साहित्य में शब्द

अनवर मकदावी d. 1385 AH
56

साहित्य में शब्द

كلمات في الأدب

शैलियों

إن أعنف ما يهزنا من موقف الإنسانية في لحظات الضعف، هو أن يتحول ضعفها النبيل إلى ذل رخيص وتافه؛ إذا كان الذين يحيلون ضعف الإنسان إلى ذل، رخصاء وتافهين!

على ضوء هذه الذروة التجسيمية يمكننا أن ننظر إلى مأساة عبد العال؛ إن الكاتب يرسب المأساة في نفوسنا ترسيبا عميقا عن طريق عملية التصوير المادية لحركة الموكب الثائر الشامت، موكب القرويين وهم يزفون بطل القصة، من داخل هذه «الحركة» لم نكن نرى وجه البطل، ولكننا كنا نستخلص الصورة الحقيقية لهذا الوجه من خلال الواقع الإيحائي، بكل ما يرتسم على قسماته من ذل صامت أو معبر. لقد استخدم الكاتب حركة الموكب كمجال خلفي كبير للصورة المرسومة، وفي نهاية الحيز الامتدادي لهذا المجال الخلفي الكبير، نرى اللمسات الأخيرة التي تكمل ما في الصورة من زوايا وأبعاد؛ عبد العال معروض أمامنا بواسطة موكب آخر يفترق عن الموكب الأول في كونه يعلق ولا يتحرك، موكب من النساء يكتفي بأن يزف بطل القصة مجموعة من الكلمات تمثل في جملتها وجهتين من وجهات النظر: «يعني كان حد قال له يروح يسرق الكفن؟ دول ناس آمنوه لأنه راجل طيب يقوم يعمل كده؟ والله ما تخافي إلا من الطيبين دول»؛ «هوه لو ما كانش طيب كان اتمسك؛ أولاد الحرام اللي بيسرقوا كتير، إنما ده كونه راجل طيب مسكوه» ... وجهتا نظر تقدمان إلينا الجوهر الحقيقي للطبيعة البشرية ممثلة في موقفين: موقف الذين يسيئون الظن بالإنسان، وموقف الذين يحسنون الظن بالإنسان!

ومرة أخرى نجد الأركان الفنية اللازمة للقصة القصيرة تكتمل بصورة ملحوظة في «الآخرون»، وهي العمل الثالث من أعمال هذه المجموعة. بطل القصة - وهو مراسل حربي لإحدى الصحف المصرية في معركة القنال - نموذج بشري يمثل نمطا من الأحياء في المجتمع المصري وكل مجتمع آخر ... نمطا يحدد اتجاهه السلوكي دافع واحد، هو حب الذات، الحب الذي ينكمش فيه «الأنا» بحرص بالغ داخل قوقعة الفردية، ثم تتضخم جدران الواقع ذلك التضخم الذي يحول دون رؤية العالم الخارجي، هناك حيث يقف الآخرون.

وبطل القصة - من خلال زاوية أخرى من زوايا صورته العامة - شخص يتحدث إلى الناس بلغة أخرى غير اللغة التي يتحدث بها إلى نفسه؛ إنه مع نفسه - حين ينفرد بها - شجاع لا يخشى الصراحة، ولكنه مع الناس؛ جبان تعيش مشاعره الحقيقية في الظلام، ومن هنا كان الدافع الرئيسي الذي حبب إليه دوره الصحفي في معركة القنال، هو أن يلقى هؤلاء الفدائيين عن طريق التسلل إلى حقيقتهم النفسية، ليعرف أي سر يكمن وراء المقامرة بحياتهم في سبيل هدف - هو بالنسبة إليه - غير منطقي وغير واضح. «إنه يفهم أن يكافح الإنسان من أجل سعادته؛ أن يناضل، أن يتألم، أن يشقى من أجل حياة سعيدة، أما أن يفقد الإنسان حياته فيها، فهذا ما لا يمكن تصوره بحال، هل هناك شيء أغلى من الحياة نفسها حتى يمكن أن نبذلها من أجله؟ يقولون الحرية! ولكن، ما هي الحرية؟ إنها إحدى حاجات الحياة، وحين نفقد الحياة، نفقد معها حاجتنا إلى الحرية، يقولون الحرية من أجل الآخرين، ولكن من هم الآخرون هؤلاء؟ إنه لا يكاد يحس بهم، وهم أيضا هل تراهم يحسون به؟ هل يحسون به إلا حين يحتاجون إليه؟ وهل يحس بهم إلا حين يحتاج إليهم؟ وحين يموت الإنسان؛ ماذا يبقى منه ليحتاجه الآخرون؟»

