بسم الله الرحمن الرحيم بعد حمد الله وليه جامع الشتات، والصلاة على نبيه المتحلي بأحسن السمات، وعلى آله الشاعرين بقاطبة الدقائق وتمام النكات.
يقول العبد الراجي رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المدعو بإسماعيل عفا الله عن جرائمهم بمحمد وآله وقائمهم:
هذه نبذة من النكات وقبضة من الشتات، استقبضتها من أبواب متفرقة واستفدتها من أسباب متشتتة، جمعتها بتفرق بالي وتشتت أحوالي، تذكرة للحديد وتبصرة للبليد، بل لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وسميته ب " جامع الشتات " لجمعه طوائف مختلفات ومتفرقات، والمرجو من العاثر فيه بالخلل والواقف عليه بالزلل، إصلاح الفساد وترويج الكساد * (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) * (1).
[المناقشة في كلام ابن سينا في مسألة الإمامة] قال ابن سينا (2) في الفصل الخامس من المقالة العاشرة من كتاب الشفاء في
पृष्ठ 5
مقام تعيين الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما على الأنام: ثم يجب أن يفرض السان طاعة من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف إلا من جهته، أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون علانيته عند الجمهور: أنه مستقل بالسياسة، وأنه أصيل العقل، حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنه عارف بالشريعة، حتى لا يكون أعرف منه تصحيحا يظهر ويستعلن ويتفق عليه الجمهور، ويسن عليهم أنهم إذا افترقوا أو تنازعوا بالميل والهوى، أو أجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق له فقد كفروا بالله.
والاستخلاف بالنص أصوب، فإن ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف. ثم يجب أن يحكم في سنته أن من خرج فادعى خلافته بفضل قوة أو مال فعلى الكافة من أهل المدينة قتله وقتاله، فإن قدروا ولم يفعلوا فقد عصوا الله وكفروا به، ويحل دم من قعد عن ذلك وهو متمكن بعد أن يصحح على رأس الملأ ذلك منه. ويجب أن يسن أنه لا قربة عند الله بعد الإيمان بالنبي أعظم من إتلاف هذا المتغلب، فإن صحح الخارجي أن المتولي للخلافة غير أهل لها، وأنه ممنو بنقص، وأن ذلك النقص غير موجود في الخارجي، فالأولى أن يطابقه أهل المدينة. والمعول عليه الأعظم العقل وحسن الإيالة، فمن كان متوسطا في الباقي ومتقدما في هذين بعد أن لا يكون غريبا في البواقي وصائرا إلى أضدادها فهو أولى ممن يكون متقدما في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين، فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما ويعاضده، ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع إليه، مثل ما فعل علي وعمر (1).
أقول - ولا حول ولا قوة إلا بالله -: لا شبهة في أن السياسة المدنية ورئاستها العامة، الجامعة لإصلاح أمر المعاش وانتظامه على وجه صالح يؤدي إلى الفلاح والصلاح، لا يتيسر ولا يتحقق إلا إذا كان السائس عالما بالأمور السياسية
पृष्ठ 6
والرئاسة مستقلا فيها، أصيلا في العقل شريفا في الأخلاق حسنا في التدبير عارفا بالشريعة، حتى لا يكون أعرف بها منه في وقته، بحيث يحتاج إليه الكل في الكل ويكون هو غنيا عن الكل، ممتازا عنهم بالفضائل النفسانية والكمالات الجسمانية من العلم والحكمة والعفة والشجاعة والقوة وشدة البأس، بحيث يكون خطيرا في القلوب قويا على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، ومع ذلك يكون فائزا بالخواص النبوية، ليصير ربا إنسانيا وسلطانا في العالم الأرضي وخليفة الله فيه، فيحل تفويض معرفة الدخل والخرج، وإعداد أهبة الأسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك من الأهوال والأحوال وخاصة في العبادات والمعاملات إليه.
وقد اعترف بذلك أقاصيهم وأقر به أدانيهم، فما بالهم يقولون: إن الرجل كان ممن لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله، واتصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات، وإنه كان عظيم الخطر في القلوب قويا على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، وبسيفه فتح الله البلاد وبسطوته آمن العباد، وإنه كان عارفا بالسياسات عالما بالديانات وخصوصا بهذا الدين والشريعة، حتى ما كان أعرف بها منه في وقته، لقوله: " أقضاكم علي " (1) ولرجوعهم في العويصات إليه، واعتضادهم في المشكلات به كما اعترف به حكيمهم ابن سينا،... إلى غير ذلك؟!
ومع ذلك كله هم ينكرونه، ويقولون: إن السياسة والرئاسة كانت مما لا بد منه في انتظام أمر المعاش والمعاد إلا أنه كان غيره أحق بها منه، لمجرد إجماع يدعونه ولا يثبتونه، لعدم تحقق شرائطه كما سننبه عليه، مع أن بديهة العقل شهدت - وكفى بها شهيدا - بأن الاستخلاف إذا كان بطريق النص لا يؤدي إلى الافتراق والاختلاف وغيرهما، مما يؤدي إليه تركه من المنازعات والمناقشات الصادة عن انتظام أمر المعاش والمعاد.
