وهكذا أصبحت أقلل من زيارة أبي حتى انقطعت عن هذه الزيارة إلا في المناسبة التي لا قبل لي بتجاهلها.
أما زوجتي وحماتي وعمي نصر بك فقد كان فخرهم بي يفوق كل حد. لقد أصبحت تحية ولا حديث لها إلا تعليقات الناس على ما أقول أو أكتب، وقد أبت فرحتها هذه أن تخبو أو يخفت بريقها، وكانت حماتي تتولى الدعاية لظهوري في التليفزيون، فما إن تعرف موعده حتى تضع يدها على سماعة التليفون والأخرى على قرصه، لا تفلتهما أو يكون جميع الأقارب والأصدقاء والمعارف على علم بالموعد. وحين ينتهي الحديث تعود مرة أخرى إلى سماعة التليفون وقرصه لتعرف رأيهم أو لتسمع مديحهم، فما لهؤلاء جميعا من رأي يقال.
الغريب في هذا جميعه أنني أصبحت مقتنعا بما أعمله، أصبحت مقتنعا به جميعا لا أستثني شيئا. أنا مقتنع بما أكتب وبما أقول وبظهوري في التليفزيون. وهذا نوع عجيب من الاقتناع؛ فأنا لا أدافع عن فكرة بعينها، ولا أتقدم للناس برأي معين، فاقتناعي ليس بما أقول دائما، أنا مقتنع أنه لا بد لي أن أقول شيئا، ولا يعنيني من بعد ما هذا الذي سأقوله. فأنا مثلا منذ أن كنت تلميذا في الجامعة لا أميل إلى الشيوعية، ولا أحب المثل القائل: «المساواة في الظلم عدل.» فأنا لا أتصور العدل قرينا للظلم في جملة كلام أو في الحياة، وقد كنت أسخر من الشيوعيين قائلا: لماذا لا تقولون المساواة في الفقر ظلم فيستقيم لكم الكلام والرأي جميعا؟ ولكنني في الجريدة أدافع عن الشيوعية بحرارة، وأغلب أصدقائي من المنتمين إليها أو من الذين يدعون الانتماء إليها. والحقيقة أنني اضطررت لدراسة الشيوعية دراسة متعمقة مستوعبة، ونادرا ما وجدت واحدا من الهاتفين بها قد درسها، وإنما هم جميعا يشقشقون بها، ولولا أن الببغاء طير جميل لقلت إنهم كالببغاوات؛ فإن أحدا منهم لا يفهم الشيوعية. ولم أر بينهم من يقبل أن يطبقها على نفسه، اللهم إلا إذا طبقت عليه الحياة صنوف الفقر والهوان، فهو حينئذ داعية طبيعي لها. ومن يصيب منهم غنى يعيش في بلهينة وسعادة يحسده عليها أصحاب رءوس الأموال الضخمة. ولم أجد بين الذين أثروا من الشيوعية في مصر من اشترى سيارة من روسيا أو ألمانيا الشرقية، وإنما لا بد أن تكون السيارة منتسبة إلى بلد رأسمالي أصيل. فهم يستوردون الآراء من روسيا ويأبون أن يستوردوا نتائج هذه الآراء. ولكن الأمر الذي جعلني أبغض الشيوعيين وأمقتهم وأتمنى أن أنفصل عنهم، لولا لقمة العيش؛ أنني تبينت فجأة أن ولاءهم الحقيقي لروسيا أو للصين، وليس بينهم من ينتمي بولائه لمصر. والعجيب أنهم قد كونوا صفة لمن ينتمي بولائه إلى بلده، وهذه الصفة تعتبر عندهم شتما وهجوما؛ فحب وطنك والتفاني في هذا الحب يسمى عندهم شيفونية، نسبة إلى فرنسي كان يحب وطنه حبا صادقا؛ فحب الوطن إذن عندهم جريمة لا تغتفر، فهم جماعة من جنسية غير مصرية، وهم بلا دين، فلا شيء يصلهم بمصر مطلقا، ولا أدري بأي حق يتكلمون عن مصر، وقد انسلخوا عنها بالدين والعاطفة والولاء؛ ولذلك فإنني أعتقد أن صفة المصري لا تنصرف إلى الشيوعي، فإذا قلنا المصريين فإننا إنما نعني من ليس شيوعيا في مصر، وهؤلاء في الحق هم مصر. أما أنا، فقد كنت أتظاهر بتأييد آرائهم؛ لأنه لا بد لي أن أبدو متمسكا بهذه الآراء إذا كنت أريد أن أعيش في مصر. ولست وحيدا في هذا التباين بين الرأي الحقيقي والرأي المعلن؛ فأغلب الذين كنت معهم يرفعون شعارات لا يؤمنون بها. صحفي واحد كنت أجده صادقا فيما يكتب، هو محرر الرياضة. وعلى رغم كرهي للرياضة فقد أحببت صديقي نديم، فهو متحمس كل التحمس للكرة، صادق هو في هذا التحمس حتى ليصور لك الدنيا جميعا ستنقلب رأسا على عقب إذا لم يلعب اللاعبون بجدية وأمانة، وكنت فرحا بصديقي وتحمسه؛ فقد كنت أجد فيه الشيء الذي أفتقده في جميع المحيطين بي فلا أجده.
