكنه ومأكوله وسائر لوازمه عن كل سنة مدرسية ولو أقام منها في المدرسة وقتا قليلا. (6) إن المدرسة تقدم للتلاميذ المتعهدين بالدخول في الطغمة الإكليريكية كل لوازمهم من كتب وملبوس وغير ذلك، فضلا عن مصروف التعليم والمأكول والسكن، ولا تكلفهم بارة الفرد من أجل هذا كله. (7) دروس المدرسة إلزامية لجميع التلاميذ. (8) لا يرخص لأحد من التلاميذ بالخروج من دائرة المدرسة إلا لأسباب ضرورية وبمعرفة المدير. (9) من يخالف نظام المدرسة إلى حد يستدعي فصله عنها فلا يعفى من القيام بإيفاء المبلغ الذي عليه كما لو خالف تعهده بالدخول في الطغمة الإكليريكية.
وجاء في لائحة الدروس عدد الساعات في كل سنة فكانت اثنتين وثلاثين في كل أسبوع في السنوات الثلاث الأولى، وثلاثين في الرابعة والخامسة وأربعة وعشرين في السادسة. أما اللغات فإنها العربية واليونانية والعثمانية والروسية. وأما العلوم فإنها الحساب والجبر والهندسة والطبيعيات وعلم الهيئة والتاريخ الشريف، وتاريخ الكنيسة والكتاب المقدس ومؤلفات الآباء الأطهار واللاهوت والفلسفة وتفسير القداس والصلوات والخطابة والوعظ والحقوق الكنسية والموسيقى الكنسية.
2
وجوب تعليم الإكليروس
وحملت مجلة «المنار» الأرثوذكسية في عددها الصادر في الخامس والعشرين من تشرين الثاني سنة 1899 مقالا شائقا لمدير هذه المدرسة غطاس قندلفت في تعليم المرشحين للخدمة الإكليريكية الشريفة، جاء فيه أن هذه الخدمة لا تقوم بإتمام بعض الرسوم والأعمال والفروض الخارجية؛ لأن رائدها هو قيادة البشر إلى الكمال بنعمة الله في الفضيلة والتقوى وإنارتهم لمعرفة الله بالإيمان به إيمانا قويما ولنيل خير مرضاته. وأهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإكليريكي هي الاستعداد الطبيعي لهذه الخدمة ومعرفة مقتضياتها وما تفرضه من الواجبات وحسن السيرة والسريرة وطيب الأثر والذكر، فالخدمة الإكليريكية هي أشرف الخدم تؤهل صاحبها ليكون آلة للنعمة الإلهية وللكرازة الإنجيلية ونورا يضيء بالفضائل وينير العقول بالمبادئ وملحا يصلح كل ما أفسدته الأيام، وراعيا يقود الخراف إلى مروج الخلاص ويبعد عنهم الذئاب الخاطفة، وللحصول على ذلك يجب عليه أن يحمل عصا الرعاية الروحية التي هي عصا الخطابة والإقناع ويرفع ترس الإيمان والفضائل ويستل سيف الحق ذا الحدين ليقطع به جميع ضلالات المناقضين.
والحرب اليوم عوان، وهي أشد قوة من مصادمات العصور القديمة، فمحاربو الديانة المسيحية اليوم يقاومون الكتاب المقدس نفسه والتقليد الشريف بكل ما يسرته لهم مطالعات التاريخ والفلسفة. فهم ينبذون التقليد وينكرون سلطان الكتاب المقدس وصحته وصدق نسبته إلى مؤلفيه، ولا يعترفون بسلامته من التحريف، وكثيرون ينبذون المبادئ الأولى في الدين المسيحي فلا يقبلون بوجود إله روحي قائم بذاته، ولا يميزون بين المادة والروح.
3
افتتاح المدرسة الإكليريكية
وفي التاسع من كانون الثاني سنة 1900 احتفل في دير البلمند بقداس إلهي، وبعد نهايته تم تدشين المدرسة الجديدة على يد الأرشمندريت أيوانيكيوس رئيس الدير الجديد وسائر آباء الدير وحضور جمع غفير من القرى المجاورة، فتقدم الشكر للإله العلي الذي ألهم لتأسيس هذا المشروع المقدس، ثم قدمت الأدعية للسلطان وللبطريرك وللمتروبوليت الوكيل، ووقف في الختام غطاس قندلفت مدير المدرسة وأستاذ اللاهوت فيها فألقى خطابا في فضل العلوم وفائدتها.
ملاحظات بطريركية
وفي أواخر السنة 1899 حملت الجرائد والمجلات الأرثوذكسية منشورا بطريركيا رعائيا شعاره: «وكونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.» وتضمن هذا المنشور ملاحظات بطريركية «هدفت إلى الحرص على آداب الملة وتوفير أسباب سعادتها وراحتها وتحسين ظروفها الصحية العامة.» وتناولت الخطبة والعرس والمعمودية والمعايدات وزيارة المرضى ومواد متفرقة أخرى. وقال طيب الله ثراه: «إذا قللنا فئة ما يقدم عربونا في الخطبة لا نقصد امتهان مقام الخطيب أو الخطيبة، بل بالأحرى تيسير الأمور وتسهيل الطرق لتكثر هذه العلائق التي ينتج عنها ازدياد الملة ونموها ونضارتها وزهاؤها، وهكذا القول في الزواج فإننا نحترم شرف هذا السر، ونعلم أنه مكرم ومضجعه بغير دنس. والله إنما خلق المرأة لتعين الرجل، ولو رأى استغناءه عنها لما أوجدها؛ ولذلك لا يجوز وضع العوائق والصعوبات في سبل الزواج. والأعياد اجتماعات حبية تجلب البركة والخير على المحتفلين بها لا اللعنة والضيق اللذين ينجمان عن البذل والتبذير. والشفقة والحنو فضيلتان في الإنسان، ولكن عيادة المرضى في غرفهم تجلب العدوى في بعض الأحيان، والموت عند المسيحيين جسر ينقل الذين في الأرض إلى السماء، فلا يجوز الاجتماع حول الميت والندب والصراخ.»
4
البراءة السلطانية
وثبتت الحكومة العثمانية انتخاب ملاتيوس الثاني وأصدرت بذلك براءة سلطانية وأرسلتها إلى والي سورية، فأعلم الوالي البطريرك بوصولها، فقام البطريرك في السادس والعشرين من نيسان سنة 1900 يصحبه مطارنة عكار واللاذقية وديار بكر لزيارة الوالي «دولتلو ناظم باشا» والتشرف باستلام البراءة. فاستقبل الوالي البطريرك «بما فطر عليه من اللطف والإيناس.» وأكد البطريرك إخلاصه لحكومة المتبوع الأعظم «وبسط أكف الضراعة والابتهال إلى الإله المتعال أن يحرس ويصون بوقايته جلالة السلطان ابن السلطان الغازي عبد الحميد خان .»
5
جولة رعائية (1900)
وبدأ البطريرك جولاته الرعائية بزيارة أبرشية بيروت ولبنان، فخفت ركابه تفقد شئون ديره في ضواحي الشوير في أواخر أيار السنة 1900. فأرسل ناظم باشا ياوره وخمسة فرسان إلى المقر البطريركي واستناب في وداع البطريرك كلا من خليل الخوري ويوسف طنوس، وأخذ سلام غبطته في محطة القطار فرقة من الضابطة ، وصحب البطريرك نيقوذيموس مطران عكار وأرسانيوس مطران اللاذقية والأرشمندريت بولس أبو عضل وكاتب البطريرك حبيب كومين، فسار بهم القطار حتى صوفر فحل البطريرك وحاشيته ضيوفا على جبران سرسق. وفي صباح اليوم التالي نهض البطريرك إلى حمانا فقدم الشكر في كنيسة الملة وزار كنيسة الموارنة. وما إن جاوز خراج حمانا حتى لقيه وفد كبير من جميع طوائف أرصون يتقدمهم الكهنة والأعيان. ولدى وصوله إلى أرصون قدم الشكر في كنيسة الطائفة وزار كنيسة الموارنة واستراح في منزل الخوري جرجس مجاعص، ثم زار سلمان بك شقير بكباشي الضابطة اللبنانية، واستتلى المسير بموكبه فخرجت بعبدات لاستقباله عند السفيلة، فزار مدرستها حيث ألقيت القصائد والخطب في اللغات العربية واليونانية والإفرنسية والإنكليزية.
ولم يتجاوز موكبه بعبدات حتى أقبل عليه وفد من المحيدثة يتقدمهم مدير القاطع الشيخ يوسف حاتم، فقدم الشكر في كنيسة المحيدثة وسار إلى دير مار إلياس البطريركي في ضواحي الشوير، فضاقت الطرق بوفود الشوير وبتغرين وعين السنديانة وغيرها، وأمامهم الإنجيل الطاهر ومدير الشوير حبيب أبو فاضل والكهنة بحللهم الكنسية وتلامذة مدرسة الشوير الأرثوذكسية. وسار الجميع حتى الدير فكان الآباء كهنة الدير ورهبانه وآباء الرهبانية الحلبية المارونية، فذهب الجميع إلى الكنيسة حيث أسدى البطريرك لله شكرا خالصا. وألقى الأرشمندريت بولس أبو عضل كلمة أثنى فيها على العواطف البنوية ودعا للذات الشاهانية وسأل للجميع البركة. وفي يوم الأحد خدم البطريرك الأسرار الإلهية وشاركه مطران عكار ومطران اللاذقية. وعقيب القداس اجتمع وجهاء الشوير وبقية القرى المجاورة في بهو الاستقبال، فألقى بعض تلامذة مدرسة الشوير الأرثوذكسية بحضور رئيسها الخوري يوحنا مجاعص القصائد ابتهاجا بقدوم راعي الرعاة. وفي ظهر النهار نفسه قدم وفد الرهبانية الحناوية الشويرية الكاثوليكية والمطران نعمة الله سلوان الماروني، وعند الغروب وصل قنصل روسية المسيو ليشن وحاشيته. ويوم الجمعة في الثاني من حزيران زار الدير البطريركي قائمقام المتن الشيخ رشيد الخازن مهنئا باسم نعوم باشا متصرف لبنان، ثم جاء وفد بسكنتا يتقدمهم الكهنة وملحم أغا نكد وراجي أبو حيدر، فانبرى صبري أندريا أحد أساتذة المدرسة الروسية في بسكنتا، فأبان عظم السرور الذي حاق «جميع السوريين الأرثوذكسيين» بارتقاء رئيس رعاتهم، وزار غبطته الشوير، فاستقبلته الجماهير على اختلاف المذاهب يتقدمهم الصليب الكريم والإنجيل الطاهر والكهنة بملابسهم الحبرية، فسار غبطته توا إلى كنيسة السيدة الأرثوذكسية ثم زار كنيسة مار بطرس للروم الكاثوليك.
وأعلن البطريرك رغبته في زيارة الرعية في بيروت في الثاني والعشرين من حزيران، فأم الدير البطريركي وفد بيروتي من قبل مطران الأبرشية ومجلس الملة فيها والجمعيات الخيرية الست الخيرية ودفن الموتى والتعليم المسيحي ومساعدة المرضى والقديس بولس واتحاد البر. وفي صباح الثاني والعشرين برح البطريرك الدير متجها نحو بيروت، فاستقبله في عين عار قائمقام المتن وفارسان من الضابطة اللبنانية وساروا بمعيته حتى أنطلياس، وكان ينتظر البطريرك هناك غفرائيل متروبوليت بيروت، وإسكندر بك التويني ممثل المتصرف، وجم غفير من السراة والوجهاء، وخطب الخطباء فألقى إبراهيم بك الأسود صاحب جريدة لبنان قصيدة قال في مطلعها:
لمثلك لاق مدح المادحين
وشكرك واجب دينا ودينا
كأنا والقوافي زاهرات
نفوق بها نظام الأولينا
ولدى وصول البطريرك إلى جسر نهر بيروت حد الولاية رحب به ميشال أفندي أده ترجمان الولاية باسم الوالي رشيد بك وقنصل روسية وأنطون أفندي سالم ترجمان قنصل اليونان، ووفد ماروني من قبل جمعية طوبيا البار وأخويه مار مارون وأخوة الفقراء. وارتقى البطريرك عربة الوالي وأمامه ياور الولاية وكوكبة من الفرسان، وسار والجماهير وراءه حتى بلغ الحديقة الحميدية (ساحة البرج) فبارك الجماهير وترجل وذهب توا إلى الكاتدرائية يتقدمه الصليب الكريم والإنجيل الشريف والكهنة والشمامسة وتلامذة مدرسة الثلاثة الأقمار. ودخل الكنيسة فقدم الشكر لله العالي، ثم رقي السدة الرعائية وقال: «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن مع جميعكم، ما أبهج هذا اليوم السعيد الذي يسرت لنا فيه العناية الإلهية البلوغ إلى هذه المدينة الزاهرة والوقوف في هذه الكنيسة المقدسة ومشاهدة نيافة أخينا الوقور السيد غفرائيل راعيكم الجزيل الطهر، وجميعكم على أحسن حال من الصحة والرفاه سيمتكم التمسك بالإيمان المسيحي القويم، وعلمكم التفاني في خدمة بعضكم بالمحبة تحت ظل حكومة متبوعنا الأعظم! فاسهروا واثبتوا في الإيمان. كونوا رجالا وتقووا ولتصر كل أمروكم في محبة. اسلكوا بحسب الدعوة التي دعيتم بها بكل تواضع ووداعة وطول أناة محتملين بعضكم بعضا في المحبة، مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام. لا تنسوا فعل الخير والشركة؛ لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله، اخضعوا للرئاسات والسلاطين.»
وجاء قنصلا روسية واليونان مهنئين والسيدة مريم تشيركاسوف «رئيسة المدارس الروسية في بيروت» ولجنة مجس الملة والوفد الماروني ومطران الروم الكاثوليك ملاتيوس فكاك، وزار البطريرك سراي الحكومة فجرى له استقبال شائق لائق وقابله الوالي باللطف والاحترام.
مدرسة جامعة في بيروت
وبحث البطريرك في أثناء وجوده في بيروت حاجات الطائفة مع مطرانها وأعيانها، فلمس لمس اليد خوف الطائفة من نشاط المرسلين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في حق الدعاية الدينية، وكان هذا الخوف قد تزايد فظهر أثره في الصحف والمجلات الأرثوذكسية، فقالت «المحبة» في عددها الصادر في أثناء إقامة البطريرك في بيروت: «إن المدارس التي جعلت غايتها اقتناص الأولاد من أحضان والديهم وإغراءهم على خيانة مذهبهم وتعليمهم التعصب وبغض كل ما هو خارج عن دينهم فحقها أن تهدم هدما وتحرق حرقا وتباد عن وجه الأرض؛ لأنها إنما وجدت لتفرق لا لتجمع، وتهدم لا لتبني، وتؤخر لا لترقي.» نقول: لمس البطريرك هذا الخوف المتزايد فعين لجنة بيروتية للنظر في إنشاء مدرسة جامعة برئاسة الأرشمندريت بولس أبي عضل، وعقدت هذه اللجنة جلسات متتالية، «فأقرت كل ما فيه نيل الرجاء، وشرعت في إخراج هذا المشروع من حيز الفكر إلى حيز العمل متدرعة بالحزم والحكمة.»
6
البطريرك في اللاذقية
وفي الخامس والعشرين من تموز سنة 1900 سار البطريرك إلى سراي الحكومة في بيروت لزيارة الوالي وإعلامه بعزمه على السفر إلى اللاذقية، فاستقبل وشيع بالإجلال والإكرام. ثم زار البطريرك قنصلي روسية واليونان للغاية نفسها. وفي السادس والعشرين ركب غبطته متن الباخرة النمساوية فجرى له عند المرفأ وداع رسمي، وركب زورقا خاصا وحيته الباخرة برفع الأعلام وأبحرت تقل الحبر الأنطاكي وحاشيته إلى اللاذقية.
وبلغت الباخرة طرابلس فوفد إليها متروبوليتها غريغوريوس وعدد من الأعيان والوجهاء مسلمين مودعين. ثم جرت الباخرة قاصدة اللاذقية فرست أمامهم في السابع والعشرين من تموز، وأحدقت بها الزوارق تقل وجهاء الروم يتقدمها توفيق أفندي صوايا ترجمان المتصرف وبعض رجال الحكومة. ولدى وصول البطريرك إلى الرصيف استقبله قناصل الدول ووفد ماروني، ثم سار الموكب يتقدمهم فصيلة من الجند وكوكبة من الفرسان والبطريرك والمتروبوليت يباركان الملاقين على الشمال وعلى اليمين حتى مداخل المدرسة، فاستقبله الكهنة بملابسهم الكهنوتية وبالصليب والإنجيل ومشوا أمامه مرتلين حتى كنيسة القديس نقولاووس الكاتدرائية، فصلى ودعا للسلطان وقدم للشعب خلفه أرسانيوس المتروبوليت الجديد وحضهم على طاعته ومحبته، وفي الغد زار غبطته ونيافة المتروبوليت شمس الدين باشا متصرف اللاذقية وشريف بك قائمقام العسكرية فردا لهما الزيارة في اليوم نفسه في المطرانخانة. وفي نهار الأحد الواقع في 30 تموز احتفل البطريرك بالقداس الإلهي يشاركه أرسانيوس المتروبوليت الجديد. وفي ختام القداس قرأ الأرشمندريت بولس أبو عضل البراءة الكنائسية المؤذنة بانتخاب أرسانيوس وسيامته مطرانا على أبرشية اللاذقية وما يليها.
مجلس للملة في اللاذقية
وفي مساء الإثنين في الحادي والثلاثين من تموز سنة 1900 حضر إلى المطرانخانة وجهاء الطائفة وأعيانها لأجل النظر في شئون الملة. ولما تكامل عددهم صلى البطريرك مستمدا المعونة والهداية، ثم شكر المتروبوليت تلبية الدعوة، وقال: إن الغرض من الاجتماع هو تأليف مجلس ملي ينظر في شئون الطائفة ويحامي عن حقوقها في كل الأبرشية المحفوظة من الله. وبعدما ألم بأهمية المجلس وفائدته وأشار إلى كيفية الانتخاب القانوني وزعت الأوراق على الجميع لينتخب كل منهم ثمانية أعضاء من أهل اللياقة والاستحقاق والغيرة والحمية. ثم جمعت الأوراق وأحصيت الأصوات بكل ضبط وتدقيق، فأصابت الأكثرية ميخائيل سعادة وأنطونيوس سعادة وكومين ويوسف صالح وإبراهيم نصري، وباسيلي كومين وإبراهيم عفيف ويوسف فهد وحبيب مرقس. وفي يوم الثلاثاء في أول آب وزع المتروبوليت على الأعضاء رقاعا يعلمهم بها بصورة رسمية تعيينهم أعضاء مجلس الملة، ويدعوهم مساء الخميس في الثالث من آب لعقد جلسة ينظم فيها هذا المجلس وتسن قوانينه.
وألف أرسانيوس والبطريرك لا يزال في اللاذقية محكمة روحية يرى فيها مع الكهنة «جميع القضايا الدينية»، وبحث أمر الفقراء والمرضى في مجلس الملة، فانتقى بموافقة الأعضاء أربع عشرة سيدة وكتب إليهن ودعاهن إلى بيت المسيو نقولا فيتالي قنصل إنكلترة، فبين غاية الجمعية التي سماها باكورة الإحسان، وحثهن على كساء المعوزات من بنات السترة ومساعدة الفقيرات وزيارة المريضات وإصلاح بعض العادات عملا بالمنشور البطريركي الرعائي.
مجلس للملة في طرابلس
وفي السابع والعشرين من آب سنة 1900 دعا غريغوريوس متروبوليت طرابلس عموم الشعب الأرثوذكسي إلى دار المطرانية لأجل انتخاب أعضاء المجلس الملي، فلبى الدعوة فريق من أبناء الملة وجرى الانتخاب على محوره القانوني فنال أكثرية الأصوات قيصر بك نوفل والأفندية جرجس نقاش وحنا الغريب وسامي صراف وإدوار كاتسفليس وعبد الله نحاس، وأسعد صوايا وسامي خلاط وإبراهيم صدقة وأنسطاسي زريق وأسعد عرقية.
ما لقيصر لقيصر
ورأى البطريرك الأنطاكي أن الواجب يقضي بالاحتفال بالعيد الفضي السلطاني، فأرسل إلى مطارنة الكرسي منشورا رعائيا أوجب فيه بذل الجهد المستطاع في إعداد الزينة ابتهاجا بالعيد الفضي السلطاني والاجتماع في الكنائس للدعاء ببقاء ولي النعم مؤيدا بالنصر. فنفذ الأمر البطريركي في جميع الأبرشيات، وأبرق المطارنة كل بمفرده وباسم رعيته إلى الأعتاب السلطانية، ولنا في تقرير دونه باسيل جبارة وضمنه أخبار هذا الاحتفال في حماة ما ينبئنا عما جرى في الكنائس من هذا القبيل، فهو يقول إنه أقيم في يوم العيد في حماة قداس حبري حضره أعيان المسيحيين والشعب، وإنه قبيل ختام القداس حضر وكيل المتصرف، فرتلت أولا المجدلة الكبرى، ثم قرئت رسالة بولس الرسول الآمرة بإقامة صلوات وابتهالات من أجل الملوك والحكام والإنجيل الذي صرح فيه السيد بوجوب إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وبعده تلا نيافة المطران غريغوريوس متروبوليت حماة طلبات حارة من أجل حفظ جلالة السلطان وتأييده بالنصر، فأمن عليها الشعب أجمع، وفي الليل أقيمت الأفراح عموما حتى كنت تحسب أن في كل بيت عرسا.
7
وجرى مثل هذا في حلب برئاسة متروبوليت ديار بكر سلفسترس (زرعوني).
حيث دعي المؤمنون مسيحيين أولا
وفي الحادي والثلاثين من آب سنة 1900 أبرق البطريرك الأنطاكي إلى رئاسة مجلس الملة في الإسكندرونة ينبئ بوصوله إليها بحرا في الرابع من أيلول. فاجتمعت الملة في بيت وكيل البطريرك حنا أفندي ظندي صايغ، وانجلى قرار هذه الهيئة عن تأليف لجنة خصوصية للاستقبال. ثم أبرقت هذه اللجنة إلى حلب وأنطاكية وعرصوص بقدوم البطريرك فأخذت الوفود تتوارد من جميع الجهات. وفي صباح الرابع من أيلول أطلت الباخرة النمساوية رافعة العلم العثماني، فهرع لاستقبال غبطته أعضاء مجلس الملة والوجهاء وممثلو الطوائف المسيحية. وأرسل قومندان الدارعة العثمانية الراسية في مياه الإسكندرونة زورقا خصوصيا لينقل البطريرك إلى البر، ولما ضاق ظهر الباخرة بالوفود نزل البطريرك والحاشية والوجوه والأعيان إلى البر فاستقبله الكهنة الأرثوذكسيون والأرمن بالحلل الكنسية والصليب والإنجيل، وأخذت سلامة فرقة عسكرية كاملة، فبارك الجماهير وذهب توا إلى الكنيسة فصلى وشكر وبارك، ثم صعد الكرسي وعلى جانبيه قائمقام البلدة علي نسيب بك وقائد الموقع وقنصل فرنسة، فلفظ الأرشمندريت بولس أبو عضل خطابا اختتمه بالدعاء للسلطان، وتكلم الأب بابا يوركي باليونانية مرحبا. ثم انتقل البطريرك إلى الكنيسة الأرمنية «فدخل هيكلها وصلى وبارك»، ثم قال: إن أعظم سروره في الحياة أن يرى الشعب المسيحي متحدا برابطة الحب مؤتلفا ائتلافا سلميا تحت ظل المتبوع الأعظم، ووقف كاهن الأرمن وتكلم بالتركية شاكرا. وفي اليوم التالي زار البطريرك القائمقام والقومندان وقنصل فرنسة فاستقبل بالحفاوة التامة، وأنعم غبطته على نجل حنا أفندي صايغ وكيله في الإسكندرونة بثلاث مادوليونات من الذهب الخالص مرصعة بالحجارة الكريمة تمثل قيامة الفادي وعليها رسم البطريرك ملاتيوس الثاني.
8
وتكاملت وفود الأنطاكيين فركب البطريرك عربة خصوصية وواكبته كوكبة من الفرسان، وخرج في طريقه إلى حيث دعي المؤمنون مسيحيين أولا. ولما بلغ موكبه منتصف الطريق أتى للترحيب بغبطته كاهن بيلان الأرمني ووجوه طائفته فيها، فدخل كنيسة الأرمن وصلى وبارك وحض الشعب على أداء فريضة العبودية للمليك الأعظم. وسار من بيلان قاصدا أنطاكية، فلما بلغ نهر البطريركين وجد في استقباله كثيرين من أهالي أنطاكية بينهم مهران أفندي نجل قنصل ألمانية ، فاستراح وتناول الغداء، ثم استأنف السير إلى أن بلغ قسطل الدنك على بعد نصف ساعة عن أنطاكية، فوجد فيها كبار الموظفين والرجال العسكريين وحيته فرقة كاملة من الجيش، وجلس عن يساره قائمقام أنطاكية. وسار باحتفال عظيم فدخل مدينة الله أنطاكية العظمى وذهب توا إلى كنيسة القديسين بطرس وبولس، وقدم الشكر لله ثم استناب الأرشمندريت بولس أبا عضل ليدعو ويشكر. وزار في اليوم التالي السراي والثكنة.
كتاب التيبيكون
وبينما كان البطريرك يتفقد شئون الرعية في أبرشيات الكرسي الأنطاكي كان تلميذه البار الأرشمندريت جراسيموس مسرة يشتغل ليل نهار ليفاجئ معلمه بهدية تقر لها عينه، فإنه اعتمد الطبعة القسطنطينية الأخيرة من كتاب التيبيكون المصدقة من مجمعها المستعملة في كنيستها العظمى، وأضاف إليها فوائد من تيبيكون القديس سابا وكتب الخدمة وسبكها بعبارة عربية خالصة، وطبعها على نفقته وحبسها وقفا توزع على جميع كنائس الكرسي الأنطاكي وأبرشياته وأديرته في المدن والقرى؛ تذكارا لارتقاء معلمه راعي الرعاة كيريوس كيريوس ملاتيوس الثاني على السدة البطريركية الأنطاكية.
وجاء تيبيكون جراسيموس العربي في لمحة وأربعة أقسام وملحق، واللمحة حوت ترتيب فرض المساء والسحرية وخدمة القداس الإلهي في أيام الآحاد والأعياد على مدار السنة في جميع ظروف وقوعها. والقسم الأول حوى ترتيب الفرض مساء وصباحا وخدمة القداس الإلهي في بحر الأسبوع، وفي يوم الأحد، وصلاة المساء الصغرى وترتيب السهرانة مع صلاة المساء الكبرى. والقسم الثاني تضمن تيبيكون الميناون؛ أي أعياد الشهور الاثني عشر كالأعياد السيدية وأعياد القديسين الممتازين، والقسم الثالث حوى تيبيكون التريودي الذي تضمن ترتيب الخدم من أحد الفريسي والعشار إلى يوم السبت العظيم المقدس، كخدمة الصوم الأربعيني مع ما فيها من الصلوات المسائية والسحرية وصلاة النوم الكبرى وخدمة المديح، وقداس البرويجيازمينا وخدمة سبت الآلام المقدسة. والقسم الرابع تضمن خدمة أعياد البنديكستاري من أحد الفصح المجيد إلى أحد جميع القديسين. والملحق شمل ترتيب حفلات كنائسية كتكريس الكنيسة والغسل الإلهي الشريف الذي يقام يوم الخميس العظيم، ولا سيما كيفية الاحتفال به في مدينة الله أوروشليم المقدسة وشرطونية رؤساء الكهنة وخدمة جنائز الراقدين. وذيل جراسيموس هذا الكتاب بتفسير مختصر للكلمات اليونانية الواردة فيه.
التعاليم السنية
وبر بالبطريرك تلميذ آخر وهو غريغوريوس (جبارة) متروبوليت حماة، فأكمل في أواخر السنة 1900 كتابا دافع به عن العقيدة الأرثوذكسية وأسماه «التعاليم السنية». ورفعه إلى معلمه ملاتيوس الثاني البطريرك الأنطاكي، فلمس المعلم فؤاد الكتاب الجديد فدفعه إلى الطبع ورسم بأن يوزع مجانا على كهنة الكرسي والجمعيات الخيرية.
وأورد غريغوريوس في هذا الكتاب مقدمة في ماهية السر عند الكنيسة ثم استهل الأبحاث أولا في سر الثالوث الأقدس، وهنا أثبت ما جاء في الكتاب المقدس من الآيات الباهرة الناطقة بهذا السر السامي على العقول البشرية، وبحث في انبثاق الروح الكلي قدسه من الله الآب، فقال: إن الاعتقاد بأن الروح القدس ينبثق من الآب والابن مخالف للتعليم الإلهي؛ لأن «الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الأب هو نفسه قد أخبر.»
9
ولأن هذا الابن الوحيد أخبر أن «أن الروح القدس من الآب ينبثق.»
10
ولأن الواجب يقضي بالاقتناع بما علمه الرب، والاعتقاد به بدون زيادة «والابن» حذرا من المذكور في الرؤيا: «من زاد شيئا على هذه يزيد الله عليه الضربات، ومن أسقط يسقط الله نصيبه من الحياة.»
11
ثم يجيب غريغوريوس على الاعتراض بقول بولس: «أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم.»
12
وبالقول: «كل ما للآب فهو لي», وغير ذلك من الاعتراضات.
ثم تكلم غريغوريوس في الأسرار إجمالا فتفصيلا، ولما أكمل البحث في هذه الأسرار الجليلة انتقل إلى الكلام في رسم علامة الصليب الكريم وفي الآيات الكريمة التي تؤيد القول أن العذراء هي والدة الإله. ثم أتى على تحقيق الشفاعة ووجوب استمداد صلوات القديسين. ثم ذكر الشواهد الكتابية على إكرام الأيقونات المقدسة، وبحث بحثا جليلا في أن الخلاص يلزم لنيله إيمان مستقيم وأعمال صالحة، وقفى بنبذة نفيسة في أن الصوم مأمور به من الله. واختتم هذه الحقائق بالكلام عن اعتقاد كنيستنا المقدسة الأرثوذكسية، وكونها ما حادت ولن تحيد عما تسلمته من الرسل الأطهار والآباء القديسين، محافظة على وديعة الإيمان النقي في كل العصور حتى انقضاء الدهر.
رفيق المسافر
ونشط في هذه الفترة عينها عبده يني بابا دوبولوس فعرب عن اليونانية كتاب «رفيق المسافر» الذي أعد بسعي المعلم فوتيرا وبإجازة المجمع القسطنطيني المقدس. ومما قاله معربه: إن الواجبات الدينية والفروض الكنائسية هي من أخص الالتزامات الأولية على كل مسيحي قويم الرأي. وأضاف المعرب أنه لما كانت هذه الفروض صعبة التناول لتفرقها في كتب شتى؛ أي في كتب الإنجيل الشريف والرسائل والسواعي وخدمة القداس والتريودي والبندكستاري والميناون والمعزي وغيرها، وكان جمعها لا يتسنى لكل فرد لندرة وجودها أو لغلاء أثمانها، فقضت الضرورة بنقل هذا الكتاب من اليونانية إلى العربية.
شفاعة القديسين
وظهر في حمص في السنة 1896 بحث شائق متين في إثبات شفاعة القديسين. ومن أجمل ما جاء في هذا البحث الأرثوذكسي المغفل الذي نشرته جمعية الغاية الجليلة الأرثوذكسية القول بوحدة المؤمنين بيسوع، وبأنه لا شدة ولا ضيق ولا اضطهاد ولا جوع ولا عري ولا خطر ولا سيف، بل ولا الموت نفسه يمكن أن يفصلنا، وإن انفصال المؤمنين عنا بحسب الجسد لا يمنع اتحادهم معنا بالروح، فالكنيسة موجودة على الأرض وفي السماء، وهي منظورة وغير منظورة، فالأولى تحوي جميع الأرثوذكسيين العائشين على الأرض والثانية تضم نفوس الذين قضوا آجالهم في الإيمان المستقيم والقداسة. ويؤيد وجود الكنيسة على الأرض وفي السماء واتحاد الفريقين قول بولس: «قد اقتربتم من صهيون ومن مدينة الله الحي أوروشليم السماوية وجماعة ربوات الملائكة وموسم كنيسة الأبكار المكثوبين في السماوات، ومن الله ديان الجميع، ومن أرواح الصديقين الكاملين ومن يسوع وسيط العهد الجديد.» وهذا يدل دلالة واضحة على وجود الكنيسة في السماء وفي الأرض. وبما أن رأس الكنيستين السماوية والأرضية واحد وجب الاتحاد بينهما لئلا يكون للرأس الواحد جسمان.
وبناء على هذه الوحدة فالكنيسة المجاهدة على الأرض تستدعي في صلواتها قديسي الكنيسة السماوية الظافرة لأجل معاضدتها؛ لأن صلاة البار تقتدر كثيرا في فعلها. وهكذا فإن كنيستنا منذ نشأتها حتى الآن تطلب في صلواتها شفاعة القديسين الذين جاهدوا على الأرض لأجل المسيح؛ لأنهم بحسب درجاتهم أقرب لله منا، ومتى اقترنت صلواتنا مع صلواتهم تتقدم إلى عرش النعمة كبخور ذكي فينعم الله علينا بما نلتمسه منه؛ لأنه يستجيب للأبرار.
جمعيات التعليم المسيحي
وأدى نشاط المبشرين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في حقل التعليم وإقدامهم على اجتذاب الأحداث إلى كنائسهم إلى نشاط مماثل في الأوساط الأرثوذكسية، وسعي حثيث لبث التعاليم المسيحية الأرثوذكسية في المدارس الملية وخارجها. وسبقت أبرشية بيروت غيرها من الأبرشيات في هذا المضمار، فنشأت فيها منذ السنة 1877 جمعية التعليم المسيحي وتلتها في السنة 1882 جمعية القديس بولس، وسرت العدوى إلى سائر الأبرشيات فلم تخل أبرشية من جمعية تعنى بنشر التعاليم المسيحية الأرثوذكسية، وظلت بيروت في طليعة الأبرشيات في هذا الحقل من العمل بهمة أيكونوموسها الخوري إلياس مجاعص ونشاط ابنها الغيور فضل الله أبي حلقة. وبدأت هذه الجمعية بجمع شبان الملة وأولادها في أيام الآحاد والأعياد لتتلو عليهم فصولا من الكتاب المقدس وتآليف الآباء ومواعظ وخطبا تتناسب مع ظروف ذلك العصر. وكانت توزع على الأولاد صور بعض القديسين تنشيطا وترغيبا، ثم دفعت عبده يني بابا دوبولوس إلى وضع كتاب في التعليم المسيحي يتفق وسن الأحداث في الأبرشية.
وفي مطلع السنة 1899 أصدر أحد أعضاء هذه الجمعية فضل الله أبو حلقة مجلة المحبة مرة في كل أسبوع وجعلها دينية علمية أدبية إخبارية، وضمن عددها الأول نبذة تاريخية في انتشار الديانة المسيحية في بلاد اليابان منقولة عن لسان الياباني دانيال كونيسي، ومقالة تاريخية أخرى عن بيت لحم حيث ولد المسيح، وذلك بعبارات أنيقة رشيقة ترتاح لمطالعتها النفوس. ووعدت «المحبة» يوم صدورها أن تقترح على أرباب الأقلام موضوعا تجول فيه أفكارهم وتعين لذلك جائزة لمن يحوز قصب السبق في هذا المضمار. وفي أوائل السنة 1900 عينت جائزة قدرها عشر ليرات إفرنسية، وهو مبلغ كبير في ذلك العصر، لمن يقدم لها تقريرا مسهبا عن الكرسي الأنطاكي يشتمل على سلسلة البطاركة الأنطاكيين بوجه الإيجاز، وعلى أقسام الأبرشيات قديما وحديثا وأسماء المدن والقرى والمزارع، وعدد سكانها الأرثوذكسيين وعدد الكنائس وأسمائها في كل مدينة وقرية ، وعدد الكهنة وعدد الكنائس والمعلمين والمعلمات والتلاميذ وحاجة الملة في كل أبرشية وسبيل سدد الخلل فيها.
جمعية القديس بولس البيروتية
وفي صيف السنة 1881 اصطاف أحد الغيورين الأرثوذكسيين في قرية برمانا من قضاء المتن، ولدى سماعه القداس الإلهي في كنيستها لم يكد يفهم ما كان يتلوه كاهنها لقلة بضاعته وكبر شيخوخته. وبعد انتهاء القداس اجتمع هذا الغيور ببعض وجوه القرية وقال إنه لا يناسب أن يستمر كاهنكم في الخدمة لعجزه، ولا سيما والملة كثيرة العدد هنا. فأجابوه: يا ليت هذا الكاهن مختص بخدمة كنيستنا فقط، فإنه يخدم كنائس أخرى في القرى المجاورة لخلوها من الكهنة! فحثهم على انتخاب كاهن أو اثنين، ولدى عودته إلى بيروت جمع بعض الإخوة من ذوي الغيرة والمحبة وبين لهم حالة الملة في لبنان، وأنه يجب النظر إليها بتأليف جمعية تعنى بقرى الأبرشية، فبدأ هؤلاء يواصلون الاجتماع ويقرءون الكتب ويقيمون الصلوات حتى السنة 1883 عندما قابلوا غفرائيل متروبوليت الأبرشية وعرضوا عليه مشروعهم، فسر الراعي الجليل وحض على مواصلة الاجتماع والصلوات، وأطلق عليهم جمعية القديس بولس الرسول، ثم سن لهم قانونا وباركهم.
وفي أول أيار السنة 1883 التأمت جمعية القديس بولس جمعية قانونية برئاسة غفرائيل ونيابة الشماس غريغوريوس حداد (المطران فالبطريرك)، وعضوية الخوري جراسيموس فواز رئيس دير القديس يوحنا دوما والخوري جرجس قطيط والخوري جرجس جنحو، والإخوة إبراهيم حايك وإبراهيم سعد وإلياس يوسف سعد وحنا ثابت وفرج الله رزق الله، وفضول صباغة وفضول العم ولطف الله الزهار ولطف الله منسي ومتري حايك ومتري سماط وجبران بشور وجرجس قرداحي ونقولا كفوري.
واتصل رئيس الجمعية بالمجمع الروسي المقدس فتبرع هذا المجمع بألف روبل وبكثير من الأيقونات والأواني الكنسية، وبذل أعضاء الجمعية من أموالهم الخاصة وجمعوا من غيرهم، وأخذوا يطوفون في جهات لبنان من قرية إلى قرية ومن مزرعة إلى مزرعة يساعدون الكنائس ويؤسسون المدارس، واندفعوا إلى خارج أبرشية بيروت ولبنان فعملوا في راشيا وكفر مشكي وظهر الأحمر وعكار وغيرها، وسعوا في نشر نفائس الكتب الدينية على نفقتهم فطبعوا البوق الإنجيلي والأورولوغيون الكبير والتعليم المسيحي، وما أشبه من الكتب الجليلة.
