وهو يعاود الضحك: ترى ما الملاحظات التي تمضي بها؟
ففكرت غير قليل ثم قلت: إنكم لا تؤدون واجبكم! - الناس لا يتكلمون. - أعلم أن أرزاق البعض بيد البعض الآخر، ولكن الغضب يتجمع في الأعماق وللصبر حدود.
فهز رأسه باستهانة وتساءل: ما واجبنا في رأيك؟ - أن تحققوا العدالة. - كلا. - كلا؟! - واجبنا هو المحافظة على الأمن. - وهل يحفظ الأمن بإهدار العدالة؟ - وربما بإهدار جميع القيم! - تفكيرك هو اللعنة. - هل تخيلت ما يمكن أن يقع لو حققنا العدالة؟ - سيقع عاجلا أو آجلا. - فكر طويلا بلا مثالية كاذبة، قبل أن تكتب تقريرك، ماذا ستكتب؟
فقلت بامتعاض: سأكتب أن جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب!
المقابلة السامية
قمت بجولة في العمارة الجديدة الخالية، هي جديدة بكل معنى الكلمة، فواحة برائحة الطلاء ما زالت، تحتل مربعا صقعا، وعما قليل تعلق في أعلى مدخلها لافتة كبيرة تحمل اسم مصلحتنا العتيدة، وكنت وراء الملابسات السعيدة التي أدت إلى اختيارها وتأجيرها للمصلحة. كنت كاتبا منسيا بالأرشيف، ولكني اخترت كاتبا للجنة التي شكلت للبحث عن مقام جديد للمصلحة، يضم أشتاتها المتناثرة في أحياء متباعدة بالمدينة الكبيرة، وكنت أعبر الطريق كل صباح أمام موقعها في مسيرتي اليومية إلى المصلحة القديمة، فدعوت اللجنة لمشاهدتها، وسرعان ما اتخذت الإجراءات الإدارية ثم توقع العقد مع مالكها.
قمت بجولة في العمارة الجديدة الخالية، لم تكن إجراءات النقل قد بدأت بعد، وكنت مارا كالعادة في الصباح، فأغراني الزهو وشعور وهمي بالملكية، بالقيام بجولة بيروقراطية، وكان البواب قد عرفني في الزيارات الرسمية السابقة فاستقبلني باحترام جاهلا - لطيبة قلبه - مدى البؤس الذي أعانيه كموظف منسي حقير، ذلك البؤس الذي أكده كوني رب أسرة مكتظة لا تذوق اللحوم إلا في المواسم.
وفي فناء العمارة صادفت رجلا لا أدري من أين جاء، غاظني منه بصفة خاصة أنه كان يسير بأقدام ثابتة شديدة الرسوخ والثقة. ظننته جاء يبحث عن شقة يستأجرها، فتوقعت منه تحية متوددة، ولكنه تجاهلني بادئ الأمر تماما، ومضى يلقي على ما حوله نظرات متعالية خليقة بأن تثير حنق موظف - مهما قيل عن تعاسته - فهو مكتشف العمارة، فضلا عن أنه ممثل السلطة التي ستحتلها بعد أيام قلائل، وتحفزت للتحرش به ولكن في حدود المعقول إذ كان ربعة متين البنيان مهيب الطلعة، وإذا به يبادرني - بلا تحية - قائلا: أنت من طرف أصحاب العمارة؟
فقلت باعتزاز: أنا عضو لجنة المصلحة التي استأجرت العمارة.
فقال بهدوء: عظيم، أريد أن ألقي نظرة عامة على الداخل. - ولكن من حضرتك؟
अज्ञात पृष्ठ