ورغم ما اعترانا من سخط، فلم نكن نستطيع أن نغادر أمكنتنا ونذهب إلى قهوة أخرى ذات راديو سليم البنية والصوت، مخافة أن تفوتنا اللحظة الحاسمة. كانت قوى أكبر منا ومن إرادتنا تسمر أقدامنا في الأرض وتسمر آذاننا على الميكروفون وتهيب بنا أن ننتظر ونترقب ونصمت ويسكت بعضنا بعضا حتى يحدث ذلك الحدث الذي أجبرنا على نبذ مشاغلنا و«مشاويرنا» والوقوف في انتظاره. وطالت الوقفة، وفرغت من تأمل كل من حولي من المترقبين، الجمع الواقف متنافر الزي متنافر السحنات. جرسون القهوة، كلما دوى صوت غير عادي في الراديو وقف في مكانه ثابتا ينصت رغم كل ما يحمله من طلبات، بائع الذرة المشوية الذي كف عن النداء على ذراه، العمال المنهكون في التهام سندويتشات الجبنة القديمة والطعمية بلا شتائم أو هزار، الجميع قد جذبهم جاذب خفي لعله الرابط الوحيد بينهم أيضا. أحاول أن أسمع وأتفرج وأتأمل ولا أستطيع أن أمنع آلاف الخواطر أن تدور في رأسي. أجل، ما أشد حاجتنا إلى ذلك الصوت المرتقب. فليحاول أي منا أن يتصور مستقبلنا وماذا يكون عليه لو لم يكن هناك سد عال يكهرب البلاد ويصنعها؟ إن حاضرنا مزدحم مختنق. امش في أي حارة وعد ما فيها من دكاكين وتصور كيف يتناحر عشرات بقاليها الصغار وجزاريها ومكوجيتها من أجل الحصول على اللقمة. وأكثر من هذا أجيال لا تعد ولا تحصى نشأت بعد الحرب وترعرعت وتعلمت وتخرجت بتعليم كامل وبنصف تعليم وربعه وبلا تعليم. سواعد الأبناء الذين كانوا بالأمس أطفالا اشتدت وامتلأت وأصبحت تطلب العمل، ولا عمل. إلى أين يذهب كل هؤلاء وكيف يأكلون وهم لا يعملون؟ وحتى من يعملون كأنهم لا يعملون، مأساة أبشع ما فيها أننا نحياها حقيقة ونعانيها، أزمة لا مخرج منها إلا بالمصانع، مصانع كثيرة لا بد أن تفتح أفواهها لتبتلع كل هذه السواعد.
آلاف الخواطر تدور برأسي، وآلاف الرؤى تتجاذبني وعيني لا تغادر الحشد الواقف معي يتابع الحدث الهائل الضخم الدائر في أسوان والراديو العيي ينقله إليه عبر الأثير، في كل وجه تعبير ظاهر أو خفي، وكل يد مشغولة بطعام تافه أو بعمل أتفه، وفي كل صدر أزمة؛ أزمة تخنق تعابير الوجه وتشل الأيدي وتكاد تشق الثياب وتنفجر. ظللنا واقفين نتسمع ونسخط فكل ما يدور في الراديو كلام، كلام كثير، مجرد كلام أحاله الجهاز القديم إلى جعجعة متشابهة متصلة لا تسمن ولا تغني من جوع. •••
وفجأة، هكذا فجأة دوى انفجار، انفجار طغى على الجعجعة المتصلة وأسكتها؛ انفجار واضح وصريح ولا خلاف عليه وقف له الجالسون في القهوة، وتطاول له الواقفون وأرهفوا الأسماع، بالضبط؛ إنه الانفجار الذي طال ترقبنا له، الانفجار الذي متنا وحيينا ونحن نعاني في سبيله ونصبر ونقاوم ونستشهد ونغفر ونصهين، الانفجار الذي تحملنا من أجله وقلنا: كله يهون. ها هو ذا حقيقة واقعة يهتز لها صندوق الراديو القديم وجدران المقهى المتداعي وتدق لوقعه طبول الآذان.
وثانية واحدة استغرقها السكون.
وفجأة أيضا دوى انفجار آخر؛ ضجة عظمى تصاعدت من داخل القهوة وخارجها والواقفين والجالسين. صيحات فرح هستيرية، وهتافات، وكلمات من وحي اللحظة لا معنى لها تطايرت، وألف مبروك ملأ أزيزها المكان.
وإذا كان الانفجار الأول قد تلاشى من الراديو بعد وقت وانتهى فالانفجار الثاني كان بداية انفجار. القهوة التي كان حديثها طاولة وكوتشينة ويا عم سيبك ونكات فاضيين، أصابتها حمى، أقفلت الطاولات، وفقدت الفرجة على الكومي والبصرة أهميتها، ونبتت على المناضد عشرات المصانع، وأصبحت رقاب الشيش مداخن، ودخانها ألذ، والحديث اليائس المتثائب عن الفلس أصبح حديثا جادا مصرا عن الشغل، وضرورة الشغل، لقمة العيش وحتمية اللقمة. الديناميت الذي فجر الأرض ليبنيها سدا في أسوان فجر الأزمات الرابضة في الصدور ليحيلها إلى معاقل أمل وإرادة. ليحيل الاستسلام إلى إقدام، والغد إلى واقع، واليوم الجاثم على الصدور إلى مضغة للغد؛ مضغة لا بد أن تستحيل إلى غد. وفي الإمكان تشكيلها بأيدينا.
انفجار عم الناس وكأن إنقاذهم كان لا يمكن أن يتم إلا بمعجزة، وكان السد هو المعجزة، وكأي معجزة كان مشكوكا في قيامها وحدوثها، ولا يعرف أحد على وجه الدقة ما حدث، ولكن الديناميت حين انفجر فزلزل الأرض وأرعد السماء، لكأنه صنع الظواهر الكونية التي تصاحب ظهور المعجزة، وقدم الدليل الملموس على إمكان تحقيقها.
تركت القهوة والانفجار لا يزال يكبر باسمه وبحياته. حياة ذلك الرجل الذي كظم آمالنا في صدره وظلت لا تهدأ حتى أملى وجودنا على التاريخ وأملاها، بالأمس أمم واقعنا بتأميم القناة واليوم ها هو ذا يؤمم أحلامنا ببناء السد.
لم يبق إلا أن يؤمم أمانينا.
فنانة جديدة
अज्ञात पृष्ठ