وكيف خالف الله ورسوله مقتضى بديهة العقل وما هو الأصلح والأصوب من
पृष्ठ 7
الاستخلاف بالنص الذي لا يؤدي إلى تشتت الشمل وتفرق الكلمة كما يؤدي إليه تركه، فإن تركه يشوش فيما بين أيديهم الدين، ويوقعهم في تنازع، فينصرفوا إلى المباحثات والمقايسات التي تصدهم عن أعمالهم المدنية، وربما أوقعهم في آراء مخالفة لإصلاح المدينة ومنافية لواجب الحق، فيكثر فيهم الشكوك والشبهات، فيصعب الأمر على السائس في ضبطهم من حيث إنه خليفة؟!
ثم كيف يجب على هذا السان أن يفرض طاعة خليفته، وأن يحكم في سنته أن من خرج فادعى خلافته بفضل قوة أو مال فعلى الكافة من أهل المدينة قتله وقتاله وذلك لينصروا به خليفته، ولا خليفة له من جهته؟! بل كيف يجب عليه أن يرتب المدينة على أجزاء ثلاثة: المدبرون والصناع والحفظة، ويرتب في كل صنف منهم رئيسا يرتب تحته رؤساء يلونه، ويرتب تحتهم رؤساء يلونهم إلى أن ينتهي إلى إفناء الناس، فلا يكون في المدينة إنسان معطل ليس له مقام محدود، ولا يجب عليه أن ينص على من يخلفه ويجعله رئيسا على المدينة وحافظا على سنته وشريعته التي هي أسباب وجودهم، وبه ينتظم أسباب معاشهم ومصالح معادهم؟!
أو كيف يتصدى لعقد البيت والنكاح والسنن الكلية والجزئية حتى آداب الخلوة والخلاء، ويترك هذه السنة السنية التي لا بد منها في قوام أمر المعاش والمعاد، وعليها يتوقف نظام كل ما يجب أن يسنه من عند الله؟!
أو كيف يجب عليه أن يقدر لأهل الآفات والعاهات موضعا يكون فيه أمثالهم، وأن يجعل عليهم قيما ينتظم به أمورهم، كل ذلك في حياته، ولا يجب عليه أن يجعل لأهل المدينة ومن والاهم من رعيته وأمته قيما ينتظم به معاشهم ومعادهم؟!
والعجب من ابن سينا - لولا تقيته كما هو الظاهر من سياق كلامه في هذا الفصل، حيث جمع بين المذهبين مع إيماء لطيف إلى تفضيل مذهب الشيعة وترجيحه - أنه بعد ما نص بذلك كله، كيف جوز أن يكون ذلك بإجماع من أهل
पृष्ठ 8
السابقة على من يصححون علانيته؟!
وفيه إيماء إلى دقيقة إذا تأمله عاقل يعرفها، ويعرف بتأمله ما في كلامه من الاضطراب والتشويش، فإنه بعد ما اعتبر في الخليفة أن يكون من أعرف الأمة بالشريعة حتى لا يكون أعرف بها منه في زمانه وهو الحق، لأن الخليفة حافظ الشريعة فيجب أن يكون أعرف بها من أهل زمانه طرا، لئلا يلزم تفضيل المفضول على الفاضل، غفل (1) عن هذا أو تغافل، لتصريحه بأن المعول الأعظم العقل وحسن الايالة لا الأعرفية بالشريعة والديانة، بل يلزم الأعرف أن يشارك الأعقل ويعاضده، ويلزم الأعقل أن يعتضد به ويرجع إليه مثل ما فعل علي (عليه السلام) وعمر.
وهذا منه تصريح بأعلمية علي (عليه السلام) من عمر وإن كان فيه تناقض صريح وتهافت قبيح ارتكبه لترويج الكاسد وإصلاح الفاسد " وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر " وإن كان ثاقبا ذهنه الحديد وفكره السديد، وما هي من الظالمين ببعيد.
ثم بعد ما صح وثبت أن الخارجي كامل والمدعي للخلافة ناقص، كيف يسوغ الحكم بأولوية إطباق أهل المدينة دون وجوبه، وهذا الحكيم لا يصحح الترجيح من غير مرجح فضلا عن تصحيحه ترجيح المرجوح على الراجح؟! وقد حكم آنفا بأنهم إذا أطبقوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق له فقد كفروا بالله، وهذا هو الحق الذي يقتضيه النظر الفلسفي، وكأنه تأشعر بعد ما تفلسف.
ومع قطع النظر عن ذلك، كيف يتصور ذلك التصحيح من الخارجي وهم يدعون أن إجماع أهل السابقة من الأمة لا يتطرق إلى صحته شوب شبهة وإلى حقيته وصمة شك، لبراءتهم عن الزلة والخلل وعصمتهم عن الخطأ والزلل، وينقلون على ذلك حديثا، وبعد ذلك كله ما ذكره من شرائطه كان موجودا فيهم؟!
