الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، المخول من شاء من عباده سوابغ الأنعام ، الذي هدانا لدينه ، وأوضح سواء السبيل ، بما نصب من أدلته الباهرة ، وحجته القاهرة ، { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42) } [الأنفال] .
ثم أرسل إلينا خير مولود ، وأكرم مبعوث ، رحمة للعالمين ، [وهدى] للمتقين ، { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70) } [يس] ، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين .
وإني لما رأيت غثاء الملحدة ورعاعها ، مجتهدة لإدخال الشبه في معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسنا ، وعلى من قادته يد الشقاء ، وسلكت به خبط العشواء ، من جهال العوام وأوباشها ، فهم عن الحق اليقين معرضون ، وعن الصراط السوي ناكبون . قد استهواهم الشيطان ، واستزلهم الطغيان { نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (19) } [الحشر] . يظنون بجهلهم وعماهم أنهم قد فطنوا لما جهله العلماء ، واستدركوا ما فات أهل الدين ، وتنبهوا عما غبي عنه فضلاء المسلمين .
पृष्ठ 51
كلا ، بل هم صم عن الحق لا يسمعون ، وبكم عند المحاج لا ينطقون ، وعمي عن الرشاد لا يبصرون ، { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) } [المطففين] .
[الباطنية]
فإن أرذلهم طبقة ، وأخسهم (¬1) طريقة ، وأقلهم شبهة ، وأعتاهم على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعداهم للمسلمين ، وأحرصهم على التحيل لإطفاء نور الله المبين ، { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) } [التوبة] ، من ينتسب منهم إلى الباطن ، ويوهم أن وراء ما في أيدي المسلمين من حجج العقول والكتاب والسنة حقيقة عرفوها وحصلوها ، وأنها ممنوعة أو مستورة إلا عمن بذل لهم العهود والمواثيق ، فإذا كشفتها وجدت مخازي ، تلوح عن صفحاتها أثر الاستهزاء بمن يأخذ عنهم ويلوذ بهم ، يعدونهم حمرا مستنفرة . قد زينوا عندهم ارتكاب الفواحش ، وأباحوا لهم قطوف المظالم ، وأحلوا لهم شرب الخمور ، وترك الصلوات ، ومنع الزكوات ، { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77) } [المائدة] .
ينفون الصانع ، وينكرون النبوات أجمع ، ويجحدون الشرائع . فيقولون: لايقال في الله تعالى: موجود ، ولا لا موجود .
पृष्ठ 52
لايعلمون لجهلهم ، وفرط غباوتهم ، أن نفي النفي يقتضي الإثبات عند أهل اللسان .
ألا ترى أنهم إن أرادوا أن يحققوا الإثبات قالوا: (( لا غير )) ، فيقولون: (( هو الرأي لا غير ، وهو زيد لاغير )) . فيجمعون بين النفيين لتحقيق الإثبات .
فإذا قالوا: موجود . فقد حققوا أنه موجود .
وإذا قالوا: لا موجود . فقد نفوا ما أثبتوا ، ونقضوا ما قالوا ، وليس ذلك مما يخفى .
لكن غرضهم في ذلك: هو التوصل الى التعطيل ، ونفي الصانع .
ويقولون: (( إن النبي محمدا صلى الله عليه إنما كان له التأييد ، دون ما سواه من الوحي والإرسال ، ونزول جبريل عليه السلام )) ، ويشيرون بالتأييد الى المزية التي تحصل لكل من تقدم في صناعة وبرع فيها ، من شاعر ، أو طبيب ، أو فقيه ، أومتكلم ، أومنجم .
ويسمون الشرائع: نواميس . ويتوصلون إلى جحدها وإبطالها ، بإدعاء: أن لكل شيء منها باطنا ، إذا عرف سقط وجوب العمل به .
وينكرون البعث والنشور ، ويقولون: معنى القيامة ، هو قيام محمد (¬1) بن إسماعيل بن جعفر وخروجه .
