جواب مسائل أبي القاسم الرازي (2)
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
[الفرق بين عقل النبي (ص) وعقل أبي جهل]
سألت يا أبا القاسم أكرمك الله بكرامته، وأتم مابك من نعمته، وجعلك ممن اهتدى؛ فزاده نورا وهدى، فجمع لك بذلك خير الآخرة والدنيا، فقلت: أخبرني عن عقل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، هل كان مثل عقل أبي جهل؟
الجواب في ذلك: إن كنت تريد بقولك: هل هو مثله، أي هل يعمل عقله إذا استعمله، كعمل غيره فيما جعل له، وركب عليه؟ أو هل يستدرك به، أداء فرض الله الذي افترضه عليه، وينال به بلوغ ما أوجب الله عليه؛ من تمييز الأمور، وفهم واجب الفرائض؟ وهل يستدرك به معرفة الخالق بما يرى من أثر صنعه، وينال به التمييز بين طاعته ومعصيته، فيكون بذلك بالغا من آداء حجج الله، واستدراك الدليل على الله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستدرك بأصل حجة عقله، من أداء فرضه؟
पृष्ठ 699
فكذلك نقول: إن أبا جهل قد كان يستدرك وينال بأقل قليل عقله؛ أكثر مما افترض عليه من دينه، وفوق ما يحتاج إليه من الدلائل(1) على معرفة ربه، فقد كان فيما أعطاه الله من أصل الحجة، وثبت فيه من العقل لأداء الفريضة، وفي الاستدلال إن استعمل عقله بالغا بعقله ما كان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بما أعطي من مبتدأ حجة العقل؛ من المعرفة بأداء فرض الله، والوقوف على دين الله، الذي لم يرض من العباد إلا بأدائه.
ولولا أنه قد ساوى بينهم فيما ينالون به معرفة ما افترضه عليهم، وأداء حججه التي احتج بها عليهم؛ ما كانت تجب له عليهم حجة، ولكن الله عز وجل أعطى كلا ما ينالون به أداء حججه، فساوى بينهم في إقامة الحجة عليهم، وإثبات البراهين في صدورهم، بما يبلغون به فرضه، وينالون به معرفته.
فإن كنت أردت هذا المعنى؛ فقد ساوى الله بين الخلق كلهم فيما يكون به بلوغ حجته، وتمام منته، ونهاية أداء فرضه؛ من العقول المركبة في صدورهم، الثابتة في قلوبهم، وأثبت بذلك عليهم كلهم حجته؛ لأن العقول المركبة فيهم من هذه الحجج اللازمة لهم من فعل الله لا من فعلهم، ومن صنع الله عز وجل لا من صنعهم، وتدبيره جل جلاله لا من تدبيرهم.
فمبتدأ ما أعطاهم الله من حججه منه لا منهم.
فلما أن صح أن هذه العقول المركبة في الخلق فعل الله؛ كان فعل الله في ذلك مشتبها، وكان تدبيره في إثبات الحجج عليهم متساويا، فاشتبهت وتساوت حجج الله على خلقه، التي ركبها في صدور عباده؛ بعدله فيهم، وإحسانه إليهم في مبتدأ أمرهم، كما استوت عليهم فروضه، ووجبت عليهم شرائعه، ولزمتهم بها عبادته.
पृष्ठ 700
فكان أصول ما أعطاهم من حججه فيهم سواء، كماكانت فروضه عليهم كلهم سواء، فتساوى المعنيان من الله في ذلك: معنى الفرض، والمعنى الذي ينال به الفرض، فكانت فرائض الله على عباده كلهم سواء، وجاء ما تعبدهم به منها سواء على المساواة والإستواء. وكذلك جاءت أصول ما أعطاهم الله من حجة العقل التي ينالون بها أداء هذه الفرائض(1) على قياس ذلك سواء، فاستوت المفروضات عليهم، والحجة التي ينالون أداءها بها فيهم.
فساوى الله سبحانه بينهم؛ في إثبات الحجة عليهم، وإكمال البراهين فيهم، وإيجاد السبيل لكلهم إلى أداء فرضه، وبلوغ طاعته، فكان ما أعطوا من أصل حجة العقل في ذلك بينهم سواء، كما كان الفرض عليهم كلهم سواء.
ثم فضل الله تبارك وتعالى من شاء بعد المساواة بينهم والاكتفاء بما يشاء بعد ذلك من الأشياء، فلم يكن لعباد الله حجة على الله، كما لم يكن لهم حجة فيا خلق وجعل، وفطر من الأشياء وفعل من جعله لبعضهم أهل جمال وهيئة، وجلد وهيبة، وجعل بعضهم أهل لطافة وذمامة، وأهل قلة وسماجة.