الغاية الجليلة في حمص
وهب مثال الغيرة والتقوى الطيب الذكر أثناسيوس متروبوليت حمص وتوابعها لرعاية أبرشيته، فرأى كلمة الله حية فعالة أمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل، فتدرع بالأعمال الصالحة التي بها أكمل الإيمان، فأنشأ المدارس بالتعاون مع الجمعية الإمبراطورية الروسية، ووجد في خليل بيدس خير مدير لهذه المدارس ونظم الجمعيات واللجان للعمل. ففي السنة 1896 ألف أثناسيوس جمعية الغاية الجليلة لنشر الفضيلة، فعينت هذه الجمعية مطالعة الكتب المقدسة وتفسيرها وتأسيس مكتبة وطنية عمومية يستفيد من مطالعتها سواد الملة.
وانتظمت في السنة 1898 جمعية بوق النجاح في نور العفاف والإصلاح، فجمعت كتيبة نشيطة من سيدات حمص وكرائمها، فكانت تلتئم كل أسبوع في يوم الأحد لتلاوة الأقوال الروحية والأناشيد الدينية، فيتذاكرن في كلمة الخلاص وينصرفن لتشجيع الأعمال اليدوية واقتلاع العادات الضارة لتخفيض نفقات ربات البيوت.
أخوية التقوى في إزمير
ولم تنحصر هذه النهضة المباركة في كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى وحدها، فخطر التبشير الغربي هدد أخواتها في أوروبة وآسية وإفريقية كما هددها في جميع أبرشياتها، وكان من نتائج هذا التهديد في إزمير أن انتظمت في السنة 1893 لجنة روحية أعضاؤها من العامة وأكثرهم صناع وفعلة، واتخذت هذه اللجنة لنفسها الاسم أوسيبيا وجعلت غايتها إنهاض الحياة الروحية والبشارة بالإنجيل، وتزعم أعمالها كركور فافيادس، وتكاثر الأعضاء العاملون حتى أصبحوا في السنة 1200 سبعمائة بينهم ثلاثون مبشرا من العامة. وبارك متروبوليت إزمير هذا المشروع وأيده في ذلك بطريرك الإسكندرية وغيره من الرؤساء الروحيين اليونانيين في كل مكان.
شغور الكراسي (1899-1902)
وشغر كرسي اللاذقية مذ تسنم ملاتيوس الثاني عرش الرسولين، وحرد جرمانوس متروبوليت حلب وبنيامين متروبوليت ديار بكر منذ انتخاب البطريرك، وتوفي متروبوليت أرضروم. وفي الرابع عشر من أيلول سنة 1899 رقد بالرب جراسيموس متروبوليت سلفكياس (معلولا وبعلبك وزحلة). وفي السابع من كانون الثاني سنة 1901 فاضت نفس غفرائيل متروبوليت بيروت ولبنان. وفي الرابع من تشرين الأول من السنة نفسها انصرف نيقوديموس متروبوليت عكار إلى جوار ربه.
انتقاء المطارنة
وكان المجمع الأنطاكي المقدس قد اتخذ قرارا في ربيع السنة 1898 بوضع نظام على غرار نظام بطريركية القسطنطينية، وكانت الحكومة العثمانية قد أذنت له بذلك (14 آذار 1898)، فألف لجنة برئاسة ملاتيوس اللاذقية وعضوية أثناسيوس حمص وغريغوريوس حماة وغريغوريوس طرابلس وجراسيموس سلفكياس، واشتراك بعض العلمانيين المتضلعين في نواميس الكنيسة ونظاماتها. وكانت هذه اللجنة قد أنجزت منذ صيف السنة 1899 نظام انتخاب البطاركة والمطارنة ونظام تأليف المجمع الأنطاكي المقدس «الدائم» ووصلت إلى نظام المجلس الزمني.
وفي السنة 1901 دبج غطاس قندلفت أحد أعضاء هذه اللجنة المشتركين سلسلة مقالات في انتخاب الأساقفة وشرطونيتهم ونشرها تباعا في مجلة «المنار» الأرثوذكسية في بيروت، فأعلن أن اللجنة المشار إليها أقرت موادا ثلاثا في الصفات اللازمة لمن ينتخب للأسقفية. ونشر نص هذه المواد فجاءت معربة عن سياسة البطريرك الجديد في انتقاء المطارنة ومجمعه المقدس.
وجاء في المادة الأولى أنه يجب على كل منتخب أن يكون عثمانيا عن أب وبلا لوم تجاه الدولة والملة، وأن يكون قد أحرز شهادة بحسن حاله من المحلات التي أقام فيها، وأن يكون قد أتم الثلاثين من عمره، تام الأعضاء من الذوات المعروفين عند الكنيسة ملما بلسان الأبرشية التي يعين لها. وجاء في المادة الثانية أن «رتبة الأسقفية تعطى لمن يثبت أنه تعلم العلوم الكنائسية الأرثوذكسية في المدارس الأرثوذكسية ونال شهادتها.» ونصت المادة الثالثة على كيفية الترشيح والانتخاب، فأشركت الأبرشية في «ترشيح ثلاثة من الذوات الذين أحرزوا الصفات المحررة في المواد السابقة.» وأوجبت على البطريرك أن يبلغ المطارنة أسماء هؤلاء في ظرف أسبوع واحد، وأن يدعوهم إلى الانتخاب بعد أسبوعين.
13
وأنهى غطاس قندلفت مقالاته سائلا الله أن يأخذ بيد البطريرك والمطارنة ويمكنهم «سريعا» من إقامة الرعاة اللازمين إلى الأبرشيات المترملة «جريا على ما تفرضه القوانين الكنسية التي لا تسمح أن تلبث الأبرشيات مترملة مدة طويلة. وعملا بما يقتضيه صالح الرعية وتعزيز شأن الأرثوذكسية دفعا لمطامع من لا يرغبون في صالحها الحقيقي ويشمتون بضعفها وانحطاطها ويقفون لها بالمرصاد، ولا يهمهم نجاح كنيسة تاريخية قديمة مهمة في جسم الأرثوذكسية .»
14
وعمل البطريرك بتوصيات المجمع وبمؤازرته، فسام أرسانيوس (حداد) شماس غفرائيل متروبوليت بيروت مطرانا على اللاذقية في الثاني من كانون الثاني سنة 1900. وفي الخامس والعشرين من آذار السنة نفسها سام سلفسترس (زرعوني) مطرانا على ديار بكر، وكان سلفسترس قد لبس الأسكيم في دير البلمند، ثم التحق بملاتيوس في اللاذقية فغريغوريوس في طرابلس شماسا إنجيليا، ثم رسم قسا وأرسل إلى ترسيس لخدمة أبنائها فأقام فيها تسع سنوات.
15
وفي أول كانون الثاني سنة 1902 سام قسطنديوس (طرزي) مطرانا على أرضروم، وكان قد لبس الأسكيم في دير مار تقلا معلولا سنة 1859 ودرس اللاهوت وسائر العلوم الدينية في مدرسة الريزاريون في أثينا، وزار أوروبة وأميريكة وخدم في الكرسيين الأوروشليمي والإسكندري. وخص ملاتيوس الثاني حلب بعنايته فسام أبيفانيوس (السمرا) متروبوليتا على حلب والإسكندرونة وتوابعها في الثاني من شباط سنة 1902. ولد في دمشق سنة 1867 ودرس في المدرسة البطريركية في دمشق، ثم التحق بأثناسيوس متروبوليت حمص، فأخذ عنه التقوى والورع والعلم والموسيقى، فلبس الأسكيم سنة 1884 ثم تبع معلمه إلى حمص ودخل في خدمة غريغوريوس متروبوليت طرابلس وتولى رئاسة دير البلمند ودير مار جرجس الحميرا. وتفوق في الوعظ والكتابة والترتيبات الكنائسية، ثم انتخب المجمع المقدس الأرشمندريت ألكسندروس (طحان) رئيس الأمطوش الأنطاكي في موسكو مطرانا لأبرشية ترسيس، فسامه البطريرك في 30 تشرين الثاني سنة 1903. وكان ألكسندروس قد تميز بعلمه ففاز بالشهادة اللاهوتية الأولى من مدرسة خالكي وأجاد الموسيقى الكنسية واللغات العربية واليونانية والتركية والإفرنسية والروسية، وتحلى بالورع والتقوى فغبط الأرثوذكسيون إخوانهم في أبرشية ترسيس وتمنوا مثل حالهم الحسنة.
16 «وحق للكرسي الأنطاكي أن ينتزع عنه أثواب الحداد ويبرز بملابس العيد ويقابل بأصوات الشكر آلاء العناية وانعطافها عليه، وبابتسامة البشر مستقبله الوضاح ونهضته الملية . وانقضى زمن الترمل والتراخي وجاء وقت الجد والعمل. مضى الخريف بيبسه وعريه وبدت طلائع ربيعه الجميل وأخذت أغصانه تكتسي بالأوراق، واكتحلت عين الناظر بمشهد جميل؛ إذ رأى الكراسي الفارغة تملأ الواحد بعد الآخر برجال الهدى والفضل، وشعوبها المتفرقة تنضم تحت راية الجامعة والتعاضد وأطلالها الخالية تبدو بمظهر الشباب والعمران. ولا يسع الناظر إلى هذا كله أن يسكت عن إسداء الشكر لراعي الرعاة وأعضاء مجمعه المقدس الذين أبدوا من الاهتمام بانتخاب أساقفة للأبرشيات المترملة حقق بهم الظن أنهم الرعاة المختارون للسهر على الخراف وقيادتها إلى مراعي الخلاص.»
17
أبرشية بيروت ولبنان (1901-1902)
وشعر غفرائيل بانحراف في صحته في السادس والعشرين من تشرين الثاني سنة 1900، ووافق ذلك يوم عيد مولد السلطان فخرج للكنيسة لإقامة الدعاء للسلطان، ثم عاد إلى القلاية فلبس أوسمته ونزل إلى دار الحكومة للقيام بواجب التهنئة باسم الروم، ورجع نحو الظهر ولزم الفراش متألما، وكانت نزلة صدرية تثاقلت مع مرور الأيام فمضى مستقبلا وجه البقاء في السابع من كانون الثاني سنة 1901. فطير منعاه إلى البطريرك وكان لا يزال في أنطاكية في جولته الرعائية وإلى المطارنة. فكتب البطريرك في العاشر من كانون الثاني معزيا محرضا كهنة الأبرشية على القيام بواجباتهم الروحية غير متقاعدين لتأييد الوفاق والمحبة راجيا من أولاده الوجهاء أعضاء القوميسيون أن يواظبوا بلا فتور لرؤية مصالح الطائفة والنظر في الدعاوى. وفي الثالث عشر من الشهر نفسه حرر إلى الأحباء بالرب الأفندية يوسف سرسق وعموم أعضاء قوميسيون المطرانخانة في بيروت ذاكرا مآثر غفرائيل، موافقا على برقيتهم التي أعلموه بها عن اتفاقهم على تسمية الخوري اسبر الباشا وكيلا روحيا ويوسف أفندي سرسق وكيلا زمنيا.
18
وكانت أبرشية بيروت ولبنان آنئذ أكبر أبرشيات كنيسة أنطاكية، فإحصاءات الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية لقبيل السنة 1900 تجعل عدد «العائلات» الأرثوذكسية في كنيسة أنطاكية كما يلي:
19
أنطاكية ودمشق
2900
صور وصيدا
1800
سلفكياس (زحلة بعلبك)
2500
حمص
2500
حماة
2800
حلب
800
ديار بكر
1000
أرضروم
1200
ترسيس وأدنة
2050
اللاذقية
5000
عكار
10000
طرابلس
16000
بيروت ولبنان
20000
وكان غفرائيل يلاقي من المتاعب والمشقات في سياسة أبرشيته هذه الواسعة الكبيرة ما ينوء بحمله كل رئيس، فإن دورته الرعائية في لبنان كانت تستغرق أكثر من نصف السنة، ومع ذلك لم يكن يستطيع النظر في كل الشئون التي تعرض عليه، ولا الاهتمام بكل ما تدعو إله الحاجة من الإصلاح والاعتناء بشئون الكهنة والكنائس. وكانت جمعية القديس بولس في بيروت قد لمست هذه المتاعب قبل وفاة غفرائيل ببضع سنوات، فبحث أمر قسمة الأبرشية إلى أبرشيتين في إحدى جلساتها العمومية، وقام نجيب طراد فألقى خطابا في هذا الموضوع على مسمع غفرائيل، فأبان حالة الطائفة في لبنان وما كانت عليه من الانحطاط، وأيد كلامه بالتقارير الوافية، وذكر المصاعب التي كان غفرائيل يلاقيها في إصلاح الخلل، وما كان يحول دونه من كبر الأبرشية وتعدد حاجاتها وكثرة مطالبها، فلاقى رأيه استحسانا واستصوابا من جميع الحاضرين.
20
فلما انتقل غفرائيل إلى دار القرار تفاوض اللبنانيون في شأن فصلهم الروحي، فأقر عليه رأيهم ورفعوا إلى البطريرك والمجمع المقدس العريضة التالية:
نحن أبناءكم الروحيين القاطنين في جبل لبنان نرفع إلى المجمع الأنطاكي المكاني المقدس بشخص قداستكم الوافر الشرف هذه العريضة البنوية التي نقدمها بمزيد الاحترام متضمنة طاعتنا وتمسكنا بالحقائق الأرثوذكسية المقدسة وعرضنا ما يأتي:
إن الفادي رسول الخلاص العظيم عندما أرسل تلاميذه الرسل بعد قيامته للكرازة في المسكونة كلها اقترعوا على أماكن رسالتهم كما يخبرنا بذلك سفر أعمال الرسل، فوقعت سورية التي نحن جزء منها نصيبا لسلفكم القديس بطرس الرسول، فأتى من أوروشليم مارا بالمدن حتى انتهى إلى بيروت فأقام القديس كوارتس أسقفا عليها، ثم مضى إلى جبيل وأقام عليها أسقفا؛ القديس يوحنا الملقب مرقس، ثم مضى إلى البترون فأقام القديس سيلا أسقفا عليها. وهكذا تدرج إلى الكراسي الأخرى كما شرحت ذلك كتب آبائنا القديسين وعلمائنا الأعلام، ولا سيما سلفكم الطيب الذكر البطريرك مكاريوس الحلبي.
وعليه؛ فإن لبنان وطننا العزيز كان فيه أسقفيتان من وضع القديس بطرس، وعلى هذا التقسيم الرسولي ظلت الكنيسة تنمو متدرجة في صدر الديانة المسيحية. ثم لما هدى الله القديس قسطنطين المعظم ازداد عدد الكراسي ونما كثيرا، فكان للبنان في أيام ازدهار الإيمان كراسي كثيرة زاهرة بالرؤساء الروحيين الأتقياء والشعب الوافر الطاعة والمستقيم الإيمان، لكن الله شاء بسماح إلهي أن تجرب كنيسته وصادمها بعض المحن فقل عدد المسيحيين في لبنان كما قل في سواه؛ ولذلك ضم إلى أبرشية بيروت.
والآن بنعمة الفادي ختن الكنيسة وعروسها الطاهر قد نمت أبناء البيعة المقدسة في ظل ظليل دولتنا الأبدية القرار بجبل لبنان نموا غزيرا، وأصبحوا بحمده تعالى رعية متسعة نحو خمسين ألف، وهو عدد يربو على عدد أبرشيتين سوى أبرشية بيروت في عهد المثلث الرحمات المطران غفرائيل الطيب الذكر.
ولما كانت تقاليد الكنيسة تؤذن للشعب العديد أن يتولى رعايته راع خاص وكانت أبرشية لبنان مستقلة أصلا عن بيروت؛ كان من المعدلة والرحمة أن تستجيبوا ملتمس أبنائكم الروحيين؛ أبناء البيعة الأرثوذكسية في لبنان، وتمنحوهم بنعمة الله الانفصال روحيا عن أبرشية بيروت؛ لأنه يتعذر على الراعي أن يطوف في كل الأبرشية إن كانت بيروت ولبنان أبرشية واحدة كما ثبته الواقع في حياة المثلثي الرحمات رعاتنا السالفين، حتى كان يمر بضع سنوات ولا تشاهد كنائسنا مطراننا الرسمي؛ وذلك لاتساع دائرة الأبرشية. فمن الواجب أن نطلب الانفصال ليتمكن راعي لبنان الخاص أن يتفقد قطيعه بأسره.
ولما كان رعاة لبنان الأولون لا ينقصون منزلة ورئاسة عن رعاة بيروت ولا عن سواها جئنا نلتمس من جنابكم الرسولي أن تقيموا لنا راعيا من ذات درجة أحبار الأبرشيات الأخر، ونحن مستعدون للقيام بكل احتياجاته عن رضا وطيبة نفس.
ونؤكد لغبطتكم وللسادة المطارنة الأجلاء أن انفصالنا لا نقصد به إلا الحصول على نجاح مستمر ونمو متواصل، وإننا كنا ولا نزال نحب إخواننا أبناء أبرشية بيروت حسبما أوصانا الرسول أننا نعرف أنفسنا أننا أولاد الله؛ لأننا نحب بعضنا بعضا.
فنسترحم من سدتكم الرسولية باسم أبنائكم أرثوذكسي أبرشية لبنان أن يلتئم مجمعكم المكاني المقدس ويستدعي إليه كهنتنا ونواب شعبنا لعرض حقوقهم العادلة ليجري الفصل قانونيا ويقرر تحت رئاستكم استجابة ملتمسنا كنائسيا. وفي الختام نسأل العزة الإلهية دوام رئاستكم السعيدة أيها السيد الجزيل الطوبى .
فصل لبنان عن بيروت (1901)
وعرض ملاتيوس البطريرك هذه العريضة وغيرها على المجمع الأنطاكي المقدس وجرت المفاوضة بشأنها. وبعد المذاكرة قرر المجمع باتفاق الأصوات في جلسته المنعقدة يوم السبت في 22 كانون الأول سنة 1901 إجابة سؤل اللبنانيين وفصل الأنحاء اللبنانية التابعة قبلا روحيا مطرانية بيروت وجعلها أبرشية لوحدها منفصلة روحيا عن بيروت . وأصدر البطريرك المنشور الآتي إلى اللبنانيين:
نومرو 1637
أيها الأبناء الأحباء بالرب قدس الكهنة الورعين والأفندية والمشايخ والاختيارية وعموم المسيحيين الأرثوذكسيين في أنحاء جبل لبنان المباركين، نعمة لكم ورحمة وسلام من لدن الله الآب أبينا والرب يسوع المسيح فادينا والروح القدس المعزي الصالح ينبوع كل تعزية وعطية صالحة.
وبعد؛ فإننا نهذبكم دوما طالبين إليه تعالى من أجل حفظكم وصيانتكم ونجاحكم روحيا وزمنيا ونموكم في كل أعمال الصلاح لأجل اعتلاء شئونكم وزيادة معموريتكم وبنيانكم في الرب.
وبناء على المعروضات المتقدمة إلينا من لفيفكم قد افتكرنا مليا مع هيئة السينودوس المقدس المجتمع لدينا الآن، وفي الجلسة السينودسية المنعقدة اليوم قد تقرر فصل الأنحاء اللبنانية التابعة قبلا روحيا لمطرانية بيروت، ولأجل هذه الغاية قد أنفذنا الآن من قبلنا أخوينا السيدين كير أثناسيوس مطران حمص وما يليها وكير أرسانيوس مطران اللاذقية وما يليها الوقورين. وهما يذكران للفيفكم المحبوب كل ذلك شفاها أيضا.
وبما أن العمل المشار إليه إنما هو لأجل ازدياد معمورية لبنان روحيا وهناء أحوال رعيته المحروسة وفلاحها في الرب، لا شك أنكم تقبلونه بملء الارتياح والرضا والشكر لعنايتنا الرعائية واهتمامات سينودس كنيستنا الأنطاكية المقدسة، وتبادروا معا طالبين إلى إلهنا الفادي الوحيد ختن كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة وراعي رعاتها الإلهي أن يلهمكم لتسمية ثلاث مرشحين لموقع الانتخاب من رجال إكليروس كرسينا البطريركي المقدس، المعروفين بالفضيلة والتقوى والآداب المسيحية وسعة المعارف الروحية والاطلاع؛ لتقدموهم إلينا بأقرب ما يمكن لأجل إجراء الانتخاب القانوني وتعيين من تختاره نعمة الروح الكلي قدسه مطرانا لأبرشيته هذه المحروسة.
ونحن من الآن نبسط أكف التوسلات الحية تعالى سبحانه أن يوفقكم إلى كل خير والصلاح ويصون حياتكم الثمينة، ويزيدكم نجاحا وفلاحا، وينميكم كبارا وصغارا بالعفاف وحسن العبادة وخوف الله، ويبارككم جميعا بيمينه القدوسة وينقذكم من كل شر وضرر بشفاعة سيدتنا والدة الإله مريم البتول النقية وجميع القديسين.
نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن مع جميعكم أيها الأحباء للدوام.
عن الشام في 22 كانون الأول سنة 1901
الداعي لجميعكم بالرب
ملاتيوس
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
الترشيح والانتخاب
وعلى أثر ورود هذا المنشور البطريركي اجتمع اللبنانيون من كل القرى وأقاموا وكلاء عنهم لإجراء الترشيح القانوني. وبعد المذاكرة قرر هؤلاء باتفاق الأصوات رفع عريضة للبطريرك يفوضون بها غبطته والمجمع المقدس بانتخاب ذات يليق بالمنصب، فالتأم المجمع في 31 كانون الثاني سنة 1902 وقرر باتفاق الأصوات انتخاب الأرشمندريت بولس أبي عضل مطرانا للأبرشية الجديدة أبرشية جبيل والبترون وما يليهما. وفي الثالث من شباط سنة 1902 تمت السيامة في الكاتدرائية المريمية في دمشق.
بولس متروبوليت جبيل والبترون (1865-1902)
ولد في دمشق في السنة 1865 من أبوين أرثوذكسيين حبيب وأفذوكية فسمياه عزيزا، ودخل المدرسة البطريركية فأخذ اليونانية والموسيقى الكنسية عن أثناسيوس متروبوليت حمص فيما بعد، ودرس العربية والرياضيات على ضاهر خير الله الشويري والتركية على جبران لويس، ومنحته المدرسة جائزة الامتياز في العلوم واللغات. وفي آب السنة 1881 أرسله أيروثيوس البطريرك إلى القسطنطينية ليتم دروسه فيها، فالتحق بمدرسة الفنار سنة واحدة ثم انتظم في سلك طلبة كلية خالكي اللاهوتية. وأقام في هذه الكلية سبع سنوات وأنهى دروسه في السنة 1889 نائلا شهادة الحذاقة في اللاهوت مجيدا العربية واليونانية والتركية والإفرنسية، وسيم شماسا إنجيليا في كنيسة خالكي وسمي بولس.
وعاد بولس إلى الوطن فانضم إلى معية البطريرك جراسيموس وأحيلت إليه رئاسة القلم، واستمر في المعية البطريركية في عهد اسبيريدون. وسنة 1894 سامه هذا البطريرك قسا وأرشمندريتا، وتولى بولس بالإضافة إلى أعماله القلمية رئاسة المدرسة البطريركية في السنتين 1894، 1895. وانتظم في المحكمة الروحية البطريركية فسطر أحكامها ونفذ مطالبها، وفاز بثقة المطارنة أعضاء المجمع المقدس فأصبح كاتم أسرار هذا المجمع، وأخلص لملاتيوس القائمقام البطريركي فالبطريرك فأحبه وعطف عليه.
منشور بولس الرعائي (30 آذار 1902)
وأصدر بولس متروبوليت جبيل والبترون وتوابعهما منشورا رعائيا في الثلاثين من آذار سنة 1902 أعلن به انتخابه وسيامته، وحض المؤمنين على الورع والتقوى والطاعة للسلطات الزمنية والدعاء للسلطان، وهو من أفضل ما قرأنا لأي أسقف في أية لغة:
المجد لله دائما، بولس برحمة الله تعالى مطران جبيل والبترون وما يليهما: النعمة الإلهية والبركة السماوية فلتشملا نفوس وأجساد أبنائنا الروحيين المحبوبين بالرب الكهنة الورعين والمشايخ المحترمين والذوات المعتبرين، وأرباب الحرف والفلاحين الأكرمين وسائر المسيحيين الحسني العبادة الأرثوذكسيين القاطنين في أنحاء أبرشية جبيل والبترون وما يليهما المحفوظة من الله، ليبارك الرب الإله عليهم وعلى حريمهم وأولادهم وفي منازلهم وجميع أعمال أيديهم بأتم البركات السماوية، ويدفع عنهم شر كل محنة وبلية بشفاعات سيدتنا والدة الإله البتول النقية والرسل المشرفين الكلي مديحهم وسائر القديسين المختارين، آمين.
أما بعد؛ فإننا نعلم محبتكم أنه بعد انتقال المثلث الرحمات السيد غفرائيل مطران بيروت ولبنان إلى الأخدار السماوية وخلو الأبرشية من راع قانوني لها، ينظر في شئونها ويدبر أمورها، رفع بنو الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة في جهات لبنان التابعة قبلا لهذه الأبرشية عرائض عديدة إلى غبطة إمام أحبارنا كيريوس كيريوس ملاتيوس بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق الكلي الطوبى والفائق الاحترام، مسترحمين فيها أن يقرر مجمعيا إعادة مجد كنيسة الله فيما بينهم بجعلهم أبرشية مستقلة كما كان في سابق الزمان؛ وذلك لأسباب هامة سطروها في عرائضهم المذكورة، وبناء على ذلك عندما استدعى غبطته مصاف رؤساء كهنة الكرسي الأنطاكي الرسولي المقدس إلى دمشق مقره البطريركي. ففي الجلسة المجمعية التي انعقدت يوم السبت الواقع في 22 كانون الأول سنة 1901 تحت رئاسته طرحت العرائض المذكورة لنظر المجمع المقدس، وبعد قراءتها والتمعن بما حوته من الأسباب الموجبة لتقديمها والمذاكرة فيها مليا أعطى القرار باتفاق الآراء: «بفصل الأنحاء اللبنانية التابعة قبلا روحيا مطرانية بيروت وجعلها أبرشية لوحدها منفصلة روحيا عن بيروت.» كما قد أوضح غبطته ذلك في المنشور البطريركي الصادر في 22 كانون الأول سنة 1901 تحت نمرو 1637. وإنه بعد إجراء المعاملة القانونية لانتخاب رئيس لهذه الأبرشية عقد المجمع جلسة أخرى يوم الخميس الواقع في 31 كانون الثاني سنة 1902 لإتمام الانتخاب، فغب إقامة الصلاة المفروضة واستدعاء نعمة الروح الكلي قدسه وإعطاء الأصوات القانونية وقع الانتخاب بالاتفاق على حقارتنا. ويوم الأحد الواقع في 3 شباط سنة 1902 احتفل غبطته والسادة المطارنة الأجلاء بخدمة القداس الإلهي وتمموا سيامتنا رئيس كهنة.
وتقلدنا والحالة هذه رعاية أبرشية جبيل والبترون وما يليهما المشتملة على ما كان تابعا قبلا لأبرشية بيروت ولبنان العامرة من المسيحيين الأرثوذكسيين القاطنين في أقضية الشوف والمتن وكسروان والبترون والكورة بصفة مطران عليها؛ لنقوم بإيفاء مقتضياتها الروحية وبمهام الخدم الكنائسية التي مآلها نجاح أبنائها الروحيين من كهنة وعلمانيين في الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة لمجد اسمه القدوس وخلاص النفوس.
وبناء عليه رأينا من الواجب أن نوجه الآن خطابنا هذا نحو محبتكم إيضاحا لكل ما ذكر أعلاه، وبيانا لما لنا وعلينا نحوكم من الحقوق والواجبات التي تتميمها يتكفل بالوصول إلى الغاية الحميدة التي لأجلها أسس رئيس إيماننا العظيم ربنا يسوع المسيح كنيسته المقدسة وأقام فيها الرعاة والمعلمين.
ونوضح بادئ ذي بدء لمحبتكم أننا إذ قد اتخذنا على عاتقنا حمل هذه الرئاسة الثقيل نصرف كل ما في وسعنا لإتمام واجباتها الشريفة نحوكم؛ أولا: بالسهر على ثباتكم في الإيمان الأرثوذكسي بالإرشادات والتعاليم المبنية على «الكتب المقدسة القادرة أن تحكمكم للخلاص بالإيمان الذي هو في يسوع المسيح.» وثانيا: بالاهتمام في تدبير شئونكم الروحية والنظر في مصالحكم بعين الحق والعدل واتخاذ كل الوسائط التي تئول إلى توطيد المحبة والألفة والسلام فيما بينكم وفيما بين جميع الناس؛ لتكونوا راتعين في بحبوحة السعادة وتتنعموا بثمارها اللذيذة، واتكالنا في ذلك كله على نعمة الرب القائل: «إن قوتي في الضعف تكمل»، القادر أن يصنع كل شيء بحيث يفوق جدا ما نسأله أو نتصوره على حسب القوة التي تعمل فينا، له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور، آمين.
أما واجباتكم أيها الأبناء الأعزاء فتقوم بالطاعة لكلام الله والانقياد لنصائحنا وإرشاداتنا الرعائية، «حتى إذا تمسكتم بصورة الكلام الصحيح الذي تسمعونه منا في الإيمان والمحبة التي في يسوع المسيح»، «وحفظتم الوديعة الصالحة بالروح القدس الحال فيكم»؛ تستحقون السعادة الحقيقية التي عني بها السيد بقوله: «إنما الطوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها.» «فروضوا أنفسكم على التقوى؛ لأن التقوى تنفع في كل شيء ولها موعد الحياة الحاضرة والمستقبلة.» إذن الواجبات عليكم بصفة كونكم مسيحيين حقيقيين هي أن تتمموا فروض الإيمان القويم، أن تطالعوا الكتاب المقدس بالتمعن اللائق به، أن تسمعوا الصلوات في الكنائس بلا انقطاع بكل السكينة والاحترام، ولا سيما في أيام الآحاد والأعياد، أن تحافظوا على الصيامات الشريفة التي رتبها آباؤنا القديسون، أن تعملوا أعمالا تليق بالتوبة، وتشتركوا بالأسرار الخلاصية الطاهرة بكل الوقار، وبالإجمال أن «تغنوا نفوسكم بكل عمل صالح» مستمرين على الإيمان متأسسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل الذي سمعتموه وكرز به في كل الخليقة التي تحت السماء، و«غير ناسين فعل الإحسان والمؤاساة؛ لأنه بذبائح مثل هذه يرتضي الله.» والله قادر أن يزيدكم كل نعمة حتى تكون لكم كل كفاية كل حين وفي كل شيء فتزدادوا في كل عمل صالح.
وبنوع خاص نوصيكم أيها الكهنة الورعون: احترسوا لأنفسكم ولجماعة الرعية، كونوا قدوة لبنيكم الروحيين بالتعقل بالاحتشام بضيافة الغرباء بالحلم بالقناعة، مدبرين بيوتكم حسنا مجتهدين بتربية أولادكم في الخضوع بكل وقار، اتعبوا في كرمة الرب، وإن عيرتم ليكن رجاؤكم وطيدا بالله الحي الذي هو مخلص الناس أجمعين ولا سيما المؤمنين. كونوا مثالا للمؤمنين في الكلام في التصرف في المحبة في الإيمان في الطهارة. لاحظوا أنفسكم والتعليم واستمروا على ذلك فإنكم إذا فعلتم هذا تخلصون أنفسكم والذين يسمعونكم أيضا. صلوا من أجل سلامة العالم ومن أجلنا ذاكرين اسمنا في خدمة القداس الإلهي وفي سائر الفروض الكنسية تبعا للقوانين الشريفة.
أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره، لا تتطلبوا لمعان المعارف الباطلة الخارجي الذي للتظاهر، بل اسعوا لتغذية نفوس بنيكم بالحقائق الراهنة التي تبهج العقل بنورها الوضاح، وتنعش القلب بمعرفة الله المستخرجة من فحص نواميس مخلوقاته والتأمل بها؛ «لأن قدرة الله الأزلية وألوهته ترى منذ خلق العالم مدركة بالمبروءات»، و«احذروا أن يسلبكم أحد بالفلسفة والغرور الباطل حسب سنة الناس على مقتضى أركان العالم لا على مقتضى المسيح.» واذكروا ما قاله الحكيم ابن سيراخ: «إن كان لك بنون فأحسن تربيتهم، وإنه ولد واحد يتقي الرب خير من ألف منافقين، والموت بلا ولد خير من الأولاد المنافقين.»
وأنتم أيها المعتنون بالكنائس والموكلون على المدارس والأوقاف، لا تنسوا «أن بيت الرب هو بيت صلاة»، وأن المدارس هي رياض النفوس، وأن الأوقاف مال دائم لثبات كليهما تخصصه تقوى المتقدمين لخير مستقبل المتأخرين، واذكروا دوما أنكم إذ قد اؤتمنتم على ترتيبها وحسن إدارتها وجب عليكم أن تواظبوا على الاهتمام بتنظيم شئونها، والسعي وراء نجاحها لتسير في الطريق المؤدية إلى الغاية الشريفة التي وجدت لأجلها.
وبوجه الإجمال نقول لجميعكم إنكم بالمحافظة على كنوز تعاليم الإيمان الشريفة التي أخذتموها عن آبائكم وبفحصها بالتمعن ونشر حقائقها في الكنائس والمدارس والبيوت تضعون أساسا أمينا متينا للنجاح الديني والأدبي، تبنون عليه أبنية الفضائل بحجارة كريمة مرصوصة بالتقوى والوداعة والصبر، فتسكنون فيها فرحين بالروح وتتمتعون بنعيمها شاكرين كنز الصالحات ورازق الخيرات. هذا فضلا عن السعادة التي تحصلون عليها بصدق المعاملة والمسالمة مع الجميع بظل ظليل حامي المعارف وسابغ العوارف ولي عرش آل عثمان وفريده، عقد ملوك الزمان مولانا وولي نعمتنا بلا امتنان جلالة السلطان الغازي عبد الحميد خان.
21
جراسيموس متروبوليت بيروت (1902)
وانحلت الأزمة فكتب ملاتيوس إلى المجلس الملي في بيروت وعموم الأرثوذكسيين يستحثهم على إجراء ترشيح راع لأبرشيتهم المترملة، فأوفدت الطائفة جماعة من أعيانها ليرفعوا إلى البطريرك خضوع الملة واحترامها، ويفوضوا لحكمته أمر انتخاب راع يليق بالمنصب الجليل، وزودت الطائفة الوفد بعريضة مبنية على هذا القرار.
وذهب الوفد إلى مركز الكرسي الأنطاكي ومثلوا بحضرة البطريرك ورفعوا إليه عريضة الشعب البيروتي، فتلقاهم البطريرك بالحنان الأبوي والصدر الرحيب. ثم دعا المجمع الأنطاكي إلى جلسة انتخابية، فالتأم المجمع في الثامن والعشرين من آذار سنة 1902 وانتخب بالإجماع الأرشمندريت جراسيموس مسرة رئيس الكنيسة السورية الأرثوذكسية في الإسكندرية أسقفا وراعيا لأبرشية بيروت المحروسة من الله، وفي مساء ذلك اليوم أبرق غبطته إلى سيادة المنتخب يعلن وقوع الانتخاب عليه ويأمره بسرعة الحضور.
وبزغت شمس التاسع والعشرين من آذار تحمل إلى بيروت البشرى بانحلال الأزمة وتحقيق الأمل، فصدرت مجلة المحبة لسان جمعية التعليم المسيحي الأرثوذكسية في بيروت في الثلاثين من الشهر نفسه تهنئ الملة والأبرشية بما قيض الله لها من زوال المحن بعد طول الصبر، فمن عليها بالرجل الذي جعلته موضوع ثقتها، واعتبرته الشخص الوحيد الذي يستطيع أن ينهض بها إلى ذروة النجاح ويفتح لها أبواب التقدم والفلاح. «وسيادته رجل عرك الدهر وجرب الأيام وبلاها في حالتي بؤسها ونعيمها، ودرس أخلاق الأمم وعرف أحوال الناس ووعى في صدره جميع ما يعوز من في مركزه من معارف النظر والاختبار، وهو أغنى من أن يحتاج إلى إفادة أو تنبيه وأدرى بما تطالبه به واجبات الأمانة والشرف والدين.»
22
وأبرق جراسيموس بالقبول والخضوع وقام من الإسكندرية إلى بيروت ومنها إلى دمشق محاطا بوجوه الطائفة، ولدى وصولهم إلى دمشق استقبلهم في محطتها وفد بطريركي برئاسة الأرشمندريت أفرام الدبس المنتخب آنئذ لأبرشية عكار، وسار الوفدان إلى الدار البطريركية، فلثم جراسيموس يد البطريرك وصافح السادة المطارنة وأظهر خضوعه واستعداده لخدمة الكنيسة الأنطاكية المقدسة، فأجابه غريغوريوس متروبوليت طرابلس بخطبة بليغة أعرب فيها عن سرور المجمع المقدس بقدومه.
وفي يوم الخميس في السادس عشر من أيار سنة 1902 احتفل البطريرك والمطارنة بسيامة جراسيموس مطرانا على بيروت، فلفظ خطبة بليغة بعد تسلم عصا الرعاية استهلها بالاعتراف بفضل البطريرك عليه: «لقد لاق بك أيها السيد الجزيل الغبطة، لقد لاق بك أن تكون أنت القائم بهذا العمل الجليل المقدس، لقد لاق بك دون سواك، أن تكون أنت المتمم كما كنت أنت البادئ. لقد لاق بهذه اليمين المباركة أن ترتبني في مصاف الرؤساء في خدمة الكهنوت كما رتبتني من بادئ الأمر فيها وأدخلتني إليها، وليس الفخر لي بهذا كله، بل إنما الفخر والشرف لك أنت الأب والمربي والمعلم والمهذب والمؤسس والباني.»
ومن أفضل ما جاء في خطابه الكاتدرائي في بيروت أن أهم ما يطلب منه تربية رجال يخدمون الدين، وتربية رجال يخدمون الأدب، وأن هذا الأمر لا يتم إلا بالمدارس، «وإذا سمعتم مني كلمة المدارس فلا تظنوا أني أعني بها المدارس الابتدائية والعادية، بل أعني المدارس العالية المدارس التي ترقي العقل بالعلوم العقلية وبالفنون الأصولية وتوجد في الملة حياة واستعدادا لسد كل احتياج عند اللزوم، فالكاهن المتنور المستعد والمدرسة الطائفية المجهزة بكل لوازم العلوم هما العنصران اللذان يحفظان مركز الطائفة ويرقيانها إلى أوج النجاح، وعليه؛ فإني أرى أن المشروع في أعمالي وخدمتي يجب أن يبدأ من هذه النقطة.»
23
وتعددت الوفود المهنئة وتنوعت وكثرت الخطب وتفاوتت، وجاء الوفد الماروني فألقى نجيب حبيقة الشويري خطبة رائعة ضمنها دعوة إلى التضامن والاتحاد فقال: «وهذا العيد لم تنحصر بهجته في طائفتك المحبوبة، بل كان فيه حظ لسائر الطوائف ولا سيما طائفتنا التي يمتثل وفدها الآن بين يديك مولاي ليجدد لسيادتك ولأبرشيتك أخلص التهاني. فقد شاركنا إخواننا الأرثوذكس في حبك وإجلالك، مثلهم رأينا فيك حبرا كريما كبيرا. مثلهم علقنا عليك آمالا خطيرة، فنحن أيها السيد النبيل في عصر نقول فيه ما قاله ملك الفرنسيس لحفيده الصاعد إلى عرش إسبانية «لم يعد بيننا جبال بيرينه.» نحن في عصر به غدت كل طائفة تنظر في أحبار سائر الطوائف آباء لها كما ترى في أبناء الطوائف إخوانها، نحن في عصر يدعونا إلى الاتحاد والإخاء في ظل الراية العثمانية الرفيعة، ونرى صالحنا وصلاحنا في الوفاق والوئام بين رؤسائنا كما بين أفرادنا.»
