قبل أن يحوز نصره العظيم على الدانوب اقترف نابليون جريمة فظيعة؛ ذلك أنه كان قد تآمر عليه بعض ضباطه، ومنهم بيتيجرو ومورو، واكتشفت المؤامرة فزج الأول في السجن ونفي الثاني، ولكن ذهب ضحية هذه المؤامرة رجل برئ هو دوق أنجني من بيت كندي المشهور، اتهموه بالاشتراك في المؤامرة، على أن جريمته الحقيقية لم تكن إلا أنه كان من البربون الذين يكرههم نابليون. هناك قبضوا على الرجل وحبسوه في قلعة (فنسن) بعد محاكمة أشبه بالأضاحيك، ثم قتل رميا بالرصاص ودفن حيث كان، ولم يمض قليل بعد ذلك حتى أصدر المجلسان قرارا بجعل نابليون إمبراطورا على الفرنسيس، والظاهر أن الأمة لم تكن موافقة يومئذ على هذه التسمية؛ فإنه لما أخذ أصوات الشعب الفرنسي لم ينل نابليون إلا ثلاثمائة ألف صوت، على أنه لم يحفل بذلك، بل أعدت حفلة التتويج وصدر بها الأمر من سان كلود.
وكانت حفلة تتويج نابليون إمبراطورا حافلة؛ دعي إليها البابا (بيوس السابع) لإجراء رسوم التتويج في كنيسة (نتردام)، ولكن نابليون أبى أن يطأطئ رأسه للبابا عند التتويج، فأخذ التاج من حيث كان وألبسه رأسه، ثم ألبس زوجته (جوزفين) تاجها أيضا بيديه. (15) ملك إيطاليا، مايو سنة 1805
وكانت الجمهوريات الإيطالية قد اتحدت فيما بينها على تكوين مملكة تسمى بالمملكة الإيطالية، وقد تم ذلك لهم. دعي نابليون ليكون ملكا على هذه المملكة الجديدة، فسار إلى ميلان في أبهة الملك والعظمة.
ولما كان اليوم السادس والعشرين من شهر مايو دخل كنيسة ميلان وألبس نفسه تاج لمباردي الحديدي وهو يقول: إن الله قد وهبني هذا التاج، فالويل لمن يحاول لمسه بيديه. ثم جعل أوجني بوهارناس ابن جوزفين الذي تبناه واليا ونائبا عنه في مملكة إيطاليا. (16) واقعة الطرف الأغر سنة 1805
لما رأت بريطانيا والروسيا والنمسا أن نابليون قد هدد السلام العام في أوربا وخشيت منه على ممتلكاتها وعلى نفسها، اتفقت فيما بينها على مناهضة نابليون، ومن المؤرخين من يعزو هذا الاتفاق إلى نقض نابليون ما كان بينه وبين أكثر هذه الدول من العهود والارتباطات، فجهزوا جيوشهم وساروا لملاقاة جيوش نابليون برا وبحرا، فكانت الحروب في إسبانيا من طرف والنمسا من طرف آخر، وذهب الأميرال نلسون الإنجليزي إلى الطرف الأغر حيث المراكب الفرنسية فنشبت بينها موقعة تاريخية عظيمة تهشمت فيها مراكب نابليون والإنجليز أيضا، ولكن كان النصر في النهاية للأميرال نلسون العظيم، على أنه قضى نحبه في ساعة ذلك النصر. أما الجيوش البرية فلم تصادف من جيوش نابليون مقتلا، بل تعقبت جنوده جيوش المحاربين في إسبانيا وهزموهم هزيمة ألقت الرعب في قلوب أوربا جميعها، وسار نابليون يتعقب جيش (ماك) القائد النمسوي حتى اضطره إلى التسليم، وكان جيشه يربو على ثلاثين ألفا من الرجال (17 أكتوبر)، ثم سار الجيش الفرنسي بعد ذلك إلى ڤينا يقوده نابليون حتى بلغ أبوابها ففر الإمبراطور فرنسيس إلى مدينة (المتن). (17) واقعة أسترلتز سنة 1805
وحدث بين الجندين معركة دموية لم يعرف التاريخ قبلها ما هو أنكى وأشأم، تلك موقعة أسترلتز التي نال فيها نابليون النصر المبين. هنالك تقابل الجيشان وجها لوجه، وكان جيش النمسا - يعززه جيش قيصر الروس - ثمانين ألفا تقاتل مثلها من النفوس، فلما دقت الطبول مشى الملوك الثلاث: إسكندر الروسي وفرنسيس النمسوي ونابليون الفرنسي، كل يقود جيشه بيديه، وكان اليوم من أيام الشتاء في ديسمبر فلم تشرق الشمس وغشيت الأرض غبرة أشبه بغبرة الموت، فمشى نابليون بجيشه ومشى إسكندر بجنوده، فألقى نابليون على أجنحة الروس من جيشه ما ألقى فإذا صفوفهم خطوط كأنما هي على ورق ، فمن نجا منهم فقد شتتهم الرعب، حتى إذا وجدوا أمامهم بحيرة كان الثلج على ظاهرها حسبوها منجاة من الموت، فإذا نابليون قد أطلق أفواه مدافعه عليها تصب الحمم واللهب لتتطاير حتى أفنتهم عن آخرهم، والتقى بقية جيشه بالنمساويين فأجلوهم عن مواقعهم وتعقبوهم بالسيف والمدفع حتى لم يبق لهم على الأرض ظل. بذلك انتهت تلك الموقعة الدموية وتم النصر فيها لنابليون. فقد فيها الجيش المتحد ثلاثين ألفا من رجاله، وفقد نابليون اثني عشر ألفا، وعقدت بعد ذلك معاهدة في السادس والعشرين من شهر ديسمبر بين النمسا وفرنسا.
