لكن يبدو أن «ميد» كان متفائلا أكثر من اللازم، فهذا واحد من علماء النفس في بلادنا، يصف موضوع الإرادة وحده بأنه «من الموضوعات الحائرة التي فقدت أوراق اعتمادها في نظر كثير من المدارس السيكولوجية؛ فهو كالمنبوذ السياسي الذي جرد من جنسيته، فأخذ يجتاز البحار جيئة وذهابا بدون أن يوفق إلى الدخول في ميناء يستقر فيها. فقوم يرون أن موضوع الإرادة من الموضوعات الميتافيزيقية العامة التي يجب أن تعالج بطريقة مذهبية على غرار مسألة الوجود والعدم والخير والشر ... إلخ، ويرى قوم آخرون أن موضوع الإرادة لا يتعدى النظر في الحركات الإرادية كما يفهمها العالم البيولوجي ... ويذهب بعضهم إلى أن موضوع الإرادة من اختصاص علم الاجتماع.»
6
غير أن علم النفس في دراسته لمشكلات السلوك البشري بصفة عامة لم ينته إلا إلى تدعيم المذهب الجبري! فهو قد كشف في تحليله لهذا السلوك عن أن الاختيار أو القرار يحدث دائما نتيجة لشروط معينة. فعندما تتوافر هذه الشروط يحدث اختيار، وعندما تغيب لا يكون هناك اختيار، كما أن مدرسة التحليل النفسي بصفة خاصة قد دعمت موقف أنصار الحتمية الذاتية
Self-determinism
حين فسرت قوانا الواعية: كالإرادة والعقل والضمير ... إلخ، بأنها محكومة تماما بقوى لا عقلية يرقد معظمها تحت عتبة الشعور، ولا نعرف شيئا عن تكوينها ولا نستطيع أن نحسب مقدار أثرها على الشعور. وهم يصورون المنابع الرئيسية لطبيعتنا ببحر من الغرائز والدوافع ليس له قرار يضطرب بعواصف اللبيدو
Libido
وأمواج الرغبة، وعلى هذه الأمواج يتأرجح الشعور والوعي كما تتأرجح قطعة الفلين على سطح الماء!
وليست مدرسة التحليل النفسي هي وحدها التي تؤدي إلى هذه النتيجة، بل إن معظم مدارس علم النفس المعاصر تدعمها بطريقة أو بأخرى، فالمدرسة السلوكية - مثلا - تحاول أن تدرس الإنسان على أنه آلة تعتمد في سلوكها على المثير والاستجابة. والذهن إما أن يدرس دراسة موضوعية كما يدرس النبات وحركات الكواكب، وإما أن يحذف من مجال الدراسة. يقول «واطسن»: «إن عالم النفس السلوكي يضع الموجود البشري أمامه ثم يقول: ما الذي يستطيع هذا الكائن أن يفعله؟ متى يبدأ في عمل هذه الأشياء؟ وإذا لم يكن في استطاعته أن يعمل هذه الأشياء بسبب طبيعته الأصلية فما الذي يمكن أن يتعلم أن يفعله؟»
7
وهكذا يعالج الموجود البشري كما تعالج «العينة» في المعمل، ويتساءل عالم النفس السلوكي كيف تسلك هذه «العينة» في الموقف الفلاني؟ ومتى تسلك بطريقة معينة، وما الموقف الذي يجعلها تسلك على هذا النحو؟
अज्ञात पृष्ठ