जिनुसाइड: भूमि, जाति, और इतिहास
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
शैलियों
هكذا هي الحياة، عادة تفرض إرادتها بكل قسوة، وليس لك من الأمر سوى الرضوخ لها، عندما تشعر أنك تؤدي مهمة أخلاقية غايتك فيها إنقاذ الكثير ببعض التضحيات البسيطة تحت المبدأ المقيت «الغاية تبرر الوسيلة»، ثم تكتشف أنك سلكت طريق اللاعودة، وتراكمت عليك التضحيات حتى صرت تتجه نحو الجريمة التي جاهدت ألا تقع فيها، وتوحلت في الطين أكثر مما كنت تتصور، فلا يمكنك العودة كما كنت في السابق ولا الاستمرار فيما أنت عليه، هكذا كان يشعر السيد مارك في عمله؛ لذا كان سكون الليل أعتى أعدائه فيقاتله في الحانة بالإفراط في الشرب لكيلا يستذكر ما حل بمن أرسلهم إلى الموت ويخدع نفسه بتلك الضحكات والسعادة الظاهرية المزيفة وفي جوفه جحيم مستعر. لكنها شجاعة عظيمة أن تتحمل كل ذلك الشعور المؤلم وتأنيب الضمير فقط من أجل تقليل عدد القتلى لسكان الغيتو، لعل النازية تهزم في الحرب القائمة قبل آخر قسط من اليهود، وبذلك يحقق الإنجاز العظيم بالحفاظ على أرواح ما كانت تزهق لو لم يقم بتلك المهمة الثقيلة والبشعة.
كان هناك الكثير من الأسئلة يدور في خلد مايكل، ولا بد أن الإجابة لديه ما دام يريد أن يبوح له ويزيح عن كاهله ثقل ما يحمل، كانت فرصته في إدراك ما وراء الحوادث التي تحصل يوميا في الغيتو.
في اليوم الذي وعد فيه السيد مارك بالمجيء إلى الحانة، اعتقلت الشرطة ديفيد مع عشرات الشباب من الحي، حاول سؤالهم: لماذا؟ ما السبب؟ ما الذي اقترفه ديفيد؛ فهو لا يغادر المنزل منذ قدومنا إلى الغيتو؟
كان ديفيد يرتعد خوفا؛ فقد حصلت له حالة نفسية من مثل هذه المشاهد يوم تم إشباعه ضربا ليلة الزجاج المحطم، ومن ثم ما فعلوا به يوم اعتقلوا مايكل وفتحوا لفائف جروحه بقسوة وهو يصرخ وجعا ليتأكدوا من جراحه، ومن ثم التعامل القاسي في الترحيل من ميونخ إلى هنا، لكن الشرطة لم يخبروه بشيء سوى أنها أوامر المجلس.
لحق بهم حتى يعرف أين سيتم اعتقالهم، لعل السيد مارك يساعده بإخراجه، تم جمعهم ورصهم بعضهم خلف بعض عند الباب الرئيسي، ثم بدءوا يتأكدون من الأرقام والعدد المحدد، وأصوات العربات العسكرية تأتي من خلف الباب، تذكر مايكل قبل أكثر من أسبوع تم أخذ مجموعة من الشباب أيضا بهذه الطريقة، ظن حينها أنها عملية ضمن برنامج إعادة التوطين، لكن بعد معرفته بما حصل للمرضى لم يعد يصدق بهذه الدعايات المخدرة للنفوس. عند عودته إلى البيت سألته أمه: هل سيرحلونهم إلى فلسطين، كما أرادوا ترحيلنا يوم كنا في ميونخ؟ - نعم، هكذا يبدو الأمر. - لكن ماذا عنا أنا وأنت؟ - وماذا عن سارة؟ أنسيتها؟ هل كنا سنتركها هنا وحدها في بولندا؟ - لم أنسها، لكن لا أدري من أين تحل علينا كل هذه المصائب دفعة واحدة يا بني؟! - لربما من شؤم انكسار المرآة في تلك الليلة التعيسة.
امتلأت عيناها بالدموع، سمع مايكل صوت حركة خلف الباب، أدرك أنه صاحب البيت كالعادة، كان يتنصت إلى حديثهما ويريد معرفة مصير ديفيد، هو لا يهمه أحد منهم، ويوم سعد عنده إن رحلوا وتركوا له البيت، لكن لا يمكنه النوم إلا بعدما يتنصت إلى حديثهم كل يوم، فلا يتنازل عن أنفته التي وهم نفسه بها، ويجالسهم ولا يتركهم في حالهم.
