وهنا كان السيد عبد الرحمن وعلي خادمه قد بلغت دهشتهما أشدها فوقفا ينصتان ذاهلين، وبينما مضى عماد الدين في الكلام قائلا: «ولكنك لم تجد الأعزاء الذين ذهبت للقائهم، فرجعت إلى مصر متنكرا في زي طبيب مغربي، وكان رجوعك من طريق البحر.»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عواطفه بعد ذلك وانفجر باكيا، ثم هم بيدي عماد الدين يحاول تقبيلهما وهو يقول له: «كفى كفى يا سيدي، وما دمت مطلعا على حقيقة أمرنا فأتوسل إليك بحق من تحب أن ترثي لحالنا ولا تفضحنا.»
فبدا التأثر في وجه عماد الدين وقال له: «طب نفسا وقر عينا يا سيد عبد الرحمن، واعلم أن ابنك حسنا بمنزلة أخي، بل هو أعز كثيرا؛ لأني مدين له بحياتي.»
فصاح السيد عبد الرحمن قائلا: «ابني ... ابني حسن ... هل رأيته يا سيدي؟ بالله أخبرني أين هو؟» ثم رمى بنفسه عليه وأخذ يقبل كتفيه وهو يبكي وينتحب، وكذلك فعل علي خادمه، فبكى لبكائهما عماد الدين، ثم أخذ في مواساتهما والتخفيف عنهما، وروى لهما حكايته مع حسن من أولها إلى آخرها، فلما انتهى من ذلك قال له السيد عبد الرحمن: «ألا تظن أن حسنا بعد أن هرب من بيروت قد ذهب إلى عكا ليبحث عني فيها؟»
فقال: «هذا ما أرجحه، وعلى كل حال ثق بأني لن يهدأ لي بال حتى يجمع الله شملنا به سواء أكان في عكا أم في غيرها.»
وفيما هو في ذلك؛ إذ وصل إلى أسماعهم صوت الأبواق تدوي في المعسكر، ثم ما لبثوا أن سمعوا أصوات المدافع منطلقة من البر والبحر على المدينة، فخيل إليهم أن السماء ستنطبق على الأرض وخرجوا من الخيمة مهرولين؛ فإذا الجو قد امتلأ بالدخان والغبار، فأدركوا أن الأميرال قد نفذ ما توعد به من ضرب المدينة ضربته الأخيرة، فلم يسعهم إلا الرجوع إلى الخيمة والانتظار فيها حتى تنجلي المعركة ويروا ما يكون.
وفي صباح اليوم التالي وقف عماد الدين ومعه السيد عبد الرحمن وعلي خادمه أمام خيمتهم ينظرون إلى بيروت ويأسفون لما نالها من الهدم والتخريب.
وفيما هم كذلك شاهدوا هجانا قادما من الجهة الغربية قاصدا إلى المعسكر، فلما مر بخيمتهم عرف عماد الدين أنه من زملائه رجال الشيخ ضاهر فناداه، وما كاد الرجل يراه حتى بغت وترجل عن هجينه وراح يعانقه ويقبله قائلا: «أين كنت يا أخي؟ لقد أقلقتنا بطول غيابك.»
فقال عماد الدين: «إن حكايتي يطول شرحها، وسأقصها عليك في وقت آخر، فقل لي أنت فيم قدومك الآن؟»
فقال الرجل: «إن الجزار كتب إلى الأمير يوسف شهاب بأنه مستعد لتسليم المدينة على أن يؤذن له بالخروج منها بأصحابه وأمواله آمنا. فكتب الأمير إلى الشيخ ضاهر راجيا أن يتوسط لدى الأسطول الروسي كي يكف عن ضرب المدينة ويرفع عنها الحصار، فأجاب الشيخ ضاهر طلبه، ثم أرسلني برسالة إلى الأميرال؛ ليبعث معي بفرقة من الجنود لتسليم المدينة إلى الأمير يوسف.»
अज्ञात पृष्ठ