24
مجلس بيروت الملي (1902)
وفي الثاني من حزيران السنة 1902؛ أي بعد وصول جراسيموس إلى كرسيه بخمسة عشر يوما، جرى انتخاب جديد لمجلس الملة، وقضى البند الثالث من قانون هذا المجلس المصدق من جانب البطريركية بأن ينظر في جميع مهام الطائفة واحتياجاتها الأدبية والمادية، ومراقبة أعمال الجمعيات وانتخاب وكلاء الكنائس وفحص حسابات الأوقاف والنظر في جميع المسائل التي تتحول إلى المطرانخانة من قبل الحكومة بما يتعلق بأمور الطائفة، مع تقرير كيفية توزيع البدلات العسكرية وضبط تحصيلها والمفاوضة والرأي في شأن الانتخابات العمومية كأعضاء المجالس والمحاكم وما أشبه. وبالجملة فإن خصائص هذا المجلس قضت بالبحث والنظر في كل ما يقع للطائفة من الأمور والمشاكل، والمحافظة على حقوقها ضمن دائرة الناموس الكنائسي والنظامات الشرعية، وكان يشترط في الأعضاء بموجب البند التاسع أن يكون سن كل منهم فوق الثلاثين ، وأن يكون مقيما في بيروت ومن معتبري الطائفة، حائزا على الحقوق المدنية ذا أهلية تامة ومتمتعا بالثقة العامة ومعروفا بالمبادئ الصحيحة، ونص هذا البند أيضا على أن يكون المطران رئيس المجلس الدائم.
واجتمع من المنتخبين في دار المطرانخانة 105 ذات من الذوات وهم ثلاثة أرباع المدعوين فقرأ المطران أسماءهم. ولما كان عددهم كافيا لإجراء الانتخاب على ما صرح به القانون طلب المطران أن يكتب كل منهم قائمة باثني عشر منتخبا. ثم جمعت هذه القوائم وتليت علنا فنال الأكثرية: بطرس داغر، جرجي بسترس، جرجي دباس، سليم شحادة، قسطنطين الخوري، لطف الله ملكي، نجيب سرسق، نجيب نعمة، طراد نخلة التويني، نصيف الريس، نقولا منسي ووديع فياض.
مجلس حمص الملي (1902)
وانتهت المدة المعينة لمجلس حمص الملي وعاد أثناسيوس إليها بعد غياب طويل، «فوزعت رقاع الانتخاب وأعيدت ففضت في السابع عشر من حزيران»، فأصابت أكثرية الأصوات: سليمان الخوري، عيسى فركوح، أنطون طرابلسي، باسيل نصور، نقولا حموي، حبيب إسكندر، عبد المسيح زرق، الدكتور كامل لوقا، نصر الله عطا الله، أنطونيوس سركيس، نقولا عريضة ورزق الله رزق.
25
باسيليوس متروبوليت عكار (1903)
هو أمين بن يوسف الدبس البيروتي، ولد في ترسيس سنة 1868 ونشأ فيها. وفي السنة 1881 توفيت أمه ثم أبوه في السنة 1882، فانتقل أمين بإخوته الصغار إلى بيروت حيث ربي في حجر عمه جبران الدبس. وحاول أمين الانخراط في سلك الرهبنة فمانع ذووه، فظل في بيروت يتعاطى الأشغال ويتردد على غريغوريوس الذي أصبح فيما بعد مطرانا على طرابلس. وسافر أمين إلى القطر المصري فأقام فيه ردحا من الزمن ثم عاد إلى بيروت سنة 1892 وكل قواه منصرفة إلى الزهد والحياة الرهبانية، وكان إخوته قد بلغوا رشدهم فتشدد عزمه وغادر بيروت قاصدا غريغوريوس في طرابلس، فوجده منهمكا بتهيئة مدرسة كفتين، فدخل أمين الدير في الثاني من آب سنة 1893. وفي السنة 1894 أدخله غريغوريوس بمعيته في طرابلس، وفي أول نيسان سنة 1895 سامه راهبا باسم أفرام ثم أنوغنوسطا فشماسا. وفي صيف السنة 1897 انتدبه غريغوريوس وكيلا لرئاسة دير سيدة ناطور. وفي السنة التالية سافر أفرام إلى دمشق وزار سيدة صيدنايا، فسامه أثناسيوس متروبوليت حمص قسا وعينه مرسلا أنطاكيا في أميريكة الشمالية بناء على طلب الأرشمندريت روفائيل هواويني. ووصل أفراد نيويورك في صيف السنة 1898، ثم انتقل إلى كندا لخدمة الأرثوذكسيين السوريين المنتشرين فيها، فعمل بغيرة ونشاط وأسس في السنة 1899 أول كنيسة أرثوذكسية في كندا في مدينة مونتريال، وعلم تيخون مطران ألاسكا الروسي بجهود أفراد فسر منها وأجاز له تعليق الصليب والحرج وقت الخدمة الإلهية.
وبقي أفرام في كندا مواظبا على واجباته بكل صلاح ونشاط، مواصلا الوعظ والإرشاد والاعتناء بشئون أبنائه الروحية حتى السادس والعشرين من كانون الثاني سنة 1900؛ إذ اضطرته دواع صحية إلى العودة إلى الوطن، فوصل بيروت في خريف هذه السنة ثم التحق بمعلمه غريغوريوس في طرابلس. وبعد وفاة نيقوذيموس متروبوليت عكار عينه البطريرك وكيلا بطريركيا على عكار بطرس بركة مؤرخ في 8 تشرين الأول سنة 1901، فقام بواجبات الوظيفة خير قيام. وفي السابع من نيسان سنة 1902 رقاه البطريرك فجعله أرشمندريتا، وبعد ذلك بخمسة عشر يوما في الثاني والعشرين من نيسان انتخبه المجمع المقدس مطرانا على أبرشية عكار. وقضت الظروف بتأخير سيامته بضعة أشهر حتى يوم الأحد الواقع في 2 شباط سنة 1903؛ إذ صدرت أوامر البطريرك بسيامته مطرانا على عكار في مدينة حمص وعلى أيدي مطارنة حمص وحماة وطرابلس فدعي باسيليوس.
مجلس ملي في دمشق
وفي حزيران السنة 1903 تألفت هيئة المجلس الملي في دمشق من: أسبر لقيس، إسكندر طرزي، بطرس قندلفت جبران، أسبر جبران شامية، جبران عبد النور، جبران لويس، جبران ملوك، سمعان لادقاني، ميخائيل صيدح ونولا شاغوري.
استفانوس متروبوليت حلب
وقضى أبيفانيوس متروبوليت حلب في شرخ الشباب غير متجاوز السادسة والثلاثين، وقد أدركته المنية في دير صيدنايا في الثالث من آذار سنة 1903 حيث أقام مستشفيا من مرض ألم به واضطره أن يجتنب كل عمل وحركة، فانتخب المجمع خلفا له الأرشمندريت استفانوس، فسامه البطريرك ومطرانا حماة وأداسيس متروبوليتا على حلب في السادس من آب سنة 1903.
26
وهو خليل بن يوسف مقبعة الدمشقي. ولد في دمشق سنة 1853 ونشأ وترعرع فيها ، ثم دخل مدرستها البطريركية، وكان منذ حداثته زاهدا راغبا في الحياة الرهبانية فالتمس في السنة 1885 من البطريرك جراسيموس السماح له بلبس الأسكيم، فأرسله إلى دير مار إلياس الشوير حيث قدم النذر واتشح بالأسكيم على يد رئيس هذا الدير الأرشمندريت أثناسيوس عطا الله فسمي استفانوس. ولما شرطن أثناسيوس مطرانا على حمص في بيروت استدعى استفانوس ورسمه شماسا إنجيليا في كنيسة بيروت الكاتدرائية وألحقه بمعيته، فأقام في حمص سنة ثم برحها إلى حماة لأسباب صحية. وفي السنة 1894 انتقل إلى بيروت ليتولى نظارة مدرستها الإكليريكية ويدرس الموسيقى الكنسية، وبقي في معية مطران بيروت متفقدا شئون الأبرشية الواسعة حتى تسنم عرش الرسولين ملاتيوس الثاني. فلما جال جولته الرعائية وتحقق ما تحلى به استفانوس من النشاط والغيرة وحسن السيرة والسريرة عينه رئيسا قانونيا على دير البلمند في السابع من نيسان سنة 1901، فتسلم مهامه وأحسن إدارة الدير، وظل فيه حتى انتخابه لمطرانية حلب.
27
يواكيم الثالث البطريرك المسكوني
وتبوأ يواكيم الثالث السدة القسطنطينية في الرابع والعشرين من أيار سنة 1901، وكان من خيرة السادات الأعلام، وقد اشتهر فضله بين الأنام منذ أن رقي هذه السدة نفسها للمرة الأولى في السنة 1878 خلفا لسلفه السعيد الذكر يواكيم الثاني، فإنه أدار شئون الكنيسة العظمى آنئذ بحصافة عقل وحسن سياسة. ولما عاد المجمع القسطنطيني المقدس ودعاه للكرسي مرة ثانية وقع انتخابه موقعا حسنا في جميع الأوساط الرسمية والملية ووردت عليه رسائل التهاني بالألوف، وتوسم المؤمنون الأرثوذكسيون في جميع أقطار المسكونة في قداسته رجل المنصب الخطير وعلقوا على رئاسته خير الآمال.
يواكيم والكنيسة الأرثوذكسية الجامعة
وكان قداسته شديد الغيرة على حسن العلاقة بين أعضاء الكنيسة الجامعة وعلى توثيق روابطها، فوجه في أوائل السنة 1903 رسالة عمومية إلى رؤساء الكنائس الأرثوذكسية المستقلة تتضمن السؤال عن رأي كل منهم في المسائل التالية: (1) في الوسائل الآئلة إلى توثيق وحدة كنائس الله المقدسة الأرثوذكسية المستقلة، وتوسيع دائرة العلائق بينها. (2) في علاقة الكنائس الأرثوذكسية مع فرعي الديانة المسيحية العظيمين اللاتين والبروتستانت، ولا سيما مع الكاثوليك القدماء والكنيسة الإنكليكانية، والكاثوليكيون القدماء جماعة من المؤمنين انفصلوا عن رومة سنة 1870 لمناسبة القول بعصمة البابا، واجتهدوا في أن يكونوا على الحالة التي كانت فيها الكنيسة قبل انشقاقها إلى فرعين يوناني ولاتيني، واحترموا الكنيسة الأرثوذكسية. (3) في التاريخين اليولياني والغريغورياني. وأجابت الكنائس الأرثوذكسية عن هذه الأسئلة الثلاثة ونشرت خلاصة أجوبتها جريدة الأليثيا الصادرة عن القسطنطينية، وإلى القارئ ملخص هذه الأجوبة:
توثيق عرى الاتحاد بين الكنائس الأرثوذكسية
وأيدت كنيسة أوروشليم توثيق العرى بين الكنائس الأرثوذكسية وأوجبت ما يلي: (1) الإخلاص في الأميال والأعمال لكي تحفظ وديعة الإيمان الشريفة المشتركة سالمة من كل شائبة. (2) صيانة الإنجيل والكنائس من مفاسد المادة والسياسة. (3) تغذية روح المحبة المتبادل والاحترام المتبادل واجتناب مداخلة الكنائس في أمور غيرها. (4) الاشتراك الأخوي في الخدمة الشريفة وتبادل الأخبار المسرة والمكدرة وتعاضد الكل وتكاتفهم لسد كل احتياج روحي أو أدبي أو مادي. (5) عقد مجمع سنوي مؤلف من وكلاء الكنائس المستقلة في مراكز هذه الكنائس بالتناوب للتداول وتبادل الرأي. (6) السعي الحثيث لتربية نشء صالح يتولى خدمة كل كنيسة ورعايتها.
وجاء الرد الروسي يؤيد عقد المجامع السنوية الدوارة، ولكنه لم ير ذلك عمليا نظرا لوقوع مراكز الكنائس في ممالك ودول متعددة مختلفة، أما ما يمكن تأييده بالفعل لتوثيق العرى فإنه: (1) تبادل الرسائل بصورة متواصلة. (2) تبادل الأخبار المسرة والمكدرة. (3) طلب النصح والإرشاد. (4) وجوب التشاور في مسائل الإيمان والمبادئ الأساسية في النظم والقوانين. (5) وجوب اعتبار الارتباط عربون الحقيقة والحياة الأبدية.
ولم يطرق الردان اليوناني والروماني هذا الموضوع. أما كنيسة الصرب فإنها ارتأت أن المحبة المتبادلة بين الكنائس الأرثوذكسية المستقلة يجب أن تظهر في تبادل الرسائل في كل ما يتعلق في الحياة الكنائسية، وقالت بوجوب اجتماع وكلاء جميع الكنائس الأرثوذكسية مدة بعد مدة، وأوجبت نقل المؤلفات القيمة التي تظهر بلغات سائر الكنائس للدفاع عن الإيمان المقدس، وجاء جواب كنيسة الجبل الأسود مماثلا لجواب الكنيسة الروسية.
اتحاد الكنائس المسيحية
ورأت كنيسة أوروشليم أنه لا يجوز التفكير في التقرب من البروتستانت واللاتين ما دام هؤلاء يغرون البسطاء من الأرثوذكسيين لإبعادهم عن كنيستهم، وما دامت أعمال التبشير هذه تجعل تبادل الاحترام والمحبة من الأمور التي يتعذر منالها، وقالت كنيسة اليونان قول كنيسة أوروشليم، وأضافت أنه يجب الاقتصار على المحبة المخلصة نحو جميع الكنائس، وأن ما هو غير مستطاع عند الناس فإنه يصبح مستطاعا في المستقبل بنعمة الله، وأكدت كنيسة روسية رغبتها في «اتحاد الكل»، ولكنها رأت هذا الاتحاد غير ممكن مع البروتستانت واللاتين؛ لأنهم يسعون لتقويض أركان الأرثوذكسية. أما كنيسة رومانية فإنها لم تسمح بحذف أو إلغاء شيء من العقيدة والتقاليد الأرثوذكسية، وأضافت أنه إذا رغب اللاتين والبروتستانت في الاتحاد فليس عليهم إلا أن يقبلوا التعاليم الأرثوذكسية كما هي، ولم تبد كنيسة الصرب رأيا بهذا الشأن.
الكاثوليك القدماء
ولم تر جميع الكنائس الأرثوذكسية ما يمنع التقرب من الكاثوليك القدماء والتودد إليهم، وفرقت الكنيسة الروسية بين المتصدرين من هؤلاء في الأزمة الأولى وبين رجالهم المتأخرين، وأوجبت شرح التعاليم الأرثوذكسية وتأكيد الاعتقاد الثابت بأن الكنيسة الأرثوذكسية وحدها حفظت وديعة المسيح بدون فساد، ومن ثم فهي أيضا الكنيسة المسكونية.
الإنكليكان
ورحبت كنيسة أوروشليم بالتفاهم والتعاون مع الإنكليكان، ولكنها أوجبت انتظام لجنة من كبار علماء اللاهوت الأرثوذكسيين تجتمع في القسطنطينية بقرب «الأول بين الكراسي الأرثوذكسية»، وتتذاكر فيما يجب تحديده ثم تعلن بواسطة البطريرك المسكوني ما يمكن أن يتخذ أساسا للاتحاد المنشود. واشترطت كنيسة روسية قبل كل شيء وجوب إقصاء المبادئ الكلوينية ونشر الرغبة في الاتحاد في الأوساط الإنكليكانية نفسها.
مسألة تصحيح التاريخ
وهنا أشارت كنيسة الصرب إلى وقوع الخطأ الرياضي العالي في الحسابين الغريغورياني واليوناني، وأنه من المناسب تأليف لجنة من العلماء الأعلام لرفع هذه الخطأ وتقديم حساب جديد يكون أشد دقة من الحسابين. ورأت كنيسة رومانية أن تصحيح الحساب آنئذ يولد العثرات في سبيل المؤمنين. وأشارت كنيسة اليونان إلى هذه العثرات وارتأت حسابا جديدا أصح وأضبط من الحسابين المذكورين. أما كنيسة روسية فإنها أوجبت المحافظة على التاريخ اليولياني في الفصحيات وفي الأعياد الكنائسية، وأجازت استعمال الحساب الغريغوري في غير ذلك.
يواكيم وكنيسة أنطاكية
واستبشر الأنطاكيون خيرا برجوع يواكيم إلى الكرسي المسكوني وعلقوا عليه الأمل في الاعتراف بملاتيوس الثاني البطريرك الأنطاكي لما عهدوه في قداسته من سعة الصدر وأصالة الرأي وفرط المحبة والغيرة على الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة. ولكن البطريركية المسكونية أبت إلا أن تميل أذنها إلى ادعاء الأساقفة الأنطاكيين المنفصلين، فأوقفت الجواب عن رسالة الجلوس التي بعث بها ملاتيوس عند ارتقائه حسب التقاليد المألوفة، ولم تستطلع رأي الكنيسة الأنطاكية في المسائل التي بحثها مع رؤساء سائر الكنائس الأرثوذكسية المستقلة.
28
الدعاية لاتحاد الكنائس
وحمس العلامة نقولا إمبرازي الأستاذ في مدرسة فاكيون في أثينا فأصدر كتابا يتضمن تواريخ الكنائس المسيحية، ودساتير إيمانها واعترافاتها الرسمية من يونانية ولاتينية ولوثيرية وكلوينية وإنكليكانية وأرمنية وقبطية وحبشية ويعقوبية ونسطورية، وأسباب انشقاق هذه الكنائس. ثم قابل بين عقائد هذه الكنائس في عدة مطالب مهمة كاعتبار قدر الكتاب المقدس وقيمة التقليد الشريف وتوحيد جوهر الله وتثليث أقانيمه وانبثاق الروح القدس وتكريم الأيقونات وأسرار الكنيسة السبعة المقدسة. وأورد ما قاله بعض كبار رجال اللاهوت في الكنيسة الأرثوذكسية كنيل الإنكليزي وستروس الألمان ودولنغر الشهير وهرقز أسقف الكاثوليك القدماء، وميشو أحد جهابذة هؤلاء ورأي يواكيم الثالث في اتحاد الكنائس. وأسرع الخوري يوحنا حزبون فنقل هذا المؤلف إلى العربية ونشره بين قرائها في النصف الأول من السنة 1904 وأسماه «كنز النفائس».
وكان بعض رجال الكنيسة الإنكليكانية قد نشطوا للعمل في سبيل التفاهم بين الكنائس فأسسوا في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر جمعية الكنائس الشرقية، ثم جمعية انتشار ضم الكنائس فجمعية انتشار وحدة الكنائس. ثم أصدر الأب أنكتابولس الأرثوذكسي في الآونة التي نحن في صددها مجلة اتحاد الكنائس باللغتين اليونانية والإنكليزية؛ وذلك لإظهار الشعائر المتبادلة بين الكنائس الرسولية الثلاث الأرثوذكسية والرومانية والإنكليكانية، وتوطيد دعائم الصداقة والتعارف بينها والتعرف على الفضائل الراسخة في وحدة الإيمان والرجاء والمحبة. ومما قاله هذا الكاهن في أعداد جريدته الأولى ما تعريبه:
يزعم البعض أن أسباب الخلاف الذي يفصل الكنائس ناتج عن اختلاف التعاليم والطقوس لا عن سوء تفاهم واستخفاف وأثرة لا تجوز إلا على الجاهل، فوجدت من الضروري أن نتقرب من بعضنا لمعرفة ما بين تعاليمنا من الاختلاف والاتفاق وإدراك كنه الحقائق المسلم بها، ضاربين صفحا عن كل ما هو فاسد، ومتخذين المحبة التي أوصى بها الرسول أساسا لأعمالنا وترسا يقينا لصد هجمات الأعداء. وبمثل هذه الاستعدادات نوثق عرى الصداقة وندك أسس الموانع القائمة حتى نرى الغيرة تقودنا من غير انتباه إلى الانضمام والبحث في العوامل التي تئول إلى الاتحاد.
وبدون هذا النور الداخلي وتبادل الآراء للتعارف يستحيل إخماد نار الخصام والتعصب، ومن الواجب أن نبين للجمهور كل ما يحتمل الجدل والريب. ولهذه الغاية نناشد أئمة اللاهوت أن يمدونا بآرائهم في كل ما يمكن شرحه بحسب الأقوال الإنجيلية. وبعد تبيين كل ذلك يجب على أعضاء الكنائس أن يسعوا وراء هذه الغاية سعيا فعليا. وهذا السعي لا يقتصر على الرؤساء، بل يشمل الجميع، فإذا كان الإكليروس لا يساعد والعوام لا يساعدون الإكليروس فتحبط كل المساعي وتسقط كل القوة، فالتكاتف بالأعمال أمر ضروري للكل.
أسقف على السوريين في أميريكة (1904)
وكان البطريرك الأنطاكي أيروثيوس قد سام في السنة 1874 روفائيل هواويني أناغنوسطا في كنيسته الكاتدرائية، فعاد وسامه برضا والديه راسفورا (راهبا لابس جبة) في السنة 1879. وكتب في ذلك الوقت خريستوفوروس جبارة عن القسطنطينية يقول: إن قداسة البطريرك المسكوني يواكيم الثالث أمره أن يحرر لغبطة البطريرك الأنطاكي لإرسال تلميذ أنطاكي إلى مدرسة خالكي؛ ليكون تحت عناية قداسته الخصوصية. فأوفد البطريرك أيروثيوس الراسفور روفائيل إلى القسطنطينية في أوائل تموز السنة 1879، ودخل روفائيل مدرسة خالكي على حساب يواكيم الثالث. وعند نهاية السنة الأولى سر قداسته من نجاح روفائيل في اليونانية. وفي السنة السابعة لوجود هذا الطالب الأنطاكي في خالكي سامه متروبوليت سالونيك شماسا إنجيليا. وفي السنة 1886 اجتاز روفائيل الامتحانات النهائية وفاز بالديبلومة من الدرجة الأولى. وعاد روفائيل إلى دمشق والتحق بمعية البطريرك السعيد الذكر جراسيموس وجال معه جولة رعائية واسعة. وفي أثناء وجود البطريرك في بيروت طلب روفائيل أن يرسل إلى إحدى أكاديميات روسية اللاهوتية لمتابعة الدروس فيها، فكتب جراسيموس إلى المجمع الروسي المقدس فجاء الجواب في السنة 1888 بالقبول، فقام روفائيل في أيلول هذه السنة إلى كيف والتحق بمدرستها. ثم عزل البطريرك الأنطاكي خريستوفوروس جبارة من رئاسة الأمطوش الأنطاكي في موسكو واضطر أن يفوض روفائيل بإدارته، فسامه أفلاطون متروبوليت كيف قسا وتوجه إلى موسكو في صيف السنة 1889.
ومما يجدر ذكره أن روفائيل سعى في أثناء إقامته في موسكو لاستقدام تلامذة أنطاكيين وأوروشليميين إلى مدارس روسية الروحية وإعدادهم لخدمة الكنيستين، فوافق المجمع الروسي وأم روسية ثمانية من دمشق، هم: إسكندر شامية ومتري حرستاني ونعمان صيفي وكامل أبو عضل وقسطنطين نجار وجرجي دير عطاني. وستة من حمص، وهم: أنطون بلان وليان الحلبي وعيسى عاقل وأسبر مبيض وشكر الله عطا الله وداود صباغ. وأربعة من بيروت، وهم: نخلة هواويني وإلياس قدسي وإلياس أبو الروس وحنا رزوق. واثنان من طرابلس، وهما: أنطون خشاب وعيسى زريق. وواحد من حاصبيا؛ نصيف أبو جعدة. وأربعة من أوروشليم؛ وهم: بندلي جوزي ويعقوب حنانيا وصالح سنونو وإسكندر حكيم. فأدخلهم روفائيل في مدارس موسكو وخاركوف وأوديسة وروستوف وكالومنا.
ثم كان ما كان من أمر البطريرك اسبيريدون الأنطاكي فأيد روفائيل موقف الوطنيين فعزله اسبيريدون من رئاسة أمطوش موسكو، فترك روفائيل موسكو وذهب إلى قازان للتدريس فيها والمطالعة والتصنيف (1893)، فنشر كراريسه في تاريخ الكنيسة المسيحية وتاريخ الكنيسة الباباوية وتاريخ الأمطوش الأنطاكي في موسكو.
ولم تمض سنتان على إقامة الأرشمندريت روفائيل في قازان حتى ورد عليه في ربيع السنة 1895 تحرير من «الجمعية الخيرية السورية الأرثوذكسية في نيويورك»، تطلبه فيه راعيا في نيويورك وسائر أميريكة الشمالية، فاستشار مطران قازان، فأشار عليه أن يسافر إلى بطرسبرج ليستشير نقولاووس مطران ألاسكا وسائر أميريكة الشمالية، ففعل فحاز على القبول وعلى مساعدة مالية شهرية من المجمع الروسي المقدس علاوة عما عينته له الجمعية في نيويورك، ووصل إلى مدينة نيويورك في خريف السنة 1895 واستأجر محلا مناسبا لكنيسة في شارع واشنطون حيث السواد الأعظم من المهاجرين السوريين الأنطاكيين. ثم شرع في جمع المال لشراء قطعة من الأرض للدفن وقطعة ثانية لبناء كنيسة، وثابر في ذلك وضحى من ماله الخاص فجاءته المساعدة من السوريين في أميريكة ومن روسية ومن الطائفة في سورية ولبنان. واستلف شيئا من المال فأنشأ المدفن. واشترى في السنة 1902 كنيسة مبنية برسم البيع في شارع الباسيفيك في بروكلين نيويورك.
واستقدم الكهنة والشمامسة وبين هؤلاء أفرام الدبس، كما سبق وأشرنا، وأعد كتاب «التغذية الحقيقية في الصلوات الإلهية». وفي السنة 1900 أطل عليه الخوري يوحنا مجاعص من الشوير لجمع الإحسان لمدرسته فساعده واستحصل له رخصة بذلك من المطران تيخون. وفي السنة 1901 جاءه الأرشمندريت ملاتيوس كروم فعينه راعيا في كندا بدلا من الأب أفرام الدبس.
ولمس المجمع الروسي المقدس نشاط روفائيل ونجاحه، وأخذ السادة الأعضاء بعين الاعتبار عدد السوريين المهاجرين الأرثوذكسيين ومكانتهم، فوافقوا على اقتراح تيخون مطران ألاسكا وانتخبوا روفائيل أسقفا على السوريين الأرثوذكسيين في أميريكة في السنة 1904، وطلبوا موافقة البطريرك الأنطاكي. فكانت سيامة روفائيل أول خطوة لتأسيس أبرشيات أنطاكية في الأميريكيتين.
جرمانوس متروبوليت سلفكياس (1904)
وكانت أبرشية سلفكياس (معلولا وبعلبك وزحلة) لا تزال مترملة بعد وفاة عالم الكرسي الأنطاكي الطيب الذكر جراسيموس (يارد)، فسعى البطريرك والمطارنة لإيجاد خلف يقوم بأعباء الخدمة الروحية في بقاع العزيز، فوجدوا ضالتهم في أميريكة الجنوبية ما بين الأرجنتين والبرازيل في شخص الأب جرمانوس شحادة. وكان جرمانوس قد تحلى بالرصانة والتعقل والتواضع وحسن التبرير وشدة الغيرة على كنائس الأرجنتين والبرازيل والتفاني في سبيل أبنائها. وكان تقي النفس وديع القلب بعيدا عن التعصب محبا للخير، فاستبشر الزحليون به وعلقوا على رئاسته خير الآمال. وفي الثاني عشر من أيلول سنة 1904 احتفل البطريرك الأنطاكي لإقامة القداس في الكاتدرائية المريمية يعاونه مطارنة حماة وأداسيس وترسيس. وفي أثناء الخدمة جرت حفلة السيامة بوضع يد غبطته والسادة المطارنة حسب الترتيب المعروف، وبعد انتهائها وقف المطران الجديد وألقى خطبة شكر بها للبطريرك والمطارنة والشعب ثقتهم بشخصه، وطلب إليهم أن يشتركوا بالتوسل إلى الله تعالى من أجله ليعطيه الحكمة والفهم والمقدرة؛ لتكون خدمته لائقة لدى الله عز وجل ومفيدة للتبريك.
جولة رعائية بطريركية (1905)
وبذل البطريرك طوقه في السنوات الخمس الأولى في تنظيم الكنيسة وحل مشاكلها، فركب فيها كل صعب وذلول. وفي مطلع السنة 1905 وضح الطريق واستبان البطريرك ما ينبغي سلوكه، فاطمأنت نفسه وعول على إكمال جولته الرعائية التي كانت قد انقطعت بوفاة غفرائيل في مطلع السنة 1901.
وفي السابع عشر من أيار سنة 1905 بارح الحبر الأنطاكي دمشق قاصدا حمص، فأرسل الوالي إلى المقر البطريركي ياوره ويوزباشيا وعددا من الفرسان، واستناب في الوداع نقولا أفندي العضامي ترجمان الولاية. وخرج أعضاء القوميسيون الزمني واللجان الخيرية وعدد كبير من وجهاء الطائفة وقنصل روسية في دمشق، فحيت غبطته في المحطة فرقة من الضابطة. ثم ركب البطريرك القطار يصحبه جرمانوس متروبوليت سلفكياس وكيله في البطريركية وحبيب كومين كاتم أسراره وحاشية إكليريكية. وخف لاستقبال البطريرك حتى محطة القصير كل من أثناسيوس راعي أبرشية حمص وألكسندروس متروبوليت ترسيس ويوليوس بطرس مطران السريان، ووفد من وجهاء الطائفة في حمص ولدى وصوله إلى محطة حمص حيته كوكبة من الخيالة، فسار ووجهته كنيسة الأربعين والطريق على طوله مع النوافذ والسطوح ضائقة بالحمصيين على اختلاف الملل والنحل، واستقبله عند مداخل الكاتدرائية مصف الإكليروس بالحلل والصلبان والمباخر والشموع وقرع الأجراس، وكانت هذه حديثة العهد في حمص، فدخل الكنيسة وبارك وصلى، ثم دفع خطابا ليد متروبوليت سلفكياس ليتلوه بالنيابة، فألقاه بصوته الجلي، وفيه الثناء على راعي الأبرشية والحض على الطاعة والإخلاص للدولة. ثم سار إلى دار المطرانية، فكان في طليعة المستقبلين أغابيوس معلوف متروبوليت بعلبك على الروم الكاثوليك، وجاء في التاسع عشر غريغوريوس متروبوليت حماة ووجهائها مرحبين داعين البطريرك لزيارتهم.
وفي السابع والعشرين من أيار قام البطريرك إلى حماة فخفت الطائفة بأسرها لاستقباله في محطة القطار، وأنفذ متصرف لواء حماة وفدا لاستقبال البطريرك والترحيب به وكوكبة من الفرسان لتحيته ومواكبته إلى الكنيسة ومنها إلى محل إقامته في دار ميخائيل عبد الله. ووصل البطريرك إلى الكنيسة وصلى وبارك وشكر ودعا، ثم ألقى متروبوليت حماة خطابا فرد متروبوليت ترسيس باسم البطريرك، وزار البطريرك المتصرف وقائد الجند فردا الزيارة حالا، ثم تفقد المدارس فلمس تقدمها ونجاحها ، وعاد إلى حمص.
اجتماع الإخوة جميعا
وفي الثاني من حزيران خرج البطريرك من حمص إلى طرابلس فاستقبله في العبدة مطران طرابلس ومطران عكار، وقيصر نحاس ممثل متصرف طرابلس وجورج كاتسفليس قنصل روسية، ووفد من كهنة الموارنة وعدد كبير من أرباب المناصب ووجهاء القوم. وتابع السير إلى طرابلس تواكبه كوكبة من الفرسان، فدخل الكاتدرائية وصلى وبارك ودعا للسلطان، ثم قام منها إلى كنيسة الموارنة فاستقبله كهنة الموارنة بالتراتيل عند مدخل الكنيسة، فدخل وصلى وشكر وبارك، فخطب أحد الكهنة الموارنة شاكرا لغبطته محبته الأبوية، فأجابه غريغوريوس متروبوليت طرابلس بخطاب ارتجالي افتتحه بقوله: «ما أحلى أن يجتمع الإخوة جميعا!» ثم زار غبطته المتصرف وكيل قومندان الموقع، وفي اليوم التالي أطل وفد البطريرك الماروني ووجهاء زغرتا وأعيانها، فاستقبلهم البطريرك بكل احتفاء.
البطريرك في البلمند
وزار البطريرك ميناء طرابلس ثم تفقد شئون المدارس الروسية في طرابلس وقام إلى مدرسته الإكليريكية في البلمند. وجرت امتحانات الصف المنتهي في اللاهوت العقائدي والفلسفة والأدب المسيحي ومؤلفات الآباء، وتفسير الكتاب المقدس وقواعده والمدخل إليه والخطابة الكنائسية وتاريخ الكنيسة والنوموقانون، وأشرف البطريرك على معظم هذه الامتحانات، وكان أحيانا يرافقه غريغوريوس طرابلس وباسيليوس عكار وألكسندروس ترسيس.
وجاء موعد منح الشهادات في يوم الأحد في العاشر من تموز، فأقام البطريرك قداسا حبريا شاركه فيه ألكسندروس متروبوليت ترسيس، وعند النهاية خرج البطريرك إلى الردهة البطريركية واصطف حوله الشمامسة المنتهون؛ ثيودوسيوس أبو رجيلي وإيصائيا عبود وفوطيوس صعب وفوطيوس خباز، وأغناطيوس خوري وباسيليوس شاهين ويوسف أبو طبر، والمبتدئان إسكندر يارد وجرجي دبو. فتقدمهم البطريرك في نشيد بعض الصلوات بصوته الرخيم، ثم أومأ إلى مدير المدرسة غطاس قندلفت فتلا تقريرا عن سير المدرسة في السنة المنصرمة ، ووجه النصائح للمنتهين وذكرهم بالمبادئ الشريفة وحضهم على الاستمساك بها بكل حرص وبثها في غيرهم بكل غيرة. وعقبه الشماس فوطيوس صعب (بيروت) فلفظ خطابا وداعيا بالنيابة عن رفاقه، ثم قدمت الشهادات لغبطته فوزعها. وتكلم ألكسندروس متروبوليت ترسيس فأبان ما كان يخامر فؤاد البطريرك وفؤاده لمشاهدة الفعلة النشيطين الذين يخرجون للعمل في حقل الكنيسة وزودهم ببعض النصائح.
خطاب الدكتور حبيب مالك
ورفعت جولة البطريرك الرعائية صوت الإنجيل وألفت القلوب بالمحبة وأظهرت قدر الكنيسة واحترام السلطات الزمنية لها، وأحيت في قلوب المسيحيين العزة والغيرة. ولعل أفضل ما عبر عن شعور الأرثوذكسيين خطاب الدكتور حبيب مالك الذي فاه به في دير البلمند لمناسبة زيارة البطريرك:
وسلام يا دمشق الفيحاء، وعلى هوائك النقي وجوك الصافي ومائك الزلال ألوف من التحية والإكرام؛ لأنه قد خرج منك مدبر يرعى شعب إسرائيل. وكيف لا نفرح ونسر ونحن نرى في افتقاد أبنائكم في أنحاء الكرسي أعظم موجب وأكبر داع لذلك، وكيف لا نفرح ونحن نرى في شخصكم الطوباي حنو الوالد وانعطاف الأخ ومؤانسة الشريك وهمة البطل وسير الحاكم المقدام؟ ولنا على هذا عدة أدلة أكتفي بواحد منها؛ هو تشييد مدرسة أساسها التهذيب وجدرانها العلم وسقفها الدين ومفاتيح أبوابها بيد رجل الفضل والفضيلة سيادة راعينا النبي (غريغوريوس) قمر كنيستنا. ولا بد لي يا ذا الغبطة من التطفل مذكرا بتشييد مدرستين إحداهما في دير مار جرجس الحصن والثانية في دير مار إلياس الشوير وبذلك تحصل المساواة.
ولنا وطيد الأمل مما سمعناه ومما تحقق لدينا أن حالتنا في أيام غبطتكم ستكون أرقى من أمس إن دينيا وإن أدبيا، والأرض عطشانة والبزور حاضرة وأسباب الخصب متوفرة والأعين محدقة بنا من كل جانب وما علينا سوى الإرادة. وإني أقرأ على جبين غبطتكم آيات مؤداها:
مفتقدين أبناءكم لكي تحيوا في قلوبهم بزور المحبة والألفة ولكي تروا فيهم أبناء للنور فيمجدون الآب السماوي، ولكي تحيوا في قلوبهم حاسيات الشرف والشهامة والغيرة، ولكي تزيدوهم تمسكا بالعرش العثماني.
29
دير مار جرجس الحميرا
وعاد البطريرك من دير البلمند إلى طرابلس فتل كلخ فدير مار جرجس الحميرا، فجرى له استقبال عظيم. وصباح الأربعاء الموافق لعيد الصليب أقام قداسا حافلا حضره الجم الغفير من جميع الجهات المجاورة، ثم نظر في شئون الدير فأنشأ سوقا فيه شمل مائة وخمسين دكانا فأنفق أكثر من ألفي ليرة عثمانية.
دير مار إلياس الشوير
وفي هذه السنة عينها وافق البطريرك على مد طريق عربات تصل ديره في الشوير بالطريق العام. وكان رئيس هذا الدير الأرشمندريت جراسيموس الدمشقي قد بنى تسعة بيوت للشركاء في أبي ميزان، وحارة في القنابة وحارتين في راميا وحارة في الزغرين وحفر أربعة ينابيع في أبي ميزان والقنابة وغرس 12000 نصبة توت وأنشأ مدرسة في الدير لتعليم أبناء الطائفة من القرى المجاورة.
عيد تحرير الكرسي الأنطاكي
وفي الحادي والثلاثين من تشرين الأول سنة 1905 احتفل الأب أغناطيوس رئيس الأمطوش الأنطاكي في موسكو بقداس لمناسبة مرور سبع سنوات على وصول ملاتيوس الثاني إلى الكرسي الأنطاكي، «ولذكرى تحرير هذا الكرسي وتعيين من هو جدير به من أبناء الوطن»، وخرج المؤمنون من الكنيسة لدار الأمطوش يقدمون التهاني لرئيسه، ونشرت الجرائد الروسية خبر العيد الأنطاكي مشاركة الأنطاكيين بسرورهم.
30
الفصل التاسع
غريغوريوس الرابع
وفاة ملاتيوس الثاني
وفي مساء الأربعاء الخامس والعشرين من كانون الثاني سنة 1906 شعر ملاتيوس الثاني بتوعك بسيط فأفاد حاشيته بذلك وأخذ بعض الأدوية، ثم استدعى أحد الأطباء فأسعفه ببعض العلاجات. وفي صباح الخميس تساءل أفراد الحاشية عن صحته فقيل: إنه لم يزل راقدا، وكان الوقت ضحى فاستغربوا هذا الرقاد وتقدموا إليه فلم يفه ببنت شفة، وكانت علامات التنفس شديدة، فاستدعوا الأطباء، فقرروا أنه مصاب بسكتة دماغية شديدة الوطأة عظيمة الخطر. وعقد المجلس البطريركي المختلط جلسة فوق العادة برئاسة أثناسيوس (أبي شعر) متروبوليت أداسيس فقرر وجوب إعلام الوالي والسادة المطارنة القريبين من دمشق، وأرسل الوالي طبيبين ثم جاء بنفسه وشاهد البطريرك بحالة الخطر الشديد.
