وبعد قليل جاءت والدتها فحيته تحية الصباح، وقالت: «إنني أحمد الله على أن استجاب دعواتي لك طول الليل، فهذا أنت قد أصبحت معافى بادي النشاط والمرح.»
ثم التفتت إلى إميلي ابنتها وقالت لها: «أليس كذلك يا إميلي؟»
فقالت: «صدقت يا والدتي وقد صرحت له بهذه الحقيقة منذ قليل، لكنه لم يصدقني إلا بعد أن أظهرت له استعدادي لأن أقسم له مؤكدة ذلك.» ونظرت إلى والدتها بطرف عينها.
ففهمت وردة أن ابنتها بدأت تطبيق التعليمات التي أصدرتها إليها لاجتذاب سليم، غير أنها تظاهرت بالسذاجة والبساطة وهمت بسليم فقبلته وقالت: «إننا نشكر الله على أن هيأ لنا هذه الفرصة الطيبة للنيابة عن الصديقة العزيزة الكريمة السيدة والدتك.» ثم ضحكت بصوت مرتفع وقالت: «أي فرحة عظيمة ستغمر قلبها حين تراك اليوم بعد عودتها من القاهرة. ولا شك في أن فرحتها ستكون مضاعفة حين تجدك في منزلنا هذا. لكن قل لي يا عزيزي سليم: هل جئت من القاهرة إجابة لطلبها في خطابها الأخير، أم أن هذا الخطاب لم يصل إليك.»
فشعر بأنها تسأله هذا السؤال الأخير، لتلهيه عن صوغ عبارات الشكر بالإجابة عنه. وأعجب كل الإعجاب بنبلها وأريحيتها، ولم يسعه إلا أن ينزل على رغبتها الكريمة، فقال: «لم أتلق خطابها هذا مع الأسف لأني كنت في حلوان وجئت إلى هنا دون أن أمر بالبريد لتسلم الخطابات الواردة إلي. ويا حبذا لو كتبت إلى إدارة البريد الآن كي ترسل إلي خطاباتي إلى هنا!»
فقالت: «حسنا تفعل!» ثم أشارت إلى إميلي، فغادرت الغرفة في خفة ورشاقة وهدوء، وعادت بعد قليل ومعها دواة وقلم وأوراق، فوضعتها على المنضدة ثم قربتها إلى سليم وعادت إلى وقفتها بالقرب منه والمروحة في يدها استعدادا للترويح له، فنظر إليها وابتسم، ثم أمسك القلم وكتب خطابا بذلك المعنى إلى إدارة البريد في القاهرة ووضع الخطاب في الظرف ثم عاد فأخرجه، وناوله لإميلي قائلا: «هل لك أن تسدي إلي يدا أخرى بكتابة عنوان المنزل هنا؟»
فقربت وجهها من وجهه وأخذت تملي عليه العنوان في همس رقيق ود لو أنه لم ينته.
وما أتم كتابة العنوان حتى سارعت إميلي إلى تناول الخطاب من يد سليم، ثم أرسلته مع أحد الخدم، ليضع عليه طابع البريد ثم يضعه في أقرب صندوق للخطابات البريدية. ووقفت تشرف على بقية الخدم وهم يعدون طعام الإفطار، فلما انتهوا من ذلك وأعدت المائدة انتقل إليها سليم وجلست إميلي أمامه ووالدتها عن يمينه وأخذوا في تناول الطعام وتبادل مختلف الأحاديث. •••
عاد سليم وإميلي ووالدتها إلى الغرفة المخصصة لنومه؛ لكي يستريح قليلا بعد الغداء. وفيما هم هناك جاء أحد الخدم مهرولا يقول: «لقد حضرت السيدة والدة سيدي سليم.»
فخفق قلب سليم وارتعدت فرائصه وأخذته الحيرة فلم يدر أي شيء يفعل. على أن حيرته لم تطل فسرعان ما دخلت والدته راكضة. وما كاد نظرها يقع عليه وهو يهم بالنهوض من الفراش لاستقبالها حتى أسرعت ورمت بنفسها عليه محتضنة إياه، ثم ما زالت تعانقه وتقبله ودموعها تتساقط من عينيها، حتى شعر ببرودة يدها وتصبب العرق منها وهو يقبلها فرفع وجهه إلى وجهها وذراعاها حول عنقه فإذا به يجدها مسبلة العينين، ورأسها يترنح للسقوط، فهم بها ومددها على السرير، وبادرت وردة وإميلي فرشتا وجهها بالماء. فلما أفاقت وانتبهت لنفسها ولمن حولها عادت إلى معانقة سليم وتقبيله وهي تواصل البكاء والشهيق قائلة: «آه يا ولدي! آه يا حبيبي! أهكذا تترك حلوان والقاهرة دون أن تخبر أحدا. ولقد بحثنا عنك هناك في كل مكان يمكن أن تكون فيه، وكاد قلبي يحترق جزعا وتلهفا عليك، ولولا أن جاءني صباح اليوم خطاب أخيك فؤاد فاطمأن قلبي عليك ما قدرت لي الحياة حتى الآن.»
अज्ञात पृष्ठ