وجاء العمل كما قلت ناضجا مكتملا، والمسرح مليء من حولي بالمواطنين العاديين البسطاء الذين اجتذبهم موضوع كهذا؛ موضوع عن قائد الطائرة الأمريكي الذي ألقى قنبلة ذرية فوق بلد ياباني بعيد هو الآخر منذ تسعة عشر عاما مضت. اجتذبهم الموضوع بصدقه ونضجه إلى درجة دفعتهم لترك حياتهم وتسليتهم والمجيء للغوص في هذه المأساة مرة أخرى. إني لم أعجب بالمؤلف فقط، لقد أعجبني أكثر جمهورنا الطيب الرائع المستعد دائما لأن يفهم ويعي ويشارك ويتقبل.
إنها كلمة تحية حارة للمؤلف الذي اختار وكتب، وللمخرج فوزي درويش الذي أتقن، ولمحسن سرحان الذي كنت قد تصورت أن السينما قد أخذته إلى الأبد فإذا به في هذه المسرحية ممثل خشبة ممتاز، وإلى زوزو نبيل تلك الممثلة البعيدة الغور في فهمها للشخصية التي تمثلها. وأخيرا وليس آخرا للجمهور الغفير الحساس المشارك؛ جمهور شعبنا الحبيب.
ذرة إنسانية يا ناس
لامني بعض السادة القراء على موقفي من الامتناع عن نشر شكاواهم، وهم أحرار في لومهم هذا، ولكني سأقص عليهم قصة آخر شكوى نشرتها في هذا الباب؛ فمع تأكيدي وإصراري على أنها الأخيرة فقد أصر السيد صبري غالي سلامة صاحبها على الحضور إلى الجريدة لشكري أولا وثانيا لتسليمي شكوى أخرى، طويلة جدا، مفادها أنه خائف أن تقوم إدارة المهمات التي يعمل بها بالتنكيل به لأنه جرؤ واشتكى. وما كاد يمضي أسبوع حتى كان قد أرسل لي شكوى أخرى مفادها أنه للآن لم يتم في موضوعه شيء؛ وكانت الشكوى هذه المرة من سبع صفحات، وأرفق بها طلبا تقدم به إلى رئيسه يطلب إحالته إلى جهة لا أذكرها الآن لعلاجه. وما كادت تمضي بضعة أيام حتى وجدت المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب يدق لي تليفونا ويطلب مني الحضور لاستلام خطاب مسجل، وذهبت وإذا بالخطاب من تسع صفحات وإذا به من السيد صبري غالي سلامة وإذا به شكوى أخرى مرفق بها طلب آخر يتقدم سيادته إلى وزير المالية ويرجو استبدال جزء من معاشه ليتمكن من علاج نفسه، ويوصيني أن أبذل «الوساطة» لدى وزير المالية أو الخزانة لاستعجال صرف النقود، وما كدت أعود إلى البيت حتى وجدت في انتظاري خطابا مسجلا آخر منه بنفس المعنى.
والسيد صبري غالي سلامة ليس إلا قارئا واحدا من عشرات الآلاف من القراء، وإذا كان سيادته يعتقد أنه بهذه المطاردة المعذبة سيحرك ضميري فإني آسف إذ أقول له ولغيره: إن ضميري لا يتحرك إطلاقا بالمطاردات، بل لا أعتقد أن أي ضمير ممكن أن يتحرك بهذه الوسيلة، إنه من باب أولى يتحجر! وبهذه الطريقة يغلق الباب أمام الكثيرين جدا ويحيل العمل الصالح إلى عمل طالح. أيها الناس الجالسون فوق المكاتب في إدارة المهمات وفي وزارة الخزانة، أنقذوا هذا الرجل من مرضه وأنقذوني منه. أرجوكم، أستحلفكم برحمة آبائكم ومعزة أولادكم أن يتحرك ضميركم أنتم ذلك الذي يملك التصرف والنقود، وينقذ هذا الرجل الذي جاوز الخمسين من مرضه، ألا توجد لديكم ذرة إنسانية واحدة؟!
سستر أكتورا
سستر أكتورا، أول الأمر، كنت كلما سمعت الاسم ينطق هكذا أعتقد أنها دكتورة وأنهم ينادونها بلقب الأخت الدكتورة، ولكني من اليوم الثالث أدركت الحقيقة وأنها ليست دكتورة، ولكنها راهبة كبقية الراهبات الموجودات بالمستشفى، بيضاء طويلة مثل معظمهن، زرقاء العينين دسمة الوجه خفيفة الحركة إلى أقصى درجة، تستيقظ في السادسة من صباح كل يوم ولا تنام قبل منتصف الليل، واسمها يتردد بين جنبات المستشفى وردهاته، سستر أكتورا، سستر أكتورا.
أنتظر حتى تأتي سستر أكتورا من الكنيسة، والكنيسة صغيرة محندقة ملحقة بالمستشفى تتراقص فيها أضواء الشموع، هزيلة حمراء ساحرة في النهار، تلمحهن يدخلنها بعد دقات جرسها المكون من أعمدة نحاسية مجوفة مختلفة الطول تصدر كلما طرقت بالمطرقة الخشبية نغمات موسيقية خافتة، ومن الممر تلمحهن نصف راكعات على الأرض يصلين للمسيح وللعذراء وللروح القدس، صلاة خافتة ساكنة في معظمها، تجعلك تحس أنت المسلم للمسيحية بطعم آخر ومعنى.
ها هي سستر أكتورا قادمة بعد انتهاء الصلاة، ها هن جميعا ينصرفن كل إلى عملها، إلى المطبخ والمخزن والمنسج والغرفة والعنبر، يعملن بدأب وصبر وابتسامة، وكأن العمل عبادة يقابلن فيه الله. هؤلاء الألمانيات اللاتي تركن بلدهن في الشمال، أقصى الشمال، وحضرن هنا، إلى القاهرة يعبدن الله في خدمة المرضى هكذا في صمت وتضحية وإيمان، والسؤال لا بد يلح عليك. ترى أية قوى جبارة استطاعت أن ترغم كلا منهن على ترك حياة الناس - وحياة الناس في بلادها كلية - وتترهب؟ نعتقد أن وراء كل منهن قصة، ولا بد وراء سستر أكتورا بالذات هذه المتفجرة صحة وشبابا، قصة، مهما حاولت معرفتها فلن تستطيع ولكنك حتى إذا فشلت لا بد ستحترم هذه القصة وتخر مقدرا ساجدا أمام التضحية؛ فلن يضحي الإنسان لا بعام من عمره ولكن بكل عمره، بكل صباه وشبابه ونضجه من أجل مبدأ أو فكرة أو عقيدة. بالضبط هذا هو الإنسان كما يجب أن يكون الإنسان، وكما هي كائنة سستر أكتورا، وأخوات أكتورا بأرديتهن السوداء البيضاء المهيبة، وبابتساماتهن الشاحبة، وصلاتهن الصامتة، ودأبهن الكادح الطويل، سستر أكتورا، أشكرك.
صديقي العائد
अज्ञात पृष्ठ