في محيط الشكل التعبيري؛ يمكننا أن ننسب بعض شعر الأخطل الصغير إلى المدرسة الأولى، وأن ننسب بعضه الآخر إلى المدرسة الثانية. وعندما نقول إنه ليس شاعر التجربة، فإنما نعني التجربة بشكلها الفني الناضج، كوليد كامل النمو لزواج الفكر بالحياة. إن عملية الارتباط التفاعلي بالوجود المقابل عند بشارة الخوري، تعتمد على حركة الحواس الخارجية اللاقطة، أكثر مما تعتمد على حركة المشاعر الداخلية المتأملة؛ وفي نطاق التخطيط الإطاري والموضوعي للقصيدة، نلمس بوضوح مدى تفوق اللوحة المرسومة على التجربة المعاشة، بل إن هذا التفوق ليبلغ من السيطرة ذلك الحد الذي تتضاءل معه التجربة، بحيث تبدو لنا هي نقطة ارتكاز بغير انطلاقات. وإذا ما نظرنا إلى الشعر على أنه مزيج متعادل من المعايشة الحسية والنفسية للوجود المقابل، فإننا نستطيع أن نكتشف جوهر التفاوت بين نجاح اللوحة وإخفاق التجربة في شعر الأخطل الصغير. وجوهر التفاوت بين المدرسة الأولى والمدرسة الثانية، عندما نذكر «الطلاسم» مثلا لأبي ماضي أو «الله والشاعر» لعلي طه، كنموذجين تطبيقيين لتلك العلاقة الزوجية بين الفكر الشعري وبين حقائق الوجود، ومدى ما توفر للتجربة من توازن الأبعاد الموضوعية المختلفة، في مجال انعكاس المد الخارجي على جدران الذات.
وإذا ما نظرنا إلى بشارة الخوري كواحد من شعراء المدرسة الثانية - بالنسبة إلى الشكل التعبيري واتجاهات المضمون الشعري - فإنه يؤكد لنا أصالته كوجه فني لا يعكس ملامح الآخرين. إنه هنا نسخة غير مكررة، لا تحمل طابع أبي ماضي ولا طابع علي طه، على الرغم من وحدة الخط التجديدي الذي يلتقي على امتداده الشعراء الثلاثة. إن من أهم القيم الفنية لشعرنا المعاصر، أن يكون لكل شاعر طعمه الخاص، ولونه المتميز وطابعه المستقل؛ إننا بذلك نضمن تنوع الشخصية الشعرية، على أساس من تنوع الأداء، حتى لا يستطيع شاعر واحد يمثل مركزية الطابع والاتجاه، أن يلغي من وجودنا الذوقي كل المتفرعين من نقطة البداية. ولقد قلنا يوما ونحن نشير إلى الفن الغربي، ممثلا في القصة واللوحة والقصيدة، إن النسخة الأصيلة هناك، تبهرنا دائما حيث لا تحدث ظاهرة التكرار والتقليد لشكلية العمل الفني وموضوعيته، مهما اتحد الاتجاه المذهبي عند الكتاب والشعراء والمصورين؛ جان بول سارتر وألبير كامو بينهما اتجاه وجودي في القصة، وبول إيلوار ولوي أراجون يجمع بينهما اتجاه يساري في الشعر، وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي يجمع بينهما اتجاه سريالي في التصوير، ومع ذلك فلن تجد واحدا من هؤلاء - في حدود الاتجاه المذهبي - نسخة مكررة من الآخر؛ إنهم جميعا يمثلون هذه الظاهرة الجميلة في تاريخ الفن، ونعني بها ظاهرة الاستقلال والأصالة.
هذه هي صورة الأخطل الصغير كشاعر مجدد، أما حين نلقاه كشاعر كلاسيكي من داخل الإطار الذي يضم صورتي شوقي ومطران، فإننا لا نستطيع أن نميز وجهه الشعري في زحمة الوجوه المتشابهة؛ ذلك لأن المجرى التعبيري العام لتدفق الطاقة الشعرية عند شعراء المدرسة الأولى، كان يعتمد على كثير من الروافد الجانبية للشعر العربي القديم، من هنا فقد شعر هذه المدرسة - وهي المدرسة التي اقتطعت جزءا من الوجود الفني والزمني لبشارة الخوري - جوانب مهمة من مفهوم التنوع الحاسم للشخصية الشعرية، وهو التنوع الذي لا يمكن أن يقوم إلا على أسس ثابتة من الاستقلال والأصالة.
ونعود بعد ذلك إلى مجموعة من نماذج التطبيق، لنكرر القول بأنه شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة. إنك في معرض هذا الشاعر الرسام، يواجهك عدد من اللوحات الوصفية، منها: «هند وأمها»، «سلمى الكورانية»، «الصبا والجمال»، «عمر ونعم»، «ندى ووداد». ونشير إلى هذه اللوحات؛ لأنها تمثل في مجال التعبير بالصور ملامح المدرسة التجديدية، وتقدم إلينا ذلك الطابع الاستقلالي المتميز، لواحد من شعراء المدرسة الثانية، ولنقف أمام لوحة رسمتها ريشة الأخطل الصغير:
أتت هند تشكو إلى أمها
فسبحان من جمع النيرين!
فقالت لها: إن هذا الضحى
أتاني وقبلني قبلتين
وفر فلما رآني الدجى
حباني من شعره خصلتين
अज्ञात पृष्ठ