وعند محطة الرمل وجدنا مظاهرة كبيرة ممتدة من المحطة إلى شارع سعد زغلول، ولأول مرة كنت باشوف مظاهرات مش فيها طلبة وبس، إنما فيها طلبة وناس كبار وناس بجلاليب وتجار وكمسارية ترماي وعمال وأولاد من اللي بيلموا سبارس ويمسحوا جزم وصبيان ورش، الأولاد اللي بيقولوا عنهم الغوغاء، ومرت المظاهرة بكشك استعلامات إنجليزي كان مبني بالأسمنت المسلح وأصبح مكانه الآن منتزه، مرت من أمام الكشك، وكانت له شبابيك بتطل على محطة الرمل وعليها يفط مكتوبة بالانجليزي تحمل تعليمات إلى العساكر، بعض الأولاد اللي بيمشوا دائما على حواف المظاهرات حاولوا خلع يافطة فمنعهم الرجالة الكبار، إنما كما يحدث في مثل هذه الأحوال الناس وقفت والتفت حول الكشك، وانتبه الناس له وكأنهم لم يروه من قبل، وكانت نتيجة توقف المظاهرات إنها تفرقت حول الكشك فحاصرته، أنا كنت في الناحية البعيدة عن شارع سعد زغلول، فسمعت من الناس إن الكشك فيه سلاح، وإن الواحد ممكن يدخل ويشيل زي ما هو عايز، وحكاية السلاح دي عندي حساسة جدا؛ فمثلا أنا مرت علي فترة أيام أن كنت في توجيهي وأولى جامعة كنت عاوز مسدس وبس، كانت كل حياتي متبلورة في حصولي على مسدس، مش المهم أستعمله في ايه المهم كنت عايز مسدس وبس، وسمعت مرة أنا وأمين إن مصر الفتاة بتصرف مسدسات لأعضائها، فاتفقنا أن يدخل هو فيها فإذا أعطوه مسدس أدخل أنا أيضا، وتستطيعي أن تتصوري مبلغ شوقي ورغبتي في دخول الكشك في تلك الساعة عشان أقدر أحصل على مسدس، الميدان كان ساعتها مليان ناس، عدد كبير جدا من الناس، وما شعرت بنفسي إلا وأنا بابحث عن باب الكشك، لقيته ولقيت ناس داخلين فيه، دخلت، دخلت كده من غير أي تفكير ولا عقل، كان فيه إحساس غريب كبير بيحركني، الكشك من جوه كان مظلم، وكان الواحد أول ما يدخل يلاقي أوضة كبيرة واسعة من غير شبابيك، وفيه باب بيؤدي إلى أوضة تانية جوانية، ويدوبك أصبحت في وسط الأودة البرانية ومعايا ناس إلا وسمعنا أصوات غامضة، تك، تك، تك، سريعة وورا بعضها، أنا عمري ما سمعت مترليوز بيضرب، وماكنتش أتصور إن صوته لما يضرب بيكون واطي كده، شعرت برهبة شديدة، وجدت الناس خارجين من الأوضة الجوانية جري، وبعضهم بيقع على الأرض وينام، وبعضهم بيصرخ وكل اللي قادر يجري بيجري، فجريت خرجت برة وفضلت أجري بعيد عن الميدان والحتة كلها لغاية ما طلعت على الكورنيش وأنا مذهول ومش فاهم حاجة ومش عارف حاجة، اعتقدت إني لازم أصبت ولسة لم أشعر، وأنا كنت سمعت إن الواحد لما بيضرب بالرصاص لا يشعر بإصابته في الأول، فتشت جسمي كله لقيتني سليم، ومن غير ما أدري لقيت نفسي راجع للميدان، ولقيته ساعتها منظره رهيب جدا، الكشك ولو أنه كان كشك استعلامات كل ما فيه أشغال مدنية، إلا أنه كان فيه أربع عساكر إنجليز ومعاهم أربع مترليوزات وقاعدين مستعدين في الأوضة الجوانية من الصبح، ومنتظرين الناس لما يدخلوا عليهم فيروحوا فاتحين عليهم المدافع.