أما تصحيح أهل السابقة كصاحب الحق وأهله وأولاده وأقربائه وأصحابه كعمه العباس وأبنائه وأسامة بن زيد والزبير، ومشاهير الصحابة الكبار كسلمان
पृष्ठ 9
وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان وأبي بريدة الأسلمي وأبي بن كعب وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وأخيه عثمان وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري، وكخالد بن سعيد وسعد ابن عبادة وقيس بن سعد وغيرهم، فأشهر من أن يحتاج إلى البيان أو يمكن أن ينكره الانسان، وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه ثمانية عشر رجلا منهم، قال: وكانوا رافضية، وأخذ من بعضهم البيعة بالوعيد والتهديد ولو بعد حين، وقد أصر بعضهم على إنكارهم وبقوا عليه إلى يوم الدين (1).
وأما العقل، فإن أراد به الشيطنة والنكراء فكان موجودا فيهم كما في سائر أفراد الملوك المتغلبة كمعاوية وابنه، ولكنه مما لا مدخل له في تدبير المدينة العادلة على وجه يؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد، بل هو من مقولة دفع الفساد بالأفسد. وإن أراد به غير ذلك مما له مدخل في السياسة والرئاسة النبوية وما تقتضيه الحكمة الإلهية فما كان ذلك فيهم موجودا أصلا، كيف وهم قد أشركوا بالله سنين وشهورا وأياما ودهورا، ولم يكن فيهم من العقل ما يثبتون به التوحيد مع فطريته وبداهته، بل لم يتنبهوا به أصلا، وبعد ما نبهوا عليه طلبوا دليلا عليه ومعجزة ؟! فكان عقولهم واستعدادهم نفسا دون عقول أوساط الحكماء واستعداد نفوسهم كإفلاطون الإلهي وأرسطا طاليس وغيرهما، فإنهم قد أثبتوا التوحيد بمحض عقلهم ولم يشركوا بالله، بل قتل بعضهم بمنعه عن الشرك.
فإذا كان عقلهم هذا، واستعداد نفوسهم في هذه المرتبة، فكيف يستحقون مرتبة الرئاسة النبوية والخلافة الإلهية؟! ومتى يسوغ لأهل السابقة تصحيح علانيتهم عند الجمهور بأنهم أصيل العقل شريف الأخلاق من الشجاعة والعفة وهم من أجبن الناس نفسا، وقد فروا ولم يكروا في كثير من الغزوات والمصارعات، وباءوا بغضب من الله، ولشهرتها وظهورها لا حاجة لنا إلى شرحها.
पृष्ठ 10
وهذا بخلاف صاحب الحق، فإنه لم يشرك بالله طرفة عين، وأخلاقه الفاضلة وشيمه الكاملة موصوفة كما يشهد به التتبع، مع تطرق الدروس إلى كثير ما ورد فيه، لمعارضته الدول المخالفة ومباينته الفرق المنافية، لأن أحباءه كتموا فضائله خوفا وفرقا، وأعداءه كتموها بغيا وحسدا، ولله الحمد أن ظهر ما بين الكتمين ما ملأ الخافقين، وشجاعته بالغة حد التواتر كما اعترف به الفريقان، وضرباته يوم الخندق والخيبر وغيرهما مشهورة، و " لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار " (1) معروفة.
روى الجمهور كافة: " أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما حاصر خيبر بضعا وعشرين ليلة وكانت الراية لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب والخروج من حيث يتعرض للحرب، فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر فقال له: خذ الراية، فأخذها في جمع من المهاجرين، فاجتهد ولم يغن شيئا ورجع منهزما، فلما كان من الغد تعرض لها عمر، فصار غير بعيد ثم رجع يجبن أصحابه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): جيئوني بعلي، فقيل: إنه أرمد العين، فقال: أرونيه تروني رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ليس بفرار، فجاءوا بعلي (عليه السلام) فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه، فبرئ وأعطاه الراية، ففتح على يديه وقتل مرحبا " (2).
وفيه من إظهار فضله وحط منزلة الآخرين، فإن تأمله عاقل يعرفه، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
وكان علي أرمد العين يبتغي * دواء فلما لم يحس مداويا شفاه رسول الله منه بتفلة * فبورك مرقيا وبورك راقيا وقال سأعطي راية القوم فارسا * كميا شجاعا في الحروب محاميا يحب إلها والإله يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا فخص بها دون البرية كلهم * عليا وسماه الولي المؤاخيا
पृष्ठ 11
هذا، وأما العفة فغنية عن الذكر والبيان، فإن الابنة النافع لها ماء الرجال، المفسر في كتبهم بالنبت، المردود عليهم بأنه كان يخرج من بين الصلب والترائب في الألسنة والأفواه مذكورة (1). وأما المعرفة بالشريعة فكانوا من أجهل الناس نفسا، حتى اعترفوا بأن كل الناس أفقه منهم حتى المخدرات في الحجال (2)، " ولولا معاذ لهلك عمر " من المسلمات عندهم، وإن كان " لولا علي لهلك عمر " (3) أشهر منه ولكنهم لشدتهم عنادا وفرطهم جهلا ينكرونه ولا يعرفونه، فويل للذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونه، وما أولئك بالمؤمنين.
