لم يكن عشماوي حتى ذلك الحين قد تحرك من مكانه، خديجة رأت وعرفت، فلماذا يبذل أي جهد؟ كثيرا ما بذل من جهد، وكثيرا ما حاول أن يبذل، لكنها الآن عرفت، جاءت بقدميها وعليها أن تتحمل النتيجة، هي امرأة مهما كان الأمر وهو ما زال الرجل، ربما لم تره في وضع الرجل تماما لكنه لا زال بالنسبة إليها الرجل، ليس أي رجل وإنما موظف محترم، مدير مكتب السيد الوكيل، لو أنها جاءت إلى مكتبه في أي وقت من النهار لرأت بعينيها كيف ينحني له الموظفون صغارا وكبارا، كيف يستأذن منه مديرو العموم قبل أن يدخلوا إلى السيد الوكيل، كيف يستطيع أن يطلب أي واحد منهم بالتليفون. حين تخرج عشماوي في معهد المعلمين، كان عليه أن يختار بين وظيفتين: أن يكون مدرسا في مدرسة، أو أن يكون سكرتيرا خاصا لأحد المديرين، ورفض أن يكون مدرسا، ما قيمة مدرس؟ يعيش مدرسا ويموت مدرسا أو على الأكثر ناظر مدرسة؟ أما أن يكون سكرتيرا خاصا لأحد المديرين فهذا هو الطريق المفتوح، أن يلتصق بأحد الكبار كما تلتصق القملة بجلدة الرأس. كل الذين وصلوا قبله من الموظفين كانت لهم صلة وثيقة بأحد الكبار، وهل هناك صلة أوثق من أن يكون سكرتيرا خاصا؟
وكان عشماوي من ذلك النوع من الناس الذي صنع وتشكل ليكون سكرتيرا خاصا، نوع لا تكون له شخصية خاصة أو تفكير خاص أو رأي خاص أو حياة خاصة، بل أيضا ليس له جسد خاص وإنما هو كتلة هلامية شفافة كلوح زجاج يظهر من خلاله الشخص الآخر، كمرآة تعكس الصورة، إنه دائما صورة لشخص غيره، صورة طبق الأصل لكنها ليست الأصل أبدا.
ولم يكن عشماوي يعرف تماما ما هو عمل السكرتير الخاص، لكنه كان يعتقد أنه لا بد أن يلعب دور «البودي جارد»، أو أن يصنع من جسده درعا واقية للسيد المدير أو السيد الوكيل من بعد؛ أن يحول جسده بينه وبين الناس، أن يقف حوله في كل اجتماع، وأن يصنع من مكتبه مصفاة ثقوبها واسعة لا تبقي إلا أشخاصا معينين لهم حجم معين ووزن معين، يتدرب السكرتير الخاص على معرفة لهجتهم في التليفون، ومشيتهم حين يدخلون عليه المكتب، وطريقة وضع السيجارة في الفم وتحريكها من زاوية، وطريقة كلامهم خاصة حين ينطقون اسم السيد الوكيل مثلا قائلين «ماجد بك»، إن طريقة نطقهم لكلمة «بك» ليست طريقة مرءوس لرئيس، وإنما هي طريقة ند لند، و«بك» ل «بك»، وأحيانا لا يقولون ماجد بك وإنما الأستاذ ماجد، أحيانا يكتفي بعضهم بأن يقول ماجد «حاف» إمعانا منه في أن يفهم السكرتير الخاص درجة الألفة بينه وبين السيد الوكيل، أشياء كلها صغيرة تحتاج إلى ملاحظة دقيقة تعود عليها عشماوي وأصبح يتقنها إتقانا شديدا، وقد أدرك بعد شيء من الخبرة أن عمله لا يزيد عن مجموعة من الطقوس الصغيرة، والصغيرة جدا، لكنها هامة بل هامة جدا؛ كأن يكون هناك دائما أمام باب السيد الوكيل اثنان من السعاة في وضع الاستعداد دائما، قبل أن يخرج السيد الوكيل أو قبل أن يدخل لا بد وأن تحدث الانتفاضة ثم الانتصابة في ظهريهما الاثنين في وقت واحد، والذراع ترتفع في نفس اللحظة، والأصبع الكبير يلامس الجبهة، وقبل أن يعلن السيد الوكيل عن خروجه تكون العربة السوداء في منتصف السلم تماما، والسائق في وضع الاستعداد واقفا فاتحا الباب الخلفي بيده اليسرى، ويده اليمنى متأهبة للارتفاع في اللحظة التي تهل فيها صلعة السيد الوكيل على أول درجات السلم.
أما حين يكون السيد الوكيل مستقرا في مكتبه، فهناك أشياء أخرى صغيرة ودقيقة جدا أصبح عشماوي يتقنها، أصبح يفهم معنى أي حركة تصدر عن أي عضو من أعضاء السيد الوكيل دون حاجة إلى كلام، هزة الرأس مثلا أصبح يفهمها على الفور، وهزة الرأس ليست هي هزة الرأس في كل الأوقات والأحوال، هناك الهزة التي تعني أن السيد الوكيل مغتبط، وهناك الهزة التي تعني أنه غير مغتبط، وهناك الهزة التي تعني أن عشماوي يجب أن يظل باقيا موجودا جاثما فوق صدر الزائر بكل حجمه وكثافته، وهناك الهزة التي تعني أن عشماوي يجب أن يخرج.
