عيناها تطلان من النافذة كعيني أمه، تفتشان عنه في مخبئه. تلسعه على ردفيه بالعصا الخيزران. اسمع الكلام يا ولد! لم يكن يسمع كلام أمه. كلام نسوان! هكذا يقول جده، ناقصات عقل ودين! هكذا يقول أبوه، ولا يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة.
يتكور حول نفسه وراء جذع الشجرة. رأسه بين ركبتيه، وهي واقفة في النافذة، لا ترى منه إلا ظلا أسود فوق الأرض. انفرجت شفتاها عن ابتسامة، فاعوج فمها من ناحية اليمين. فم المدير حين يبتسم تصبح له هذه الاعوجاجة. رئيس المدير أيضا، وكل الرؤساء كانت تراهم في الصحف. إذا ابتسم الواحد منهم اعوج فمه ناحية اليمين. حركة أصبح لها جاذبية تنم عن سمو المكانة.
ملأت صدرها بهواء الليل - انتفخ كصدر أبيها حين يجلس إلى جوار العمدة، واضعا الساق فوق الساق. لم يكن أحد يجلس أمام العمدة واضعا ساقه فوق الساق الأخرى، إلا أبوها بعد أن أصبح حلاق الملك. تنحني رءوس الرجال أمامه كأنما يرون الملك. لا يصدقون أن رجلا من قريتهم يمكن أن يرى الملك وجها لوجه، فما بال أن يمسك ذقنه بيده ويحلقه بالموسى؟ بعد زوال الملكية لم يعد يجلس واضعا ساقه فوق الساق الأخرى، لكن عنقه كان يشرئب عاليا حين يحكي عن ابنته. كيف وقفت أمام الرئيس في عيد النصر. كيف انحنت بنصفها الأعلى. كيف امتدت يدها لتصافح يده. كيف قلدها وسام الوطنية والشرف. - الشرف!
ترن الكلمة في أذنيها بصوت أبيها. يفتح فكيه عن آخرهما ناطقا «الشرف» كأنما يتثاءب، يضغط على الحروف. يضاعف الضغط على الشدة فوق حرف الشين. تتطاير الحروف في الهواء مع الرذاذ المتناثر من فمه. تلتقطها آذان النسوة الجالسات في بطن الجسر. ينكمشن داخل جلاليبهن السوداء. تضم كل منهن ركبتيها وفخذيها. تمتم بآية تطرد العفاريت وأرواح الجان، فالشرف هو العرض، والعرض أغلى من الأرض. يتوارثه الرجال أبا عن جد. لا يمكن لأحد أن يمس شرف الآخر وإن كان من الإنس أو الجن. الدم وحده يغسل العار إذا ضاع الشرف، والدم وحده يثبت وجود الشرف في ليلة الزفاف. تأتي الداية بإصبع له ظفر طويل. تفض بكارة العروس. تتلقى الدم فوق بشكير أبيض. تطلق النسوة الزغاريد. تدق الطبول. تنتفخ صدور الرجال والأزواج. يرفعون أنوفهم حتى تلامس السقف، فالشرف شرف الذكور، والأنثى ليست إلا الدليل.
كانت ليلة حالكة السواد حين خرج البشكير نظيفا أبيض، لا تلوثه قطرة واحدة، وانكمش حلاق الملك في مقعده. تضاءل عنقه وأصبح كالسمسمة. في الليل نهض. فتح الصندوق الخشبي حيث ترقد العدة. أخرج الموسى. سنه فوق قطعة من البلاط. في الصباح وجدوه راقدا ومن حوله دم كثير يغرق البشكير الأبيض، وعاد إليه شرفه كاملا.