فمن تكلم فيما فضل الله به بعض الخلق على بعض في زيادات العقل، وجب عليه أن يجيب فيما فضل الله به بعضهم على بعض فيما ذكرنا من زيادة الخلق، في حسن الألوان، وعظم الأبدان، والكمال والبيان، لا يجد من ذلك بدا؛ لأن المعنى فيهما واحد مؤتلف، متساو غير مختلف. وليس في ذلك للخلق على الله حجة، ولا يلحق به سبحانه لمتعنت تجوير ولا ظلم، ولايثبت به عليه حيف ولا غشم؛ لأنه حكيم يمضي ما كان فيه الحكمة على كره من كرهه(2)، وإرادة من أراده؛ لأن الحكمة هي رأس الحق وأصله، والحق فلا يتبع أهواء العباد، ولو اتبعه لفسدت البلاد والعباد، كما قال ذو العزة والأياد، حين يقول: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}[المؤمنون: 71].
पृष्ठ 701
فإن قال قائل: وما في التفاوت بين خلقه في الخلق والأجسام والألوان من الحكمة؟
قيل له: في ذلك أحكم الحكمة؛ لما فيه من الدليل على صانعه، والشهادة على جاعله، والنطق بوحدانية فاعله، وحكمة مدبره؛ لأنه لما أن تصرفت خلقهم، واختلفت ألوانهم، وتباينت صورهم، دل ذلك من حالهم على جاعلهم، وشهدت بذلك حالهم على وحدانية فاعلهم، وبعده من شبههم، واقتداره على فطرهم، ونفاذ إرادته في تأليفهم. فصح له بذلك عند خلقه القدرة، وثبتت له الوحدانية، وصحت له دون غيره الربوبية.
فهذا باب الحكمة وتفسيرها، وشرح أمرها وتثبيتها؛ في ظهور ما أظهر الحكيم من خلقه، وتفضيل ما فضل في الألوان والأجسام، وما له كانت الأمور من الله سبحانه كذلك، وأتى تدبيره جل جلاله على ذلك. وفي ذلك من قولنا، وما يشهد لنا عليه كتاب ربنا؛ ما يقول الرحمن؛ فيما نزل من النور والبرهان: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}[الروم: 22]. فافهم ما به قلنا: من تسوية الله سبحانه بين عباده، فيما أعطاهم من أصول حججه المركبة في صدورهم، كما ساوى بينهم فيما ألزمهم من أداء فرضه، وما به قلنا في الزيادة من الله سبحانه في ذلك لمن شاء من خلقه.
وإن كنت تريد بقولك: هل كان عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عقل أبي جهل: أنه مثله في المساواة والموازنة والكمال والإستواء، وموآد زيادات الله له في الهدى والعطا والتفضيل في كل الأشياء، والزيادة في الفهم، وجودة التمييز؛ فلا ولا كرامة لأبي جهل، لا يكون عقله في ذلك كعقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الزيادات والتفضيلات، والخصائص والكرامات، والتوفيق والتسديد، ما لا يكون مع أحد؛ وذلك لكرامة الله لنبيه، واستحقاق نبيه لذلك من الله بفعله، صلى الله عليه وآله.
पृष्ठ 702
فلما أن فعل ما ارتضاه الله منه؛ من إخلاص النية، وجودة البصيرة، استحق من الله الزيادة.
فكانت زيادات الله وعطاؤه لنبيه على صنفين: فصنف(1) ابتدأه بما ابتدأ؛ لما قد علم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإستواء، وأحاط به علمه قبل خلقه للدنيا؛ من إيثار محمد صلى الله عليه وآله له على غيره، وإخلاصه له في جميع أموره، وأنه يكون على الإستواء، وعلى الغاية(2) في الانتهاء اختيارا منه لذلك، وأثرة منه لربه، من غير جبر من الله له، ولا إدخال له قسرا في طاعته، بل يكون ذلك منه اختيارا، وأثرة لله لا اضطرارا.
فلما علم الله منه ذلك، وأنه يكون في جميع الأمور كذلك؛ ابتدأه بالكرامة على ما قد علم من غاية(3) فعله، وصيرورة أمره، فابتدأه بما هو أهل، من غير عمل كان منه لربه، ولا جبر من ربه على شيء تقدم من فعله، بل على ما قد علم من صيرورة أمره، وما علمه مما سيكون من اجتهاده في طاعة ربه، وتقديمه لإرادته على إرادة نفسه.
والصنف الثاني: فزيادات من الله لنبيه على جزاء فعله، وما ظهر من نصيحته، وبان من اجتهاده في التثبيت لباب اهتدائه، فزاده الله من بعد فعله لذلك تثبيتا وهدى، وزيادة التقوى، كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}[محمد: 17]. فكان اهتداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الإهتداء، وتقواه أكبر التقوى؛ فكانت زيادة الله له أعظم من كل زيادة، وهدايته له أكبر من كل هداية. فكانت هذه زيادة من الله على طريق المجازاة للنبي علىفعله ، وكانت الزيادة الأولة منه لما قد علم من صيرورة أمره.
