فتذهب إلى مدى أبعد؛ إذ تنكر تلك القسمة الثنائية التقليدية بين بناء أدنى وبناء أعلى، أو بين أسس الواقع الاقتصادي الاجتماعي والبناءات التي تشيد عليه في ميادين الفكر والدين والفن ... إلخ. فليس ثمة أولوية للأسس الاقتصادية الاجتماعية، وإنما يكشف لنا التاريخ عن سلسلة دائمة من التفاعلات المتبادلة، التي تتحول فيها الأسباب إلى نتائج، والنتائج إلى أسباب. ولو رجعنا إلى ما يحدث بالفعل في عالم الواقع؛ لوجدنا أن الناس حين يسلكون، يجمعون في مركب واحد بين مستويات كثيرة لا يمكن الفصل بينها إلا بعملية فيها قدر من العمق؛ ولذلك فإن هذه العملية المزعومة للعنصر الاقتصادي تعزل شطرا واحدا من كل لا ينطوي إلا على علاقات متبادلة.
6
وهكذا يذهب «سيباج»، في تحليله البنائي للماركسية، إلى مدى بعيد في الخروج عن المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية التقليدية. وليس أدل على ذلك من أنه يرفض النقد الذي وجهه ماركس إلى هيجل، على أساس أنه قلب الأوضاع رأسا على عقب، وجعل من الواقع الاقتصادي الاجتماعي مجرد ناتج مترتب على «الفكرة» الدينية أو الميتافيزيقية أو المنطقية. على حين يريد ماركس أن يعيد الأمور إلى نصابها ويوقف الديالكتيك «على قدميه»، بعد أن كان واقفا «على رأسه». هذا النقد يرفضه «سيباج»؛ لأن قلب الأوضاع هذا يمكن أن يحدث بالفعل؛ ولأنه سمة أساسية من سمات العملية الرمزية التي ينفرد بها الإنسان، والتي تجعل للنواتج الرمزية، من فكر ولغة وعقيدة، استقلالا ذاتيا عن الأصل الذي نشأت منه، وقدرة على التأثير في الواقع ذاته، وتغيير الأسس الاقتصادية الاجتماعية. فنحن ها هنا في مجال لا يمكن التمييز فيه بين ما هو «أصل» وما هو «نتيجة». وتلك كلها آراء تعدها الماركسية التقليدية تحريفات غير مشروعة؛ لأنها لا تتعلق بالاجتهادات في تفسير النظرية، بل بالأسس التي ترتكز عليها. (2) ألتوسير
كان تفكير «لوي ألتوسير
Louis Althusser » أوسع وأشمل بكثير من تفكير «سيباج»، كما أن اتجاهه العام في تفسير الماركسية - وهو اتجاه بنائي في أساسه، وإن لم يكن هو ذاته يرحب كثيرا بهذه الصفة - قد تحددت معالمه قبل سنوات قليلة من ظهور كتاب سيباج عن الماركسية والبنائية. ومع ذلك فقد أرجأنا الكلام عنه إلى ما بعد عرض آراء سيباج؛ حتى يكون الانتقال بينهما انتقالا إلى مزيد من التفصيل والتعمق في الموضوع. هذا فضلا عن أن ألتوسير ما زال مؤلفا خصب الإنتاج، وما زال صاحب مدرسة كاملة في التفسير الماركسي، في الوقت الذي توقف فيه إنتاج سيباج فجأة بموته السابق لأوانه.
وليس من الصعب أن يستدل المرء على طبيعة الظروف التي ظهر فيها التفسير البنائي للماركسية عند ألتوسير؛ إذ إن جهده الفلسفي يمكن أن يوصف بأنه رد فعل على رد فعل. فبعد النقد العنيف الذي وجه إلى الجمود الفكري الذي اتصفت به المرحلة الستالينية، حدث رد فعل في الاتجاه المضاد، وظهرت تفسيرات للماركسية تؤكد جوانبها الإنسانية، وتحاول التوفيق بينها وبين كثير من المذاهب الفلسفية التي حاربتها طويلا، وكأنها تحاول إزالة صفات التحجر المذهبي وإنكار النزعة الإنسانية، وهي الصفات التي اتهمت بها ماركسية ستالين في أوساط كثيرة، منها الأوساط الماركسية ذاتها، في الخمسينيات من هذا القرن.
ولقد كان المفكر الذي حمل لواء هذه الدعوة إلى كسر جمود الماركسية التقليدية، وإذابة جليد الاتجاه اللاإنساني في الستالينية هو «روجيه جارودي
Roger Garaudy ». ولو شئنا أن نلخص الطابع المميز لرد الفعل عند جاردوي، بالقياس إلى الاتجاهات السائدة من قبل؛ لقلنا (مستخدمين لفظا أصبح شائعا في هذه الأيام) أنه هو الاتجاه إلى «الانفتاح» على الفلسفات الأخرى التي كانت تقف من الماركسية السابقة موقفا عدائيا صريحا، محاولا بذلك تعويض الدجماطيقية والتزمت والخصومة العنيفة التي اتسمت بها فترة عبادة الفرد الستالينية. ففي كتاب «النزعة الإنسانية الماركسية
Humanisme Marxiste »، وكذلك في كتاب «آفاق الإنسان
، قدم جارودي للماركسية تفسيرا إنسانيا وصفه بأنه يستخلص، «عن طريق التحليل النقدي للوجودية وللفكر الكاثوليكي وللماركسية، نقاط الالتقاء الممكنة في المسعى المشترك الذي تبذله هذه المذاهب من أجل الوصول إلى الإنسان الكلي.» وواضح من هذا الوصف أنه يهدف إلى إثبات وجود نوع من التكامل بين أفكار ماركس وبين مذاهب أخرى، كانت حتى ذلك الحين تخوض ضد هذه الأفكار معارك حامية. على أن جارودي قد ذهب في هذا البحث عن التكامل والسعي إلى التوفيق، ومحاولة إجراء «حوار» يسوده التفاهم مع التيارات الفلسفية الأخرى، إلى حد أبعد مما ينبغي؛ إذ إنه أرجع الماركسية إلى أصولها المثالية، وخاصة عند «فشته
अज्ञात पृष्ठ