الثاني عشر: أن هذه الحروف أقسام أقسم الله بها كما أقسم بالقلم تنويها بشأنها، لأن أسماء الله تألفت من مسمياتها، وهي كذلك أساس التخاطب، ومصدر العلوم، وهذا القول نسبه ابن جرير إلى ابن عباس وعكرمة، ونسبه غيره إلى الأخفش، وضعف بحذف حرف القسم مع أنه لا يحذف عند البصريين إلا مع اسم الجلالة، وورود أقسام بعدها في بعض المواضع نحو { ن والقلم } و { حم والكتاب المبين } مع استكراههم الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد، وفي كلا الأمرين بحوث متسعة آثرنا ضرب الصفح عن ذكرها رغبة في تجريد هذا التفسير من التعقيدات الناشئة عن البحوث العربية وغيرها.
الثالث عشر: أنها سيقت على طريقة التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية، لإيقاظ شعور السامعين، وإثارة فكرهم، ليدركوا أن هذا الكتاب - الذي تحدوا ببلاغته، وحاروا عندما طولبوا بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله وهم فرسان البلاغة القابضون على نواصيها والرائضون لعاتيها ومستعصيها - إنما هو من جنس كلامهم الذي ألفوه، وحروفه هي نفس الحروف التي يصوغون منها كلامهم، فلو كان صادرا عن ملكات البشر لكان بإمكانهم أن يعارضوه فيقابلوا الكلمة بكلمات، والسورة بسور، ولكن عجزهم دل على أنه فوق مدارك الأفهام، وأسمى من أن تناله ملكات الأنام، فهو من عند الله الذي لا يكتنه عظمه، ولا يقدر قدره.
وهذا القول منسوب إلى المبرد وقطرب والفراء، وعليه ابن تيمية والحافظ المزي شيخ ابن كثير المفسر، وانتصر له الزمخشري في كشافه أتم الانتصار واختاره الامام ابن عاشور، وذكر أن المناسبة لوقوعها في فواتح السور ان كل سورة مقصودة بالإعجاز لقوله تعالى:
فأتوا بسورة من مثله..
[البقرة: 23]، فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته، وأيده بأن التهجي ظاهر في هذا المقصد، فلذلك سكتت عنها العرب لظهور أمره، لأن التهجي معروف عندهم، فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية التي عهدت في التعليم في غير مقامه أدرك السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لتشابه الحالين في العجز عن الإتيان بكلام بليغ، وفي هذا تعريض بهم بمعاملتهم معاملة الصبيان أول تعليمهم القراءة والكتابة، وفي ذلك ما لا يخفى من الإغراء والإثارة على التحدي والمعارضة، كما أيده أيضا بأن معظم هذه الحروف نزلت في أوائل السور المكية، وإنما شاركتها من المدنية البقرة وآل عمران، ولعل ذلك لنزولهما بعيد الهجرة من مكة، وقصد التحدي في القرآن المكي قصد أولي وعضده أيضا بأن الحروف المختتمة أسماؤها بألف ممدودة كالياء والهاء والراء والطاء والحاء، قرئت في هذه الفواتح مخففة على طريقة تهجي الصبيان.
وللسيد محمد رشيد رضا في تفسير فاتحة الأعراف بحث نفيس بين فيه تناسب هذه الفواتح مع ما بعدها، ومن الممكن أن يستنتج من هذا البحث تأييد هذا الرأي، وإن كان هو نفسه أميل إلى القول بأنها أسماء للسور في بعض ترجيحاته، وخلاصة بحثه أن الغرض من افتتاح هذه السور بهذه الفواتح تنبيه السامع بهذا الصوت إلى ما سيلقى إليه بعده من الكلام حتى لا يفوته منه شيء، فهي شبيهة بألا الافتتاحية، وها التنبيهية، وإنما خصت بها سور معينة من الطوال والمئين والمثاني والمفصل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الاسلام، وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية ما عدا الزهراوين، والدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب، وفي كلها يلي هذه الفواتح ذكر الكتاب ما عدا مريم والعنكبوت والروم و(ن)، وفي كل منها معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب، فأما سورة مريم فقد ثني فيها بتفصيل قصتها بعد افتتاحها بقصة زكريا ويحيى المشابهة لها، وتليت القصتان بذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءا كل منها بقوله تعالى:
واذكر في الكتاب..
[مريم: 16، 41، 56،51].
والمراد بالكتاب القرآن، فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى واذكر في الكتاب، وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم ذلك، ولم يكن قومه على علم به كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله:
تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
अज्ञात पृष्ठ