जमाल दीन अफगानी
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
शैलियों
كان فتح البلقان إذن مظهر ضعف في الدولة العثمانية نظرا للقلاقل والفتن وإعداد الجيوش لسفك الدماء . لذلك لم يكن البقاء في البلقان مضمونا، وكان استقلالها معروفا للعقلاء. وهو رأي عالي باشا الصدر الأعظم بعد أن رأى مخاسر تركيا. ولكن الدولة العثمانية لم تأخذ برأيه، جعل الخلافة في بغداد وسط الأمة. وربما لم تصدق نبوءة الأفغاني هنا. فالقسطنطينية ما زالت باقية في يد الأتراك، وتشهد نهضة إسلامية معاصرة. ولو كانت إمارة لشجع ذلك الغرب على استردادها كما استرد الأندلس.
لو عمر الأتراك الأرض، وعدلوا في أهلها، وجروا على سنة الرشيد أو المأمون، وقد كانوا أغنى أمم الأرض وأكثرهم سلطانا! لم يحسنوا إلا الحرب دون العمران، ولم يقبلوا اللسان العربي، لسان الدين والأدب، والذي دخل اللسان التركي فأغناه، ولو خلا اللسان التركي من الكلمات العربية والفارسية لكان من أفقر لغات الأرض، ولعجز عن التعبير عن حاجات الأمة البدوية، ولما كان للأتراك شعر ونثر وبيان. فكيف يعقل تتريك العرب، وقد تبرك العجم بالاستعراب، وأصبح اللسان العربي لغير المسلمين لسانا؟ لقد خاطب الأفغاني السلطان عبد الحميد في الأمر ولكن السلطان لم يكن جيد الإصغاء. وكان لا يرى أن فضل اللسان العربي كما كان يرى سليم أمر صائب. وكان لا يريد الاعتراف بأن توغلهم في أوروبا وفتح شبه جزيزة البلقان كان خطأ. وواضح أن الأفغاني هنا ضد الاستعمار، واحتلال أراضي الشعوب بالقوة والقهر حتى ولو كان من جانب المسلمين الأتراك؛ فالفتح الإسلامي ليس استعمارا للشعوب ولكنه تحرير لها، وليس احتلالا للأرض بل فتحا لها. لم يحتل المسلمون العرب مصر وفارس والشام بل فتحوها في حين احتل الأتراك العثمانيون شبه جزيرة البلقان ولم يفتحوها.
5
لقد ساءت الأمور، في رأي الأفغاني. وانقضى وقت الإصلاح، وإخراج التصورات من ميدان النظر إلى ميدان العمل، بعد أن كانت الدولة العثمانية في عنفوان قوتها وأوج عزتها. أصبح الأمر الآن للقوة وحدها. ينتصر القوي على الضعيف. ولم يعد في إمكان السلطان عبد الحميد ما كان يفعله السلطان الفاتح أو السلطان سليم أو السلطان سليمان. لم يعد الأمر الآن، في رأي الأفغاني، تحقيق ما ينبغي أن يكون بل الاعتراف بما هو كائن، وليس تحقيق الواجب بل تحقيق الممكن، وبلغة الفقهاء، ليس تحقيق المنفعة بل الإقلال من الضرر، ليس العمل إيجابا بل العمل سلبا. ليس طلب المستحيل، إبقاء الدولة العثمانية في أوروبا، بل تحقيق الممكن وهو إبقاء الدولة العثمانية في غير أوروبا. وقد حادث الأفغاني عبد الحميد في تصوراته عن الإصلاح، ورفض تدوينها حتى يظل الأمر سرا لا يطلع عليه أحد، وجوهرها تحويل الممالك إلى خديويات وليس إلى مجرد ولايات يرسل إليها الولاة من الآستانة مثل باكير باشا ومحمد علي باشا لجمع الأموال من غير