نعم قول هذا الرجل السينائي: " ويجب أن يسن النبي على الجمهور أو على أهل السابقة أنهم إذا افترقوا وتنازعوا بالميل والهوى، وأجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق له فقد كفروا بالله " - وفيه إيماء إلى ما يعرفه العاقل إذا تأمله - مطابق للحق وموافق للواقع، ونحن على ذلك من الشاهدين وعلى صدقه من المصدقين إلى يوم الدين، وما شهدنا إلا بما علمنا.
ثم أنت خبير بما في كلامه من الإشارة إلى أن عليا كان قد صحح أن عمر غير أهل للخلافة، وأنه كان ممنوا بنقص، وأن هذا النقص كان موجودا فيه، بل كان أعلم منه بالشريعة وأشجع وأعف، وكان هو يعتضد به ويرجع إليه في معرفة السنة النازلة، وإصلاح أحوال المدن الفاسدة، وذلك أيضا مشهور وفي الدفاتر مسطور. وأما أنه كان أعقل منه وأحسن في أمر الايالة، وكان متوسطا في البواقي ولم يكن غريبا فيها ولا صائرا إلى أضدادها، فمع أنه ممنوع والسند ما سبق آنفا، فمجاب: بأن العقل عبارة عن الفهم، يقال: عقل هذا أي فهمه، ثم استعمل في غريزة نفسانية مدركة لما فيه صلاح النفس في النشأة الآخرة، وقد يطلق على نفس ذلك الإدراك، وعلى من كان مصلحا لأمور معاشه إذا كان دخيلا في صلاح المعاد،
पृष्ठ 12
ووصلة إلى الحياة الأبدية والفيوضات السرمدية.
ولا شك في أن عليا (عليه السلام) كان أعقل من عمر بجميع هذه المعاني، والمعول الأعظم في ذلك النقل الوارد في طريقي المتخاصمين.
نعم يمكن أن يقال: إن العقل في أصل اللغة ما كان سببا لجلب النفع ودفع الضر، ثم إن أهل العرف لما شاهدوا وجود هذا المعنى في أمثال عمر بحسب الظاهر، وهم - كما قيل - يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وذلك مبلغهم من العلم، أطلقوا عليه اسم العاقل.
وأما أهل الحقيقة، فلما نظروا إلى عواقب الأمور ووجدوا النفع العاجل في جنب الضرر الآجل أقل قليل، بل لا شئ في الحقيقة، سلبوا عنه اسم العقل، وقالوا: إن ما كان في عمر ومعاوية ومن ينزل منزلتهما، يقال له: الجربزة والنكراء والشيطنة والغوغاء كما أشار إليه ابن سينا في مواضع من هذا الفصل، وهي شبيهة بالعقل وليست هو. فالاختلاف بين الفريقين ليس في معنى العقل بل في اندراج هذا الفرد في مفهومه، هذا.
ثم بما تقرر في العقول من عدم جواز تفضيل المفضول بل المساوي لامتناع ترجيح أحد المتساويين، يلزم أن يكون الخليفة أفضل أهل زمانه كلا، وصاحب النفس القدسية بل صاحب معجزة تدل على خلافته، وتكون آية ملكه وعلامة سلطانه، بل يجب أن يكون متصرفا في أجزاء العالم، ظاهرا بالسيف وباطنا بالهمة وبالجملة: يكون أشبه الخلائق بالنبي (صلى الله عليه وآله) نفسا وروحا وعلما وعملا، وما هو في المشارق والمغارب إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما أشير إليه بقوله: * (وأنفسنا) * (1) فكان هو الخليفة بالحق ظاهرا وباطنا، شيد به الله هذا الدين، أظهره بالسيف وعصمه من الجور، فحكم بالعدل الذي هو حكم الحق في النوازل، فهو مع الحق والحق يدور معه حيثما دار. فالذين خرجوا عليه وادعوا خلافه فقد عصوا الله وكفروا به بلا مرية وهم لا يشعرون.
पृष्ठ 13
واعلم أن الجواب الحاسم لمادة المشاغبة والمشاجرة: ما سبق من أن الاستخلاف بالنص لما كان هو الأصلح والأصوب لعدم أدائه إلى التشعب والتشاغب، كان من الواجب في سنة هذا السان لكونه من أكمل أفراد نوع الانسان أن ينص على من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف إلا من جهته، لا بإجماع جماعة من أهل الغرض والعناد وطائفة من أهل الزور والفساد، حسما لمادة المخالفة والجدال وسدا لطريق المنازعة والقتال، إذا سير بسيرته وعمل بشريعته وسنته، وذلك معلوم من استقامة طريقته وحسن سيرته وصفاء طويته وغاية لطفه بأمته، والمنازع مكابر مقتضى عقله وبصيرته، والله يعلم ذلك من سريرته.
