ويعيرونا أسماعهم حتى يتعلموا أولا هذا الذى نحن فى صفته، وهو كيف يمتحن الطبيب الحاذق. ثم يأخذون أنفسهم بمحنته. فإنهم لو فعلوا ذلك لما وقعوا فيما يقعون فيه باختيارهم الأخس على الأفضل من الموضع الذى كان ينبغى لهم أن يرفضوه، فضلا عن أن يختاروه ويقدموه. وذلك أنهم إنما يختارون ويقدمون من الأطباء من طالت صحبته لهم، وكثرت أسفاره معهم، ولزم أبوابهم نهاره كله سنين كثيرة متوالية. وما هكذا يختارون ويقدمون الشعراء. لكنهم لو دخل مدينتهم شاعر لم يعرفوه قبل ذلك ساعة قط، فرأوا شعره أجود، لقدموه على غيره ممن عرفوه. وليس حق من طالب صحبته وخدمته لالتماس الغنى، إلا أن تحسن إليه وتعينه. ولا حق لمن لزم الباب نهاره كله، إلا أن يكون بوابا. ومقدما فى ذلك كله فليس يستحق أن ينسب إلى الفضيلة فى الطب بذلك. ولا حق لمن يجول البلدان الكثيرة، إلا أن ينسب إلى أنه شعوذى وأن له فضيلة فى ذلك، وليس ذلك مما يستحق به أن ينسب إلى الفضيلة فى الطب. بل هذا هو الذى يمنع من فى خدمة الأغنياء من أن يستفيد معرفة التشريح، ومعرفة الأدوية والأغذية وسائر ما يحتاج إليه، والتدرب فى ذلك على ما ينبغى، لأنه مشغول ليس يتفرغ لشىء من هذه الأشياء البتة. وأنا أظن أنه لو كان رجل معه من العلم والفراسة ما كان مع أبقراط، ثم تشاغل هذا التشاغل لكان سينسى كل ما علمه سريعا بشغله بالطعام الطيب والشراب الكثير، وكثرة الأسفار، ولزوم أبواب الأغنياء وسائر ما يتشاغل به مما لا منفعة فيه فى علم الطب. فمن الموضع الذى كان ينبغى لهم أن يأيسوا من أن يجدوا عندهم ما يحتاجون إليه، فلا يحتاجون إلى امتحانهم بأكثر من ذلك، صاروا من ذلك الموضع بعينه يقدمونهم ويختارونهم على غيرهم ويفضلونهم، لقلة خبرتهم بطريق الاختيار والامتحان. ومن العجب أن يكون أرودس وهو من أقوى أهل دهرنا على الخطب التمس يوما من الأيام الخطبة فى أمر احتيج فيه إلى ذلك. فتكلم بكلام أخس من الكلام الذى كانت عادته أن يتكلم به. فأحس بذلك من نفسه، فأخبرنا بالعلة فيه. وقال إن السبب فى ذلك أنه اشتغل ثلاثة أيام قبل ذلك، فلم يتفرغ لأن يكتب ولا يقرأ فيها شيئا. وأذكر أنى سمعت قولا من رجل وقد خطب فلم يحسن الخطبة، وهو يعتذر بأنه اشتغل قبل ذلك بأربعة أيام. ثم يكون من لم يتعلم الطب على الطريق المستقيم ولا ارتاض وتدرب فيه، ولا كان له فيه حظ قط، له قدر دون سائر الناس، كلما كثر شغله عنه كان فيه أكبر.
ولا ترانى أقول هذا وأنا أقصد به إلى توبيخ المترفين وذلك لأنى لا أطمع فى قبولهم لذلك. فلست أروم تقييدهم ولا اجترارهم إلى استماع قولى. ولا أطمع لهم فى أن يتعلموا وأن يحذقوا طريق البرهان، ولا أن يمتحنوا الأطباء فى أحكامهم على المرضى وأفعالهم على ما أصف. وأنا راجع إلى الكلام فى المسألة التى قصدت إليها منذ أول كلامى.
فأقول إن من أراد أن يميز بين الطبيب الأفضل والأخس فينبغى أن ينظر أولا من أمر ذلك الذى يريد أن يمتحنه فى أى شىء أفنى أكثر عمره؟ أفى قراءة الكتب ومداواة المرضى؟ أم فى لزوم أبواب الأغنياء والتطواف عليهم والأسفار معهم؟ فإن وجده يفعل جميع هذه الأشياء، فليست به حاجة إلى أن يمتحنه، لأنه لا يجد عنده شيئا أكثر مما عند الشعوذى والبواب والنديم. فإن رأيته مثابرا على النظر فى كتب أبقراط وديوقلس وفركساغورس وسائر القدماء، فليحسن ظنك به، واجعله فى عداد من تمتحنه.
पृष्ठ 114