पृष्ठ 53
ولولا أنه ليس غرضنا في كتابنا هذا وصف أقوالهم ، ونشر فضائحهم ، وبسط مقابحهم ، من فساد عقائدهم ، ومساوئ دفائنهم ، مما بينه شيوخنا - رحمهم الله - من الأشراف والعلماء في كتبهم المصنفة . في هتك أستارهم ، وإذاعة أسرارهم ، نحو أبي زيد عيسى بن محمد العلوي الحسيني ، وأبي جعفر بن قنة الرازي ، وأبي عبد الله بن درام الكوفي ، وأبي أحمد بن عبدك الجرجاني ، وغيرهم - رحمة الله عليهم - .
ثم ذكرت ما في رسالتهم الموسومة ب (( البلاغ السابع )) وربما سموها: (( البلاغ الأكبر ، والناموس الأعظم )) ، لكني أحيل من أراد الوقوف على باطنهم وسرائرهم على هذه الكتب ، فإنها مشهورة معروفة ، معروضة لمن أرادها .
وأرجع إلى الغرض الذي قصدته: وهو أني رأيت أن أضع كتابا في الإبانة عن معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات ، والدلائل الواضحات ، التي لا يذهب عنها من نصح نفسه ، ولم يتلعب بدينه ، مستعينا بالله تعالى ، ومستهديا له ، وراغبا إليه تبارك وتعالى ، أن يعظم النفع لنا به ، والمثوبة عليه ، وأن يجعل سعيي فيه ، وكدحي له ، خالصا لوجهه .
هذا ، ولست أطمع أن أزيد على ما قاله السلف - رحمهم الله - في هذا الباب . وإنما أوجز من كلامهم - رحمة الله عليهم - ما جعله البسط متباعد الأطراف ، وأبسط ما جعله الإيجاز خفي الأغراض .
पृष्ठ 54
وأنتم - رحمكم الله - إذا تأملتم أحوال الفترات التي كانت بين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، ازددتم معرفة بحسن تدبير الله تعالى لخلقه في ابتعاث الرسل ، وتجديد ما درس أو كاد يدرس من الشرائع والملل ، وأنه جل وعز ابتعث حين علم الصلاح في الابتعاث ، ومد الفترة حين علم اقتران المصلحة بها ، لأن الفترة - على ما يقوله بعض أهل التواريخ ، على اختلاف بينهم فيه ، والله أعلم بتحقيق ذلك - كانت بين آدم ونوح صلى الله عليهما سبع مائة عام (¬1) .
पृष्ठ 55
وإنما كان كذلك - والله أعلم - وإنما نقول على مقدار ما يلوح لنا ، ويبلغه مقدار أفهامنا: إن آدم عليه السلام أهبط إلى الأرض - وهو أبو البشر وأول الإنس - ولم يكن في زمانه شيء من الكفر ، ولا عبادة الأصنام ، ولم يكن غيره وغير زوجته حواء وأولادهما عليهم السلام ، وكانوا يعرفون حاله ، فلم يكن في أمره شك عندهم ، بوضوح أمره ، وظهور ديانته ، وقلة من بعث إليهم ، فامتد زمان الفترة . وكان بينهما صلى الله عليهما مع ذلك: شيث وإدريس عليهما السلام ، فاستحدث الناس الكفر ، وعبادة الأصنام ، واتخذوا ودا ، وسواعا ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا (¬1) .
فابتعث الله سبحانه نوحا صلى الله عليه يدعوهم إلى التوحيد ، وخلع الأصنام والأنداد ، ولبث فيهم كما قال تعالى: { ألف سنة إلا خمسين عاما } [العنكبوت: 14] . فغرقهم الله تعالى بالطوفان حين علم أنهم لا يصلحون . ونجا نوحا صلى الله عليه ومن معه .
