نظر الكهل في وجهي بذهول متجسم فقلت بحرارة: صدقني فأنا أحادثك، وأنا في كامل قواي العقلية.
وقصصت عليه قصة النقود التي أدينه بها فسألني بارتياب: هل سبق لك أن رأيت مديرنا العام؟ - كلا. - من أدراك أن ذلك الرجل هو المدير؟ - لا شك في ذلك ألبتة. - ولم لا يكون رجلا عابثا استغل طيبة قلبك؟ - مستحيل ... دعني أصفه لك ...
ولكنه قاطعني قائلا: لا جدوى من ذلك؛ فأنا لم أره إلا لمحا منذ سنوات ومن بعيد. - على أي حال أنا واثق من أنه المدير العام. - حكايتك حكاية ...
فقلت متجاوزا الجدل: خذني على قد عقلي، ودلني على كيفية رفع شكوى للمدير العام. - عظيم، تكتب الشكوى على عرضحال تمغة، وتقدمها إلي بصفتي رئيسك المباشر، فأعتمدها، ثم ترفع إلى مدير الإدارة ليعتمدها بدوره، ثم ترفع إلى المراقب العام ليعتمدها بدوره، ثم ترسل إلى مكتب المدير العام، وثمة نصيحة لوجه الله، وهي ألا تذكر أمام أحد حكاية الخمسة والعشرين قرشا!
وكتبت الشكوى بعناية، قدمتها لرئيسي المباشر، وقع عليها برجاء العطف، ومضيت بها إلى سكرتير مدير الإدارة، دسها تحت تل من الشكاوى، ثم انصرف إلى عمله، سألته: متى تتفضل بعرضها على مدير الإدارة؟
فأجاب دون أن يرفع بصره عن أوراقه: لا شأن لك بذلك. - ولكنها شكوى من نوع خاص، أعني أنني ما كتبتها إلا بإيعاز من سعادة المدير العام نفسه!
فرمقني بنظرة غريبة وتساءل ساخرا: سعادتك قريبه؟ - تلك هي الحقيقة بلا سخرية. - ستعرض في حينها أو خذها واذهب. - لا تزعل، متى أرجع لآخذها؟ - بعد أن يتم عرضها. - ومتى يتم عرضها إن شاء الله؟ - ستعرض في حينها.
وانصرف عني بحركة حاسمة طاردة فرجعت إلى مكتبي، وأنا أسب الكادر وشاغليه ما عدا سعادة المدير العام طبعا، ورجوت رئيسي أن يتشفع لي عند سكرتير مدير الإدارة، ولكنه رفض بغرور الشاب وقلة أدبه، ومرت الأيام وأنا أنتظر وأتصبر.
وذات صباح وزميل لي يراجع معي ميزان الوارد مال نحوي وسألني هامسا: هل حقا أقرضت المدير العام خمسة وعشرين قرشا؟
فانزعجت جدا وتولاني الذعر وسألته عمن أخبره بذلك، فقال إنه سمع همسا يدور حول الموضوع في الأرشيف. يا دافع البلاء ارحمنا، واتهمت رئيسي ولكنه أقسم لي بأولاده أنه لم ينبس بكلمة واحدة، فاتهمت زوجتي - ولها صديقات بين زوجات الموظفين - ولكنها أنكرت إما عن صدق أو عن خوف، انسكب سم القلق في نفسي، وتوهمت أن الأنظار تلاحقني بدهشة وسخرية، وأن أصحابها عما قليل سيرمونني بالعته أو الجنون؛ ولذلك كان علي أن أسرع في مسيرتي قبل أن يقع ما ليس في الحسبان. وذهبت إلى سكرتير مدير الإدارة، فلم يرد تحيتي ولكنه أشار بامتعاض إلى شكواي فتناولتها شاكرا، وهرعت من فوري إلى سكرتير المراقب العام، قدمت الشكوى، أردت أن أشرح له أهمية الموضوع ولكنه بادرني قائلا: اتركها واذهب.
अज्ञात पृष्ठ