ومشيا صامتين بعض الوقت وكل منهما يفكر في أمر، إلى أن وصلا إلى باب الحديقة الشمالي، فنظر حبيب إلى ساعته فإذا الساعة قاربت العاشرة فقال لسليم: «هلم بنا نخرج إلى مكتب البريد لأني أنتظر بريدا من أوروبا هذه الليلة!» فوافقه وخرجا من الحديقة، ومشيا حتى وصلا إلى مكتب البريد، وسأل كل منهما الموظف المختص: «هل توجد لديه خطابات باسمي؟» ففحص الخطابات الموضوعة أمامه، وأخرج من بينها خطابين، ناول أحدهما لسليم والآخر لحبيب.
وتناول حبيب كتابه وقرأ عنوانه فإذا هو بخط كأنه يعرفه، ثم نظر إلى طابع البريد على الغلاف فإذا هو طابع مصري وعليه خاتم مكتب بريد القاهرة فعلم أنه صادر منها، ففض الخطاب وأخذ يتلوه لنفسه فإذا فيه:
يا سادتي هل يخطرن ببالكم
من ليس يخطر غيركم في باله؟
يا شقيق الروح ومالك الفؤاد
أكتب إليك هذه الكلمات بغير إمضاء، والقلب يخفق، واليد ترتعش، فإذا خفق قلبك وارتعشت يداك، فلعلك تدرك بعض ما لك في قلبي من المحبة التي كتمتها حتى طفحت، ولعلك إذا عرفت ذلك أن ترثي لي، وإلا فإنها شكوى أبثها لمن ملك قلبي مع بقاء أمري مكتوما في ضميري عنه وعن سواه إلى أن يقضي الله بما يشاء.
فبغت حبيب وأخذ يعيد تأمل الخطاب ويكرر قراءته متعجبا، ثم حانت منه التفاتة إلى سليم، فإذا هو يتلو الخطاب الذي تسلمه وقد امتقع لونه وأخذت الورقة تنتفض في يده، فطوى حبيب كتابه وخاطب سليما قائلا: «خيرا إن شاء الله يا سليم؟»
فقال: «ليس هناك سوى الخير يا عزيزي.» ثم طوى الكتاب ووضعه في جيبه، ومشى يريد الخروج من مكتب البريد، فمشى حبيب بجانبه وهو يفكر تارة في كتابه، وطورا فيما ظهر على صديقه من مظاهر الاضطراب، وأراد استطلاع حقيقة حاله فمنعه التأدب، لكنه قرر في نفسه استعمال الحيلة للوقوف على سر اضطراب سليم، وأخذ يجاذبه أطراف الحديث إلى أن قال له: «تبارك الخلاق العظيم، أليس من دلائل قدرة الله أنك لا تكاد تجد بين الناس اثنين يتفقان في الخلقة والأخلاق؟ وقد صدق من قال:
إنما نحن في اختلاف عقول
مثلما نحن في اختلاف وجوه!»
अज्ञात पृष्ठ