ثم كانت الفترة بين نوح وإبراهيم صلى الله عليهما على ما يقوله المؤرخون نحو سبعمائة عام (¬2) . وإنما كانت هذه المدة نحو تلك ، لأن الغرق أعاد حال نوح إلى نحو حال آدم صلى الله عليهما وظهور أمره ، وابتداء البشر منهم . مع أنه لم يكن بقي من الكفار أحد ، إلا أن الناس كانوا قد عرفوا عبادة الأصنام ، واتخاذ الأنداد من دون الله عز وجل ، فأسرعوا بعده في الكفر ، وعبادة الأصنام .
وكان الله تعالى قد بعث هودا إلى عاد لما ازداد تمردهم ، وصالحا صلى الله عليهما بعثه إلى ثمود .
ثم لما ازداد الكفر ظهورا وانتشارا ، ابتعث الله عز وجل إبراهيم صلى الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى ، وكسر أصنامهم ، ونبههم على خطأ أفعالهم ، وجدد لهم الذكرى ، وأنزل الله عز وجل عليه الصحف .
पृष्ठ 56
وبعث لوطا صلى الله عليه إلى قوم مخصوصين ، حين ازداد عتوهم، واستحدثوا من الفاحشة ما لم يكن قبلهم .
ثم كانت الفترة بينه وبين موسى صلى الله عليهما نحو أربعمائة سنة (¬1) ، وإنما كانت كذلك - والله أعلم - لأن إبراهيم صلى الله عليه مضى والكفر باق بينهم وظاهر ، ولم يكثر أتباعه الكثرة الظاهرة على ما بلغنا .
وبعث الله تعالى بعده: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وشعيبا صلوات الله عليهم قبل مبعث موسى صلى لله عليه .
وقيل: إن أيوب صلى الله عليه كان قد بعث قبل موسى .
पृष्ठ 57
فتغيرت أحوال بني إسرائيل ، وقل قبول الناس للحق وظهر الكفر ، وبلغ مبلغا لم يكن بلغ من قبل ، لأن فرعون اللعين ادعا الربوبية ، { فقال أنا ربكم الأعلى (24) } [النازعات] . واستعبد بني إسرائيل ، فعظم الأمر وازداد الكفر ، واتسع الخرق ، ونسي الحق . فلذلك قصرت مدة هذه الفترة ، حتى بعث موسى صلى الله عليه مع تلك الآيات العظام ، كالعصا ، واليد البيضاء ، ومجاوزة بني إسرائيل البحر بعد أن انفلق البحر ، { فكان كل فرق كالطود العظيم (63) } [الشعراء] . وتغريق فرعون اللعين ومن تبعه ، إلى غير ذلك من الحجر الذي انفجرت منه العيون ، وما كان ظهر قبل ذلك من الجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وغير ذلك مما يطول ذكره .
وأنزل عليه التوراة ، وببن فيها أحكام الحلال والحرام ، وظهر أمره صلى الله عليه أتم الظهور . وإنما كانت أعلام موسى صلى الله عليه أكثر ، وآياته أظهر ، لأن بني إسرائيل كانوا - والله أعلم - أجهل الأمم ، وأغلظهم وأبعدهم عن الصواب ، وأبلدهم عن استدراك الحق . ألا ترى أنهم بعدما جاوز الله تعالى بهم البحر ، وغرق آل فرعون وهم ينظرون ، قالوا لموسى - حين مروا على قوم عاكفين على أصنام لهم -: { يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [الأعراف: 138] . واتخذوا العجل وعبدوه ، وظنوا أنه إلههم وإله موسى ، وأنه نسي .
فبحسب هذه الأحوال اقتضت الحكمة إيضاح الآيات والأعلام ، وتكثيرها لهم .
ثم بعث يشوع ويونس .
ثم بعث داود صلوات الله عليهم ، وأنزل عليه الزبور .
وبعث سليمان صلى الله عليه وآتاه الملك ، مع تلك الآيات العظيمة .