فاجتمعت لرسول الله صلى الله عليه ثلاث خصال:
पृष्ठ 703
ابتداء الله لاعطائه ما أعطاه من حجة العقل؛ التي ساوى بين العباد فيها في الإبتداء؛ لتقوم له بذلك عليهم الحجة في بلوغ أداء فرائضه، واستدراك معرفته، والإقرار بوحدانيته. وكرامة الله له، وزيادته في ابتدائه بما ابتدأه به؛ على قدر علمه بصيرورة أمره. واجتهاده في طاعة ربه، واقتدائه فيما أمر بالإقتداء به. وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}. فكملت له صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثلاث الخصال واجتمعت، والتأمت وتمت؛ مع غيرها من توفيق الله لنبيه صلى الله عليه وتسديده، وتأييده ومعونته. فعاد ذلك كله زيادات في عقله، وصار له حبيبا في كل أمره.
فكيف يلحق به أبو جهل اللعين، أو يشابهه أو يساويه في شيء من عطاء رب العالمين، وأبو جهل فلم يستحق من الله زيادة في شيء من أمره؛ لا بنية صالحة نواها، ولا بطاعة لله من ذلك أتاها، فيستحق على نيته ابتداء، وعلى ما ظهر من عمله(1) بالصالحات جزاء؟! ولم(2) يكن معه عليه لعنة الله غير ماكان من ابتداء حجة الله (3) المركبة في صدره، المجعولة في قلبه، لتكمل بها عليه الحجة، فترك استعمالها، ورفض النصفة لها، فصار بذلك ظالما لما في صدره من حجج الله فاستوجب بمكابرته لحجج الله عذاب الله وسخطه، وخذلانه ولعنته، فكابر أبو جهل ما زرع في قلبه، ورفض ما أمر به من أمر ربه؛ فاستأهل من الله جزاء سيء فعله، وحاق به كسب عمله، وصار في الضلالة متحيرا، وفي اللعنة من الله متصيرا؛ بما كان (4) له من حجج الله في صدره مكابرا.
पृष्ठ 704
فلن يستوي حال من كان عندالله مرضيا مهتديا، وكان له وليا مواليا؛ وحال من كان مسخوطا عند الله مجنبا، وله سبحانه عدوا معاديا؛ في كل حال من الحال، وفي كل قول وفعال. لا يستوي ولي الله وعدو الله عند الله في حالة، ولا تتقارب منهما عنده منزلة ، لا في ثواب ولا في عطاء، ولا في زيادة ولا في هدى. حال أولياء الله عند الله حال الكرامة والثواب، وحال أعداء الله عند الله حال الخذلان والعقاب. فالحمد لله الذي ميز بين خلقه، وصدقهم في ذلك ما أوجب لهم من وعيده ووعده.
فإن قال قائل: كيف يكون الابتداء من الله على غير عمل ولا جزاء؟
قيل له كذلك الله يفعل ما يشاء، ويعطي من يشاء، على ما يعلم منهم من الإهتداء.
فإن قال: أليس بكمال العقل وتمامه تنال فرائض الله، وتبلغ إرادة الله في قولكم ؟ إذ (1) كان قد فضل بعضا على بعض في الزيادات في العقل؛ الذي ينال به كل فعل؛ ثم كلفهم كلهم بعد أن فضل منهم بالزيادة في العقل من فضل فرضا واحدا، وألزمهم شرائع سواء، لم يرض من أحد منهم بترك خصلة واحدة من ذلك، ولم يوجب على المفضل بالعقل في الفرض زيادة ركعة واحدة من ذلك، ولا صيام يوم واحد، ولم ينقص عن المنقوص في عقله من ذلك الفرض قليلا ولا كثيرا؛ فأين النصفة والعدل، مع ما ترون من الفعل؟
पृष्ठ 705
قيل له: إنك جهلت المعنى؛ فأتى قولك على غير الإستواء. إن الله تبارك وتعالى قد عدل بين خلقه، وساوى بين عباده، فأعطى(1) كلهم من حجج العقل ما بأقل قليله ينالون أداء فرضهم، وتمييز أمورهم، والاستدلال على خالقهم. فساوى بينهم فيما يستدركون به معرفةأمره، ويستدلون به على التمييز بين أموره، ويقفون به على معرفته؛ فلم يوجب على أحد أمرا ولا نهيا، ولم يجعله عنده على شيء معاقبا، إلا وقد أعطاه من حجة العقل ما ينال به ما ينال غيره ممن زاده الله بسطة، وآتاه كرامة. فلما أن ساوى بين خلقه في مستدركات حججه، وبالغات معرفة أداء فرضه؛ زاد من شاء من فضله، وأعطاه ما شاء من كرامته؛ من بعد أن قطع عنه حجة غيره؛ بما ركب في صدره، من مؤكدات حججه، التي بأقل قليلهن وأصغر صغيرهن يستدرك أكثر مما افترض عليه، وينال فوق ما ألزم، وجعل فيه فرضا لازما مؤكدا، وأمرا واجبا مشددا، فزالت عن الله لهم الحجة، وسقطت عنه سبحانه معاني المظلمة، وثبتت له بذلك معاني الحكمة، وصحت له النصفة، وبان عدله في خلقه؛ بما ساوى بينهم فيه من حجته.
