وكان حمزة ينظر إلى الرجل وترحيبه ووجهه الجاف الأسمر الخشن الذي جمده البرد، وذقنه النابتة وشاربه، وعينه الحولاء التي يخيل للإنسان أنها ليست في محجرها كالعين الأخرى، وإنما موضوعة بطريقة ما فوق طرف شاربه، وكأنها الكرة الأرضية التي تدور ويحملها قرن الثور. كان حمزة ينظر وهو يراقب فم الرجل الواسع يتفتح عن الكلمات المصرية الحلوة التي صنعتها إنسانية شعب عريق، الكلمات التي قد لا تصفى على الربع ولكنها رائعة في نفسها وكأنها رسل محملة بالدفء والسلام. كان قد أمضى ساعات طويلة وهو غريب بين مصريين، مبعثر مشتت في الأزقة والحواري، فكأن للكلمة الواحدة التي فيها نبض من ترحيب أو احتفال فعل السحر، فما باله وهو يرى في وجه الرجل فرحة حقيقية بلقائه وترحيبا به أيما ترحيب؟
وقال حمزة وهو منفعل: الله يسلمك يا عم اسماعين، والله إنك وحشتني قوي، إنت وسيد، هو فين أمال؟
فرد أبو دومة ولا تزال يده في يد حمزة: أنت مادريتشي حاصل ايه.
وسقط قلب حمزة فجأة وسأله بلهفة: لأ، حصل إيه؟
ورد ابو دومة في تأثر: مش الواد يسيبنا هنا كده وحنا كنا ع الخير والشر سوا ويروح يشتغل في الوابور، الله يخزي شيطانه البعيد، طب تصدق بإيه؟ والله إن سيد محمد إبراهيم ده جاني زي ما جيتني جنابك كده من كام شهر: سلام عليك يا عم سماعين. قلت له سلام ورحمة الله وبركاته، قاللي عايز آكل عيش. قلت له والنبي إن ما أكلتك بإذن الله فطير ما أبقى سماعين أبو دومة. - والوابور دا فين يا عم اسماعين؟ - إنت من غير مؤاخذة رحتش سجن مصر. - ليه يا عم اسماعين؟ - أهو بيشتغل في الوابور اللي وراه على طول، يعني من غير مؤاخذة تخش السجن كده يبقى هو على يمينك على طول. - وقاعد فين أمال؟ - حد عارف له حتة، أهو مطرح ما بييجي عليه الليل بينام، باينه بيبات في الوابور، باينه بيروح عند قرايبه محدش عارف، حمدالله على السلامة يا سعادة البيه، أنا وسيد واحد، كلنا اخوات، أنا والله سيد ده كنت أعزه زي الأسطى حودة تمام. - الاسطى حودة مين؟ - ابني لا مؤاخذة، أنا وسيد مافيش فرق، هو كويس كويس إنما لا مؤاخذة أصل شغلنا ده عايز صبر وطولة بال، ليه؟ يوم فيه وعشرة مافيش، واللي بيروح أكتر من اللي بييجي، وسيد مالوش خلق، نفسه ضيق، ما يقدرشي يستحمل، ما يستحملهاش إلا اللي زينا كده واخدين ع الشقى، ألف حمدالله على السلامة، أنا وسيد واحد، كلنا اخوات.
وكان حمزة في ذلك الوقت يختنق في واد ضيق؛ فقد انهارت فجأة آمال رحلة طويلة عريضة، والعمل؟
ووقف يقضم أسنانه وأظافره ويداري حنقه عن أبو دومة ويتركه يتكلم. - تعرف بعد ما مشيت سعادتك جاني حتة داكتور زي السكرة تمام، قاللي يا عم سماعين أنا جاي ع السمعة، إنت جنابك زعلان ليه كده كفى الله الشر؟ خير؟ هو لا مؤاخذة حصل حاجة؟ - لا، أبدا يا عم سماعين. - ولا يهمك، والله من يوم ما مشيت من هنا وأنا مشغول عليك وعلى الأسمنت. - إيه؟ - إزي الأسمنت؟
ودارت رأس حمزة دورات كثيرة قبل أن تستقر على ما يقوله أبو دومة.
الأسمنت؟
كيف عرف؟
अज्ञात पृष्ठ