ثم بعث بعدهم زكريا ويحيى صلى الله عليهما .
पृष्ठ 58
فكانت الفترة بين موسى وعيسى صلى الله عليهما نحو ألفي سنة (¬1) ، لعظم آيات موسى ، وعظم الكتاب الذي أنزل معه ، ولما بعث بينهما من الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، وهذه المدة أطول المدد التي كانت بين من ذكرنا عليهم السلام .
ثم لما تزايد الكفر ، وتغيرت أحوال بني إسرائيل ، وشاع الإلحاد بالفلاسفة ، بعث الله تعالى عيسى صلى الله عليه وبقي فيهم ما بقي . وقد أكرمه الله تعالى ورفعه إليه ، ثم كانت الفترة بينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله نحو ستمائة عام (¬2) .
فكانت هذه المدة أوسط المدد . وذلك - والله أعلم - لأن حجج الله تعالى كثرت فيها ، لبقاء التوراة والزبور ، ونزول الانجيل . ومع ذلك كثر الضلال ، وقيل في المسيح صلى الله عليه قولان عظيمان:
أحدهما: ما قالت اليهود (¬3) .
والثاني: ما قالته النصارى (¬4) .
पृष्ठ 59
ثم ابتعث الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وختم به الرسالة ، ونحن من مبعثه على نحو من أربع مائة عام (¬1) ، فدل ذلك على قرب الساعة ، وأزف القيامة ، وتحقيق ذلك قول الله تعالى: { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) } [الأنبياء] . وقوله: { اقتربت الساعة وانشق القمر (1) } [القمر] . وقول النبي صلى الله عليه: (( بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه )) (¬2) .
فانظروا - رحمكم الله - في حسن نظر الله عز وجل لعباده ، بما ذكرناه ، واعتبروا به ، واستعدوا للدوام والبقاء . فلها خلقتم ، فكأن الواقعة قد وقعت ، والحآقة قد حقت ، { فريق في الجنة وفريق في السعير (7) } [الشورى] . ولا يصدنكم عنها الشيطان ، وأتباع الشيطان ، كما قال تعالى: { إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى (16) } [طه] . وفقنا الله وإياكم لطاعته ، واتباع مرضاته .
पृष्ठ 60
وأقدم أمام الغرض فصلا أذكره من قبل علماء أهل البيت عليهم السلام ، وهو أن الله تعالى لما بعث موسى صلى الله عليه بعثه بالآيات التي بهرت ، ما كان هي ولوع الناس به في ذلك الزمان من السحر والتمويهات ، وأتاهم من العصا واليد البيضاء ، وفلق البحر ، ونحو ذلك ، مما لا تبقى معه شبهة في أن ذلك ليس من السحر في شيء ، إذ كان أولئك به أعرف ، وبالفصل بين السحر وبين ما ليس بسحر أعلم. لعلمهم بمبلغ قوة السحر ، وغاية أمره .
ولما بعث الله سبحانه المسيح صلى الله عليه ، آتاه من الآيات التي بهرت ما كان ولوع الناس به في ذلك الزمان من الطب ، فأيده سبحانه بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، لئلا تبقى شبهة لأحد منهم ، لأنهم كانوا أعرف الناس بمبلغ قوة صناعة الطب ، ومنتهى غايته . وما يكشف لهم من الأمر ما عساه كان لا ينكشف لغيرهم في تلك المدة اليسيرة (¬1) .
ولما بعث الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه في قوم هم الغاية في الفصاحة والبلاغة ، والنهاية في البيان والسلاقة . إذ حظ العرب من ذلك أوفر الحظوظ ، ولهم منه ما ليس لغيرهم من الأمم ، فأيده سبحانه بالقرءان ، وجعله معجزا له ، لأنهم يعرفون من حاله ، ما لا يعرف غيرهم ، ولأنهم إذا عجزوا عن معارضته ، لم تبق شبهة في أن غيرهم أعجز وأعجز . ومع ذلك لم يخله عز وجل من سائر المعجزات على ما نبينه من بعد . بل كثر ذلك ، وتواتر ، حتى لم يبق في أمره شبهة لمنصف . والحمد لله على نعمه السابغة ، ومنحه البالغة .