فإن قال قائل: بين لي قولك، واشرح لي لفظك، بحجة يقف عليها عقلي، وتكون ظاهرة في صدري.
قيل له: مثل زيادة الله لمن شاء من فضله، وتفضيله لمن شاء من عباده؛ على من قد أعطاه أكثر من حاجته، وثبت في صدره من وافر حجته؛ ما بأقل قليله يؤدي إليه ما ألزمه من فرضه؛ مثل رجل له غلامان؛ فدفع إلى أحدهما شمعة كبيرة متوقدة، ودفع إلى الآخر شمعتين؛ ثم قال لهما: يحرق كل واحد منكما بيتا من حشيش بما معه من النار.
فإن قال صاحب الشمعة: اعطيتني شمعة واحدة، وأعطيت صاحبي شمعتين، ثم ساويت بيننا في إحراق الحشيش؛ فقد ظلمتني في ذلك وجرت علي؛ إذ كلفتني مثل ما كلفت صاحبي، وقد زدته شمعة على شمعتي.
पृष्ठ 706
هل ترى أيها السائل هذا القائل صاحب الشمعة الواحدة صادقا في قوله، أو مصيبا في لفظه؟ أو ترى له حجة على سيده، وقد أعطاه من النار ما بأقل قليله يحرق بيوتا كثيرة؟
فإن قال: قد كان العبد في ذلك مصيبا، وبالحق محتجا، والسيد له ظالم، وفي تكليفه له غاشم؛ حين كلفه من الإحراق مثل ما كلف صاحبه، وقد أعطى صاحبه شمعتين، وأعطاه شمعة واحدة، كان في قوله ذلك محيلا، وعن الصواب عادلا، ولم يقل من ذلك حقا؛ لأن قليل النار يأتي من إحراق الحشيش على ما يأتي عليه كثيرها، ويتفرع منها من الإلتهاب عند إحتراق الحشيش ما لا يكون لصاحب ثنتين ولا ثلاث ولا أربع فضل في عمله على صاحب الشمعة الواحدة وفعله، وكل ينال بما أعطي، أكثر مما كلف وأعطي.
وإن قال: لا أرى لصاحب الشمعة الواحدة على سيده حجة؛ في دفعه إلى صاحبه شمعتين؛ لأن المكلف(1) الذي كلفهما إياه ينال بأقل من واحدة، فلذلك قلنا: إنه لا حجة لصاحب الواحدة على سيده، وصاحب الواحدة ظالم لسيده، غير محتج بحق على مالكه؛ لأنه قد ساوى بينه وبين صاحب الثنتين فيما دفع إليه من النار، التي بأقل قليلها ينال من إحراق بيوت كثيرة ما ينال صاحب الثنتين والثلاث والأربع لو كان.
فإذا قال بالحق، ورجع إلى الصدق؛ قيل له عند إقراره بذلك، ومعرفته بالأمر إذ كان كذلك: قد أصبت المعنى، وقلت بالحق وثبت على الإستواء، وثبت لك بذلك، ما أحببت معرفته من عدل الله سبحانه في ذلك وحكمته، ولطيف صنعه وقدرته.
पृष्ठ 707
فعلى هذا المثال، يخرج معنى ما تقدم منا(1) من المقال، فيما أعطى الله العباد من حجة عقولهم، وساوى بينهم فيما ركب من ذلك في صدورهم، فجعل كل من(2) لزمه عقاب على فعله، أو ثواب على عمله، في حجة العقل سواء، فكل قد ركب فيه ما بأقل قليله ينال به أكثر مما افترض الله عليه، ويستدل به على حاجته منه وفيه، ويميز فيه بين أعماله، ويهتدي به إلى فواضل أفعاله، ويصل به إلى الاختيار في الحالين، والتمييز يبن العملين، وسلوك ما يشاء(3) من النجدين، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم}[الأنفال42].
فلم يكن لمن أعطي من حجة العقل ما ذكرنا على الله سبحانه حجة في شيء من أموره، ولا سبب من أسبابه، بما فضل به عليه غيره من بعد المساوة فما يحتاج إليه، كما لم يكن لصاحب الشمعة الواحدة على سيده في إحراق ما أمره بإحراقه حجة باعطائه لصاحبه شمعتين؛ إذ المعنى في ذلك واحد في الواحدة والثنتين، والدرك بالجزء الواحد لما أمر به من النار في إحراق الحشيش كالدرك بالجزأين.
فهذا معنى ما عنه سألت، فافهم الجواب في ذلك إن شاء الله، والحمد لله وصلواته على محمد وآله وسلم.
[كيف يأخذ جبريل الوحي عن الله]
وسألت أكرمك الله وحفظك، وأعانك على طاعته ووفقك، فقلت: كيف يأخذ جبريل عليه السلام الوحي عن الله، وكيف يعلمه؟ وكيف السبيل فيه من الله حتى يفهمه؟
واعلم هداك الله أن القول فيه عندنا: كما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه سأل جبريل عن ذلك، فقال: (( أخذه من ملك فوقي، ويأخذه من ملك فوقه، فقال: كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه؟ فقال جبريل: يلقى في قلبه إلقاء، ويلهمه الله إياه إلهاما.
