قال: فزلزلت عليهم الدار، وخرج الخادم فقال: لمن هذا الغناء؟ فقلت: لي. فقال: كذبت، هذا غناء إسماعيل بن جامع، فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم. فقال لي الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل عليك. فلما صعد السرير وثبت على قدم أمير المؤمنين أقبلها، فقال: ابن جامع؟ قلت: ابن جامع، جعلني الله فداك. قال: اجلس يابن جامع، وجلس أمير المؤمنين وجعفر في المواضع الخالية. فقال لي: يابن جامع؛ أبشر وابسط أملك؛ فدعوت له. ثم قال لي: غنّ يابن جامع، فخطر ببالي صوت الجارية المدنية فغنيته، فنظر أمير المؤمنين إلى جعفر، وقال: أسمعت كذا قط؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما خرق سمعي مثل هذا. فرفع الرشيد رأسه إلى خادم وقال له: كيس فيه ألف دينار، فمضى الخادم فلم يلبث أن جاء بكيس فيه ألف دينار، فصيرته تحت فخذي. ثم قال: يا إسماعيل؛ غنّ ما حضرك؛ فأقبلت أقصد إلى الصوت بعد الصوت، فلم أزل كذلك إلى أن عسعس الليل. فقال: يا إسماعيل، قد أتعبناك هذه الليلة للسرور بغنائك؛ فأعد على أمير المؤمنين الصوت الذي تغنيت أولًا، فغنيته؛ فرفع رأسه إلى الخادم، فقال له: كيس فيه ألف دينار، فذكرت قول الجارية لي: إني أحسبك تأخذ فيه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثم قال: انصرف، فبقيت لا أدري أين أقصد في ذلك الوقت؛ فما هو إلا أن نزلت عن الأسرة حتى وثب إلي فراشان فأخذ أحدهما بيدي، فمضيا بي ولا أدري إلى أين يتوجهان، حتى وقفا على باب داري هذه، فإذا أمير المؤمنين قد أمر سلامًا الأبرش فابتاع دارًا، وحشاها بالجواري والخدم والوصفاء والفرش والطعام والشراب. ورفع إلي أحدهما إضبارة مفاتيح. فقال: ادخل، بارك الله لك. هذا مفتاح بيت مالك، وهذا مفتاح حجر جواريك، وهذا مفتاح بيت فرشك وآنيتك؛ فدخلت الدار وأنا أيسر أهل بغداد وأحسنهم حالًا، والحمد لرب العالمين.
من مليح ما جاء في المغنيات والغناء
ومن مليح ما جاء في المغنيات والغناء قول بشار بن برد:
وصفراء مثل الزعفران شربتها ... على وجه صفراء الترائب رود
حسدت عليها كلّ شيءٍ يمسّها ... وما كنت لولا حسنها بحسود
كأنّ مليكًا جالسًا في ثيابها ... تؤمّل رؤياه عيون وفود
من البيض لم تسرح على أهل ثلّةٍ ... سوامًا ولم ترتفع حداج قعود
إذا نطقت صحنا وصاح لها الصّدى ... صياح جنودٍ وجّهت لجنود
تميت به ألبابنا وقلوبنا ... مرارًا وتحييهنّ بعد همود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كلّه ... كأنّا من الفردوس تحت خلود
ولا بأس إلاّ أننا عند أهلها ... شهودٌ وما ألبابنا بشهود
وقال:
لعمر أبي زوّارها الصّيد إنّنا ... لفي منظرٍ منها وحسن سماع
تصلّي لها آذاننا وعيوننا ... إذا ما التقينا والقلوب دواعي
وقال:
وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش ... ببؤسٍ ولم تركب مطيّة راعي
جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها ... لزوّارها من مزهرٍ ويراع
إذا قلّدت أطرافها العود زلزلت ... قلوبًا دعاها للوساوس داع
كأنهم في جنّةٍ قد تلاحقت ... محاسنها من روضةٍ ويفاع
يروحون من تغريدها وحديثها ... نشاوى وما تسقيهم بصواع
لعوبٌ بألباب الرجال إذا رنت ... أُضيع التقى والغيّ غير مضاع
والشعر في هذا المعنى واسع الذرع، سابغ الدرع؛ ولأبي الفتح كشاجم فيه كل شيء مليح، فمن ذلك قوله:
جاءت بعودٍ كأنّ الحبّ أنحله ... فما يرى فيه إلاّ الوهم والشبح
فحرّكته وغنّت في الثقيل لنا ... صوتًا به النار في الأحشاء تنقدح
بيضاء يحضر طيب العيش إن حضرت ... وإن نأت عنك غاب اللهو والفرح
كلّ اللّباس عليها معرضٌ حسنٌ ... وكلّ ما تتغنّى فيه مقترح
وهذا مقول عبد الله بن المعتز:
وغنّت فأغنت عن المسمعي ... ن وارتجّ بالطرب المجلس
1 / 49