وتذكرت ما لقيته من لطف الست نفيسة وحنانها ولطف مواساتها، فخشيت أن تكون قد نالها سوء بسببها، وسألت الجواري في ذلك، فلما اطمأنت إلى نجاة السيدة الفاضلة من شر غضب زوجها، تنهدت تنهد الارتياح، وقالت للجواري وهن ينظرن إليها راثيات لحالها باكيات: «أشكركن يا أخواتي العزيزات على عواطفكن الرقيقة النبيلة، وكل ما أرجوه الآن أن تسرعن بي إلى النيل حيث ينتظرني ولدي العزيز، وأن تبلغن سيدتكن الكريمة أني لن أنسى فضلها ونبلها حتى ألقى الله، فأضرع إليه أن يجزل مكافأتها ويكتب لها السعادة في الدارين.»
وكان لكلامها أكبر الأثر في نفوس الجواري، فلم يستطعن إمساك دموعهن رثاء لحالها وإعجابا بوفائها الدال على طيب عنصرها، فعرجن بها إلى إحدى الغرف المخصصة لهن في القصر، وجئن إليها ببعض الطعام راجيات منها أن تتناوله، فاعتذرت من عدم استطاعتها إجابة طلبهن، وكررت لهن الشكر.
وأخيرا مضت إحداهن إلى قيم القصر، فأبلغته أمر علي بك بإلقاء سالمة في النيل، وروت له قصتها باختصار. فلما رأت التأثر باديا في وجهه، انتهزت هذه الفرصة، وتضرعت إليه أن يعمل على إنقاذ تلك المسكينة المظلومة، ولاسيما أن الست نفيسة تعطف عليها وترثي لما أصابها في ولدها وزوجها ومالها، ولا شك في أنها تسر بإنقاذها من ذلك المصير. فوعدها ببذل جهده في هذا السبيل، ثم نادى بعض الحرس ممن يثق بهم، واتفق معهم على التظاهر بأخذ سالمة من القصر لإلقائها في النيل خارج القاهرة، ثم إطلاق سراحها هناك والنصح لها بالفرار إلى الريف أو الاختفاء في أي مكان منعزل، وألا يشعروا بذلك أي إنسان.
فقالوا: «سمعا وطاعة.» ثم خرجوا بها من القصر، وهي لا تكاد تقوى على السير لفرط ضعفها وحزنها، ولا تعلم شيئا مما اتفق عليه قيم القصر مع أولئك الجنود.
ولما بلغوا مصر العتيقة، كان الليل قد سدل نقابه، ولكن سالمة أدركت أنهم يسيرون بحذاء النيل هناك، من انعكاس ضوء النجوم على صفحة الماء، فتذكرت ابنها ولم تملك عواطفها فانفجرت باكية، وكانت قد بقيت صامتة مطرقة طول الطريق، فحسب الجنود أنها تبكي خوفا من إغراقها تنفيذا لأمر علي بك، وهمس كبيرهم في أذنها قائلا: «لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، فإننا لن نمسك بأي سوء، وسنطلق سراحك عما قليل لتمضي إلى أي مكان شئت وتختفي فيه.»
فصاحت سالمة قائلة: «تطلقون سراحي؟ من قال لكم هذا؟ كلا يا سيدي، لست راغبة في الحياة، فهيا عجلوا بموتي ولكم الشكر!»
فبغت الجنود، وعجبوا لإيثارها الموت ورغبتها في التعجيل به بدلا من أن تطير فرحا بالنجاة، وعاد كبيرهم فقال لها: «لعلك لا تصدقين أننا سنطلق سراحك ولا نغرقك في النيل؟»
فقالت: «سواء عندي أكنتم صادقين أم ساخرين، وليس أحب إلي من أن أغرق الآن لألحق بولدي الذي أغرقتموه هنا قبلي ولم ترحموا شبابه، ولا اتقيتم الله في قتله ظلما وعدوانا بلا أي ذنب جناه!»
فأدرك الجنود أنها أم الفتى الذي سمعوا بأن علي بك أمر بإغراقه في الصباح، وازدادوا رأفة بها ورثاء لمصابها، ثم أخذوا في تعزيتها متنصلين من تبعة إغراق ابنها، وأكدوا لها أنهم سيطلقون سراحها ويعاونونها على الاختفاء تنفيذا لرغبة الست نفيسة، فلما سمعت ذلك صدقتهم وازدادت تقديرا لفضل السيدة البارة الكريمة الرحيمة، لكنها قالت لهم: «جزاها الله وجزاكم أحسن الجزاء، غير أني لا أريد الحياة بعد قتل ولدي وفقد أبيه، فأرجو منكم أن تقتلوني أيضا وتريحوني من العذاب الذي أنا فيه!» •••
ما زال الجنود سائرين بسالمة وهم يحاولون تعزيتها وإقناعها بالتزام الصبر والرضوخ لمشيئة القدر، حتى وقفوا بها أمام بناء هناك في مصر العتيقة، ثم مضى كبيرهم إلى باب صغير مصفح بالحديد، يوصل إليه من ممر منحدر، فطرقه طرقا عنيفا متواليا، أعقبه صوت ضعيف مرجف منبعث من الداخل يسأل: «من الطارق؟» ما كادوا يجيبونه بأنهم من الجنود حتى سارع إلى فتح الباب وفي يده مصباح زيتي خافت الضوء، فدخلوا وسالمة وراءهم، وهي تعجب من أمر ذلك المكان، وبابه الحديدي الضيق ذي المفتاح الخشبي الغليظ، وما زالوا سائرين في زقاق ضيق على جانبيه أزقة أخرى مثله، والبواب الشيخ العجوز يتقدمهم بمصباحه، حتى بلغوا بابا صغيرا آخر طرقوه ففتح لهم ودخلوا وهي معهم، ثم سمعت كبير الجنود يسأل البواب الجديد: «أين الرئيس؟ إننا نريد مقابلته في أمر خاص.» فمضى البواب وغاب قليلا ثم عاد ومعه رجل في مثل لباسه وسنه. وبعد أن تبادل الرجل مع كبير الجنود بضع كلمات لم تتبينها، ولكنها أدركت من إشارتهما إليها أنها خاصة بها، عاد الرجل من حيث أتى، ثم أقبل بعد حين ومعه سيدة استقبلتها مرحبة، ثم قادتها إلى حجرة صغيرة خالية إلا من فراش بسيط ومصباح زيتي صغير، وأشارت إليها أن تستريح فيها حتى الصباح. وبعد أن جاءتها ببعض الطعام وإناء به ماء، تركتها راجية لها نوما طيبا هانئا، وأغلقت باب الحجرة وانصرفت. فبقيت سالمة ساعة تتقاذفها الهواجس والأفكار، ولم تجد في نفسها قابلية لتناول الطعام رغم أنها لم تذق شيئا منذ وقت طويل، فاكتفت بجرعة من الماء، وتمددت بثيابها على الفراش الموضوع في الحجرة، فما لبثت قليلا حتى أخذها النعاس، ولم تستيقظ لفرط ما قاسته من الجهد والحزن وعديد المفاجآت إلا قرب ظهر اليوم التالي.
अज्ञात पृष्ठ