وربما أحس المحافظون المصرون على المحافظة منه ميلا إليهم، وحرصا على أن تتصل أسبابه بأسبابهم، ولكن على شرط ألا تنقطع أسباب المودة والإخاء بينه وبين المتطرفين. من الحقائق المقررة أن صلات الود والإخاء يجب أن ترتفع عن اختلاف الرأي في السياسة والنظم الاجتماعية. وقد تلقاه المحافظون حفيين به مستبشرين بقربه منهم، واتصاله بهم، وأغضى عنه المتطرفون؛ لأنه صاحب وفاء يرتفع بالصداقة عن أغراض السياسة وأمراضها، ثم أصبحت المحافظة في بعض الأوقات لونا من ألوان الحفاظ والغيرة على مصالح الوطن وكرامته، وأصبح من البدع المحبوب أن يتحدث الناس بأنهم محافظون، وأن يسرفوا في النعي على المتطرفين، فأظهر صاحبنا أنه محافظ يذكر مجد الوطن، ويحرص على تقاليده، وينكر الخروج على النظام المألوف والسنة الموروثة، ولكنه في الوقت نفسه لم يقصر في ذات أصدقائه المتطرفين، وإنما جاملهم حين كانت تحسن المجاملة، وواساهم حين كانت تحسن المواساة، وضمن بذلك رضاهم عنه، وإغضاءهم عن غلوه في المحافظة، وفي أثناء هذا كله مضت أموره على خير ما يجب. شجعه المحافظون حين كان السلطان يصير إليهم، وأغضى عنه المتطرفون حين كان السلطان يستقر فيهم، وعرف عامة الناس وخاصتهم أنه رجل لا يحب الأحزاب، ولا يشارك في سياستها ، وإن كان محافظ الميل قديم الهوى معتدل السيرة والرأي جميعا.
قلت لصاحبي: أتستطيع أن تحدثني بما تريد إليه من هذه القصة التي لا تنتهي، قال صاحبي: لا أريد إلا إلى شيء يسير جدا، وهو أن الذين يريدون العافية، وقضاء المأرب، وتحقيق المصالح، وتجنب الأذى في أنفسهم وأموالهم وأعمالهم، يحسن أن يسيروا سيرة هذا الرجل البارع. قلت لصاحبي: ليس كل الناس يقدر على أن يكون ثعبانا، وليس من الخير أن تكثر في مصر الثعابين.
حديث الأوز
وأنا أعتذر إلى القراء من هذا العنوان الظريف الطريف الذي لم أكن أحب أن أصطنعه على ما فيه من طرافة وظرف؛ لأنه أشبه بأحاديث الفكاهة والمزاح، لا بأحاديث الجد المر الذي يجب أن نحرص عليه حين نأخذ في شئون التعليم.
ولكن صديقا أديبا من أصدقائنا الأدباء أراد أن يتحدث عن نشر التعليم فضرب الأوز له مثلا، يذهب في ذلك مذهب الفكاهة الساخرة، وإن كانت شئون التعليم في هذه الأيام لا تحتمل فكاهة، ولا سمرا.
تحدث الصديق الأديب أن صاحبه جحا زعم لقاضي المدينة أنه يستطيع أن يأتي بتسع عشرة أوزة فيحبسهن في حجرة من الحجرات، ثم يدخل عليهن عشرين رجلا، فلا يخرج واحد من هؤلاء الرجال إلا ومعه واحدة من هؤلاء الأوز، وقد أنكر القاضي هذا الحديث لما بين هذين العددين من الاختلاف، ولكن جحا ألح فيه وأصر عليه، فاضطر القاضي إلى أن يستجيب له، وأقبل جحا بأوزه التسع عشرة، وأدخل القاضي عليهن عشرين رجلا كان بينهم صراع وقراع سالت له الدماء، وشاهت له الوجوه، ثم جعل الرجال يخرجون رجلا في أثر رجل، ومع كل واحد منهم أوزته حتى خرج آخرهم، وليس له شيء، فلما سأل القاضي جحا عن معجزته، أنبأه بأنه لم يرد إلا عبثا ليبين له وللناس أن الديموقراطية الصحيحة لا تحدث المعجزات، ولا تخلق المستحيلات.