وبعد ساعة فاضت روحه بين يدي الأطباء ونودي بوفاته، فعقد قوميسيون الطائفة المختلط جلسة ثانية وقرر إخبار جميع أساقفة الكرسي الأنطاكي والنائب البطريركي في مدينة أنطاكية. وأسرع الشمامسة فغسلوه بالزيت والخمر وألبسوه بدلة رئاسة الكهنوت ونقلوه إلى صحن الكنيسة الكاتدرائية ووضعوه ضمن عرش مكلل بالزهور والرياحين، وأحاط به الكهنة والشمامسة يقرءون الأناجيل ويرنمون الزبور، وبقي هذا الترتيب متواصلا ليلا نهارا إلى حين دفنه.
وقبيل ظهر الجمعة في السابع والعشرين من كانون الثاني حمل البرق رسالة من مطراني حمص وحماة تفيد وصولهما إلى دمشق في المساء، فعقد القوميسيون المختلط جلسة ثالثة وقرر الاحتفال بمأتم البطريرك يوم السبت في الثامن والعشرين وابتداء من الساعة العاشرة قبل الظهر.
وتوافد القوم على الدار البطريركية للتعزية وفي مقدمتهم كثير من الرؤساء الروحيين، وأظهر الوفد الماروني من شعائر الحب والإخاء ما أوجب الشكر والثناء، فقد قال هذا الوفد: «حضرنا بالنيابة عن كل الطائفة المارونية لا لتعزيتكم، بل لمشاركتكم بالحزن، فنحن بالمصاب سواء؛ لأن كل ما يسر الطائفة الأرثوذكسية يسر الطائفة المارونية، وكل ما يسوءها يسوءنا، وهذه شعائر الموارنة في جميع الأقطار.»
وعند الساعة العاشرة من قبل ظهر السبت غصت الكنيسة الكاتدرائية بالقوم على اختلاف الطبقات، وكانت لجنة القوميسيون المختلط تستقبل الوفود، فأقبل الوالي والمشير وقناصل الدول والرؤساء الروحيون وممثلو الجمعيات والوجوه والأعيان. وقام بصلاة الجناز كل من أثناسيوس متروبوليت حمص وغريغوريوس متروبوليت حماة، وبولس متروبوليت لنبان وجراسيموس متروبوليت بيروت وجرمانوس متروبوليت زحلة، وعدد من الكهنة والشمامسة. وتولى التأبين متروبوليت بيروت. ثم حمل الفقيد على أكف المطارنة وسير به إلى دار الكنيسة وأودع اللحد بصحن الدار.
وصباح الأحد احتفل السادة المطارنة ومصف الإكليروس بقداس وجناز عن نفس الفقيد، وارتقى المنبر متروبوليت لبنان وتولى التأبين ثانية. وبعد الظهر قام وفد من المطارنة فرد الزيارة لكل من بطريرك الروم الكاثوليك وبقية الرؤساء الروحيين. وفي المساء عقد المطارنة مع أعضاء قوميسيون الملة جلسة عهدوا فيها وكالة أشغال البطريركية لأثناسيوس متروبوليت حمص.
1
وفي أوائل آذار صدرت إرادة سنية سلطانية بتصديق قائمقامية أثناسيوس، وبلغت من نظارة العدلية إلى والي الولاية.
2
صدى الوفاة في القسطنطينية والإسكندرية
وحرر بعض أعيان الطائفة الأرثوذكسية في أبرشية ترسيس وأدنة عرائض إلى المجمع الأنطاكي المقدس، وطالبوا بإجراء الانتخاب البطريركي الجديد على القاعدة القديمة لإعادة السلام إلى أحضان الكنيسة، وأرسلوا نسخا عن عرائضهم إلى بطاركة القسطنطينية والإسكندرية وأوروشليم، فكتب البطريرك الإسكندري إلى زميله القسطنطيني يأسف لخروج الكرسي الأنطاكي عن جادة الصواب، ويقترح إعادة النظر في المشكلة الأنطاكية وتمهيد السبيل لإعادة المطارنة المبعدين إلى كراسيهم وإشراكهم في انتخاب البطريرك الأنطاكي الجديد. ولكن السينودس القسطنطيني المقدس آثر عدم التدخل؛ خشية تفاقم الشقاق واتساعه.
الترشيح
وفي العشرين من نيسان سنة 1906 التأم المجمع الأنطاكي المقدس لجلسة الترشيح القانوني، فجرى الترشيح بكل هدوء وسكينة وحاز كل السادة المطارنة أصواتا. ولكن أثناسيوس متروبوليت حمص فاز بالأكثرية، ونال غريغوريوس متروبوليت طرابلس أربعة أصوات، والباقون أقل من ذلك. ونظم ضبط الترشيح ونقل إلى والي سورية ليعرضه على المراجع الإيجابية. وقبلت هذه المراجع قائمة الترشيح بكاملها، فاعتبرت كل مطران من مطارنة الكرسي الأنطاكي أهلا للمنصب البطريركي.
غريغوريوس بطريرك أنطاكية
وفي الخامس من حزيران سنة 1906 عقدت جلسة التفريق برئاسة القائمقام البطريركي كيريوس أثناسيوس متروبوليت حمص، وعضوية كل من السادة غريغوريوس مطران حماة وغريغوريوس مطران طرابلس وأرسانيوس مطران اللاذقية وبولس مطران جبيل والبترون، وجراسيموس مطران بيروت وباسيليوس مطران عكار واسطفانوس مطران حلب وألكسندروس مطران ترسيس، وجرمانوس مطران زحلة والخوري يوسف أليان، والذوات جبرائيل ملوك وجبران لويس وسمعان اللاذقاني وبطرس قندلفت وإسكندر ترزي وداود أبو شعر وأسعد أبو شعر، وأمين يوسف ملوك ونقولا شباط. وقدم مطران طرابلس صك وكالة له من مطران ديار بكر وما بين النهرين مؤرخا في 12 نيسان سنة 1906، وصك وكالة له أيضا من مطران صور وصيدا مؤرخا في 23 أيار سنة 1906، فكتب أعضاء هذا المجلس - مجلس الانتخاب - أوراقهم السرية، ولدى فتحها تبين أن غريغوريوس متروبوليت طرابلس فاز بالإجماع:
قرر المجمع الأنطاكي المقدس بانتخاب السيد غريغوريوس حداد مطران طرابلس بطريركا لأنطاكية وسائر المشرق، الجلسة الثامنة: باسم الإله المثلث الأقانيم غير المنقسم قد التأمنا نحن مطارنة الكرسي الرسولي الأنطاكي المقدس في كنيسة دمشق الكاتدرائية المحمية، التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم. وبناء على ما تقرر في الجلسات السابقة شرعنا في الانتداب قانونيا، وفي وسطنا أيقونة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الطاهرة، لإيجاد شخص فيه الأهلية واللياقة وانتخابه لضبط زمام الكرسي الرسولي البطريركي الأنطاكي المقدس والقيام بمهامه روحيا وزمنيا، فوضعنا أولا اسم أخينا السيد غريغوريوس مطران حماة، ثانيا اسم أخينا السيد غريغوريوس مطران طرابلس، وثالثا اسم أخينا السيد جراسيموس مطران بيروت، الموقرين الذين أدرجت أسماؤهم في هذا السجل البطريركي الشريف لبيان دائم وإيضاح ثابت. وبعد التضرع والابتهال إلى إلهنا العظيم واستمداد نعمة روحه القدوس وإعطائنا انتدابنا السري القانوني وقع الانتخاب على أخينا السيد غريغوريوس مطران طرابلس الوقور، باتفاق الأصوات، وهو أعطى صوته إلى السيد جراسيموس مطران بيروت الوقور، فقدمنا للإله الضابط الكل الشكر القلبي على ذلك. تحريرا في اليوم الخامس من شهر حزيران المبارك سنة ألف وتسعمائة وست للميلاد 1906 في دمشق.
وكان أثناسيوس متروبوليت حمص قد أعلن عدم رغبته في الدخول في مصف المنتخبين بفتح الخاء. وأخذ متروبوليت لبنان نص القرار وتلاه على مسمع الجمهور خارج الكنيسة، فعلت أصواتهم بالاستحسان. ثم انتصب أثناسيوس متروبوليت حمص مناظر غريغوريوس فهنأ مناظره بانتخابه بطريركا وهنأ نفسه والسادة المطارنة وعموم الطائفة بالسيد الجليل، «سائلا الله - جل جلاله - أن يرعاه بعين عنايته ويوفقه لأن يرعى الطائفة، وأن يمنحه حكمة التدبير.» وعندئذ ألقى البطريرك المنتخب كلمة استهلها بالقول: «إن راعيا لغنم أبيه وصغيرا في إخوته أتى قديما إلى منصب عال في شعبه، أنا الراعي الفقير الذي شرفته النعمة الإلهية واختصته ثقة إخوته به ودالة أبنائه عليه، فرفعته إلى المقام السامي في هيئة الكرسي الأنطاكي، فيحمد الله على نعمته ويشكر إخوته السادة الأجلاء، ويدعو لأبنائه بالرب ضارعا إلى الله تعالى الذي منه كل قوة ومعونة ليؤهله معهم لحسن القيام بالواجب لنيل جميل المكافأة من الديان العادل.»
وهو غنطوس بن جرجس بن غنطوس الحداد، ولد في غرة تموز سنة 1859 في قرية عبية وترعرع فيها. وضعه والداه في مدرسة عبية الأميريكية فورد من معين العلم زلالا وبرز على أقرانه ومال من صبوته إلى الزهد والتأمل، فأيد الله نيته ودفعه إلى يد غفرائيل متروبوليت بيروت ولبنان في العاشر من أيار سنة 1872، فتثقف عليه في كل بر وفضيلة وحظي من جانب رضاه بما لم يحظ به أحد قبله، فألحقه بمدرسته الإكليريكية. وفي الرابع والعشرين من كانون الأول سنة 1875 اتخذه كاتبا له فانبثقت أشعة نشاطه وبان سمو آرائه. وفي التاسع عشر من شهر كانون الأول سنة 1877 ألبسه معلمه الأسكيم الرهباني في دير سيدة النورية، ثم سامه شماسا في التاسع والعشرين من آب سنة 1879، وأناط به مهام عديدة؛ منها: إنشاء جريدة الهدية، ومنها أيضا نيابة رئاسة جمعية القديس بولس، ومنها وقوفه على طبع كتاب «البوق الإنجيلي».
ولما استأثرت رحمة الله بصفرونيوس (النجار) متروبوليت طرابلس انتدب غريغوريوس ليكون خلفا له، فسامه غفرائيل قسا في السادس من أيار سنة 1890. ثم نال نعمة رئاسة الكهنوت من يد البطريرك جراسيموس بمشاركة سيرافيم متروبوليت أداسيس ونيقوذميوس متروبوليت عكار، وذلك في العاشر من أيار من السنة نفسها، فاشتهر بنشاطه واستقامته وعفافه وزهده ودماثة أخلاقه، وكان ضليعا في اللغة العربية من صرف ونحو وبيان وعروض وفي الرياضيات والمنطق وفي العلوم الشرعية من فقه وميراث، وكان له ذهن لا يعرض عليه نسيان وقريحة سيالة كالسحاب وتصورات من أبدع ما يعرض للمخيلة، وشعر منسجم الحواشي مبتكر المعاني، وكان له اطلاع في اللغة اليونانية وبعض الإلمام باللغتين التركية والروسية.
3
حفلة التنصيب
وتبلغ غريغوريوس صدور الإرادة السنية بالتصديق على انتخابه بطريركا لأنطاكية وسائر المشرق في السادس من آب سنة 1906، فتقرر الاحتفال بتنصيبه يوم الأحد في الثالث عشر من الشهر نفسه.
وفي السابعة والنصف صباحا قرعت الأجراس فتوارد المدعوون إلى دار البطريركية، وفي طليعتهم ممثلو الحكومة وقناصل الدول والوجهاء والأعيان ووفود الأبرشيات.
وخرج البطريرك بموكبه إلى الكنيسة الكاتدرائية المريمية لابسا بدلته العادية؛ الجبة والصليب والشمسة والقلنسوة باللاطية، فمشى أمامه القسواسة ثم حملة الشموع والمراوح والصليب المقدس، ثم المرتلون يرتلون الأرمس التاسع للشعانين: «الله الرب ظهر لنا!» ثم مشى الكهنة والأرشمندريتيون ببدلاتهم الكهنوتية، ثم الأساقفة ثم رؤساء الأساقفة ثم المطارنة؛ غريغوريوس حماة وأثناسيوس أداسيس وأرسانيوس اللاذقية وبولس جبيل والبترون وجراسيموس بيروت وباسيليوس عكار، وألكسندروس ترسيس وجرمانوس سلفكياس، ثم الشمامسة يحملون الذيكاريات والتريكاريات والمباخر، ثم حامل الشمعدان البطريركي، ثم البطريرك المنتخب ووراءه أصحاب المقامات الرسمية.
ولدى وصول البطريرك المنتخب إلى مدخل الكاتدرائية الغربي وولوجه النرثكس بدأ المرتلون بترتيل : «بواجب الاستيهال»، وتقدم الشمامسة فألبسوا البطريرك المنتخب المنتية، فدخل الكنيسة يبخره اثنان من الشمامسة، ودخل الهيكل مع جميع هيئات الإكليروس وسجد وقبل المائدة المقدسة. ثم تنحى فتقدم غريغوريوس متروبوليت حماة أقدم المطارنة شرطونية لابسا البطرشيل والأموفوريون إلى أمام المائدة المقدسة وبخرها، فقال الشماس: بارك يا سيد! فرتل متروبوليت حماة: «تبارك الله!» وعندئذ لبس البطريرك المنتخب البطرشيل والأموفوريون وبخر حول المائدة المقدسة وأتم الصلاة كأول المطارنة. وبعد الحل تقدم الشمامسة ونزعوا عنه البطرشيل والأموفوري، وبعد ذلك خرج الموكب المؤلف من رؤساء الكهنة والكهنة والشمامسة ووقفوا في الخورص صفين. ووقف البطريرك المنتخب في الباب الملوكي متجها نحو الشعب، فانتصب كاتب المجمع المقدس الشماس باسيليوس الصيداوي في بهرة الخورص وتلا بصوت جهوري «الإعلام العظيم»:
إن المجمع الأنطاكي المقدس ومصف الإكليروس الموقر وجماعة الشعب الأرثوذكسي المبارك قد انتخبوا غبطتكم باتفاق الرأي بطريركا على مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق بإلهام الله، وهم يدعونكم بواسطة الابن الحقير إلى هذا الكرسي الأنطاكي البطريركي المقدس المؤسس من هامتي الرسل بطرس وبولس الإلهيين، فارتقوا إذن إليه أيها السيد الكلي الغبطة وزينوه عمرا مديدا كما زينه أسلافكم الرسل الأطهار وأغناطيوس المتوشح بالله وأفستاثيوس الكبير وملاتيوس الشريف، وسائر الذين تقلدوا زمام هذا الكرسي المقدس بخوف الله.
وبعد هذا تقدم غريغوريوس متروبوليت حماة الأول سيامة بين المطارنة وسلم البطريرك عصا الرعاية قائلا: «الله معك يا مبارك الرب، تشجع وتقو بالرب، وكن أمينا في الخدمة التي اختارك لها الله إلهك، وارع بخوف الله وأمانة ونشاط الرعية المفتداة بالدم الكريم في مراعي الخلاص، وأوردها ينابيع الحياة الإلهية حافظا الإيمان وساهرا في الصلاة محبا لله ولشعبه المختار ومعلما الجميع وصايا الرب وحقوقه صائرا مثالا في كل عدل، وخذ بيمينك هذه العصا القويمة لتكون لك نحو الجهال والمتمردين للتأديب ونحو العقلاء والراضخين للرعاية والعناية.»
وقدم غريغوريوس الأول بين المطارنة العصا وقبل يمين البطريرك غريغوريوس، فتناولها البطريرك ونزل من الباب الملوكي يتقدمه الشمامسة بالذيكاريات والتريكاريات، وذهب فصعد إلى السدة البطريركية ولفظ خطابا مستمدا العون الإلهي للقيام بمهام منصبه السامي:
إن خطارة المنصب بالنسبة إلى حقارتنا تزيدنا شعورا بضعفنا واحتياجنا إلى نعمة القدير، ونتقدم لإتمام رغبة إخوتنا بالرب الكلي طهرهم وأبنائنا الأحباء بالروح القدس بارتقائنا إلى هذا الكرسي الرسولي المقدس معاهدين أن نبذل جهد القدرة للقيام بأمانة ونشاط بواجبات المنصب الذي عهد إلينا، ثابتين ومحافظين على الناموس الإلهي والترتيبات الشريفة ونفوس الرعية وحقوق الله حتى النهاية، شاكرين لإخوتنا الكلي طهرهم انتخابهم لنا على ما بنا من الضعة وبنينا الأعزاء ثقتهم بنا على ما بنا من الضعف، مستمدين جميعنا العون الإلهي والمساعدة الأخوية والطاعة البنوية للبلوغ إلى غاية رضا الذي يدين كل الخليقة، فنظهر جميعنا أهلا للدعوة التي دعتنا لميراث ملكوت السماوات.
ثم وقف جراسيموس متروبوليت بيروت في الكرسي المقابل للكرسي البطريركي وأجاب غبطته على خطابه بخطاب ناب فيه عن هيئات الإكليروس والشعب بتهنئة غبطته، فوصف سرور البيعة الأنطاكية براعي رعاتها، وأظهر ما علقته عليه من الآمال وما انتظرته من حكمته وحزمه.
فرتل المرتلون البوليخرونيون البطريركي وبارك البطريرك الشعب بالصليب الكريم. ثم احتفل غبطته ولفيف الإكليروس بخدمة القداس الإلهي، وقبل تلاوة الرسائل؛ أي بعد ترتيل: «يا رب خلص المؤمنين واستجب لنا» ارتقى غبطته الكاتدرا الرسولية في صدر الهيكل، فهتف متقدم المطارنة «إكسيوس» أي مستحق. ورتل هذه الكلمة المطارنة والإكليروس داخل الهيكل ثلاثا والمرتلون في الخورصين ثلاثا ثلاثا، ثم أعلن الأرشدياكون الفيمي البطريركية:
غريغوريوس الأب الأقدس الطوباوي والجزيل الاحترام بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسورية والعربية وكيليكية والبلاد الكرجية وما بين النهرين وسائر المشرق، أبو الآباء وراعي الرعاة ورئيس الرؤساء ثالث عشر الرسل القديسين الأطهار أبونا ورئيس رعاتنا لتكن سنوه عديدة.
فرتلها المطارنة والإكليروس القائمون في الخدمة المقدسة من الهيكل أولا ثم أعادها المرتلون في الخورصين كل خورص لوحده، وبعد نهاية القداس خرج البطريرك بموكبه إلى دار البطريركية.
4
ولما استقر بالمجمع المقام نهض قنصل فرنسة في دمشق وتكلم باسمه وباسم زملائه قناصل الدول مهنئا، وتمنى للبطريرك وللطائفة الأرثوذكسية التوفيق والهناء، فشكر البطريرك ما لقيه من المجاملة واللطف. ثم نهض إسكندر الطرزي فتكلم بالتركية، فالدكتور داود أبو شعر شعرا ونثرا فجرجي عطية متفننا بوصف سرور الملة، فالدكتور خليل الحايك باسم أبرشية طرابلس فسليم شامية بالنيابة عن لجنة حب الرحمة فسليم عازي. وفي النهاية وقف البطريرك نفسه فاستهل باستمداد العون الإلهي وأعرب عن ثقته بمستقبل سعيد لما توسمه من مضافرة وجهاء الطائفة وأعيانها ومساعدتهم إياه ماديا وأدبيا.
5
رسائل الجلوس
وفي الرابع عشر من آب سنة 1906؛ أي بعد حفلة التنصيب بيوم واحد وجه البطريرك الجديد رسائل الجلوس إلى البطاركة ورؤساء الكنائس المستقلة:
بعد الديباجة: نبدي أننا نتبع ترتيبا شريفا وعريقا في القدم يوجب على رؤساء الكنائس المقدسة المستقلة الروحيين أن يعلموا بعضهم بعضا بالحوادث المهمة التي تحدث حينا فحينا في كنائسهم، وأن يرسلوا الرسائل السلامية بيانا مخصوصا لارتقائهم على منصة الرئاسة في تلك الكنيسة، فنتقدم برغبة فوادية لنعلم كلي قداستكم أنه بعد انتقال سلفنا السعيد الذكر ملاتيوس إلى الرب في أواخر شهر كانون الثاني للسنة الحالية اجتمعت الهيئة الانتخابية، وهي مؤلفة من مطارنة الكرسي الأنطاكي الرسولي المقدس الجزيل طهرهم ومن الذوات نواب الشعب المحفوظ من الله، فأتمت كل المعاملات التمهيدية للانتخاب بحسب الأصول المرعية في اجتماعاتها القانونية تحت رئاسة القائمقام البطريركي السيد أثناسيوس مطران حمص الكلي الاحترام. وفي اليوم الخامس من شهر حزيران سنة 1906 اجتمع المجمع الأنطاكي المقدس المؤلف من جميع مطارنة الكرسي الرسولي في كنيسة نياح سيدتنا والدة الإله الكاتدرائية في دمشق تحت رئاسة القائمقام البطريركي المشار إليه. وبتمام الحرية وبإرشاد نعمة الروح الكلي قدسه مبدأ كل عمل مقدس وجه أنظاره إلى ضعفنا بانتخاب حقارتنا باتفاق تام وبرأي واحد بطريركا لمدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق.
وبعد أن صدق جلالة متبوعنا الأعظم صاحب الشوكة والاقتدار سلطاننا الأفخم على انتخابنا القانوني الذي جرى بالصورة المبينة، وأعلن رضاه الملوكاني العالي بإرادته السنية الصادرة في 5 آب سنة 1906، تم يوم أمس الأحد الواقع ثالث عشر شهر آب الجاري ارتقاؤنا على حسب الأصول المرتبة ترتيبا إلى الكرسي الرسولي البطريركي الأنطاكي المقدس في الكنيسة الكاتدرائية المشار إليها في مدينة دمشق.
ولما كان من أقدس اهتماماتنا أن نحافظ على رباط الاتحاد والمحبة في المسيح غير منقطع تبادر بتحريرنا هذا الأخوي، الذي به نعرف كلي قداستكم الوقورة والمشتهاة ما تقدم، ونصافحكم بشوق روحي ومقدس ونقبلكم القبلة الفؤادية بالمسيح.
على أننا باستلامنا سكان السفينة المؤسسة من الله سفينة أنطاكية المقدسة نلتهب بغيرة حارة ورغبة واحدة فقط في كيف يمكننا بمعونة الله أن ندبر السفينة المحفوظة تدبيرا نافعا ومرضيا لله، ونقودها بسلام لإتمام إرادة الرب الصالحة والكاملة، وأن نتبع خطوات راعي الرعاة العظيم لنأتي بشعب الرب الخاص المسلم بعهدتنا إلى مراعي نعمة الإنجيل وينابيع الخلاص كما يريد الله، غير أنه سيكون من أقدس وأحلى واجباتنا هذا الواجب؛ أي أن نجتهد في أن نحافظ على الربط المقدسة مع قداستكم الوقورة ربط المحبة والسلام، ونقدم صلوات وتضرعات من أجل أن تكون خدمتكم وخدمتنا مثمرة في كرم الرب لمجد اسمه الفائق التمجيد. ومن ثم نرغب من تقوى قداستكم الشيء ذاته؛ أي أن نتمتع بمثل ما ذكر وننال منكم الرسائل المتتابعة تعزيزا وتقوية لربط المحبة الأخوية بيننا التي هي كمال الناموس وأسمى وصايا المسيح مخلصنا وفادينا، ولتوثيق عرى السلام المعطاة الطوبى لصانعيه من فم مخلصنا.
فعلى هذا نصافح هامتكم الموقرة، ونطلب من الله مانح النعم أن تكون سنوكم كثيرة وخلاصية تتمتعون فيها بصحتي النفس والجسد، ونعمته تعالى فلتكن معنا وفيما بيننا على الدوام، آمين. مستمد دعاكم أخوكم بالمسيح المستعد لخدمتكم بالرب غريغوريوس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق. حرر في رابع عشر شهر آب سنة 1906 في مدينة دمشق.
6
وسبقت كنيسة موسكو أخواتها الأرثوذكسيات في المحبة، فأقام الأسقف أنسطاسيوس وكيل متروبوليت موسكو قداسا حبريا في كنيسة أمطوش الكرسي الأنطاكي في يوم تنصيب غريغوريوس في الثالث عشر من آب سنة 1906. ودعا دعاء حارا للبطريرك الجديد وألقى كلمة باسم الكنيسة الروسية هنأ بها البطريرك الأنطاكي غريغوريوس «عمود الكنيسة غير المتزعزع».
7
وأسرعت جميع الكنائس المستقلة للرد على رسالة الجلوس بالمحبة الأخوية.
وأنعم السلطان العثماني بالوسام المجيدي الأول على غريغوريوس؛ «جزاء إخلاصه وصدق خدمته»، فكان هذا الإنعام خير رد على اعتراض مطارنة اليونان الأنطاكيين الأربعة البعيدين عن كراسيهم الذين اعتبروا مستقيلين. وكان رائد يواكيم البطريرك المسكوني مذ تسنم السدة القسطنيطينية توثيق عرى المحبة والوفاق بين الكنائس الأرثوذكسية، فرد على رسالة الجلوس الأنطاكية في الرابع عشر من آب سنة 1909 بأحلى منها:
أيها الأخ المحبوب بالمسيح جدا الكلي الغبطة والقداسة بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق، ومساهم حقارتنا في خدمة الأسرار الإلهية المشوق إليه كثيرا، كيريوس غريغوريوس، بعد مصافحة غبطتكم الجليلة أخويا بالرب يحلو لدنيا جدا أن نخاطبكم بما يأتي:
إن رابوع البطريركيات الشريف المؤلف من كنائس الله الشرقية المقدسة كان دائما بنعمة الله وبملء التقوى قاطعا كلمة الحق باستقامة، ومرتبطا بعرى المحبة الأخوية والاتفاق والمعاضدة ارتباطا لا ينفصم كما كان متحدا بالرأي، فتوطدت بذلك وحدته وأصبح معسكرا قويا يؤيده التكاتف على المصالح المشتركة العائدة لخلاص وصيانة ذويه والقريبين منه، فضلا عما يتأتى عنها من الإرشاد والمساعدة للبعيدين. وبما أن هذا الرابوع يكرز برب واحد وإله واحد ومعمودية واحدة، فكانت أيضا رغائبه مشتركة وكذلك مقاصده المقدسة والشريفة التي بها يرشد إلى الخلاص، ويعمل على البنيان وبكل غيرة حافظ على ثوب الوحدة والاتفاق في الرأي الذي نسجته يد علوية وعملت على صيانته من كل خرق. فالمجد لله الكلي الصلاح ورئيس السلام، فإنه بمسرته المقدسة وبنعمته تمكن رباط المحبة القوي من أن يبعد النفرة التي دخلت حيث لم يكن لها محل، وأعاد ثانية القريبين والأنسباء إلى قرابتهم ونسبتهم السابقة التي ولدتها الفطرة والدعوة المشتركة، كما شهد بذلك التاريخ القديم والتقليد على ممر الدهور، فكان ذلك كله لتعزيتنا المشتركة وخلاصنا وفرحنا، فعسى أن لا تعود البتة النفرة والانقسام اللذين لا محل لهما وقد تولد لنا عنهما حزن عظيم جدا.
فعليه ونحن بملء الفرح على إعادة العلائق الحبيبة نتقدم بالحبور والشوق بناء على قرار مجمعي، ونبادر لمجاوبتكم الجواب اللازم على التحرير الأخوي الذي من مدة أرسلته إلينا غبطتكم الجليلة، وبه بحسب العادة الجليلة والحسنة أخبرتنا عن انتدابها وارتقائها السعيد إلى كرسي مدينة الله، ونصافحكم مصافحة أخوية بابتهاج القلب ونهنئكم من صميم الفؤاد على انتخابكم، وبنوع خصوصي نظره فرحنا؛ إذ نرى في شخص غبطتكم الوقور رئيس كهنة هذيذة بالإلهيات دوما يحافظ على عقائد حسن العبادة بكل دقة، ويسوس الرعية بغيرة وحنكة، وقد اضطرمت في فواده الغيرة على رعاية الرعية التقية المؤتمن عليها وقيادتها إلى ما يرضيه تعالى. كنا نرى فيكم أيضا أخا كلي الكرامة يحتسب من أقداس، وأحلى اهتماماته الغيرة في سبيل المحافظة على الربط الحبية الشريفة بيننا التي منها تتأتى الفوائد والبنيان والخلاص لكل منا على حدة ولمجموعنا سوية.
وإذ نلتمس أخويا العون العلوي لغبطتكم والتأييد في رغائبكم ومقاصدكم المخلصة والمرضية لله، نؤكد لكم أننا لا نفتر عن رفع أكف الضراعة بحرارة لدى مؤسس الكنيسة ومدبرها السماوي من أجلكم، ومن أجل رعيتكم التقية، وبكل شوق وبعين الاعتبار نقبل دائما كل ما تكاتبنا به أخوتكم وتعلنه لنا. وبكل نشاط نقدم لكم مساعدتنا الأخوية في كل ما تحتاجون إليه وتطلبونه منا في سبيل الخير.
وعليه نكرر مصافحتنا القلبية لغبطتكم الجليلة بقبلة أخوية، ونقدم تحياتنا الأخوية من أجل جميع رؤساء كهنة الكرسي الكلي طهرهم، الذين أخذنا رسالتهم المشتركة من مدة، أيضا بعين الاعتبار والإكرام ولا نزال بملء المحبة الأخوية. أخوكم المشتاق والمحب لكم بالمسيح يواكيم بطريرك القسطنطينية.
القسطنطينية في 14 آب سنة 1909
وفي الخامس والعشرين من أيلول من هذه السنة نفسها كتب دميانوس بطريرك أوروشليم شاكرا المخلص الذي رفع سياج التباعد، وأعاد ربط المحبة والسلام موافيا من صهيون المقدسة مصافحا في المسيح مبتهجا لانتداب غريغوريوس، مصليا أمام القبر الأقدس والجلجلة الرهيبة، متوسلا عضد البطريرك الأنطاكي وتقويته.
8
وانتهز فوطيوس بابا وبطريرك الإسكندرية حلول عيد الميلاد فتوج رده على رسالة الجلوس الأنطاكية بالعبارة: «السلام بالمسيح الإله المولود اليوم»، فحل الصمت الطويل وتقدم بالأسطر الأخوية فور خروجه من الهيكل الشريف ليتمتع بالبهجة والفرح المشتهى من زمن مديد، ويشترك معيدا مع بطريرك أنطاكية والكنيسة الأنطاكية المقدسة لخلاص الجنس.
9
وكتب ثيوكليتوس متروبوليت أثينا ورئيس مجمع كنيسة اليونان المقدس في الوقت نفسه ماثلا أمام غبطة البطريرك الأنطاكي بالروح بنفس وقلب واحد مبتهجين مصافحا بقبلة قديسة وأخوية بالرب، مبتهلا من أجل حسن ثبات ومحبة الكنيسة الرسولية الشقيقة كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى التي قبل غيرها تشرفت بقلب المسيحية العزيز.
10
زخريا يمين البطريرك
ولمس غريغوريوس مواهب شماسه زخريا زخريا في الإدارة والسياسة، وتثبت من إخلاصه وتعلقه بشخصه، فجعل باكورة أعماله البطريركية ترقية هذا الشماس المخلص الأمين إلى درجة القسوسية. فأقام في الخامس عشر من آب سنة 1906؛ أي بعد تنصيبه بيومين، قداسا حبريا لمناسبة عيد انتقال السيدة والدة الإله عاونه فيه كل من أرسانيوس متروبوليت اللاذقية وجراسيموس متروبوليت بيروت، وفي أثنائه سام زخريا قسا.
وبعد نهاية القداس ألقى زخريا في الدار البطريركية كلمة وجيزة استهلها بقول الحكيم: «تفاح من ذهب في إناء مفضض الكلمة المقولة في حينها.» وأردف قائلا: وتعداد ما لغبطتكم علي من الأيادي البيضاء هو الكلمة المقولة في حينها، فيمينكم رفعتني من الحضيض في أوائل نيسان سنة 1882، ويمينكم التي وضعتموها في 14 أيلول سنة 1900 على هامتي في ديركم العامر دير سيدة البلمند جعلتني أخطو خطوتي الأولى في سلك الرهبنة، ويمينكم هي التي رفعتني إلى أولى درجات سلك الكهنوت وذلك في 28 تشرين الأول سنة 1901. ويمينكم تجعلني اليوم باكورة عملها المقدس فترفعني إلى الدرجة الثانية، فتنازلوا لقبول هذه الكلمة المقولة في حينها.
11
شغور الكراسي
وفقدت أبرشية صور وصيدا راعيها ميصائيل في السابع من تموز سنة 1906 في حاصبيا إثر أمراض نزلت على جسمه اللطيف فأنهكته، وكانت هذه الأسقام مصحوبة بصنوف الآلام والأوجاع، فكان يقابلها برحابة صدر وثبات جنان ملقيا اتكاله على رحمة المولى.
وفي الحادي عشر من شباط سنة 1907 أفضى إلى ربه سلفسترس (زرعوني) متروبوليت ديار بكر وقد رماه التيفوئيد فأقصده. وتوفي وهو فرح لا ينطق بغير الكلمات: اقبل يا رب أتعابي كفارة عن خطاياي الكثيرة! وكان قد سلك مسلك الراعي الصالح فبذل نفسه عن الخراف ورضي بما لم يرض به غيره، فإن أبرشيته كانت تمتاز بفقرها فلا تؤدي إلى راعيها أكثر من عشر ليرات ذهبية في السنة، وكان سلفسترس ينفق هذا الإيراد في سبيل الخير، ويزيد عليه مما يتناوله من البطريرك الأنطاكي للقيام بنفقاته الخصوصية. وفي السنة 1902 قام بجولة رعائية فأنفق خمسا وثلاثين ليرة مقابل عائدات تناولها من أبنائه الروحيين بلغت شوالا من حب الفصوليا وكيسا من الكشك. وعلى الرغم من هذا كله فإنه أنشأ مدرستين، وباشر عمار كنيسة القديس جاورجيوس، وحافظ على ترتيب الكهنة، ونظم الكنيسة والناموس، وعاش عيشة القناعة والزهد والصبر محييا لياليه بالعبادة.
12
وكانت أبرشيته أرضروم لا تزال مترملة منذ وفاة قسطنديوس، كما سبق وأشرنا، وكان على غريغوريوس أيضا أن ينظر في أمور روم حوران وأبرشية بصرى التي لم تر راعيا منذ استعفاء يوايكيوس (الحايك) المنتخب مطرانا عليها في السنة 1900.
رائد غريغوريوس وخطته
واتخذ البطريرك الأنطاكي الجديد شعارا له الآية السادسة والعشرين من سفر الأحبار (لاويين) من الفصل العشرين: «وكونا لي قديسين؛ لأني قدوس أنا الرب وقد فرزتكم من الأمم لتكونوا لي.» وكان يردد مرارا الآية الخامسة والعشرين من الإصحاح العاشر من بشارة متى: «وحسب التلميذ أن يكون كمعلمه.»
وقال - طيب الله ثراه: إن القداسة تقتضي إماتة أعضائنا التي على الأرض؛ لنكون نحن أحياء في الجسد كمن لا أجسام لهم، فنخدم بكل أمانة ذاك الذي لا جسم له وهو محبة وقد أظهر محبته لنا «ببذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية»، وأن نتشرف كأبناء النور بكل الصلاح والعدل والحق؛ «ليرى الناس أعمالنا الصالحة، ويمجدوا أبانا الذي في السماوات»، وأن تكون العدالة قائمة في أعمالنا والرحمة والرأفة لا تبرحان من أمام عيوننا، لنقطع ما يلزم قطعه من أسباب الفساد، وننعش ما يلزم إنعاشه من وسائل الإرضاء لله حبا بالله، وأن نتخذ الطرائق المناسبة لنشر حقائق إيماننا بين أبنائنا اعترافا بنعمة الله العظمى علينا.
ولما كان الإكليروس من الشعب وللشعب وكان الاثنان يؤلفان الجسم الذي رأسه يسوع المسيح الحي على الدوام كان اختيار الإكليروس من أفاضل الشعب أمرا ضروريا، وهذا الأمر يتطلب من المتقدمين والوجهاء حسن تربية أبنائهم على ما يلائم هذه الدعوة الشريفة والمنزلة العلية. ولما كان الكهنوت عندنا لا يورث وبابه مفتوح لكل ذي ميل؛ كان لنا أن ننتظر من أبنائنا ذوي الكفاءة واللياقة الإقبال عليه والسعي في سبيله لنيل ما يترتب عليه من رضا الله تعالى وخلاص النفوس وطيب الأحدوثة وتخليد الذكر.
وقال رحمه الله: وليعلم الشعب المبارك والإكليروس الموقر أن حياتنا الدينية بهذه الأيام الأخيرة هي بنت سنين لا تزيد عن العشرة فيها عرفت الرعية صوت راعيها وفهمت لغته، فنحن نسير في سبيل الواجب للملة كابن عشر سنين فلا نقصر عن إبراز الخطوات بين صفوف المواطنين السائرين في طريق الحياة على نغم نشيد السلام، ويشهد لنا بذلك قلة مشاكلنا مع مواطنينا سواء كانوا من المسيحيين أو من الملل الأخرى، كما تشهد أيضا رغبتنا المستمرة في اقتلاع أشواك الخلاف، وفي غرس أصول المودة والائتلاف.
ونبذل الجهد في ترقية الشئون العلمية والأدبية بالمساعدة التي تمر من كفنا سراعا إلى القائمين على المحرث الإلهي لتنعش الأرواح وتنهض الهمم وتقوى العزائم. والأمل وطيد بأن يتسنى لنا ولملتنا المحبوبة من وسائل الفلاح ما يرسم الرسوم البديعة في حياة الملة بألوان زاهية وسلامة ذوق فائقة.
وهو ذا المطابع الأرثوذكسية التي كانت قد ابتدأت في خدمة شئون الملة منذ قرنين ونيف قد توفقنا لإعادتها في دار البطريركية، كما توفق السيد الأخ مطران حمص الكلي الوقار في إنشاء مطبعة وجريدة في حمص من خير الشعب ولأجل خدمته. وقد أقدمنا على طلب امتياز لمجلة الكنيسة الأنطاكية، فصدرت الأوامر السامية بتمكيننا من إصدارها، وقد سميناها «النعمة» لنشر حقائق الإيمان وبث روح المحبة وإحياء ميت الرجاء.
وتلك المدارس الداخلية التي أنشئت في دير سيدة البلمند في أوائل القرن التاسع عشر، وما أنشئ على أثرها من مثل مدرسة سوق الغرب ودير سيدة كفتين على عهديهما الأول والثاني، والمدرسة الإكليريكية في بيروت والمدرسة الإكليريكية المتجددة في دير سيدة البلمند شاهد عدل على سعي الرؤساء ومحبة الملة لبث روح العلم والفضيلة بين أبنائها، وقد أخذ سيادة الأخ مطران بيروت الكلي الوقار يجد في سبيل إنشاء مدرسة عالية للملة حاملة اسم السلام، كما أن سيادة الأخ مطران حمص ينشئ عن قريب مدرسة داخلية في مقر كرسيه المقدس لسد جانب من حاجة الملة. وكل من السادة الأطهار يهتم في دائرته بشئون المدارس وبعضهم بالمياتم والمستشفيات وغيرها من المعالم الخيرية بمعاضدة رجال من الشعب.