ومن هنا تراهم يقولون: إن الرئاسة العامة إذا لم تكن على وجه الغلبة والقهر بل كانت على طريقة مؤدية إلى صلاح المدينة في معاشهم ومعادهم لا بد وأن تكون من قبل الله ووحيه، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) وما يسنه فإنما هو من عنده، وواجب في حكمته أن يسنه، لأنه أعلم بمصالح عباده منهم في أمور دينهم ودنياهم فيختار لهم من يشاء لما يشاء بعد أن كان مستعدا لذلك وأهلا له، وذلك مما لا يعلمه كما هو إلا هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته، حتى أن النبي (صلى الله عليه وآله) مع كماله وتوسطه بين الله وبين عباده عاجز عن هذا الخطب العظيم والأمر الجسيم من دون توسط الإنباء وإيحاء، فيقتضي النص والتصريح به.
ولما سأل سادة بني إسرائيل نبيهم أن يملكهم ليقاتلوا به في سبيل الله * (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) * (1) بمن اصطفاه للملك والرئاسة. فانظر - رحمك الله - نظر طالب حق لا يكون له ميل بطرف دون طرف كيف رد عليهم تعللهم بأن لا ملك إلا بالرجال ولا رجال إلا بالمال وهو فقير لا سعة له ولا مال، بأن الركن الأعظم الشديد الحاجة إليه في الملك والرئاسة بعد
पृष्ठ 14
العلم والجسامة والشجاعة هو اصطفاء الله واختياره، لعلمه بقبول المحل، لا ما ذكروه من الثروة والمال والسعة في الحال، فلما أذنوا بذلك انقطعوا ورضوا برضا الله ورسوله فانحسمت مادة نزاعهم وتألفت قلوبهم.
وأنت وكل من هو قابل للخطاب خبير بأن عليا (عليه السلام) كان أزيد من عمر في العلم والجسم والشجاعة كما اعترف به حكيمهم ابن سينا، ولذلك كان يرجع إليه ويعتضد به، فدلت زائدة على دلالتها على أمور متعلقة بأمر السياسات والرئاسات إذا تأملها عاقل يعرفها على أصوبية الاستخلاف بالنص وأصلحيته، والأصلح واجب في حكمة الحكيم تعالى شأنه، إذ الحكيم لا يترك الأصوب بالصواب ولا الأصلح بالصلاح ولو سلم لهم ذلك الصلاح والصواب.
روي أن نبيهم لما دعا الله أن يملكهم أتى بعضا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت، ومثل ذلك في هذه الأمة درع نبيهم في أئمتهم عليه وعليهم من الصلوات أفضلها ومن التسليمات أكملها.
[تحقيق حول آية " لا ينال عهدي الظالمين "] (1) قال البيضاوي بعد قوله تعالى في قصة خليله (عليه السلام): * (لا ينال عهدي الظالمين) *: فيه تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة، وأنهم لا ينالون الإمامة، لأنها أمانة من الله وعهده، والظالم لا يصلح لها وإنما يناله البررة الأتقياء منهم (2).
وقال الفاضل المحشي عصام الدين محمد (3) في حواشيه على هذا التفسير:
معناه: لا ينال عهدي الظالمين ما داموا ظالمين، فالظالم إذا تاب لم يبق ظالما.
وكيف لا يكون المراد ذلك وقد نالت الإمامة أبا بكر وعمر وعثمان، ومراده أن هذه قضية سالبة والمتبادر (4) من السالبة المطلقة - كما ذكره المنطقيون - هو العرفية
पृष्ठ 15
العامة، فالآية لا تدل على عدم نيل الإمامة الظالم بعد توبته، لعدم صدق الظالم عليه حينئذ.
أقول: أية فائدة في الأخبار بأن الظالم أي الكافر كما هو مراد المحشي، ويدل عليه قوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * (1) ما دام كافرا لا تناله الإمامة وهي الرئاسة العامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن الله أو عن النبي، فإن من الأوليات بل الأجلى منها أن الإمامة والظلم بالمعنيين المذكورين لا يجتمعان، ولا يتوهمه عاقل ليحتاج إلى دفعه بإنزال آية من السماء، ضرورة ثبوت التنافي بينهما، فكيف يصير هذا الحكم موضعا للإفادة، وخاصة إذا صدر من الحكيم العليم الذي لا يتطرق إليه ولا إلى كلامه عبث ولا لغو، ولا يكون كلامه ككلام الساهي والنائم والهاذي؟!
فظهر أنه لا يمكن أن يراد بالظالم المنفي عنه الإمامة من يباشر الظلم ويرتكبه حتى يصح أن يقال: إنه إذا تاب عنه وأصلح لم يبق ظالما فيمكن أن تناله الإمامة، بل هو واقع، لأنها قد نالت هؤلاء بثلاثتهم بعد أن تابوا عن ظلمهم وكفرهم وأصلحوا، وهل هذا إلا مصادرة وتفسير للآية بما يطابق أهواءهم؟
بل المراد به من وجد منه الظلم وقتا ما وإن لم يكن في الحال ظالما بل كان تائبا، لأن إبراهيم (عليه السلام) لم يسأل الإمامة لبعض ذريته المباشرين للظلم من قبل أن يتوبوا عنه، فإنه قبيح عمن يدعي صحبة عاقل من العقلاء، فكيف لا يكون قبيحا عمن هو من أعقل الأنبياء؟!