حق وإرسالها إلى الآستانة، وتوزيعها على رجال الدولة. إن نظام الولايات ليس خيرا لها بل هو خير للسلطنة، أما نظام الخديويات فهو خير للولايات وحفاظ على السلطنة كما فعل الإنجليز في الاستيلاء على الولايات باسم السلطنة وحفاظا عليها. وأيهما أفضل أن يأتمر الوالي بأمر السلطان، وتكون العساكر المصرية عثمانية تنفذ الأوامر باللحاق بجيوش السلطان، وأن يكون الشعب المصري رعية خاضعة طائعة للسلطان أم أن تصبح الولاية خديوية، وأن يكون الخديوي معينا من السلطان ولكنه منفذ لمصالح الخديوية وشعبها؟ كان الأفغاني من أنصار اللامركزية وإعطاء الاستقلال الذاتي للولايات. ولكن السلطان كان يخشى من أن يتحول الاستقلال الذاتي إلى استقلال كامل وبالتالي تتفتت الدولة العثمانية، وتضيع الخلافة. وكاد محمد علي وإبراهيم باشا أن يستقلا بمصر. إن السلطنة العثمانية تتألف من ثلاثين ولاية، ومساحتها في آسيا فقط 661000 ميل مربع على حين أن مساحة بريطانيا وإيرلندا معا 120000 ميل مربع. يمكن أن تتحول الولايات إلى خديويات في بغداد والبصرة والموصل وبيروت وسورية وحلب والقدس والجزائر والحجاز مع تعزيز أساطيل الدولة لحماية الخديويات من الغزو الأجنبي. تقتصر مهمة الدولة المركزية على الدفاع عن الخديويات اللامركزية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قديما، وكل الدول الفيدرالية مثل ألمانيا. وتتحول تركيا ذاتها إلى ثلاث ولايات، لكل منها منفذ على البحر، كما تصبح ألبانيا خديوية، ويكون مجموعها عشر خديويات أو ممالك كل واحدة منها أعظم من اليونان. ولا يعوقها عن التقدم واللحاق بما خسرته من الانفصال عن الدولة العثمانية إلا شكل الحكم التسلطي والسلطة المركزية البيروقراطية القاتلة للهمم والموهنة للعزائم. والدولة العثمانية اليوم لا ترسل من الولاة إلا أحد رجلين: إما الخامل البليد الذي همه جمع المال، وإما الرجل النشيط العاقل ولكن ليس له من الأمر شيء، يستأذن الباب العالي في ترميم جسر في بغداد سقط منه حجران فلا يأتي الإذن إلا بعد أشهر وأعوام يكون طغيان النهر قد جرف الجسر كله! وما يقترحه الأفغاني أن يفوض السلطان آل عثمان إلى الخديويات بدلا من قعودهم مع النسوان، وتقريبه الخصيان. ويكون مع كل أمير وزير فاضل وأمين من غير حاشيته التي تحاصره وتكذب عليه. كان هم الأفغاني إذن الحفاظ على الدولة العثمانية وحمايتها من التفكك وتوحيد أجزائها وفي نفس الوقت إعطاء الولايات قدرا من الحكم الذاتي، وربما فيما بعد، وهو ما لم يصرح به الأفغاني، تعيين حكام وطنيين من أهل البلاد وليس من الأتراك بالضرورة، وتعزيز أساطيل الدولة لحماية الولايات من الغزو الأجنبي. هذا هو الحل الوحيد لأية دولة في حالة اتساع ملكها. اتبعه العباسيون قديما، ولا يغيب عن تصور الإنجليز حديثا، هو النظام الفيدرالي الذي يحافظ على الكيان الوطني القومي في إطار من وحدة الأمة.
