ولكن الصورة الواقعية تغير كثيرا من المشهد وتدفع إلى مزيد من التأمل.
فالصورة الواقعية مثلا لم تخرج عن محاولة اتهام معسكر بن بيلا للآخرين بأنهم خرجوا على قرارات مجلس الثورة والقيام بتصرفات ليست من اختصاصهم، ورد المعسكر الآخر باتهام بن بيلا بالجنوح إلى التحكم الفردي ومحاولة خلق دكتاتورية عسكرية، إلى آخر القائمة.
والصورة الواقعية دفعت المعسكرين في النهاية إلى الاتفاق أو شبه الاتفاق بتغاضي بن بيلا من ناحيته عن حتمية عودة القيادة المفصولة، وموافقة الآخرين على المكتب السياسي كما اقترح في مؤتمر طرابلس.
وأخيرا ها هي ذي تدفع الجميع إلى دخول الانتخابات كجبهة تحرير واحدة.
وسبب اختلاف الصورتين أن خلاف الزعماء جاء قبل أوانه بكثير. إن جبهة التحرير كانت تنظيما ثوريا سريا قاد المعركة خلال سبع سنين، ومع هذا بقي أعضاؤها غير معروفين لجماهير الشعب يكاد لا يعرف عن معظمهم سوى أسمائهم الحركية. وجبهة التحرير كانت إلى ما قبل الثورة مكونة من شباب يعملون في الحقل السياسي الحزبي السري، نشاطهم لا يعرفه غير أعضاء التنظيم. وإن كانت جبهة التحرير قد ارتبطت في أذهان الشعب بالقيادة الحازمة الواعية التي جلبت النصر، إلا أنها ارتبطت في الأذهان أيضا كجبهة، ولم ترتبط كأفراد أو كزعامات. باختصار أريد أن أقول إن أعمار هؤلاء الزعماء في القيادة العلنية قصيرة، والوحيد المعروف بينهم على نطاق شعبي واسع هو فرحات عباس، وأن تأتي هذه القيادة الجديدة، هذه الجبهة، وأول عمل علني يقوم به أعضاؤها بعد الاستقلال أن يختلفوا هذا الاختلاف الذي كان يضيع النصر والاستقلال، هذا الخلاف بين قادة مهما قيل عن اتجاه كل منهم، فإن جماهير الشعب العادية لم تجرب - على حد قول كثيرين من الجزائريين لي - هذا الزعيم أو ذاك لتحكم عليه وعلى صدق قوله وعن ارتباطه في أذهانهم بهذا العمل والمبدأ أو ذاك.
إن الشعب في مصر والعالم العربي مثلا لم يلتف حول جمال عبد الناصر ويؤيده هذا التأييد الساحق لشخصه فقط، ولكن جمال عبد الناصر هو بالنسبة لهذا الشعب عديد من المواقف والمبادئ، زعامة جاءت نتيجة تجربة ونتيجة تراكم تجارب وثقة واختبارات. كانت القيادة الجزائرية لزمها عنصر الزمن لكي توجد هذه الصلة الحتمية بينها وبين جماهير الشعب من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي تتضح أوجه الخلاف النظرية والمبدئية والوسيلة بين هذا وذاك، وضع غريب، قيادة جديدة، لم تكد تتسلم الزمام العلني حتى دب بينها الخلاف. لم يكن مهما لدى الشعب الجزائري أبدا أسباب هذا الخلاف، ولا أين يكمن الحق؛ فالمهم عنده كان أولا أن يحس بأنه استقل، ولا يمكن أن يحس ذلك الإحساس إلا إذا تكونت له فورا حكومة يلمس أنها منه، من جزائريين مثله، لأول مرة منذ 132 عاما، لكي يحس أنه يحيا حقيقة لا حلما، وأنه فعلا وصدقا قد استقل؛ ولذلك أيضا كان أي خلاف مبدئي يقحم في المعركة كان الشعب والصف الثاني من جبهة التحرير لا يقابله إلا بهز أكتافه، وإلا بقوله على لسان جريدة المجاهد في افتتاحيتها المشهورة: إذا لم يتحقق الحل الذي يرجوه الجميع في الوحدة، وإذا أدت المناورات إلى فشل الجهود المبذولة حاليا، فإننا عندئذ سنواجه مشكلة حتمية، هي مشكلة استبدال القيادة الحالية.
ولأن هذا الخلاف النظري أقحم قبل الأوان فقد أسيء تفسيره، ورأى فيه أناس كثيرون أنه ليس صراعا حول السلطة بقدر ما هو صراع حول التسلط، وحول أيهم يأكل «الطبخة» وحده.
الفرق بين الخلاف التنظيمي والخلاف بين قادة علنيين
كان الزعماء يتصرفون وكأن الشعب كان معهم طوال السبع السنوات داخل جبهة التحرير، داخل الأسوار السرية المنيعة، يشهد الخلافات التي كانت تنشب، ويعرف كيف يفرق بين اتجاه هذا واتجاه ذاك، وكانوا يتصرفون وكأن أقوالهم وتصرفاتهم ستظل كما كانت طوال السبع السنوات داخل نطاق الاجتماعات السرية لجبهة التحرير لا تتعداها، ونسوا أن كل كلمة تصدر من أحدهم أصبح لها وزن آخر وفاعلية أخرى، وأنهم أصبحوا القادة الشرعيين لشعب ضخم عظيم خاض أعنف تجربة في تاريخ ما بعد الحرب وخرج منها صابرا ظافرا.
ولهذا أيضا كان رد الفعل مفاجأة للجانبين. كان الجانب الأول يعتقد أنه بمجرد إعلان آرائه سيلتف الناس حوله ويقفون ضد الآخرين، وكذلك كان يعتقد بوضياف وكريم وبوصوف، ولكن الشعب طوال الأزمة ظل لا يقف مع أي من الجانبين؛ إذ هو لم يكن يرى جانبين أبدا. لقد كان يرى دائما الرؤية الواضحة الحقيقية، يرى أنه أمام جبهة التحرير الممزقة على نفسها في وقت غير مناسب ولأسباب لم يجرب نصيبها من الحقيقة.
अज्ञात पृष्ठ