هنا، في هذا المثال، مفرق الطريق بين أسلوبين في تقديم الأثر الفني إلى الجماهير: أسلوب يعتمد على الذهن «الفاهم»، وأسلوب يعتمد على الشعور «الذواق»، أو قل إنه اختلاف بين طبيعتين: طبيعة تتلقى الإثارة عن طريق الحس، وطبيعة تتلقى الإثارة عن طريق النفس، أو قل مرة أخرى إنه اختلاف بين مزاجين: مزاج يحلق بالتجربة المادية في آفاق الفكر، ومزاج يحلق بالتجربة النفسية في آفاق الشعور ...
وإنه لذلك الاختلاف الذي تبرزه الفوارق الدقيقة بين فنان تذوق الحياة منعكسة على الذات الشاعرة، وبين فنان فهم تلك الحياة منعكسة على الورقة الناقلة؛ ونعني بها النوتة الموسيقية التي نقل عنها لست فترة من حياة صديقه نقلا ذهنيا لا حرارة فيه.
اقرأ قصة «أم» لفرانسو مورياك، إنها قصة لا تطالعك بتلك الطاقة التحليلية الضخمة، التي تطالعك بها آثار كاتب مثل بلزاك أو دستوفسكي أو ستندال، ولا بذلك الفهم الواسع الذي يحيط بصور الحياة، ليفرغها بعد ذلك في إطار؛ ليس فيها شيء من هذا الذي أشرنا إليه، ولكن فيها الفنان الذي يعيش في موضوع قصته، ويتمثل التجربة تمثلا شعوريا لا غلو فيه، ويتذوق الحياة في لحظاتها النفسية النادرة، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق.
هناك لحظة من تلك اللحظات النادرة التي نعنيها في قصة مورياك، وقبل أن نقف بك عند تلك اللحظة، نلخص لك مضمون القصة بصراعه النفسي، وهو مضمون العلاقة «الخالدة» بين كل أم وكل زوجة ابن، تحتدم في أعماقهما المعركة حول الرجل الذي تربطه بالأولى روابط البنوة وبالثانية صلات الزوجية. هذا الرجل الذي يقف بين «العدوتين» موقف الحائر المتردد، الذي تتعرض حياته في كل وقت لهبوب العواصف والأعاصير. الابن هنا، وهو فرنان كازيناف، رجل ضعيف الشخصية مسلوب الإرادة، يعطف على زوجته ولكنه لا يستطيع أن يجهر بهذا العطف؛ خوفا من تلك الأم التي بقيت له بعد وفاة أبيه، وطبعته منذ صباه الباكر بطابع الخضوع والرهبة؛ فهو لا يستطيع أن يجادل ولا أن يعترض ولا أن يقف في وجهها عندما تتعقد الأمور. والأم كازيناف امرأة تحب ابنها برغم قسوتها عليه، وما كانت قسوتها تلك إلا نتيجة لهذا الحب، الذي تريد به الأمومة أن تملك وأن تتحكم وأن تستأثر، ولا يشاركها في هذا اللون من حب التملك إنسان. والزوجة، وهي ماتيلد كازيناف، فتاة لقيت من ظلم الحماة وإهمال الزوج وقسوة الحياة، ما ينوء به الطوق ويفرغ معه الصبر؛ ومع ذلك فقد صبرت واحتملت ، ولقيت متاعب العيش بالرضا القانع والصبر الجميل.
وتمضي القصة في طريقها لتصور لك أدوار الصراع، الصراع الذي انتهى بموت الزوجة بعد حالة وضع، قوضت من الجسد المتهالك آخر حصن من حصون المقاومة، أو آخر معقل من معاقل الكفاح، ولقد ماتت وحيدة، لا همسة عطف من الابن، ولا نظرة رثاء من الأم، ولا موعد لقاء مع رحمة القدر ... وحين انتهى كل شيء، وسكتت كل حركة، ودفنت في تراب الموت كل خصومة، استطاع فرنان كازيناف أن يصعد إلى حجرة الشهيدة، وأن يحس لذع الندم وأن يوجه إلى أمه كلمة عتاب.
