وإنى لأعرف رجلا من أهل اليسار دعاه بغض الكلام والقياس إلى أن ضحك منى واستهزأ بى فى قضية قضيت بها على مريض مرة. وذلك أنى حضرت المريض فى أول يوم حم، فعلمت وقضيت بأن حماه غب. فلما كان فى اليوم الثانى نابته الحمى كما كانت فى اليوم الأول. فظن ذلك الفتى أن تلك الحمى ليست بغب، لكنها الحمى البلغمية النائبة فى كل يوم. وضحك من قضيتى لأنه لم يعلم أنه قد يتركب حميان وثلاث من الغب بعضها مع بعض، ومع غيرها. ولم أشعر باستجهاله إياى إلا بعد أيام. ثم أن ذلك الفتى عاد ذلك المريض فى اليوم الخامس من مرضه، وقد نابته الحمى. فقال لى «قد كان يبلغنى عنك أنك تعرف حمى الربع فضلا عن الغب والنائبة فى كل يوم، فى أول يوم منها. وقد علمت علما يقينا بمشاهدتى إياك عند مريضنا هذا أن جميع ما كان يقال لى فيك إنما كان قولا موضوعا، ليست لشىء منه حقيقة. وإلا فما بالك قضيت فى هذه الحمى النائبة فى كل يوم، أنها حمى غب؟» ثم أنه ضحك. وضحك معه جميع من كان حوله من أهل الملق، ودام بهم الضحك طويلا. فانتظرت بهم حتى انقضى ضحكهم، ثم قلت لهم «إنى أعذركم لعلمى بأنكم لا تعلمون أنه قد يتركب حميان من غب. وذلك أنكم لا تتفرغون للعناية بأشباه هذه الأشياء الجليلة. ولا يبلغ من حرصكم على الأدب أن تنظروا فى الكتب التى كتبها الأطباء فى تركيب الحميات. ولو كنتم نظرتم فى تلك الكتب، لعلكم كنتم تعلمون أنه قد يمكن أن يكون بهذا المريض حميا غب، لا حمى واحدة نائبة فى كل يوم.» قالوا «وكيف يتبين لنا أن الذى بهذا المريض حميا غب، لا حمى واحدة نائبة فى كل يوم؟» فقلت لهم «أما الساعة فما أقدر على ان آتيكم ببرهان على أن بهذا المريض حميى غب. وذلك أن هذا أمر تقصر أذهانكم عن فهمه، وتحتاجون فى علمه إلى زمان طويل. ولكنى سأبين لكم إذا صار هذا المريض إلى اليوم السابع من أول مرضه، أن الذى كان به حمى غب. ويزداد لكم بيانا فى اليوم الحادى عشر. وذلك أن هذه الحمى التى تنوب فى الأفراد ستنقضى أولا، ولا تعود بعد السابع. ثم. تبقى الحمى الأخرى إلى اليوم الرابع عشر.» فلما قلت هذا رأيت ذلك الفتى قد صر أذنيه كما يصر الحمار عند الشىء المنفر. وجعل كل من حوله يهذى بلون من الهذيان. ثم صح ما قضيت به على ما قضيت. وكنت ظننت أن من حضرنى من الأطباء عند ذلك المريض سيعجبهم ما رأوا منى ويحبونى عليه ويلتمسون التعليم منى. إذ لم يكمل لعلم الكل بأن يفرقوا بين الحمى النائبة فى كل يوم وبين حميى غب. فرأيت منهم ضد ذلك. وذلك أنهم لم يسألنى واحد منهم عن شىء من هذا العلم، فضلا عن أن يسألنى أن أعلمه إياه. ومقتونى فضلا عن أن يحبونى، لغلبة الحسد عليهم. فجعلوا يحتالون بكل حيلة أن يثلبونى ويمنعونى من حضور المرضى معهم. وإنما قلت جميع ما قلت من هذا لأدل على كل حمى تحدث بالمحمومين.
पृष्ठ 98