فتكلف السيد عبد الرحمن الضحك ساخرا، وقال للخادم: «كيف يطردك؟ أهو الذي طرد من كانوا في المنزل من قبل؟»
فقال الخادم: «كلا يا سيدي، إن علي بك هو الذي طردهم، وجردهم من أملاكهم؛ لأن عميدهم خالف أمره وهرب من الحملة التي أرسله فيها إلى الحجاز.»
قال: «ألم تعلم أين ذهبوا بعد ذلك؟»
فتنهد الخادم أسفا وحزنا وقال: «لم يكن للرجل إلا ولد واحد، أخذوه وأغرقوه في النيل!»
فأجفل السيد عبد الرحمن وخارت قواه فجأة، فجلس متهالكا وقد سقط الطرطور عن رأسه، وانفجر باكيا، والخادم يعجب من أمره ولا يعلم أنه إنما يبكي ولده الوحيد، ثم اعتدل في جلسته متجلدا وسأل الخادم: «وماذا صنعت المسكينة أم ذلك الغلام؟»
فقال الخادم: «أمر علي بك بأخذها إلى قصره لتعمل فيه مع الجواري الخادمات، وأحسب أنها ما زالت هناك حتى الآن.»
فشعر السيد عبد الرحمن بأن الأرض تدور به، ولم يعد يقوى على الكلام، فتظاهر بأنه رضي المبيت في المنزل وطلب من الخادم ترك الطعام في الحجرة ليأكله متى شاء، فقبل الخادم يده وخرج.
وما خلا السيد عبد الرحمن إلى نفسه في الحجرة حتى أطلق لعينيه عنان البكاء، وأخذ يندب ولده وزوجته، وبقي كذلك وقد أغلق باب الحجرة من الداخل حتى سمع أذان الفجر، ففتح باب الحجرة وأيقظ الخادم النائم أمامه، وأخبره بأنه يريد الخروج للصلاة في المسجد، فأوصله حتى الباب الخارجي وفتحه له، ثم قبل يديه وودعه راجيا أن يتفضل بتشريف المنزل بزيارته من حين لآخر؛ لتحل بركته على من فيه، فوعده بذلك وانصرف لا يلوي على شيء.
وما زال سائرا ووجهته قصر علي بك، فبلغه وقد أشرقت الشمس وانعكست أشعتها على بركة الأزبكية، فبدا منظرها بديعا يجذب القلوب والأبصار، لكنه كان في شغل عن ذلك بما هو فيه من المصائب والنكبات. وما وقعت عليه أعين حرس القصر وخدمه حتى دعوه إليهم ملتمسين بركته ودعواته، وحاول بعضهم نفحه ببعض المال فرفض أخذه طبقا للخطة التي اتخذها لنفسه، فجاءوه بالطعام راجين منه أن يأكل منه إكراما لخاطرهم، فتناول قليلا منه، ثم أخذ يتردد إليهم أياما فيجد منهم الإكرام والاحترام، وهو يتلطف ويحتال لاستطلاع ما تم في أمر زوجته، حتى علم أخيرا بأن علي بك أمر بأن تلحق بولدها غرقا في النيل، وأن الجنود ساقوها من القصر إلى مصر العتيقة؛ حيث نفذوا ذلك الأمر، وكان هذا في مساء اليوم الذي أغرق فيه ولدها هناك! •••
ضاقت الدنيا كلها في وجه السيد عبد الرحمن، بعد أن فشلت آماله وتحقق مصرع ولده وزوجته، ففكر في الانتحار تخلصا من حياته الشقية المعذبة، لكن نفسه التقية لم تطاوعه على ارتكاب هذه المعصية، فسلم أمره لله، واعتزم أن يقضي ما بقي من عمره هائما على وجهه، وهو بملابس المجاذيب، يسد رمقه بما يجود به عليه الناس من الطعام كلما جاع، وينام في المكان الذي يتفق وجوده فيه حين يشعر بحاجة إلى النوم.
अज्ञात पृष्ठ