ونلتقي باللحظة التي يصور فيها مورياك موقف النادم أمام الجثة الهامدة؛ تلك اللحظة النادرة من لحظات «التذوق» لمشهد من مشاهد الحياة منعكسا على صفحة الشعور. لقد وقف فرنان أمام جثة الشهيدة، وكأنه يقف أمام قديس ليعترف له بما جنت يداه، بما اقترف من إثم، بما حمل من ذنوب؛ ترى من أغمض عينيه كل تلك الأعوام فلم ير هذا الجمال؟ ومن أغلق قلبه كل تلك السنين فلم ينعم بهذا الصفاء؟ وهذا الطهر، وهذا الصبر، وهذا الإيمان، وهذه القيم الإنسانية من حال بينه وبينها، حتى لكأنه يبصرها لأول مرة، ويستشعرها لأول مرة وينكشف له منها في لحظة عابرة، ما غاب عنه فيما مر من أيام دنياه؟ ترى هل يستطيع أن يفعل شيئا لهذا الجسد، الجسد الذي احترق في موقد العذاب، وتألم، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ شيئا ولو كان صغيرا ضئيلا لا قيمة له، يشعره بأنه قدم إليه في رحاب الموت ما عجز أن يقدمه في رحاب الحياة؟ إنه يريد الآن أن يعبر للجسد الهامد عن عطفه، عطفه الذي لم يستطع أن يعبر عنه في يوم من الأيام، ولقد قدر له أن يعبر عن هذا العطف، حين خطر «لذبابة» هائمة أن تستقر على الوجه الحزين؛ لقد انتفض كالمصعوق ليرد العدوان الأثيم عن تلك البقعة «الآمنة»، البقعة التي لن يسمح بعد الآن بأن «تقلق» أمنها هجمات المعتدين.
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلا في قصة تحليلية، إن مورياك في هذه القصة كما قلنا لك، لا يطالعك بذلك «الفهم» الواسع، الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار، ولكنه يطالعك بذلك التذوق للحياة في لحظاتها النفسية، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق؛ تلك اللقطة النادرة في جملة عابرة، اللقطة المتمثلة في تصوير الندم والشعور به، وفي الإيحاء بالذنب والتكفير عنه، وتلك الزاوية الفريدة التي اختارها ليركز فيها ذلك الإيحاء، بلمسات قليلة موجزة قوامها «الذبابة الهائمة»، التي راح يدفع عدوانها عن الوجه الحزين؛ كل هذه القيم التصويرية التي ارتفعت بالمشهد النفسي إلى آفاق متسامية في فن القصة، نستطيع أن نلخصها في معنى واحد هو المحور الرئيسي، الذي ندور حوله منذ البداية، ونعني به التذوق الشعوري الكامل للوجود الخارجي، حين يتحول إلى تجربة داخلية كاملة في النفس الإنسانية.
أما عن الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلا في لوحة تصويرية، فارجع إلى اللوحة الثمينة التي رسمها جيرار لمدام ريكامييه، قف أمامها طويلا، وتأمل نظرة العينين في ذلك الوجه الساحر الآسر، إنها ومضة الأسى الدفين اللافح يشع من عيني امرأة؛ امرأة كانت وحيا ملهما لأقطاب الشعور والتصوير والأدب. إن جيرار لم يكن يعلم كل شيء عن قصة مدام ريكامييه، التي كان واقع حياتها أعجب من الخيال وأغرب من الأسطورة، هذا الواقع الذي لم يفهم كل الفهم سره العميق ولكنه تذوقه، حين أوحى التذوق إلى ريشته البارعة، أن تصور هذا الأسى اللافح في العينين الساحرتين.
لقد قدر لهذه المرأة الجميلة أن تتزوج من أبيها، الذي كان أحد الأثرياء في عصره، ولم تكن تعلم أن الزوج هو الأب، الذي انحدرت من صلبه وقضت كل أيام الحياة معه، وهي عذراء؛ أما هو فكان يعلم أنها ابنته، ولكن ظروفا قاهرة هي التي أملت عليه أن يقترن بها، وأن يعيش معها تحت سقف واحد، دون أن يعرف سره
1
अज्ञात पृष्ठ