पृष्ठ 708
وكذلك هو عندنا أنه يلهمه الملك الأعلى إلهاما، فيكون ذلك الالهام من الله إليه وحيا، كما ألهم تبارك وتعالى النحل ما تحتاج إليه، وعرفها سبلها حين كان منها في ذلك من بناء شهودها(1)، وتسوية ما تسوي لأولادها، وما تجتنيه(2) من الأشجار مما تعلم أن فيه الشراب الذي ذكر الله أنه شفاء، سماه الله سبحانه شفاء للناس، من العسل الذي يخرج من أجوافها، فقال تبارك وتعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}[النحل: 68 69].
فكما جاز أن يلهم النحل ما تحتاج إليه فتفهمه، حين فهمت الأشجار؛ وميزت الثمار فعرفت ما يخرج منه العسل فقصدته، وعرفت ما لا عسل فيه فتركته، مع عجائب كثيرة من أمرها، ودلائل على أثر الصنع في فعلها، يستدل به من جعل له لب، ويعرف أثر صنع الله فيه من كان له قلب.
فكذلك فعل الله في الملك يلهمه ما أراد الهاما، ويلقيه في فهمه إلقاء، فيكون فعل الله في ذلك منيرا ساطعا، عند كل من كان ذا عقل نافع، لا يمتنع من قبوله عقل عاقل، ولا يكون عندكل ذي تمييز بحائل.
فإذا ألهمه الله ما أراد سبحانه، ثبت في قلبه بغاية الثبات، كلما(3) وقع من ربه في الحالات، أثبت وأوضح في قلبه من كلام لوسمعه من غيره؛ لأن هذا الإلهام من الله فعل مفعول في الملهم، وما كان من فعل الله وإلقائه إلى عبده، فهو أثبت وأوضح من إلقاء مخلوق إلى مخلوق مثله.
पृष्ठ 709
فهذا معنى ما ماعنه سألت من وصول حكم الله ووحيه، إلى المؤدي عنه من ملائكته، ما أراد وشاء من فرضه.
فاعمل فكرك في تدبيره، يوصلك ذلك إن شاء الله إلى فهمه، ويوردك إلى ما أردت من علمه.
[كيف يحاسب الله عباده وما معنى الحساب]
وسألت: كيف يحاسب الله العباد يوم القيامة؟ وما معنى الحساب في يوم المعاد؟
والقول في ذلك: أن الله ذا الجلال والإحسان، قد جعل مع كل إنسان؛ ملكين في كل حال، عن اليمين وعن الشمال، يحفظان عليه فعله، ويحصيان عمله، ويكونان شاهدين عليه بكسبه، محصيين مايكون من صنعه، فإذا كان يوم القيامة، ويوم الحسرة(1) والندامة؛ أتى به ملكاه إلى من أمره الله من الملائكة بمحاسبة العباد ومحاسبتهم فتوقيفهم على أفعالهم، وتعريفهم ما كان من أعمالهم ثم شهد(2) حافظاه عليه، ووقفاه على ما كان من أمره، وبكتاه بمعاصيه لربه، ووقفاه على جرأته على خالقه، فلم يذرا مما تقدم منه شيئا؛ إلا أو قفاه عليه حرفا حرفا.
فهذا معنى محاسبة الرب لعباده.
قال قلت: فما معنى ذلك؛ إذ كان العقاب لا زما على المعاقبين، والثواب واجبا للمثابين؟!
قيل لك: لأن في تعريف المعاقب ما تقدم من عمله(3) وتوقيفه على ما أتى به من عمله؛ حسرة عليه في يوم الدين أيما حسرة، وفي تحسره جزء عظيم من عذابه. فكان توقيفه سببا لتحسره وغمه، وكان تحسره وغمه زيادة في عذابه وخزيه.
وكذلك معنى توقيف الله للصالحين على فعلهم، وإعلام حفظتهم لهم بما حفظوا عليهم من عملهم. فكان ذلك سرورا للمؤمنين، وإيقانا من المتقين بنجاح فعلهم، وحسن موقعه عند ربهم، وبشارة سابقة إليهم من الرحمن، بما أعد لهم من الجزاء والخير والإحسان، وكان ذلك زيادة من الله في ثوابهم، وبشارة سيقت إليهم في يوم معادهم.
فهذا معنى ما عنه سألت من الحساب ومعناه، وما أراد الله بذلك وشاءه.
