इस्तिश्राक
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
शैलियों
20
غير أنه لم ينتبه إلى النتيجة الحتمية التي ينبغي أن تستخلص من تعداد نقاط الالتقاء هذه، وهي أنه إذا صح ذلك لما كان المستشرقون قد نسبوا إلى العالم الإسلامي سمات لا تنتمي إليه، كما أنهم لم يخترعوا شيئا أو يفرضوا تصوراتهم الخاصة على الإسلام، ولم يجمدوه من أجل السيطرة عليه ... إلخ؛ فهم يكشفون عن صفات موجودة بالفعل عند دعاة «الأصالة الإسلامية»، أي أشد الجماعات تمسكا بأصول الإسلام. ولا عبرة في هذه الحالة باختلاف الدوافع والأهداف بين المستشرقين وبين الأصوليين. ولا عبرة أيضا برفض المثقف العربي المستنير ، أو المتشبع بالثقافة الحديثة، أن يحصر الإسلام في نطاق هذا «الجوهر» الذي يراد له أن يتحكم في كافة جوانب حياة المسلمين المعاصرين، فهذه قضية أخرى. وإنما القضية الأساسية هي أن فكرة وجود جوهر ثابت للإسلام ينبغي أن يحكم كافة جوانب حياة الفرد المسلم، هي فكرة واسعة الانتشار بين المسلمين المعاصرين، يجدون فيها موضع فخر لهم ولعقيدتهم، حتى ولو كانت في نظر بعض المثقفين تعبيرا عن أمر واقع مرفوض.
ومن هنا فإن موقف «العظم» من هذا الموضوع كان أفضل من موقف «العظمة»؛ لأن الأول يلاحظ عن حق ذلك التشابه الواضح بين نظرة المستشرقين إلى الإسلام بوصفه كيانا فكريا وعقيديا ثابتا ينظم كافة جوانب حياة المسلمين، وبين نظرة الجماعات المعاصرة التي يطلق عليها اسم «الإسلامانية». والتي ترى العقيدة الإسلامية كيانا شاملا متفردا لا يفهم إلا بذاته. وإذا كان المستشرقون قد وجدوا في هذه الصفة سببا يدفعهم إلى الإقلال من قدر الإسلام، فإن «الإسلامانيين» قد وجدوا فيها موضوعا للفخر بعقيدتهم والتمجيد الذاتي لتراثهم.
21
ومع اتفاقي مع «العظم» في اتجاهه العام، فإني أختلف معه في نقطتين تفصيليتين: الأولى: هي أنه يسجل هذا الالتقاء بين وجهتي نظر الاستشراق و«الإسلامانية» المعاصرة على أنه مجرد «تشابه» بين موقفين يتطرف كل منهما في ناحية، وإن كانا يلتقيان واقعيا في الأسس التي يرتكزان عليها. وفي رأيي أن العلاقة بين الموقفين علاقة «سببية» أكثر منها مجرد تشابه. وأعني بذلك أن وجود هذه السمة في الفكر الإسلامي الأصولي هو الذي جعل المستشرقين يؤكدونها في كتاباتهم، بغض النظر عن الحكم التقويمي الذي يصدره بعضهم عليها بوصفها مظهرا من مظاهر التخلف. فهم لم يؤكدوا هذه السمة لمجرد إثبات انحطاط الإسلام وتفوق الغرب عليه، بل لأن المسلمين ذاتهم ينظرون إلى أنفسهم على هذا النحو، ولا يمنع ذلك بالطبع من أن يكون هناك مستشرقون أفرطوا في تعميم هذه السمة إلى حد تجاهل كل حركة مغايرة لها، أو وجهوا النصح إلى المسلمين، بطريقة مغرضة، كيما يحافظوا عليها لأنها هي التي تخدم مصالح بلادهم آخر الأمر . أما نقطة الاختلاف الثانية فهي أنه لا يكفي أن ننظر إلى وجود هذه السمة في التيارات الإسلامية المعاصرة على أنه «استشراق معكوس»، كما فعل العظم (ويقصد به التقاء هذه التيارات الحالية مع الاستشراق في تأكيد وجود طبيعة ثابتة غير قابلة للتغيير في الإسلام، مع التفاخر بهذه الصفة بدلا من التنديد بها كما يفعل المستشرقون). ذلك لأن هذه السمة لها جذور قديمة العهد، ظلت تتردد طوال التاريخ الإسلامي، قديمه وحديثه، وحسبنا أن نذكر هنا أسماء ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والمهدي والأفغاني ... إلخ؛ فهي تمثل ظاهرة أقدم بكثير من الاستشراق، وليست على الإطلاق الوجه الآخر لعملية الاستشراق، كما قد يوحي تعبير «الاستشراق المعكوس». وحقيقة الأمر أن الاستشراق في تأكيده لهذا الجوهر الثابت للإسلام، هو الذي يعكس واقعا فكريا اتسم به العالم الإسلامي منذ عهد بعيد (لأسباب اجتماعية وتاريخية معقدة)، وأن الصورة الاستشراقية المشوهة ما هي إلا تعبير عن تشويه تاريخي حدث بالفعل في العالم الإسلامي. وهكذا فإن الجمود واللاتاريخية في الفكر الإسلامي ليس «استشراقا معكوسا»، وإنما تظل الصورة الاستشراقية انعكاسا (قد تكون له في بعض الأحيان دوافع مغرضة) لهذا الفكر المتحجر الذي يفخر بأنه خرج عن نطاق الزمن.
