المنظر المرعب لا يبرح مخيلته، يعذبه ويطارده. فر بقوة تركبه وتدفعه بلا حذر، نسي زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، فلم يذكرهما إلا في ظلام حجرته. ارتدى ملابسه وغادر الشقة، حمل الأرض فوق رأسه، ابتاع جريدة الصباح وهو يخترق شارع القبة بالجيزة، ولكنه قال لنفسه: «لم يكتشف شيء بعد.» وأخيرا وجد نفسه جالسا إلى مكتبه بالإدارة، وجاء الرئيس في أعقابه وامتلأت المكاتب إلا واحدا، ونظر إلى المكتب الخالي بعين متلصصة، وهو يقع فيما أمامه على الجانب الآخر للحجرة، وشرع في العمل وهو يختلس إليه النظر، إذا تمت له النجاة فسيحزن عليها طويلا، أما الآن فلا وقت لديه للحزن، وتساءل الرئيس: ست لطيفة لم تحضر، ألم تعتذر؟
ولما لم يسمع جوابا عاد يقول: الموظفات أعذارهن لا تنتهي.
وأثار قوله ضحكات على سبيل التشفي أو الملق. لم يشترك في الضحك، تساءل فيما بينه وبين نفسه: ترى ألم يلاحظ أحد شيئا مما كان يتبادل في صمت بينه وبين المكتب الخالي؟ ربما أدلى شاهد بملاحظة عابرة تقلب دنياه رأسا على عقب، أو يكون آخر رآهما في أحد منعطفات شارع الهرم، ثم إنه نسي هناك زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، أي أسرار يمكن أن تبوح بها الزجاجة والعلبة؟ إن كل شيء ينطق أمام شياطين المحققين ويخلق الأساطير، وغير بعيد أن يكون قد نسي أشياء أخرى، وبصماته انطبعت بلا حساب ولا حذر، وربما وقع المحققون في الشرك وأغمضوا العين عن القاتل الحقيقي.
وجاءه صوت الرئيس، وهو يقول بصوت آمر رنان: يا سيد عمرو، سأحول إليك الأوراق العاجلة الداخلة في اختصاص ست لطيفة ...
لماذا اختاره هو بالذات؟ ربما لأنه أحدث الموظفين عهدا بالوظيفة، أم تراه يعني شيئا وراء ذلك؟ إنه قصير ماكر ذو نظرة تحتانية، فهل يعني شيئا آخر حقا؟! واسترق نظرة من الوجوه ليرى أثر الأمر الإداري، ولكنه لم يقرأ شيئا. كل شيء هادئ وعادي، والقاتل مجهول فما معنى الخوف؟ وكان يصارع التشتت والتمزق عندما سمع صوتا غريبا يسأل بأدب: هل الست لطيفة موظفة في هذه الإدارة؟
فأجابه موظف: أجل ولكنها لم تحضر اليوم.
نظر إلى القادم باهتمام فرأى شابا طويلا نحيلا، غامق السمرة، يرتدي قميصا أزرق وبنطلونا رماديا، سرعان ما غادر الحجرة على أثر الإجابة التي تلقاها، لم يسأله أحد عن هويته، ولم يعلن هو عنها، ونسي تماما بمجرد اختفائه. فكر فيه طويلا وساورته مخاوف شتى، وتجسدت لمخيلته الجثة ربما للمرة الألف، وتذكر كيف انهزم لدى رؤيتها ففر كالمجنون. غرق في أفكاره ثم صحا بعد وقت لا يمكن تحديده على حديث يدور حول حذاء أبيض، ارتعد قلبه، ماذا يقولون؟ أحدهم يقول: إن الأحذية البيضاء باتت نادرة الاستعمال، فقال آخر إن الحذاء يعجبه. فعاد الأول يقول إنه يتسخ لأوهى الأسباب، ويصعب تنظيفه وتلميعه بسبب سطحه البني. اشتدت به الرعدة فتساءل: ما حكاية الحذاء؟
فأجابه الموظف الأول: حذاء أبيض ذو سطح بني من النوع الكلاسيكي، رأيناه في قدمي الشاب الذي جاء يسأل عن لطيفة. - لا! - ندت عنه بعصبية ملفتة للانتباه، وهو يتهاوى في انهيار كامل، ولما شعر بالأعين المحدقة فيه قال: آسف، الظاهر أني أصبت بالأنفلونزا!
وضحك ضحكة عالية لا تناسب المقام، ولم يستطع صبرا فسأل الموظف الآخر: أكان الشاب ينتعل حذاء أبيض ذا سطح بني؟ - أجل، وهو يعجبني، هذه هي المسألة.
واستأذن في الذهاب إلى دورة المياه، ولكنه اندفع في الطرقة الموصلة إلى الباب الخارجي، ودار دورة عشوائية حول مبنى الوزارة، ولكنه لم يعثر للشاب على أثر، ولبث مذهولا وهو يقول لنفسه: هكذا تقع الأحداث التي نسمع عنها من بعيد دون مبالاة. •••
अज्ञात पृष्ठ