وتبين حمزة بعد أن انجابت موجة حنقه قليلا أنه فعلا قد انتزع من حياته الحافلة انتزاعا، وأن كفاحه قد تلخص فجأة في جدران بيضاء ملساء أنيقة، ووجه الأستاذ بدير المحامي وجسده الضخم، ويأس كبير قاتل.
وأيقن أنه لا يمكن أن يقضي في حياته الجديدة تلك ساعات، وأنه قطعا إذا بقي فيها سيفقد عقله، ومع أنه لم يمت ولم يفقد عقله بل راح يمارس هوايته المحببة في التهام الطعام والتلذذ بأصنافه، ويهيئ للوجبة نفسه وكأنه ذاهب إلى أهم المواعيد، ويستخرج كل ما لدى بدير من كتب ويختار منها ويقرأ، ويصادق الخادمة الصعيدية العجوز التي كانت تأتي كل ثلاثة أيام لتنظيف الشقة، ويناقش بدير كثيرا في السياسة حتى استطاع آخر الأمر أن يقنعه أن الملك والإنجليز هم الذين حرقوا القاهرة ، وكان قبلا يقول: ملك ايه اللي يحرق البلد؟ بقى دا كلام؟ أنا معاك صحيح إنه راجل خمورجي وبتاع نسوان، إنما حرق البلد دي مسألة تانية.
مع هذا، إلا أنه كان يقوم بما يقوم به من أعمال بميكانيكية لا روح فيها كمحكوم عليه بالإعدام انتهى أمله.
غير أن أشياء صغيرة قد تحدث فتغير من حياة الناس، وسمع حمزة في الراديو مرة أن حظر التجول قد رفع إلى العاشرة، وكاد يمط شفتيه في ابتسامة من يقول: وماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟
لولا أنه في أجزاء من الثانية كانت قد تجمعت في عقله متباعدات، وانتصب أمامه أمل كاد من فرط الثقة به أنه يتخيله حقيقة واقعة.
لقد تذكر أنه قال لفوزية شيئا كهذا: إن لم يتم اللقاء فيكون الميعاد في نفس المكان والزمان من الأسبوع التالي.
ولكن هل لا تزال فوزية تذكر هذا؟ وهل من المعقول - إن هي تذكرت - أن تأتي وقد انتهت المعركة؟
ومن أين يأتيه ذلك اليقين الذي يملأ عليه نفسه ويؤكد له أنها لا بد قادمة؟
أسئلة مثل تلك عاش عليها الأيام الباقية من الأسبوع، وكانت لا تزال تراود عقله وتلح وتتجسم في خياله وهو واقف مساء ذلك الأربعاء بجوار قصر البارون امبان ومنظار أسود على عينيه، وأنفه يشم من بعيد رائحة الآدميين ويتوقع في كل لحظة أن يضع البوليس يده على كتفه ويقول: ياللا بينا يا حمزة.
وفي تلك البقعة الموحشة من مصر الجديدة، وفي ليلة شتاء كليلتها كان البرد متوحشا لا يهذبه نور ولا تقلم أظافره مساكن، وكان السكون لا تقوى عليه أعصاب، سكون بارد مخيف وكأن سكون قصر امبان المهجور قد عم الدنيا، سكون يكاد يتلون فيصبح كالظلام المحيط، ويكاد يتجمد فيصبح كتلا سوداء كأسفلت الطريق، وكان الظلام ميتا لا حياة فيه، وكأنما قتله البرد المتوحش وقبرته كتل السكون المتجمدة السوداء.
अज्ञात पृष्ठ