وكنت أعدك للنائبات
فها أنا أطلب منك الأمانا
ثم يغلو في الاستعلاء، ويمعن في الكبرياء حتى يلقى أخا أمير المؤمنين أشنع لقاء، ويتعمد إيذاءه في نفسه وجسمه بمحضر من أهل الديوان؛ لأن أمير المؤمنين كان مغاضبا لأخيه.
وفي مساء ذلك اليوم خلا إلى ندمائه، فأخذ من لهوه المادي والعقلي بحظ عظيم، وثقل عليه الشراب حين تقدم الليل فأغفى إغفاءة قصيرة، ثم أفاق وهو يتلو قول الله عز وجل:
قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين
فلما سأله بعض ندمائه عن ذلك، قال: رؤيا رأيتها في هذه الإغفاءة، وما أرى إلا أنها من أثر الشراب.
ولم تكن الرؤيا من أثر الشراب، وإنما كان حلما يعبر حلما، فقد رأى نفسه في جنته تلك، ورأى تلك الجارية الأبية المتغطرسة تبسم له، وتسعى إليه، وهي تقول: ادن أبا جعفر فقد أذن لنا الآن في أن نصطحب. ألا تذكرني؟ لقد التقينا ذات مساء في جنتنا هذه على شاطئ نهرنا هذا، وقد كنت تريد أن تستعطفني، قال أبو جعفر: نفسي فداؤك من تكونين؟ قالت: أنا الجفوة قد أجبتك منذ اليوم، فأنا صفاء لك وجفاء لأعدائك، وما أرى إلا أن الناس جميعا عدو لك.
ومضى أبو جعفر يستزيد من السلطان، ويستزيد من الثراء، ويستزيد من الكبرياء والبأس، حتى بلغ من العنف ما لم يبلغه وزير قبله، وسام المسلمين من ألوان العذاب ما لم يكن المسلمون يظنون أن من الممكن أن يساق إليهم، واتخذ تنوره ذاك الذي كان يستصفي به الأموال من العمال، وكان ضيقا شديد الضيق، قد أحيطت أنحاؤه كلها بالمسامير ذات الحدود المرهفة، يدخل فيها الرجل من الناس فتأخذ المسامير جسمه من جميع أقطاره، وقد جرب أداته تلك في أحد العمال ذات يوم، وجعل ينظر إلى هذا العذاب، ويجد فيه متاعا وراحة ورضى، فلما ذكرت له الرحمة قال: إنما الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، وما رحمت شيئا قط.
وفي مساء هذا اليوم رأى فيما يرى النائم إحدى جواريه أولئك في جنته تلك، تسعى إليه باسمة ابتساما مرا، وهي تقول: أقبل أبا جعفر ألا تعرفني؟ أنا صديقتك، القسوة، لقد التقينا ذات أصيل في جنتنا هذه على شط نهرنا هذا، فقد آن لنا الآن أن نلتقي، ولن يفرق بيننا إلا الموت.
وأصبح أبو جعفر ضيقا بهذه الأحلام التي يعبر بعضها بعضا، وحدث نفسه بأن يسأل في ذلك بعض أصحاب الفلسفة لعلهم يجدون لهذا النحو من حياة الناس تفسيرا، ولكنه استكبر حتى عن السؤال، وخشي إن تحدث إلى الكندي الفيلسوف في ذلك أن يزدريه، ويستخف حلمه، ويتندر بقصته عند أمير المؤمنين. فلم يتحدث بشيء من أمره إلى أحد، وإنما تلا قول الله عز وجل:
अज्ञात पृष्ठ