कम उम्र ग़ज़ब
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
शैलियों
هذا اعتراف يؤدي، إذا ما صدقه القارئ، إلى استبعاد أية شبهة للتناقض بين مواقف هيكل القديمة والجديدة، وإلى تجريد سلاح كل من يحاول الإشارة إلى الاندماج والانسجام التام الذي كان قائما بين هيكل والسادات في وقت من الأوقات، وإلى إعطاء هيكل كل الحق في هجومه المتأخر على السادات، بعد أن كان من أقوى أنصاره.
ولكن، هل يفلح هذا الدفاع حقا في تبرئة هيكل من تهمة التناقض، والتقلب من عهد إلى عهد؟ في رأيي الخاص أنه لا يفلح.
ذلك لأن هيكل قد ارتكب في كتابه خطأ قاتلا، هو إشاراته الطويلة إلى الجوانب الشديدة السلبية في تاريخ السادات قبل أن يتولى الحكم، هذه الإشارات لو كانت قد صدرت عن كاتب محايد لم يرتبط بالسادات في أي وقت ارتباطا عضويا وثيقا، لكانت مصدرا عظيم القيمة للمعلومات عن عادات وممارسات حاكم مثير للكثير من الجدل، ولكن صدورهما عن هيكل بالذات يلحق به هو ذاته أفدح الأضرار؛ ذلك لأننا لن نجد عندئذ عذرا نبرر به تعاطف هيكل مع السادات «كإنسان» في السنوات الأولى من حكمه، أعني في وقت كانت فيه جميع عيوب السادات السابقة معروفة للجميع، فكيف تعاطف هيكل مع السادات كإنسان في الوقت الذي كان يعرف فيه عنه كمية هائلة من المعلومات تشينه إلى أبعد حد كإنسان؟ إننا لو شئنا الدقة لقلنا إن ما قاله هيكل، أخيرا، عن طفولة السادات وشبابه والسنوات التي قضاها «في ظل عبد الناصر» بكل ما اتسمت به من فساد ورشاوى واتصال بجهات مريبة وانتفاع من أثرياء العرب، كل ذلك لا يدين هيكل في تعاطفه بعد ذلك مع السادات فحسب، بل يدين عبد الناصر في قبوله شخصا كهذا ضمن المسئولين في حكمه، ثم وقوع اختياره عليه هو بالذات ليكون خليفة له، والأهم من ذلك أن هذه المعلومات تدين أسلوب الحكم الذي يسمح لشخص يتسم بكل هذه العيوب بأن يصمد طوال كافة تقلبات العهد، ثم يصعد إلى المرتبة العليا التي لا ينازعه فيها أحد، هذه كلها أمور واضحة، لا تشفع فيها كلمات هيكل التي حاول بها أن يخفف مرارة الحقيقة في الصفحات الأولى من كتابه.
ولكن يبدو أن هيكل لم يكن مرتاحا كل الارتياح إلى العذر الذي قدمه لقرائه، ولم يكن مطمئنا كل الاطمئنان إلى أنهم سيقتنعون به، وهكذا نراه بعد قليل يقدم عذرا آخر فيقول: «وأظن أيضا أنني لم أكن غافلا عن بعض أسباب القصور فيه، لكني تصورت أن أعباء المنصب ووقر المسئولية سوف تقوي كل العناصر الإيجابية في شخصيته، وسوف تساعده في التغلب على جوانب الضعف فيها. كان في ذهني باستمرار نموذج الرئيس الأمريكي هاري ترومان، الذي خلف فرانكلين روزفلت في مقعد الرئاسة الأمريكية قرب نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فقد بدا ترومان في ذلك الوقت، وبعد روزفلت، شخصية باهتة ومجهولة لا تستطيع أن تقود الصراع الإنساني الكبير في الحرب العالمية الثانية إلى نهايته المطلوبة والمحققة، ولكن ترومان، أمام تحدي التجربة العملية، نما ونضج وأصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين في العصر الحديث، ولقد تصورت أن نفس الشيء يمكن أن يحدث للسادات.»
