कम उम्र ग़ज़ब
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
शैलियों
إن قصة خلافة السادات لعبد الناصر، والاختيار المشئوم الذي حدث في أحد أيام 1969م، هي قصة فريدة من نوعها، ولقد كانت الرواية التي أوردها هيكل عنها مليئة بالمتناقضات والمفارقات التي تستخف بعقل القارئ وتهين ذكاءه، ولا أظن أن أحدا، حتى هيكل ذاته، يمكن أن يقتنع بهذه الرواية المهلهلة، وهنا يبرز سؤال هام: إذا كان تفسير هيكل لاختيار عبد الناصر للسادات مكشوفا في ضعفه إلى هذا الحد، فلما الذي جعله يلجأ إليه؟
أغلب الظن أن هيكل اضطر إلى ترويج هذا التفسير الهزيل؛ لأنه وجد نفسه أمام سؤال محرج، تسأله تلك الأجيال الشابة الجديدة التي تنظر إلى عبد الناصر على أنه أعلى نماذج الوطنية، والتي رأت بنفسها ما لحق بمصر والعرب من انهيار في عهد السادات، هذا السؤال هو: كيف اختار زعيم كبير كعبد الناصر خليفة مختلفا عنه في كل شيء مثل أنور السادات؟ ومما يزيد هذا السؤال تعقيدا، أن هيكل أكد بصورة قاطعة أن عبد الناصر كان يعرف كل شيء عن السادات، كان يعرف ماضيه مع القصر، وميله إلى الاستمتاع بحياته بكل الطرق في حاضره، وانبهاره بالأمريكان، أعداء الوطن العربي الألداء منذ عام 1967م على الأقل، وإذن يعود السؤال بإلحاح: كيف يقبل زعيم وطني أن يأتمن شخصا مناقضا له في كل شيء على وطنه من بعده؟ من أجل محاولة الإجابة على هذا السؤال المحرج، اضطر هيكل إلى أن يتحدث عن تعيين نواب رئيس الجمهورية «بالدور»، وعن «نسيان» الرئيس لنائبه في مكانه إلى أن خلفه بعد موته، أعني، بالاختصار، اضطر هيكل إلى أن يلفق إجابة لا تقنع أحدا.
وفي اعتقادي، أولا، أن هذا سؤال خطير وجوهري ينبغي ألا يقابل بأي استخفاف؛ لأنه يتعلق بمصير الأمة العربية كلها، الذي قامر به السادات على مائدة أمريكا بعد أن أعطاها 99٪ من أوراق اللعبة، ومن ثم فلا بد من أن نلح في المطالبة بتفسير له، وفي اعتقادي ثانيا أن من المستحيل تقديم إجابة مقنعة عن هذا السؤال في إطار الموقف الذي يمثله هيكل: أعني موقف الدفاع على طول الخط عن عبد الناصر، والهجوم على طول الخط على السادات؛ فلكي نجيب عن هذا السؤال الحيوي إجابة مقنعة، لا بد أن نكون أكثر تعمقا في تحليلنا من أن نتقيد بهذا الاستقطاب الناصري-الساداتي. وسأقوم، من جانبي، بمحاولة لتفسير هذه الظاهرة التي تبدو مستعصية على الفهم، آملا أن ينظر القارئ إلى هذا التفسير على أنه حافز للتفكير، من حقه أن يقتنع به أو لا يقتنع، ولكن من واجبه أن يفكر فيه بإمعان.
إن الزعيم الذي يحكم حكما غير ديمقراطي لا يقبل بجانبه إلا الأعوان الذين يطيعون، وينحنون ولا يعارضون، وحين يسود الطابع الفردي في الحكم، يظل الأعوان المحتفظون بكرامتهم والمتمسكون بآرائهم ومواقفهم، أو حتى أولئك الذين يخالفون الزعيم لمصالح شخصية؛ يظل هؤلاء يستبعدون واحدا بعد الآخر، حتى لا يبقى في النهاية إلا الرجل الذي يقول دائما: نعم. ولقد اقترب هيكل من الحقيقة دون أن يشعر حين قال، في نفس الفصل الذي اقتبسنا منه من قبل: «كما حدث من قبل، وكما سيحدث فيما بعد، فإن طبيعة أنور السادات المستعدة للخضوع أمام الأقوى كانت هي التي حكمت موقفه، كانت أحسن أيامه هي تلك التي كان يستطيع فيها أن يلتصق بشخصية قوية، وإذا كان هيكل قد قصد بهذه الشخصية القوية، في كلامه السابق، المشير عبد الحكيم عامر، فإن هذا الحكم يمكن أن ينطبق على مسلك السادات بوجه عام، وإن كان ذلك المسلك في نظرنا واعيا متعمدا، وليس مجرد تعبير عن شخصية ميالة للخضوع والالتصاق بالأقوياء.
