ورأى في منامه كأن سلمى قادمة إليه، ووجهها يفيض نورا، وعليها رداء أبيض ناصع تجرره وراءها، وهي باسمة الثغر، وعيناها السوداوان تنظران إليه في توسل وعتاب. ولما دنت منه جثت أمامه وقالت له والعبرات ملء عينيها: «سامحك الله يا سليم على إساءتك الظن بي، وإني والله لبريئة من تلك التهم، وما كان لي أن أدنس شرفي أو أخون عهدك بعد أن وقفت قلبي وعواطفي على حبك، فهلا أشفقت على هذا القلب الكسير الذي لم يعرف الحب لأحد سواك؟»
فاستيقظ بغتة وقد ارتعدت فرائصه وصاح قائلا: «سلمى حبيبتي سلمى، روحي وقلبي، لا عاش من ظن بك سوءا.»
ثم التفت حوله فإذا هو في قفر لا شيء أمامه إلا الأشجار الشائكة والخلاء الواسع، فندم على يقظته وود لو يعود النعاس إلى جفنيه فيرى حبيبته في ذلك الثوب الملائكي ويتمتع بطلعتها الباهرة، ولكنه لم يستطع فعاد إلى البكاء وأخذ يناجي نفسه قائلا: «إن خيالك يا حبيبتي أصدق شاهد على إخلاصك، وبياض ردائك دليل على نقاوة ذلك القلب الذي ما عرفت فيه إلا الطهارة والنقاء. قبح الله ذلك الواشي قبيح الوجه، إن وجهه لدليل على ما في قلبه من السوء، وما أنت إلا طاهرة لا عيب فيك. آه لو كنت تعودين إلي فأتزود منك نظرة ثانية! إني ثابت في حبك ثبات الجبال الراسيات.»
ومرت بذهنه صورة والدته ورسائلها، لكن حبه لسلمى طغى على ما عداه. ثم نهض ومضى إلى حيث كانت العربة في انتظاره، وقد أخذ منه برد الليل كل مأخذ، فأحس بالتعب وخشي أن يكون قد أصيب بمرض، ولكنه عاد فود لو يكون مرضه حقا فيشغله عن تلك الهواجس.
ومضت به المركبة عائدة إلى القاهرة وهو يفكر في ذلك، فتصور أنه أصيب بمرض عضال، وأنه اشتد عليه حتى قارب الوفاة، فأجفل وقال يحدث نفسه: «لا، لا أريد الموت الآن حتى لا أكون سببا لشقاء سلمى.»
ثم رجع إلى صوابه فرأى أنه أصبح عبدا لعواطفه ولم يترك لعقله فرصة للعمل، فقال مناجيا نفسه: «ما هذا يا سليم؟ خذ الأمر بالصبر، وتدبر الأمور بالحكمة! نعم يجب أن أصبر:
وأصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر!»
ولاح له أن يكاشف أحد أصدقائه بأمره، ولكنه حار ولم يدر أيهم يكاشف؟ وتذكر أن مصدر شقائه كان هو حبيب أعز أصدقائه فتأوه وعادت الدموع تنهمر من عينيه، لكنه تجلد وقال: «من أدراني أنه كما بلغني عنه ذلك الشيطان؟ أعوذ بالله من شر كل شيطان!»
وما زالت المركبة ماضية به حتى بلغت الفندق فنزل منها، ودفع للسائق أجرته، ثم صعد إلى غرفته ودخلها وقد أخذ التعب والبرد منه مأخذا عظيما فبدل ثيابه ونام. •••
अज्ञात पृष्ठ