وجلسا إلى المائدة في انتظار هلال «الصينية»، وكان حمزة ساخطا على ذلك التأخير؛ فقد كان يريد أن ينتهي الغداء بسرعة حتى يغادر بدير الشقة مبكرا بعد الظهر ليكون أمامه متسع من الزمان والمكان لما قرر أن يقوم به.
ولكن بدير لم يزعجه التأخير بل بدا مستريحا إليه، ولا يهمه إن لم تأت أم عبده أبدا، وكان هذا غريبا.
وزالت الغرابة حين جاءت الصينية وتناولا الغداء، واقتربت الساعة من الرابعة، ولم يبد على بدير أية علامة تشير إلى أنه يود التحرك من مكانه، وحين سأله حمزة مذكرا إياه بميعاد المكتب قال وكأنه يفضي بشيء مفروغ منه: والله مكسل النهارده، مش رايح، مليش نفس، إيه اللي الواحد خده يعني؟ الصبح في المحاكم وبعد الظهر في المكتب، نفسي في يوم كده ما أروحش، نفسي كده، حيجرى إيه؟ حتخرب الدنيا؟ أقله الزباين تعرف قيمة الواحد، مش رايح.
وكان عناده هذا الذي يشبه عناد الأطفال مثار ضيق شديد لحمزة، فمع أنه لم يكن بينه وبين فوزية أي ميعاد إلا أنه كان يعتقد تماما أنها لا بد قادمة في الخامسة من ذلك اليوم، ليس هذا فقط، بل إن ما سوف يدور في تلك المقابلة خطير خطير، وإذا بالأستاذ بدير هكذا وبدون مناسبة يحرن.
وحاول حمزة بشتى الطرق أن يثنيه عن عزمه هذا وأن يجمل له الخروج ويبتكر له محاسن لا يتصورها في عمل ما بعد الظهر، ولكن بلا فائدة.
وانتهت المحاولات بحفيف الأقدام الذي دق له قلبه بشدة هذه المرة، وبالشبح الحبيب يبدو على زجاج الباب، وكالعادة وقبل أن تدق الجرس كان حمزة يفتح وكانت فوزية أمامه متعبة مبتسمة، في ابتسامتها الحياة وحتى في تعبها نشاط ما بعده نشاط ، ولاحظ حمزة بريقا غريبا جديدا في عينيها.
ودخلت وارتبك بدير ولم يستقر في مكان واحد، غادر الحجرة وما كاد حمزة ينفرد بها لحظات حتى كان قد عاد وعلى فمه ابتسامة وجلس دون أن ينطق حرفا، ثم قام وعاد بعد قليل بزجاجة عصير الفواكه المثلجة والاعتذارات المرافقة لها وجلس، وقبل أن يحدث شيء آخر قام حمزة وغاب وترك بدير صامتا مع فوزية الصامتة هي الأخرى، وعاد يحمل الصينية وينقل قدميه باحتراس والقهوة يتصاعد بخارها من الكوبين والفنجان الصغير الذي كان قد صنعه لبدير.
وما كاد يضع الصينية حتى قال بدير من فوره: تسمعي فريد الأطرش، عندي كل أسطواناته؟
فأجابت فوزية في شيء قليل من الامتعاض: لا، إذا كانت عندك حاجة كلاسيك يبقى أحسن، ولو إني ...
وأرادت أن تقول شيئا ولكنها سكتت.
अज्ञात पृष्ठ