وهذا الهلال الظاهر يبشر بأن نجاح الأمة سيكون يوما ما بدرا كاملا، والمساعي المبذولة من جميع الرؤساء إنما هي لأجل حياة الشعب ولتسبيح رأس خلاصنا، فمن اللازم أن يستقبلها الشعب مهللا ويعينها بسخاء.
ومن واجبات الرئيس أن يكون لينا، فمن حيث نودي لبى، وكيفما طلب انعطف، بدون أن يكون له ميل أو صبغة أو شكل مخصوص أو حزب معروف، بل هو للملة جمعاء يمشي مع فقيرها ويحاضر مع غنيها، يدخل في جميع أعمالها، ويخرج منها بلا غرض يصمه ولا تعصب يلوثه. ولئن اقتضت المصلحة احتجابه فهو المحتجب الظاهر والبعيد القريب الذي يلبي الدعوة ويشترك في البلوى ويحسن ترجمة الأفكار والتعبير عن الأحوال، ولا يزال هو البصر الذي يستضيء به الجسم والدليل الذي يؤمن معه البلوغ إلى المراد.
13
مدرسة السلام
وفي منتصف حزيران السنة 1906 حظي جراسيموس متروبوليت بيروت بفرمان سلطاني خوله حق إنشاء مدرسة ملية أرثوذكسية، فترنمت أجراس كنائس بيروت الأرثوذكسية مبشرة بحلول هذه النعمة، وخف جراسيموس إلى سراي الحكومة فأدى مراسيم الشكر ودعا بتأييد العرش العثماني،
14
ثم استدعى إليه في دار القلاية كهنة الطائفة ومجلسها وجمعياتها ووكلاء كنائسها، وطلب إليهم النظر فيما تقتضيه شئون المدرسة، وما يجب إجراؤه للقيام بها وجعلها من المدارس الكبرى، ثم أطلعهم على الخريطة التي أعدها، وحضهم على التعاون معه، وطلب انتخاب لجنة لهذه الغاية، فجرى ذلك علنا. وتم انتخاب خمسة وعشرين وجيها من وجهاء الطائفة للعناية بالمدرسة والنظر في شئونها، وكان بين هؤلاء: يوسف سرسق وبطرس داغر ويعقوب كرم ونجيب طراد وثيودوري جبيلي وجرجي عرمان وسعيد صباغة وإلياس مجدلاني ونخلة حبيب.
15
وقالت «المحبة» لمناسبة تأليف هذه اللجنة إن المدرسة ستكون عثمانية أرثوذكسية تغني عن كثير من المدارس الأجنبية، وتمكن الطالب من الخروج منها مكتفيا بما تلقاه فيها، معتمدا بعد ذلك على دروسه ومطالعاته الخصوصية، ولا بد أن تنمو فتتحول إلى جامعة كبرى علمية وطنية يليق بكل سوري، بل بكل عثماني أن يلجأ إليها.
16
كلية حمص الأرثوذكسية (1910)
وعني أثناسيوس متروبوليت حمص بإنشاء مدرسة أرثوذكسية عالية، فاستدعى في السنة 1907 العالم المربي الأرثوذكسي جرجس همام الشويري واستشاره في أمور التعليم والبناء، ثم بدأ بجمع المال، فأقبل الحمصيون بما عرفوا به من غيرة وسخاء. وفي خريف السنة 1910 فتحت مدرسة حمص العالية أبوابها لقبول الطلاب، وتولى نيابة الرئاسة فيها الخوري عيسى أسعد وأشرف على إدارتها وتعليم الرياضيات العالية فيها جرجس همام الشويري. وكانت كنيسة موسكو قد أهدت كنيسة حمص جرسا كبيرا، فاعترضت بعض الأوساط الحمصية على استعماله فعلق بإرادة سلطانية سنية.
أبرشية ترسيس
ووصل ألكسندروس متروبوليت ترسيس إلى مركز أبرشيته في الخامس من تشرين الثاني سنة 1905، وأظهر كثيرا من التعقل والمرونة. ولكن اليونانيين من أبناء الأبرشية وقفوا إلى جانب جرمانوس متروبوليت الأبرشية السابق الذي اعترض على انتخاب ملاتيوس بطريركا على أنطاكية، وتوفي ملاتيوس في مطلع السنة 1906، فعاد ألكسندروس إلى دمشق وبقي فيها، ورقي السدة البطريركية غريغوريوس وشغر كرسي طرابلس، فانتخب المجمع الأنطاكي المقدس ألكسندروس مطرانا على طرابلس في الحادي والثلاثين من كانون الثاني سنة 1908:
بما أن كرسي أبرشية طرابلس المحروسة من الله قد فرغت بانتخاب سيادة راعيها الجليل السيد غريغوريوس الجزيل الشرف والاحترام، وارتقاء غبطته سدة بطريركية مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق بتاريخ 13 آب 1906، وبقيت هذه الأبرشية بدون راع، فقد اجتمعنا نحن مطارنة الكرسي البطريركي الأنطاكي الموقعين بذيله في مدينة دمشق بأمر وإجازة غبطته في الكنيسة البطريركية الكاتدرائية التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم، وأعطينا أصواتنا القانونية لإيجاد شخص لائق ومستحق وانتخابه ليتقلد زمام أبرشية طرابلس ويرعى رعيتها من الأسماء الثلاثة التي أعطاها لنا غبطته المرشحين من كهنة وشعب عموم الأبرشية الموما إليها، وهم: السيد ألكسندروس مطران كيليكيا سابقا، والسيد رفائيل أسقف بروكلن الكلي طهرهما، وقدس الأرشمندريتي زخريا راجي الجزيل بره. ولدى فتح بطاقات الانتخاب التي قدمها كل منا بيده بعد إقامة الصلاة المفروضة واستمداد نعمة الروح الكلي قدسه وقع الانتخاب باتفاق الأصوات على السيد ألكسندروس طحان مطران كيليكيا سابقا الجزيل طهره، فسميناه مطرانا قانونيا على أبرشية طرابلس المحفوظة من الله. وإيضاحا لذلك كله سطر هذا العمل المجمعي في هذا السجل البطريركي موقعا عليه بإمضاواتنا وأختامنا بالأصالة والوكالة. تحريرا في اليوم الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وثمان 1908.
وعادت العلائق إلى مجراها الطبيعي بين الكرسي الأنطاكي وبين الكراسي البطريركية الشقيقة، فأبرق الخوري إبراهيم متقدم الكهنة في كنيسة أدنة للبطريرك الأنطاكي مهنئا. وأعرض التهاني أيضا وكيل البطريرك الأنطاكي في أبرشية ترسيس، فأصدر غريغوريوس في خريف السنة 1909 منشورا رعائيا لأبناء أبرشية ترسيس وأدنة وسائر بلاد كيليكياس باليونانية والعربية جوابا للتهاني وإظهارا للسرور بما كان من خواتم السلام، وإشارة إلى أنه سيرسل راعيا للأبرشية يقودها إلى مراعي الخلاص:
لستم غرباء عن أوروشليم لنوضح لكم مجريات الحوادث، لا بل أنتم شهود بعضها، وقد علمتم بما وقع من بعض إخوتنا المطارنة من عدم تسليمهم بالانتخاب البطريركي ومجافاتهم لرئيسهم زاعمين عدم صلاحية الرئيس إن لم يكن من جنس معلوم دون سواه، كأن نعمة المخلص لا تستطيع أن تدخل قلوب أمثالنا، إلا أن كنيسة المسيح العظمى التي يرأسها بطريرك تكلله شيخوخة سعيدة مترو في الأعمال عارف بالقوانين، ويدبرها مجمع مقدس ضم شتات المعارف في صدور أعضائه، وجمع حكمة الحكماء في رءوس رجاله قد أفعمت المحبة المسيحية قلوب هؤلاء الأفاضل كما أفعمت قلوب إخوانهم الأحباء غبطة بطريرك المدينة المقدسة ومجمعه المقدس ، فأطرحوا بالمحبة الخوف وتجاوزوا العقبات وبينوا أنهم موقنون بسيادة المخلص على الجميع وسفكه دمه الكريم لأجلهم، فإنما الكل في المسكونة عبيد له وأعضاء لجسده المقدس مرتبطون بهذا الرأس الحي على الدوام.
17
وأرسل الوكيل البطريركي في ترسيس الخوري نقولا خشي بيانا بعدد بيوت الملة مجموعة ومفصلة في أبرشية ترسيس، وعدد الكهنة والمدارس والكنائس، فبلغ عدد العيال الأرثوذكسية 1650 بينها 345 عائلة يونانية و930 تركية و375 سورية. وبلغ عدد الكهنة في هذه الأبرشية 11 وعدد المدارس 5 وعدد الكنائس 13.
18
زخريا متروبوليت بصرى
وكانت أبرشية بصرى حوران لا تزال خالية من راع قانوني منذ استعفاء راعيها المنتخب يوانيكيوس (حايك) في السنة 1900، فانتقى المجمع المقدس الأرشمندريت زخريا راجي زخريا مطرانا على هذه الأبرشية في الثالث والعشرين من حزيران سنة 1908:
إنه بناء على خلو أبرشية بصرى حوران وتوابعها من راع قانوني بسبب استعفاء الأرشيمندريتي يوانيكيوس الحائك الجزيل بره المنتخب مطرانا عليها بتاريخ 21 آذار سنة 1900، فقد اجتمعنا نحن مطارنة الكرسي البطريركي الأنطاكي الموقعين بذيله في مدينة دمشق، بأمر وبإجازة غبطة السيد الجليل والراعي النبيل كيريوس كيريوس غريغوريوس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الجزيل الطوبى والاحترام في الكنيسة البطريركية الكاتدرائية التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم. وأعطينا أصواتنا القانونية لإيجاد وانتخاب شخص من الثلاثة الأشخاص المرشحين؛ وهم: قدس الأرشيمندريتي كير زخريا راجي، وقدس الأرشيمندريتي كير أغناطيوس أبو الروس، وقدس القس أثناسيوس مطر الكلي برهم، وبعد إقامة الصلاة المفروضة واستمداد نعمة الروح الكلي قدسه فتحنا بطاقات الانتخاب التي أرسلها لغبطته سائر السادة المطارنة الغائبين في أبرشياتهم وقع الانتخاب بأكثرية الآراء على قدس الأرشيمندريتي زخريا راجي الكلي بره، فسمي مطرانا قانونيا على أبرشية بصرى حوران وتوابعها المحفوظة من الله، وإيضاحا لذلك كله سطر هذا العمل المجمعي في هذا السجل البطريركي موقعا عليه بإمضاواتنا وأختامنا بالأصالة والنيابة.
قاضي الشرع وطلاق النصارى
وكان محمد طاهر أفندي نائب قضاء جسر شغور قد نظر في دعوى طلاق قائمة بين جرجس أندراوس من أهالي جسر شغور وبين زوجته ذيبة بنت فارس نقولا فرح من أهالي أريحا، فحكم بالطلاق وأصدر إعلاما شرعيا بذلك مؤرخا في 14 جمادى الآخرة سنة 1326 ممهورا بختمه مسجلا لديه تحت نومرو الضبط 42، صحيفة 144 ونمرو السجل صحيفة 79، وتقاضى خرج إعلام قدره 120 غرشا صاغا.
واستغرب متروبوليت حلب هذا التدخل فأعلم البطريرك به، فاحتج البطريرك بعريضة قدمها إلى ناظر العدلية، وبين فيها مخالفة النائب الشرعي لنص البراءة السلطانية التي بيد البطريرك ونصوص البراءات السابقة، فإنها جميعها تمنع التعرض لعقد النكاح أو فسخه بين شخصين من ملة الروم الأرثوذكس إلا لذوي الاختصاص. فورد في الرابع والعشرين من تشرين الأول سنة 1909 جواب ناظر العدلية موجبا إشعار مأموري الإجراء بعدم تنفيذ قرار هذا القاضي.
19
الدستور العثماني والكنيسة
وشاع في صيف السنة 1909 أنه لمناسبة إعلان الدستور وإنشاء حكومة ديموقراطية شعبية ستلغى حقوق الكنيسة وامتيازاتها التاريخية. وانتشر بريد هذا الخبر في الأنحاء الأرثوذكسية واضطربت به الألسن، فاجتمع المجمع القسطنطيني المقدس والمجلس الملي الدائم المختلط برئاسة البطريرك المسكوني وتشاوروا في الأمر، وارتأوا الاتصال المباشر بالصدر الأعظم والتحدث إليه في الموضوع. وفي العشرين من أيلول زار البطريرك المسكوني الصدر الأعظم فاستقبل باللطف والترحاب. وتذاكر الكبيران في الامتيازات فلم يظهر تباين جوهري في الرأي، فالصدر أظهر بجلاء أن امتيازات الكنيسة والملة تبقى كما كانت منذ فتح القسطنطينية، وأن حكومته لا تفكر في تعديلها، ولا سيما ما يتعلق منها بمحاكمة المطارنة والكهنة ومسائل الزواج والطلاق والوصيات والمدارس وأملاك الأديرة والكنائس وجميع المنشآت الخيرية. وأكد البطريرك أنه لن يتغاضى عن اللقب «ملت باشي» الذي منحه إياه محمد الفاتح، وأنه يجب أن يبقى له الحق بتمثيل الملة لدى الحكومة الدستورية. فأجاب الصدر أنه على البطريرك أن يعلمه بأقل إنقاص من كرامة الدين والكنيسة والإكليروس، وأنه إذا وقع أي تعد على أي مسيحي فعلى البطريرك والمطارنة أن يعلنوا ذلك للحكومة كتابة أو شفاها.
20
تجنيد النصارى (1909)
وصدر في السابع من آب سنة 1909 تعديل لقانون أخذ العسكر في الدولة العثمانية فجاء في مادتين لا ثالثة لهما، فأوجبت المادة الأولى إلغاء البدلات العسكرية التي كانت تؤخذ من العناصر غير المسلمة اعتبارا من تاريخ صدور التعديل، وقضت المادة الثانية بتمثل الهيئات الروحية المحلية في مجالس «سحب القرعة»، كما أوجبت إعفاء «كل منصوب ومعزول من بطاركة وكاتوغيكوس وحاخام باشي ومتروبوليت وأسقف وأرشمندريت ووارتابيت وباش حاخام ورؤساء الأديرة ورؤساء الرهبنات» من الخدمة العسكرية. واستثنى هذا التعديل أيضا الخوارنة والشمامسة، والذين يعيشون في الأديرة من رهبان وكهنة وطلبة المدارس المذهبية وتلامذة المكاتب العالية، ومعلما واحدا لكل مكتب ابتدائي رسمي في القرى والمعلم الأول والثاني والثالث في المدارس الابتدائية المنتظمة في المدن.
21
وفي الحادي والعشرين من تشرين الأول سنة 1909 استدعى والي ولاية سورية رؤساء الملل غير المسلمة لسماع تلاوة الفرمان السلطاني المؤذن بتجنيد أبناء مللهم للمرة الأولى، فقصد الرؤساء دار الحكومة فقوبلوا بالعطف، ثم نزل الوالي والنائب والمفتي والرؤساء الموما إليهم وبكباشي طابور الميدان وغيرهم من رجال الولاية إلى ساحة السراي، فسلم الوالي بكل إجلال الفرمان العالي لمكتوبجي الولاية فقبله وتلاه. ثم خطب الوالي مبينا أهمية الموضوع ومهنئا الملل غير المسلمة بحصولها على المساواة بالجندية العثمانية، ثم لفظ المفتي الدعاء المعتاد.
ثم قرأ بطريركنا خطابا في موضوع التجنيد وتلاه بطريرك الروم الكاثوليك بخطاب آخر، وختم كلاهما بالأدعية المتوجبة. ثم توجه الجميع إلى دائرة البلدية وابتدءوا بإجراء المعاينة الثانية. ومن أفضل ما جاء في خطاب غريغوريوس قوله: «الحمد لله الذي جمعنا في الإنسانية والوطنية ووحدنا في الجامعة العثمانية.» وقوله: «لقد قبلنا بفرمان مولانا على الرأس والعين، وإن خلا من مخاطبتنا نحن الرؤساء الروحيين فإنه يدعو أبناءنا إلى أحضانه وهذا يرضي الطرفين، وبات للكل يتجارون ولا يتناظرون في خدمة الوطن وينهضون بشأنه وإن لم تنهضوا فمن؟»
22
وقدم البطريرك المسكوني تقريرا مسهبا للصدارة العظمى في موضوع تجنيد المسيحيين فاقترح ما يلي: (1) منع تغيير المذهب في أثناء التجنيد وطوال مدة ابتعاد الشباب عن أحضان الوالدين. (2) تعيين كهنة أتقياء للجنود المسيحيين يعنون بإرشادهم إلى الفضيلة والتقوى، ويقومون بإتمام احتياجاتهم الدينية. (3) تخصيص محل ملائم للصلاة في أوقات معينة أسوة بالجنود المسلمين. (4) السماح للجنود المسيحيين بممارسة جميع فروضهم المذهبية. (5) تأليف فرق مسيحية صغيرة . (6) إدخال الشباب المسيحيين إلى المدارس العسكرية ليتضلعوا بفنونها، وليصبحوا أهلا للترقي في رتبها.
23
وفي صيف السنة 1910 تواردت الجنود من الآستانة وإزمير لتعزيز الحملة على جبل الدروز بقيادة سامي باشا، وكان بينهم عدد وافر من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة بعضهم من المشاة وبعضهم من المدافعين، فترددوا في كل أحد على الكنيسة في دمشق . وفي منتصف آب ورد أمر تلغرافي من نظارة الحربية إلى مركز الفيلق الخامس في دمشق يوجب السماح للجنود الأرثوذكسيين بالقيام بالواجبات الدينية لمناسبة عيد انتقال السيدة، وكانت صلاة العيد قد انقضت فأقيم قداس خصوصي يوم ثالث العيد باللغة اليونانية، وتقبل الكاهن اعترافاتهم وتقدموا أزواجا إلى مناولة الأسرار الطاهرة، ثم تناولوا طعام الغداء على مائدة البطريرك.
المجمع الأنطاكي المقدس (1910)
وفي الثاني والعشرين من حزيران سنة 1910 وفي الساعة التاسعة قبل الظهر أم الكاتدرائية المريمية كل من البطريرك والمطارنة أثناسيوس وغريغوريوس (حماة) وأرسانيوس وبولس وجراسيموس وباسيليوس واسطفانوس وألكسندروس وجرمانوس وملاتيوس (أميذس - ديار بكر) وزخريا وإيليا (صور وصيدا).
فبدأ غبطته
تبارك الله، والمجد لك يا إلهنا، وأيها الملك السماوي، والأرشدياكون (ميخائيل شحادة) قدوس الله وما يتلوها، والإعلان من غبطته ثم طروبارية العنصرة التي أعادها خورص اليمين بعد الذوكصا وقنداق العنصرة بعد الكانين من خورص الشمال. ثم قال غبطته: ارحمنا يا الله ثلاث طلبات والرابعة؛ لكي يرسل الرب الإله نعمة روحه القدوس على هيئة المجمع المقدس لتنيرها وترشدها وتهدي إلى ما يرضي الرب؛ لأنها ملتجئة إلى عظم غنى رحمته. ثم الإعلان: لأنك إله رحيم، والختم الصغير المختص بالعنصرة، وبصلوات آبائنا القديسين. ثم حضر البطريرك إلى أمام الإنجيل الطاهر الموضوع على قراية في الوسط فسجد وقبله ثم سجد ثانية ورجع إلى محله فوقف، فتقدم السادة كل بدوره فعل مثل ذلك ووقف في محله حتى انتهى الكل، وتدرعوا بإشارة الصليب وجلسوا.
وافتتح البطريرك الجلسة مرحبا، وأشار إلى أنها المرة الأولى في تلك الآونة التي فيها اجتمع اثنا عشر مطرانا والبطريرك في دمشق. ثم قال بعد البسملة: كما يضم الأخ إخوته الغائبين كذلك أضمكم إلى قلب يتحرك بحبكم يا رؤساء كهنة العلي ومطارنة الكرسي الأنطاكي المقدس. تبارك الله الذي جمعنا في هذه المرة الثانية إلى هذا المجمع الأنطاكي المقدس وجميعنا بالصحة والعافية؛ لكي نمجد بصوت متفق الروح القدس الذي نعمته اليوم جمعتنا وقدرته تقوينا للعمل المرضي لله في شعبه المبارك. ثم ذكر ما كان في غيابهم من غبطته من الأشغال واحدة فواحدة، وأنه سيقدم لهم أوراق كل مسألة على حدة، ولفت النظر إلى ترتيب برنامج للتعليم على قواعد المذهب الأرثوذكسي، وإلى ترجمة كتابي «أصول المحاكمات الكنائسية وتطبيقها»، وإلى مسألة الوصية والأحكام الكنائسية، وأن تكون مرعية، وإلى التعامل القديم الذي جرت عليه الكنائس في مصالح أبنائها، وإلى مسألة الأراضي التي تطلب محلوليتها لمجرد كون المقيدة على اسمه لم يترك وارثا، مع أن مجرد القيد لا يجعل تلك الأملاك والأراضي مشتراة بمال المقيدة باسمه، بل هو أمر مشهور ومقرر لدى العموم، وفي المراكز الرسمية أن تلك الأموال أموال الوقف وقد تقيدت تلك الأراضي باسم الوقف أو باسم المتولي، كمتول للوقف. ثم أرادت النظارة فأجرت قيدها على اسم المتولي، ويقال الآن إنه ليس له وارث، وأشار البطريرك أيضا إلى ما كان في أيام الدستور من المشاغل الجديدة، وإلى ما نجم من المشاكل عن عدم فهم معنى الحرية، وخصص بيان ما كان يجري في حلب وزحلة وأرضروم وصور وصيدا، وتكلم أيضا عن تأسيس المطبعة البطريركية ومجلتها «النعمة» وعن المباشرة بطبع الكتب الدينية اللازمة وعن حالة مدرسة البلمند الإكليريكية.
وتوالت الجلسات فكان من نتائجها رفع تقرير مجمعي إلى نظارة العدلية والمذاهب بشأن الوصية، وبشأن الامتيازات التي تمتعت بها ملة الروم، وأن هذه الملة واحدة لا تتجزأ، ونظر المجمع في شكوى الطائفة في حلب ودقق في الإجراءات التي اتخذها اسطفانوس مطران حلب، فثبتت نزاهته واستقامته. ولكن المجمع لمس في الوقت نفسه نفور الشعب من اسطفانوس وعدم استعداده للتعاون معه، وأعرب اسطفانوس عن استعداده للتضحية في سبيل المصلحة العامة، فاستعفى وقبل المجمع استعفاءه، وشكر المجمع لقداسة البطريرك المسكوني اهتمامه في قضية أرضروم وإرساله الشماس جرفاسيوس إكسرخوسا. وكان اليونان من أبناء الملة في أبرشية ترسيس قد تقدموا إلى البطريرك المسكوني بطلب راجين تدخله مع المجمع الأنطاكي لتعيين أسقف يجيد اللغة اليونانية، فتقرر إرسال إيليا متروبوليت صور وصيدا إلى كيليكياس لدرس الحالة ورفع تقرير عنها.
واقترح متروبوليت طرابلس نقل مدرسة البلمند إلى دمشق لتكون تحت أنظار البطريرك ، فاقترح متروبوليت بيروت نقلها إلى دير مار إلياس بيروت وجعلها تحت رعاية متروبوليت بيروت ومتروبوليت جبيل والبترون، وأن تبقى كما كانت مدرسة إكليريكية بطريركية.
الخطبة والزواج
واعتبر المجمع المقدس الخطبة اتفاقا ببركة كنائسية بين ذكر وأنثى مسيحيين حرين كفئين يلتزمان به بالاقتران الناموسي المقدس. وبين قدم عهدها وشرفها وسن لها قوانين معينة، ثم نظر المجمع في مشاكل الزواج التي نشأت عن الهجرة عبر البحار فاشترع ما يلي: (1)
إذا كان الرجل والامرأة مقترنين عن اتفاق بينهما فقط ولم يكن بينهما مانع كنائسي وحضرا إلى بلادنا وهما متفقان ينصح لهما لأخذ بركة الإكليل المقدس وتعطى لهما بحسب الرسوم. وإن كانا غير متفقين فينصح لهما أن يتفقا ويقتبلا بركة الإكليل، فإن رفضا بعد النصيحة اقتبال بركة الإكليل سواء كان في الحالة الأولى أو الثانية فالكنيسة لا تعتبر قرانهما شرعيا ولا أولادهما شرعيين، وترفض كل دعوى زوجية وكل دعوى ومعاملة إرثية لهما. (2)
إذا كان الرجل والامرأة مرتبطين مدنيا فقط ولا مانع كنائسي بينهما سواء كانا متفقين أو مختلفين فينصح لهما بقبول بركة الإكليل، فإذا لم يقبلا لا تأذن الكنيسة إذ ذاك لهما أو لأحدهما بزواج آخر. (3)
إذا كان الرجل والامرأة مرتبطين مدنيا ونائلين بركة الإكليل من كاهن غير أرثوذكسي ولا مانع كنائسي بينهما فالكنيسة تجري معهما بحسب القوانين الكنيسة المرعية في هذا الباب.
وبحث المجمع أثر الهجرة في الصلة بين الزوج والزوجة فأوجب ما يلي: إذا سافر الرجل تاركا امرأة لها منه أولادا أو بدون أولاد ولم يعد ينفق عليها، فإذا تقدمت الشكوى فللرئيس الروحي أن يخابر الرجل رأسا أو بواسطة الرئاسة الروحية هناك أو غيرها لجلب نفقة للامرأة، أو أن تعطى الامرأة إعلام نفقة تنفذ بواسطة الحكومة المحلية هناك، وإلا فتعمل واسطة لتسفيرها إلى حيث يقيم رجلها. أما إذا تركها وحدها أو مع أولادها وتزوج بغيرها، فبعد تقديم الشكوى للرئاسة الروحية يحكم بصحة عقد الزواج الصائر هنا، ويعرف عنه إما للرئاسة الروحية أو للحكومة المحلية هناك لأجل إبعاد الامرأة الأجنبية عنه وتحصيل النفقة منه لزوجته الشرعية، أما الزوجة فإذا سافرت برضا رجلها أو بدون رضاه وامتنعت عن الحضور وأثبتت عليها الخيانة الزوجية تنفسخ إذ ذاك عنه.
24
البطريرك وحوران (1911)
وكانت أبرشية بصرى وتوابعها لا تزال مترملة منذ أن استقال أغابيوس (صليبا) من وكالته عليها، فخصها غريغوريوس بعنايته وسام زخريا مطرانا عليها ومده بالمال للعمل فيها، وشملت أبرشية بصرى وتوابعها حين تسلم رعايتها زخريا جميع متصرفية حوران بأقضيتها الخمسة: السمية والسويدا وبصرى وأذرع وعجلون، وبلغ عدد الدروز فيها 16500 والمسلمين 5300 والأرثوذكسيين 3500 والروم الكاثوليك 214 والبروتستانت 161.
25
وفي تموز السنة 1911 نهض البطريرك غريغوريوس بنفسه إلى حوران في جولة رعائية يصحبه كل من البرنس بوريس شاخوفسكي قنصل روسية في دمشق وترجمانه يوسف السبع، والمؤرخ الكنسي الشهير باولو كاروليذي والمؤرخ اللبناني عيسى إسكندر المعلوف وأرشدياكون الكرسي الأنطاكي ميخائيل شحادة. ووصل البطريرك وصحبه إلى محطة أذرع فركبوا الخيل وقاموا إلى القرية يتقدمهم مطران حوران والكهنة والجنود وجموع غفيرة من فرسان ومشاة. وسار البطريرك توا إلى دير القديس جاورجيوس وصلى وبارك. وفي صباح الأحد أقام قداسا حافلا في الدير ودشن المائدة المقدسة التي جددت بعنايته وعناية القنصل والمطران. وخطب في الكنيسة فأشار إلى قدمها وكيف تقلبت بها الأيام «وأخنت عليها الليالي حتى أنقذها الإله بعناية القيصر الذي نظر إلى من أقصى الشمال بعين النسر.» ودعا للإمبراطور وللمحسنين، ثم استقدم إليه يوسف السبع، فشكر له سعيه بتجديد الدين وإعلاء شأن الدير وألبسه الوسام الذي منحته إياه الدولة اليونانية ومنحه لقب لوغوثيتي الكرسي الأنطاكي بصلاة وترتيب خاصين، وزار البطريرك قرية الدنيبة فشمسكين فغباغب ثم عاد إلى دمشق.
26
إصلاح ومصالحة
ثم عاد البطريرك إلى الطواف فزار عرنة ومجدل شمس والقرى المجاورة، فأصلح بين الأحزاب وأعاد إلى حظيرة الكنيسة الذين تركوها لمناسبة تلك التحزبات، وتكاثرت عليه الوفود من مرجعيون وحاصبيا وراشيا فانتقل إلى مرجعيون، فتألف وفد من أبنائها وقصدوا مطرانهم السيد إيليا الذي كان قابعا في زحلة فعادوا به إلى أبرشيته. وعرج البطريرك على ميمس فشاهد فيها من آثار الغيرة المسيحية ما أقر عينه وأثلج صدره، فأبناؤها النازحون إلى البرازيل كانوا قد ألفوا جمعية وشيدوا في ميمس كنيسة متينة جميلة وبنوا مدرسة كبيرة، ثم حدث ما ثنى الجمعية عن خطتها، فأشفق البطريرك أن تذهب هذه المكرمة بفواعل الإهمال، فتبرع بمبلغ من المال، وأنفذ إلى الجمعية في سان بولو كتابا يحرك فيه غيرتها إلى الاستمرار على العمل المتلاحق بره المتواصل أجره.
27
راشيا (1911)
وقام غريغوريوس من ميمس إلى الكفير فلم يجتز المسافة إلا في ساعتين ونصف، وهي لا ينبغي لها فوق النصف الساعة؛ وذلك لكثرة المستقبلين من المسيحيين والدروز. ثم بارح الكفير إلى قرى عين عطا وشبعة وعين حرشة، وفي أثناء هذا الطواف أنشأ عدة مدارس وساعد الجمعيات الخيرية وبث شعور النهضة في قلوب أبنائه الطائعين.
وعصاري الإثنين في السابع من تشرين الثاني قدم إلى راشيا، فكان في طليعة الملاقين قائمقام القضاء وشرذمة من الجند فالرؤساء الروحيون بملابسهم الكهنوتية وأعلام الكنيسة. ولما بلغ ظاهر البلدة ورأى علم الصليب المقدس ترجل عن جواده وسار بين الجمع حتى بلغ كنيسة السيدة حيث أدى الفروض الدينية ثم شكر المولى وبارك، وزار دار الحكومة والمدارس الروسية وحض التلامذة على الاجتهاد ونشط المعلمين على الخدمة.
البطريرك في زحلة
وفي الثاني والعشرين من تشرين الثاني غادر البطريرك قرية عين عرب ووجهته زحلة، وكان ينتظره عند جسر دير زيتون موكب حافل من الزحليين، فترجل وارتاح ثم ركب عربة معدة له واستأنف السير يتبعه نحو أربعين عربة ويتقدمه جمهور غفير من الفرسان والشبان يقومون على ظهور الجياد بألعاب تدهش الأنظار. وكان ينتظره في محطة سعد نايل قائمقام زحلة وهيئة حكومة القضاء وجرمانوس مطران زحلة، فاستقبل الجميع بوجه وضاح ونظر بعين أب حنون يرى أبناءه بعد طول البعد. ثم جلس جرمانوس إلى جانبه وسار ياوران لبنانيان أمام عربته وثالث وراءها ومن اليمين واليسار فارسان قد أشهر كل منهما سيفه بيمناه. وجرت وراء موكب غبطته عربة القائمقام فعربة زخريا متروبوليت حوران فبقية العربات. وعندما بلغت الجموع مدينة زحلة استبشرت وازدادت حماسا وهتافا وغطى الحشد الطرقات والباحات والسطوح، ودخل البطريرك كنيسة القديس نيقولاووس فصلى وبارك ودعا. ثم استقبل الوفود في دار المطرانية وفي طليعتهم القائمقام وهيئة الحكومة والبلدية والمطران كيرلس مغبغب والمطران بولس مراد ونائب البطريرك الماروني والقس مفيد عبد الكريم. وأولم متروبوليت الأبرشية وليمة دعا إليها وجهاء القوم فاختتمها غبطته بكلمة عبر بها عن موقف الطائفة من سائر الطوائف، فجاءت رائعة فتانة:
إنني أحب أبناء وطني من جميع المذاهب على السواء، ولا فرق بينهم عندي، ألست وإياهم أبناء أب واحد وأم واحدة؟! أولسنا جميعا صنعة خالق واحد؟! أولسنا نسكن أرضا واحدة، ونستنير بضوء شمس واحدة، ونستظل بسماء واحدة، وترف فوقنا راية واحدة هي راية الوطن العزيز؟! أولسنا نحن والمسلمون توحدنا جامعة الانتساب إلى أرض واحدة ووطن واحد؟! أولسنا معا نعبد إلها واحدا غير متجزئ.
لقد انتعش قلبي حينما نشقت نسيم لبنان، وانشرح خاطري عندما رأيت اللبنانيين الذين أنا واحد منهم، وقد افتخرت بلبنانيتي في تلغراف بعثت به إلى دولة المتصرف أشكره فيه على أوامره بشأني لسعادة القائمقام.
28
بيروت
وأوفدت بيروت نخبة من وجهائها برئاسة متروبوليتها جراسيموس إلى زحلة لتحية البطريرك ودعوته لزيارة الثغر، فباركهم ورحب بهم. وكان هناك بانتظارهم أساقفة زحلة والمعلقة وحكام القضائين، فتبودلت الخطب وشرب الجميع نخب الوفد البيروتي، وبارك البطريرك مودعيه في الحادي والعشرين من كانون الأول وركب القطار الخصوصي الذي أنفذه يوسف سرسق ليقل غبطته إلى بيروت. وبارك البطريرك في جديتا والمريجات وبحمدون وعالية وعاريا. وفي بعبدا أخذت سلام غبطته فرقة من الجند اللبناني واستقبله في محطتها كبار مأموري الحكومة، ولما بلغ القطار محطة الحدث استقبله تلامذة المدرسة الروسية بأناشيد رقيقة وأنغام فاتنة.
واحتشد في محطة بيروت جمهور من المرحبين لا يحصره العد جمعهم إليها علمهم بأقدار الرجال، ومشت عربات جمعيات الملة الأرثوذكسية فعربات السريان الكاثوليك، فالأرمن الكاثوليك فالموارنة فالروم الكاثوليك، فمجلس الملة الأرثوذكسية، فكوكبة من الفرسان فعربة نظمي بك قومندان الجندرمة في بيروت ومدير البوليس فعربة غبطة البطريرك فعربات السادة المطارنة، وتلتها سلسلة من العربات بلغت نحو المائتين والخمسين.
وقصد البطريرك الكنيسة الكاتدرائية فصلى وبارك ودعا. ورحب جراسيموس بغبطته ودعا للسلطان بالنصر وشكر المتصرف والوالي وقنصلي روسية واليونان، فرد البطريرك بخطاب بليغ حكيم.
واحتفل البطريرك بعيد الميلاد في الكاتدرائية، وفي اليوم التالي في كنيسة القديس نيقولاووس، فتقاطر المؤمنون من جميع أنحاء بيروت لحضور الصلاة، واستمر غبطته ساعة كاملة يوزع الخبز المقدس على الحضور. ورد البطريرك الزيارة للوالي فأخذت سلامه ثلة من الجند، وزار المتصرف وقومندان الموقع وبطريرك السريان الكاثوليك والقاصد الرسولي، وآسى المرضى العسكريين في المستشفى العسكري (قصر العدلية) وأهداهم خزانة نفيسة الصنع، وخص الجامعة الأميريكية (الكلية السورية الإنجيلية) بزيارة بعد ظهر الثلاثاء في 6 كانون الثاني 1912. وما كاد موكبه الموقر يدخل في باب المنتدى الكبير حتى نهض الجميع إجلالا واحتراما وقابلوه بالتصفيق الحاد المتواصل. وبعد أن رقي وحاشيته المنبر وجلسوا على الكراسي رحب الدكتور هوارد بلس الرئيس بالبطريرك والمطارنة والآباء، ثم انتدب الأستاذ جبر ضومط أن ينوب عنه وعن العمدة بالإفصاح بما يقتضيه الواجب، فقال أستاذنا رحمة الله عليه مما قاله:
لقد أمرني حضرة الرئيس أن أقول: إن غبطتكم فوق كل نعوت التعظيم والتبجيل؛ لأن أقل ما يقال في مرتبتكم السامية إنكم في كنيسة الله الأنطاكية السامية أبو الآباء وراعي الرعاة، وملايين أبناء الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة يفتخرون أنهم من أبنائكم ويدعون الله كما تدعوه الآن أن يطيل لنا في أيامكم ويملي الوطن العثماني بكم، آمين ثم آمين.
وعلى أثر ذلك وقف الرئيس بلس وطلب إلى البطريرك أن يخاطب الطلبة، فتبوأ البطريرك الأنطاكي المنبر. وكم اعتز هذا المنبر بمن تبوأ من الخطباء والعلماء ورجال الفضل على اختلاف أجناسهم ومراتبهم، ولكنه في هذه المرة بلغ أوج اعتزازه بأن تبوأه أسقف المدينة التي دعي فيها المؤمنون مسيحيين أولا خليفة الرسولين بطرس وبولس ووريث الشهيد أغناطيوس المتوشح بالله وأفستاثيوس العظيم وملاتيوس الشريف. وارتجل أسقف مدينة الله أنطاكية العظمى خطبة غراء كان لها أجمل وقع في النفوس. وكان كاتب هذه الأسطر الحقير بين المؤمنين أحد طلاب كلية الآداب في الجامعة، فأسعده الحظ بسماع ما فاه به هذا الأب الأقدس :
قصدت زيارتكم في هذا المعهد العلمي العظيم، وكنت أشاهد في طريقي ما كتبه أحد رجال الفضل على جدران الشوارع: «إلى العلم إلى العلم»، فقلت: ما أجمل الذهاب إلى بيت العلم! وقفت الآن لأفرح معكم بهذا المعهد الذي تتجلى فيه مواهبكم، وفيه يظهر ذكاؤكم الفطري، والعلم ينبوع، وكما أن الينبوع لا يميز بين الأيدي الممدودة إليه، بل يتدفق عليها جميعا، هكذا العلم لا يميز بين طالبيه، بل يجري على كل طالب يمد إليه يدا مفتوحة. والعلم نور والنور من بركات الخالق يشق على الجميع على السواء، ولكن لا يراه إلا الذي يفتح عينيه ويعودهما على استقبال النور.
