जवाहिर तफसीर
جواهر التفسير
शैलियों
وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الارادة باعثة لها على العمل، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها على النحو الذي ذكرنا، فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال، وهو ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات، كالكرم والشجاعة ونحوهما، فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها، وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال، وربما يغفل الانسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره، وبين وجوده وتحققه في نفسه.
ومن العلوم ما يلاحظ الانسان أنه عنده، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها، لأنه لم يشربه القلب، ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها، وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الاسلامي مثلا، وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق، والنظار في كتب الأوائل والأواخر لتعزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه، وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام (صورة من الشيء حاضرة عند النفس) وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي، فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر. فهؤلاء الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به، وجعله رسما مخزونا في الخيال لا أثر له في الأفعال يدعونه بألسنتهم وتكذبه في دعواه أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون }.
فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفى عليه بذكر العمل الذي يشهد له، ومن هنا يعلم ما الايمان الذي يعتد به القرآن، وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرأه على أنه قصة تاريخية مات من يحكي عنها واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان، فكل مؤمن بالله واليوم الآخر وهو يصدر في عمله عن شهواته ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنما هو خيال لا يعدو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه مخادع لربه، يظن أن علام الغيوب لا ينظر إلى ما في القلوب. اه.
وبإمكاننا أن نستوحي من هذا البحث أن الامام يرى ما في هذه الآيات شاملا للصنفين من المنافقين، من كان نفاقه عقائديا ومن كان نفاقه عمليا، ولعله يرد ذلك إلى أن النفاق العملي لا ينشأ إلا عن ضعف العقيدة وعدم تمكنها في النفس، كتمكن عقيدة المؤمنين الذين كانت ظواهرهم شاهدة على سلامة بواطنهم وأعمالهم مصدقة لراسخ اعتقادهم.
[2.10]
ذكر العلامة ابن عاشور في تفسيره أن الآية استئناف محض لعد مساوئ المنافقين، وأجاز أن تكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متعجب مما سمع عن الأحوال التي وصفوا بها من قبل في قوله تعالى { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } ، فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله وتخادع المؤمنين - وهم قوم عديدون - وتطمع أن خداعها يبلغها فيهم ما تريد، ولا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها، يشعر بالعجب ويمتلئ بالاستغراب من شأن هذه الطائفة، وينشأ عن ذلك تساؤل منه كيف خطر ذلك بخواطرها؟ فجاء قوله في قلوبهم مرض بيانا منطويا على جواب هذا التساؤل، وهو أن قلوبهم انحرفت عن وضعها الطبيعي حتى بلغت إلى حد الأفن، ولهذا قدم الظرف وهو في قلوبهم، فإن في التقديم إيماء إلى الاهتمام وهي جديرة به، فإنها منشأ فكرة الخداع، ومن حيث أن المسؤول عنه ما نشأ عنها، كان انطواء الجواب على وصف حالها هو الأليق في مقام الخطاب.
والتعبير بالقلوب عن العقول معهود عند العرب كما تقدم، وتنكير مرض للدلالة على التعظيم.
والمرض: حالة تلم بالبدن فتخرجه عن اعتدال المزاج وصحة الأعضاء، وتؤدي بها إلى اختلال بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الألم لها، ويطلق على نفس الألم الذي هو أظهر آثاره، ويطلق على ما يلم بالنفس فيخل بكمالها ويخرج بها عن اعتدالها من الطبائع المذمومة والأخلاق الفاسدة، وهذا الاطلاق الأخير داخل في ضمن الاستعمال المجازي لهذا اللفظ بجامع أنه في استعماليه مؤد إلى الهلاك.
فالأمراض الجسمية مؤدية إلى هلاك الجسد وفوات المنفعة العاجلة، وهذا المرض النفسي مؤد إلى هلاك الروح وفوات المنفعة الآجلة، والبون بينهما كالبون بين قيمة الجسد والروح، وقدر الحياتين العاجلة والآجلة.
وفسر المرض هنا بالنفاق ابن عباس - رضي الله عنهما - كما رواه ابن جرير عنه. وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم فسروه بالشك، وروى مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد، وفي رواية عن عبدالرحمن قال هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد.
अज्ञात पृष्ठ