فتعين أن سؤاله الإمامة: إما لبعض ذريته مطلقا، أو للذين لم يظلموا منهم أصلا، أو ظلموا ثم تابوا عنه. والأول لا يحتمل المباشرين للظلم منهم كما مر لما مر، فيتحقق في ضمن أحد الأخيرين، فقوله تعالى في جوابه: * (لا ينال عهدي الظالمين) * منهم صريح في أن الذين ظلموا منهم، أي سبقوا في الظلم والكفر لا ينالهم عهد الله وإن تابوا بعد ظلمهم وأصلحوا ولم يكونوا في الحال ظالمين،
पृष्ठ 16
فدلت على أن الإمامة عهد من الله وأمانة منه لا تنال من كان ظالما ولو وقتا ما.
ويدل عليه ما رواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن عبد الله بن مسعود في تفسير الآية، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " انتهت الدعوة إلي وإلى علي، لم يسجد أحد منا لصنم قط، فاتخذني الله نبيا واتخذ عليا وصيا " (1). وهذا نص بالباب. وإلى ذلك أشار صاحب التجريد بقوله: ولسبق كفر غير علي (عليه السلام) فلا يصلح للإمامة غيره، فتعين هو (2). وجواب القوشجي بأن غاية الأمر ثبوت التنافي بين الظلم والإمامة ولا محذور إذا لم يجتمعا مندفع بما سبق.
واعلم أن الشافعي وشيعته كالبيضاوي ذهبوا إلى أن إطلاق المشتق بعد وجود المشتق منه وانقضائه كالظالم لمن قد ظلم قبل وهو الآن لا يظلم حقيقة مطلقا، سواء كان مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود أو لا كالمصادر السيالة نحو التكلم والإخبار.
فعلى قاعدتهم هذه يرد عليهم أن الظالم وإن انقضى ظلمه وتاب عنه وقبل توبته لا يصلح للإمامة، إذ يصدق عليه أنه ظالم حقيقة على ما ذهبوا إليه، وقد نفى الله عنه الإمامة، فكيف نالت الإمامة من يعتقدون إمامته مع ظلمه وكفره بالاتفاق؟! وهذا مع قطع النظر عما سبق منا أمر يلزمهم بخصوصهم وهم لا يشعرون، وما وقفت في كلام أحد تفطن بهذا فهو من سوانح الوقت والحمد لله.
وإذا ثبت أن الظالم وهو من وضع الشئ في غير موضعه وإن كان وقتا ما أو من تعدى حدود الله التي هي الأوامر والنواهي لقوله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم) * (3) لا تناله الإمامة، ثبت أن الإمام لا بد وأن يكون معصوما، وإلا لكان ظالما: إما لنفسه أو لغيره، وقد سبق أنه منفي عنه الإمامة، فالآية مما دلت على اعتبار العصمة في الإمام، والحمد لله وحده ذي الجلال والإكرام.
पृष्ठ 17
[حكم المخالفين في الإمامة] اختلف الأصحاب في من خالفونا في الإمامة، فمنهم من حكم بكفرهم، لدفعهم وإنكارهم ما علم من الدين ضرورة، وهو النص الجلي على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مع تواتره، وقال الآخرون منهم: إنهم فسقة، وهو الأقوى.
ثم اختلفوا على أقوال، الأول: أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة، الثاني: أنهم يخرجون منها إليها، الثالث: أنهم يخرجون منها لعدم كفرهم الموجب للخلود، ولا يدخلون الجنة لعدم إيمانهم المقتضي لاستحقاقهم الثواب، والمسألة لا تخلو عن إشكال، وظاهر الأخبار الواردة في الطرفين يؤيد الأول، فمنها: ما صح واستفاض عند الفريقين: " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " (1).
قال صاحب الفتوحات ومدعي الكشف والكرامات: إني لم أسأل الله أن يعرفني إمام زماني، ولو كنت سألته لعرفني! فانظر - وقاك الله عن الضلالة والغواية - كيف خذله الله وتركه مع نفسه، فاستهواه الشيطان في أرض العلوم حيران، فقال ما يضحك منه الصبيان ويستهزئ به النسوان.
وقد رواه أصحابنا بطرق عديدة، أصحها سندا ما رواه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني بإسناده إلى الحارث بن المغيرة، " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مات ولم يعرف (2) إمامه مات ميتة جاهلية، قال: نعم، قلت: جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه؟ قال : جاهلية كفر ونفاق وضلال " (3).
أقول: الميتة - بالكسر أصلها الموتة على زنة الفعلة بكسر الفاء - للحالة التي يموت عليها، والظاهر أنه مفعول مطلق وقع للتشبيه أي: مات على حالة شبيهة بحالة موت الجاهلية، أو منصوبة بحذف أداة التشبيه أي: مات ميتة كميتة جاهلية.
पृष्ठ 18
والظاهر منه أن موت الجاهل بإمام زمانه شبيه بموت أهل الجاهلية والنفاق، فيظهر منه أن معرفته وقد فاتت منه تلك المعرفة المخصوصة بأمور المبدئية والمعادية غير نافعة له في النشأة الآخرة، حيث لا تدفع عنه العقاب الأخروي، وهو ظاهر. وأما أن حياته شبيهة بحياة أهل الجاهلية أو هو كافر مدة حياته أو لا يجوز إجراء أحكام المسلمين عليه، فلا دلالة له عليه بدلالة من الدلالات، كيف وهو خلاف ما دلت عليه أخبار كثيرة من إسلام أهل الخلاف، كما سيأتي طرف منه.