سارت الرئيسة من النافذة إلى المرآة. حملقت في وجهها طويلا، حول كل عين انتفاخة وتجاعيد. عضلات الخدين متهدلة. كانت ملساء وفي عينيها بريق. في ليلة واحدة انتقلت من الطفولة إلى الكهولة. كانوا يسمونها ليلة الفرح. قبل الكهولة عاشت مرحلة البلوغ بلا شباب، بلا أحلام يقظة. أما المراهقة فلم تعرفها، ولم تعرفها أخت من أخواتها أو زميلة في المدرسة. أو بنت من بنات القرية. سقط رأسها حين ولدت فوق قطعة من الأرض يسمونها الوطن.
سرت فوق جسدها قشعريرة كالحمى. بينها وبين كلمة الوطن علاقة حب، خمسة حروف تعلمت أن تكتبها قبل أن تكتب اسمها. تسأل المدرس ما هو الوطن؟ يقول إنها الأرض تمشي فوقها - أصبح قلبها ينوء بحب قطعة أرض تشقى فوقها أمها ويملكها العمدة، وفي المظاهرات تخرج مع التلميذات تهتف: يحيا الوطن! يكتوي قلبها بحب الكلمة من الحروف الخمسة. ترددها عن ظهر قلب. ينفصل قلبها عن لسانها وهي ترددها، وينفصل عقلها عن قلبها وهي تهتف. ترى جسدها يمشي وحده في الشارع، وهي واقفة فوق الرصيف. تستدير وتعود من حيث أتت، تمشي بخطوة ثقيلة نحو أبيها الميت. تدرك بعقلها أنه ميت، لكنها تمشي إليه. تمسك يده تقبلها. تقسم بالله العظيم ثلاثا أنها بريئة. لم يمسسهما بشر، ولا عفريت من الجن، في الحلم أو في اليقظة، وأنها منذ الطفولة كانت تحكم إغلاق النافذة بالترباس، وتسد الشقوق في الجدار أو الباب، وتغلق أذنيها فلا تسمع همس إبليس ولا حفيف الهواء. ركبتاها أيضا كانت تغلقهما كأنما بالترباس. لا يمكن لإنس أو جن أن يفتحهما، ويأتيها صوت أبيها المشروخ: لكن يا بنتي فين الدم؟
تتطلع بعينيها نحو السماء، تسأل الله: فين الدم يا رب؟ صمت مطبق ولا أحد يرد. بوق سيارة ينبعث من بعيد كالزمارة، الهواء لا يتحرك ورءوس الأشجار ثابتة. ورقة واحدة تسقط بصوت مسموع. ويدب السكون. - فين الدم يا رب؟
تعاود السؤال بلا يأس. أملها في الله كبير. عادل ورحيم ولا يمكن أن يجدها. تشرئب بعنقها خارج النافذة. ترهف أذنيها لسماع الصوت، ويأتيها الهمس ناعما كحفيف الهواء: مؤامرة دبرها العمدة. - ليه بس يا رب؟ - كان يريد الانتقام من أبيك. - ليه؟ - كان يجلس أمامه واضعا الساق فوق الساق. - وإيه يعني يا رب؟ - الناس درجات والعين لا ترتفع عن الحاجب. - الناس سواسية كأسنان المشط يا رب. - بتردي علي يا قليلة الحياء؟ - أنا يا رب ... - اخرسي! - أنا ... - لا تقاطعيني! - ... - لا ترفعي عينك في عيني! - ... - ورثت غرور أبيك.
تمد يدها في الظلمة تمسك يد أبيها الميت. تدرك أنه ميت، لكن يده في يدها محسوسة. تلثمها. تنفذ إلى أنفها الرائحة. تسري في عروقها كالدم. كانت تظنها رائحة الله. تشمها حين تجلس إلى جوار أبيها. بين يديه المصحف. يهز رأسه ويقرأ الآيات. لم تكن تعرف القراءة بعد، تقلب بأصابعها الصفحات. تتشمم الأوراق الرقيقة. تكاد تتمزق بين أصابعها. يضربها أبوها على يدها. - كتاب ربنا يا حمارة!
अज्ञात पृष्ठ