وإن الطريقة الوحيدة لقطع خط الرجعة على كل المشاريع الاستعمارية أن ننظم أنفسنا وأن نتعلم كيف يمكن أن نعمل معا، معا ويدا واحدة حتى لو اختلفت طرق تفكيرنا، بحيث لا نترك العمل والاتجاهات تنبع وتنشر كيفما شاءت وبحيث لا يخطئ أي منا فهم الآخر أو يسيء تأويل نواياه. وقد تكون الوحدة الكاملة العاجلة غير ممكنة، ولكن هل صعوبتها تمنع أن نتحرك على الخط القائم بين التضامن، مجرد التضامن والوحدة؟ هل تمنع أن ننشئ تنظيما ما، نطلق عليه اسما ما، وحوله نجتمع ونلتقي ونتدارس ونتفاهم؟ لماذا لا ننشئ مثلا مجلسا عربيا أعلى للدول العربية المتحررة ينسق كفاحها ويعمل لتحرير بقية الدول التي لم تتحرر بعد؟ لماذا لا نسبق للاتفاق قبل أن تسبقنا الاختلافات؟ إننا بشر وحكامنا وقادتنا والذين صنعوا ثوراتنا بشر أيضا، ومن الجائز بل لا بد أن يحدث أن يختلف هذا مع ذاك أو يتعارض اتجاه مع اتجاه، فمن ينقذنا حينئذ من الوقوع في هوة التناقض والعداء؟ إلى من نحتكم إذا اختلفنا، ومن يرعى اتفاقنا؟ من يتولى وأد التناقضات في مهدها والفصل في أوجه الخلاف؟ والتنسيق؟ من؟
إنني لا أزال لا أهضم ذلك العنوان؛ «الدول العربية المتحررة»؛ فإنها إذا كانت حقيقة دولا عربية، وإذا كانت حقيقة متحررة، وهما مسألتان لا شك فيهما ولا جدال، فماذا يبقيها «دولا» متفرقة؟ إلى متى نظل نعتمد على طيبة قلوبنا ورابطة المحبة والقرابة والود؟ ولماذا لا تتخذ هذه «العواطف» كلها أشكالا تنظيمية شعبية أو رسمية ملموسة وواضحة وذات فاعلية؟
إن بقاء الدول العربية المتحررة كدول عربية متفرقة متحررة وضع خطير لا يمكن أن يكون في صالح مستقبل التحرر العربي. إن هذه الدول لا تقل قربى ولا تقل مصالحها ارتباطا عن دول الدار البيضاء مثلا، أو دول باندونج، أو حتى دول السوق الأوروبية المشتركة، ولكنها الوحيدة إلى الآن التي لا تجد شكلا تنظيميا ثوريا يجمعها ويجعل منها القوة الدافعة الرهيبة التي لا بد أن تؤدي عاجلا أم آجلا إلى تحرير بقية الدول العربية.
حظ الشرقية السيئ
الظاهر أن الحكم المحلي مسألة بخت وحظ ويانصيب. هناك محافظات بختها من السماء رفلت في المصانع والمشروعات والتحسينات على يد الحكم المحلي، وهناك محافظات أخرى مر بها هذا النوع من الحكم مرور الكرام زائدا عن الحد. وأتعس هذه المحافظات - في رأيي - هي محافظتنا الطيبة الشرقية بكل مراكزها وزقازيقها؛ فهي لا تزال كما كانت منذ عشرات السنين. الشوارع على نفس قذارتها ومطباتها، وكفر أبو الريش هو نفس كفر أبو الريش، بل حتى السوق لا يزال يقام، ليس على جانب ولكن في وسط الشارع الرئيسي للزقازيق بكل ما فيه من أسماك وسردين وروائح، لا شجرة زرعت، ولا حديقة أقيمت، ولا ناديا للشباب افتتح ولا نقول «استادا»، أو تصنيعا للمنتجات المحلية أو علاجا ووحدات ريفية.