وبذلك يظهر فساد ما أفاده وحيد زمانه ميرزا محمد طاهر (قدس سره) بقوله: إعلم أن المليين من المسلمين مع اختلاف مذاهبهم اتفقوا على صحة ما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهو قوله: " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " ولا شك في أن هذا الحديث صريح في أن الجاهل بإمام زمانه كافر، ولا شك في أن عليا (عليه السلام) لم يبايع أبا بكر مدة، فعلى هذا يلزم أن لا تكون إمامة أبي بكر حقا، وإلا لزم أن يكون علي وعباس وكل من تأخر عن بيعته كافرا، ولم يقل به أحد، فثبت المطلوب. وذلك لأن غاية ما يفهم منه أن موت الجاهل بإمام زمانه على تقدير بقائه على هذا الجهل وموته عليه شبيه بموت الجاهلية، لأن من متأخر عن بيعة إمام برهة من الزمان، ولعله كان لإجالة النظر وإطالة الفكر ليظهر عليه صدقه وحقيته في دعواه الإمامة، ثم بايعه وعرفه ثم مات على معرفته والإقرار بإمامته يلزم منه أن يكون كافرا مدة حياته، أو يكون موته شبيها بموت الجاهلية حتى يلزم منه المطلوب.
كيف وكثير من أصحاب علي (عليه السلام) لم يبايعوه مدة ثم بايعوه طوعا أو كرها ثم استقاموا على الإقرار بإمامته وماتوا عليه، فيلزم بناء على ما ذكره أن يكونوا كفارا جهلاء محشورين بعد موتهم مع الجاهلية، وظاهر أنه لم يقل به أحد.
والعجب أنه مع ثقوب فهمه وجودة قريحته كيف تفوه بذلك، وتفاخر في آخر دليله بقوله: وهذا طريق أنيق في إثبات إمامة علي (عليه السلام)، لم يذهب إليه أحد، قد وفقنا الله به. مع ظهور بطلانه وفساد بنيانه.
पृष्ठ 19
ثم قال (قدس سره): ثم إن الإمام الحق في كل عصر يجب أن يكون واحدا، وإلا يلزم تجويز حقية النقيضين على تقدير اختلافهم، وهو ممتنع. وإذا لم يكن الإمام عبارة عن السلطان ومن يقتدى به في الصلاة ثبت أن له معنى آخر يخصص به عمن يصدق عليه هذا اللفظ بحسب اللغة، وليس للرعية سبيل إلى معرفته، فيجب بيانه وتعيينه على النبي، وتأخير البيان عن محل الحاجة قبيح، والنبي منزه عنه، فثبت أنه نص على علي (عليه السلام)، إذ لم يدع أحد ادعاء نصه على غيره، فثبت المطلوب.
أقول: المقدمة الأولى مستدركة، وكان المناسب أن يقول بعد إبطال إمامة أبي بكر: ثم إن خلو الزمان عن الإمام باطل بإجماع الفريقين، فإذا لم يكن عبارة عن السلطان... إلى آخر ما ذكره.
على أنه يرد عليه أيضا أنهم فسروا الإمامة برئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي، فهم لا يجوزون تعدد الإمام - حقا كان أو باطلا - في عصر من الأعصار ليحتاج في نفيه إلى دليل وفي إبطاله إلى حجة. ومنه يعلم أن للإمام معنى آخر غير متعارف اللغة، فهو أيضا من المسلمات عندهم.
وأما أنه ليس للرعية سبيل إلى معرفته فهو أول المسألة في حيز المنع، لأن إجماع الأمة على أمر دليل على حقيته، وهو سبيل المؤمنين المشار إليه في القرآن (1).
ولعله حاول أن يشير إلى وجوب عصمته، وأنها من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلا عالم السرائر والضمائر، فيجب أن يكون منصوصا كما هو المشهور عندنا، وإن لم يكن مسلما عند خصومنا ، وإلا فبعد إثبات وجوب عصمته كما قدمناه (2) أو تسليمه لا حاجة في نفي إمامة أبي بكر وإمامة علي (عليه السلام) إلى تلك التطويلات الركيكة، بل يكفي مجرد أن يقال: إن الإمام بعد النبي: إما علي (عليه السلام) أو أبو بكر، والثاني باطل لعدم عصمته إجماعا، فثبت عصمة علي (عليه السلام)، وإلا لزم
पृष्ठ 20
عدم إمامته أيضا وهو يستلزم خلاف الإجماع المركب من الفريقين، فإذا كان معصوما تعين إمامته وهو المطلوب.
