وبقي كذلك في القاهرة أسابيع، حتى أصبحت شخصيته الجديدة معروفة في جميع أحيائها، وأهلها كلهم يتيمنون بطلعته ويلتمسون بركته ودعواته، والسعيد منهم من يتاح له أن يقدم له طعاما فيتناول قليلا منه، أو يحظى بنومه بالقرب من منزله؛ إذ إنهم علموا بالتجربة أنه لا يقبل مالا من أحد، ولا ينام إلا في الطريق!
وكثيرا ما كانت قدماه تقودانه إلى شاطئ النيل في مصر العتيقة، فيجلس هناك بالقرب من مينائها الذي ترسو فيه المراكب التجارية كما هو الشأن في ميناء بولاق، فإذا رآه التجار المجتمعون هناك تفاءلوا بوجوده خيرا، وتسابقوا إلى خدمته التماسا لبركته، وفيهم كثيرون من زملائه في وكالة الليمون لكنهم كانوا لا يعرفونه؛ لتغير هيئته ولعلمهم بأن زميلهم قد غادر البلاد المصرية كلها فرارا من ظلم المماليك. أما هو فكان يعرفهم وتذكره رؤيتهم ما كان فيه من نعمة سابقة ومكانة تجارية مرموقة، فتتجدد أحزانه وتهيج أشجانه، ولا يعزيه إلا أن يسرح بصره في النيل الممتد أمامه متخيلا أن زوجته وولده لا يلبثان أن يخرجا إليه من أعماق النهر؛ حيث ألقى بهما الجنود، ويقضي الساعات الطوال مناجيا طيفيهما وهو يضحك تارة ويبكي تارة أخرى، ولا يزال كذلك حتى ينال منه التعب فيتمدد على الشاطئ متوسدا طبله محتضنا عصاه ويسلم عينيه للنوم؛ حيث يستأنف تلك المناجاة فيما يراوده من الأحلام!
وفيما هو هناك ذات يوم وقد أخذته سنة من النوم، إذا به يستيقظ على صوت رجل يناديه قائلا: «يا سيدي الشيخ. يا سيدي الشيخ.» فلما تطلع إلى الرجل الذي يناديه وجده مرتديا جلبابا مهلهلا، وعلى رأسه عمامة ملفوفة حول «لبده»، وعلى وجهه آثار الجهد والإعياء، فأدرك أنه من أهل الصعيد الذين يعملون في شحن البضائع ونقلها، وسأله عما يريد، فقال الرجل: «سألتك بالله يا سيدي أن تقرأ الفاتحة وتدعو الله أن يجمعني بمن فرق بيني وبينهم.»
فتأثر السيد عبد الرحمن بما بدا من اللهفة والأسى في لهجة الرجل، وتذكر أنه يشكو مثل شكاته، فجلس وأخذ في قراءة الفاتحة والدموع تنهمل من عينيه، فتشاءم الرجل وانتظر حتى فرغ من القراءة ثم سأله: «هل على الغائبين من بأس يا سيدي الشيخ؟»
وخيل إلى السيد عبد الرحمن أن صوت الرجل ليس جديدا عليه، فمسح دموعه بطرف مرقعته وتفرس في وجهه؛ فإذا هو علي خادمه الخاص، فعجب من ارتدائه ملابس أهل الصعيد، ومن تغير هيئته إلى حد كبير، وهم بأن يناديه باسمه، لكنه لم يتمالك عواطفه فانفجر باكيا.
وفهم علي أن بكاء الشيخ المجذوب دليل على أنه ألهم ألا أمل في عودة الغائبين الذين خاطبه في شأنهم، فلم يتمالك عن البكاء هو الآخر، وقال له: «لماذا تبكي يا سيدي الشيخ؟ إذا كنت قد تحققت ألا أمل في اجتماعي بمن فقدتهم فأخبرني.»
فأجابه وهو ما زال يبكي قائلا: «إن الموتى لا يعودون يا علي.» ثم نهض وهم به يعانقه وقد ازداد نشيجه وعلا نحيبه، ولما وجده ذاهلا لم يعرفه بعد أمسك بيده وأجلسه بجانبه، وقال: «ألم تعرفني بعد يا علي؟ إن حسنا ووالدته قد أغرقا هنا في هذا النيل.»
وهنا تحقق علي أن الشيخ المجذوب ليس سوى سيده عبد الرحمن نفسه، فارتمى عليه وأخذ في تقبيل يديه وكتفيه باكيا معولا وهو يقول: «سيدي عبد الرحمن ... سيدي عبد الرحمن.»
فطلب منه ألا يرفع صوته لئلا يفطن أحد إلى أمرهما، ثم نهضا وانطلقا إلى مكان منعزل بعد الميناء، وجلسا يتحادثان، فروى علي أنه سافر إلى الريف بأمر سيده حسن ووالدته؛ حيث باع الأرض التي كانت لسيده عبد الرحمن هناك، واستغرق ذلك أسابيع، وفيما هو في طريق عودته إلى القاهرة للسفر معهما إلى عكا طبقا لما تعاهدوا عليه، علم بأن المماليك اعتقلوهما واستولوا على المنزل وكل ما فيه، فتنكر في زي أهل الصعيد وجاء إلى القاهرة ليرى ما تم في أمرهما، وفيما هو خارج من الميناء بعد مغادرته السفينة التي جاء فيها، سمع التجار والملاحين يتحدثون عن شيخ مجذوب صاحب كرامات مشهورة، وعلم منهم أن هذا الشيخ موجود بالقرب من الميناء على شاطئ النيل، فوافاه هناك ليتبرك به ويسأله في أمر سيده حسن ووالدته، لعله يكشف له عما انتهى إليه أمرهما.
فأخبره السيد عبد الرحمن بما كان من أخذهما إلى مجلس علي بك في القلعة، ثم إغراقهما بأمره في النيل بعد الإهانة والتعذيب، ثم قال له: «والآن لم يعد يحلو لي العيش بعد أن فقدت أهلي ومالي، هذا إلى أني لا آمن إذا بقيت في القاهرة أن ينكشف أمري، ولو كنت أعلم الغيب لبقيت في حملة الحجاز، أو بقيت في عكا ولم أرجع إلى هذه البلاد التي عاث فيها المماليك الفساد، ولم يتقوا الله في العباد.»
अज्ञात पृष्ठ