والآن، لننظر إلى المسألة من وجهها العكسي: إن الغرب متهم بأنه يكون عن الشرق صورة متحجرة، ويتجاهل التغييرات التي يموج بها واقعه الحسي (وهي تهمة يسهل تفسيرها في ضوء الصورة التي يكونها الشرق عن ذاته، والتي هي في كثير من الأحيان صورة متجمدة، وتفخر بأنها كذلك). ولكن، ما طبيعة الصورة التي يكونها الشرق عن الغرب؟ ألا توجد فيها أيضا عناصر هامة من ذلك التثبيت النمطي الذي يشوه الواقع؟
يكفينا هنا أن نختار أمثلة قليلة توصلنا إلى النتيجة المطلوبة؛ فتثبيت صورة الغرب واضح كل الوضوح لدى أصحاب الفكر الإسلامي المعاصر، إذ إن تفكيرهم في الاتجاهات الحالية للعالم الغربي إزاء المجتمعات الإسلامية ما زال ينصب في قالب المؤامرة الصليبية المسيحية التي تستهدف النيل من الإسلام. وهو يجمد الغرب في هذا القالب بحيث تغيب عن عينيه أهم مقولات الحياة المعاصرة: كالأحلاف العسكرية والتكتلات السياسية والمصالح الاقتصادية.
أما أصحاب الثقافة الحديثة في العالم العربي، فإنهم بدورهم يجمدون الغرب، ولكن على نحو آخر، يخلطون فيه بين غرب العلم والعقلانية والسيطرة على الطبيعة وكشف أسرارها، أعني غرب ديكارت ونيوتن ودارون وماركوني، وغرب الاستعمار والسيطرة على البشر واستعبادهم: غرب سيسل رودس وكتشنر ونابوليون وهتلر. صحيح أن الوجهين ليسا منفصلين تمام الانفصال، بدليل أن الوجه الأول أدى في جانب منه إلى الثاني؛ أعني أن المعرفة والسيطرة على الطبيعة هي التي أعطت الغرب ذلك التفوق المادي والعسكري الذي سيطر به، طوال عدة قرون، على العالم. ومع ذلك فإن التمييز بين هذين الوجهين يظل أساسيا، كما أن الارتباط الذي حدث بينهما ليس ارتباطا منطقيا أو ضروريا، وإنما هو ارتباط واقعي فحسب (بدليل إمكان استخدام العلم والتكنولوجيا في ظل علاقات عقلانية غير استغلالية).
ومع ذلك فإن المثقفين العلمانيين المعاصرين في العالم العربي يجمعون بين الوجهين بصورة متعمدة، ويضعون الإيجابي مع السلبي في زكيبة واحدة، وتصل بهم حماستهم لمحاربة الاستعمار والتحرر من الهيمنة الغربية إلى حد رفض مبدأ العقلانية ذاته، وكأنه حكر للغرب وحده، وليس نتاجا لتطور طويل أسهمت فيه كل حضارات الإنسانية قبل فترة الهيمنة الغربية بألوف السنين.
22
अज्ञात पृष्ठ