पृष्ठ 710
[ما هو يوم القيامة وما معنى القيامة]
وسألت فقلت: ما يوم القيامة؟ وأي شيء معنى القيامة؟
القول في ذلك: أن يوم القيامة يوم جعله الله تبارك وتعلى وقتا لحشره، وحينا لبعثه ونشره، أبان فيه وعيده ووعده، وأبان فيه ما حتم به من حكمه، أنصف فيه المظلوم، وأظهر فيه الحق المعلوم، فأوصل وعده إلى أوليائه، ووعيده إلى أعدائه، وأقر كلا في داره، ليعلم كل (1) صدق قوله، ويرى إنفاذ إرادته {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ماكنتم تعملون}[النمل: 89 90].
فأما معنى تسمية ذلك اليوم (بالقيامة)، فمعنى القيامة هي: قيامة هذه الأشياء التي ذكرنا، وقيامها فهو: ظهورها، وظهورها فهو: كينونتها. من ذلك ما يقول القائل: قد قامت الحرب بينهم، يقول: لقحت وبانت، وظهرت واستقامت(2). ومن ذلك ما تقول العرب(3): قام السوق، تريد استوى وقام أمره، وحظر ما يطلب به فيه ويبتغى؛ من البيع والشراء.
فهذا معنى ما أحببت علمه من ذكر الحساب والقيامة. وقلت: هل ما ذكر الله من ذلك، وما شرح(4) في يوم المعاد؛ فعل يكون ظاهرا؟ أو هو مثل ضربه الله للعباد؟ (5)؟
ولن يكون ذلك أبدا مثلا؛ وفيه وعيد الله ووعده، وثوابه لأوليائه، وعقابه لأعدائه، بل أمر لاحق، وبجميع الناس واقع، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
[على من يجب النفير في سبيل الله]
وسألت فقلت: من يجب عليه النفير في سبيل الله؟
पृष्ठ 711
واعلم هداك الله أن النفير والهجرة في سبيل الله واجب على كل من عرفه ممن عدم أربعة أشياء، وكان سالما منها، وهي: العرج والعمى، والمرض والفقر، فمن لم يكن من أهل هذه الأربعة الأشياء فالهجرة عليه والنفير واجبان، والجهاد والقيام لا زمان، لا يفكه عن فرضهما، ولا يزيحه عن واجب أمرهما؛ إلا القيام بهما والأثرة لهما، أو الكفر بمن افترضهما، كما قال الرحمن الرحيم، فيما نزل من الفرقان(1) الكريم؛ حين يقول تبارك وتعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [التوبة: 41] ثم قال سبحانه قطعا منه لحجج المتعللين، واعذارا وإنذارا إلى العالمين، وتبيينا لفرضه الأكبر، وإقامة لدينه الأوفر، وحضا على ما به قوام الإسلام، وصلاح دين محمد عليه السلام : {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم} إلى قوله: {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}[التوبة: 24] ، فجعل المتخلفين عن جهاد الظالمين، في الحكم عنده سبحانه من الفاسقين.
وما ذكر به من ذلك أولئك، ومن كان من الخلق كذلك؛ فكثير في القرآن، معلوم عند أهل المعرفة والبيان، يطول شرحه لو شرحناه، ويجزي ما ذكرناه عما تركناه.
पृष्ठ 712
وكيف لا يكون من منع الجهاد، وتعلل بالأموال والأولاد(1)، من أشر العباد عند ذي العزة والأياد؛ وقد هتك الدين، وباين رب العالمين، وشرك في دماء المسلمين، وقوى بذلك جميع الفاسقين؟! فكان بخذلانه للدين، وقعوده عن المحقين؛ شريكا للكافرين، ومعاضدا للفاجرين، إذ كانت بخذلانه نيته وسطوته على المحقين، بتخلف المتخلفين مظاهرة. فكان محل الخاذل بخذلانه وقعوده عند الله محل المحارب بمحاربته، لا ينفك الخاذل للمؤمنين، من المشاركة للفاسقين، فيما نالوه من المتقين، في حكم أحكم الحاكمين.
فليتق الله ربه، وليقس بفتره شبره(2)، وليترك عنه التعلات، وليحذر من الله النقمات، فقد وضح الحق لطالبه، واستنار الرشد لصاحبه. فلا عذر في تخلف المتخلفين، ولا حجة في تأويل المتأولين، ولا بد من النصرة لرب العالمين، أو الكفر بما أنزل على خاتم النبين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم.
[تكليم الله لموسى]
وسألت عن قول الله سبحانه: {وكلم الله موسى تكليما}[النساء: 164] فقلت: كيف كان الكلام من الله عز وجل لموسى عليه السلام؟ وما معنى قوله: {تكليما}؟
واعلم هداك الله أن الله تبارك وتعالى لم يوح إلى أحد من الأنبياء إلا على لسان الملك الكريم جبريل عليه السلام، وكذلك إلى موسى صلى الله عليه، فقد كان منه الإيحاء إليه على لسان جبريل حتى كان في هذا الوقت الذي ذكره الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، فكان من الله إليه(3) ما ذكره الله سبحانه من الكلام له عليه السلام.