نابليون في واقعة أسترلتز. (18) جمهورية الرين
نشأ من ذلك النصر الذي ناله نابليون تغير عظيم في دستور ألمانيا، فرقى نابليون منتخب باڤاريا ملكا، ورقى منتخب ورتبرج ملكا أيضا، وجعل من كثير من حكوماتها الصغرى جمهورية سماها اتحاد الرين، وكان فرنسيس الثاني إمبراطور ألمانيا قبل ذلك في سنة 1804 قد سمى نفسه فرنسيس الأول إمبراطور النمسا، ولكن انفصال النمسا عن ألمانيا تم رسميا في سنة 1806، وهو اليوم الذي دالت فيه الدولة الرومانية المقدسة، ومن ذلك العهد ابتدأ نابليون يهب الممالك للناس، فقضى على نابولي في سنة 1806 وجعل أخاه يوسف ملكا عليها، ثم حول جمهورية بتافيا إلى مملكة سماها مملكة هولندة، وجعل أخاه لويز ملكا لها، وأطلق على نسيبه مورات، أشهر فارس ركب الخيل في أوربا في ذلك الزمان، جراند دوق إيالة برج. (19) واقعتا أوراستات وجينا سنة 1806
أهم ما في سنة 1806 ما حدث فيها من تذليل بروسيا. كانت بروسيا تمثل دورين مختلفين فنالت جزاء هذا الرياء؛ كانت تدعي أنها صديقة بريطانيا العظمى، على أنها لم تفعل شيئا للحصول على هانوفر من الإمبراطور مع علمها بأنه أعدى أعداء إنجلترا، وكان نابليون قد غير من سياسته نحوها؛ لأنه لم يكن محتاجا يومئذ إلى ممالأتها على السكوت، وكان قد ساءه من ريائها أمور فوجه إليها عساكره وحاربها في واقعتين في يوم واحد؛ هما أوراستات وجينا. هنالك قاتل عسكر البروسيين الذين كان فردريك الأكبر قد دربهم أبد نصف قرن على الأعمال العسكرية حتى كانوا مثالا للجندية إلى أن هزمهم الهزيمة التي جعلت بروسيا ذليلة تحت قدميه. (20) قرار برلين سنة 1807
لما كان نابليون في برلين التي دخلها بعد أسبوع من حدوث واقعة جينا أصدر قرارا مؤداه أن تقفل أبواب أوربا في وجه البضاعة الإنجليزية، وأعلن أن الجزائر البريطانية في عزلة تامة، كما أنه حرم على أوربا أن تكاتب إنجلترا في شيء ولا تعاملها مطلقا، وعد كل مصنوعات إنجلترا وحاصلاتها في حكم المهربات، كما أنه اعتبر الأملاك البريطانية نهبة محللة. وأصدرت إنجلترا من جانب آخر أمرا يحرم الاتجار مع فرنسا ومحالفيها، ولكن لم يكن يمكن استمرار العمل بتلك القرارات؛ لأنها كانت تحرم أوربا من كثير من ضروريات الحياة، لا سيما وأن مصنوعات إنجلترا من قطنية وحديدية وغيرها إنما كانت تعتمد عليها أوربا كل الاعتماد؛ لذلك كانت ترد إليها كلما استطاعت سفينة إنجليزية أن تقف في أي شاطئ من شواطئ تلك البلاد. (21) معاهدة تلست سنة 1807
अज्ञात पृष्ठ