هنا يواصل هيكل أسلوبه في مخاطبة الناس كما لو كانت عقولهم ملغية، فهو الآن يقول، مبررا تقلباته: نعم، لقد كنت أعرف أن في الرجل عيوبا، ولكني تصورت أن الحكم سيصلحه! ما الذي يرغمك على هذا التصور يا سيد هيكل؟ ألم يخطر ببالك الاحتمال الآخر، والأوضح، وهو أن الحكم والقوة ستزيده فسادا؟ وهل كانت مجموعة العيوب التي أحصيتها في مختلف مراحل حياته، من النوع الذي يمكن أن ينصلح تحت وطأة مسئوليات الحكم؟ إنك تتحدث عن تقوية العناصر الإيجابية في شخصيته، والتغلب على عناصرها السلبية، ولكنا لم نسمع منك، طوال الفصول التي تحدثت فيها عن السادات قبل توليه الحكم، ذكرا لأي عنصر إيجابي، فعلى أي شيء إذن كنت تعلق آمالك؟
أما قصة روزفلت وترومان، فهي أقبح عذر يمكن تصوره لأقبح ذنب؛ ذلك لأن أحدا لم يقل عن هاري ترومان إنه أصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين في العصر الحديث، فتاريخ ترومان يرتبط في الأذهان بقرار بشع استهل به حكمه، وما زالت الإنسانية تلعنه من أجله حتى اليوم، وهو قرار إلقاء القنبلتين الذريتين في هيروشيما ونجازاكي - وهما القنبلتان الذريتان الوحيدتان اللتان استخدمتا ضد البشر حتى اليوم. فهل هذا ما يقصده هيكل بعبارة «قيادة الصراع الإنساني الكبير في الحرب العالمية الثانية إلى نهايته المطلوبة»؟ أما في أذهاننا نحن العرب، فإن اسم ترومان يرتبط بتاريخ أسود ستلعنه من أجله كل أجيالنا التالية: هو القيام بأهم دور في قيام دولة إسرائيل، والاعتراف بها بعد خمس دقائق من إعلان قيامها، والضغط على أكبر عدد ممكن من دول العالم من أجل الموافقة على قرار الأمم المتحدة بشأنها. فهل هذه هي الأسباب التي أصبح من أجلها ترومان، في نظر هيكل، واحدا من أعظم رؤساء أمريكا في العصر الحديث؟ أستطيع، من وجهة نظري الخاصة، أن أعطي هيكل كل الحق في تشبيهه لأنور السادات بترومان، إذا كان المقياس الذي نتبعه هو مقدار الخدمات التي يؤديها الرئيس لدولة إسرائيل!
إنها، إذن، حجج لا تقنع أحدا، تلك التي ساقها هيكل لتبرير ارتباطه الوثيق بالسادات في السنوات الأولى من حكمه، ولم يكن اختياره أن يستخدم حججا متهافتة كهذه إلا حلقة أخرى في سلسلة التعتيم الفكري الذي يلجأ إليه أولئك الذين نشئوا وازدهروا وترعرعوا في ظل نظم حكم متسلطة، لا ديمقراطية، تستخف بعقول الناس وتستهين بذكائهم.
وحقيقة الأمر أن قصة ارتباط هيكل بالسادات أطول وأعقد من ذلك بكثير ... •••
هناك شواهد كثيرة وقوية على أن حكم عبد الناصر كان يضم، في سنواته الأخيرة على الأقل، «أجنحة» متنافسة ومتعارضة، كان هناك الجناح العسكري الممسك بقوة الجيش، والملتصق بالمشير عامر (شمس بدران وقادة الأسلحة المختلفة قبل 1967م)، وكان هناك الجناح التنفيذي الملتصق بعبد الناصر في عملية الحكم (سامي شرف، شعراوي جمعة، محمد فايق ... إلخ) وكان يقود هذا الجناح علي صبري، وكان هناك الجناح الهادئ، المتربص، الذي يحتفظ بعلاقاته بعبد الناصر بحذر شديد، دون التورط في ممارسات تثير المتاعب: أنور السادات، محمود فوزي، سيد مرعي، حافظ بدوي، وأكاد أجزم بأن هيكل كان ينتمي إلى هذا الجناح الأخير؛ فالشواهد قوية على أن هيكل كان من مجموعة أنور السادات قبل أن يتولى هذا الأخير الحكم بوقت غير قصير.
ويكفي، كمثال واحد للتدليل على ذلك، أن أستشهد بما قاله هيكل نفسه في مقاله الذي أشرت إليه في موضوع سابق: «ما أكثر الشجاعة في هذه الأيام على الغائبين!» فهو في هذا المقال يروي قصة اعتقال عبد الناصر لأحد المثقفين المرتبطين بهيكل في جريدة «الأهرام»، وكيف غضب هيكل ولازم بيته أياما دون أن يفاتح عبد الناصر في الموضوع. والذي يهمنا في هذا أن أنور السادات كان هو الذي اتصل به قائلا: «ما هذا الذي تفعله؟ إنك تترك الجو هنا لكل من يريد أن يستثير ويحرض.» ثم قال: «اتصل به (بعبد الناصر) فورا وتحدث معه بنفسك، ولا تترك المجال مكشوفا لآخرين.» وبعد يومين عاود السادات الاتصال بهيكل قائلا: «يظهر أنك جننت، لماذا تترك الأمر بينك وبينه لكل من يريد أن يتبرع بكلمة؟»
अज्ञात पृष्ठ