بين الحدث وبعبدا
وقصد البطريرك مركز أبرشية جبيل والبترون فقام إلى قرية الحدث ودخل الكاتدرائية اللبنانية وصلى وبارك. وزار متصرف لبنان آنئذ يوسف باشا فحيته مفرزة من الجند وخف لاستقباله عند باب سراي بعبدا كبار الموظفين. وجالس الباشا، ثم دعا البطريرك المتصرف إلى الغداء في قلاية الحدث، فاشترك في تناول الغداء مع المتصرف الأمير فايق شهاب ونسيب بك جنبلاط وحليم بك محاسبجي المتصرفية والأمير ألاي ملحم بك خوري وسعد الله بك الحويك نائب رئاسة مجلس الإدارة، وجرجس بك صفا رئيس دائرة الجزا وسليم أفندي باز وكيل المدعي العام وإلياس أفندي الشويري وجرجس أفندي تامر عضوا الروم في مجلس الإدارة وغيرهم. وقال المتصرف: «إنني لأول مرة قابلت بها غبطتكم بدمشق شعرت بعاطفة مخصوصة نحوكم، ورأيت بنفسي شغفا بمبادئكم. ثم إنني أشاهدكم الآن بمسقط رأسكم لبنان بين فريق من مواطنيكم يقدرونكم معي حق قدركم فتمكنت بي تلك العاطفة بما تجلى من صفاتكم الطيبة. وبناء عليه فإني أشرب على ذكركم متمنيا لكم إقبالا مستمرا ولبنيكم سعادة كاملة بكم.»
وتناول غبطته الكأس وشرب نخب المتصرف وأطلق لقريحته العنان فاستهل بالبيت:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن شحوا علي كرام
وأخذ يتدفق كالسيل واصفا لبنان وأهله وصفا بديعا، وتطرق إلى وصف حكامه فخص دولة المتصرف بالذكر، مبينا الثمرات التي جناها اللبنانيون من عدله في عهده.
منشور المحبة (1912)
وأطل الصوم الكبير فأصدر البطريرك عن مركز مطرانية بيروت في الثالث من آذار سنة 1912 منشورا رعائيا يذكر بسر الفدا، ويحض على المحبة المسيحية ووجوب الصوم؛ استعدادا للاشتراك في جسد الرب ودمه:
برحمة الله تعالى غريغوريوس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق: بملء المحبة الأخوية نعتنق بالروح الإخوة الأحباء السادة مطارين كرسينا الأنطاكي المقدس، ونهدي البركة الرسولية والأدعية الفوادية إلى أبنائنا الأحباء مصف الإكليروس الموقر الجزيل البر والورع، والذوات الأفاضل والعلماء الأماثل والشيوخ المكرمين والتجار والصناع والفلاحين ولفيف الشعب الأرثوذكسي التابع لكرسينا البطريركي الرسولي، المقيم في مواطنه والمتغرب في الجهات الأخرى، سائلين للجميع حياة نقية سعيدة بمخافة الله ومزينة بعمل الصالحات واكتساح حلل الصحة والسلامة، فتفيض قلوبهم بالسرور وتنطق ألسنتهم بالحبور بألحان التسابيح والتماجيد، مبينين بجودة تصرفاتهم الدالة على خصوبة الثمر الروحي في حقول حياتهم المباركة انقيادهم بقوى النفوس والجسد إلى إتمام الوصية الصادرة من فم الرسول بولس الإلهي لهنائهم وكرامتهم: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة مرضية.» ا.ف 5: 2.
المحبة أيها الإخوة الأعزاء والأبناء المحبوبون هي الرباط الذي يربط السماء والأرض منذ البدء، فقد «خلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى، خلقهم وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض.» فما أعظم هذه المحبة التي جعلت الإنسان سيدا للمبروءات المنظورة!
هذه المحبة العظيمة التي فاقت كل حد قد بدت بعدئذ بمظهر أعظم جدا كان لها مظهر الخلق رمزا؛ وذلك أن الإنسان حينما سقط في هوة الخطيئة بالمعصية فاضت النعمة الفائقة كل عقل على قياس تلك الزلة الفائقة كل حد؛ لأنه «حيث كثرت الخطيئة هناك طفحت النعمة.» فجاء أولا الوعد الإلهي أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، ومفاد هذا الوعد الشريف أنه سيولد بالجسد ابن الله الوحيد الذي بمحبته للبشر على الأرض ظهر وبين الناس تصرف لكي يعيد الجبلة البشرية إلى طهارتها الأولى ويسقط عنها حكومة الموت. وقد تم هذا الوعد العظيم بولادة المخلص ربنا يسوع المسيح من العذراء الطاهرة مريم ابنة يواكيم المتحدر من سلالة داود، فهذه المحبة هي التي أوصانا الرسول بولس أن نتخذها لنا مسلكا لا نحيد عنه بقوله: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة مرضية.»
إن ما يوصينا الرسول به طي كلمة المحبة الوجيزة هو ما تضيق الصحف عن استيعابه لاحتوائه كل طهارة في قول وعمل ونية، فهو يستغرق في مضمونه كل تقوى وعفة ونزاهة وسيرة نقية، فنزرع بالبركات لنحصد بالبركات في هذا الدهر الخاص ونرث الملكوت السماوي الذي أعده لمختاريه. فماذا يا ترى نستطيع أن نخرجه من هذا الكنز المملوء بالنفائس التي لا غنى عنها وهو فوق ما يتسع الوقت لبيانه، إننا نكتفي بالقليل القريب التناول، ولا نقول الممتاز بثمنه؛ لأن محتويات هذا الكنز كلها لا تقدر.
المحبة التي وجه الرسول إليها مسلكنا هي التي ذكرها في رسائله مرارا عديدة كقوله: «المحبة تبني»؛ أي إنها تنشر كلمة الخلاص في العالم وتزيد المؤمنين نموا في الصلاح، فإن التصرف بوداعة الحكمة الذي أمرنا نحن المسيحيين أن نجعله قاعدة لأعمالنا الزمنية يولينا كرامة في عيون شركائنا في الوطنية والتابعية واللسان والمصالح المعاشية، فيبتني اعتبارنا على أساس راسخ ويزيدنا رسوخا في إيماننا القويم، ونموا في العمل المرضي لله الذي به نحيا ونتحرك ونوجد.
وكقوله أيضا: «المحبة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء.» أي إن المحبة تستدعينا إلى الروية فيما يعرض لنا من الأفكار والأقوال والأعمال فلا نسارع إلى أفكار السوء «فإن فكر الحماقة خطيئة، ولا إلى الأقوال الملومة فإن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين؛ لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تدان»، ولا إلى أعمال السوء؛ لأنه تعالى «يجازي كل أحد نظير أعماله.» فهذا هو التأني الذي توجبه علينا المحبة وتجعله موصولا «بالكمال في كل فكر»، فتبرز أقوالنا خالية من كل شائبة كما أوصانا الرسول بطرس قائلا: «إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله.» وتقع أعمالنا على مقتضى الطهارة حسب تعليم الرسول بولس بقوله: «وكل ما عملتم بقول أو فعل فاعملوا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله والآب به.» فبالسير على مقتضى ذلك كله تتوثق الثقة بينكم أنتم بعضا لبعض وبينكم وبين الآخرين الذين تربطكم معهم الروابط العديدة، فلا يكون أثر للمماحكات الكلامية والمباحثات الغبية التي يحصل عنها الحسد الذي هو نخر للعظام. وبانتفاء تلك الأسباب يرى كل واحد نفسه وضيعا فيقول مع النبي داود: «أنا دودة ولست إنسانا عار للبشر ورذالة للشعب.» فلا يتفاخر بآبائه أو بجاهه ولا ينتفح بغناه ولا بعمله، ولا يقبح رغبة في التميز والانفراد بالسؤدد أو بصفاء الحياة، ولا يطلب ما لنفسه، بل يعمل بحسب الوصية القائلة: «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو للآخرين أيضا.» وباتخاذه هذا المنهاج سبيلا لحياته يقدم نفسه في كل شيء قدوة للأعمال الحسنة متنقيا من الفجور والشهوات العالمية، وعائشا بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر. وهكذا يظهر التصاقه بالمحبة التي هي رباط الكمال وانصرافه بقوى نفسه وجسده إلى إتمام الوصية القائلة: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائجة مرضية.»
إن البشرى بالنعمة تستوجب الفرح، وأما نيل النعمة التي أتت بها البشرى فيطفح بها الفرح كله. فأية بشرى أعظم من أن المسيح أحبنا حتى أخذ صورة عبد صائرا في شبه الناس! وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت؛ موت الصليب . وأي نعمة تنال أعظم من أنه «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.» فاقتبل فادينا لأجلنا قربانا وتمت بصلبه تقدمة الذبيحة لله، فصعد إلى السماء وأجلس بشرتنا في الميامن العلوية؛ لأنه «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة»، فكثرت لنا النعمة والسلام بمقتضى علم الله الآب السابق في تقديس الروح ورش دم يسوع المسيح، فلنفرح إذن أكمل فرح؛ لأن البشرى السارة بالخلاص قد حصلت، وها نحن نعيد تذكارها قائلين مع الرسول: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة مرضية!»
ونحن نعلم أن السيد المسيح أعطى القربان للمؤمنين حياة جديدة للنفس والجسد قائلا: «هذا هو الخبز الذي نزل من السماء، من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد.» فمن هذا يتضح أن من لم يتقدم إلى تناول جسد الرب الإله ودمه الثمينين فلا يأخذ القربان، ولا تكون له حياة في ذاته.
وقد حرم نفسه بنفسه من الاشتراك بالذبيحة لله التي هي رائحة مرضية، فليس هو بالحقيقة معيدا، ولا منضما بالروح إلى بنيان الكنيسة، وهذا ما لا نريده لأحد منكم، فلذلك نوصي من تأخر إلى هذه الساعة التي هي الحادية عشرة أن يسارع إلى اغتنام النعمة الفائقة كل حد بعظمة محبة الله المبذولة لكل من يؤمن لترتفع عنه الدينونة الرهيبة، فليتقدم إلى الاشتراك بالقربان الحقيقي؛ لأنه هو ذا وقت مقبول وأوان خلاص. وحينئذ يكون استقبال الفصح حقيقيا حينئذ يكون الهتاف حيا بالترنيمة الإلهية: «المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور.» حينئذ يكون هذا الهتاف بالفرح العظيم صاعدا من أعماق الضمائر دلالة على اذدخار النفوس الغبطة الصادقة، ويكون «ذبيحة تسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه» تعالى، فيعطي للمتدربين بحسبها ثمر بر للسلام مع الجميع في القداسة التي بدونها لن يرى أحد الله.
أعاد الله عليكم هذا العيد السعيد والفصح المقدس المجيد أعواما كثيرة العدد وافرة الرغد زاهرة بأثواب الصحة والعافية وحلل الكرامة الضافية، وأنتم تحت راية الدولة العلية الأبدية القرار في حرز حريز من الخطوب والأضرار والأكدار، وألسنتكم كقلوبكم تدعو لها بدوام التأييد والسطوة والاقتدار وخفوق الأعلام في أعالي ذروات المجد والانتصار، وبأن تطول حياة جلالة المتبوع الأعظم والخاقان الأفخم السلطان ابن السلطان؛ السلطان محمد رشاد خان والأمجاد تخدم أعلامه الخافقة والسعادات تفيض على ممالكه الواسعة، وسيرتكم الرضية الهنية مثال لحسن الطاعة والإخلاص في التابعية. أخوكم بالمسيح والداعي لبنوتكم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق غريغوريوس في 3 آذار سنة 1912 في بيروت.
طرابلس
وفي الثالث عشر من آذار سنة 1912 أعلن غريغوريوس عزمه على مبارحة بيروت إلى طرابلس، فتقاطر المدعوون وفيهم والي بيروت ومتصرف لبنان والرؤساء الروحيون ورجال الحكومة والوجوه والأعيان، وركب المركب الروسي البرنسيس أوجيني فرفع ربانه العلم العثماني إكراما للبطريرك، وأقلع المركب فوصل طرابلس صباح اليوم التالي، وخف لاستقباله على ظهر الباخرة متصرف طرابلس ومتروبوليتها ألكسندروس ومتروبوليت عكار باسيليوس ومطران الروم الكاثوليك يوسف الدوماني، وركب الجميع إلى البر. ولدى وصولهم إلى الشاطئ صفقت الجموع وهتفت بحياة البطريرك، ثم ركب البطريرك والمتصرف عربة واحدة، وسار الجميع في قطار من العربات حتى بلغوا باحة السراي، فاستقبله هناك الكهنة بالحلل الكهنوتية والصليب، فبارك الشعب وسار في طريق رفعت فيها أقواس النصر وزينت بالأزهار والأعلام العثمانية إلى أن بلغ الكاتدرائية، فصلى وبارك ودعا، وألقى خطبته:
هو الأب الذي يتنقل بين أبنائه يودعه ابن ويستقبله آخر، وسعيد هذا الوطن بهذه الألفة وهذا الاتحاد، وسعيدة طرابلس بمتصرف أظهر أنه ليس حاكما ولا سيدا، بل ابنا للوطن وأخا محبا وعضوا من هذا اللواء يفرح لفرحه ويسر لسروره.
انضمام مطران السيران في حمص (1912)
وبينما كانت بيروت تفرح بأبي الآباء وراعي الرعاة ثالث عشر الرسل الأطهار كانت حمص تبتهج بقبول كيريوس بطرس أسقف صدد ورعيته في حضن الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة. ففي الرابع من آذار سنة 1912 اجتمع الشعب الأرثوذكسي في حمص بأسره في كنيسة الأربعين الكاتدرائية، وبعد ترتيل باصابنوي تحول أثناسيوس متروبوليت حمص عن الكاتدرا إلى الباب الملوكي، فلبس البطرشيل والأموفوريون ومشى إلى باب الكنيسة الغربي لقبول بطرس أسقف صدد على اليعاقبة مصحوبا بكاهنين. فاتسم بطرس بالصليب المقدس وبات ينتظر دنو المتروبوليت، وكان مصف المرتلين يترنم بطروبارية الأربعين.
ولما انتهت الطروبارية سأل أثناسيوس بطرس قائلا: هل تريد أن تتحد مع الكنيسة الأرثوذكسية رافضا غير الصحيح من معتقدات المذهب اليعقوبي؟ فأجاب بطرس بورع: نعم إني أريد ذلك. فباركه أثناسيوس قائلا: باسم الآب والابن الروح القدس الإله الواحد، آمين. ثم وضع يده على رأس بطرس وقرأ الأفشين التالي:
أيها الرب إله الحق انظر إلى عبدك الأسقف الآتي ليلتجئ إلى كنيستك المقدسة الأرثوذكسية ويكون محفوظا تحت كنفها، رده من تيهه الأول إلى الإيمان الحقيقي بك، امنحه نعمة ليسير في سبيل وصاياك، لتكن ألحاظك ناظرة إليه برحمتك على الدوام وأذناك منصتتين لسماع صوت تضرعه. وهكذا فليصر معدودا من رعيتك المختارة؛ لأن كل قوات السموات تسبحك وتمجدك أيها الآب والابن والروح القدس إلى دهر الداهرين، آمين.
وكان الشماس في ذلك الحين يقدم طلبة «من الرب نطلب» ومصف المرنمين يؤمن على طلباته قائلا: يا رب ارحم! وبعد الأفشين ونجاز الطلبة وجه أثناسيوس إلى بطرس الكلام التالي: أترفض تعليم أوطيخة وثيودوروس وديوسقورس وسائر المعتقدين اعتقادهم؟ فأجاب بطرس: نعم إني أرفض ذلك. فسأل أثناسيوس: أترفض التعليم الفاسد الذي يقال فيه إن يسوع المسيح ربنا ليس فيه إلا طبيعة واحدة فقط؟ فأجاب بطرس: نعم إني أرفض ذلك. فسأل أثناسيوس: هل تريد إذن أن تتحد بالكنيسة الشرقية المقدسة الأرثوذكسية الجامعة؟ وهل تتعهد أن تكون لها من أهل الطاعة؟ فأجاب بطرس: أريد وأتعهد بذلك من صميم قلبي. فسأل أثناسيوس: هل تؤمن بالإله الواحد الممجد في ثالوث؟ وكيف تؤمن؟ وهل تسجد له؟ فأجاب بطرس: «أؤمن بإله واحد ممجد في ثالوث الآب والابن والروح القدس وأسجد له.» ثم عمل مطانية ساجدا إلى الحضيض وقرأ دستور الإيمان هكذا:
دستور إيمان الأسقف بطرس: باسم الآب والابن والروح القدس، أنا الحقير بطرس برحمة الله أسقف صدد وتوابعها أرجو الكنيسة المقدسة الجامعة الأرثوذكسية محبة الله أن تقبلني في حظيرتها كأحد أولادها المؤمنين.
نحن (أي هو والشعب المنقاد لصوته) نقبل بتعليمها الجامع ونعد الكنيسة الأرثوذكسية بالطاعة القانونية، وأننا نترك نشوزنا السابق ونقصي كل هرطقة ولا سيما هرطقة أوطيخة؛ لأنه كان يعلم تعليما كاذبا بقوله: «إن المسيح إلهنا له طبيعة واحدة.» وأما نحن فنؤمن ونعترف ونقر هكذا:
إن ربنا المولود من الآب قبل الدهور بحسب اللاهوت والمولود في آخر الأزمان من البتول القديسة مريم بحسب الناسوت هو واحد بعينه بطبيعتين ووجه واحد وأقنوم واحد، مسيح واحد وابن واحد ورب واحد وإله وإنسان واحد، وأيضا نقول:
إننا نؤمن ونعترف ونقر أنه مساو للآب في الجوهر بحسب اللاهوت، وهو نفسه مساو لنا في الجوهر بحسب الناسوت، وهو واحد من الثالوث الأقدس الإله الكلمة الذي اتخذ من البتول القديسة مريم طبيعة بشرية، أعني نفسا ناطقة عاقلة وجسدا وصفات بشرية وفعلا بشريا ومشيئة بشرية، ولما جعل متحدا الإله الكلمة في أقنومه الطبيعة البشرية الكاملة مع الطبيعة الإلهية الكاملة صار إنسانا ولم يزل إلها؛ إذ لم يبطل خواص الطبيعتين بالاتحاد ولم يضعف، بل كل واحدة من الطبيعتين حفظت خواصها؛ ولهذا فإن في المسيح يسوع ربنا طبيعتين صفتين فعلين ومشيئتين مستقرتين فيه بغير امتزاج ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال؛ ولهذا فالأقوال عن المسيح ربنا المكتوبة في الإنجيل ورسائل الرسل لا يجعل اللاهوتيون بينها تمييزا، فإن الكنيسة تعلن بحق أن المسيح هو الإله الكامل نفسه، والإنسان الكامل نفسه حافظا خواص كل من الطبيعتين سالمة، ونحن نؤمن ونعترف أن إلهنا يسوع المسيح الكائن إلها بالطبع والصائر إنسانا بحسب الطبيعة هو الابن الوحيد المثنى في الطبيعة وليس بالأقنوم.
وأما عن السيدة مريم القديسة الدائمة البتولية فنحن نعترف أنها والدة الإله؛ لأنها ولدت بالحقيقة المسيح إلهنا.
ونقبل أيضا بتلك المجامع المسكونية المقدسة التي لم تكن قبلا مفروضة عندنا، وأسماؤها هذه: المجمع الرابع الخلقيدوني المنعقد على عهد مركيانوس الذي رفض تعليم أوطيخة ومن قال قوله بطبيعة واحدة في المسيح ربنا بعد الاتحاد، المجمع الخامس وهو ذاته المجمع القسطنطيني الثاني المنعقد على عهد يوستنيانوس، والذي أفرز ثيودوروس وتعليمه، المجمع السادس وهو ذاته المجمع القسطنطيني الثالث المنعقد على عهد قسطنطين (الرابع) الذي علم أن في المسيح إلهنا طبيعتين وفعلين ومشيئتين، إلا أن هاتين المشيئتين غير مخالفة إحداهما الأخرى، بل إن مشيئته الناسوتية لم تكن تخالف مشيئته الإلهية، بل بالأحرى كانت متفقة معها وخاضعة لها ، المجمع السابع وهو ذاته المجمع النيقاوي الثاني المنعقد على عهد قسطنطين وإيريني الذي علم باستقامة السجود للأيقونات؛ أي للصور المقدسة سجودا إكراميا، وأفرز أولئك الذين كانوا يجدفون على الكنيسة المقدسة بقولهم عنها إنها تسجد للأيقونات على مثال الوثنيين الذين يعبدون أصنامهم. ولكننا نحن أبناء الكنيسة نسجد لها لا سجود عبادة كما يجب على المخلوق أن يسجد لخالقه، بل سجود إكرام فقط كما نسجد لصليب المسيح وللإنجيل، ونقبل أيضا قوانين المجامع السبعة المسكونية وقوانين المجامع المكانية ناظرين إليها نظرنا إلى مثال حسن الترتيب في كنائس الله المقدسة.
ونتعهد بأن نشترك فقط مع أولئك الذين تشترك معهم الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة، وكل الذين تعتبرهم خارجين عن الاشتراك نعتبرهم نحن أيضا خارجين عن هذا الاشتراك. ونحن قد شرحنا في رسالتنا جل ما هو محرر هنا، أما الآن فإني أشهد بهذا بشفتي أيضا أمام هذا المذبح المقدس وأمامكم، ونؤمن أن رئيس الرعاة العظيم ربنا يسوع المسيح يبارك عملنا هذا، له المجد مع الآب والروح القدس إلى دهر الداهرين، آمين.
وبعد تلاوة هذا الصك دفعه بطرس ممضيا بخط يده إلى أثناسيوس ليحفظ في الأوراق الكنائسية إلى ما شاء الله. فأخذ أثناسيوس الصك وقال: «تبارك الله الذي ينير كل إنسان وارد إلى العالم!» ثم وجه الأسئلة التالية إلى بطرس: هل تعتبر كل المجامع المسكونية السبعة؟ وهل تقبل بالعقائد والقوانين التي حددتها هذه المجامع؟ فأجاب بطرس: نعم أعتبرها وأعتقد بها. فسأل أثناسيوس: هل تعد أنك تكرم الأيقونات المقدسة المقبولة في الكنيسة الأرثوذكسية بحسب اعتقاد هذه الكنيسة معيدا الإكرام المقدم لها إلى الصورة الأصلية المرسومة فيها؟ فأجاب بطرس: إني أعد أن أكرمها كما توصي بذلك الكنيسة الأرثوذكسية . فسأل أثناسيوس: هل تقبل بالقوانين الرسولية وسائر القوانين التي تحددت في المجامع السبعة المسكونية والتسعة المكانية وباقي التقاليد والترتيبات التي في الكنيسة الأرثوذكسية؟ فأجاب بطرس: نعم إني أقبل بها.
حينئذ أعطى المتروبوليت أثناسيوس الأسقف بطرس طرف الأموفوريون وقال له بصوت مهيب: ادخل إلى الكنيسة الأرثوذكسية وارفض كل ما ترفضه، وأكرم الآب الضابط الكل وابنه يسوع المسيح والروح القدس ثالوثا متساويا في الجوهر وغير منقسم. ثم سارا معا إلى الباب الملوكي وصوت المرتلين مرتفع بالمزمور السادس والستين: «ليترأف الله علينا!» ولما بلغا الباب الملوكي وقفا إزاء طاولة عليها الإنجيل المقدس والصليب الكريم، فجثا الأسقف أمام الطاولة وقبل الإنجيل والصليب وحنى ركبتيه وتلا: ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض، خلص يا رب عبدك المتكل عليك، كن له يا رب عمود قوة تجاه العدو، يا رب استمع صلاتي وليأت إليك صراخي. ثم قال الشماس: «من الرب نطلب»، ومصف المرتلين: «يا رب ارحم!» وكان بطرس قد اعترف عند كاهن قانوني فقرأ أثناسيوس هذه الصلاة:
أيها السيد الإله الضابط الكل الواضع للخطأة طرائق التوبة الهادي الضالين إلى الصراط المستقيم كي لا يهلك أحد منهم، بل ليكون للجميع أن يقبلوا للخلاص، نشكرك لأنك آثرت عبدك الأسقف بطرس بنور معرفة حقك وجعلته أهلا للالتجاء إلى كنيستك المقدسة الأرثوذكسية الجامعة، فأعطه أن يتحد بها بإخلاص وثابت عزم، أحصه مع رعيتك المختارة، اجعله إناء طاهرا ومسكنا لروحك القدوس حتى إذا كان مستنيرا به ومسترشدا يحفظ بدون زيغ وصاياك الخلاصية، ويكون هكذا مستحقا لقبول خيراتك السماوية؛ لأنك أنت إله الرحمة والرأفة والمحبة للبشر والمريد لكل الناس أن يخلصوا، ولك نرسل المجد أيها الآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين، آمين.
ثم قال أثناسيوس: قف حسنا قف بخوف وأيد أمام إنجيل المخلص وصليبه الكريم الميثاق المعطى منك. فنهض بطرس وقال: إني أتعهد متكلا على الله بالمحافظة الثابتة على الإيمان الجامع المستقيم الرأي الذي أعتقد به الآن برضاي كاملا وبدون زيغ حتى آخر نسمة من حياتي، وبإتمام وصاياه برغبة وفرح، وأن أصون قلبي ما استطعت من كل دنس، وتأييدا لتعهدي هذا هو ذا أقبل أقوال مخلصي وصليبه. ثم قبل الإنجيل والصليب. فقال أثناسيوس: تبارك الله الذي يريد الناس كلهم أن يخلصوا وإلى معرفة الحق يقبلوا، هو مبارك إلى الدهور. فجاوب مصف المرتلين: آمين. ثم خطب بطرس قائلا: احن ركبتيك أمام الرب الإله الذي اعترفت به وستأخذ مغفرة خطاياك، فحنى بطرس ركبتيه ورأسه، وقرأ أثناسيوس عليه ما يأتي:
الرب يسوع المسيح إلهنا الذي سلم الرسل مفاتيح ملكوت السماوات وأعطاهم لهم ولخلفائهم بعدهم سلطان ربط الخطايا للناس وحلها، فليغفر لك أيها الأخ الأسقف بطرس بواسطتي أنا رئيس الكهنة الغير المستحق وليحلك من عقال اليمين ومن كل خطاياك، وأنا بالسلطة المعطاة لي منه تعالى أجعلك متحدا بالكنيسة الأرثوذكسية وآتي بك إلى مناولة الأسرار الإلهية الكنائسية، وأباركك باسم الآب والابن والروح القدس، آمين.
ثم بدأ المرتلون «بتون ذيسبوتين» وأخذ السيدان معا كيرونا ودخلا إلى الهيكل، فرش أثناسيوس بطرس بالماء المقدس من الصينية المتضمنة ذخائر الأربعين أصحاب المقام، وبعدئذ تصافحا ولبسا حلل رئاسة الكهنوت وخدما الأسرار الإلهية معا، وكان بطرس يعاون أثناسيوس في بعض الإعلانات. وبعد الاستحالة أشهر الأسقف اعترافه برئاسة البطريرك غريغوريوس الرابع.
وبعد المناولة هنأ أثناسيوس بطرس بخطاب ملؤه الحب والتنشيط، فأجاب بطرس بخطاب طويل أهم ما جاء فيه قوله إن أسباب التباعد بين الكنائس الشرقية لم تكن إيمانية، وإن الوقت حان لاتحاد هذه الفرق تحت لواء الأرثوذكسية، وإنه ما فتئ منذ أن لمس التقوى الحقيقية في نفوس الحجاج الروس يفكر في العودة إلى أحضان الكنيسة الأم، وإن هذا الميل ظل ينمو فيه حتى أسعده الحظ بمعرفة أثناسيوس الذي أضاف إلى استقامة الرأي العمل الصالح.
29
روفائيل مطران حلب (1912)
وشغر كرسي حلب بعد استقالة استفانوس كما سبق وأشرنا، فرشح الحلبيون الأرشمندريت أنطونيوس مبيض من حمص والأرشمندريت باسيليوس صيداوي من دمشق والقس روفائيل نمر من زحلة، وقدموا بذلك مضبطة إلى البطريرك، فكتب راعي الرعاة في السابع عشر من تموز سنة 1912 إلى المطارنة أن ينتخبوا أحد الثلاثة ليسميه مطرانا، وأمهلهم في ذلك خمسة عشر يوما.
وفي السابع والعشرين من أيلول اجتمع في نادي البطريرك في دير سيدة البلمند، وكان غبطته لا يزال مقيما في هذا الدير مدبرا شئون مدرسته الإكليريكية أرسانيوس متروبوليت اللاذقية وألكسندروس متروبوليت طرابلس. وانحدر الحبران بأمر غبطته إلى كنيسة السيدة، ونزل الشماس صفرونيوس (بشارة ) حاملا السجل البطريركي، وبعد الصلاة وضع الحبران بطاقات الانتخاب على المائدة المقدسة ثم نقلاها إلى طاولة في منتصف الخورص، وفتحت البطاقات المختومة فأحرز روفائيل ثمانية أصوات، فسطر ذلك في السجل ووقع السيدان المشرفان، واطلع البطريرك فأعلن انتخاب روفائيل. وفي السادس من تشرين الأول صار الانتداب الأسقفي وتم بحسب الرسوم المتبعة في كنيسة السيدة الكبرى في دير البلمند بواسطة السيدين أرسانيوس اللاذقية وجرمانوس سلفكياس، وتسجل اعتراف المنتخب في السجل البطريركي تحت إمضائه بحضور سيادتهما وشهادتهما عليه، وتمت سيامة روفائيل يوم الأحد في السابع من تشرين الأول برئاسة البطريرك واشتراك السادة أرسانيوس اللاذقية وألكسندروس طرابلس وجرمانوس سلفكياس وحضور ممثلي أبرشية حلب.
30
الدستور وامتيازات النصارى
وعلى أثر إعلان الدستور العثماني أثارت صحافة الآستانة وغيرها قضية امتيازات النصارى موجبة إلغاءها عملا بمبدأ المساواة بين جميع العثمانيين، فهب النواب المسيحيون يسعون للمحافظة على هذه الامتيازات مؤكدين أن الانقلاب السياسي لا يستدعي إلغاءها، وأن مصلحة المملكة تقضي بالمحافظة عليها. وأهم ما جاء في جرائد الآستانة في هذا الموضوع ما نشرته جريدة النيوغولوس اليونانية بقلم صاحبها ورئيس تحريرها ستافروس فوتيراس شيخ الصحفيين في العاصمة، وكان غطاس قندلفت مدير مدرسة البلمند ينقل هذه المقالات إلى العربية وينشرها في جريدة الحوادث الطرابلسية، فلما تمت نشرها على حدة بعنوان: «امتيازات الجماعات المسيحية في المملكة العثمانية»، فجاءت سفرا ممتعا فيه الخبر الشافي عن هذه الامتيازات وكيفية نشوئها، وسدت فراغا في الخزانة المسيحية العربية.
رد على الماديين
ونقل الشماس فوطيوس الخوري في هذه الآونة نفسها من اليونانية إلى العربية كتاب بطرس أرماني في الرد على الدهريين فأسماه: «شموس الحقائق في إثبات الروح والخالق»، «وأثبت فيه بالعلوم العقلية والطبيعية أن في الإنسان روحا أو نفسا ناطقة تدبر الجسد وتستنبط العلوم، وأن للعالم صانعا أزليا ضابط الكل وواضع الشرائع الطبيعية وإله الأرواح والأجسام ومدبر البرايا ومعتن بكل أفرادها وأجزائها.» وكان الدافع لنقل هذا الكتاب إلى العربية إرشاد من ضل السبيل بمغالطة المتفلسفين وتخرصات المارقين عن ظلمات الريب إلى صبح اليقين.
31
الأدلة الغراء
وكان ضاهر خير الله الشويري اللبناني يستظهر على أصدقائه البروتستانتيين الشويريين، وبعضهم من أساتذة جامعة بيروت الأميريكية فيستعين بدليل العقل والنقل ليرد على آرائهم في العقيدة المسيحية، فأخرج في السنة 1912 كتابه «الأدلة الغراء على سمو شأن مريم العذراء»، فنبه إلى ما وقع في ترجمة الكتاب المقدس البروتستانتية من التحريف في مواضع متعددة، وطارد موسهيم وأظهر تحامله، ودافع عن الطقوس مظهرا «تلاعب الدكتور هرافي بورتر في الروايات»، واستشهد بأقوال السيد نفسه ليدحض زعم البروتستانت أن السيد له المجد يستاء من إكرام القديسين، ورد على الدعوى بأن الخلاص إنما هو بالإيمان فقط دون الأعمال، وأجاد في الكلام عن التقليد، وأنه كان معروفا في الكنيسة منذ نشأتها، وأنه ضروري لتفسير النصوص الإلهية.
البطريرك والسلطان (1913)
ورغب آل رومانوف في الاحتفال بمرور ثلاثمائة عام على اعتلائهم عرش روسية، فكتبوا إلى البطريرك يستقدمونه إلى روسية ليرأس الحفلات الدينية لهذه المناسبة، فلبى الدعوة وأصدر في الثامن من شباط سنة 1913 منشورا بطريركيا أفاد به أن واجبات التابعية للدولة العلية أهابت به ليبادر إلى المثول أمام الذات الشاهانية ليظهر شفاها تعلقه وتعلق المطارنة والشعب بأهداب الطاعة، وأنه كان وكانوا وما زالوا جميعا منتمين إلى الدولة العثمانية بملء الافتخار لا تزيدهم الأيام إلا أمانة في الانقياد وإخلاصا في المعاملات وغيرة في الشدائد، وأنه حظي في الخامس من شباط 1913 بالمأذونية العالية مجيزة له إتمام هذه الأمنية، وأنه عزم أن يبرح مقره البطريركي في السادس من شباط قاصدا بيروت ومنها إلى دار السعادة.
32
ولما كانت مهام البطريركية عديدة ومتنوعة عهد بها بطرس بطريركي إلى أرسانيوس متروبوليت اللاذقية بالوكالة عنه في مدة غيابه، وحدد البطريرك هذه المهام في هذا الطرس نفسه، فجاءت هكذا :
أولا:
تشتمل على جميع المراجعات بين البطريركية والحكومية بالشئون الخصوصية التي للبطريركية كانتخاب أعضاء مجلس الإدارة وأحوال التجنيد والنظر في الاعتداءات على الأوقاف. أما ما هو من خصائص القوميسيون الزمني فمعاملاته تتم من هيئته القانونية التي يتولى نيابة الرئاسة فيها ولدنا كير ميخائيل شحادة الجزيل بره بروتوسينجلوس كرسينا البطريركي المقدس في غيابكم ويحضر الجلسة التي تترأسونها. والشئون المستعجلة التي يخابركم بها القوميسيون للبحث بشأنها مع الحكومة تجرونها باتفاق الرأي مع تلك الهيئة الموقرة وما تلزم مطالعتنا فيه ترفعونه إليه، والمحكمة الروحية مستقلة في معاملاتها ونائب رئاستها ولدنا أول الكهنة فيليمون بشارة الجزيل الورع. وما يعرض من شئونها لسيادتكم تحولونه إليها، وأحكامها القانونية تجاز من طرف سيادتكم. وما يلزم إطلاعنا عليه ترفعونه إلينا أيضا.
ثانيا:
تنظرون في أمر الزيجات وترجعون فيما يلتبس أمره إلى المحكمة الروحية لمسئولية أعضائها أبنائنا كهنة الشعب بشأنها.
ثالثا:
الشئون التي ترجع بها الأبرشيات المنضوية إلى كرسينا المقدس إلى منصتنا الرسولية تشملها وكالتكم أيضا، وما كان منها محتمل التأجيل تراجعوننا بشأنه، وما كان الإسراع به واجبا تتصرفون به بملء الحكمة وترفعون إلينا عن كل شيء بيانا بما توقع لنكون على بصيرة بالشئون ونكتب إليكم بما نستحسنه.
هذا ما نكلف أخوتكم أن تعتمدوه في شئون الوكالة عنا بمدة غيابنا نكتب لكم عنه رسميا. وقد ولجنا سيادة الأخ المطران زخريا مطران حوران الجليل بوكالة المدرسة الإكليريكية البلمندية العامرة وبالسيطرة على الأديرة البطريركية الشريفة يتفقدها وينظر في شئونها وحساباتها ويخابرنا بشأنها رأسا، وسيادة الأخ المطران استفانوس الجليل يبقى له اسم النائب ويساعدكم في الشغل الذي ترونه. وكذلك لديكم ولدنا البروتوسينجيلوس كير ميخائيل شحادة للنيابة عنكم في ترؤس جلسات القوميسيون في غيابكم ووجوده معكم في الجلسات بحضوركم، وللاعتماد عليه في أشغال القرى الراجع أمرها لمقرنا البطريركي.
وولدنا الشماس كير فكتور أبو عسلي الجزيل بره يعتمد وكيلا للخرج ولأشغال مصلحة الجند ونحوها من المراجعات في باب الحكومة السنية وللخدمة في الكنيسة شماسا، وولدنا الشماس أندراوس معيقل الجزيل بره للخدمة في المطبعة البطريركية ، وليكون مرتلا في الكنيسة الكاتدرائية، وولدنا وكاتم سرنا أمين أفندي ظاهر خير الله لإدارة وإنشاء مجلة البطريركية الرسمية مجلة النعمة ولحسابها وكل شئونها.
فكونوا كما نعهد بكم في الحكمة والتقوى والروية والهمة والنشاط والاستقامة مثالا للشركاء في الخدمة وقدوة للرعية، والمولى - سبحانه وتعالى - يأخذ بيدكم ويأجركم بأجمل مكافأة ويرينا وجهكم بخير وعافية ، ونعمته الغزيرة فلتكن معنا وفيما بيننا، أخوكم في المسيح بطريرك أنطاكية وسائر المشرق غريغوريوس.
33
وفي فجر السبت تاسع شهر شباط سنة 1913 قام البطريرك والحاشية البطريركية إلى بيروت ومنها إلى ظهر الباخرة توفيقية، فشيعه الرجال الرسميون والوجهاء والإكليروس، وانضم إليه في بيروت ألكسندروس متروبوليت طرابلس ورست السفينة في مياه إزمير فأقبلت من البر سفينة صغيرة تقل وفدا حكوميا رسميا ووفدا مليا أرثوذكسيا، فدعا الوفدان البطريرك لزيارة إزمير، فلبى الدعوة وزار الوالي ثم كنيسة إزمير الكاتدرائية، فاستقبله عند مدخل الكنيسة خريسوستوموس متروبوليت إزمير وكهنته وشعبه، فدخل الكنيسة وصلى وبارك ثم عاد إلى الباخرة.
ثم رست التوفيقية في مرفأ الآستانة فرحب به باسم الحكومة طلعت بك مأمور التشريفات ومهمندار
34
البطريرك الأنطاكي، وحقي بك مميز قلم نظارة العدلية وكمال بك قزح وكيل البطريرك الأنطاكي في «دار السعادة» ووفد سفارة روسية ووكيل البطريرك الأوروشليمي، فسارت العربات إلى بيرا بالاس حيث حل البطريرك ضيفا على الحكومة السنية، وبعد الاستراحة سار البطريرك إلى وزارة العدلية والمذاهب فالصدارة العظمى حيث قابل الصدر الأعظم محمود شوكت باشا، وسار من هنالك إلى دار البطريركية المسكونية فلقيه المطارنة والإكليروس بالحلل الحبراوية وساروا أمامه إلى الكنيسة الكاتدرائية، فعانق فيها قداسة بطريرك المسكونة جرمانوس الخامس وصلى وبارك وعاد إلى بيرا بالاس. وفي السادس عشر من شباط حظي البطريرك بمقابلة السلطان محمد رشاد وبمعيته ألكسندروس متروبوليت طرابلس والحاجة سوسان شقيقة غبطته وكمال بك قزح الوكيل البطريركي، «ففاضت الإحسانات الشاهانية من القريحة السلطانية» بالوسام العثماني المرصع للبطريرك وبالمجيدي الثاني لمتروبوليت طرابلس، وبوسام الشفقة الثاني للحاجة سوسان وبالعثماني الثالث لوكيل البطريرك.