والمغزى الذي قصد إليه الصديق الأديب هو أن الذين يريدون أن ينشروا التعليم بغير حساب، وأن يحشروا الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة، إنما يذهبون مذهب جحا حين أراد أن يقسم التسع عشرة أوزة قسمة سواء على عشرين رجلا فلم يبلغ من ذلك ما أراد.
والمثل كما ترى رائع، بارع وقاصم، فاصم لا تقوم له حجة، ولا يثبت له دليل، فليست الديمقراطية إذن كلاما يقال، ولا هي دعوة تنشر وتذاع، وإنما هي أعمال يقدم عليها أصحابها عن بصيرة، ويحققونها عن روية، وليس يكفي أن يقال للناس كلوا ليأكلوا، ويأمنوا شر الجوع، وليس يكفي أن يقال للناس تعلموا ليتعلموا، ويأمنوا شر الجهل، وإنما ينبغي أن يهيأ الطعام على قدر الطاعمين، وأن يهيأ العلم على قدر المتعلمين، فإن لم نفعل كانت دعوتنا إلى الطعام والعلم أشبه بعبث جحا حين أراد أن يقسم تسع عشرة أوزة على عشرين رجلا قسمة سواء.
ومن قبل الصديق الأديب ضربت للتعليم أمثال أخرى تتصل بالطعام؛ فقال قائلون: إن الذين ينشرون العلم بغير حساب، ويحشرون الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة كالذين يلقون الطعام القليل إلى الجماعة الكثيرة، فما هي إلا أن يلقى هذا الطعام حتى يكون الزحام والخصام والاصطدام، ثم يفترق الناس، وقد آذى بعضهم بعضا، ولم يظفر بالطعام منهم إلا قليل.
والغريب أن يقال مثل هذا الكلام في هذه الأيام التي تواجه الحكومات مشكلة التموين، ومعضلة الطعام القليل يلقى إلى الجماعات الضخمة من الناس ... ولا يفكر الذين يقولون هذا الكلام ويكتبونه في أن حوادث حياتهم اليومية تنقض ما يقولون نقضا. فإن الحكومة إنما قامت لتجري الأمور بين الناس بالقسط، وتقضي بينهم بالحق، وتمكن كل واحد منهم من أن يأخذ نصيبه الضئيل من الطعام القليل، لا يعدو في ذلك بعضهم على بعض، ولا يظلم القوي منهم في ذلك الضعيف، وليس المهم أن تنجح الحكومة في ذلك أو تخفق، وأن تعدل الحكومة في ذلك أو تجور، وإنما المهم أنها أنشئت لتجري أمور الناس بينهم بالقسط، ولتطعم عشرين رجلا من تسع عشرة أوزة، والخطأ الذي انحرف فيه جحا عن الصواب، ولم يكن للقاضي أن يجاريه فيه: هو أنه أراد أن يقسم التسع عشرة أوزة على العشرين قسمة سواء ، ولو أنه أصلح الأوز، وهيأه للطعام؛ لجاز أن يغذي بهن مائة أو مئات من الناس دون أن يقع بين هؤلاء الناس صراع أو قراع، ولكن جحا لم يكن مصريا، ولا عربيا، وربما كان له حظ من دعابة، ولكنها دعابة غير عاقلة، ولو قد كان جحا مصريا عربيا لعرف أن في مصر أمة تمتاز بخصلتين؛ إحداهما: القناعة والرضى بالقليل، والأخرى: الإيمان بالمعجزات، والكرامات، وخوارق العادات.
अज्ञात पृष्ठ