على أنه لم يجد بدا من مواصلة السير، وما زال يعدو تارة ويمشي الهوينى تارة حتى نال منه الجهد والإعياء، وسمع نباح الكلاب من بعيد، فخشي أن يتقدم نحوها فيكون هناك خطر عليه، وآثر المكث حيث هو حتى الصباح، فارتمى على الأرض، وحاول النوم فلم يستطعه لفرط خوفه وقلقه، وبقي كذلك حتى لاح ضوء الفجر فنهض واستأنف سيره حتى مر عند الظهر بمضارب لبعض الأعراب، فعرج عليها وحصل على حاجته من الماء والطعام، كما حصل على ثياب عربية استبدل بها ثيابه للتنكر، ثم مضى في طريقه حتى وجد أعرابيين يقودان جملين، وعلم منهما أنهما في طريقهما إلى الصالحية ليصحبا من هناك قافلة ذاهبة إلى سوريا، فانضم إليهما وهو يحمد الله على هذا التوفيق؛ لأنه كان يخشى السير منفردا، فضلا عن أنه لا يعرف الطريق.
وفي الصالحية، اشترى لنفسه جملا وما يحتاج إليه من الزاد خلال الرحلة، ثم انضم إلى القافلة، وقد اطمأن إلى النجاة. ولكن القافلة ما كادت تخرج من البلدة حتى دهمها جماعة من فرسان المماليك، فاستولوا على ما فيها من الجمال والأحمال بحجة أن علي بك يحتاج إليهما فيما هو قائم به من الجهاد. وعبثا حاول التجار أن يثنوا العساكر عن هذا الأمر؛ إذ هددهم هؤلاء بالقتل، واضطروهم إلى العودة إلى الصالحية؛ تمهيدا لإرسالهم إلى القاهرة. •••
كان هم حسن بعد أن رأى ما حل بالقافلة أن ينجو بنفسه؛ حتى لا يعود إلى القاهرة فينكشف أمره هناك، فانتهز فرصة اشتغال الفرسان المماليك بإحصاء السلع التي كان التجار في القافلة ذاهبين بها إلى الشام، وترك جمله بما عليه واختبأ وراء أكمة هناك حتى انتهى الفرسان من إحصاء تلك السلع، وساقوا القافلة عائدين بها إلى الصالحية. فلما ابتعدوا نهض من مخبئه ومشى في طريق الشام الذي كانت القافلة سائرة فيه.
وما زال يجد في سيره وليس معه سلاح ولا طعام ولا ماء حتى ولى النهار وبدأ الظلام ينشر جناحيه على الصحراء الممتدة أمامه، وكانت قواه قد خارت من فرط ما عاناه من الخوف والاضطراب مع العطش والجوع، فجلس على أكمة من الرمل ونظر إلى ما حوله فلم يجد سوى الرمال ينطبق عليها الأفق من جميع الجهات، فازداد قلقه وندم على مسيره وحده، وتذكر ما اضطره إلى ركوب هذا المركب الوعر، وما لحق بأسرته من الظلم والإهانة والتشريد والتعذيب، فأخذ يندب حظه مجهشا في البكاء.
ولما اشتد الظلام، ازداد شعوره بالخطر المحدق به، حتى نسي عطشه وجوعه، وخيل إليه أن ما حوله من السهول التي سادها الظلام والسكون قد امتلأت بوحوش كاسرة قادمة لافتراسه، فاقشعر بدنه وأخذته الرعدة وتسارعت دقات قلبه، وحاول النهوض فلم تقو ساقاه على حمله، فتمدد في مكانه، وأخذ يتلو ما تيسر من آيات القرآن ويبتهل إلى الله أن يقيه السوء، ويبعد عنه الهواجس.