وأما ما ذكره من وجوب كون النبي (صلى الله عليه وآله) منزها عن القبيح فغير مسلم عندهم، كيف وهم قد كتبوا على ذلك تخطئة الأنبياء، وجوزوا فيهم الاجتهاد، فصوبوهم تارة وخطؤوهم أخرى. وبالجملة دليله هذا غير مسكت للخصم، بل هو دليل اقناعي عند الشيعة بعد تسليم أكثر مقدماته، على أن مقدماته من المشهورات عندهم، وقد ورد على أكثرها النص عن أئمتهم فكيف ساغ له دعوى التفرد بذلك؟
وأما تأويل الإمام المذكور في الخبر المسطور بالكتاب العزيز، أو بصاحب الشوكة من ملوك الدنيا، عالما كان أو جاهلا، عادلا كان أو فاسقا - كما عليه مخالفونا - فمما لا وجه له أصلا.
وأية فائدة في معرفة الفاسق والجاهل حتى من لم يعرفهما يموت ميتة جاهلية وهما لا يصلحان للإمامة؟ وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة كما صرح به مفسروهم ومنهم الزمخشري والبيضاوي في ذيل كريمة * (لا ينال عهدي الظالمين) *؟ وإضافة الإمام إلى زمان ذلك الشخص ينفي كون المراد به الكتاب العزيز، وهو ظاهر.
ولنرجع إلى ما كنا فيه، فنقول: ومنها ما رواه الكليني عن جابر، " قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) * (1) قال: هم والله أولياء فلان وفلان، اتخذوهم أئمة دون الإمام الذي جعله الله للناس إماما " (2).
فالمراد بمن دون الله من دون أولياء الله على حذف المضاف، أو أنه تعالى خلط أولياءه بنفسه فجعل طاعتهم طاعته ومعصيتهم معصيته ، جعل من اتخذ لهم أندادا كمن اتخذ له أندادا.
पृष्ठ 21
ومنها ما رواه عن ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) " قال: سمعته يقول: ثلاثة لا يكلمهم (1) الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماما من الله، وزعم أن لهما في الإسلام نصيبا " (2). وهذا صريح في كفرهم، ولكنه قابل للتأويل.
ومن طرق العامة ما رواه أبو أمامة الباهلي عن النبي (صلى الله عليه وآله): " أن الله تعالى خلق الأنبياء من أشجار شتى، وخلقت أنا وعلي من شجرة، فأنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمارها وأشياعنا أوراقها، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ هوى، ولو أن عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالي ثم لم يدرك محبتنا أكبه الله على منخريه في النار، ثم تلا * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (3) ".
وروى الصدوق بأسانيد متعددة عن أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه " قال لنا: أي البقاع أفضل؟ فقلت: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: أما أن أفضل البقاع بين الركن والمقام، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا " (4).
وروى محمد بن يعقوب بإسناده عن عبد الحميد بن أبي العلاء، عن الصادق (عليه السلام) أنه " قال: قال لي: يا أبا محمد والله لو أن إبليس سجد لله بعد المعصية والتكبر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله عز ذكره ما لم يسجد لآدم كما أمره الله أن يسجد له، وكذلك هذه الأمة العاصية المفتونة بعد نبيها وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيهم لهم فلن يقبل الله لهم عملا، ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من
पृष्ठ 22
حيث أمرهم، ويتولوا الإمام الذي أمروا بولايته، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم " (1).
وعن زرارة، عن الباقر (عليه السلام) " قال: بني الإسلام على خمسة أشياء، وهي:
الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال: فقلت: وأي شئ من ذلك أفضل؟
قال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن - وساق الحديث إلى أن قال: - ثم قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله عز وجل يقول: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) * أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان " (2).
وعن محمد بن مسلم " قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها، فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلما جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها، فصاح بها الراعي: ألحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها، فبينما هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وكذلك والله يا محمد من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله عز وجل ظاهرا عادلا أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها
पृष्ठ 23
كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد " (1).
إلى غير ذلك من الأخبار، ويظهر منها أن أهل الخلاف كفار أو منافقون، وكل من هو كذلك فهو مخلد في النار * (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) * (2) وذلك لا ينافي إسلامهم بحسب الظاهر كما ذهب إليه عامة أصحابنا، ويشير إليه قوله (عليه السلام) " مات ميتة كفر ونفاق " حيث ذكر الكفر بعد الإيمان لينبه على أن كفرهم ليس كفرا ظاهرا كسائر أصناف الكفر، بل كفرهم مكتوم ككفر المنافقين، فهذا الإسلام الظاهري يحقن دماءهم، ويحفظ أموالهم، ويحل ذبيحتهم، ويحصل التوارث بيننا وبينهم، ويغسلون ويصلى عليهم، ويدفنون في مقابر المؤمنين. وبالجملة: فهم يشاركون أهل الإيمان في الأحكام الدنيوية، ويفارقونهم في الأحكام الأخروية.
ففي الحسن عن الفضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) " قال: سمعته يقول: إن الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إن الإيمان ما وقر في القلوب، والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء " (3).
وفي الموثق عن سماعة عنه (عليه السلام) ما يقرب من ذلك (4).
وفي الصحيح عن حمران بن أعين عن الباقر (عليه السلام): " الإيمان ما استقر في القلب وأفضى به إلى الله، وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره، والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح - إلى أن قال - قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شئ من الأحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحد، ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما
पृष्ठ 24