وكانت المياه تأتي البركة من النيل عبر منطقة المقس السالفة الذكر، وتزداد في أيام الفيضان، مارة بقنطرة يقال لها قنطرة الدكة ما زال مكانها معروفا حتى الآن، فتنعكس على تلك المياه أضواء القصور المشيدة حول البركة لسكنى الأمراء والأعيان، وتكسبها جمال رونق وحسن منظر وبهاء، ولاسيما في ليالي الصيف والخريف؛ إذ يطيب السهر والسمر في تلك القصور وتزداد أنوارها، فتنعكس في الإبداع.
ولما أفاقت سالمة من إغمائها، ووجدت نفسها بين عشرات من جواري الخدمة بالقصر، تذكرت ما نزل بها من الفواجع والنكبات فعادت إلى البكاء، متضرعة إلى الله أن يعجل بموتها كي تلحق بوحيدها الذي أخذوه ليغرقوه في النيل. وعبثا حاول الجواري تعزيتها وتوصيتها بالصبر في محنتها، فأمضت النهار دون أن تذوق شيئا من الطعام والشراب ولم تنقطع عن الندب والعويل، غير مبالية ما يتهددها بسبب ذلك من التعذيب والإمعان في التشفي والانتقام.
وكان لعلي بك في ذلك القصر زوجة رائعة الجمال اسمها نفيسة، وقد اشتهرت بكمال العقل وحسن الرأي، والبر والرحمة بالفقراء والضعفاء (وهي التي تزوجها مراد بك فيما بعد وبقيت حية إلى ما بعد الحملة الفرنسية، وأشارت الصحف الإفرنجية بمكانتها ومبراتها، ولاسيما حمايتها لكثير من الإفرنج وإيواؤهم في دارها خلال الاضطرابات).
فلما سمعت بقصة سالمة، أرسلت تدعوها إلى مقابلتها في إحدى حجراتها الخاصة بالقصر، وأحسنت استقبالها، ثم أشارت إليها بالجلوس على وسادة بجانبها، وقالت لها: «علمت أنك ممتنعة عن الأكل مستغرقة في الحزن، وأنت فيما أرى سيدة عاقلة مؤمنة، فكيف تلقي بنفسك إلى الهلاك بالاستسلام للحزن واليأس؟»
فبقيت سالمة ساكتة مطرقة والدموع تنحدر من عينيها، وأدركت نفيسة أن المسكينة لا تقوى على التجلد. فازدادت حنوا عليها ودنت منها ومرت بيدها على رأسها مترفقة، وقالت لها: «اصبري يا أختاه، فالصبر مفتاح الفرج، والله لا يضيع أجر الصابرين.»
فتنهدت سالمة تنهدا عميقا، ومسحت دموعها، وقالت: «من لي بالصبر يا سيدتي وقد أخذوا ولدي الوحيد من بين يدي ليلقوا به في النيل، ومن قبل ذلك أخذوا أباه إلى الحرب ، فهرب وهام على وجهه في الطرقات، ولا أدري أحي هو أم ميت؟ ولو أنه بقي على قيد الحياة فلن يتورعوا عن إلحاقه بولدنا دون رحمة ولا إشفاق!» قالت ذلك وعادت للبكاء.
فتأثرت الست نفيسة ولم تتمالك نفسها عن البكاء معها، ثم أخذت تعزيها وتحاول تخفيف مصائبها والترفيه عنها بما جبلت عليه من رقة العاطفة وطيبة القلب وحب الخير.
ولم يسع سالمة رغم فداحة خطبها إلا أن تستأنس بلطف هذه السيدة ونبلها وسمو خلقها، وهمت بيديها لتقبلهما شاكرة، فلم تمكنها من ذلك وقالت لها: «هذا أقل ما يجب يا أختي، وإني أدعو الله أن يوفقني إلى ما يخفف كربك، فهو مفرج الكروب ورحمته وسعت كل شيء.»
فقالت سالمة: «جزاك الله خيرا يا سيدتي، ولا أراك مكروها في عزيز لديك.» وعادت إلى إطراقها وقد أخذها العجب من أن تكون مثل هذه السيدة الفاضلة الكاملة الحنون قرينة لجبار عنيد غضوب مثل علي بك، ولكنها قالت في نفسها: «كل شيء نصيب، ولله في خلقه شئون.»
وكانت الست نفيسة في ذلك الوقت مرتدية ملابس البيت المؤلفة من ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر، وفوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمنطقة من الحرير الدمشقي الثمين، وفوقه معطف فضفاض واسع الكمين يتدلى منهما طرفا كمي قميصها الشفاف، وقد تحلت بعقود وأساور من مختلف اللآلئ والجواهر، وتدلى من أذنيها قرطان هما جوهرتان كبيرتان. وهي مكتنزة الجسم ناصعة البياض مع حمرة خفيفة، واسعة العينين رقيقة الشفتين مستقيمة الأنف وضاحة الجبين، ذهبية الشعر قد ضفرته ضفيرتين أرسلت إحداهما على صدرها والأخرى على ظهرها، وغطت أعلاه بإكليل مرصع، فبدت غاية في الجمال والجلال.
अज्ञात पृष्ठ