4
حين توقفت سيارتي في الإشارة، فتح بابها فجأة، ودخلت إلى جانبي حميدة دعبس، ذعرت؛ فحميدة سيدة معروفة - وأنا فيما يخيل إلي - أصبحت معروفا مثلها، ماذا سيقولون إن رأوني معها؟ كانت صلتي بحميدة قد انقطعت منذ تزوجت؛ فقد كنت أذهب إليها في كل شهر مرة، أقضي عندها فترة مع فتاة تختارها هي لي، وأشهد كان اختيارها دائما موفقا. وقد توثقت الصداقة بيني وبين حميدة وإن كانت هذه الصداقة لم ترحمني من دفع ما تفرضه علي دون مناقشة. وكان إعجاب حميدة بي مبعثه أنني لم أحاول في يوم من الأيام أن أتعرف بالفتاة التي تقدمها لي أو أتدسس على كنهها وأصلها، فالواقع أنه لم يكن يعنيني منها إلا الفترة التي أقضيها معها في بيت حميدة، ثم يذهب كل منا إلى حال سبيله.
وحين تزوجت انقطعت صلتي بحميدة تماما، وقد أدركت حميدة وهي تركب مقدار الذعر الذي أحاط بي: ما لك خائفا كل هذا الخوف؟ - يا ست حميدة ألا تعرفين؟ - وهل تثير امرأة في سني كل هذا الذعر؟ - لا، ولكن امرأة في شهرتك تثير الهلع. - وأنت أيضا أصبحت مشهورا. - أكل عيش. - نحن في الهم سواء. - إلى أين يا ستي حميدة؟ - إلى بيتي، لا أجد ما أركبه، فلا بأس من اللجوء إلى صديق قديم. - تحت أمرك. ربنا يستر. - هل ما زلت في شهر العسل؟ - أنا متزوج على كل حال. - لم يكن زبائني إلا قلة نادرة من العزاب. - وكيف حال زبائنك الآن؟ - أي النوعين تقصد؟ - كلاهما. - أمثالك يزيدون. - والجنس الآخر. - يقل. - خير. لماذا؟ - البنات أصبحن لا يملن للتعامل مع المصريين. - مفهوم، وأنت لماذا لا تتعاملين مع من يردن؟ - هذه طيور برية تعرفك اليوم ولا تعرفك غدا، أما الزبائن من أمثالك فمثل الحمام الذي يعرف برجه ويأتي إليه. - فلسفة معقولة. ولماذا لا تقنعين البنات بذلك؟ - ليس عندهن وقت؛ إنهن يعملن في هذه الصنعة لمدة سنتين أو ثلاث بمقدار ما يحصلن على مصاريف الجهاز ثم يتزوجن. - ألا يعملن عندك بعد الزواج؟ - مثلك، وكأني لا أعرفهن ولا يعرفنني. - ولماذا لا تلجئين إلى المحترفات؟ - أولا أسعارهن ارتفعت أكثر من اللازم، وزبائني لا تحب أصنافهن؛ ألا تعرف لي مكانا أستورد منه الفتيات. - أنا يا ست حميدة؟! - هذه هي المصيبة. الذي يعرفني لا يحب أن يخبر أحدا أنه يعرفني. أتصدق بالله! ودين النبي لو أنك على سبيل المزاح ذكرت عنواني في المجالس التي تجلس فيها لجاءت إلي الفتيات وأصبحت وأنا لا أعرف ماذا أعمل بهن! - أنا يا ست حميدة؟! - الأمر لله. النهاية وأنت إلى متى ستظل مقاطعني؟ - والله أظن أنني لا أستطيع أن أجيء إليك. - يتهيأ لك. - نعم؟ - المهم، زرني لمجرد الزيارة. - يصح، ولو أن المسألة صعبة، فأنا أخشى ... - مفهوم، مفهوم، وعلى كل حال سأراك. - كيف؟ - لا تخف، لن أجيء إليك، ولكن من المؤكد أنني سأراك. اسم النبي حارسك إنك لم تنس البيت، تسلم لي يا سي أيمن. اسمع حين تحس أنك تريد أن تجيء لا تتردد، كل ما أطلبه أن تأتي في الحال. مع السلامة.
5
تعود عمي نصر بك أن يمر بنا كثيرا في جناحنا. وقد زاد من هذه الزيارات منذ ولد ابننا شهاب، حتى لقد كان في كثير من الأحيان يجدنا نائمين، فيذهب إلى شهاب ويجلس إليه يلاعبه ما شاء أن يجلس ثم ينصرف دون أن يسأل حتى إن كنا قد استيقظنا أم ما زلنا نائمين. وكان كثيرا ما يأتي وهو يعرف أننا بالخارج ليزور شهاب، وقد استطاع بنفاقه أن يجعل شهاب يتعلق به أكثر من تعلقه بي بل بأمه.
فلم يكن غريبا أن نجد عمي نصر بك جالسا بحجرة شهاب عند عودتنا من زيارة الطبيب، وضحكت تحية في وجه أبيها: أبي ادخر بعض تدليلك. - لمن أدخره؟ - لي أنا. - دعي زوجك يدللك. - طيب، ادخره لأخي شهاب أو أخته. - الله! عملتوها! - ربنا هو الذي عملها. - أهلا وسهلا. مبروك يا ستي، مبروك يا سي أيمن، مبروك يا سي شهاب. انتظر الأخ.
وكأنما لم يعجب شهاب بهذا النوع من المزاح، فإذا هو دون أي تريث يهوي على خد جده بكفه كله، وصرخ الكف على وجه نصر بك، وذهلت من هذه القوة التي يضرب بها الولد جده، ونظرت إلى عيني نصر بك ورأيت فيهما الألم، ولكن هي الهنيهة لا تزيد، ثم وفي لحظة خاطفة شحبت معاني الألم من عينيه لتبدو مكانها إشعاعات السرور التي ما لبثت أن تعالت ضحكا مرحا عاليا: كذا، طيب يا سيدي، يا ولد يا مغفل إنك حين يأتي أخوك لن تجد غيري يدللك.
अज्ञात पृष्ठ