هذا التحليل الموفق الذي يرسم به الكاتب خط الاتجاه النفسي، لنمط إنساني معين يمثله بطل القصة، هو بمثابة عنصر التبرير الموضوعي لموقف البطل إزاء الحياة وإزاء الآخرين. إن الواقع الداخلي لمشكلة هذا النمط من الأحياء، هو واقع السلبية المطلقة التي تحول دون التعاطف الشعوري بينهم وبين الغير، وتحصرهم داخل وجود انعزالي، تفصله عن وجود الآخرين زحمة الدوافع الفردية، والكاتب أمام هذه الزحمة قد وقف واعيا ليختار، ليقتطع من جسم الواقع أهم منطقة نفسية، يمكن أن يجسم من خلالها المضمون الكلي للمشكلة؛ مشكلة السلبية المطلقة؛ وذلك حين وضع بطل القصة - وهو رمز النمط البشري المنعزل - تجاه حركة دفع إيجابية هدفها أفدح تضحية في سبيل المجموع!

إننا نرى البطل - في المرحلة التخطيطية للحدث - وهو يناقش أحد الفدائيين محاولا من وراء النقاش أن يتسلل إلى حقيقته النفسية؛ وفي تلك الأثناء تقبل عليهما عربة جيب إنجليزية ثم تقترب، ويطلق جنودها النار في هجمة مفاجئة؛ ويرد الفدائي بالمثل فيصيب العجلات وتتعطل العربة عن السير في منطقة مكشوفة؛ وتبدأ معركة ظالمة غير متكافئة؛ بندقية واحدة تناضل ضد مجموعة من البنادق، تحصن أصحابها وراء عربة الجيب، وأخيرا تتوقف البندقية الواحدة بعد أن عجزت عن الصمود في وجه سيل جارف من الرصاص، ويصمت الفم الذي تحدث حتى الثرثرة، عن عذوبة التضحية في سبيل الآخرين، ويتحول الحدث إلى موقف بالنسبة إلى المراسل الصحفي، ويتكشف الموقف عن سوء عملية تطوير إيجابية. «وفي هذه اللحظة كانت مشاعر محمود - المراسل الحربي - تعاني انقلابا هائلا؛ لقد بدأ يحس كأن حسن - الفدائي المصري - ليس شخصا آخر منفصلا عنه، وإنما يحس كأنه قد صار قطعة منه؛ ووجد نفسه يزحف إلى جواره، ويأخذ منه البندقية، ويغير مكانه قليلا، ويعاود إطلاق الرصاص، ولا يدري كيف حدث ذلك أيضا، لقد أحس كأن حمى هائلة تجتاح كيانه، وتكتسح أمامها كل خوف وتردد؛ وفجأة توقفت البندقية وأدرك أنه قد أصيب؛ إنه هو الآخر سيموت، ولكنه لم يمت بعد، إنه لا يزال حيا، إن حسن هو الذي منحه هذا القدر من الحياة، هذه اللحظات التي يعيشها الآن، وبدأ يدرك أنه هو الآخر يمنح الحياة أناسا آخرين، يحس بهم كأنهم أيضا قطعة منه ... ولأول مرة بدأ يدرك الصلة التي تربطه بهم، إنه يمنحهم الحياة التي يفقدها هو، إنه يتيح لحياتهم أن تستمر، أن تبقى، أن تمتد؛ وذاب في أعماقه شعور بالأسف، إنه يفقد الحياة بعد أن عرفها لأول مرة، وأدرك في قسوة أنه لم يعش قبل هذه اللحظات، لا بل كان يعيش؛ كان يعيش داخل قوقعة مظلمة، داخل ذاته، وحين انطلقت بعض الرصاصات وحطمت تلك القوقعة؛ بدأ يحس بالآخرين!»

إن القصة - كعمل فني - تصوير للواقع وتجسيم للمشكلة، ووراء التصوير والتجسيم شيء يريد أن يقوله لنا الكاتب؛ محمد أبو المعاطي أبو النجا يقول لنا هذا الشيء في كثير من أعماله الفنية، قاله لنا في «الطابور» وفي «حارس المقبرة»، كما قاله لنا في «الآخرون»؛ إنه هنا كما كان هناك صاحب رأي أو صاحب فكرة، وكل منهما - أعني الرأي والفكرة - يمكن أن يستخلصه الناقد والقارئ من أعماق المضمون الاتجاهي للمشكلة المعروضة. إنها خصيصة أخرى من خصائص المدرسة التشيكوفية، وكاتبنا - كتلميذ مجتهد في هذه المدرسة - يريد أن يقدم لنا هذا الرأي. إن مشكلة السلبية التي تمارسها بعض الأنماط البشرية في حياتنا لا يمكن أن تعالج بالنظريات، وإنما تعالج بكل وسيلة عملية. الانعزاليون لا يمكن أن نعلمهم معنى الارتباط بالحياة، إلا إذا دفعناهم دفعا إلى قلب الحياة، إلا إذا صهرناهم في بوتقة التجربة. الأنانيون لا يمكن أن نلقنهم دروس البذل والعطاء إلا على يد فئة معينة، فئة بلغت درجة الأستاذية في مدرسة التضحيات. فلنضع هؤلاء السلبيين أمام الإيجابيين وجها لوجه، ومن التقاء القطب السالب بالقطب الموجب، يمكن أن تندلع شرارة الإحساس بشرف الفناء؛ في سبيل المجموع!