وأصبح عشماوي خبيرا، وحينما انتقل من مكتب المدير إلى مكتب المدير العام، ثم إلى مكتب السيد الوكيل، لم يكن في حاجة إلى خبرة جديدة؛ فالأسلوب هو الأسلوب في كل مكان، واختصاصات السكرتير الخاص هي الاختصاصات، وتقاليد الموظفين هي التقاليد، وعلاقة الرؤساء بالمرءوسين هي العلاقة، وشخصية الموظف هي الشخصية؛ حمل وديع ناعم الصوت أمام رئيسه، وأسد مستأسد مرتفع الصوت أمام مرءوسيه، ولكل موظف حسب درجته مشية خاصة، وطريقة تدخين خاصة، وطريقة خاصة حين ينطق كلمة «بك»، وطريقة خاصة حين يمسك الدوسيه، حتى إن عشماوي أصبح يتعرف على درجة الموظف وكادره من مشيته وصوته وحركاته.
وقد أدرك عشماوي أن هناك ما هو أهم من الخبرة؛ ذلك أن يطيع الأوامر، خاصة كانت أو عامة. أحد المديرين كان يرسله صباح كل يوم ليوصل أطفاله إلى المدرسة، ومدير آخر كان يترك له «المدام» ليرافقها في جولاتها الشرائية، ومدير آخر كان يرسله إلى سوق التوفيقية لشراء لحم الأسبوع، ومدير آخر دفعه إلى التدريب على الشطرنج ليلاعبه في ساعات الفراغ، أما السيد الوكيل هذا فله هواية أخرى غريبة.
كان السيد الوكيل من ذلك النوع من الرجال الذي يظن بينه وبين نفسه أنه أكثر رجولة من أي رجل آخر، ربما لم يكن واثقا من ذلك كل الثقة، لكنه كان يريد دائما أن يثق بذلك كل الثقة، ولم يكن يعرف تماما ماذا يفعل ليتحقق له ذلك، ولكنه كان يحس كلما ظهر أمامه رجل برغبة عنيفة في إخضاعه، ولم يكن الإخضاع في نظره يعني الإخضاع العادي الذي يمكن أن يحدث بين رئيس ومرءوس، ولكنها رغبة طاغية في أن يسحق من أمامه، يسحق عقله ونفسه، بل وجسده أيضا بحيث لا يبقي له على شيء.
وكانت له طرق متعددة للإخضاع: مرة باللين ومرة بالشدة، ومرة بالعطاء ومرة بالحرمان، أحيانا كان يعطي ويغرق في العطاء حتى يستمرئ المرء لذة الحياة الرخية، وتتعود أليتاه على ركوب العربة الطرية كل يوم من البيت إلى المكتب، ومن المكتب إلى البيت، وتتعود زوجته على الشقة الجديدة والميزانية الجديدة، ويتعود هو على العلاقات الرفيعة وممارسة السلطة، ثم فجأة يهبط به إلى حيث كان، إلى ماهيته الأصلية بغير بدلات ودون حضور جلسات، إلى الانحشار في الأتوبيس كقطعة السردين، إلى التوقيع في دفتر الحضور والانصراف بالدقيقة، إلى أن يكون في مكتب مشترك بين أربعة آخرين وبغير تليفون، وبغير ساع على الباب.
وكان عشماوي قد خبر كل هذا وأصبح يعرف كيف يكسب على طول الخط في مقابل تنازلات صغيرة غير منظورة، تنازلات من ذلك النوع الغيبي أو المعنوي، تلك الأشياء التي تعارف الناس على تسميتها بالاحترام أو الرجولة أو الكرامة، وغيرها من الصفات المعنوية غير المحسوسة، وكان قد أدرك بغير شك أن مثل هذه الصفات لم تعد معنوية، لم ير في حياته رجلا فقيرا بغير سلطة حظي بشيء من هذه الصفات، كما أنه لم يكن يحس حين يتنازل عن شيء من هذا أنه يفقد شيئا، ربما أحس بطريقة خفية عميقة أنه يفقد شيئا، لكنه كان دائما في نظره شيئا صغيرا، وصغيرا جدا لا يزيد عن كونه إحساسا مبهما غير منظور، وحينما كانت تنازلاته تزيد عن كونه إحساسا مبهما غير منظور، وحينما كانت تنازلاته تزيد يوما بعد يوم، ومكاسبه تزيد بالسرعة نفسها، لم يكن يظن أن اليوم سيأتي حتما حين تزيد تنازلاته إلى حد كبير أكبر مما كان يتصور.
ولم يكن عشماوي يتصور أن ما حدث له سيحدث، وقبل أن يحدث لم يكن يتصور أنه يتنازل عن شيء كبير طالما أنه سيحدث في الخفاء ولن يدري به أحد.
अज्ञात पृष्ठ