ولكن السلطان عبد الحميد شعر بأنه لم يبق له من السلطة شيء بعد أن سمع هذا التصور الفيدرالي للدولة العثمانية والاستقلال الذاتي للولايات. لم يبق شيء لتخت آل عثمان. ورد الأفغاني عليه بأنه يبقى له ملك الملوك وعرش العروش، ربما للإبقاء عليه بلا سلطات من أجل القضاء عليه وربما اقتناعا باللامركزية من أجل الحفاظ عليه وعلى الدولة في آن واحد. كان السلطان عبد الحميد سيئ الظن، لا يأمن لأحد. وظن أن الأفغاني بتصوره عن اللامركزية العثمانية يعمل لحساب إسماعيل كمال الذي عين لولاية طرابلس الغرب، وطلب توسيع صلاحياته وحق عقد قرض لتحسين الولاية وإصلاحها. وإذا كان الأفغاني لا يعمل لحساب إسماعيل ضد العرب فإنه يعمل لحساب إسماعيل التركي. ولكن السلطان رأى أن الأمر قد فات أوانه ، ولا يمكن عمل شيء الآن، مستعملا المثل التركي
أن الجواد اجتاز اسكدار .
والعجيب أن يمدح الأفغاني بعد ذلك السلطان عبد الحميد. فلو وزن السلطان عبد الحميد مع أربعة من رجالات العصر لبزهم ذكاء ودهاء. لقد ذلل لملكه الصعاب، وصمد أمام دول الغرب، وحول العدو إلى صديق من دول الغرب، واقتنع الجميع بحججه. يعلم دقائق السياسة ومطامع الغرب، ويخرج سالما من كل أزمة. ولكن عيبه هو العجز عن اتخاذ القرار، والجبن من أكبر عيوب الملوك، وعيب الكبير كبير، مع أن السلطان قد قبل بارتياح أفكار الأفغاني عن اللامركزية ومحاسن الحكم الدستوري، والإسلام أول من أقامه، وحسنت نواياه لإقامة الدولة اللامركزية، المناط بها نهضة المسلمين. وأعد كل شيء حتى لا تتفق أوروبا على عمل خطير ضد الممالك العثمانية. وأقنعها أن ذلك سيكون خرابا على نفسها. فيقظ لدول البلقان الصغيرة التي أحدثتها أوروبا للتدخل في شئونه ولتقطع أجزاء من مملكته. وكلما حاولت أوروبا توحيد البلقان ضده استطاع بدهائه تفريق ما جمعوه. فخضع له أمير البلغار، ولبس الشعار العثماني «الطربوش»، وافتخر برتبة المشيرية، وانتظم في حفلة صلاة الجمعة. وكان أمير الجبل الأسود يعتبر نفسه كالابن أمام والده، يطلب الإعانة لمساعدته في تجهيز ابنته. فدفع ذلك أوروبا إلى تحريض اليونان على حرب السلطان، والأعجب من الأفغاني مدح أبي الهدى الصيادي وهو المدافع عن السلطان والخلافة بأي ثمن.
أما الرجل (أبو الهدى الصيادي) فهو خير عربي صحب السلطان. وقد درأ شرا واستدر ما استطاع من الخير لقومه. وفي الرجل هزة هاشمية، وخلق كريم، وهمم وشمم لا ينبغي أن يناله طعن الطاعنين. ولا أدل على فضل الرجل من قياسه مع غيره من العرب الذين انسلوا إلى السلطان ودخلوا خدمته .
6 (2) مصر والخلافة العثمانية
مصر هي بؤرة الخلافة. والدفاع عن الخلافة العثمانية إنما هو دفاع عن استقلال مصر وتقدمها؛ فمصر من الأراضي المقدسة. ولها في قلوب المسلمين جميعا منزلة كبيرة. وقلق المسلمين عليها ركن من أركان الدين. مصر في المركز والقلب. ومع أن الأفغاني غير مصري إلا أنه تجلى في مصر، وتجلت روح مصر الوطنية فيه. ويعلن الأفغاني عن ذلك في العروة الوثقى قائلا:
अज्ञात पृष्ठ