والكاتب في عمله الفني الرابع: «خروج عن الموضوع»، يريد أن يقول لنا كعادته، هذا الشيء الذي يمكن أن نستخلصه عن طريق الإيحاء؛ إننا في هذا العمل الفني أمام «صورة» من حياة مدرس في مدرسة بنات، مدرس يضيف بخروج تلميذاته عن المعنى المحدود لموضوعات الإنشاء، هذا الخروج الذي كأن هناك يدا خفية ترغمهن عليه، ويجد نفسه - حيال الظاهرة المتكررة - أعجز من أن يصل إلى تفسير معقول. والعدسة اللاقطة تصور لنا تلال الكراريس، وعناء المهنة المرهقة، والملامح النفسية للتلميذات من خلال الموضوعات الإنشائية، وشخصية الأستاذ حسين المدرس كواجهة عرض تجسيمية لمجموعة المدرسين، وذكاء الملاحظة وهي مصبوبة في قالب المفارقة، حين يلتقط الكاتب مركز الصدام المضحك بين منطق الحياة ومنطق الأحياء. المنطق الأخير يفرض على الأستاذ حسين أن يطالب تلميذاته بعدم الخروج عن الموضوع، وحين يكتب الأستاذ خطابا لصديقه، يرغمه المنطق الأول - منطق الحياة - على أن يخرج هو نفسه وبلا إرادة، عن الموضوع. إن اتجاه المضمون يوحي إلينا بهذا الشيء الذي يريد أن يقوله لنا الكاتب: إن الحياة تعاملنا في كثير من الأحيان بمثل هذا المنطق؛ قد تكون لنا قيم معينة نحرص عليها، أو خط سير مستقيم نطالب الغير بأن يسلكه ونفرض على أنفسنا أن نسير فيه؛ ومع ذلك، فما أكثر ما ترغمنا يد خفية أو ظروف ضاغطة، على أن نخرج بلا إرادة عن موضوع حياتنا الذي اخترناه!

وإذا ما انتقلنا إلى العمل الفني الخامس في هذه المجموعة، واجهتنا «تجربة مع الموت». إن المضمون الاتجاهي في هذه القصة، كما هو في «الآخرون» التزامي هادف، قطاع من حياتنا في لحظة صراع بطولي من خلال معركة، عاشها كل منا بوسيلته الخاصة: الفدائي بروحه ودمه، والكاتب بوجدانه وقلمه؛ بطل القصة وهو خارج التجربة، كان قد رسم للموت صورة محددة الملامح مكتملة الخطوط، ولكنها - على الرغم من ذلك - لم تكن صورة حقيقية؛ ملامحها لم تكن مستمدة من الواقع المعاش، وخطوطها كانت تنطلق من جوانب الوجود الخارجي للموت. أما حين أصبح داخل التجربة في أعماقها، بين جدرانها المطبقة، فقد عجز عن تحديد موقفه العقلي والشعور إزاء الموت، وعجز تبعا لذلك أن يقدم إلينا صورته. إن صورة الموت ونحن خارج التجربة تعد نوعا من التصور ... أما ونحن داخل التجربة فإن الرؤية تتعذر، وتتعطل الحواس المهيأة لعملية التصوير.

هذه هي الدلالة الإيحائية التي نستخرجها من المنعطفات الاتجاهية للمضمون، كلون من الإضافة التفسيرية إلى المشهد الواقعي المكون من أحداث ومواقف. ولكن محمد أبو المعاطي أبو النجا يخطئ هذه المرة فنيا واتجاهيا، وهو يقدم هذه الدلالة الإيحائية إلى القارئ في بداية القصة. إن الإيحاء بالفكرة يفقد كل ما فيه من عوامل الإثارة، إذا لم يستخلصه القارئ أو الناقد من السلوك الموقفي للشخصيات؛ هذا السلوك الموقفي أشبه بمجموعة من الغرف المغلقة، على الكاتب أن يعطينا مفاتيحها وينصرف، وعلينا نحن بعد ذلك - ما دامت المفاتيح موجودة - أن نقوم بتلك المحاولة المثيرة؛ محاولة اكتشاف ما في الغرف المغلقة من محتويات نفسية. أما أن يسبقنا الكاتب إلى مثل هذا العمل، فماذا يبقى لنا ليثير فينا متعة البحث والتنقيب؟!

अज्ञात पृष्ठ