إنني لا أريد أن أطعن أحدا بهذا القول، حتى ولا المحافظ. إنني فقط أنعى حظ شرقيتنا الكريمة الطيبة وأتحسر على بختها المايل، وأتساءل، والتساؤل هنا موجه إلى وزير الحكم المحلي: إلى متى تظل الشرقية في نظر الوزارة كما مهملا كالابن اللقيط الضائع؟ وأتساءل، والتساؤل هنا موجه إلى السيد علي صبري «وهو ممن تفخر الشرقية بانتسابهم إليها»: إلى متى تظل أكبر محافظاتنا تحيا في عهد ما قبل الثورة إن لم يكن في عهد ما قبل التاريخ، في حين أن الله سبحانه قد فتح على بقية المحافظات والمدن وأسرى في شرايينها إكسير الدفع الثوري فانتفضت ولحقت بركب الإصلاح والتطور.
إن مشكلة الشرقية ليست مشكلة رجال؛ فالرجال والحمد لله كثيرون والحماس متوفر. إنها مشكلة اعتمادات، مشكلة المحافظات التي تدللها وزارة الحكم المحلي وتغدق عليها في أريحية هارون الرشيد، وتلك التي تبخل عليها وتشح وتحرمها من لقمة العيش الحاف.
إنني أطالب بنشر الاعتمادات الخاصة بالمحافظات ونصيب كل منها في مشاريع الخطة الخمسية علنا؛ لكي تناقش وتعلن على رءوس الأشهاد، ولكي نعرف على وجه الدقة على أي أساس توزع تلك الميزانيات، أهي بنسبة السكان، أم بمتوسط دخل الفرد، أم توزع بضرب الرمل والودع وتدليل هذا على حساب ذاك؟
حين كشف الدكتور أنور المفتي على القرية
غفر الله لأستاذنا الدكتور أنور المفتي فقد جعلني أمضي ساعات ألم رهيبة. لقد كانت القرية المصرية بالنسبة لي كالأم العجوز الطيبة، أعرف أناسها وأحبهم وتربطني بهم عاطفة قوية مبهمة لا أجد لها تبريرا ولا تفسيرا. في الأسبوع الماضي أتاح لي الدكتور أنور المفتي جلسة نقاش طبي فلسفي أدبي صوفي ممتعة، في آخرها تكرم وأعطاني التقرير الذي كتبه عن تجربته في سحالي. وللأسف الشديد كانت ظروفي قد منعتني من قراءة هذا التقرير قبلا أو حضور المحاضرة القيمة التي عرضه الدكتور المفتي فيها. أخذت التقرير وحاولت فقط أن أتصفحه. كان تقريرا عن العلاج في الوحدات الريفية الجديدة ومحاولة علمية لإدراك المصاعب الكامنة والتغلب عليها، ولكني من الصفحات الأولى أصبت بالذعر. لكأن القرية، تلك الأم العجوز الطيبة قد امتدت إليها يد عالم طيب تكشف عنها ثيابها القليلة وتعريها وتفحصها بكل دقة العلم وصرامته. وإنه لشيء مزعج أن تكتشف أن تلك الأمراض وبكل تلك الكميات تحيا وتعشش في قريتك الطيبة . من المفزع والمروع أن تدرك أن أقرانك الذين كانوا معك ربما في إلزامي وربما في الحواري كل منهم لا بد مصاب الآن بثلاثة أمراض على الأقل إن لم يكن أحدها قد تكفل به وقضى عليه. من المؤلم والمروع أن تتأمل تلك الحقيقة: وهي أن الريف، جسم أمتنا كلها متليف بالبلهارسيا ومصاب بالأنيميا وتأكل مصارينه الإنكلستوما ويعاني من النقص الخطير من الفيتامينات ومواد الطعام الأساسية.
अज्ञात पृष्ठ