पृष्ठ 61
- - -
الباب الأول
البيان عن إعجاز القرآن
إن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن القرءان معجز؟
पृष्ठ 62
قيل له: الدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه ادعا النبوة ، وأتى بالقرءان ، وادعا أنه معجز قد أنبأه عز وجل به ، وجعله دلالة على صحة دعواه ، وبرهانا على صدقه ، وتحدى به العرب قاطبة ، وقرعهم بالمعجز عن الاتيان بمثله ، بل بسورة مثله . وفيهم الخطباء ، والشعراء ، والبلغاء ، وهم الغاية في البيان ، وأولو المعرفة بمواقع الكلام ، وأجناسه وأساليبه من المنثور والمنظوم ، ولهم العادة المشهورة في التفاخر بالبلاغة والفصاحة . والمعرفة بطرق المعارضات ، ومزايا المخاطبات ، مع ما كانوا عليه من الحمية والأنفة والعصبية ، ومع شدة حرصهم على تكذيبه ، وتوهين أمره ، وإبطال دعواه ، حتى بذلوا لذلك ما عز وهان من النفس فما دونها . وهو صلى الله عليه يتحداهم ، ويقرعهم بالعجز ، ويدعي أنه حجته وبينته ، ويذم مع ذلك أديانهم ، ويسب آلهتهم التي اتخذوها من دون الله عز وجل ، ويدعوهم إلى طاعته ، والتصرف على أمره ونهيه ، واستمر على ذلك زمانا (¬1) بعد زمان فلم يعارضوه ، وعدلوا إلى الحرب التي هي أشق ، فقاتلوا حتى قتلوا وقتلوا.
فدل ذلك على أن عدولهم عن معارضة القرءان لم يكن إلا لتعذره عليهم ، إذ لا يجوز على العقلاء إذا حاولوا أمرا أن يعدلوا لمحاولته من الأسهل إلى الأعضل ، ومن الأيسر إلى الأعسر ، إذا كانوا متمكنين منهما ، وإذا ثبت تعذرها عليهم ثبت أنها على غيرهم أشد تعذرا .
والمعجز هو الأمر الذي يتعذر مثله على جميع البشر ، فثبت أنه معجز على ما قلناه ، وهذه الدلالة مبنية على أن التحدي بالقرءان قد وقع ، وأن المعارضة لم تقع ، وأن السبب الذي من أجله لم تقع هو التعذر ، وأن التعذر متى صح ، صح كونه معجزا .
ونحن نبين ذلك فصلا فصلا ، إن شاء الله سبحانه .
- - -
पृष्ठ 63
الكلام في أن التحدي قد وقع
إن قيل: إنكم بنيتم دلالتكم هذه على أن النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] تحدى العرب بالقرءان ، فدلوا عليه وبينوه ، ليستتب غرضكم ، ويتم ما ذكرتموه .
قيل له: قد ذهب كثير من العلماء ، ومجيدو العلم ، بأنه صلى الله عليه [وآله وسلم] تحدى به ضرورة ، كالعلم بأنه ادعا النبوة ، وأتى بالقرءان ، وإن كان العلم بهذين أجل من العلم بالتحدي .
قالوا: ولا يمتنع في العلمين وإن كانا ضروريين أن يكون أحدهما أجلى ، والآخر دونه في الجلاء . ونحن لا نذكر هذه الطريقة ، إلا أنا لا نقتصر عليها ، ونوضح الأمر فيه إيضاحا نرجو أن تزول معه الشبهة .