فلما الناس جريت ومات اللي مات واتعور اللي اتعور، العساكر خافت وراح كل واحد منهم مصوب مدفعه من شباك ونازل ضرب في الناس اللي في الميدان علشان يبعدهم عن الكشك، وفي دقيقة كان الميدان اللي كان بيموج بالناس فضي خالص، كل أصحاب البدل اختفوا لما أصبحت الحكاية جد، وكل أصحاب الجلايب استخبوا في مداخل العمارات اللي بتطل على الميدان، وتعرفي مين اللي فضل واقف لواحده في الميدان والضرب شغال من كل ناحية؟ تعرفي مين؟ الأولاد اللي الإنسان لا يعرف لهم أهل ولا يعرف لهم لبس ولا صنعة، عيال صغيرين أكبر ما فيهم لا يزيد عن 15 سنة، سمر ومعفرين وشعرهم منكوش وهدومهم خرق، يعني اللي فضل هم اللي بيسموهم الغوغاء.
وقفت أنا في مدخل عمارة قريبة، وكان ممكن أضرب وكان ممكن أموت، وكان عقلي بيراودني أن أرجع إنما كانت قوة خفية بتمنعني منع عن الحركة، وقفت أتفرج، المدافع نازلة ضرب والأولاد غير مكترثين إطلاقا ونازلين ضرب بالطوب والحجارة، تصوري! بيضربوا طوب قصاد مترليوزات، والحاجة المذهلة إن الواحد منهم كان يصاب زميله اللي بيضرب جنبه ويقع ويموت وهو واقف ونازل ضرب بالطوب.
وبعد شوية لقيوا إن الطوب أصبح لا يجدي، فبصيت لقيت واحد منهم راح قالع جلابيته الخرق وبلها بنزين من عربية واقفة ووطى وفضل يجري لغاية ما قرب من الكشك وراح رامي الجلابية المولعة من الشباك جوه الكشك، وكان ده بداية تحول في المعركة، بقى الأولاد يجروا ويجيبوا أي حاجة، ورق، خرق، خشب، ويبلوها بنزين من العربيات ويجروا والرصاص حواليهم وفوق دماغهم كأنه ناموس بالضبط، ويفضلوا يجروا ومش يحدفوها من بعيد وخلاص، لأ يصروا على أنهم يوطوا خالص لما يقربوا جدا من الكشك ويروحوا حدفينها من نفس الشبابيك اللي بتضرب منها المترليوزات.
لما اشتدت المعركة بقوا يدخلوا محل الحلواني المطل على الميدان، ويجيبوا كراسيه ويولعوا النار فيها، ويطلعوا وهم بيصرخوا صرخات الحرب ويجروا ويرموها على الكشك.
وبدأت النار وامتلأ الميدان دخان، دخان كثيف جدا، وأصبحت المنطقة كلها مليانة دخان ورصاص ونار وصراخ وتكتكة مترليوزات، وفي وسط الدخان، وفي وسط الهول دا كله تبصي تلاقي العيل من دول أسمر لونه زي التراب وعريان وجسمه مهبب وبيزحف على بطنه وشايل كرسي مولع والرصاص حواليه وهو ماشي بالكرسي في ثقة واعتداد ومصر على توصيله لحد الكشك.
