وأمضيا ساعات وهما يتبادلان الحديث ويبكيان، ثم قال علي: «أرى أن نبقى في القاهرة متنكرين كما نحن الآن، وما دام كل منا لم يعرف الآخر أول الأمر، فلن يستطيع أحد من المماليك وأعوانهم كشف حقيقة أمرنا، وهذا هو المال الذي بعت به أرضك التي كانت في الريف، فتصرف فيه كما شئت.» قال هذا وأخرج من ثيابه صرة فيها ذلك المال ومد بها يده إلى سيده، فرفض هذا أخذها وقال: «ما حاجتي إلى المال يا علي؟ إنني لولا خوف الله لألقيت بنفسي في قاع النيل لألحق بحسن ووالدته.»
فقال علي: «معاذ الله يا سيدي أن يرتكب مثلك جريمة الانتحار، وإن قلبي ليحدثني بأن الله - جل شأنه - أكرم وأرحم من أن يجزيك بغير الخير على تقواك وبرك بعياله الفقراء وصبرك على عنت أولئك الحكام الظالمين. ومن يدري فلعل سيدي حسنا ووالدته ما زالا على قيد الحياة، فإننا لم نتحقق قتلهما بعد، فلنصبر ونواصل البحث، وإني خادمك المطيع لا يمكن أن أتركك لحظة حيثما تتوجه، سواء أبقيت هنا في القاهرة، أم آثرت الرحيل عنها إلى أي بلد آخر.»
فهم به السيد عبد الرحمن وقبله شاكرا له حسن وفائه وإخلاصه، ثم نهضا وانطلقا إلى المدينة فبلغاها وقد آذنت الشمس بالمغيب، وما زالا سائرين حتى بلغا الجامع الأزهر، فجلسا بالقرب من أحد أبوابه، وتبلغا بما تيسر من الطعام، ثم تدثر السيد عبد الرحمن بمرقعته وتوسد طبله، وتمدد علي بالقرب منه على الأرض، وما لبثا قليلا حتى راحا في النوم، ولم يستيقظا إلا على أذان الفجر تنطلق به أصوات المؤذنين من الجامع الأزهر والمساجد القريبة منه ملعلعة في الفضاء. •••
مضى السيد عبد الرحمن وعلي خادمه يتجولان في الشوارع المحيطة بالأزهر، وكانت الشمس قد أشرقت منذ ساعة، لكنهما وجدا الشوارع مقفرة من المارة، وجميع المتاجر والمنازل فيها مغلقة الأبواب، فقال السيد عبد الرحمن: «لا يمكن أن تقفر الشوارع من المارة وتغلق أبواب المتاجر والمنازل حتى هذه الساعة إلا لأمر خطير، وأكبر ظني أن الجنود خارجون من القلعة اليوم لسبب من الأسباب.»
وما أتم جملته حتى رأيا بعض الأهلين قادمين نحوهما مهرولين مذعورين، فلما وقعت أنظارهم على السيد عبد الرحمن وهو في زي الشيخ المجذوب صاحوا به قائلين: «ادع الله ينقذنا من هذا الكرب.» ثم مضوا في طريقهم لا يلوون على شيء، ووجهتهم الجامع الأزهر.
فتحقق أنهم ذاهبون إلى الجامع الأزهر للاحتماء فيه من جنود المماليك، ولم يجد من يسأله عن سبب خروج الجنود من القلعة، فقال لعلي: «يحسن أن نعود إلى الأزهر نحن أيضا، لنعلم ممن سبقونا إليه فيم خروج الجنود اليوم.»
فوافقه علي، وما كادا يدخلان الجامع حتى وجداه قد امتلأ بمئات من الناس أكثرهم من أصحاب الحرف والباعة والمكاريين ومعهم حميرهم، وعلما أن الجنود خارجون في حملة جديدة لفتح الشام.
وبعد قليل، أقبل جماعة من الجنود الإنكشاريين، فدخلوا الجامع الأزهر وأخذوا في ضرب اللاجئين إليه وسلبهم ما معهم من الأموال والأمتعة والسلع، ولم يتركوا دابة من دواب المكاريين إلا أخذوها، مدعين أنهم يحتاجون إليها في جهادهم. ولبثوا هناك ساعة يعتدون على أولئك المساكين الآمنين ثم انصرفوا، فأغلق اللاجئون أبواب الأزهر؛ مخافة أن يعودوا أو يجيء غيرهم من الجنود فينالهم على أيديهم اعتداء فظيع آخر. ولبثوا هناك خائفين مترقبين حتى غربت الشمس، وعلموا بأن الجنود غادروا القاهرة في حملتهم الجديدة، ففتحوا أبواب الجامع وخرجوا للاطمئنان على متاجرهم ومنازلهم وأهلهم، وبقي منهم في الجامع كثيرون أغلبهم من العلماء والطلاب ومشايخ الطرق. فقال السيد عبد الرحمن لخادمه: «لا داعي لخروجنا فلنبق ليلتنا هنا، وعند الصباح يفعل الله ما يشاء.»
فقال علي: «لقد نطقت الصواب يا سيدي.» ثم انتحيا ناحية في صحن الجامع، وجلسا يتحدثان حتى صليت العشاء، وجاء جماعة من الفقهاء والطلبة فالتفوا حول السيد عبد الرحمن وراحوا يشكون إليه ظلم المماليك للناس، ويسألونه أن يدعو الله أن يكشف الضر عن عباده ويأخذ الظالمين بذنوبهم، فكان يجيبهم بما يدخل الاطمئنان إلى قلوبهم، ويذكرهم بأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، ولكنه يؤخرهم ليوم يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر.
وفي الصباح هم السيد عبد الرحمن وخادمه بالخروج من الأزهر؛ فإذا بالسيد المحروقي يدخله في جماعة كبيرة من العلماء والأشراف، فتذكر السيد عبد الرحمن ما كان من أمر توسط صديقه الشريف الكبير لدى علي بك للإفراج عن ولده حسن، فلم يتمالك عواطفه وهطلت الدموع من عينيه فعاد إلى الجلوس في الأزهر، معتزما أن يقابل ذلك الصديق على حدة، وأن يكشف له عن حقيقة أمره، ويستشيره فيما ينبغي أن يصنع بعد أن استولى علي بك وجنوده على أمواله وأملاكه وقتلوا ولده وزوجته.
अज्ञात पृष्ठ