35
البطريرك الأنطاكي في جرائد روسية
ونشرت جرائد روسية خبر قدوم البطريرك الأنطاكي ونقلت برنامج استقباله، وذكرت سيرته الحسنة وورعه وتقواه وفصاحته وجهاده وصموده في وجه التيارات الكاثوليكية والبروتستانتية والماسونية، وأكدت وجوب استقباله في مقر المجمع الروسي المقدس في بطرسبرج بقرع الأجراس والصليب والهيئات الإكليريكية بحلها وبرئاسة أسقف.
36
البطريرك في روسية (1913)
وجاء في رسالة للبطريرك غريغوريوس وجهها إلى البروتوسينجيلوس ميخائيل شحادة في الثالث والعشرين من شباط سنة 1913 أنه وصل إلى مدينة بطرسبرج «على أجنحة الحب التي لا تتعب»، وأنه لاقاه جمع غفير من علية القوم في طليعتهم متروبوليت بطرسبرج ووكيل القيصر في المجمع المقدس، وأنه بعد صلاة الشكر في كنيسة دير إسكندر نفسكي توجه إلى كنيسة قبور القياصرة فقبل الصليب من يده القيصر ووالدته، وأنه بدأ بالتبريك واشترك معه متروبوليت العاصمة ومتروبوليت الصرب ومتروبوليت كيف. وأضاف البطريرك أنه سمع القداس الإلهي في اليوم التالي في كنيسة سيدة كازان الفخيمة، وأنه خرج بعد الظهر لإقامة الدعاء لابسا حلة رئاسة الكهنوت والتاج والعكاز تقدمة القيصر، فاستقبله القيصر والقيصرتان وولي العهد، فافتتح الصلاة وقرأ الإنجيل باللغة العربية.
ثم قابل البطريرك القيصر والقيصريين وولي العهد في القصر الشتوي، «فنطق بمسامع جلالته كلمات لندورة العيد»، وقدم الأيقونة المحفوظة من الجيل الخامس لتكون البركة للبيت القيصري، فقبلها القيصر وأجاب شاكرا، ثم خدم القداس الإلهي في الكاتدرائية وتناول طعام العشاء في القصر الإمبراطوري، «فنال من الفرح ما يرجوه الأرثوذكسي» وربط فؤاده باللطف سفير الدولة العثمانية دولتو طرخان باشا.
37
نكرم بأقنومك سلطان الكنيسة الأعلى
وخاطب أنطونيوس رئيس أساقفة فولين البطريرك الأنطاكي باسم كنيسة روسية فقال: لقد مضى زمن ينيف عن مائتي سنة منذ فقدت كنيستنا راعيها الأعلى، ونحو 250 سنة منذ انقطع حماة الأرثوذكسية المسكونية عن زيارتنا، وها نحن الآن ننظر إليك بتخشع وسرور فنرى فيك بهجات الكنيسة المسيحية بأجملها؛ لأنك بأقنومك الرسولي تترأس أعلى قممها. إننا نكرم بأقنومك سلطان الكنيسة الأعلى بجذل روحي ممتاز، وإن يكن كرسيك خاليا من غناه السابق ومن المجد الخارجي فإنه مملوء من ذلك المجد الذي لا يبلى؛ مجد لهجك بكلمة الخلاص وجهادك عن إيماننا الإلهي بقلب طاهر وعزيمة ماضية وتعرف حكيم. ونحن لا نكرم رئاسة الكهنوت لاتحادها بالغنى والأبهة، وإنما نكرمها لجهادها بإنكار الذات؛ ولهذا نستجلي في شخصك لمعان بطرس رئيس كنيسة أنطاكية الأول، ولمعان القديس الشهير أغناطيوس حامل الإله ومعلمي المسكونة ملاتيوس وأفستاثيوس وغيرهم من منتخبي الله الكثيري العدد الذين زينوا الكنيسة بصفاتهم المتسامية، والشعب الروسي الذي يحترم الجهاد الرسولي الذي تسلسل منذ عهد التلاميذ الأولين إلى الآن في كاتدرائيتك المقدسة يرى فيك حامل هذا المجد الكنائسي؛ مجد اتفاق الأرض مع السماء اتفاق الكنيسة مع المسيح. وهو يرفع صوته إلى الله بالتسابيح؛ لأنه أصبح أهلا أن يشاهد أقنومك الكلي الطوبى. ثم ركع أنطونيوس جاثيا وقال: «وها هو ساجد أمام قدميك يرحب بك وهو جاث ابتهاجا بدخولك إلى دير العاصمة الشمالية المقدس.»
38
مقابلة القيصر
وقابل القيصر ضيفه البطريرك مقابلة الفسالسة البيزنطيين لبطاركة القسطنطينية، فلبس البطريرك المنذية والقيصر بزته الرسمية، ولدى دخول البطريرك نزل القيصر عن عرشه وانحنى أمامه فباركه البطريرك وقبله في كتفه. وأما القيصر فقبل رأس البطريرك أولا ثم يده اليمنى، وبقي الاثنان واقفين. وبعد أن هنأ القيصر البطريرك بسلامة الوصول وسمع جوابه أجلسه على مقعد إلى جانب العرش، ثم صعد إلى عرشه وقال: «سمعت منذ زمان عن عزمك على المجيء إلي وتمنيت كثيرا أن أراك، وإني لعارف برك وتقواك؛ فأرجو منك أن تتوسل إلى الله العلي وتصلي لأجلي.» فقال البطريرك: «إنني رجل خاطئ يا مولاي، ولكن فليعطك الرب مثل قلبك وحسب إيمانك ويتمم كل آمالك ويؤيد عرشك إلى الأبد.» فلما سمع القيصر هذا الجواب المتضمن كلام داود في مزاميره سر وتخشع ونزل عن عرشه وقبل يمين البطريرك مرة ثانية.
اليوبيل
واحتفل في السادس من آذار سنة 1913 باليوبيل الملكي في كاتدرائية سيدة قازان، فارتدى البطريرك الحلة الأسقفية الذهبية التي أهداها إليه القيصر، وجلس البطريرك على منصة وإلى يمينه القيصر وأسرته، وإلى يساره جمهور الإكليروس، فبدأ بصلاة الدعاء باليونانية، ولكنه قرأ الإنجيل بالعربية.
الكنيسة الروسية والكنيسة المنحازة
وانتهز البطريرك فرصة وجوده في روسية لإزالة سوء التفاهم بين الفرقة الروسية المسماة المنحازة وبين الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، ولا سيما وأن الاختلاف بينهما كان في الترتيبات لا في العقائد، فالبركة مثلا تعطى عند الكنيسة المنحازة بأصبعين فقط إشارة إلى أن المسيح إله كامل وإنسان كامل.
ألكسي أسقف تخيفين
وكان المجمع الروسي المقدس قد أقر ترقية الأرشمندريت ألكسي إلى رتبة الأسقفية فطلب إلى البطريرك الأنطاكي أن يتولى السيامة، ففعل وسام ألكسي أسقفا على تيخيفين. وفي السنة 1917 انهار في روسية عالم قديم ليحل مكانه عهد جديد، وكان الأسقف ألكسي قد أصبح أسقفا على أمبورغ، فجعل مساعدا للقائمقام البطريركي في موسكو المتروبوليت سرجيوس ثم وكيل مطرانية نوفوغورود ثم متروبوليتا على لينيغراد في السنة 1933، فخدمها اثني عشر عاما بنشاط رعائي نادر. وحين حاصر النازيون لينينغراد في أثناء الحرب العالمية الثانية حلت بها المصائب والنكبات، فكان السيد ألكسي أبا رحوما وبطلا صنديدا مجازفا بحياته في سبيل الشعب، وتوفي البطريرك سرجيوس في السنة 1945، فانتخب المجمع الروسي المقدس السيد ألكسي متروبوليت لنينغراد خلفا له.
ولا يزال هذا الحبر الجليل الذي يرعى ملايين المؤمنين في روسية ويقودهم في طريق الخلاص يحن إلى كنيسة أنطاكية ويعتبر نفسه أخا لأساقفتها. وكنيسة أنطاكية تغبط بدورها شقيقتها الكبرى كنيسة موسكو على ما يتحلى به حبرها العظيم من حرارة في الإيمان واستقامة في الرأي وسعة في الاطلاع وحكمة في الإدارة. وقد طفحت مدة رئاسته بالجهود الإدارية المثمرة والأخوة الحقة والمساعي الصادقة في سبيل السلام العالمي، أمد الله بعمره سندا للكنيسة في روسية وفي سائر أنحاء المسكونة.
الأوسمة
ومنح القيصر الإمبراطور نقولا الثاني البطريرك الأنطاكي النوط الذهبي المضروب لتذكار اليوبيل. وأهداه أيضا وسام القديس إسكندر نيفسكي من الرتبة الأولى، وهو من أعظم الأوسمة الروسية، وقدم له صليبا مرصعا بالألماس لكي يعلق على مقدمة اللاطية فوق الجبين. ومنح ألكسندروس متروبوليت طرابلس نوط اليوبيل الفضي ووسام القديسة حنة من الرتبة الأولى، وشمل عطفه سائر أفراد الحاشية البطريركية وغيرهم من وجهاء الطائفة في دمشق.
39
العودة
وودع البطريرك صاحبي الجلالة القيصر نقولا الثاني والقيصرة ألكسندرة في السادس عشر من نيسان وبرح بطرسبرج إلى دير اللافرا، فأعجب بنشاط رهبانه ثم زار أنطونيوس في جيتومر وانتقل منها إلى بيسكوف وتساروروس منتهيا إلى نوفوغورود وبقي ألكسندروس متروبوليت طرابلس في بطرسبرج لشئون خصوصية.
دير مار إلياس الشوير
ولدى عودة البطريرك إلى كرسيه استقدم بضعة عشر راهبا روسيا ووكل إليهم إدارة دير مار إلياس الشوير البطريركي، فأعجب نصارى المنطقة بورع هؤلاء الرهبان وزهدهم ووداعتهم ومحبتهم المسيحية الطاهرة ونشاطهم، ولكنهم عادوا فتركوا لبنان في السنة 1915 بسبب الحرب العالمية الأولى.
غريغوريوس والحرب (1914-1918)
وقتل ولي عهد النمسة وقرينته في سيراجيفوا في الثامن والعشرين من حزيران سنة 1914، وبعد شهر أعلنت النمسة الحرب على صربية فجرت وراءها حربا عالمية. وما طلع هلال تشرين الثاني سنة 1914 حتى أعلنت تركية انضمامها إلى الدول المركزية.
وطغى العنصر التركي في عاصمة الدولة العثمانية، واستأثر الثلاثة الكبار بالسلطة ومضوا يسعون بما لديهم من وسائل لصهر العناصر غير التركية ببوتقة تركية جديدة، فطاردوا طلاب اللامركزية من أبناء العرب، ولم يروا في المسيحيين مادة سهلة الاندماج فذبحوا الأرمن وجوعوا اللبنانيين. وطالت الحرب وقلت المواد الغذائية في ألمانية والنمسة فحصر الأتراك هذه المواد في كل مكان، ولا سيما في سهول سورية وصدروها إلى أوروبة الوسطى. وجاء الجراد في ربيع السنة 1915 فأكل الأخضر واليابس، فقلت المواد الغذائية في سورية ولبنان وارتفعت أسعارها، وأصدر جمال باشا أمرا مشددا بوجوب إبعاد المؤن والغلال والحاصلات والعربات والحيوانات وسائر مسببات النقل من الساحل إلى الداخلية خشية نزول العدو في الشواطئ، فأصبح الساحل بلا قوت! وطبع الثلاثة الكبار الملايين من «الورق التركي» وسعروا ليرتهم الورقية بمائة وثمانية غروش وأكرهوا الناس على قبولها، فابتدأت المضاربة بالورق، وسقط سعره فارتفعت الأسعار ارتفاعا فاحشا، وتفشت الأمراض في صفوف العساكر وأشدها هولا حمى التيفوس وانتشرت بين الأهلين. ثم جاء الجدري والهواء الأصفر فماتت العساكر بالعشرات وتركت جثثها في الأحراش والوديان، وهجر اللبنانيون تلالهم إلى البقاع والداخلية بالألوف فماتوا فيها.
وقرع اللبنانيون باب البطريركية في دمشق فرقت لهم كبد البطريرك ولان لهم فؤاده وحنت عليهم أضلاعه، وكان رحب الصدر بسيط الكف سخي النفس يخف للمعروف ويهتز للعطاء، فتسخى وتندى وابتذل ماله بالإنفاق، ولم يفرق في عطائه بين مسلم أو درزي أو نصراني، فنفد ماله فاستدان، وما فتئ يأخذ دينا ويفيح عطاء حتى بلغ ما اقترضه من المال لهذه الغاية النبيلة عشرين ألف ذهبية أو أكثر!
ولم ير جمال باشا وأعوانه أكرم من غريغوريوس أخلاقا ولا أنبل فطرة ولا أطيب عنصرا ولا أخلص جوهرا، فاحترموه وسهلوا أموره، وبادلهم الإخلاص والاحترام، ولكنه لم يبذل لهم قياده، ولم يكن لهم مطواعا لا يخالف لهم أمرا ولا نهيا. فإنه لما طغى حسن حسني رئيس شعبة أخذ العسكر في بيروت وتجبر وقاومه في ذلك جراسيموس متروبوليتها، وطلب الوالي عزمي بك عزل جراسيموس؛ أبى البطريرك وامتنع ونبذ الأمر وراء ظهره!
فيصل الأول (1920)
وقضي الأمر في طول كرم في التاسع عشر من أيلول سنة 1918، فأخلى الأتراك والألمان فلسطين الشمالية واعتزموا الدفاع عن دمشق وما يليها في جبهة تمتد من سمخ حتى شاطئ طبرية الجنوبي الشرقي فالحولة، ثم فوجئوا باحتلال سمخ في الرابع والعشرين من أيلول فأجلوا عن طبرية وعقدوا النية على الصمود وراء خط دفاعي يمتد من عين صوفر حتى الزبداني، مارا بقب إلياس وشتورا وتعنايل وعنجر، وفوضوا مصطفى كامل باشا بذلك. ولكن طائرات الإنكليز حلقت فوق رياق في التاسع والعشرين من أيلول سنة 1918، فأمطرت قنابلها على مستودعات الذخائر فلم تبق منها ولم تذر. وتباطأ الإنكليز في احتلال دمشق وما يليها من الشمال ليفسحوا المجال لفيصل وركبه. ودخلت دمشق في حوزتهم في الثاني من تشرين الأول، فأوعزوا بالإبراق إلى بلدية بيروت لرفع «علم الشريف» فوق السرايا، مؤملين بذلك كله مجابهة الإفرنسيين بالأمر الواقع أو محاولين الخروج من مأزق كانوا قد نسجوا خيوطه بأيديهم عندما تصنعوا للعرب في المودة وتملقوا الإفرنسيين قاطعين وعودا للطرفين متعارضة متعاكسة أو غامضة تحتمل أكثر من تفسير واحد.
وقامت حكومة إفرنسية في الساحل وحكومة عربية في الداخل، وذهب الخلاف بينهما كل مذهب، وتعارضت أهواء السكان وتشعبت آراؤهم، ولا سيما وأن ولسن كان قد أعلن حق الشعوب في تقرير مصيرها ونبذ الاستعمار وطرقه وأساليبه، واستبدل ساسة الغرب الاستعمار بالانتداب وقالوا بحق تقرير المصير، واقترح ولسن إرسال لجنة تقف على رغائب السوريين واللبنانيين، فجاءت لجنة كنغ-كراين الأميريكية في صيف السنة 1919 وجابت البلاد طولا وعرضا، فأجمع السوريون على الاستقلال ولم يرضوا عن انتداب فرنسة ، وجهر البطريرك بتأييد السوريين فيما ذهبوا إليه ووافقه في ذلك معظم أبناء طائفته، فدخل في عراك مع الإفرنسيين دام طويلا! ثم دعا فيصل الوجهاء والأعيان إلى مؤتمر في دمشق في ربيع السنة 1920، فنادوا باستقلال سورية بحدودها الطبيعية وبايعوا فيصلا ملكا عليها، فكان البطريرك في طليعة المبايعين. ثم جاءت معركة ميسلون في الثاني والعشرين من تموز سنة 1920 واضطر فيصل أن يبرح دمشق، فلم يعبأ البطريرك بما انطوى عليه نصر ميسلون، وكان كريم العهد ثابت العقد فحفظ لفيصل عهده وأبر بيمينه فخرج لوداعه في أحرج الأوقات، ولعله انفرد بهذا الوداع فتميز به.
المجمع المقدس وأميريكة (1921-1923)
وكان ما كان من أمر الثورة في روسية، فرأى المجمع الأنطاكي المقدس أن يقيم في الأميريكيتين الشمالية والجنوبية رئيسين روحيين يرعيان نفوس المهاجرين الأرثوذكسيين في تلك الأصقاع النائية، فانتخب في أول تشرين الأول من سنة 1921 ميخائيل شحادة أسقفا على ريو دي جنيرو وسائر البرازيل، وانتخب في السابع من كانون الأول سنة 1923 فيكتور يعقوب مطرانا على أبرشية نيويورك.
ثيودوسيوس متروبوليت صيدا وصور (1923)
وسافر إيليا (ديب) متروبوليت صور وصيدا إلى أميريكة الجنوبية في السنة 1911 واستقر في تشيلي، فاجتمع المجمع الأنطاكي المقدس في دير مار إلياس الشوير وعالج شغور الكرسي في صور وصيدا، ونظر في أمر المرشحين الثلاثة؛ الأرشمندريت ثيودوسيوس أبو رجيلي والأرشمندريت بنيامين حداد والأرشمندريت يوسف أبي طبر، فانتخب الأرشمندريت ثيودوسيوس (أبو رجيلي) مطرانا عل هذه الأبرشية، وصارت سيامته من يد البطريرك غريغوريوس في كنيسة الدير المذكور في الثلاثين من كانون الأول سنة 1923.
أبصر ثيودوسيوس النور في مدينة بيروت في السنة 1889 من والدين كريمين تقيين: سليم أبو رجيلي ولبيبة بدران، وتلقى علومه الابتدائية في مدرستي الثلاثة الأقمار والفرير. وحين بلغ سن اليفع شعر بميل شديد إلى الحياة الرهبانية، فانتقل إلى دمشق وعاش في الدار البطريركية في كنف المثلث الرحمات البطريرك ملاتيوس الثاني وتابع دروسه في الآسية، وأنس البطريرك من تلميذه ميلا إلى الزهد والترهب فأرسله إلى مدرسة دير البلمند، «فكان فيها رصينا هادئا وقورا لا يمشي بسرعة، ولا يتكلم بصوت مرتفع، ولا يشارك الطلبة في اللعب، ولا يتسلى بالمزاح، وكان على نحول جسمه وشحوب وجهه ينام على فراش من القش بعد أن أزاح بيده فراشه القطني الناعم، فنال احترام الطلبة والأساتذة.»
40
وأنهى دروسه في السنة 1950 فسامه غريغوريوس الرابع شماسا إنجيليا. وفي السنة 1908 أرسله البطريرك إلى ديار بكر لمساعدة متروبوليتها سلفستروس (درعوني)، فسافر إليها بدون تذمر على الرغم من بعدها وشظف العيش فيها. وبعد وفاة راعيها بقي وكيلا عليها حتى انتخاب ملاتيوس (قطيني) سنة 1912 خلفا لسلفسترس. وعاد إلى دمشق يجيد التركية التي أتقنها وهو في ديار بكر، فأرسله البطريرك غريغوريوس إلى مدرسة الجنس في القسطنطينية، فنال شهادتها ثم انتقل إلى كلية خالكي اللاهوتية، فقضى في هذه أربع سنوات أجاد في أثنائها اليونانية والعلوم اللاهوتية. وفي السنة 1915 سيم قسا فأرشمندريتا، ثم عاد إلى دمشق واضعا مواهبه النادرة ومقدرته في اللغات العربية واليونانية والتركية وإلمامه بالإنكليزية والسريانية تحت تصرف البطريرك غريغوريوس بصفة كاتم سر خصوصي لغبطته وممثلا لدى السلطات.
ورعى السيد ثيودوسيوس أبرشية صور وصيدا بأمانة وطهر وإخلاص خمسا وعشرين سنة. وفي السنة 1948 خضع لقرار المجمع المقدس الذي اتخذ بالإجماع وقبل بعد رجاء وإلحاح شديدين نقله إلى أبرشية طرابلس، فكان فيها مثالا للراعي الصالح الأمين المنقطع إلى عبادة ربه وخدمة الرعية.
وفي السابع عشر من حزيران سنة 1958 انتقل المثلث الرحمات السعيد الذكر البطريك ألكسندروس الثالث إلى دار البقاء فخلا مكانه، فانتخب صاحب الترجمة قائمقاما بطريركيا. وفي الرابع عشر من تشرين الثاني من السنة نفسها انتخب بالإجماع خليفة للرسولين بطرس وبولس وبطريركا على أنطاكية باسم ثيودوسيوس السادس أمد الله بعمره ونفعنا بعلمه ونزاهته وترفعه وبركة دعائه.
نيفون متروبوليت بعلبك وزحلة (1925)
وانتقى البطريرك والمجمع المقدس خلفا لجرمانوس متروبوليت سلفكياس الأرشمندريت نيفون (سابا وكيل مطرانية حماة) وذلك في التاسع من آذار سنة 1925. وسيم نيفون مطرانا على يد البطريرك ويدي باسيليوس متروبوليت عكار وروفائيل متروبوليت حلب. ودخل السيد نيفون زحلة مركز أبرشيته يوم سيامته في الثالث والعشرين من شهر آذار.
وهو ابن الإكسرخوس حنا سابا وحنة زماريا، أبصر النور في السويدية (سلفكية أنطاكية) في 17 آذار سنة 1890، ونذره والده لخدمة الكنيسة فارتدى الثوب الإكليريكي الابتدائي من أرسانيوس متروبوليت اللاذقية في 26 تشرين الأول سنة 1905، ثم التحق بمدرسة البلمند الإكليريكية وتخرج على أساتذتها غطاس قندلفت والأرشمندريتين إلياس أسطفان وغفرائيل كردوس. وفي السنة 1909 سيم شماسا إنجيليا في اللاذقية، وأصبح في السنة 1914 أرشدياكون هذه الأبرشية. ونفى الأتراك أهله مع بعض سكان السويدية، وأمر هو أن يكون بعيدا عن البحر عشرين كيلومترا، فكان بمعية باسيليوس متروبوليت عكار في حلبا. ثم جاء الإنكليز في السنة 1918 فأبعدوه إلى حلب مع قسطنطين يني والخوري عيسى أسعد وعمر الأتاسي. ثم عاد فعينه البطريرك وكيلا لمطرانية حماة بسبب شيخوخة مطرانها، وترك في هذه الأبرشية مآثر قيمة يذكرها الحمويون مع الشكر وخصوصا زمن ثورة جبل العلويين ومهاجرة اليونان من الأناضول.
أغناطيوس متروبوليت حماة (1925)
وفي السادس والعشرين من شباط سنة 1925 انتقل إلى الأخدار السماوية غريغوريوس (جبارة) متروبوليت حماة، فانتدب البطريرك غريغوريوس الرابع الأرشمندريت أغناطيوس (حريكة) وكيلا بطريركيا للأبرشية المترملة. ولم يمض بضعة أشهر على تولي هذه المهمة حتى أجمعت كلمة أبناء الأبرشية على اختيار الوكيل البطريركي مطرانا عليهم، فتم انتخابه في السادس من تموز من السنة نفسها، وجرت سيامته مطرانا على حماة في الثالث عشر من الشهر نفسه.
ولد صاحب الترجمة في 6 آب سنة 1894 من أبويه عبد الله حنا حريكة وزوجته فوتين إبراهيم جريج في قرية بترومين الكورة لبنان الشمالي، وتناول علومه الابتدائية في القرية أولا ثم في المدرسة الروسية في أسكلة طرابلس بعهد مديرها خريستوفوروس عاقل. وفي سنة 1906 أدخله المثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس إلى مدرسة البلمند. وفي سنة 1909 حينما عادت العلاقات ودية بين البطريركية المسكونية بعهد البطريرك يواكيم الثالث وبين البطريركية الأنطاكية كان صاحب الترجمة بين التلاميذ الثلاثة الذين أرسلهم البطريرك غريغوريوس إلى مدرسة خالكي اللاهوتية في الآستانة. وفي صيف سنة 1914 سيم شماسا إنجيليا في دير سيدة البلمند وعاد إلى مدرسته، وبينما هو في البحر أعلنت الحرب العالمية الأولى وأغلقت مضايق الدردنيل، فحاول مع رفاقه أن يصلوا إلى إسطنبول بواسطة دده أغاج المينا البلغاري ثم بواسطة إزمير فلم يفلحوا، وهكذا بقي نحو ثلاثة أشهر يتجول بين أثينا وسلانيك وجبل أثوس انتظارا لنهاية الحرب ولما تبين له أنها ستطول عاد إلى لبنان وبقي بضعة أشهر في دير البلمند إلى أن دعاه سنة 1915 مطران حلب رفائيل ليتولى مديرية المدارس الملية هناك وليكون نائبا أسقفيا، فلبى بأمر غبطة البطريرك وظل في حلب حتى نهاية سنة 1917. وفي سنة 1918 انتقلت البطريركية الأورشليمية بأمر القائد التركي جمال باشا من القدس إلى دمشق لاقتراب جيوش الحلفاء إليها فدعا البطريرك غريغوريوس صاحب الترجمة، وكان قد رقي إلى رتبة أرشمندريت، ليكون مضيفا ومرافقا للبطريرك الأوروشليمي داميانوس وأعضاء مجمعه. وفي أواخر تلك السنة انتدبه البطريرك غريغوريوس ليكون مفتشا على دير مار جرجس الحميراء بعهد رئيسه الأرشمندريت أيصائيا عبود، واستطاع أثناء مهمته هذه أن أنقذ أملاك الدير وكانت قد حجزتها الحكومة التركية بحجة أنها أملاك محلولة.
وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى عين رئيسا لدير سيدة البلمند، فأعاد المدرسة التي كانت قد تعطلت أثناء الحرب، وبقي في هذه المهمة ثلاث سنوات إلى أن عينه البطريرك غريغوريوس وكيلا بطريركيا لأبرشية كيليكيا (مرسين) سنة 1921، فلم يسعه الذهاب إليها بسبب الحوادث بين الترك والإفرنسيين، وبقي في الإسكندرونة مع صديقه الأرشمندريت حنانيا كساب وأسسا هناك أول مطبعة وأول جريدة باسم الخليج في هذا اللواء. وفي سنة 1924 دعاه البطريرك غريغوريوس إلى دمشق وولاه الوكالة البطريركية.
أبيفانيوس متروبوليت حمص (1925)
وشغر أيضا كرسي حمص بوفاة السعيد الذكر أثناسيوس (عطا الله)، فانتخب المجمع الأنطاكي المقدسة في الثامن والعشرين من آب سنة 1925 أبيفانيوس (زائد) متروبوليتا على حمص وتوابعها، وتأخرت شرطونيته بسبب ثورة جبل الدروز إلى صباح الخميس في أول كانون الثاني سنة 1926 فتمت في كاتدرائية دمشق برئاسة البطريرك غريغوريوس.
هو خليل بن موسى يوسف الزائد ووردة الخوري سليمان من دير عطية سوريا. ولد فيها في 4 آب سنة 1890، تلقى دروسه الأولى في المدرسة الروسية. وفي صيف سنة 1904 بينما هو مع والده في الكنيسة المريمية في دمشق لفت إليه نظر المثلث الرحمة البطريرك ملاتيوس، فقال له: ألا تذهب يا بني إلى المدرسة الإكليريكية في دير البلمند فتتعلم وتصير مطرانا! فلبى الدعوة. وبعد شهر وجهه غبطته إلى الدير المذكور فتلقى دروسه اللاهوتية هناك وكان من الناجحين الأولين. وفي سنة 1909 وجهه المثلث الرحمة البطريرك غريغوريوس إلى موسكو. وبعد سنة ونصف أحرز شهادة التصوير الكنسي في دير القديس سرجيوس قرب موسكو وعاد إلى سوريا فسيم شماسا إنجيليا في 24 أيلول سنة 1911. وعاد إلى موسكو ليخدم في الأمطوش الأنطاكي هناك ويدرس الفنون الجميلة في أكاديمية موسكو. وفي سنة 1914 عاد إلى سوريا ثم تعذر عليه الرجوع إلى موسكو لإحراز شهادته بسبب نشوب الحرب الكبرى. وفي سنة 1918 رقاه البطريرك غريغوريوس إلى رتبة رئيس شمامسة وتعين مدرسا للآداب العربية في المدرسة التجهيزية الأرثوذكسية في دمشق ومديرا لمدارس الطائفة في الميدان، وكان وقتئذ يعمل في صفوف الوطنيين والأدباء ويحرر مع نخبة منهم «مجلة الرابطة الأدبية»، وفي أثناء ذلك انتخبه المجمع العلمي العربي في دمشق عضوا في لجنته الفنية.
إيليا أسقف معاون لمتروبوليت بيروت (1926)
وأصبحت بيروت بعد دخول الإفرنسيين إلى سورية ولبنان مركز سلطة الانتداب، فاكتظت بالسكان وتنوعت مهام متروبوليتها الطيب الذكر جراسيموس (مسرة)، وكان قد تقدم في السن وانتابه المرض، فرأى من الواجب أن يرقي نائبه الأرشمندريت إيليا (الصليبي) إلى رتبة الأسقفية. وتفوق الأرشمندريت إيليا بصوت رخيم وترتيل وقور وباستمساك شديد بالتقاليد الأرثوذكسية والمحافظة عليها، وبالدراية والحكمة في تدبير الأمور وبشخصية بارزة توجب الاحترام، فوافق المجمع الأنطاكي المقدس على اقتراح راعي أبرشية بيروت وسيم إيليا أسقفا معاونا لراعي أبرشية بيروت في الخامس من نيسان سنة 1926.
41
ولد إيليا من أبوين تقيين أرثوذكسيين في سوق الغرب في أول حزيران حسابا شرقيا في السنة 1881، والتحق في السنة 1893 بمدرسة بيروت الإكليريكية، فرعاه راعيها غفرائيل برعايته وألبسه الأسكيم في السنة 1894. ثم سامه جراسيموس شماسا إنجيليا في السنة 1907. وفي السنة 1909 أصبح أرشدياكونا لكرسي بيروت، وسافر في السنة 1913 إلى إسطنبول بمعية رئيسه جراسيموس فقابل معه السلطان محمد رشاد ونال جراسيموس العثماني الأول وإيليا المجيدي الثالث، فكان ذلك بدء سلسلة من الاعترافات بخدمات سيادته من الحكومات المحلية والأجنبية وشحت صدره فضاق لها على اتساعه ورحابته.
وفي الخامس من نيسان السنة 1926 سيم أسقفا معاونا لمتروبوليت بيروت كما سبق وأشرنا. وبعد وفاة البطريرك غريغوريوس في أواخر السنة 1928 رقي في الخامس عشر من آذار سنة 1929 إلى رتبة أساقفة. وفي التاسع والعشرين من أيلول سنة 1936 انتخب متروبوليتا لأبرشية بيروت وخلفا لمعلمه جراسيموس وتمت سيامته في دمشق على يد الطيب الذكر البطريرك ألكسندروس.
غريغوريوس والانتداب الفرنسي (1920-1928)
وحمل الإفرنسيون انتدابين إلى سورية ولبنان انتدابا دوليا باسم عصبة الأمم الجالسة في جنيف، وانتدابا كاثوليكيا تاريخيا باسم فرنسة ابنة الكنيسة البكر، فسفراء فرنسة وقناصلها كانوا طوال العصور الحديثة حماة الإكليريكيين الكاثوليكيين الأجانب المقيمين في الأراضي العثمانية أو المتجولين في أرجائها، وذلك بنصوص رسمية متبادلة بين حكومات فرنسة والفاتيكان وبالامتيازات الخصوصية التي اعترفت بها الحكومة العثمانية لممثلي فرنسة في ولاياتها الآسيوية والأفريقية. ويلاحظ هنا أن حماية الإكليريكيين الكاثوليكيين الأجانب المقيمين في ولاية الدولة العثمانية الأوروبية كانت منوطة بممثلي إمبراطور النمسة والمجر، وأعاد الفاتيكان النظر في العهود السابقة بينه وبين حكومات فرنسة على ضوء الظروف السياسية الجديدة التي نشأت عن تقلص ظل الأتراك وإعلان الانتداب وإلغاء الامتيازات الأجنبية، فوقع في الرابع من كانون الأول سنة 1926 معاهدة جديدة (كونورداتوم) مع الحكومة الإفرنسية، جدد بموجبها إكرام الجمهورية الإفرنسية وممثليها في قداديس رسمية معينة تقام في كنائس كاثوليكية معينة في الأراضي الآسيوية التي انسلخت عن جسم الدولة العثمانية.
42
وبدا من غريغوريوس في عهد فيصل ما أنكرته عليه سلطات الانتداب، فاستوحشت من ناحيته وخيل إليها منه الغدر، فأظلم الجو بين الطرفين وتباعدا. ورقب الآباء اليوسعيون الأمر وكلهم يقظة وشدة، فاستغلوا ظرف الانتداب ودفعوا بمن ائتمنوا من حملة شهاداتهم إلى أهم المراكز وأدقها، وحذا حذوهم العازاريون والإخوة الإفرنسيون، فكثر عدد الموظفين المسيحيين الغربيين في دوائر الانتداب والحكومات المحلية وقل عدد الأرثوذكسيين، واستتب الأمر للإفرنسيين في البلاد. وعلى الرغم من هذا كله البطريرك فان أبرق يؤيد انتدابهم، ولكنهم ظلوا يرون فيه رجلا بغيضا.
ولم يجمع البطريرك «ذو الخلال» بين محاسن التصدق وحكمة التدبير (المالي) فتراكم الدين وضاق طوق وجهاء الطائفة في دمشق، وجرأت السلطات الإفرنسية بعض العناصر على البطريرك فشغبوا وشاغبوا، فابتعد البطريرك عن الشر والفتنة وقام إلى لبنان وأقام فيه، ثم أظلم بصره فاضطر أن يبقى في لبنان للمعالجة.
وفاته
وبينما كان يوشك أن يختم المجمع السادس الأخير في سوق الغرب أعمال استأثرت بالبطريرك رحمة الله وهو يقوم بواجباته الرئيسية دون تضجر أو ملل، وعلى الرغم من انحراف صحته وضعف بصره. ويروى أنه قال وهو يحتضر: «لقد صبرت حتى النهاية!» وكانت وفاته في الثاني عشر من كانون الأول سنة 1928، فنقل جثمانه الطاهر بموكب نادر المثال إلى بيروت حيث عرض للتبرك، ثم نقل إلى دمشق ودفن في مدافن البطاركة أمام الكاتدرائية المريمية.
الفصل العاشر
النظم والقوانين
لجنة السنة 1890
وكان ما كان من أمر الخط الهمايوني الذي دخل في صلب معاهدة باريز سنة 1856، وقد سبقت الإشارة إليه فلتراجع في محلها. ثم وضع قوميسيون الروم نظاما خاصا لبطريركية القسطنطينية، واعترفت الحكومة العثمانية به وأدخلته في دستور قوانينها،
1
وطبقت مبادئه العامة على سائر البطريركيات والكنائس المستقلة القائمة ضمن حدودها.
واستعفى جراسيموس البطريرك وحل محله اسبيريدون، فرغب أعضاء المجمع الأنطاكي المقدس والشعب عموما في وضع نظام للكرسي يمنع المداخلات غير القانونية في انتخاب البطريرك ويرتب شئونه على طريقة موافقة للقوانين الكنسية الشريفة ولمقتضيات العصر، وتقرر وضع هذا النظام في المجمع المنعقد سنة 1890 لمناسبة انتخاب اسبيريدون، وتعينت لذلك لجنة من المطارنة. وأخذت هذه اللجنة تتداول بشأنه، ولكن الظروف لم تساعدها على إخراجه فظلت كنيسة أنطاكية خاضعة لأسس النظام القسطنطيني.
لجنة السنة 1898
وفي أوائل شباط سنة 1898 رفع الشعب الأنطاكي عريضتين إحداهما إلى المجمع الأنطاكي المقدس والأخرى إلى الباب العالي التمس بموجبها أن يؤذن للكرسي الأنطاكي بوضع نظام على غرار النظام القسطنطيني، فاستجاب الباب العالي هذا الطلب وأمر والي سورية أن يساعد على إتمامه. وفي الرابع عشر من آذار سنة 1898 أعلن الوالي موافقة الباب العالي، فقرر المجمع الأنطاكي في السادس عشر من الشهر نفسه أن يصير الاهتمام بوضع النظام المرغوب، وانتدب لذلك لجنة مؤلفة من أربعة مطارنة برئاسة البطريرك ملاتيوس واشتراك بعض أصحاب الخبرة من الشعب، وكان المطارنة المنتدبون لهذا العمل أثناسيوس حمص وغريغوريوس حماة وغريغوريوس طرابلس وجراسيموس سلفكياس، وكان في طليعة الأعضاء العلمانيين غطاس قندلفت. واجتمعت هذه اللجنة في جلسات متتالية وأنجزت عملها في السنة 1901، وصدق المجمع الأنطاكي المقدس هذا القانون دون أن يعرضه على الحكومة.
وبعد وفاة ملاتيوس اجتمع المجلس الترشيحي برئاسة أثناسيوس متروبوليت حمص وعدل هذا القانون؛ فحذف من مادته الأخيرة العبارة التي توجب عرض القانون على الحكومة للحصول على موافقتها، وعليه جرى انتخاب غريغوريوس في 5 حزيران سنة 1906.
قانون السنة 1906
وجاء هذا القانون في فصول عشرة وفي أربع وستين مادة. وهاك نصه بالضبط:
الفصل الأول:
المادة الأولى:
مركز البطريركية الأرثوذكسية الأنطاكية الرسمي مدينة دمشق، وهو محل إقامة البطريرك، وأسقف أو اثنين فخريين منهما الوكيل البطريركي وسائر المعية البطريركية، وفيه يجتمع المجمع البطريركي والمحكمة الروحية والمجلس المختلط والقومسيون الزمني.
المادة الثانية:
في صفات الذوات المرشحين للبطريركية؛ أن الشخص المرشح لتبوء الكرسي البطريركي يجب أن يكون من مصف مطارنة الكرسي الأنطاكي الموجودين في رعاية إحدى أبرشياته والقائمين بها حق القيام.
المادة الثالثة:
يجب أن يكون المرشح للبطريركية سالما من الشوائب في الآداب والأخلاق متضلعا في العلوم والمعارف الدينية والأدبية ومتفقها في بقية الفنون ما أمكن، ومبرهنا في سلوكه السابق أنه من الذين يحافظون أشد المحافظة على العقائد الدينية والتعاليم الشريفة. وبما أنه أحد رؤساء الكنيسة الأرثوذكسية وأب روحي لجميع الأرثوذكسيين التابعين للكرسي البطريركي الأنطاكي، وهو رابطة اتحاد جميع المطارنة المنضوين إلى كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية مع سائر الكنائس المستقلة الأرثوذكسية؛ يجب أيضا أن يكون كفؤا لأن يحامي ويناضل بحرارة عن الإيمان في القول والفعل في كل مكان وزمان وحال حسبما تقتضيه الواجبات الدينية المفروضة على صاحب هذه الرتبة.