وفي مدخل العمارة اللي كنت واقف فيه مع الناس كنا عمالين نبص ونستعجب ونخبط كف على كف، كنا زي ما نكون بنتفرج على أبطال قصص خرافية عمالين يقوموا بأعمال خارقة قدام عينينا، كان شيء عجيب يذهل، كانت لحظة من اللحظات اللي تشوفي فيها شعبنا: الشعب اللي بيقولوا عليه طيب ومستسلم، اللي بيقولوا عليه ساذج ومتسامح، تشوفيه فيها عملاق، تشوفيه فيها مارد لا يمكن لأي قوة أن تقتله، تشوفيه في العيال اللي كان أكثرهم يمكن يومها مافطرش واللي كان الرصاص بيدبحهم دبح، وعمالين يقاوموا ويحاربوا وعارفين إنهم بيحاربوا الانجليز، وعارفين إن الانجليز معاهم مدافع وإنهم هم ممعاهمش حاجة، ومع هذا مصرين على حرق الانجليز الاربعة اللي قتلوا الناس مهما مات منهم، كنت واقف وجسمي فيه حمى، وعيني بتشوف حلم غريب تكشف لي فيه شعبنا على حقيقته. كتير جدا شفناه في أوقات ضعفه وكتير كنا بنلعنه ونستهين به، إنما كنت عايز كل اللي بيمطوا شفايفهم لما تيجي سيرة الشعب، كنت عايزهم يكونوا هناك ويشوفوا الميدان مليان جثث، شبان وطلبة وعمال مفروشة جثثهم على الأرض والإسعاف عمالة تحول، كانت بتيجي عربية الإسعاف مش تشيل واحد وتمشي؟ لأ، كانت بتنتظر لما تتملي جثث وتطلع وييجي غيرها يتملي ويمشي، والناس مش عايزة تتحرك من مكانها، والغوغاء اللي بيقولوا عليهم عمالين يتقتلوا ومابينتهوش، كان بيتهيأ لي إنهم بيزيدوا، كان بيتهيأ لي إنهم عمالين ينضم لهم أولاد من تحت الأرض فعلا، كل العيال اللي في إسكندرية كل ما كانوا بيسمعوا وهم بعيد عن المعركة كانوا بييجوا جري عشان ماتفوتهمش، والعجيبة إن في وسط دا كله، في وسط الموت والدم والدخان والرصاص فجأة تحولت أنظار الأولاد إلى طيارة ركاب كانت فايتة واطية جدا، وقعدوا يبصوا عليها ويشاوروا ويهللوا، في نفس الوقت اللي بيضربوا فيه بالطوب وبيرموا الخرق المولعة، وكان البوليس المصري جه ووقف في أول شارع سعد، ماكانش بيعمل حاجة أبدا، وكان العساكر والضباط شايفين الأولاد الأبطال عمالين بيقعوا واحد ورا التاني وهمه حينفجروا من الغيظ.
وحاولنا أن نقنع ضابط أنه يتدخل ويأمر العساكر المسلحين بضرب الانجليز، فبقى يكاد يبكي وهو بيقول إنه لا يستطيع، وإنه ليس لديه أوامر، بل بكى فعلا.
ونجح الأولاد أخيرا، الكشك ولع كله وبقى كتلة نار، ونط اتنين من العساكر اللي كانوا جواه رافعين إيديهم وسلموا نفسهم للبوليس، فأحاطهم بقوات كبيرة علشان يقدر يحافظ عليهم، وبقت بنادق العساكر المصريين هي المرة دي اللي بتضرب عشان تحمي الانجليز، والعسكري التالت ماطلعشي أبدا وقالوا بعد كده إنه اتحرق.
أما العسكري الرابع فنط من الشباك اللي كان قريب من العمارة اللي كنت واقف في بابها وطلع جري، فواحد ابن بلد إسكندراني كان واقف جنبي في مدخل العمارة طلع جري وراه وراح مشنكله فوقع في الشارع، فراح بارك فوقه وحط رجله على صدره وطلع من جيبه مطوه لها سلاح طويل وسنها شوية على حجر الرصيف، وبعدين راح دابحه من الودان للودن، ومسح المطوة وحطها في جيبه، وتف على العسكري ومشي.
अज्ञात पृष्ठ