وإن الخبر إذا كان في الأصل قويا ، وموجبا للعلم لا يمتنع مع تطاول المدة ، وتراخي الزمان أن يعرض فيه بعض الضعف ، سيما عند من يقل نظره في الأخبار ، وسماعه لها . وقد كان الأمر في التحدي ظاهرا في الأعصار السالفة ، حتى لم يبلغنا عن مخالف الاسلام من ملحد أو متهود أو متنصر إنكاره ، حتى حدث بالآخرة قول بلغنا عن بعض الملحدة والمتهودة . وهو أنهم قالوا: لم يحصل لنا العلم بأن النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] تحدى به . ولظهور الأمر فيه حقق العلماء القول فيه.
पृष्ठ 64
فهذا الجاحظ مع بسطه الكلام في كتاب (( الفرق بين النبي والمتنبىء)) حقق القول في التحدي ، لأنه رأى أنه (¬1) يتعذر أن ينكره منكر . وهذا ابن الراوندي (¬2) لما صنف كتابه الموسوم ب (( العزيز )) ، واجتهد فيه وقعد ، وأورد الغث والسمين في الطعن على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه [وآله وسلم] ، وأنكر كثيرا من روايات المسلمين ، لم ينكر التحدي ، وإنما تكلم فيما تكلم مع تسليمه ، ولم ينكر ذلك إلا لوضوح الأمر فيه، وأنه استحيا لنفسه أن تبلغ صفاقة وجهه إلى إنكاره . ولهذا قال في الكتاب المسمى ب (( الزمرد )): (( وقد أطنب محمد - يعنى النبي صلى الله عليه وعلى آله - في الاحتجاج لنفسه بالقرءان، وبعجز الخلق عنه )) . ولم يقل ذلك إلا لشهرة الأمر فيه وبلوغه في الطعن .
पृष्ठ 65
ونعود إلى ما وعدنا به من الزيادة وإيضاح ذلك ، فنقول: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] لما أتى بالقرءان كان يقرأ على المسلم والكافر ، ولا يكتم أحدا ممن قرب منه ، أو بعد عنه . وفي القرءان تحد كثير ظاهر ، ففي ستة مواضع منه قد تحدى حتى لم يبق للشبهة فيه موضع ، وفي مواضع أخر نبه على أنه يتحداهم ودل عليه ، وإن لم يكن لفظ التحدي ظاهرا في تلك الآيات ، وهذا كثير يطول ذكره وإحصاؤه .
فأما المواضع الستة:
فأحدها: في السورة التي يذكر فيها البقرة ، وهو قوله: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24) } [البقرة] .
فانظروا - رحمكم الله - هل يجوز أن يكون في التحدي والتقريع قول أشفى من هذا ، وأوضح منه ، وأدعا لأعدائه إلى الاهتزاز للإتيان بمثله ؟! لولا تعذره بها ، لأنه تعالى قال: قل { فأتوا بسورة من مثله } ، وهذا كاف في التحدي . ثم قال: { وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) } في إنكاركم أنه من عند الله ، وهذا أيضا تحد ثان . ثم قال: { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } تحد ثالث (¬1) ، مع أنه خبر عن المستقبل . ومثله لا يجوز أن يقع من العاقل إذ لا يأمن أن يفعلوا ذلك فيظهر كذبه ، فدل ذلك على أنه كان من عند علام الغيوب .
पृष्ठ 66
والموضع الثاني: في السورة التي يذكر فيها يونس صلى الله عليه ، وهو قوله عز وجل: { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (37) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) } [يونس] . فإن قوله: { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } ، تحد بهذا وأنه لا يأتي به أحد إلا من عند الله ، وفيه أيضا مع أنه تحد خبر لا يقع مثله إلا من عند علام الغيوب .
وقوله: قل { فأتوا بسورة من مثله } تحد ثان ظاهر ، لا مرية فيه ، وكذلك قوله : { وادعوا شهداءكم من دون الله } تحد ثالث .