في المساء كانت هناك زخات مطر خفيفة تهطل مع رياح شمالية باردة، أسرع مايكل خطاه حتى يصل إلى الحانة قبل أن يهطل المطر بغزارة، كانت قطرات المطر تبدو تحت أضواء أعمدة الإنارة الصفراء التي رسمت دوائر مضاءة تحتها كأنها لوحة فنية بديعة كست بؤس ذلك المكان وتعاسة من يقبعون فيه بوشاح جميل. عند باب الحانة كان ذلك الحارس اللعين واقفا كالعادة، رمقه مايكل بنظرة غاضبة، فما كان منه إلا أن فتح له الباب وقال: تفضل بالدخول «سيدي».
قال مايكل في نفسه وهو يدخل: سيدي؟ تبا لك ولأمثالك يا كلاب النازية! الآن أصبحت سيدك؟ توجه مباشرة إلى طاولة السيد مارك في الزاوية اليمنى للحانة، ألقى التحية عليه وجلس. - توقعت عدم مجيئك يا مايكل. - ولماذا؟ - قلت لربما حمل علي في قلبه شيئا وكرهني من أجل موت أخته الصغيرة بسببي. - ليس ذنبك، لقد فكرت فيما قلت يومها ولم أجد حلا أفضل مما تقوم به، أما التعاليم الدينية فليست قابلة للتطبيق في كل الحالات «يجب أن يموتوا جميعهم»، ضرب من المثالية، الواقع والحقيقة تختلف كثيرا. - الآن أصبحت تفهم الواقع، وتستطيع أن تفرق بينه وبين المثالية المفرطة في بعض النصوص الدينية. - يبدو ذلك، لكن ماذا عن تأنيب الضمير؟! - دعني أخبرك شيئا، لو فرضنا أنني وضعت شخصا في حفرة عميقة واتفقنا أنك تسأله أسئلة محددة، إذا أخطأ في الإجابة سكبت عليه دلو ماء، هل في الأمر خطورة؟ تجربة جميلة ومسلية، أليس كذلك؟
أومأ مايكل برأسه، وبدا على وجهه علامات الاستفهام والتعجب، وشعر أن السيد مارك ثمل منذ بداية الليلة .. لكن ما الذي يخسره؛ فقد أتى لسماعه لربما الإنسان يكون أكثر صدقا عندما يفقد عقله، فقال: أكمل! - مع كثرة أخطائه سيرتفع منسوب الماء في الحفرة، في كل مرة أكثر فأكثر، وفي مرحلة معينة سيغمر الماء كامل جسده إلا رأسه، ويبدأ يستنجد بك بألا تسكب دلوا آخر ويتوسل إليك لأنه سيغرق، على الرغم من أنه نفس مقدار الدلو الذي لم يؤثر عليه في البداية! وهنا يكمن السؤال عندما تقرر أن الدلو التالي غير مقبول ومؤذ جدا له، فماذا كان مبرر الدلو الذي قبله؟! إن السلوك الأخلاقي الذي وصلت إليه تشكك في أخلاقية الخطوة السابقة. وهكذا تكون قد وقعت في المصيدة بالالتزام التدريجي لارتفاع الماء في الحفرة غير المؤذي وصولا إلى المؤذي بسبب ضآلة المسافات غير الملحوظة بين الخطوات. فيتصاعد مقدار تأنيب الضمير مع تصاعد التأثير فيه، فتكون كمن يقوم بنفس العمل دون زيادة في كل مرة، لكن مقدار تأثيرها يزداد في كل مرة، حينها تكون قد أوغلت في التجربة ووصلت طريق اللاعودة. هذه المصيدة تكشف مفارقة مهمة؛ «لا أحد يستطيع أن ينظف نفسه من الوحل دون أن يلطخ نفسه به، وإذا أراد المرء أن يخفي الوحل فلا بد أن يغوص فيه للأبد». هكذا حالنا بالضبط في المجالس يا مايكل، لقد وقعنا في المصيدة، فلا نستطيع أن ننقذ اليهود إذا لم نضح بالبعض، هذا إذا أردنا أن ننظف الوحل الذي أوغلنا فيه أو أن نخفيه ويفنى سكان الغيتو بأجمعه.
بقي مايكل صامتا مندهشا بعمق الفهم للواقع الذي يعيشه السيد مارك، إنه مصاب بداء الوعي المفرط، إنها لعنة حقيقية أن يكون وعيك إلى هذا الحد في مثل هذه الظروف غير الآدمية.
अज्ञात पृष्ठ