المادة الرابعة:
ولما كان البطريرك من كبار الرؤساء الروحيين في الكنيسة الأرثوذكسية في المملكة العثمانية وجب أن يكون عثمانيا أبا عن جد، مستكملا للأوصاف المبينة في المادة السابقة، وحائزا على ثقة الدولة العلية، وذا اطلاع على الأصول والقوانين، ومتصفا بصفات تليق بمقامه، إلى غير ذلك مما يستجلب ثقة واعتبار الشعب؛ ليقوم بإجراء ما تؤكده البراءة الشريفة والامتيازات المحسن بها من السلاطين العظام وبجميع شئون الملة الروحية والإدارية.
الفصل الثاني:
في بيان هيئة المجلس العمومي الذي يتشكل لأجل انتخاب البطريرك.
المادة الخامسة:
إن مجلس الانتخاب العمومي للترشيح والتفريق مؤلف من إكليروس وعوام.
المادة السادسة:
الإكليروس الذين يلزم وجودهم في مجلس الانتخاب العمومي هم جميع مطارنة الأبرشيات العاملين والنائب البطريركي في أنطاكية أو في أبرشية مترملة أو وكلاؤهم، ونائبا إكليروس دمشق والوكيل البطريركي والكاهن المنتخب بحسب المادة الحادية عشرة الآتية.
المادة السابعة:
العوام الذي يلزم وجودهم في مجلس الانتخاب العموم هم عشرة ذوات؛ ثمانية وكلاء عن شعب دمشق وواحد عن محلة الميدان وواحد أيضا عن شعب أنطاكية.
المادة الثامنة:
الوكيل عن الشعب يجب أن يكون عمره أكثر من ثلاثين سنة من أبناء الكرسي الأنطاكي ومن تبعة الدولة العلية، وحائزا الاعتبار في محله، ومعروفا بحسن السلوك والدراية والإخلاص للكنيسة المقدسة وللدولة العلية.
الفصل الثالث:
في بيان صورة انتخاب البطريرك.
المادة التاسعة:
عندما يقل الحل في مسند البطريركية الأنطاكية يخبر الوكيل البطريركي جميع مطارنة الكرسي ذوي الأبرشيات والنائب البطريركي في أنطاكية بذلك تلغرافيا، وكل منهم يجاوب في خلال عشرة أيام معينا اسم الشخص الذي ينتخبه قائمقاما من مطارنة الكرسي أصحاب الأبرشيات، وهكذا الكهنة في دمشق يجتمعون وينتخبون ذاتا، والقومسيون الزمني أيضا يجتمع وينتخب ذاتا، وفي اليوم الحادي عشر يجتمع المطارنة الذين يوجدون في المركز تحت رئاسة الوكيل البطريركي وتفتح أوراق الانتخاب بأجمعها بحضور الهيئة في الجلسة ذاتها، ومن يحرز الأكثرية في الانتخاب يعتبر قائمقاما، فإذا تساوت الأصوات بحق ذاتين أو أكثر تجري الهيئة المذكورة الاقتراع بين المتساويين، ومن أصابته القرعة يعتبر قائمقاما، وحينئذ تنظم الهيئة مضبطة ترفع بواسطة الولاية الجليلة إلى الباب العالي لصدور الإرادة السنية بالتصديق على القائمقامية.
المادة العاشرة:
بعد صدور الإرادة السنية بالتصديق يحرر حالا القائمقام تلغرافيا إلى المطارنة التابعين لبطريركية أنطاكية يدعوهم للحضور بالذات إلى دمشق مركز البطريركية في خلال أربعين يوما من تاريخ الدعوة لإجراء مقتضيات الانتخاب، وإن تعذر عليه الحضور بالذات لعذر مشروع له أن يوكل من يشاء من مطارنة الكرسي بموجب وكالة قانونية لينوب عنه بإجراء المعاملات الانتخابية على ما سيتم في المعاملات المذكورة، ويحرر القائمقام أيضا في الوقت عينه إلى النائب البطريركي في أنطاكية، وإلى من يكون وكيلا بطريركيا في أبرشية مترملة ليحضروا بالذات أو ليرسلوا وكالة عنهم لأحد الإكليريكيين؛ لكي يوجدوا بدمشق في اليوم المعين لأجل إجراء معاملات الترشيح والتفريق، وللمطران الذي تفوض وكالة أو أكثر أصوات بعدد الوكالات التي تكون فوضت إليه قانونيا، سواء أكان في الترشيح أو التفريق أو في الانتخاب الأخير.
المادة الحادية عشرة:
في اليوم الثلاثين من التصديق على القائمقامية يستدعي القائمقام الكهنة والقوميسيون الزمني في دمشق لتسمية مائة شخص من معتبري الملة والوجهاء والتجار وأرباب الحرف في دمشق، وتطبع بأسمائهم لائحة ثم يدعوهم القائمقام هم والكهنة ليجتمعوا في اليوم الخامس والثلاثين تحت رئاسته، وينتخبوا تسعة أشخاص لينوبوا عن الشعب في معاملات الترشيح والتفريق على الإطلاق. ويكون أحد هؤلاء التسعة شخص من الكهنة والثمانية من العوام. ويجب أن يتم انتخاب هؤلاء الوكلاء في الجلسة عينها، وتحرر مضبطة انتخابهم ويوقع عليها الحاضرون والقائمقام البطريركي. وهكذا يحرر القائمقام إلى كهنة محلة الميدان أن يجمعوا وجهاء الملة في محلتهم وينتخبوا شخصا منهم بموجب مضبطة بيده منهم؛ ليكون وكيلا عن شعب تلك المحلة في معاملات الترشيح والتفريق. وفي اليوم الأربعين يدعو القائمقام مجلس الانتخاب العمومي؛ أي المطارنة الذين حضروا إلى دمشق عن أصحاب الأبرشيات والوكيل البطريركي في دمشق والوكلاء العشرة المذكورين ووكيلي أنطاكية والوكيل عن أبرشية مترملة، للاجتماع في البطريركية في اليوم الحادي والأربعين، ومتى تم اجتماع ثلثي المدعوين تفتح الجلسة برئاسته حسب الرسوم، ويصير التحقيق عن هوية المدعوين والمصادقة عليها، ويقيد كل عضو اسمه في جدول الحضور بخط يده بحسب الأصالة والوكالة، وتغلق كل الأبواب، ويعطى كل واحد ورقة ليحرر فيها سريا اسم من يشاء ويراه حائزا على الصفات المطلوبة لمسند البطريركية من مطارنة الكرسي الأنطاكي فقط أصحاب الأبرشيات، بحسب المواد المقررة لذلك، ويقوم كل عضو فيضع ورقته في الصينية الموضوعة في منتصف المنتدى، ثم يتقدم كاتب المجمع فيضع أوراق الترشيح أمام الهيئة، ويفتحها اثنان من أعضاء هذا المجلس ينتخبان بالصوت الحي ويعلنان الأسماء المكتوبة فيها، وأي من ظهر اسمه في هذه الأوراق بقطع النظر عن كثرة الأصوات أو قلتها يحسب من المرشحين للانتخاب، فتحرر قائمة بأسماء هؤلاء المرشحين ومضبطة بالعمل يوقع عليها القائمقام وجميع أعضاء مجلس الانتخاب، ويجري تسجيل ذلك كله في السجل البطريركي.
المادة الثانية عشرة:
القائمة والمضبطة المذكورتان آنفا تقدمان حالا إلى الولاية لترفعا بواسطتها إلى الباب العالي، حتى إذا وجد بالفرض أشخاص من الذوات المحررة أسماؤهم في هذه القائمة لا ترى فيهم الأهلية بالنظر إلى الأمور الملكية يتعرف عنهم من جانب الباب العالي إلى البطريركية بواسطة الولاية الجليلة، ليصير استثناؤهم ويجري الانتخاب على الباقي.
المادة الثالثة عشرة:
حالما يتبلغ القائمقام من الولاية الجليلة بتحريرات رسمية جواب الباب العالي المشار إليه يدعو مجلس الانتخاب العمومي إلى حالته الأولى إلى جلسة رسمية في البطريركية في يوم معين، وعند اجتماع الهيئة قانونيا تتلى تحريرات الولاية الجليلة المشار إليها. ويحرر القائمقام وكل عضو في المجلس المذكور من الإكليروس والعوام بما له من حق الرأي في ورقة سرية أسماء ثلاثة من المطارنة الذين لم يصر استثناؤهم من قبل الباب العالي، ثم تجمع الأوراق وتضبط في جدول الأسماء المدونة فيها كما جرى في الجلسة السابقة، وتراجع بالتدقيق ويوقع على الجدول العضوان المعينان وكاتب المجمع المقدس، ويخصص بالبيان أسماء المطارنة الثلاثة الذين حازوا الأكثرية، وإذا وجد حين ضبط الأسماء تساو في الأصوات يزيد به عدد رابحي الأكثرية عن الثلاثة، فيؤخذ العدد اللازم على قاعدة القرعة بين المتساويين، ثم يقيد العمل في السجل البطريركي ويوقع عليه جميع أفراد الهيئة.
المادة الرابعة عشرة:
بعد إجراء مقتضيات المادة السابقة تصعد هيئة المجمع المقدس المؤلفة من المطارنة أصحاب الأبرشيات العاملين إلى الكنيسة الكاتدرائية المقدسة، يتبعهم كاتب المجمع ومعه سجل الانتخابات وتذكرة بأسماء الثلاثة الذين ربحوا أخيرا الأكثرية وتقفل الأبواب، وبعد إجراء الصلاة حسب طقسها المعين يتقدم كل من أعضاء المجمع أصالة أو وكالة عن مطران أبرشية غائب ويضع في صينية على المائدة المقدسة بطاقة مكتوبا فيها اسم من ينتخبه من المرشحين الثلاثة. وبعد ذلك يؤتى بالصينية إلى الخورس، وهناك يضبط عدد الأوراق، ثم يفتحها أحد المطارنة ويطلع عليها الآخرين، وكاتب المجمع يضبط جدولا بالأصوات، فمن ربح أكثر من نصف أصوات المنتخبين يكون هو البطريرك. وإذا لم يحرز أحد هؤلاء المرشحين تلك الأكثرية يعاد الانتخاب في الوقت ذاته إلى أن يربح أحدهم الأكثرية المذكورة. ولا يبرح أحد من هيئة المجمع الكنيسة المقدسة حتى يتم الانتخاب ويسجل عمله حالا في سجل الانتخابات المذكورة ويوقع عليه كل من المطارنة بالأصالة والوكالة ويختمه بختمه. وعلى الأقلية أن توقع على العمل في السجل المذكور بدون أقل ملاحظة. ثم تقام صلاة الشكر وتفتح أبواب الكنيسة ويتلو كاتب المجمع العمل الانتخابي على مسمع الجمهور، ثم تجمع هيئة مجلس الانتخاب العمومي في قاعة البطريركية وتنظم مضبطة بالعمل يوقع عليها ويختمها كل أعضاء الهيئة، وترفع بواسطة الولاية الجليلة إلى المرجع الإيجابي الأعلى لاستصدار الإرادة السنية السلطانية بمعرفة المنتخب بطريركا.
المادة الخامسة عشرة:
بعد أن تبلغ الولاية الجليلة البطريركية العامرة رسميا صدور الإرادة السنية المشار إليها في المادة السابقة يتقرر بأمر المنتخب للبطريركية إجراء الاحتفال بارتقائه إلى الكرسي البطريركي الأنطاكي حسب الرسوم المفروضة في يوم معين. وأقدم المطارنة شرطونية بين الموجودين يسلمه عصا البطريركية، ومن ثم يباشر البطريرك أعماله مبتدئا بإرسال المنشور البطريركي الرسمي.
الفصل الرابع:
في حقوق وواجبات البطريرك.
المادة السادسة عشرة:
البطريرك له التقدم على المطارنة وسائر الإكليريوس والرهبان التابعين لكرسي بطريركيته، وهو الرئيس لمجمع الكرسي الأنطاكي المقدس، وله الرئاسة العليا على جميع مجالس الملة الزمنية والروحية والولاية على الأديرة المتعلقة بالبطريركية، وعلى الكنائس والمدارس والأماكن الخيرية والأوقاف والجمعيات المنسوبة إليها، وله حق التمتع بسائر الحقوق الممنوحة من الدولة العلية الأبدية القرار بموجب البراءة الشريفة والامتيازات المذهبية.
المادة السابعة عشرة:
على البطريرك أن يحافظ مع المجمع المقدس على التعاليم الأرثوذكسية ويراعي قوام السنن والاشتراعات المجمعية المسكونية والمكانية، وإيفاء الفروض والطقوس والتراتيب الكنائسية والحقوق الملية المرعية الإجراء منذ القديم، وحسن إدارة الكنائس والمدارس والأديرة البطريركية، وأن يعتني ويحافظ على المدرسة البطريركية الإكليريكية المنشأة في دير البلمند لتعليم الإكليروس وتهذيبه، وأن يهتم مع المجلس المختلط والقومسيون الزمني في رؤية الأمور والمصالح الجارية بين الحكومة السنية والملة وسواها، وأن يجري الأحكام بموجب القوانين الدينية والأصول المرعية، وأن ينفذ القرارات التي تصدر من مجمع الكرسي الأنطاكي المقدس والمجمع البطريركي وسائر المجالس الملية الروحية والزمنية على أصولها.
المادة الثامنة عشرة:
يعين البطريرك شخصا لائقا من الإكليريوس البطريركي يقيد في دفتر مخصوص الأواني والأمتعة الكنسية والأشياء الثمينة التي في الكاتدرائية وسائر موجوداتها، ويحافظ عليها في خزائن الكنيسة وفي دائرتها، ويعين أيضا محافظا إكليريكيا مقتدرا لمكتبة البطريركية التي هي ضمن دائرتها.
المادة التاسعة عشرة:
لما كان البطريرك هو الرئيس والمتقدم بين إكليروس كرسيه وجب بالطبع أن يكون مثالا صالحا متحدا مع المطارنة لما فيه خير الكرسي، محافظا على حسن سلوك جميع الإكليريوس، وعلى اتباع القوانين وتنفيذها بالطرق المرعية.
المادة العشرون:
على البطريرك عندما يرغب التوجه إلى أبرشية ما أن ينبئ مطرانها وسائر المطارنة عن محل قصده واسم وكيله في دمشق.
الفصل الخامس:
في الصفات اللازمة لمن ينتخب للأسقفية وفي كيفية انتخاب الأساقفة.
المادة الحادية والعشرون:
كل ذات ينتخب للأسقفية يجب أولا أن يكون من تبعة الدولة العلية أبا عن جد وبلا لوم تجاه الدولة والملة. ثانيا: أن يكون أتم السنة الثلاثين من عمره على الأقل وفقا لقوانين الكنيسة وتام الأعضاء. ثالثا: أن يكون من الذوات المعروفين في الكنيسة، بمعنى أن تكون سبقت له خدمات صادقة في البطريركية أو في الأديرة أو في معية أحد المطارنة بصفة إكليريكي لا أقل من ثلاث سنوات ليتمكن من إحراز المعلومات الكافية في الأمور الكنائسية، ويتضمن على حسن إدارة الأسقفية. رابعا: أن يكون قد تلقن العلوم الكنائسية في المدارس الأرثوذكسية ونال شهادتها، وكان من أصحاب الأخلاق الحسنة والآداب والنزاهة.
المادة الثانية والعشرون:
عندما يقع الحل في مسند المطرانية بإحدى الأبرشيات يعين البطريرك وكيلا عنه فيها من يراه موافقا ويفيد عنه الحكومة المحلية؛ لأجل معرفته بالصفة المذكورة، وعقيب ذلك يبلغ البطريرك تلك الأبرشية بواسطة الوكيل لكي ترشح ثلاثة ممن أحرزوا الصفات المحررة في المواد السابقة في مدة لا تزيد عن الأربعين يوما من تاريخ البلاغ، ويرفعون تلك الأسماء بمضبطة قانونية إلى البطريرك والبطريرك يبلغ ذلك إلى جميع مطارنة الأبرشيات العاملين في الكرسي بظرف أسبوع. وكل واحد من المطارنة عليه أن يحضر بنفسه، وإما أن يرسل بطاقة انتخابه واحدا من الثلاثة المرشحين ضمن مغلف مختوم ضمن تحرير مبين فيه اسم من يرغب توكيله ليوقع عنه في سجل الانتخابات، ومتى وردت الأجوبة يسلمها البطريرك إلى المطارنة المجتمعين لديه فيأخذون المغلفات المذكورة مصحوبين بكاتب المجمع وسجل الانتخابات إلى الكنيسة، حيث تقام الصلاة المعتادة ويقدم الحاضرون أصواتهم، ثم تفض المغلفات ويؤخذ جدول بالأسماء، فالرابح الأكثرية هو المنتخب، وإن تساوت الأصوات يؤخذ واحد على طريق القرعة ويوضع ذلك في عمل الانتخاب في السجل المذكور، ويوقع عليه المطارنة الموجودون بالأصالة والوكالة، وبعد ذلك يعودون إلى نادي البطريرك ويقدمون له السجل معلنين اسم المنتخب، والبطريرك حينئذ يخبر المنتخب، وبعد أن يرد منه خبر قبوله يعلن ذلك للأبرشية ويعين اليوم الذي تجري فيه سيامته.
المادة الثالثة والعشرون:
إذا تأخرت الأبرشية عن تقديم مرشحها ضمن المدة المعينة في المادة السابقة فيحق للبطريرك أن يرشح ثلاثة من الإكليروس الذين يرى فيهم اللباقة ويجري بحقهم مفاد المادة المذكورة.
المادة الرابعة والعشرون:
حين اقتضاء إقامة أسقف فخري يرسل البطريرك أسماء ثلاثة من الإكليروس الرهباني الأنطاكي الذين يرى فيهم اللياقة لرئاسة الكهنوت إلى مطارنة الأبرشيات العاملين، ويطلب منهم انتخاب أحد الثلاثة للأبرشية القديمة التي سيسميها فينتخبون، وتجري سائر المعاملات على ما ورد في المادة الثانية والعشرين. ويحق للأسقف أن يرشح عند وقوع الحل في مسند إحدى الأبرشيات.
الفصل السادس:
في مجمع الكرسي الأنطاكي ووظائفه.
المادة الخامسة والعشرون:
يتألف مجمع الكرسي الأنطاكي (السينودوس) من جميع مطارنة الكرسي ذوي الأبرشيات، ويجتمع أدوارا في كل ثلاث سنوات مدة واحدة في المحل الذي يختاره البطريرك تحت رئاسته في أوائل شهر أيار، وفي غير هذا الوقت أيضا إذا دعت الحاجة، أما التآمه فبطلب البطريرك ومن يتعذر عن الحضور لعذر مشروع يقم أحد المطارنة وكيلا رسميا عنه.
المادة السادسة والعشرون:
لمجمع الكرسي الأنطاكي المقدس أن يطلع على الخلاصة التي يجب أن تقدم له من المجمع البطريركي معلنة الشئون التي جرت في السنوات الثلاث السابقة، وأن ينظر في مسائل التعليم والوعظ ونشر الكتب اللازمة لفائدة الملة الدينية والأدبية، وأن يرى ويحل كل المشكلات التي تحال إليه بصفة كونه المرجع الأعلى توفيقا للقوانين الكنائسية ما عدا الدعاوى التي حكم فيها استئنافيا في المجمع البطريركي أو في المجلس المحتفظ.
المادة السابعة والعشرون:
إذا طلب ثلثا أعضاء مجمع الكرسي الأنطاكي عقد جلسة فوق العادة موضحين الموجب لذلك فعلى البطريرك أن يلبي طلبهم ويعقد تلك الجلسة.
المادة الثامنة والعشرون:
إذا وقعت حوادث هامة في الكرسي في غير وقت اجتماع مجمع الكرسي المقدس تقتضي نظر المجمع فيها ولم يستدع البطريرك المطارنة للاجتماع لأجل ما ذكر وفقا للمادة الخامسة والعشرين، فللمطارنة أن يقدموا إليه بطلب الاجتماع موضحين السبب، وعليه أن يلبي طلبهم ويستدعيهم إذا كان الطالبون ثلثي أعضاء المجلس.
المادة التاسعة والعشرون:
يعين البطريرك كاتبا إكليريكيا لهذا المجمع واجباته كواجبات كاتب المجمع البطريركي الوارد ذكرها في المادة السادسة والأربعين.
الفصل السابع:
في حقوق وواجبات المطارنة.
المادة الثلاثون:
للمطارنة في أبرشياتهم الحقوق التي تخولهم إياها القوانين الكنائسية والبراءة الشريفة والامتيازات المذهبية. ولهم بصفة الرئاسة حق السيطرة في دوائرهم على الجمعيات الخيرية والهيئات العمومية الملية وتدريبها والرعية على الأعمال القانونية والثبات والنمو.
المادة الحادية والثلاثون:
على كل مطران في أبرشيته أن يعتني بتعليم أبناء ملته العلوم الدينية والأدبية في المدارس الأرثوذكسية، ويجب على من يتقدم إلى الكهنوت علمانيا كان أو راهبا أن يكون متخرجا في إحدى تلك المدارس، ومن تظهر فيه النجابة وحسن الاستعداد يسعى بإدخاله في المدارس اللاهوتية الأرثوذكسية لتحصيل علوم اللاهوت العالية.
المادة الثانية والثلاثون:
على المطارنة الاعتناء بالأعمال الخيرية وعضد القائمين بشئونها ونفقاتها والاهتمام بالمنشئات الخيرية اللازمة كالملاجئ للأيتام والعجزة والمرضى ونحو ذلك.
المادة الثالثة والثلاثون:
على كل من المطارنة أن يقيم في أبرشيته وفقا للقوانين الكنائسية، وأن يطوف متفقدا أحوال رعيته بالذات أو بواسطة من يعتمد عليهم عند وجود عذر مشروع.
المادة الرابعة والثلاثون:
يجب على المطارنة أن يوقروا البطريرك بما أنه المتقدم بينهم ورئيس ملتهم، وأن يحترموا بعضهم بعضا ويراعوا بعضهم حقوق بعض.
المادة الخامسة والثلاثون:
إذا صدر من أحد المطارنة أمر مخالف للقوانين الكنائسية أو المدنية فيجري التحقيق عنه والحكم فيه من قبل مجمع الكرسي الأنطاكي المقدس تحت رئاسة البطريرك على مقتضى القوانين الكنائسية والامتيازات المذهبية.
المادة السادسة والثلاثون:
إذا رغب أحد المطارنة في الذهاب إلى أبرشية ما فعليه أن ينبئ البطريرك ومطران تلك الأبرشية عن ذلك.
المادة السابعة والثلاثون:
إن جميع الأحكام الملية الروحية التي تصدر في كل أبرشية يقتضي أن تكون نتيجة فحص وتدقيق وقرار المحكمة ذات الاختصاص في تلك الأبرشية بحسب الاقتضاء ضمن دائرة القانون المخصوص المعمول به في دائرة البطريركية الأنطاكية.
المادة الثامنة والثلاثون:
إذا استعفى أحد المطارنة من أبرشيته أو الأساقفة من خدمته وقبل استعفاؤه فله أن يقيم في دير نذره أو حيثما يعين له البطريرك والمجمع، وعلى البطريرك أن يتدارك ما يلزم له من النفقة.
الفصل الثامن:
في المجمع البطريركي.
المادة التاسعة والثلاثون:
إن المجمع البطريركي يتألف من خمسة أعضاء؛ اثنان منهم من مطارنة الأبرشيات، واثنان أسقفان فخريان، وأرشمندريت أو كاهن تحت رئاسة أحدهم المتقدم شرطونية من ذوي الأبرشيات التابعة للكرسي، ويصير تعيينهم من قبل البطريرك بتذكرة مخصوصة. ويلبث هذا المجمع ثلاثة أشهر في كل سنة ابتداؤها في أول شهر أيار، ويمكن تمديد هذه المدة إلى ستة أشهر بحسب الاقتضاء، ولا يصرف النظر عمن يطلب لعضوية المجمع من المطارنة أصحاب الأبرشيات في دورة إلا بسبب عجز سن الشيخوخة أو مرض، على أن يدعى من يكون بعده من المطارنة بحسب الترتيب الآتي:
الدور الأول:
عكار وديار بكر.
الدور الثاني:
حماة وحلب.
الدور الثالث:
طرابلس واللاذقية.
الدور الرابع:
بيروت وزحلة.
الدور الخامس:
حمص ومرسين.
الدور السادس:
جبيل وصور وصيدا.
الدور السابع:
أرضروم وحوران.
المادة الأربعون:
وظيفة هذا المجمع النظر والحكم في جميع المسائل الروحية والاعتناء بتنظيم حالة الأديرة البطريركية ورؤية حساباتها والتدقيق فيها، وترقية شئونها والنظر في مسائل التعليم والوعظ ونشر الكتب اللازمة لفائدة الملة الدينية والأدبية وترقية شئون الملة، والحكم في المشاكل الملية والدعاوي الروحية الإفرادية نظير الزيجات وسواها بصورة استئنافية بحسب أحكام القوانين الكنائسية، وفي الأمور التي تقرر في مجمع الكرسي الأنطاكي، ويحال إليه من قبل البطريرك إجراؤها والمناظرة عليها. وفي نهاية كل سنة ينظم مضبطة بخلاصة الأعمال التي أجراها والأحكام التي أعطاها في تلك المدة لكي تحفظ عند كاتب المجمع لتسلم إلى مجمع الكرسي الأنطاكي مع بقية الأوراق المجمعية الواجب تسليمها له عند التئامه، وقرارات هذا المجمع تعطى بالاتفاق أو بالأكثرية.
المادة الحادية والأربعون:
يلتئم المجمع مرتين في الأسبوع، وإذا مست الحاجة فللبطريرك أو للرئيس أن يعقد جلسات أخرى فوق العادة، وجميع القرارات التي تصدر يقتضي أن يوقع ويختم عليها كل من الأعضاء بالذات. وأما الصور التي تعطى عنها عند الإيجاب فيصدق الكاتب على مطابقتها للأصل وتختم بختم المجمع.
المادة الثانية والأربعون:
يجب التوقيع على كل القرارات المجمعية من الرئيس وسائر الأعضاء، ولا يسوغ لأحد منهم الامتناع عن التوقيع بداعي مخالفة القرار لرأيه، بل يجب أن يوقع عليه . وله أن يبين تحت توقيعه أسباب مخالفته، ولا يحق للرئيس أن يوقف سير الجلسة القانوني أو يمنع إعطاء القرار فيها. وأحكام هذه المادة تشمل جميع جلسات الهيئات القانونية المتعلقة بالكرسي.
المادة الثالثة والأربعون:
لا يجوز للبطريرك الانفراد بعمل من الأعمال المختصة بالمجمع البطريركي، وإذا اقتضت الحال لاجتماع هذا المجمع بعد انقضاء المدة المعينة لاجتماعه فللبطريرك أن يستدعي من يشاء من المطارنة لتشكيل الهيئة القانونية لذلك الخصوص.
المادة الرابعة والأربعون:
يعطى من صندوق البطريركية كل من المطرانين صاحبي الأبرشيات اللذين يطلبان لعضوية المجمع البطريركي والمجلس المختلط مبلغ عشر ليرات شهريا بمثابة مصاريف له، ويخصص لكل منهما محل لإقامته في دار البطريركية على نفقتها، وأما من يطلب فوق العادة فتعطى له المصاريف السفرية فقط.
المادة الخامسة والأربعون:
إن أحكام المواد السالفة تعتبر مرعية الإجراء أيضا حين خلو المسند البطريركي ووجود قائمقام بطريركي.
المادة السادسة والأربعون:
يعين البطريرك كاتبا للمجمع من طغمة الإكليروس، وعلى هذا الكاتب أن يضبط معاملات وقرارات المجمع، ويقدم لجانب الرئاسة جميع الأوراق والمعروضات المحالة من البطريرك ويحفظ جميع الأوراق المختصة بمعاملات المجمع وأحكامه، وأن يدون أعمال الجلسة وقراراتها في السجلات المخصوصة، ويوقع عليها. وهو مسئول عن صحتها وسلامتها. ويجب أن يكون أمينا وكتوما للسر.
المادة السابعة والأربعون:
للمجمع البطريركي ختم مخصوص منقوش عليه العبارة الآتية: «المجمع البطريركي الأرثوذكسي بالشام سنة 1906»، تختم به كل الأوراق والإعلامات التي تصدر منه ويحفظ عند الرئيس.
الفصل التاسع:
في المجلس المختلط.
المادة الثامنة والأربعون:
المجلس المختلط يتألف من أربعة أعضاء ورئيس بتذكرة مخصوصة من البطريرك؛ اثنان من أعضاء المجمع البطريركي واثنان من ذوي المعلومات والدراية والاختبار من الشعب بدمشق كلاهما من تبعة الدولة العلية حائزان الاعتبار والثقة وسن كل منهما لا يقل عن ثلاثين سنة ورئيس هذا المجلس يكون رئيس المجمع البطريركي.
المادة التاسعة والأربعون:
إن انتخاب العضوين العلمانيين يجري بالصوت السري من قبل المحكمة الروحية والقوميسيون الزمني تحت رئاسة الوكيل البطريركي بحسب الأصول، وعند جمع الأصوات يؤخذ للعضوية الاثنان المكتسبان الأكثرية ويحفظ جدول الانتخاب لحين الاقتضاء. أما مدة عضويتهما فسنة واحدة ويجوز تجديد انتخابهما.
المادة الخمسون:
عند الاقتضاء في غياب المجمع البطريركي يكلف البطريرك من المطارنة من يلزم لإكمال هيئة هذا المجلس.
المادة الحادية والخمسون:
يقتضي على كل عضو علماني أن يحضر المجلس أيام جلساته، وأن يعلم الرئاسة عن غيابه إذا عرض عذر مشروع لكي تستدعي بدلا منه المكتسب الأكثرية في جدول الانتخاب، بحيث تكون الجلسات دائما مكتملة الأعضاء.
المادة الثانية والخمسون:
للمجلس المختلط حجرة خصوصية في البطريركية وخزانة للأوراق والدفاتر والكتب المتعلقة، وجميعها باستلام الكاتب وعلى عهدته.
المادة الثالثة والخمسون:
يعين البطريرك للمجلس كاتبا براتب مناسب يعطى من واردات المجلس، ووظيفته كتابة أعمال المجلس والمحافظة على أوراقه وتنظيم الدفاتر اللازمة، ويكون مسئولا عن كل ذلك، وليس له رأي في قرارات المجلس.
المادة الرابعة والخمسون:
جميع القرارات التي تصدر من المجلس المختلط يجب أن يوقع عليها كل أفراد الهيئة وتسجل بعد ذلك في سجل خصوصي، وبعد أن يوقع عليها في السجل أيضا تصدر بصورة إعلان بتوقيع الرئيس والكاتب وبختم المجلس موضحا عليه استيفاء الرسوم.
المادة الخامسة والخمسون:
للمجلس المختلط ختم خصوصي منقوش عليه العبارة الآتية: «المجلس المختلط لبطريركية الروم الأرثوذكس بالشام سنة 1906»، تختم به كل الأوراق والإعلامات التي تصدر منه ويحفظ عند الرئيس.
المادة السادسة والخمسون:
المجلس المختلط يرى استئنافا كل الدعاوى التي حكم بها بداية في المحاكم البدائية الكائنة في مركز البطريركية وفي أبرشيات الكرسي الأنطاكي واستؤنفت وأحيلت إليه من جانب المقام البطريركي.
المادة السابعة والخمسون:
تراعى في معاملات المجمع البطريركي والمجلس المختلط أحكام قانون أصول المحاكمات المخصوص وسائر القوانين المعمول بها في دائرة الكرسي الأنطاكي، أما الرسوم الواجب استيفاؤها من أرباب الدعاوى فتكون بمقدار نصف الرسوم المقدرة من قبل دولتنا العلية في نظامها المخصوص.
الفصل العاشر:
في تركات البطاركة والمطارنة وسائر الإكليروس والرهبان.
المادة الثامنة والخمسون:
إن ما يخلفه البطريرك من أمتعة كنائسية وكتب وأثاث وعقار ونقود وأوراق مالية يترك كله للكرسي وقفا عليه والكرسي يلتزم حينئذ بدفع النفقات اللازمة بحسب الرسوم الكنائسية وبإلغاء دينه وبتنفيذ وصيته المطابقة للقوانين الكنائسية.
المادة التاسعة والخمسون:
إن ما يخلفه المطران ذو المنصب من أمتعة كنائسية وكتب وأثاث وعقار يلحق بأوقاف أبرشيته، وما يبقى من الأموال النقدية أو الأوراق المالية فبعد أن تؤخذ منها نفقات جنازته والحسنات اللازمة عن نفسه بحسب رسوم كنيستنا المقدسة، ومقدار الدين الذي ثبت بذمته يقسم الباقي بمعرفة البطريرك أو وكيله مع أعضاء المحكمة الروحية ومجلس الملة في أبرشيته إلى ثلاثة أقسام؛ الثلث إلى البطريرك والثلث إلى الورثة من أقربائه والثلث الثالث يشترى به أملاك يعود نفعها على أعمال الخيرية في وطنه.
المادة الستون:
فور وقوع وفاة البطريرك يصير الختم على متروكاته من قبل المجمع البطريركي إذا كان ملتئما، والوكيل البطريركي وقومسيون الملة وعلى متروكات المطارنة في الأبرشيات من قبل المحكمة الروحية ومجلس الملة في مركز الأبرشية. وعند عدم وجود مجلس فمن قبل وجهاء الشعب. أما متروكات المطارنة الفخريين فيختم عليها من قبل البطريرك إن كان ذلك في المركز البطريركي أو من قبل الرئاسات الروحية المحلية حيثما وجدوا. وأما متروكات رؤساء الرهبان ورئيسات الراهبات فيختم من قبل رهبنة الدير ريثما يعرف الرئيس الروحي المتولي على ذلك الدير. وأما على متروكات الرهبان والراهبات المنتمين إلى الأديرة فمن قبل رؤسائهم ومتقدمي الرهبنة بالاشتراك أو ممن يوكلون من قبل رؤسائهم الروحيين إن توفوا بعيدين عن أديرتهم. وأما الرهبان الموجودون في خدمة البطريرك أو في خدمة المطارنة أو المقيمون في دوائرهم الروحية فيختم على متروكاتهم من قبل البطريرك أو المطارنة أو وكلائهم.
المادة الحادية والستون:
جميع متروكات رهبان الأديرة ورؤسائها على اختلاف درجاتهم والراهبات ورئيساتهن تعود للأديرة المنتمين هم إليها ما لم تكن لهم وصية قانونية، فتراعى حينئذ شروطها. وهذا أيضا يشمل الرهبان والراهبات الذين يتوفون وهم داخل الدير والذين يموتون بعيدين عنه حالة كونهم منتمين إليه. وأما الرهبان على اختلاف درجاتهم فالذين يتوفون وهم في خدمة البطريرك أو خدمة المطارنة أو في دوائر أبرشياتهم فكل ما يخلفونه تؤخذ منه نفقة جنازهم والحسنات اللازمة عن نفوسهم وتوفى ديونهم، ويقسم الباقي منه إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: لمن يوجدون في خدمته بطريركا كان أو مطرانا، والثاني: للورثة من أقربائهم، والثالث: يشترى به أملاك يعود ريعها على المحلات الخيرية في أوطانهم، وإن وجدت لهم وصية قانونية فيعمل بها.
المادة الثانية والستون:
بعد تسمية القائمقام البطريركي ينتخب المطارنة الموجودون في دمشق اثنين منهم، وينتخب القومسيون اثنين من أعضائه ويباشر الأربعة تحت رئاسة القائمقام البطريركي تحرير تركة البطريرك المتوفى ورؤية حسابات البطريركية من واردات ومصاريف عن مدة بطريركيته، وحينئذ تفض الأختام بحضور الذوات الذين ختموها وتباشر هذه اللجنة عملها، ويجري بعد ذلك تنفيذ المعاملات المتعلقة بالتركة بحسب مفاد المادة الثامنة والخمسين بمعرفة الهيئة ذاتها. أما المحررات والأوراق فتحفظ مختومة لتسلم إلى البطريرك الجديد. وأما باقي التركات فيصير تحريرها ورؤية حساباتها وتنفيذ معاملاتها بحسب مفاد المادتين التاسعة والخمسين والستين بمعرفة من ختموا عليها ومعرفة الرئاسات الروحية.
المادة الثالثة والستون:
تحرير تركات العوام وتصفيتها وتوزيعها على الورثة الشرعيين ونصب الأوصياء على القصر والمعتوهين، وحفظ نصيب هؤلاء ونصيب الغائبين غيبة منقطعة ومحاسبة الأوصياء وتنفيذ وصيات المؤمنين يجري العمل بشأنها وفقا للأصول المتبعة ولمقتضى البراءة الشريفة والامتيازات المذهبية بمعرفة البطريرك والمطارنة في دائرة كل منهم.
الخاتمة: المادة الرابعة والستون:
يجري العمل بموجب أحكام هذا القانون من كل من يناط به، وإذا دعت الحاجة في المستقبل لتعديل أو إضافة مادة ما عليه فيجري ذلك برأي مجمع الكرسي البطريركي الأنطاكي المقدس.
انتهى في 31 أيار شرقي من سنة 1906 في قاعة البطريركية. فصدق على هذه النسخة من قبلنا نحن الموضوعة إمضاواتنا وأختامنا أدناه في 21 آب شرقي سنة 1906 في قاعة البطريركية العامرة.
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
غريغوريوس
مطران حماة وتوابعها
غريغوريوس
مطران اللاذقية وما يليها
أرسانيوس
مطران جبيل والبترون وما يليها
بولس
مطران بيروت وتوابعها
جراسيموس
مطران عكار وما يليها
باسيليوس
مطران كيليكيا
ألكسندروس
مطران صيدنايا ومعلولا وزحلة وتوابعه
جرمانوس
الفهارس
سلسلة البطاركة
1453-1928 (139) دوروثيوس الثالث 1497-1523. (140) ميخائيل الخامس 1523-1541. (141) دورثيوس الرابع 1541-1543. (142) يواكيم الرابع 1543-1576. (143) ميخائيل السادس 1577-1581. (144) يواكيم الخامس 1581-1592. (145) يواكيم السادس 1593-1604. (146) دوروثيوس الخامس 1604-1611. (147) أثناسيوس الثالث 1611-1619. (148) أغناطيوس الثالث 1619-1634. (149) أفتيميوس الثالث 1635-1636. (150) أفتيميوس الرابع 1636-1648. (151) مكاريوس الثالث 1648-1672. (152) نيوفيطوس الأول 1674-1684. (153) أثناسيوس الرابع 1686-1694. (154) كيرلس الثالث 1694-1720. (155) أثناسيوس الرابع 1720-1724. (156) سلفسترس الأول 1724-1766. (157) فيليمون الأول 1766-1767. (158) دانيال الأول 1767-1791. (159) أفتيميوس الأول 1792-1813. (160) سيرافيم الأول 1813-1823. (161) مثوديوس الأول 1873-1859. (162) أيروثيوس الأول 1850-1885. (163) جراسيموس الأول 1885-1891. (164) اسبيريدون الأول 1892-1898. (165) ملاتيوس الثاني 1899-1906. (166) غريغوريوس الرابع 1906-1928.
अज्ञात पृष्ठ