पृष्ठ 713
وكان معنى ذلك أن الله سبحانه خلق له كلاما في الشجرة سمعه موسى بإذنه، كما كان يسمع ما يأتي به الملك إليه من وحي ربه، فكان فهم موسى وسماعه لذلك الكلام الذي شاء الله إسماعه إياه؛ لما أراد من كرامته واجتبائه كفهمه لما به كان يأتيه جبريل عن الله من وحيه سواء سواء. فلما أن لم يكن بين الله سبحانه وبين موسى صلى الله عليه لهذا الكلام المخلوق في الشجرة مؤد يؤديه إليه؛ كما كان يكون فعله في غيره مما ينزله عليه؛ جاز أن يقول: {وكلم الله موسى تكليما}، يريد: أسمع موسى وأبلغه ما كان يريد من الكلام والوحي إسماعا؛ بلا مؤد لذلك إليه. فلما أن لم يكن بين الله وبين موسى مؤد للكلام إلى موسى وكان المتولي لجعل الكلام وفعله، وخلقه على ما سمعه موسى من البيان، والكفاية والتبيان قال الله سبحانه: {وكلم الله موسى تكليما} معنى {تكليما}، هو: تأكيد للإخبار منه عز وجل بما كان من عجيب فعله، وعظيم قدرته، وظاهر برهانه، وما ازداد موسى به بصيرة إلى بصيرته؛ من خلقه لكلام ينطق من غير لسان؛ كما ينطق به ذووا اللهوات والأدوات، واللسان والآلات.
فهذا معنى قوله: {تكليما}، لا كما يقول به الجاهلون، وينسب إلى الله الضآلون، من تشبيهه لخلقه، ونسب الكلام إليه على طريق التكلم به؛ كما يعقلون من كلام الآدميين، ويعرفون من كلام المخلوقين، تعالى عن ذلك أرحم الراحمين، وجل أن يكون كذلك رب العالمين.
[ما هو معنى الصور وكيف هو]
وسألت عن الصور، فقلت: ما هو؟ وكيف هو؟ وعلى أي صفة هو؟
واعلم رحمك الله أنه ليس ثم صور ينفخ فيه كما يقول الجاهلون، ويلفظ به العمون، وإنما الصور الذي ذكر الرحمن، فيما نزل من واضح النور والبرهان، هو: جميع الصور، والصور: جمع الصور والعرب(1) تقول: صورة وصورتان وصور، ثم تجمع الصور، فيكون جمعها صورا.
فهذا معنى الصور.
पृष्ठ 714
ونفخ الله فيها في النفخة الأولى فهو: إفناؤها، وهو نفخه فيها، وهي الأبدان والصور صور المخلوقين(1) وأبدان العالمين لما أراد من هلاكها، وفنائها ودمارها، فواقعها وحل بها من الله سبحانه ما أزالها، وحق(2) بها منه ما أبادها، وواقعها منه ما أتلفها(3)، فصارت بنفخ الله فيها، وما وعدها من الموت والفناء؛ إلى الزوال والإنقضاء.
فهذا معنى ما ذكر الله من النفخة الأولى في الصور المصورة، والأجسام المفتطرة.
ومعنى النفخة الأخرى، فهي: نفخة الله الثانية، في الصور والأبدان المتمزقة البالية؛ لما أراد الله من حيوتها ونشرها، وتجديدها وبعثها من بعد موتها، فكان نفخه بالحياة فيها، نفخة ثانية أخرى بعد النفخة المهلكة الأولى. فكانت النفخة الأولى للهلكة(4) والوفاة، وكانت النفخة الأخرى للنشور والحياة، قال الله تبارك وتعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}[الزمر: 68]، فأخبر سبحانه أن النفخ على المعنيين، وأن له حالين مختلفين؛ إذ كان حال الأولى؛ ما أوجبه الله من حال الهلاك والانقضاء، وحال النفخة الأخرى، ما جعل الله فيها وبها من حال الحياة بعد الفناء.
فافهم ما قلنا، واعرف من ذلك ما شرحنا؛ من شرح النفخ ومعناه، وأنه ما واقع الصور أولا(5) وآخرا من مراد الله وفعله، وما حكم به سبحانه في خلقه.
[ماهي الأرواح ولماذا لا تموت مع الأبدان]
وسألت عن الأرواح فقلت: ما هي، وكيف هي؟ وقلت: كيف يميت الله الجسم ولا يميت الروح والله عدل لا يجور؟!
فكذلك الله سبحانه عدل في فعله، حكيم في صنعه، لا يجور على أحد من خلقه.
पृष्ठ 715
فأما ما قلت وسألت عنه؛ من صفة الروح وتفسيره؛ فالروح: شيء خلقه الله قواما للأبدان، وحياة للإنسان، به تعمل الجوارح المجعولات، وتتصرف الاستطاعة المخلوقة، تعدم الجوارح الاستتطاعة بعدمه، وتثبت فيها استطاعتها بوجوده، شيء(1) خلقه الله وصوره، وجعله بحكمته وافتطره؛ لحياة(2) الأبدان والأعضاء، ويعيش به ما جعل الله في الأبدان من الأشياء، به تبصر الأعين المبصرة، وبه تسمع الأذان السامعة، وبه تنطق الألسن، ويشم الأنف، وتبطش اليدان، ويميز القلب وتمشي الرجلان؛ فجعله قواما لما حوت الأبدان، ودليلا على قدرة الرحمن، ضعيف محدود، تضمه الأبدان المؤلفة، وتجمعه الأعضاء المتفرقة، ويحويه الجسم ويحده، مخلوق مجعول، وكائن بتدبير الله مفعول.