وفيما هو كذلك، وصل إلى أذنه الملتصقة بالأرض صدى وقع أقدام مسرعة، فهب من مرقده مذعورا، وتلفت إلى مصدر الصوت ممعنا النظر على ضوء النجوم، فلاح له شبح قادم من بعيد، وما لبث الشبح أن اقترب منه فإذا هو هجين مسرع فوقه راكب لم يتبين هيئته، ثم لاح له بضعة أشباح أخرى مماثلة كأنها تطارد ذلك الهجان.
وما هي إلا لحظة حتى كان الجميع عند سفح الأكمة التي يجلس فوقها حسن، وتبين أن هؤلاء المطاردين يرتدون ملابس الأعراب، فأدرك أنهم من اللصوص قاطعي الطريق، ثم تحقق هذا؛ إذ سمع أحدهم يصيح بهم قائلا بعد أن لحقوا بالهجان الأول: «هيا لقد وقع الكلب فاقتلوه واستولوا على ما معه!» فانبطح على الأرض وعيناه تحملقان في اتجاه المعركة ليرى ما تنتهي إليه، وقلبه يخفق خوفا من أن يشعر بوجوده أحد اللصوص.
ولم يطل انتظاره؛ فإن الهجان الأول ما لبث أن سقط عن ظهر هجينه، فهم به مطاردوه واستولوا على سلاحه وملابسه ما عدا القميص والسروال، ثم تركوه ممددا على الأرض وساقوا هجينه أمامهم بما عليه من أمتعة وغيرها، وعادوا من حيث أتوا، وحسن يتابعهم بنظراته حتى ابتعدوا وابتلعهم الظلام. وهنا نهض من مخبئه وهو يحمد الله على نجاته، وهم بالابتعاد عن هذا المكان الذي قتل اللصوص فريستهم فيه، لكنه سمع أنينا صادرا من جهته، فعلم أنه ما زال فيه رمق من الحياة، وتحركت في نفسه عاطفة الشفقة ولاسيما بعد أن تصور أنه كان معرضا لمثل ذلك المصير، فزايله خوفه وسارع إلى المصاب المحتضر، لعله أن يخفف عنه آلام الاحتضار، أو يعلم من هم أهله فيعمل على إبلاغهم وصيته إن أراد أن يوصي إليهم بشيء.
ولما وصل إيه، وجده قد كف عن الأنين فظن أنه مات، ولم يتمالك عواطفه فبكى تأثرا بمصرع الرجل بعيدا عن أهله في ذلك القفر الموحش، ومال على جثمانه يفحصه ليتحقق موته قبل أن يواريه التراب كما قرر بينه وبين نفسه. وشد ما كان اغتباطه؛ إذ وجد أن الرجل ما زال حيا، لكنه مصاب بجرح في رأسه يسيل منه الدم، فسارع إلى إخراج منديله وأخذ يمسح ذلك الدم، ثم عصب له رأسه، وأخذ يحرك جسمه ويربت وجهه حتى أفاق من غشيته وتحرك وعاد إلى الأنين، فاستمر في تنبيهه ومواساته سائلا إياه عن موضع ألمه. وما زال كذلك حتى استطاع الرجل أن يتكلم وعلم منه أنه يشكو من الألم في ساقه، فقال له: «لا بأس عليك يا أخي، ولسوف تشفى عاجلا بإذن الله.»
ثم حل حسن عمامته، وبحث عن خشبة ليجبر له ساقه بها، فوجد في مكان المعركة عصا مكسورة، وسرعان ما أخذ منها ثلاث قطع جعلها حول ساقه المكسورة متوازية، ولف العمامة عليها لفا محكما، وكان قد تعلم صنعة التجبير في البيمارستان المنصوري، ثم أمسك بيد المصاب وأجلسه برفق مسندا رأسه إلى صدره، وراح يشجعه ويطمئنه على نفسه، والرجل يعجب لصنيعه ويتمتم بشكره وهو ما زال بين الغيبوبة والصحو .
अज्ञात पृष्ठ