وقد كانت لندن هي أكبر موانئ أوروبا حركة وحجما في التجارة وعدد السفن، ولكن تكوين مجموعة السوق الأوروبية قد أدى إلى نمو هائل لميناء روتردام بحيث أصبحت الميناء الأول في كل القارة الأوروبية، على النحو الذي فصلناه عن موقعها.
ولكن ليس معنى هذا أن تسقط أهمية لندن كميناء بعد دخول بريطانيا السوق المشتركة؛ فهناك في أوروبا الغربية ما يسمى باسم «المثلث الذهبي» الذي يقع بين المناطق الثلاث: باريس (فرنسا) في الجنوب، برمنجهام (بريطانيا) في الشمال، وحوض الرور (ألمانيا) في الشرق (انظر الخريطة رقم 1-2). وفي هذا المثلث يتركز نحو ثلثي ثروة أوروبا الصناعية؛ الميدلاندز والجنوب الشرقي من بريطانيا، المنطقة الصناعية الفرنسية ومنطقة الصناعة في دول البنلوكس، منطقة الصناعة الألمانية في الراين والرور. وفي داخل هذا المثلث تتناظر أهمية موقع كل من روتردام ولندن؛ وبالتالي سيصبح للندن دورها كميناء هام من موانئ التبادل داخل السوق الأوروبية، بالإضافة إلى تجارتها التقليدية مع الكمنولث البريطاني والعالم الخارجي.
ولا يقتصر الأمر على نمو موانئ على حساب الأخرى؛ وبالتالي نمو نمط مواصلات بحرية جديد، بل إن شبكات النقل البري والجوي والنهري في داخل التكتل الاقتصادي الواحد سوف يعتريها أيضا تغير نمطي ملحوظ نتيجة لسقوط أهمية الحدود السياسية الراهنة، فمثلا سوف تتعدل شبكة الملاحة النهرية والقنوات في ألمانيا من توجيه قومي إلى الموانئ الألمانية، إلى توجيه اقتصادي إقليمي طبيعي إلى نهر الراين ومن ثم إلى هولندا.
وليس بوسعنا أن نستطرد أكثر من هذا وإلا دخلنا عالم النبوءات، وهو عالم غير علمي؛ لكثرة العوامل غير المرئية المؤثرة في اتخاذ القرارات البشرية، وتشابك هذه العوامل تشابكا يستحيل معه التنبؤ بطريقة استجابتها للقرارات والسياسات والخطط المرسومة.
ولكن يمكننا أن نلخص صورة التغير العميق الذي سوف يحدث في المستقبل في نمط المواصلات والنقل من واقعة شديدة الحداثة، شديدة التأثير؛ فلقد قررت بريطانيا - بعد دخولها السوق الأوروبية المشتركة - أن يتغير خلال فترة زمنية محدودة، نظام المقاييس والحجوم والأوزان البريطانية إلى المقاييس والمعايير المترية، بل تعدى الأمر ذلك أيضا إلى تعديل العملة إلى النظام العشري.
ولم يكن من السهل على الإطلاق أن يتخلى الإنجليز عن هذه الأنظمة التقليدية، التي يتغلغل أثرها ويتعمق إلى مستوى التعامل اليومي لكل فرد من سكان بريطانيا؛ مع الأخذ في الاعتبار بما هو معروف عن الروح المحافظة والاعتداد المتعجرف بكل ما هو بريطاني.
إن اتخاذ هذه الخطوة من جانب بريطانيا توضح استعدادها للتنازل من علياء سياستها الإنجليزية الصرفة وخضوعها للتغيرات التي تحدث في العالم المعاصر، وإدراكها أخيرا أنها ليست سوى جزء من أوروبا الغربية وليست عالما بذاته.
وكذلك سوف يكون على بريطانيا أن تتنازل موانئها عن احتكارها لعدد من السلع العالمية، وأن تصبح موانئها فيما بعد جزءا متكاملا من مجموعة موانئ أوروبا الغربية، وربما تتخلى أيضا عن نظام المرور التقليدي للسيارات لتتبع النظام الأوروبي للسير.
وبالمثل يمكننا أن نتصور تغيرات جذرية في نمط المواصلات في حالة قيام تكتلات اقتصادية فعلية في أجزاء أخرى من العالم. وبما أن وسائل النقل، وخاصة البرية والحديدية، في أجزاء كثيرة من العالم - باستثناء الولايات المتحدة وأوروبا واليابان - لا تكون شبكة نقل كثيفة ومتكاملة، فإن ردود الفعل في تغيرات النقل في معظم أجزاء العالم يمكن أن تكون أعمق من التغيرات التي حدثت في أوروبا الغربية؛ ومن ثم فإن عمق الجذور التاريخية في نمط المواصلات في الدول المتقدمة يمكن أن نعده عائقا وعقبة أمام الاستحداثات الواجب تنفيذها لمواجهة المواقف الاقتصادية الجديدة، بينما عدم وجود مثل هذه الخلفية التاريخية في النقل وكثافته، يعطي للدول الأخرى مرونة كبيرة في اتخاذ القرارات الخاصة بإنشاء شبكة النقل الحديثة بتكلفة أقل بكثير مما هو عليه الحال في الدول المتقدمة. (3) التطور العام لوسائل النقل
إن النقل بوسيلة أو أخرى يبدو أنه كان أمرا ضروريا للإنسان منذ نشأته، وأبسط وسائل النقل المعروفة هي استخدام الأيدي في الحمل. وكذلك الأكتاف والظهر بدون استخدام أية وسيلة مساعدة أخرى. لكن يبدو أن الإنسان منذ القديم قد عرف استخدام نوع من الوعاء، وأنواع من الخيوط والأحبال ليتمكن من زيادة طاقته على الحمل ونقل الأشياء، برغم أن القوة المحركة ظلت هي الطاقة العضلية التي تحرك الإنسان سيرا على الأقدام.
अज्ञात पृष्ठ