كان السادات أذكى من الجميع؛ لأنه أدرك قانون اللعبة: اترك الزعيم يمارس قوته وإياك أن تقول له «لا» مهما فعل، ولكن ما ينبغي أن نتذكره هو أن هذا القانون يحتاج إلى طرفين: طرف يلتزم بالقبول والخضوع، وطرف آخر - هو الزعيم - يجعل مقياس قرب الناس منه هو مدى خضوعهم له، ومدى تخليهم عن إراداتهم الخاصة لكي يكون هو صاحب الإرادة الشاملة. فلكي ينجح «الأذكياء» ممن يجيدون فن طأطأة الرأس (حتى يعلو فيما بعد، كما تقول أغنية سيد درويش المشهورة)، لا بد أن يكون الطرف الآخر الذي يتعاملون معه من ذلك النوع الذي لا يستطيع أن يتحمل أي شخص يبدي استقلالا في رأيه؛ ولذا كان من المستحيل أن ينجح «أهل الطأطأة» مع أي زعيم ديمقراطي.
وليتأمل القارئ دلالة العبارة التي يقول فيها هيكل: «كان بيت السادات في الهرم هو المكان الوحيد الذي يستطيع فيه جمال عبد الناصر أن يذهب لكي يقضي بين حين وآخر ساعات مع صديق لم يكن يضغط على أعصابه بإثارة مناقشات سياسية أو عسكرية ملحة.» هكذا كانت «الراحة» هنا تكمن في أن يكون الصديق مطيعا لا يناقش في الأمور الهامة، بينما الذين كانوا يناقشون ويعارضون، في ظروف ما بعد هزيمة 67 التي كانت تقتضي إعادة النظر في كل شيء، هؤلاء لم يكونوا «مريحين».
وهكذا نصل إلى القاعدة الهامة التي تحكم عملية الخلافة على السلطة في الحكم غير الديمقراطي: إن الحاكم، نتيجة لانفراده بالسلطة، يشعر بأهمية القوة ويستأثر بها، وبالتالي لا بد أن يزيح من طريقه كل من يحاول الحد من هذه القوة عن طريق المعارضة، وكل من يرفض انفراده بالقرار، وهكذا يكون الضعيف الراضخ، هو الذي يبقى في النهاية بعد سلسلة التصفيات، وبعبارة أشد وضوحا، فإن ظاهرة السادات إفراز طبيعي للحكم المطلق، وأسلوب الحكم الذي انتهجه عبد الناصر كان لا بد أن يؤدي في النهاية إلى خليفة مثل أنور السادات.
وهنا تتضح لنا صفة تبدو على قدر كبير من الغرابة، ولكنها تفسر الموضوع الذي نحن بصدده تفسيرا كاملا: فالحاكم القوي يؤدي في هذه الحالة - بصورة حتمية - إلى الحاكم الضعيف، والمتشدد أمام قوى الاستعمار في الخارج والطبقات العليا في الداخل يفرز المهادن للاستعمار، الذي يستسلم أمام الطبقات العليا ويسير في ركابها، وبعبارة أخرى فإن كل مظاهر الاختلاف بين عبد الناصر والسادات لا تتعارض مع كون الثاني استمرار للأول ونتيجة طبيعية له، هذه حقيقة ينبغي أن نتنبه إليها جيدا؛ إذ إن من يسمع أحدا يتحدث عن وجود استمرارية بين عبد الناصر والسادات، يتصور أنه يقصد وجود تشابه بين العهدين فقط، ولكن حقيقة الأمر أن هناك استمرارية مع التضاد، أعني أن يكون الحاكم المهادن والمستسلم هو الامتداد الطبيعي للحاكم القوي المتشدد، على الرغم من كونه نقيضا له، بل «بسبب» كونه نقيضا له.
هذا هو التفسير الذي أعتقد أنه هو وحده القادر على الإجابة عن ذلك السؤال المحرج، المحير، الذي طرحناه من قبل، وأعني به: كيف يمكن أن يختار الحاكم الوطني، بنفسه، خليفة غير وطني، يأتمنه من بعده على أمته وهي تمر بأخطر مراحل حياتها، وتسعى بمشقة شديدة إلى التخلص من براثن عدوان جاثم على صدرها؟ فلنقل إن هذا، على الأقل، هو اجتهادي، ومن حق أي شخص أن يعترض علي، ولكنه سيكون ملزما بأن يقدم تفسيرا أفضل، يعلل جوانب الظاهرة كلها، وكل ما آمله هو ألا يبلغ به الاستخفاف بعقولنا حدا يجعله يكرر شيئا مما قاله هيكل في هذا الموضوع.
وسواء أكان التفسير الذي أقدمه مقبولا أم غير مقبول، فليتذكر القارئ دائما أن الهدف من هذا الحديث الطويل، بل من كل ما قلته وسأقوله في هذا الكتاب، ليس إحراج هيكل، ولا انتقاد السادات أو عبد الناصر، وإنما هو قبل كل شيء دعوة إلى التفكير في ذلك الجو العام الذي عاش فيه كل من شارك في مأساة العرب خلال العقود الأخيرة.
अज्ञात पृष्ठ