57

وقد يبدو على شعر جميل إذا قوبل بشعر عمر أنه أفحل وأجزل وأبلغ في الصناعة الشعرية وأجمل، وذلك فيما يبدو لنا التباس بين فحولة المزاج وفحولة الشعر لا يثبت على التمحيص. فمن المألوف أن يظهر الجد في شعر العاشق الذي ينسب بامرأة واحدة ويعيرها كل قلبه وهواه، ولا يظهر مثل هذا الجد في شعر الرجل الذي يقضي زمانه كله في التحدث إلى النساء والتنقل بينهن، وقل أن يسلم رجل كهذا من اصطناع التأنث، ولو لم يكن مطبوعا عليه، فيسري التأنث إلى كلامه وتتوارى منه قوة الفحولة التي تقترن بالجد حيث كان.

ومع هذا لم يسلم جميل ممن يأخذ عليه التأنث في نصف بيت هو قوله:

ألا أيها النوام ويحكمو هبوا

أسائلكم هل يقتل الرجل الحب

فالشطر الأول كما قال صالح بن حسان «أعرابي في شملة»، والشطر الثاني «مخنث يتفكك من مخنثي العقيق».

ولكن نصف بيت ولا مئات من الأبيات ليس فيها أعرابي واحد في شملة، ومعظم أبياتها هوادج تسفر عن حسان مدللات وأخدان حسان مدللات! وذلك ديوان ابن أبي ربيعة في جملته على التحقيق.

ويشبه الالتباس بين فحولة المزاج وفحولة الشعر التباس آخر يعرض لكثير من المعجبين بنسيب جميل، فهو عندهم إمام الشعراء؛ لأنه إمام المحبين، وقد سئل عنه نصيب فقال: ذاك إمام المحبين، وهل هدى الله - عز وجل - لما ترى إلا بجميل؟

وجائز أن يكون صدق الحب سببا من أسباب جودة الشعر الذي يعبر عنه، ولكن صدق الحب وجودة التعبير يظلان بعد هذا شيئين مختلفين، فيصدق المحب ولا يجيد الشعر، ويجيد الشاعر ولا يبلغ مبلغ ذلك المحب الصادق في وجده وشوقه ووفائه ... إن أحدهما لسبب للآخر - ونعني الحب والتعبير - ولكنهما قد يفترقان كما يتفقان.

ولا يزال الحكم على عشق جميل وغزل جميل وشعر جميل يتطلب الحكم على ثلاثة أشياء لا على شيء واحد، وإن لم يكن من الضروري أن تتناقض هذه الأشياء.

فالذين قالوا: إنه أشعر أهل الإسلام والجاهلية؛ لأنه أصدق المحبين يخطئون؛ إذ ربما ثبت له أنه أصدق من أحب في زمانه، ولم يثبت له أنه أصدق من تغزل، فضلا عمن هجا ومدح، كما أراد بعض النقاد في زمانه أن يقول.

अज्ञात पृष्ठ