पृष्ठ 67
والثالث: في السورة التي يذكر فيها هودا صلى الله عليه ، وهو قوله عزوجل: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14) } [هود] ، فكان قوله عزوجل: { قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } تحديا ظاهرا ، وتقريعا بالغا ، أنه عزوجل فسح لهم في المعارضة ، وإن كانت الأقاصيص التي يوردونها قد اقتربت (¬1) ، لأنهم كانوا يحتجون عليه صلى الله عليه [وآله وسلم] بأنه كان يعرف من أخبار الأمم وأيامها وأقاصيصها ما لا يعرفون ، فأدحض الله تعالى حجتهم ، وكذب قولهم . وفضحهم بقوله: { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } ، ودل ذلك على أن الاعجاز تعلق بنظمه . وإن كان أيضا متعلقا بمعانيه .
وقوله: { وادعوا من استطعتم من دون الله } تحد ثان . لأنه إخبار عن أن أحدا من دون الله لايأتي بمثله .
قال: { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } ، وكان هذا تحديا ثالثا ، لأن جعل حجته في أنه أنزل بعلم الله: تركهم الإستجابة إلى الاتيان بعشر (¬1) سور مثله . فهل يكون في التحدي أبلغ من هذا ؟!
وقوله عز وجل: { فهل أنتم مسلمون (14) } ، أيضا يتضمن معنى التحدي ، لأنه دعاهم إلى الاسلام لظهور عجزهم .
पृष्ठ 68
والموضع الرابع: في السورة التي يذكر فيها بني إسرائيل ، وهو قوله: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88) } [الإسراء] . فانظروا - رحمكم الله - فهل يكون في التحدي شيء أبلغ منه ؟! وإخباره عز وجل: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } ، دليل على أنه خبر من عند علام الغيوب ، لأن الانسان لا يعلم ما يكون بعده ، والعاقل لا يرضى لنفسه أن يخبر خبرا ، لا يأمن أن يقع غيره على خلاف ما أخبر ، فيظهر كذبه عند أوليائه وأعدائه ، سيما إذا كان أمره مبنيا على الصدق ، وبأن أعظم ما يرميه به أعداؤه أنه كاذب في دعواه . فوضح لما بيناه أنه صدر عن العالم بما كان وبما يكون ، وهو الله رب العالمين . وهذا مما يمكن أن يعد دلالة برأسها ، وسنذكرها وما يوضحها من بعد ، بعون الله تعالى .
والموضع الخامس: في السورة التي يذكر فيها القصص ، وهو قوله تعالى: { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (49) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50) } [القصص] .
كان قوله عز وجل: { قل فأتوا بكتاب من عند الله } تحديا ظاهرا . وقوله: { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } تحد ثان ، لأنه قرعهم بترك الاستجابة إلى ذلك ، ودل بذلك على أنهم يتبعون أهواءهم . وقوله: { ومن أضل ممن اتبع هواه } تحديا ثالثا ، لأنه ذمهم ونسبهم إلى الضلال ، لاتباعهم الهوى الذي جعل تركهم الاستجابة إلى الاتيان به علما عليه .
وقوله: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50) } ، في هذا الموضع أيضا فيه معنى التحدي ، لأنه أخبر أن الله لا يهديهم .
पृष्ठ 69
والموضع السادس: في الطور حيث يقول: { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34) } [الطور] ، وكان هذا تحديا ظاهرا .
فأما المواضع التي تتضمن معنى التحدي ولو لم يكن اللفظ لفظ التحدي فكثير ، كقوله تعالى: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [العنكبوت: 51] .
وقوله: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1) } [هود] .
وقوله: { الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } [إبراهيم: 1] .
وقوله: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } [الرعد: 31] .
وقوله: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } [الحشر: 21] .
وقوله بعد آية التحدي: { أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42) } [يونس] .
وقوله: { أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون (43) } [يونس] ، لأن ذلك يحرك الطبع ، ويقوى الداعي إلى التحكك والمعارضة ، ونظائرها كثير .
पृष्ठ 70