فهذه صفة الروح ، وبيان ما عنه سألت منه وشرحه.
فإن قلت: انعته لي بصفة غير هذه الصفة أقف عليه بها؛ من لون وطول وعرض، وغير ذلك من الصفات.
पृष्ठ 716
قلنا لك وأجبناك: بأن الذي ذكرت محجوب عنا استأثر الله بعلمه، وأبى أن يطلع أحدا على قدرته، فقال لمن سأل نبيه عما سألت من الروح وتقديره، وصفته بغير ما وصفناه : {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] فلم ينبه عليه السلام ولا إياهم(1) من علم الروح وصفته؛ على غير ما ذكرناه من نعته، وقال: {قل الروح من أمر ربي} يقول: من فعل ربي وخلقه، وتدبيره وصنعه(2)، والشاهد له بالحكمة. ولم يصف الروح بغير ما وصفنا، ولم يستدل عليه بغير ما دللنا، ولس في نعت ذلك لأحد حجة، ولا لأحد إلى علم كيفيته حاجة، وليس عزوب علم ذلك على الآدميين؛ إلا كعزوب علم غيره من الأشياء، مثل: معرفة صورة ملك الموت، وصورة مالك خازن النار، وصورة إبليس وجنده، فهم خلق من خلق الله، قد أطلع(3) على تكوينهم وتقديرهم، شكلهم ومثلهم؛ من الملائكة والشياطين(4)، وحجب علم ما علمته(5) أشكالهم من تصويرهم وتقديرهم عن(6) الآدميين، فليس من الآدمييين خلق يصف ما ذكرنا بطول ولا عرض، ولا جسم ولا لون. فهؤلاء مخلوقون يصفهم بما ذكرنا شكلهم، ويعرف ذلك مثلهم، قد عجز عن وصفهم الآدميون، وانحسروا عن تحديدهم، وعجزوا عن شرح ألوانهم وهم خلق من خلق الله قد أظهره، وفعل من فعله قد بينه، لم يحجب أمثالهم منه شيئا، ولم يستر عن أشكالهم منه جزء، عجز عقلك وعقول أشكالك أيها السائل عن صفتهم، وانحسرت ونظراءك عن تحديدهم، وانقطعت وهم عن تقديرهم.
पृष्ठ 717
فكيف تريد أن تحيط بصفة ما ستر الله علمه، وتقف على تحديد ما منع الله الخلق فهمه؟! ولم يبين(1) من علم كيفيته في نفسه قليلا ولا كثيرا للملائكة المقربين، ولا للأنبياء والمرسلين، ولا لأحد من المخلوقين. فهذا طلب منك للمحال، وجري في ميادين الضلال، وتشبث بفاسد من المقال.
وقد وصفنا لك الروح، وبيناه بالدلائل التي بينه الله لنا بها، وهدانا سبحانه إليها، حتى عرفته(2) بغاية المعرفة المفهومة، واستدللت عليه بأدل الدلائل المعلومة، التي دلتك على تحديده، وأوقفتك على تقديره، وشهدت لك على أثر صنع الله في تدبيره، وأوضحت لك أنه فعل من الله مجعول، وأنه مبعض مفعول، تضمه الأعضاء، وتحوزه الأجزاء، وتحويه الأبدان، بأبين البيان وأنور البرهان.
فميز قولنا، وتدبر شرحنا؛ يبن لك أمرك، ويصح لك من ذلك محبوبك.
وقلت: كيف يميت الله البدن ولا يميت الروح؟! وكل سيموت. فأما معنى تأخير الله لإماتة الروح(3)، فإن ذلك بحكمة الله وفضله(4)، وما اراد من الزيادة في كرامة المؤمنين، واراد من الزيادة في عذاب الفاسقين. فجعل الأرواح حية باقية إلى يوم الدين، ليكون روح المؤمن من بعد فنآء بدنه في البشارات والسرور، والنعيم والحبور، بما يسمع من تبشير الملائكة بالرضى والرضوان، من الواحد ذي الجلال والسلطان، وما أعد له من الخير العظيم، والثواب الجسيم، كل ذلك يتناهى إليه علمه، ويصل به من ربه فهمه، فيكون ذلك زيادة في ثوابه، ومبتدأ ما يريد الله من إكرامه، حتى يكون يوم القيامة المذكور، ثم ينفخ في الصور النفخة الأولى فيقع بهذا الروح من الموت ما يقع بغيره في ذلك اليوم، فيموت ويفنى، كما فني البدن أولا.
पृष्ठ 718